الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأما مَا وَقع من تفرق المقلدين فِي العصور الْمُتَأَخِّرَة الَّتِي هِيَ عصور الانحطاط فَإِنَّهُ لَا يعيب أصل مَا ذهب إِلَيْهِ أُولَئِكَ الْأَئِمَّة المرضيون من الِاخْتِلَاف إِنَّمَا يَقع الْعَيْب فِيهِ على هَؤُلَاءِ الأتباع الجهلة المتعصبين..
فَإِن اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة المرضيين وَمِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَاقع كُله ضمن حمى الشَّرْع وداخل أسواره، وَإِنَّمَا خرج عَن ذَلِك الْحَد إِلَى خَارج أسوار الْإِسْلَام أَمْثَال الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض والجهمية وأشباههم مِمَّن تكلمُوا بالشبه فِي ـ قطعيات ـ الدّين.
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة:
عُلَمَاء الْإِسْلَام المرضيون عَلَيْهِم رَحْمَة الله ورضوانه من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم فِي كل عصر لَا يَخْتَلِفُونَ إِلَّا بِدَلِيل أَو تَأْوِيل، وَلَا يتَصَوَّر أَن أحدا مِنْهُم يُخَالف النَّص مُعْتَمدًا أَو بِغَيْر دَلِيل.
وأخص بِالذكر الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة: أَبَا حنيفَة ومالكاً وَالشَّافِعِيّ وَأحمد لشهرتهم فِي هَذَا المجال وانتشار مذاهبهم فِي الدُّنْيَا.
فَكل من لَهُ علم وتتبع أَقْوَالهم وفتاويهم وَتَأمل استدلالهم وأصولهم العلمية يجد مصداق ذَلِك.
وَمَا طعن فِي وَاحِد مِنْهُم طَاعن إِلَّا عَن عصبية أَو جهل بقدرهم، إِذْ قد يتَبَادَر إِلَى ذهن الْقَاصِر عِنْدَمَا يرى كَثْرَة اخْتلَافهمْ ويعظم عَلَيْهِ ذَلِك وَلَا يتحمله ذكاؤه، إِذْ ينظر إِلَى ظَاهر هَذَا الِاخْتِلَاف دون أَن يُكَلف نَفسه الغوص بنظره وفكره فِي الْوُجُوه الَّتِي بنوا عَلَيْهَا أَقْوَالهم فيتبادر إِلَى ذهنه أَنهم يصادمون النَّص.
قَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية فِي رفع الملام1: "الْأَئِمَّة المقبولون الْمجمع
على إمامتهم من الْأمة لَا يَقُولُونَ فِي مَسْأَلَة إِلَّا عَن دَلِيل ظهر لَهُم وَإِن تبادر إِلَى ذهن الْمُبْتَدِئ أَنهم فِي اخْتلَافهمْ جانبوا الدَّلِيل". اهـ.
قلت: وَإِلَيْك مِثَالا على ذَلِك مَا رُوِيَ عَن عبد الْوَارِث بن سعيد قَالَ: " قدمت مَكَّة وَفِي رِوَايَة ـ الْكُوفَة ـ فَوجدت أَبَا حنيفَة وَابْن أبي ليلى وشبرمة فَسَأَلت أَبَا حنيفَة قلت: مَا تَقول فِي رجل بَاعَ بيعا وَشرط شرطا؟
قَالَ: البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ أتيت ابْن أبي ليلى فَسَأَلته فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ أتيت ابْن شبْرمَة فَسَأَلته فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز، فَقلت: سُبْحَانَ الله ثَلَاثَة من فُقَهَاء الْعرَاق اخْتلفُوا عليّ فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة! فَأتيت أَبَا حنيفَة فَأَخْبَرته فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا حَدثنِي عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده رضي الله عنه "أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نهى عَن بيع وَشرط"، البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل. ثمَّ أتيت ابْن أبي ليلى فَأَخْبَرته فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَ: "أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن أَشْتَرِي بَرِيرَة وَأَشْتَرِط فَأعْتقهَا"، البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل. ثمَّ أتيت ابْن شبْرمَة فَأَخْبَرته فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا قَالَا حَدثنِي مسعر بن كدام عَن محَارب بن دثار عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: "بِعْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم نَاقَة وشرطت حملانها إِلَى الْمَدِينَة"، البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز"2. وَسبب الِاخْتِلَاف بَين الْأَئِمَّة مَعْرُوف مشروح فِي أَكثر من كتاب وَمن أحسن من ألّف فِي ذَلِك وَبسط القَوْل فِيهِ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية فِي رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، وَمُحَمّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن السَّيِّد البطليوسي الأندلسي المتوفي سنة 521هـ فِي كِتَابه الْإِنْصَاف فِي التَّنْبِيه على الْأَسْبَاب الَّتِي أوجبت الِاخْتِلَاف بَين الْمُسلمين..
1 الْفَتَاوَى 20 ـ 250.
2 رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَذكره الهيثمي فِي مجمع الزَّوَائِد 4ـ84 وَقَالَ: طَرِيق عبد الله بن عَمْرو فِيهَا مقَال وَذكره السُّيُوطِيّ فِي تبييض الصَّحِيفَة فِي مَنَاقِب أبي حنيفَة ط حيدر آباد 1380: 40 قَالَ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط قَالَ حَدثنَا عبد الله بن أَيُّوب القزي ثَنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الذهلي ثَنَا عبد الْوَارِث بن سعيد.