الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رُوِيَ عَن إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد قَالَ: شَككت فِي طَلَاق امْرَأَتي فَسَأَلت شَرِيكا فَقَالَ: "طَلقهَا وَأشْهد على رَجعتهَا"، ثمَّ سَأَلت سُفْيَان الثَّوْريّ فَقَالَ:"اذْهَبْ فَرَاجعهَا فَإِن كنت قد طَلقتهَا فقد راجعتها"، ثمَّ سَأَلت زفر بن الْهُذيْل فَقَالَ لي:"هِيَ امْرَأَتك حَتَّى تتيقن طَلاقهَا"، فَأتيت أَبَا حنيفَة فَقَالَ:"أما سُفْيَان فأفتاك بالورع وَأما زفر فأفتاك بِعَين الْفِقْه وَأما شريك فَهُوَ كَرجل قلت لَهُ: لَا أَدْرِي أصَاب ثوبي بَوْل أم لَا؟ فَقَالَ لَك: بُلْ على ثَوْبك ثمَّ اغسله".اهـ
فَيَنْبَغِي على كل متعلم أَن يعتني بِمَعْرِِفَة الْوُجُوه الْمُخْتَلفَة والاستدلالات ويطلع على اخْتِلَاف الْمذَاهب وَلَا يَكْتَفِي بِوَجْه وَاحِد أَو يعْتَمد على عَالم وَاحِد فَإِن مثل من يعْتَمد على عَالم وَاحِد مثل الَّذِي لَهُ امْرَأَة وَاحِدَة إِن حَاضَت بَقِي1 وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُود من قَول الْأَئِمَّة بِأَن من لم يعرف الْخلاف لم يشم رَائِحَة الْفِقْه.
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة:
طَبَقَات النَّاس بِالنِّسْبَةِ للْعلم وَعَدَمه ثَلَاثَة كَمَا رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه: "عَالم رباني، ومتعلم على سَبِيل نجاة، وهمج رعاع أَتبَاع كل ناعق لم يستضيئوا بِنور الْعلم وَلم يلجئوا إِلَى ركن وثيق".
أما الْعلمَاء الربانيون فَهَؤُلَاءِ هم المجتهدون من أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِي كل زمَان وَمَكَان، بهم يقوم الدّين، وهم وَسِيلَة الْمُسلمين إِلَى معرفَة الْأَحْكَام وَفهم الْحَلَال وَالْحرَام وَلَيْسَ لنا مطمع فِي معرفَة الشَّرْع بدونهم وَلَا فِي إِدْرَاك الْكتاب وَالسّنة بِغَيْر واسطتهم فَتلك مزية كَانَت للصحابة وَلَيْسَت لغَيرهم2. فَلَا بُد لكل من أَرَادَ أَن يفهم الشَّرْع وَيدْرك علم الْكتاب وَالسّنة أَن يتَوَصَّل إِلَى ذَلِك بهم، وَكلما كَانَ هَؤُلَاءِ المجتهدون إِلَى زمن الصَّحَابَة أقرب كَانَ الصَّوَاب لديهم أغلب.
1 جَامع بَيَان الْعلم 1 ـ 130.
2 إِعْلَام الموقعين.
فالمجتهدون من التَّابِعين لَا بدّ أَن يعرفوا مَذَاهِب الصَّحَابَة وَلَا يتجاوزونها والمجتهدون من تَابِعِيّ التَّابِعين لَا بُد أَن يعرفوا مَذَاهِب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَهَكَذَا دواليك حَتَّى إِذا وصلنا إِلَى مجتهدي زَمَاننَا قُلْنَا: لَا بُد أَن يعرفوا مَذَاهِب جَمِيع السّلف الَّذين يعْتد بمذاهبهم..
أَلا ترى أَبَا حنيفَة رحمه الله يَقُول: "إِذا لم أجد فِي كتاب الله وَلَا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أَصْحَابه آخذ بقول من شِئْت وأدع قَول من شِئْت وَلَا أخرج من قَوْلهم"1.
وكل من خَالف السّلف فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَأَجْمعُوا عَلَيْهِ أَو جَاءَ بِمَا لم يذكروه أَو يشيروا إِلَيْهِ اعتبروه شاذاً لَا يُؤْخَذ قَوْله وَلَا يعْتد بِرَأْيهِ..
وَمَا من مَسْأَلَة إِلَّا وَفِي الشَّرِيعَة حكمهَا إِمَّا على وَجه الْعُمُوم أَو على وَجه التَّفْصِيل وَمَا علينا فِيمَا يجدُّ علينا من أُمُور إِلَّا أَن نقيس النَّظَائِر والأشباه ونَرُدَّ الْفُرُوع إِلَى الْأُصُول ونستعين بِاجْتِهَاد السّلف وآرائهم..
قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: "الْعلم على أَرْبَعَة أوجه: مَا كَانَ من كتاب الله النَّاطِق وَمَا أشبهه، وَمَا كَانَ فِي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمَا أشبههَا، وَمَا كَانَ فِيمَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رحمهم الله وَمَا أشبهه، وَكَذَلِكَ مَا اخْتلفُوا فِيهِ لَا يخرج عَن جَمِيعه فَإِن أوقع الِاخْتِيَار فِيهِ على قَول فَهُوَ علم تقيس عَلَيْهِ مَا أشبه وَمَا استحسنه عَامَّة فُقَهَاء الْمُسلمين وَمَا أشبهه وَكَانَ نظيراً لَهُ"2.
قلت: وَالْعُلَمَاء الربانيون هم أهل الذّكر الَّذين ذكرهم الله عز وجل فِي كِتَابه فَقَالَ: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
وهم أهل الاستنباط الَّذين ذكرهم فَقَالَ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} النِّسَاء ـ 83.
1 الانتقاء لِابْنِ عبد الْبر: 142.
2 إِعْلَام الموقعين 2 ـ 26.
وَلَيْسَ كل متعلم يقدر على الاستنباط حَتَّى يملك أدواته وَيحصل ملكته قَالَ ابْن الْقيم رحمه الله:
"الاستنباط اسْتِخْرَاج الْأَمر الَّذِي من شَأْنه أَن يخفى على غير مستنبطه وَمِنْه استنباط المَاء من الْبِئْر وَالْعين وَمن هَذَا قَول عَليّ بن أبي طَالب وَقد سُئِلَ: "هَل خصكم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِشَيْء دون النَّاس؟ ". قَالَ: "لَا، وَالَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة إِلَّا فهما يؤتيه الله عبدا فِي كِتَابه". وَمَعْلُوم أَن هَذَا الْفَهم قدر زَائِد على معرفَة مَوْضُوع اللَّفْظ وعمومه أَو خصوصه فَإِن هَذَا قدر مُشْتَرك بَين سَائِر من يعرف كَلَام الْعَرَب"1.
قلت: أما المتعلم على سَبِيل النجَاة الَّذِي لم يبلغ دَرَجَة الاستنباط فَيتبع الْعلمَاء ويتأمل أَقْوَالهم وفتاويهم، ويشتغل بالترجيح بَين أدلتهم إِن كَانَ من أهل التَّرْجِيح وَإِلَّا اتبعهم فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَلَا ينْتَظر حَتَّى يبلغ دَرَجَة مَا، إِذْ لَا مفر من أَن يلْتَزم المتعلم أحد الْمذَاهب الْمَشْهُورَة المعتد بهَا الَّتِي اعْترفت بهَا الْأمة تكون كمنطلق لَهُ فِي دراسته للشَّرْع الحنيف، فيعتني بِمَعْرِِفَة أصُول هَذَا الْمَذْهَب وفروعه، ويعتني بالأدلة ويحترس من التَّقْلِيد لِأَنَّهُ شَأْن الْعَوام، ويحذر من التعصب فَإِنَّهُ من طبائع أهل الْبدع والأهواء.
وَلَا يَنْبَغِي للمتعلم أَن يبْقى طليقاً يتتبع الرُّخص والشواذ ويخبط فِي الْأَحْكَام على غير بَصِيرَة وَعلم، فَإِن ذَلِك خطر جسيم عَلَيْهِ وعَلى النَّاس إِن كَانَ يُفتي لَهُم..
وَلكُل متعلم أَن يُقَلّد فِي الْمسَائِل الَّتِي قصرت همته عَن بحثها أَو خفيت عَلَيْهِ يُقَلّد من قبله من عُلَمَاء السّلف المرضيين أَو الإِمَام الَّذِي الْتزم مذْهبه وَذَلِكَ حَتَّى يَتَّضِح لَهُ الدَّلِيل، وَلَا مفر من ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يكف عَن الْعَمَل فِي كل مَسْأَلَة حَتَّى يَتَّضِح أَو يتَرَجَّح فِي ذهنه الْقَاصِر فِيهَا علم.. وَمَا رَأَيْت أحدا من أهل الْعلم إِلَّا وَهُوَ مقلد فِي بعض الْمسَائِل شعر بذلك أم لم يشْعر لِأَنَّهُ لَيْسَ بمقدور
1 إِعْلَام الموقعين 1 ـ 228.