المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الشبهة النقلية: - رسالة في فرضية اتباع السنة، والكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٩

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ الشبهة النقلية:

[ص 52] أقول: فأما قبول الخبر من الراوي فليس من التقليد الاصطلاحي في شيء، فإنه قبول قول من تقلّده بلا حجة.

والتابعي ــ مثلًا ــ إنما قَبِلَ رواية الصحابي بحجة، وهي إخباره ــ مع ثقته ــ بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقس على ذلك.

ولو كان هذا تقليدًا لكان حكم القاضي بشهادة الشهود تقليدًا لهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقضي بشهادة الشهود، وأخبر بأنه إنما يقضي على حسب ما يسمع، أي أنه لا يتوقف قضاؤه على علمه بما في نفس الأمر. فدل ذلك أنه يقضي بشهادة من ظاهرهم العدالة، ولا يتوقف قضاؤه على أن يعلم أن ما شهدوا به حق في نفس الأمر. فلو كان هذا تقليدًا لكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقلدًا.

وليس الرواية إلا ضربًا من الشهادة، فإن الراوي يشهد على من فوقه أنه قال كيت وكيت مثلًا. وقد قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر تميم الداري، وحكاه عنه

(1)

.

فإن قيل: نعم، ليس هو من التقليد الاصطلاحي، ولكن يصح أن يسمى تقليدًا.

قلت: لا حرج، ولكن ليس داخلًا في قولهم: المجتهد لا يقلد مجتهدًا، ولا هو في معنى ذلك، وإنما هو قريب من قبول القاضي شهادة العدل.

[ص 53]

‌ الشبهة النقليَّة:

خبر الواحد لا يفيد العلم، وقد قال الله تبارك وتعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا

(1)

كما في "صحيح مسلم"(2942).

ص: 82

ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

وإنما يفيد الظن، وقد قال الله عز وجل:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] في آيات أخرى.

أقول: أما الآية الأولى فينبغي النظر في معناها، وذلك من أربع جهات:

الأولى: العربية.

فأقول: ذكر أهل اللغة أن القفا اسم لمؤخر العنق، وأخذ منه الفعل، قالوا: قفا زيدٌ بكرًا، إذا ضرب قفاه، كما قالوا: دَمَغه وأَمَّه، أي: أصاب دماغَه وأُمَّ رأسه. وأمثال ذلك.

قالوا: وقفاه: تبعه.

أقول: ووجهه أن التابع ينحو قفا المتبوع، وقضية هذا أن يكون أصل ذلك في الاتباع عن قرب، بحيث يرى التابع قفا المتبوع.

وقالوا: وقفاه: رماه بسوء، كالقذف بالزنا ونحوه.

أقول: زعم أبو عبيد أنه مأخوذ من القفو بمعنى الاتباع، ففي "لسان العرب"

(1)

: "قفا فلان فلانًا، قال أبو عبيد: معناه: أتبعه كلامًا قبيحًا".

أقول: والوجه أنه

(2)

من قفاه بمعنى: ضرب قفاه؛ لوضوح المناسبة، فإن في كل من ضرب القفا والرمي بالقبيح إيذاءً وإهانة وإلحاقَ عارٍ بالمضروب أو المرميّ. وقد قالوا في الرمي بالسوء: رماه وقذفه وطعن فيه

(1)

(20/ 55) مادة "قفو".

(2)

في الأصل: "أن".

ص: 83

وجرحه، إلى غير ذلك.

قالوا: "وقفا أثره: إذا تبعه".

أقول: وذلك أن من يريد أن يدرك رجلًا ولا يدري أين يذهب، ينظر أثر رجله في الأرض، فإذا وجده اقتصَّه وسار عليه. ثم تُجُوِّز به عن الاقتداء بالأثر المعنوي

(1)

، فيقال: فلان يقفو أثر فلان، إذا كان يقتدي به في سيرته وأفعاله وأخلاقه. ويقال: قفا الأثر وقافه: إذا تتبعه يتأمل فيه، ليعرف من صاحبه، كما ينظر في أثر السارق والخارب ونحوهما ليعرف من هو.

هذا خلاصة ما يتعلق بهذه الكلمة من اللغة مما يحتاج إليه هنا.

فالذي يحتمل في قوله تعالى: {تَقْفُ} مما ذُكِر ثلاثة معان:

الأول: الرَّمي بالسوء.

الثاني: اتباع آثار من مضى. أي: الاقتداء بأقوالهم وأفعالهم في الدين.

الثالث: اقتفاء آثار الناس. أي: أحوالهم في مجالسهم ومداخلهم ومخارجهم ومسالكهم؛ للاطلاع على أسرارهم.

فأما المعنى الأول فيقويه شيوعه في اللغة، كما يعلم من كتبها، حتى جعله ابن جرير أصلًا. قال

(2)

: "وأصل القفو: العَضْه والبَهْت، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أُمّنا، ولا ننتفي من أبينا"

(3)

.

(1)

في الأصل: "بالآثار المعنوي".

(2)

في "تفسيره"(14/ 595).

(3)

أخرجه أحمد في "مسنده"(21839، 21845) وابن ماجه (2612) وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس، وإسناده حسن.

ص: 84

وسبقه إلى نحوه أبو عبيد، ففي "لسان العرب"

(1)

عنه: "الأصل في القفو والتقافي: البهتان يرمي به الرجل صاحبه".

وفي "النهاية"

(2)

لابن الأثير: "حديث القاسم بن مُخَيمِرة: لا حدّ إلا في القفو البين. أي: القذف الظاهر. وحديث حسان بن عطية: من قفا رجلًا بما ليس فيه وَقَفَه الله في رَدْغَة الخَبال".

وأنشدوا للكميت

(3)

:

ولا أرمي البريءَ بغير ذنبٍ

ولا أقفو الحواصنَ إن رُمِينا

والرامي بالسوء قد يُسنده إلى سمعه أو بصره أو قلبه. يقول: سمعت فلانًا يقول كذا، ويذكر كلامًا قبيحًا، أو سمعت الناس يرمونه بكذا، أو رأيته يفعل كذا، أو أنا أعلم أو أظن أنه كذا.

فتعليل النهي بقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] مناسب لهذا المعنى، ولكن يخدش فيه أنه لو كان المرادَ لكان الظاهر أن يقال:"ولا تقفُ أحدًا بما ليس لك به علم".

فإن قيل: إن "أحدًا" مفعول، وهو عام، وحذفه حسن، بل هو الأولى في مثل هذا.

قلت: نعم، ولكن بقيت الباء، إذ كان الظاهر أن يقال: ولا تقف بما ليس

(1)

(20/ 55).

(2)

(4/ 95). قوله: "القاسم بن مخيمرة" كذا فيه نقلًا عن نسخة من "المجموع المغيث" لأبي موسى المديني. والصواب: "القاسم بن محمد" كما في "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 407) والنسخة المطبوعة من "المجموع المغيث"(2/ 740).

(3)

البيت من نونيته المشهورة في ذيل "الديوان"(ص 466).

ص: 85

لك به علم.

وأما المعنى الثاني: فيقويه سلامته من الخدش المذكور، فإنه إذا كان المراد كانت كلمة "ما" مرادًا بها الآثار. فكأنه قيل: ولا تتبع الآثار التي ليس لك بها علم، أي: بأنها حق.

لكن يُعكِّر عليه أنه لا يظهر معه تعليل النهي بقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ

}.

وأما المعنى الثالث: فهو سالم من ذاك الخدش وهذا التعكير. فإن كلمة "ما" يكون المراد بها: الآثار التي لا يعلم القافي غرضَ صاحبها منها وسرَّه فيها، فيقفوها يتسمع ويسترق البصر ويتظنّى، وذلك كأن ترى زيدًا ذاهبًا فتنظر أين ذهب، فتراه سلك دربًا، ثم دخل دارًا، ثم جلس فيها إلى إنسانٍ، فمخرجه ومسلكه ومدخله ومجلسه من جملة آثاره، فإذا لم تعلم غرضَه منها وسرَّه فيها، فتتبَّعتَها تبحث وتتسمع وتسترق البصر [ص 54] وتتظنّى = فقد قفوت آثاره التي ليس لك بها علم. وذاك هو التجسس.

ويقويه أنه قد قرئ في الشّواذّ: (ولا تَقُفْ) بضم القاف وسكون الفاء، من القوف. وأنشد في "لسان العرب"

(1)

:

أعوذ بالله الجليل الأعظمِ

من قَوفِيَ الشيءَ الذي لم أعلم

ولكن الذوق لا يطمئن إلى أن يكون المراد بقوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} : مداخل الناس، ومخارجهم، ومسالكهم، ومجالسهم.

(1)

(11/ 202) مادة "قوف". وانظر "تهذيب اللغة"(9/ 326).

ص: 86

الجهة الثانية: سياق الآيات.

قال الله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ

(31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ

(33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ

وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ

(34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ

(35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

(36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا

} [الإسراء: 31 - 37].

فالسياق في النهي عن مظالم تقع بين الناس، كما ترى، وذلك يقتضي أن يكون قفو ما ليس به علم من هذا القبيل. وهذا إنما يصلح له المعنى الأول والثالث.

الجهة الثالثة: مراعاة نظير الآيات في القرآن.

قال الله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ

وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ

(151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ

وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 151 - 152].

والذي يقابل قوله تعالى في "الإسراء": {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} هو قوله في "الأنعام": {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} . فينبغي تقاربهما في المعنى إن لم يمكن اتفاقهما. وهذا إنما يصلح في المعنى الأول للقفو، فإنه رمي الناس بالسوء بغير علم، وهو قول بغير عدل.

ثم نقول: قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} عام في كل قول في معاملات الناس؛ لأن قوله {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} لا يوجب تخصيصه

ص: 87

بالحكم والشهادة ونحوهما؛ لأن في الكلام حذفًا حسَّنه ظهور المقصود.

وذلك أنه من المعلوم أن الجور في القول محظور مطلقًا، فذِكْر ما يقتضي تخصيص ذلك بالحكم والشهادة لا يمكن أن يكون للدلالة على الإذن فيما عداهما، وإنما هو تنبيه على عظم الشأن فيهما. وكأن التقدير: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان في حكم أو شهادة [بحيث] يكون أحد الخصمين ذا قربى.

وعليه، فالآيتان متفقتان؛ لأن من جملة قفو الإنسان أن تحكم عليه أو تشهد؛ لأن من لازمِ ذلك غالبًا أن تنسبه إلى الظلم أو الخيانة أو الكذب أو المخاصمة بالباطل، وكل ذلك من القبائح.

وإن أبيتَ إلا اختصاص آية "الأنعام" بالحكم والشهادة ونحوهما، فلا حرج، وتكون آية الإسراء أعمَّ منها، وكلتاهما فيما يتعلق بالمظالم التي تقع بين الناس.

وهذا كافٍ في ترجيح المعنى الأول.

الجهة الرابعة: تفسير السلف.

أخرج ابن جرير

(1)

عن ابن عباس أنه فسر {وَلَا تَقْفُ} بقوله: "لا تقل".

وعنه أنه فسره بقوله: "لا ترْمِ أحدًا بما ليس لك به علم".

وعن مجاهد أنه فسره بقوله: "لا ترم".

وعن قتادة قال: "لا تقل: رأيتُ ولم تر، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ

(1)

في "تفسيره"(14/ 593 وما بعدها).

ص: 88

ولم تعلم".

وعن ابن الحنفية قال: "هي شهادة الزور".

أقول: أما تفسير ابن عباس ومجاهد فصريح في المعنى الأول، وأما قول قتادة فظاهر فيه؛ لأنه لا يوافق المعنى الثاني والثالث، فحمله على الأول مع ظهور احتماله له أولى من حمله على معنى آخر. وقد قدمنا أن الرامي لغيره بالسوء قد يسنده إلى سمعه، أو إلى بصره، أو إلى قلبه.

وأما قول ابن الحنفية فكأنه أخذه من آيات "الأنعام"، وهذا يدلك على اعتناء السلف بالنظر في النظائر من القرآن، وحَمْل ما قد يخفى منها على ما يظهر في نظيره، ويدل على أهمية ذلك.

ثم أقول: يمكن أنه إنما نص على شهادة الزور لعظم شأنها، لا لأنه يراها كل المعنى. ومثل هذا معروف عن السلف من تفسير الآية ببعض معناها. يريدون أن هذا مما تدلّ عليه.

وأولى من هذا أن يقال: إنه أراد بالشهادة مطلق الإخبار بما يسوء الناس. كأن تقول: رأيت زيدًا يشرب المسكر، أو سمعته [55] يقول كذا، أو نحو ذلك؛ فإن هذا في معنى الشهادة في نسبة ذلك إلى زيدٍ، وإن لم يكن عند حاكم.

وبهذا تتفق أقوال السلف.

فقد اتفقت الجهات الثلاث الأخيرة على تعيين المعنى الأول، ولم يبق دون الجزم به إلا تلك الخدشة. وهي أنه لو كان المراد لكان الظاهر أن يقال:"ولا تقفُ أحدًا بما ليس لك به علم".

ص: 89