الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسيأتي إن شاء الله تعالى تقرير ذلك، ويأتي إن شاء الله الجواب عما جاءت به الشريعة من إبطال بعض ما يقال: إنه يفيد الظن، كخبر بعض الكفار وبعض الفساق وبعض الصبيان، ونحو ذلك.
[ص 49]
2 - لو جاز في الفروع لجاز في الأصول
.
وأجاب
(1)
بأن المطلوب في الأصول القطع، وخبر الواحد لا يفيده. يعني: أن الخبر المعين لا يفيد ثبوت مدلوله قطعًا. وأما الفروع فيكفي فيها الظن. يعني: كالدلالات الظنية من القرآن، وكفتوى المجتهد، وغير ذلك.
وأقول: إن أريد بالأصول العقائد فإننا نلتزم جوازَ ــ بل وجوبَ ــ قبول الأحاديث الصحيحة فيها. فإن العقائد على أضرب:
الضرب الأول: ما لا يكون الإنسان مؤمنًا إلا باعتقاده.
فما كان في هذا من الأحاديث الصحيحة فهو بالانضمام إلى غيره من الأدلة مفيد للقطع. وإن فُرِض أنه بلغ إنسانًا لم يبلغه غيره من الأدلة في معناه، فإنه يلزمه قبوله، ويحصل له به الظن، وهو خيرٌ من الجهل، وقد يكفيه ذلك إذا كان معذورًا، كحديث العهد بالإسلام، على ما تقدم في الجواب عن الشبهة السابقة.
الضرب الثاني: ما لا يتوقف عليه الإيمان، ولكن الشارع حثَّ على اعتقاده.
وفائدة الحديث في هذا أظهر.
(1)
أي الآمدي في "الإحكام"(2/ 74).
الثالث: ما لم ينصّ على الحثّ على اعتقاده.
والأمر فيه واضح.
فإن قلت: إنما تمشَّى لك هذا لأنك بنيتَ على أن الحديث الصحيح إذا ورد بعقيدة فإنما يرِدُ بما هو حق في نفس الأمر، وليس هذا بلازم؛ لجواز أن يرِدَ بما هو باطل، ضرورةَ جوازِ الخطأ والغلط على الرواة، بل والكذب أيضًا.
فالجواب: أن ما ذكرته يجري في هذا أيضًا، وذلك أنه إن ورد حديث بعقيدة باطلة ــ على أنها من الضرب الأول ــ فهذا لا يكون صحيحَا؛ لأنه على فرض أن رواته ثقات يكون شاذًّا منكرًا، لوجهين:
الأول: أن الضرب الأول لِعِظَم شأنه اعتنى به الشارع، وأشاعه وأذاعه، واعتنى به أصحابه ثم أتباعهم، وهلمَّ جرًّا، فلو كان هذا منه لنُقِل إلينا بالتواتر.
الوجه الثاني: أن الله عز وجل جعل محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، ولذلك تكفّل بحفظها إلى يوم القيامة، ولا يتم الحفظ إلا بأن يكون على وجه تقوم به الحجة، ويحصل به المطلوب.
والمطلوب في الضرب الأول هو استيقانه، وذلك لا يحصل بمجرد خبر الواحد. فإذا لم نجد في الشريعة إلا خبرًا واحدًا، ومدلوله أصل اعتقادي، على أنه من الضرب الأول، علمنا بطلانه.
لا يقال: فلعله يقع إلى حديث العهد بالإسلام.
فإننا نقول: إنه إذا وقع إليه لا يعلم وثاقة رجاله، وعلى فرض أنه علم فإنه إن كان ذا عقل يتوقف عنه حتى يعرف حاله؛ لاحتمال أنه لا يوجد في الشريعة في معناه غيره، فيكون باطلًا للوجهين السابقين.
وإن ورد بعقيدة باطلة لا على أنها من الضرب الأول، فإن دل العقل الصريح أو النقل الذي هو أعلى من ذلك الخبر على بطلانها فذلك الخبر ليس بصحيح، وإلا ــ إن جاز هذا ــ فإن من بلغه وعرف صحته الظاهرة يظن مدلوله بطبيعة حاله، فإذا ألزمناه أن يظن فإنما ألزمنا بأمر لا محيصَ له منه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
لكنني أقول: إن هذا إن اتفق لشخص أو جماعة لا يستمر، ضرورةَ أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ شريعته. وكما أن مِن الحفظ أن لا يذهب منها شيء حتى لا يوجد فيها البتة، فكذلك منه أن لا يلتبس بها شيء حتى لا يوجد البتة دليل على أنه ليس منها.
قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
(1)
.
والذكر يعمُّ السنةَ، إن لم يكن بلفظه فبمعناه، لأن المقصود بقاء الحجة والهداية في الأرض، كما مر.
هذا، وقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم، ثم عن التابعين وأتباعهم أنهم كانوا يروون الأحاديث في العقائد، ويسمعونها، وينقلونها، وينكرون على من أنكرها لمجرد هوًى أو تخرُّصٍ أو جهلٍ، والله المستعان.
(1)
انظر "الكفاية"(ص 77).