الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كاتب جلبي وكتابه سلم الوصول
أكمل الدين إحسان أوغلي
قررت منظمة اليونسكو الاحتفال هذا العام (2009 م) مع العالم كله بالذكرى الأربعمائة على مولد العالم العثماني الكبير كاتب جلبي، ويسعدنا اليوم بهذه المناسبة أن نقدم إلى دنيا العلم عَمَلَة الثاني الأهم في اعتقادنا وهو كتاب "سلم الوصول إلى طبقات الفحول"، هذا المعجم البيوغرافي الأشمل في الأدبيات الإسلامية، وذلك بعد عمله الخالد الأول، ألا وهو المعجم الببليوغرافي الأشمل أيضًا "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون". وقد كنا قبل نحو عشر سنوات ونحن ندير فعاليات إرسيكا قد عقدنا العزم على القيام بتحقيق كتاب أساسي من الكتب المخطوطة في الثقافة الإسلامية ليكون خدمة ثقافية مهمة في ساحة جديدة. وكانت الرغبة أن يكون العمل الذي ننشره في التراث الثقافي خلال العصر العثماني الذي يشكل واحدًا من العناوين الهامة في فعاليات إرسيكا، فوقع الإختيار على كتاب "سلم الوصول" الذي وَضَعَهُ كاتب جلبي ولم يكن منشورًا حتى ذلك اليوم.
ولا شك أن كاتب جلبي واحد من أهم الوجوه التي عرفها القرن السابع عشر الميلادي، ذلك العصر الذي لم يلق اهتمامًا كبيرًا من الباحثين وكان يوصف حتى زمن قريب بأنه بداية عهد "الانحطاط" في الحضارة الإسلامية. وكاتب جلبي ذلك المثقف العثماني كان واحدًا من أبرز الشخصيات التي عرفتها الأمة التركية وعرفتها الدولة العثمانية والعالم الإسلامي كله على الإطلاق. فإن انفتاحه في ذلك العهد المبكر على ثقافات مختلفة، ولا سيما على ثقافات وعلوم الغرب قد جعله يتبوأ مكانةً تليق به بين الرواد الذين أقاموا أولى الاتصالات فيما بين الشرق والغرب. ولا شك أن ظهور شخصية بارزة أخرى مثل أوليا جلبي في نفس القرن ثم قيامه في رحلاته التي سجلها في كتابه (سياحتنامه) بالكشف عن الحياة الاجتماعية فوق الرقعة الجغرافية الواسعة التي يضمها العالم العثماني بكل ثرائها وتنوعها، ثم قيام كاتب جلبي بوضع
معجم بيوغرافي واسع يشمل الساحة الثقافية للعالم الإسلامي والعثماني لهو دليل مهم على أن الثقافة العثمانية حافظت على حيويتها في ذلك العصر (1).
وقد توفي كاتب جلبي في سن التاسعة والأربعين، ومع ذلك فقد استطاع بكتبه التي أنجزها خلال تلك الحياة القصيرة مع كثرة عددها وتنوع موضوعاتها فضلًا عن محتواها وأصالتها أن يحتل مكانة متميزة في الأدبيات العثمانية والإسلامية. واستطاع كاتب جلبي بذهنه الوقاد وفكره النقاد وإحاطته الموسوعية وأعماله المنظمة التي تركها لنا أن يُتْحِفَ دنيا العلم ومن خلال منهج علمي لم يُدركه أحد في عصره بتراجم رجال برزوا في تاريخ الحضارة الإسلامية وأدبياتها. وقد حظيت تلك الأعمال باهتمام رجال العلم في الغرب منذ عهد مبكر، ولا يزال كل كتاب منها يحافظ على قيمته كمرجع لا يمكن الاستغناء عنه في بابه حتى اليوم.
كان كاتب جلبي يجيد التركية والعربية والفارسية، أي (الألسنة الثلاثة) بالمصطلح العثماني، ولهذا فقد استطاع بخبرته وبراعته العاليتين الاستفادة في تأليف أعماله من المصادر والمراجع المدونة بتلك اللغات الثلاث. فإلى جانب استخدامه الأوسع للغة التركية التي هي لغته الأم قد استفاد بكل يسر من اللغتين الأخريين عند الحاجة. ويدلنا اختياره للغة معينةٍ منها في تأليفه أو ترجمته لأحد الكتب على ماهية الهدف الذي قصده من ذلك الكتاب وعلى كتلة القراء التي أرادها له. ولسوف يبدو لنا عند الاطلاع على قائمة أعماله ماهية المسوغات في اختيار لغة معينة لتأليف كتابٍ معين.
ففي الأحوال التي رأى فيها ضرورة مخاطبة النخبة العثمانية وزمرة رجال الحكم في عاصمة الدولة استخدم اللغة التركية لكتابه، أي أنه استخدم اللغة التركية دائمًا وهو يضع أعماله الهامة في الجغرافيا، وأيضًا وهو يعبر عن آرائه في شئون الدولة والمجتمع، وكذلك وهو يضع كتبه المتعلقة بالتاريخ، سواء كان في تاريخ أوروبا أم كان في تاريخ الدولة العثمانية. وكان عند إعداده لأعماله يسعى للاستفادة من المصادر المعاصرة التي جاءت بالمعلومات والمعارف الحديثة التي تنير عقول الفئات التي يخاطبها وتتيح لها التعرف على تاريخها وتاريخ الأمم الأخرى المناهضة لها والتعرف من ثم على تاريخ وجغرافيا العالم،
(1) يصف الكاتب الأديب أحمد حمدي طاكبنار القرن السابع عشر "بأنه عصرنا الكلاسيكي الذي تشكلت فيه أذواقنا بكل تام" للمزيد من المعلومات أنظر:
Ahmet Hamdi Tanpinar، Saatleri Ayarlama Enstitusu، (Istanbul، 2008)، S. 262; a.g.y. Bes Sehir، (Istanbul، 2001)، s. 85.
وهناك دراسة أخرى تنقد ذلك العصر على ضوء المصادر التي ظهرت فيه، أنظر:
Mehmet Oz، Kanun- i Kadimin Pesinde، Osmanh'da "Cozulme" ve Gelenekci Yorumlari (Istanbul ، 2005
فوضع نصب عينيه أن يكون خطابه لهم بلغتهم التي يفهمونها بسهولة، أي باللغة التركية التي هي اللغة الرسمية للدولة. وقد استفاد كثيرًا من الأدبيات الفارسية لكنه لم يكتب بالفارسية. وكان كاتب جلبي عندما يرى مخاطبة العلماء والمثقفين الموجودين داخل وخارج رقعة الأراضي العثمانية المنسوبين إلى أقوام ومجموعات عرقية متباينة فإنه يختار لهم اللغة العربية، اللغة العلمية المشتركة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك -إلى جانب كتابيه- كشف الظنون، وسلم الوصول - كتابه المعروف اختصارًا باسم فذلكة، والموسوم بعنوان:"فذلكة أقوال الأخيار بعلم التاريخ والأخبار"، والموصوف بالتاريخ الكبير الذي هو تاريخ عام بالعربية يبدأ من بدء الخليقة حتى سنة 1051 هـ / 1641 م (2). ولا شك أن قيام كاتب جلبي بجعل اللغة العربية لغةً لهذه الأعمال الموسوعية الثلاثة إنما يكون قد قدم خدمة جليلة في المجال العلمي، كما يصبح جديرًا بأن يكون عَلَمًا من أعلام تاريخ الثقافة الإسلامية بعد هذه المؤلفات التي لا يمكن الاستغناء عنها في الأدبيات الإسلامية (3).
والناظر في "كشف الظنون" -الذي هو قمة من قمم تاريخ الأدبيات الإسلامية- يدرك أن كاتب جلبي قد أتحفنا بمعجم ببليوغرافي لا نظير له بما قدم من معلومات حول ما يقرب من خمسة عشر ألف كتاب؛ كما أنه أعد في مجال التراجم كتابًا آخر يعدله في القيمة سَمّاه: "سلم الوصول إلى طبقات الفحول". وكان هناك عدد محدود من الناس حاولوا الاستفادة من هذا الكتاب الذي ظل في حالة مخطوط حتى اليوم. وها نحن بعد جهود مستمرة منذ عام 1998 م نقدم هذا العمل الهام لخدمة الباحثين نصًا محققًا تحقيقًا علميًا جادًّا.
ويضم هذا المعجم البيوغرافي في مجمله نحو 8561 ترجمة. وقد جرى ترتيب التراجم في قسمه الأول بحسب أسماء الأشخاص، أما في القسم الثاني فإنه يتحدث عن كنى وأنساب وألقاب هؤلاء الأعلام وغيرهم بطريقة منهجية معينة.
(2) قام المؤرخ المصري سيد محمود سيد ابراهيم بإعداد القسم الخاص بتاريخ العثمانيين منه، وقام بنشره مجمع التاريخ التركي في أنقرة (2009).
(3)
من المعروف أن العلماء العثمانيين كانوا بوجه عام يعرفون تلك اللغات الثلاث (أو بحسب تعبيرهم الألسنة الثلاثة)، وكانوا يكتبون أعمالهم بالعربية والفارسية إلى جانب لغتهم الأم (اللغة التركية)، وكان الأدب التركي واقعًا تحت تأثير الأدب الفارسي. ولأجل هذا كان على العالم العثماني الذي يود التقدم في مجال العلوم والآداب ويفهم جيدًا ما كتب فيها أن يقدم على تعلم تلك اللغات الثلاث وإتقانها. بل إن السلاطين الكبار مثل السلطان الفاتح والسلطان سليم الأول والسلطان سليمان القانوني كانوا يتقنونها، وكان منهم من قرض الشعر بالفارسية، ويوجد للسلطان سليم ديوان شعر فارلسي. وهناك كثير من العلماء العثمانيين ممن كانوا يستخدمون لغتين منها أو الثلاثة معًا في مؤلفاتهم، وعلى سبيل المثال فإن قاضي زاده وعلي قوشجي وضعا مؤلفاتهما بالفارسية أو العربية، بينما استخدم التركية والعربية في الكتابة كل من محمد بن الكاتب سنان ومصطفى بن علي الموقت وقنالى زاده والبركوي وأبي السعود أفندي، أما ميرم جلبي وابن كمال باشا وفضولي فقد استخدموا اللغات الثلاث.