المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أحد أَن يجْتَهد فِي كل مَسْأَلَة.. لَو تتبعت أَخْبَار السّلف - سبع مسائل في علم الخلاف

[عبد العزيز القارئ]

الفصل: أحد أَن يجْتَهد فِي كل مَسْأَلَة.. لَو تتبعت أَخْبَار السّلف

أحد أَن يجْتَهد فِي كل مَسْأَلَة.. لَو تتبعت أَخْبَار السّلف لوجدتهم يعتمدون ويلجأون فِي الْمسَائِل الَّتِي تخفى عَلَيْهِم إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُم مِمَّن سبقهمْ أَو عاصرهم وَالشَّيْء الْمَحْذُور هُوَ التعصب الَّذِي يعمي قلب صَاحبه عَن النّظر ويمنعه من اتِّبَاع الْحق1. أما الْعَوام فيقلدون أهل الْعلم الْمَوْجُودين بَينهم وَلَيْسَ لوَاحِد مِنْهُم أَن يلْتَزم مذهبا أَو يَدعِي الانتماء إِلَى أحد..

لَكِن بتأمل معنى ـ العامية ـ نجد أَنَّهَا على نَوْعَيْنِ: فهناك الْعَاميّ الْمُطلق وهم الدهماء الَّذين لَا يملكُونَ من أدوات الْعلم شَيْئا أَو هم الْجُهَّال فَهَؤُلَاءِ يقلدون الْمُفْتِينَ..

وَقد ذكر الْعلمَاء أَنه عِنْد عدم الْمُفْتِي الْمُجْتَهد الَّذِي يطمئن الْإِنْسَان إِلَى علمه وورعه لَهُ أَن يُقَلّد لنَفسِهِ وَلَا يُفْتِي بِمَا قلد.

وَهَذَا هُوَ الْحق إِن شَاءَ الله وَإِلَّا لوقع النَّاس فِي أحد أَمريْن:

1 ـ فِي الْحَرج والشدة إِذا كلفنا كل مُسلم أَن ينظر فِي الْأَدِلَّة ويجتهد فيتخبط النَّاس فِي الْأَحْكَام مَا بَين مَحل ومحرم ويجترئون على الْفَتْوَى وَالِاجْتِهَاد بِغَيْر علم وَلَا بَصِيرَة، ويغلبهم علم الِاخْتِلَاف فيضلون لعدم معرفتهم لطريقه وإدراكهم لأسراره أَو قدرتهم على الغوص فِي بحاره..

2 ـ أَو يتْرك النَّاس الْعَمَل بِكَثِير من الْأَحْكَام ويهملونها، تَحت وَطْأَة وهم الِانْتِظَار حَتَّى يتَرَجَّح الدَّلِيل وتتضح الْآثَار.. ونتيجة لعدم المبالاة بِمَا ذهب إِلَيْهِ السّلف وَقَالَهُ الْعلمَاء..

ص: 83

‌الْمَسْأَلَة السَّابِعَة:

وَذكر الْعلمَاء أَن الْفَتْوَى وَالِاجْتِهَاد دَرَجَة من الْعلم يَنْبَغِي أَن تكون مَوْجُودَة فِي كل زمَان وَمَكَان فِي أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم حَتَّى تقوم الْحجَّة

1 رَاجع كَلَام ابْن الْقيم فِي طَبَقَات الْمُفْتِينَ فِي إِعْلَام الموقعين 4 ـ 270.

ص: 83

بِالدّينِ، ويستقيم أَمر الْمُسلمين، وَالله عز وجل يقيض فِي كل عصر من يفصل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة ويستنبط للحوادث من الْكتاب وَالسّنة وَيرد الْفُرُوع إِلَى الْأُصُول.

وَلَو تتبعت عصور الْإِسْلَام لوجدت فِي كل عصر مصداق ذَلِك، ولوجدت أَنه فِي الْأَزْمَان الَّتِي كَانَ الِاجْتِهَاد فِيهَا مزدهراً كَانَت تعْتَبر عصور الْعلم الذهبية الَّتِي يبلغ الْمُسلمُونَ فِيهَا أوج قوتهم ونهضتهم، وَفِي العصور الَّتِي غلب عَلَيْهَا الكسل وتعطل فِيهَا الِاجْتِهَاد كَانَت تعْتَبر عصور الانحطاط الْمظْلمَة، والتخلف العلمي، وَلَك أَن تلحظ ذَلِك بِعَين الْمُشَاهدَة فِيمَا صنف فِي هَذِه العصور من متون وشروح وحواش..

لَكِن مَا هِيَ الأدوات الَّتِي تؤهل المتعلم لهَذِهِ الدرجَة الْعَظِيمَة، وَمَتى يجوز لَهُ الانتصاب لَهَا وادعاؤها، فلننظر إِلَى السّلف مَاذَا قَالُوا:

1 ـ الْأَثر: قَالُوا لَا بُد أَن يتضلع مِنْهُ بأكبر قدر مُمكن، وَمن حدده بِخَمْسِمِائَة حَدِيث أَو بِأَكْثَرَ أَو بِأَقَلّ فَإِنَّهُ لم يدقق فِي الْمَسْأَلَة وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يضْرب مثلا يقرب الْأَمر إِلَى الأذهان، وَقد سُئِلَ الإِمَام أَحْمد:"إِذا حفظ الرجل مائَة ألف حَدِيث يكون فَقِيها؟ ". قَالَ: "لَا". قيل: "فمائتي ألف؟ ". قَالَ: "لَا". قيل: "فثلاثمائة ألف؟ ". قَالَ: "لَا".. وَلَعَلَّ الإِمَام أَحْمد رحمه الله أَرَادَ الْإِشَارَة إِلَى أَمريْن: أَحدهمَا أَن حفظ الحَدِيث وَحده لَا يَعْنِي الْفِقْه وَالْقُدْرَة على الْفَتْوَى، وَالْآخر أَنه يجب على الْفَقِيه الْمُفْتِي أَن يحْتَاط لنَفسِهِ وَلَا يستهين بِهَذَا الشَّأْن الْعَظِيم.

2 ـ الرَّأْي: لَا بُد أَن يتفقه بمذاهب أهل الْفِقْه ويطلع على آرائهم قَالَ عَليّ ابْن شَقِيق: "سَمِعت ابْن الْمُبَارك يُسأل: "مَتى يسع الرجل أَن يُفْتِي؟ " قَالَ: "إِذا كَانَ عَالما بالأثر بَصيرًا بِالرَّأْيِ"1.

3 ـ وَعَلِيهِ أَن يلم بعلوم الشَّرِيعَة وقواعدها الَّتِي تنبني عَلَيْهَا وَلَا تفهم الْأَحْكَام بِدُونِهَا فمثلاً:

1 جَامع بَيَان الْعلم لِابْنِ عبد الْبر 1 ـ 31.

ص: 84

قَالَ الشَّافِعِي: "لَا يحل لأحد أَن يُفْتِي فِي دين الله إِلَّا رجلا عَارِفًا بِكِتَاب الله، بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وَيعرف من الحَدِيث مَا عرف من الْقُرْآن، وَيكون بَصيرًا بالشعر بَصيرًا باللغة وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من السّنة وَالْقُرْآن وَيسْتَعْمل مَعَ هَذَا الْإِنْصَاف وَيكون بعد هَذَا مشرفاً على اخْتِلَاف أهل الْأَمْصَار وَتَكون لَهُ قريحة بعد هَذَا، فَإِذا كَانَ هَكَذَا فَلهُ أَن يتَكَلَّم ويفتي فِي الْحَلَال وَالْحرَام وَإِذا لم يكن هَكَذَا فَلَيْسَ لَهُ أَن يُفْتِي"1.

وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: "يَنْبَغِي للرجل إِذا حمل نَفسه على الْفتيا أَن يكون عَالما بِوُجُوه الْقُرْآن عَالما بِالْأَسَانِيدِ"2.

وَقَالَ يحيى بن أَكْثَم: "لَيْسَ من الْعُلُوم كلهَا علم أوجب على الْعلمَاء والمتعلمين وعَلى كَافَّة الْمُسلمين من علم نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه".

وروى ابْن سِيرِين عَن حُذَيْفَة أَنه قَالَ: "إِنَّمَا يُفْتِي النَّاس أحد ثَلَاثَة: من يعلم مَا نسخ من الْقُرْآن، أَو أَمِير لَا يجد بدا، أَو أَحمَق متكلف". قَالَ ابْن سِيرِين: "فلست بِوَاحِد من هذَيْن وَلَا أحب أَن أكون الثَّالِث"3.

قَالَ ابْن الْقيم رحمه الله: "مُرَاده وَمُرَاد السّلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تَارَة وَهُوَ اصْطِلَاح المتأخيرن، وَرفع دلَالَة الْعَام وَالْمُطلق وَالظَّاهِر وَغَيرهَا تَارَة إِمَّا بتخصيص أَو تَقْيِيد أَو حمل مُطلق على مُقَيّد وَتَفْسِيره وتبيينه حَتَّى إِنَّهُم ليسمون الاستثاء وَالشّرط وَالصّفة نسخا". اهـ.

قلت: وَيَنْبَغِي على كل متعلم أَن يعلم أَن مرتبَة الْفَتْوَى لم تكن لجَمِيع الصَّحَابَة رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم مَعَ أَن جَمِيعهم فِي اللُّغَة أفْصح من فصحاء عصرنا، هَذَا مَعَ كَونهم امتازوا بالصحبة وبمشاهدة التَّنْزِيل إِنَّمَا كَانَ الْمَشْهُور

1 الْفَقِيه والمتفقه للخطيب الْبَغْدَادِيّ.

2 إِعْلَام الموقعين 1 ـ 36.

3 نفس الْمصدر.

ص: 85

بالفتوى مِنْهُم سَبْعَة، وَكَانَ هُنَاكَ متوسطون ومقلون فِي الْفَتْوَى ومجموع أهل الْفَتْوَى مِنْهُم مائَة ونيف وَثَلَاثُونَ نفسا.. كَمَا فصل ذَلِك الْحَافِظ ابْن الْقيم رحمه الله فِي كِتَابه الْعَظِيم إِعْلَام الموقعين.

فعلى كل من رشح نَفسه ووطد عزمه على النّظر فِي الْأَحْكَام وَمَعْرِفَة الْحَلَال وَالْحرَام، وعَلى الانتصاب للْفَتْوَى وَالِاجْتِهَاد، أَن يُعِدَ هَذِه الأدوات وَيحصل هَذِه المؤهلات، ويشمر عَن ساعد الْجد، ويشحذ الْعَزِيمَة ويسهر اللَّيَالِي.. وَيسْأل ربه عز وجل على الدَّوَام أَن يَجْعَل لَهُ نورا، فَإِن الْعلم نور يقذفه الله فِي الْقلب كَمَا قَالَ الإِمَام مَالك رحمه الله:

"إِن الْعلم لَيْسَ بِكَثْرَة الرِّوَايَة وَلكنه نور يَجعله الله تَعَالَى فِي الْقُلُوب". وَإِنَّمَا سطرت هَذِه الأسطر فِي هَذَا الشَّأْن الخطير وَالْأَمر الْعَظِيم بِقصد استنفار الهمم لعلم الشَّرِيعَة وَالْفِقْه، ولفت الأنظار إِلَى المصدرين الأساسيين لذَلِك الْكتاب وَالسّنة، وتنبيه الأفكار لطريقة الْوُرُود والاستقاء، وَالْأَخْذ والإعطاء.

وَبعد ذَلِك كُله الشَّفَقَة على نَفسِي وعَلى المتعلمين من أَن ينطبق على حَالنَا قَول إمامنا الْأَعْظَم صلى الله عليه وسلم:

"إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعاً ينتزعه من الْعباد وَلَكِن يقبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يُبق عَالما اتخذ النَّاس رؤوساً جُهَّالًا فسُئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا"1.

1 رَوَاهُ البُخَارِيّ.

ص: 86