الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: عناية علماء المسلمين بالإسناد
…
المبحث الثالث: عناية علماء القراءات بالأسانيد
لقد عنى علماء القراءات بالأسانيد أيما عناية، ورحلوا في طلبها، وبينوا العالي منها والنازل والمتصل والمنقطع وما فيه علة قادحة وهو فن قد يخفى على كثير من طلاب العلم لاعتقاد البعض أن تتبع الأسانيد والكشف عنها وتتبع طبقات النقلة والرواة هو من اختصاص علماء الحديث، وفاتهم أن لعلماء القراءات باع طويل في معرفة رجالهم وطبقاتهم ورواتهم بل ولا زالوا يحافظون على أسانيدهم إلى يومنا هذا في الوقت الذي تقطعت فيه كل الطرق والأسانيد في العلوم الأخرى، وهذا من حفظ الله لكتابه الذي وعد به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن المطالع لمقدمات كتب القراءات المعتبرة الجامعة للروايات والطرق التي تلقى بها أولئك الأئمة يقف مشدوداً أمام ذلك الكم الهائل من الأسانيد التي أحيطت بالعناية والرعاية حتى تصل إلى منتهاها، ومتى حصل خلل أو وهم نبه عليه العلماء وبينوا علته وحذروا من ذلك الإسناد الضعيف أو المجهول أو المتروك إلى هذا الجهد العظيم الذي بذله القراء في الحفاظ على أسانيدهم وتنقيحها نبه الحافظ محمد بن الجزري (ت833 ?) بقوله: ومن نظر أسانيد كتب القراءات وأحاط بتراجم الرواة عرف قد ما سبرنا، ونقحنا واعتبرنا وصححنا وهذا علم أهمل وباب أغلق وهو السبب الأعظم في ترك كثير من القراءات والله تعالى يحفظ ما بقى (1) .
قال ابن مجاهد (2) : مشبهاً للآثار الواردة في حروف القرآن بالآثار الواردة
(1)
النشر ابن الجزري: 1/193.
(2)
أحمد بن موسى بن العباس أبو بكر بن مجاهد التيمي البغدادي أول من سبع السبعة، قرأ على عبد الرحمن بن عبدوس، وقنبل، توفى سنة:(324?) .
غاية النهاية: 1/139، تاريخ بغداد: 5/144.
في الحديث من حيث القبول والرد، والصحة والضعف، مما يستلزم النظر في الأسانيد وفحص الروايات من العلماء المختصين العارفين.
((وأما الآثار التي رويت في الحروف فكا الآثار التي رويت في الأحكام، منها المجتمع عليه السائر المعروف، ومنها المتروك المكروه عند الناس، المعيب من أخذ به، وإن كان قد روي وحفظ، ومنها ما قد توهم فيه من رواة فضيع روايته ونسي سماعه لطول عهده، فإذا عرض على أهله عرفوا بوهمه وردوه على من حمله، وربما سقطت روايته لذلك في إصراره على لزومه وتركه الانصراف عنه، ولعل كثيراً ممن ترك حديثه واتهم في روايته كانت هذه علته، وإنما ينتقد ذلك أهل العلم بالأخبار والحلال والحرام والأحكام، وليس انتقاد ذلك إلى من لا يعرف الحديث ولا يبصر الرواية والاختلاف، وكذلك ما روى من الآثار في حروف القرآن، منها المعرب السائر الواضح ومنها المعرب الواضح غير السائر، ومنها اللغة الشاذة القليلة، ومنها الضعيف المعنى في الإعراب غير أنه قد قرئ به، ومنها ما توهم فيه فغلط به فهو لحن غير جائز عند من لا يبصر العربية إلا اليسير، ومنها اللحن الخفي الذي لا يعرفه إلا العالم النحرير، وبكل قد جاءت الآثار في القراءات)) (1) .
فهذا أبو عمر وعثمان بن سعيد الداني (ت444?) أورد في كتابه جامع البيان في القراءات السبع أكثر من خمسمائة رواية وطريق (2)
(1) السبعة لابن مجاهد:48، 49.
(2)
النشر: 1/35.
وبين في مقدمته كيفية تحصيله لهذه الروايات والطرق فقال: ((هذه الروايات هي التي أهل دهرنا عليها عاكفون وبها أئمتنا آخذون، وإياها يصنفون، وعلى ما جاءت به يعولون، ولا أعدو في شيء مما أرسمه في كتابي هذا مما قرأته لفظا، أو أخذته أداء أو سمعته قراءة أو رويته عرضا، أو سألت عنه إماما، أو ذاكرت به متصدراً، أو أجيز لي، أو كتب به إلىّ، أو أذن لي في روايته، أو بلغني عن شيخ متقدم، ومقرئ متصدر بإسناد عرفته وطريق ميزته، أو بحثت عنه عند عدم النص والرواية فأبحثه بنظيره وأجريت له حكم الشبيه)) (1) والهذلي يوسف بن علي بن جبارة (ت:465?) صاحب كتاب الكامل في القراءات الخمسين أورد فيه بأسانيده ألفا وأربعمائة وتسعة وخمسين رواية وطريقاً بعد أن رحل شرقا وغربا وشمالا وجنوبا في تحصيل هذه الروايات قال عن نفسه: ((فجملة من لقيت في هذا العلم ثلاثمائة وخمسة وستون شيخا من آخر المغرب إلى باب فرغانة (2) ، يمينا وشمالا وجبلا وبحرا، ولو علمت أحدا تقدم علي في هذه الطبقة في جميع بلاد الإسلام لقصدته)) (3) .
وأبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري (ت 478?) صاحب كتاب سوق العروس أورد فيه بأسانيده ألفا وخمسمائة وخمسين رواية وطريقا (4) .
ومنهجه أنه يستقصى حصر الرواة عن كل إمام يذكره ثم يتبع ذلك بذكر كل الطرق عن أولئك الرواة عن ذلك الإمام فمثلاً قال: ذكر الأسانيد:
(1) جامع البيان في القراءات السبع لوحة: 3/ب.
(2)
مدينة واسعة متاخمة لبلاد تركستان، وهي مدينة ذات خيرات كثيرة. معجم البلدان: 4/253.
(3)
غاية النهاية: 2/398.
(4)
سوق العروس لوحة:1/أ.
نافع روى عنه مئتان وخمسون رجلاً وهم: قالون، وورش، وسقلاب، وأبو دحية
…
الخ.
ثم يشرع في تعداد الطرق عن قالون، وورش، وسقلاب، وأبو دحية وغيرهم حتى ينتهي من كل الطرق التي بلغته عنهم وهو يحذر بعد هذا الاستقصاء من أن يروى أحد عن غير الرواة المذكورين عن ذلك الإمام والطرق الموصلة إليه التي بينها ووضحها، قال بعد أن أورد كل الروايات والطرق عن الإمام أبي جعفر:(ت130?) .
((من روى اختيار أبي جعفر عن غير هؤلاء فقد كذب وافترى لأن هؤلاء المذكورين قاموا بهذا الاختيار لا يصح إلا عنهم، ومن روى عنهم فاعلم أنه صادق)) (1)
وهذا أبو القاسم عيسى بن عبد العزيز الإسكندري: (ت629?) صاحب كتاب الجامع الأكبر والبحر الأزخر أورد فيه سبعة آلاف رواية وطريق (2) والحافظ محمد بن الجزري خاتمة المحققين في علم القراءات وحلقة الوصل بين المتقدمين والمتأخرين: (ت833 ?) ذكر في كتابه النشر في القراءات العشر ألف طريق منتقاة من آلاف الطرق والروايات التي قرأها واطلع عليها.
قال بعد فراغه من سرده للأسانيد التي تلقى بها القراءات ((فهذا ما تيسر من أسانيدنا بالقراءات العشر من الطرق المذكورة التي أشرنا إليها.
وجملة ما تحرر عنهم من الطرق بالتقريب نحو ألف طريق وهي أصح ما يوجد اليوم في الدنيا وأعلاه.
(1) سوق العروس لوحة: 8/ب
(2)
النشر: 1/35.
لم نذكر فيه إلا من ثبت عندنا أو عند من تقدمنا من أئمتنا عدالته، وتحقق لقيه لمن أخذ عنه، وصحت معاصرته وهذا إلزام لم يقع لغيرنا ممن ألف في هذا العلم)) (1)
وهذا يذكرنا بشرط البخاري الذي استنبطه العلماء من منهجه في كتابه المسمى (الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) والذي صار يعرف بصحيح البخاري.
فقد اشترط في الرواة الذين نقل عنهم المعاصرة واللقاء لمن رووا عنه، وقد امتاز وفضل على صحيح مسلم بزيادته شرط اللقاء في حين اكتفى مسلم بالمعاصرة.
وقال ابن الجزري مبيناً جهده الذي بذله في إيراد هذه الروايات التي ضمنها كتابه النشر:
((لم أدع عن هؤلاء الثقات الأثبات حرفا إلا ذكرته، ولا خلفا إلا أثبته، ولا إشكالاً إلا بينته وأوضحته، ولا بعيداً إلا قربته، ولا مفرقاً إلا جمعته ورتبته منبهاً على ما صح عنهم وشذ، وما انفرد به منفرد وفذ، ملتزما للتحرير والتصحيح والتضعيف والترجيح، معتبراً للمتابعات والشواهد، رافعاً إبهام التركيب بالعزو المحقق إلى كل واحد جمع طرق بين الشرق والغرب)) (2) .
وهكذا فإن المتتبع لعلماء القراءات ممن عنوا بذكر أسانيدهم في مقدمات كتبهم سيقف على الكثير مما أشرت إليه.
(1) المصدر السابق: 1/192
(2)
النشر: 1/56.