الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبع مسَائِل فِي علم الْخلاف
الِاخْتِلَاف بَين عُلَمَاء الْمُسلمين مَوْضُوع جسيم وفن مُسْتَقل عَظِيم لَا تَكْفِي عجالة قَصِيرَة لتفصيله وَاسْتِيفَاء حَقه، لكنني سأشير إِلَى مسَائِل أساسية تتَعَلَّق بِهِ لَا يجوز لأي متعلم أَن ينظر فِي قضايا الشَّرْع وعلومه إِذا كَانَت خافية عَلَيْهِ، بل يجب حِينَئِذٍ أَن ينحى عَن هَذَا الْمقَام ويحشر مَعَ الجهلة والعوام.
الْمَسْأَلَة الأولى:
هُنَاكَ قضايا شَرْعِيَّة وقواعد دينية انْقَطع فِيهَا الْخلاف وَوَجَب التَّسْلِيم وَهِي ـ القطعيات ـ أَي الْأُمُور الَّتِي ثبتَتْ ثبوتاً قَطْعِيا وَأجْمع عَلَيْهَا عُلَمَاء الْمُسلمين: كأركان الْإِسْلَام الْخَمْسَة وأركان الْإِيمَان السِّتَّة وَوُجُوب الْإِيمَان بهَا، وكعدد الصَّلَوَات الْخَمْسَة، وَعدد ركعاتها، وكتحريم الزِّنَا، والربا، وَالْخمر، وَقتل النَّفس الَّتِي حرم الله، وَكَذَلِكَ مَا أجمع عَلَيْهِ الْعلمَاء من قَوَاعِد الشَّرْع الْمُعْتَبرَة فِي أَحْكَامه مثل: لَا ضَرَر وَلَا ضرار، وَالْحُدُود تدرأ بِالشُّبُهَاتِ، وَرفع الْحَرج، وجلب التَّيْسِير وَنَحْو ذَلِك، فَتبين بِهَذَا أَن ـ القطعيات ـ تكون من الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة: العقائد، وَالْفُرُوع، وَالْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة.
فَهَذِهِ كلهَا لَا اجْتِهَاد فِيهَا وَلَا مجَال للرأي وَالْخلاف، بل هِيَ أسس وقواعد
لهَذَا الشَّرْع الْعَظِيم لَا تَتَغَيَّر بِتَغَيُّر الزَّمَان وَلَا بِتَغَيُّر الْمَكَان وَمن تردد فِي التَّسْلِيم بهَا أَو شكّ فِي أمرهَا فقد شَذَّ عَن الْملَّة وشق عَصا الْمُسلمين فَقَوله مَرْدُود وخلافه بَاطِل..
أما مَا سوى القطعيات من مسَائِل الشَّرْع وَقد يسميها بَعضهم ـ الظنيات ـ فَهِيَ مَحل للِاخْتِلَاف ومجال للِاجْتِهَاد، تتنوع فِيهَا الأفهام وتختلف الآراء، وَقد دَعَا الشَّرْع إِلَى إِعْمَال الْفِكر وَاسْتِعْمَال الْعقل فِي إِدْرَاك مَعَانِيهَا واستخراج أَحْكَامهَا وعللها وأوجهها ومراميها، وَفتح الْبَاب لأهل النّظر وَفِي الْفِكر وَذَوي الْعُقُول والألباب ليجتهد كل حسب مَا أُوتِيَ فَإِن شرعنا الْعَظِيم جَاءَ لتحرير الْعقل من الأغلال الَّتِي كَانَ يرزح تحتهَا ومنحبساً فِي سردابها، وَأول قيد حطمه ـ الجمود والتقليد ـ فشنع على كل من عطل عقله وَأسلم قياده لَهما قَالَ تَعَالَى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} الْأَعْرَاف ـ 179.
وَهل أنزل الْقُرْآن وفُصلت الْآيَات وضُربت الْأَمْثَال إِلَّا ليتفكر النَّاس ويستعملوا عُقُولهمْ، قَالَ تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النَّحْل ـ 44.
وَقَالَ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} الْبَقَرَة ـ 219.
وَقَالَ: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الْحَشْر ـ 21.
وَقد حث الْقُرْآن على التفكير وذم الجمود وتعطيل الْعقل وَوَصفه بالعمى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} الْأَنْعَام ـ 50.
وشنع على التَّقْلِيد الَّذِي يمْنَع الْإِنْسَان من قبُول الْحق ويعطل فهمه وفكره وَقد كَانَ ذَلِك من أعظم أَسبَاب ضلال الْكفَّار وعنادهم {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} الزخرف ـ 23.