الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما ورد في قصة سطيح
، وخمود النيران ليلة المولد وانشقاق الإيوان:
قال ابن أبي الدنيا وغيره: حدثنا علي بن حرب الطائي، قال: أخبرنا أبو أيوب يعلى بن عمران البجلي، قال: حدثني مخزوم بن هانئ المخزومي، عن أبيه، وكان قد أتت عليه مائة وخمسون سنة، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى من شأن إيوانه فصبر عليه تشجعا، ثم رأى أن لا يستر ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم، فلما اجتمعوا عنده، قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا إلا أن يخبرنا الملك، فبينا هم على ذلك أورد عليهم كتاب بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، فقال الموبذان: وأنا قد رأيت -أصلح الله الملك- في هذه الليلة رؤيا، ثم قص عليه رؤياه فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب، وكان أعلمهم في أنفسهم فكتب كسرى عند ذلك: "من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد، فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه بعبد المسيح بن حيان
ابن بقيلة الغساني، فلما قدم، عليه قال له: هل لك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليسألني الملك فإن كان عندي علم وإلا أخبرته بمن يعلمه فأخبره بما رأى، فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح، قال: فائته فسله عما سألتك وائتني بجوابه، فركب حتى أتى على سطيح وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه فلم يحر سطيح جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول:
أصم أم يسمع غطريف اليمن
…
أم فاد فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن
…
أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن
…
أزرق بهم الناب صرار الأذن
أبيض فضفاض الرداء والبدن
…
رسول قيل العجم يسرى للوسن
يجوب في الأرض علنداة شجن
…
ترفعني وجن وتهوي بي وجن
لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
…
كأنما حثحث من حضنى ثكن
حتى أتى عاري الحآجي والقطن
…
تلفه في الريح بوغاء الدمن
فقال سطيح: عبد المسيح، جاء إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه، وسار عبد المسيح إلى رحله، وهو يقول:
شمر فإنك ماضي الهم شمير
…
لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم
…
فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربما ربما أضحضوا بمنزلة
…
تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته
…
والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علات فمن علموا
…
أن قد أقل فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم إما إن رأوا نشبا
…
فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مصفودان في قرن
…
فالخير متبع والشر محذور
فلما قدم على كسرى أخبره بقول سطيح، فقال كسرى: إلى متى يملك منا أربعة عشر ملكا تكون أمور، فملك منهم عشرة أربع سنين، وملك الباقون إلى آخر خلافة عثمان رضي الله عنه هذا حديث منكر غريب.
وبإسنادي إلى البكائي، عن ابن إسحاق، قال كان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة، فرأى رؤيا هالته وفظع منها، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بها وبتأويلها.
قالوا: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها. قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها. فقيل له: إن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق فإنه ليس أحد أعلم منهما، فبعث إليهما فقدم سطيح قبل شق، فقال له: رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة. قال: ما أخطأت منها شيئا، فما تأويلها؟
فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش،
فليملكن ما بين أبين إلى جرش.
فقال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن أفي زمانه أم بعده؟
قال: بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون هاربين.
قال: من يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن. قال: أفيدوم ذلك؟ قال: بل ينقطع بنبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي. قال: وممن هو؟ قال: من ولد فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر
الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان. قال: نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما قال ذلك عرف أنهما قد اتفقا فوقع في نفسه فجهز أهل بيته إلى العراق، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ولد ربيعة بن نصر: النعمان بن المنذر، فهو في نسب اليمن: النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر.
باب: منه
عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح".
هذا حديث ضعيف، فيه متروكان: الواقدي، وأبو بكر بن أبي سبرة.
وورد مثله عن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي بن الحسين، عن علي، وهو منقطع إن صح عن جعفر بن محمد، ولكن معناه صحيح.
وقال خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن أبي الجدعاء، قال قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال:"وآدم بين الروح والجسد".
وقال منصور بن سعد، وإبراهيم بن طهمان واللفظ له: قال: حدثنا بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم متى كنت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد".
وقال الترمذي: حدثنا الوليد بن شجاع، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: "بين خلق آدم ونفخ الروح فيه" قال الترمذي: حسن غريب.
قلت: لولا لين في الوليد بن مسلم لصححه الترمذي.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد،
عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك قال:"دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأن نورا خرج منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام".
وروينا بإسناد حسن -إن شاء الله- عن العرباض بن سارية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني عبد الله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى لي، ورؤيا أمي التي رأت". وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام.
ورواه الليث، وابن وهب، عن معاوية بن صالح، سمع سعيد بن سويد يحدث عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض، فذكره.
ورواه أبو بكر بن أبي مريم الغساني، عن سعيد بن سويد، عن العرباض نفسه.
وقال فرج بن فَضالة: حدثنا لقمان بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة، قال قلت: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟ قال:"دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام". رواه أحمد في "مسنده" عن أبي النضر، عن فرج.
قوله: "لمنجدل" أي ملقى، وأما دعوة إبراهيم فقوله:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129]، وبشارة عيسى قوله:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدْ} [الصف: 6] .
وقال أبو ضمرة: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "قسم الله الأرض نصفين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف
على ثلاثة فكنت في خير ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشا من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش ثم
اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطلب". هذا حديث مرسل.
وروى زحر بن حصن، عن جده حميد بن منهب، قال: سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة يقول: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك، فسمعت العباس، يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال: "لا يفضض الله فاك". فقال:
من قبلها طبت في الظلال وفي
…
مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر
…
أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد
…
ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم
…
إذا مضى عالم بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من
…
خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الـ
…
ـأرض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النْـ
…
ـنُور وسبل الرشاد نخترق
الظلال: ظلال الجنة قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41]، والمستودع: هو الموضع الذي كان فيه آدم وحواء يخصفان عليهما من الورق، أي: يضمان بعضه إلى بعض يتستران به، ثم هبطت إلى الدنيا في صلب آدم، وأنت لا بشر ولا مضغة.
وقوله: "تركب السفين" يعني: في صلب نوح. وصالب لغة غريبة في الصلب، ويجوز في الصلب الفتحتان كسقم وسقم.
والطبق: القرن، أي: كلما مضى عالم وقرن جاء قرن، ولأن القرن
يطبق الأرض بسكناه بها. ومنه قوله عليه السلام في الاستسقاء: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا طبقا غدقا"، أي: يطبق الأرض. وأما قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19]، أي: حالا بعد حال.
والنطق: جمع نطاق وهو ما يشد به الوسط ومنه المنطقة. أي: أنت أوسط قومك نسبا. وجعله في علياء وجعلهم تحته نطاقا. وضاءت: لغة في أضاءت.
وأرضعته ثويبة:
وأرضعته ثويبة جارية أبي لهب عمه، مع عمه حمزة، ومع أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، رضي الله عنهما.
قال شعيب، عن الزهري، عن عروة: إن زينب بنت أبي سلمة وأمها أخبرته، أن أم حبيبة أخبرتهما، قالت: قلت: يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: "أوتحبين ذلك؟ ". قلت: لست لك بمخلية وأحب إلي من شركني في خير أختي. قال: "إن ذلك لا يحل لي". فقلت: يا رسول الله إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة. فقال: "والله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن". أخرجه البخاري.
وقال عروة في سياق البخاري: ثويبة مولاة أبي لهب، أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله في النوم بشر حيبة، يعني: حالة فقال له: ماذا لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم رخاء غير أني أسقيت في هذه مني بعتاقتي ثويبة. وأشار إلى النقرة التي بين
الإبهام والتي تليها.
ثم أرضعته حليمة السعدية:
ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وأخذته معها إلى أرضها، فأقام معها في بني سعد نحو أربع سنين، ثم ردته إلى أمه.
قال يحيى بن أبي زائدة: قال محمد بن إسحاق عن جهم بن أبي جهم، عن عبد الله جعفر، عن حليمة بنت الحارث أم رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدية، قالت: خرجت في نسوة نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي قمراء قد أذمت بالركب، وخرجنا في سنة شهباء لم تبق شيئا، ومعنا شارف لنا، والله إن تبض علينا بقطرة، ومع صبي لي لن ننام ليلنا
مع بكائه، فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة رضاعه من أبيه، وكان يتيما، فلم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبيا، غيري. فقلت لزوجي: لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فأتيته فأخذته، فقال زوجي: عسى الله أن يجعل فيه خيرا. قالت: فوالله ما هو إلا أن جعلته في حجري فأقبل عليه ثديي بما شاء من اللبن، فشرب وشرب أخوه حتى رويا، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل، فإذا بها حافل، فحلب وشربنا حتى روينا، فبتنا شباعا رواء، وقد نام صبياننا، قال أبوه: والله يا حليمة ما أراك إلا قد أصبت نسمة مباركة، ثم خرجنا، فوالله لخرجت
أتاني أمام الركب قد قطعتهن حتى ما يتعلق بها أحد، فقدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر، فقدمنا على أجدب أرض الله، فوالذي نفسي بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم ويسرح راعي غنمي، فتروح غنمي بطانا لبنا حفلا، وتروح أغنامهم جياعا، فيقول لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة؟ فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه راعينا، فتروح أغنامهم جياعا ما بها من لبن، وتروح غنمي لبنا حفلا.
شق الصدر:
فكان صلى الله عليه وسلم يشب في يومه شباب الصبي في الشهر، ويشب في الشهر شباب الصبى في سنة، قالت: فقدمنا على أمه فقلنا لها: ردي علينا ابني فإنا نخشى عليه وباء مكة قالت: ونحن أضن شيء به مما رأينا من بركته، قالت: ارجعا به، فمكث عندنا شهرين فبينا هو يلعب وأخوه خلف البيوت يرعيان بهما لنا، إذ جاء أخوه يشتد، فقال: أدركا أخي قد جاءه رجلان فشقا بطنه، فخرجنا نشتد، فأتيناه وهو قائم منتقع اللون، فاعتنقه أبوه وأنا، ثم قال: ما لك يا بني؟ قال: "أتاني رجلان فأضجعاني ثم شقا بطني فوالله ما أدري ما صنعا". فرجعنا به. قالت: يقول أبوه: يا حليمة ما أرى هذا الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أهله. فرجعنا به إليها، فقالت: ما ردكما به؟ فقلت: كفلناه وأدينا الحق، ثم تخوفنا عليه الأحداث.
فقالت: والله ما ذاك بكما، فأخبراني خبركما، فما زالت بنا حتى أخبرناها. قالت:
فتخوفتما عليه؟ كلا والله إن لابني هذا شأنا إني حملت به فلم أحمل حملا قط كان أخف منه ولا أعظم بركة، ثم رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت لي أعناق الإبل ببصرى، ثم وضعته فما وقع كما يقع الصبيان، وقع واضعا
يديه بالأرض رافعا رأسه إلى السماء، دعاه، والحقا شأنكما. هذا حديث جيد الإسناد.
قال أبو عاصم النبيل: أخبرني جعفر بن يحيى، قال: أخبرنا عمارة بن ثوبان أن أبا الطفيل أخبره، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبلت إليه امرأة حتى دنت منه، فبسط لها رداءه فقلت: من هذه؟ فقالوا: أمه التي أرضعته. أخرجه أبو داود.
قال مسلم: حدثنا شيبان، قال: حدثنا، حماد، قال: حدثنا ثابت، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق قلبه، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعني مرضعته، فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه منتقع اللون.
قال أنس: قد كنت أرى أثر المخيط في صدره.
وقال بقية، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد، فذكر نحوا من حديث أنس. وهو صحيح أيضا، وزاد فيه: "فرحلت -يعني ظئره - بعيرا، فحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يعرها ذلك، وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاء منه قصور الشام.
وقال سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت وأنا في أهلي، فانطلق بي إلى زمزم فشرح صدري، ثم أتيت بطست من ذهب ممتلئة حكمة وإيمانا فحشى بها صدري -قال أنس: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا أثره- فعرج بي الملك إلى السماء الدنيا" وذكر حديث المعراج.
وقد روى نحوه شريك بن أبي نمر، عن أنس، عن أبي ذر وكذلك رواه الزهري، عن أنس، عن أبي ذر أيضا. وأما قتادة فرواه عن أنس، عن مالك بن صعصعة، نحوه.
وإنما ذكرت هذا ليعرف أن جبريل شرح صدره مرتين: في صغره ووقت الإسراء به.
وفاة والده:
وتوفي "عبد الله" أبوه، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا. وقيل: أقل من ذلك.
وقيل: وهو حمل توفي بالمدينة غريبا، وكان قدمها ليمتار تمرا، وقيل: بل مر بها مريضا راجعا من الشام، فروى محمد بن كعب القرظي وغيره: أن عبد الله بن عبد المطلب خرج إلى الشام إلى غزة في عير تحمل تجارات، فلما قفلوا مروا بالمدينة وعبد الله مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضا مدة شهر، فبلغ ذلك عبد المطلب، فبعث إليه الحارث وهو أكبر ولده؛ فوجده قد مات؛ ودفن في دار النابغة أحد بني النجار؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل، على الصحيح. وعاش عبد الله خمسا وعشرين سنة، قال الواقدي: وذلك أثبت الأقاويل في سنة وفاته.
وترك عبد الله من الميراث أم أيمن وخمسة أجمال وغنما، فورث ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وفاة أمه وكفالة جده وعمه:
وتوفيت أمه "آمنة" بالأبواء وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي ابن النجار، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم. وقيل: ابن أربع سنين. فلما مات ودفنت، حملته أم أيمن مولاته إلى مكة إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي جده، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب.
قال عمرو بن عون: أخبرنا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، عن عباس بن عبد الرحمن، عن كندير بن سعيد، عن أبيه، قال: حججت في الجاهلية، فإذا رجل يطوف بالبيت ويرتجز يقول:
رب رد إليّ راكبي محمدا
…
يا رب رده واصطنع عندي يدا
قلت: من هذا؟ قال: عبد المطلب، ذهبت إبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها، وقد احتبس عليه فما برحت حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل. فقال: يا بني لقد حزنت عليك حزنا؛ لا تفارقني أبدا.
وقال خارجة بن مصعب، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده، أن حيدة بن معاوية اعتمر في الجاهلية، فذكر نحوا من حديث كندير عن أبيه.
وقال إبراهيم بن محمد الشافعي، عن أبيه، عن أبان بن الوليد، عن أبان بن تغلب، قال: حدثني جلهمة بن عرفطة، قال: إني لبالقاع من
نمرة، إذ أقبلت عير من أعلى نجد، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة، ثم نادى يا رب البنية أجرني؛ وإذا شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء، فقال: ما شأنك يا غلام، فأنا من آل الله وأجير من استجار به؟ قال: إن أبي مات وأنا صغير، وإن هذا استعبدني، وقد كنت أسمع أن لله بيتا يمنع من الظلم، فلما رأيته استجرت به. فقال له القرشي: قد أجرتك يا غلام، قال: وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه. قال جلهمة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان قعدد الحي، فقال: إن لهذا الشيخ ابنا يعني أبا طالب. قال: فهويت رحلي نحو تهامة، أكسع بها الجدود، وأعلوا بها الكذان، حتى انتهيت إلى المسجد الحرام، وإذا قريش عزين، قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون، فقائل منهم يقول: اعتمدوا اللات والعزى؛ وقائل يقول: اعتمدوا لمناة الثالثة الأخرى. وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم عليه السلام وسلالة إسماعيل؟ قالوا له: كأنك عنيت أبا طالب. قال: إيهًا. فقاموا بأجمعهم، وقمت معهم فدققنا عليه بابه، فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر، عليه إزار قد اتشح به، فثاروا إليه فقالوا: يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العباد فهلم فاستسق؛ فقال: رويدكم زوال الشمس وهبوب الريح؛ فلما زاغت الشمس أو كادت، خرج أبو طالب معه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة؛ فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه الغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا
وههنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ربيع اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم
…
فهم عنده في نعمة وفضائل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة
…
ووزان صدق وزنه غير عائل
وقال عبد الله بن شبيب وهو ضعيف: حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي، قال: حدثني سعيد بن سالم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: كنا مع عطاء، فقال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسنهم وجها، ما رآه أحد قط إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره، ولا يجلس عليه معه أحد، وكان الندي من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام لم يبلغ فجلس على المفرش، فجبذه رجل فبكى؛ فقال عبد المطلب -وذلك بعدما كف بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه، فقال: دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه شرفا، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده. قال: ومات عبد المطلب، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي حتى دفن بالحجون.
وقد رعى الغنم:
فروى عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وقد رعى الغنم". قالوا: وأنت
يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها بالقراريط لأهل مكة". رواه البخاري.
وقال أبو سلمة، عن جابر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجتني الكباث، فقال:"عليكم بالأسود منه فإنه أطيب". قلنا: وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: "نعم وهل من نبي إلا قد رعاها". متفق عليه.
سفره مع عمه إن صح:
قال قراد أبو نوح: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه محمد صلى الله عليه وسلم وأشياخ من قريش؛ فلما أشرفوا على الراهب نزلوا فخرج إليهم، وكان قبل ذلك لا يخرج إليهم، فجعل يتخللهم وهم يحلون رحالهم؛ حتى جاء فأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أشياخ قريش: وما علمك بهذا؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني لأعرفه بخاتم النبوة، أسفل "عرصوف" كتفه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعاما؛ فلما أتاهم به كان صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل، قال: فأرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه -يعني إلى فيء شجرة- فلما
جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا فيء الشجرة مال عليه، قال: فبينا هو قائم عليه يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم لو رأوه عرفوه بصفته فقتلوه؛ فالتفت فإذا بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم الراهب، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا قد بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا فبعثنا إلى طريقك هذا؛ قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فتابعوه وأقاموا معه، قال: فأتاهم فقال: أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قال أبو طالب: أنا؛ فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوده الراهب من الكعك والزيت.
تفرد به قراد، واسمه عبد الرحمن بن غزوان، ثقة، احتج به البخاري والنسائي؛ ورواه الناس عن قراد، وحسنه الترمذي. وهو حديث منكر جدا؛ وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف؛ وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد؛ وأيضا، فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة؟ لأن ظل الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أبا طالب قط بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الأشياخ، مع
توفر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار، ولبقي عنده صلى الله عليه وسلم حس من النبوة؛ ولما أنكر مجيء الوحي إليه، أولا بغار حراء وأتى خديجة خائفا على عقله، ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه صلى الله عليه وسلم. وأيضا فلو أثر هذا الخوف في أبي طالب ورده،
كيف كنت تطيب نفسه أن يمكنه من السفر إلى الشام تاجرا لخديجة؟
وفي الحديث ألفاظ منكرة، تشبه ألفاظ الطرقية، مع أن ابن عائذ روى معناه في مغازيه دون قوله:"وبعث معه أبو بكر بلالا" إلى آخره، فقال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني أبو داود سليمان بن موسى، فذكره بمعناه.
وقال ابن إسحاق في "السيرة": إن أبا طالب خرج إلى الشام تاجرا في ركب، ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فلما نزلوا بصرى، وبها بحيرا الراهب في صومعته، وكان أعلم أهل النصرانية؛ ولم يزل في تلك الصومعة قط راهب يصير إليه علمهم عن كتاب فيهم فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا؛ عن كابر قال: فنزلوا قريبا من الصومعة، فصنع بحيرا طعاما، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم، فنزل بظل شجرة، فنزل بحيرا من صومعته، وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فجاءوه فقال رجل منهم: يا بحيرا ما كنت تصنع هذا، فما شأنك؟ قال: نعم، ولكنكم ضيف، وأحببت أن أكرمكم، فاجتمعوا، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغره في رحالهم. فلما نظر بحيرا فيهم ولم يره، قال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد عن طعامي هذا. قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا. قال: فلا تفعلوا، ادعوه. فقال رجل: واللات والعزى إن هذا للؤم بنا، يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا، ثم قام واحتضنه، وأقبل به فلما رآه بحيرا جعل يلحظه شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا شبعوا وتفرقوا قام بحيرا، فقال: يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني
عما أسألك عنه، فزعموا أنه قال: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط. فقال له: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فجعل يسأله عن أشياء من حاله، فتوافق ما عنده من الصفة. ثم نظر فيه أثر خاتم النبوة، فأقبل على أبي طالب، فقال: ما هو منك؟ قال: ابني. قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخي. قال: ارجع به واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفته ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك شأن. فخرج به أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته. وذكر الحديث.
وقال معتمر بن سليمان: حدثني أبي، عن أبي مجلز: أن أبا طالب سافر إلى الشام ومعه
محمد، فنزل منزلا، فأتاه راهب، فقال: فيكم رجل صالح، ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال أبو طالب: ها أنذا وليه. قال: احتفظ به ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود قوم حسد، وإني أخشاهم عليه. فرده.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن جعفر وجماعة، عن داود بن الحصين، أن أبا طالب خرج تاجرا إلى الشام، ومعه محمد، فنزلوا ببحيرا
…
الحديث.
وروى يونس عن ابن شهاب حديثا طويلا فيه: فلما ناهز الاحتلام، ارتحل به أبو طالب تاجرا، فنزل تيماء فرآه حبر من يهود تيماء، فقال لأبي طالب: ما هذا الغلام؟ قال: هو ابن أخي، قال: فوالله إن قدمت به الشام لا تصل به إلى أهلك أبدا، لتقتلنه اليهود إنه عدوهم.
فرجع به أبو طالب من تيماء إلى مكة.
قال ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما ذكر لي- يحدث عما كان الله تعالى يحفظه به في صغره، قال:"لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب الغلمان به، كلنا قد تعرى وجعل إزاره على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراها، لكمة وجيعة، وقال: شد عليك إزارك، فأخذته فشددته، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي".
قال ابن إسحاق: وهاجت حرب الفجار ولرسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، سميت بذلك لما استحلت كنانة وقيس عيلان في الحرب من المحارم بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كنت أنبل على أعمامي". أي أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم. وكان قائد قريش حرب بن أمية.
شأن خديجة:
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أقرب منه صلى الله عليه وسلم إلى قصي برجل، كانت، امرأة تاجرة ذات شرف ومال، وكانت تستأجر الرجال في مالها، وكانت قريش تجارا، فعرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج في مال لها إلى الشام، ومعه غلام اسمه ميسرة، فخرج إلى الشام، فنزل تحت شجرة بقرب صومعة، فأطل الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا؟ فقال: رجل من قريش، قال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. ثم باع النبي صلى الله عليه وسلم تجارته وتعوض ورجع، فكان ميسرة -فيما يزعمون- إذا اشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير.
روى قصة خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الشام تاجرا، المحاملي، عن عبد الله بن شبيب وهو واه، قال: حدثنا أبو بكر بن شيبة، قال: حدثني عمر بن أبي بكر العدوي، قال: حدثني بن شيبة، قال: حدثتني عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية أخت يعلى، قالت: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة. فذكر الحديث بطوله، وهو حديث منكر. قال: فلما قدم مكة باعت خديجة ما جاء به فأضعف أو قريبا. وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعن الملكين، وكانت لبيبة حازمة، فبعثت إليه تقول: يابن عمي، إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وصدق وحسن خلقك، ثم عرضت عليه نفسها، فقال ذلك لأعمامه، فجاء معه حمزة عمه حتى
دخل على خويلد فخطبها منه، وأصدقها النبي صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة، فلم يتزوج عليها حتى ماتت، وتزوجها وعمره خمس وعشرون سنة.
وقال أحمد في "مسنده": حدثنا أبو كامل، قال: حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس -فيما يحسب حماد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة، وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت هي طعاما وشرابا، فدعت أبها وزمرا من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت لأبيها: إن محمدا يخطبني فزوجني إياه، فزوجها إياه، فخلقته وألبسته حلة كعادتهم، فلما صحا نظر، فإذا هو مخلق، فقال: ما شأني؟ فقالت: زوجتني محمدا. فقال: وأنا أزوج يتيم أبي طالب! لا لعمري، فقالت: أما تستحيي؟ تريد أن تسفه نفسك عند قريش بأنك كنت سكران، فلم تزل به حتى رضي.
وقد روى طرفا منه الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سمرة أو غيره.
وأولاده كلهم من خديجة سوى إبراهيم، وهم: القاسم، والطيب، والطاهر، وماتوا صغارا رضعا قبل المبعث، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة رضي الله عنهم فرقية، وأم كلثوم زوجتا عثمان بن عفان، وزينب زوجة أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وفاطمة زوجة علي، رضي الله عنهم أجمعين.
بنيان الكعبة:
قال ابن إسحاق: فلما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت
قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة فتحطمت، فأخذوا خشبها وأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة نجار قبطي، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، فكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يوما تشرف على جدار الكعبة بعث الله إليها طائرا فاختطفها، فذهب بها،
قال: فاستبشروا بذلك، ثم هابوا هدمها. فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم لا نريد إلا خيرا. ثم هدم من ناحية الركنين، وهدموا حتى بلغوا أساس إبراهيم عليه السلام فإذا حجارة خضر آخذ بعضها ببعض. ثم بنوا، فلما بلغ البنيان موضع الركن، يعني الحجر الأسود، اختصموا فيمن يضعه، وحرصت كل قبيلة على ذلك حتى تحاربوا ومكثوا أربع ليال. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتناصفوا فزعموا أن أبا أمية بن المغيرة، وكان أسن قريش، قال: اجعلوا بينكم فيما تختلفون أول من يدخل من باب المسجد، ففعلوا، فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به، فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر فقال:"هاتوا لي ثوبا". فأتوا به، فأخذ الركن بيده فوضعه في الثوب، ثم قال:"لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا". ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى الله عليه وسلم بيده وبنى عليه.
وقال ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، قال: لما بلغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت، فهدموها حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن: أي القبائل تضعه؟ قالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا. فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، حكموه، فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أخذ سيد كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه، ثم طفق لا يزداد على السن إلا رضا حتى دعوه الأمين، قبل أن ينزل عليه وحي، وطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.
ويروى عن عروة ومجاهد وغيرهما: أن البيت بني قبل المبعث بخمس عشرة سنة.
وقال داود بن عبد الرحمن العطار: حدثنا ابن خثيم، عن أبي الطفيل، قال: قلت له: يا خال، حدثني عن شأن الكعبة قبل أن تبنيها قريش. قال: كان برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق، وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلى، ثم إن سفينة للروم أقبلت، حتى إذا كانت بالشعيبة انكسرت، فسمعت بها قريش فركبوا إليها وأخذوا خشبها، ورومي يقال له: بلقوم نجار بان، فلما قدموا مكة، قالوا: لو بنينا بيت ربنا عز وجل فاجتمعوا لذلك ونقلوا الحجارة من أجياد الضواحي، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل إذ انكشفت نمرته فنودي: يا محمد عورتك، فذلك أول ما نودي، والله أعلم. فما رؤيت له عورة بعد.
وقال أبو الأحوص، عن سماك بن حرب: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم بنى البيت -وذكر الحديث- إلى أن قال: فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته
قريش. وذكر في الحديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود مكانه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، قالت: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة -رجل وامرأة من جرهم- زنيا في الكعبة فمسخا حجرين.
وقال موسى بن عقبة: إنما حمل قريشا على بناء الكعبة أن السيل كان يأتي من فوقها من فوق الردم الذي صنعوه فأخربه، فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بناءها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا، فأعدوا لذلك نفقة وعمالا.
وقال زكريا بن إسحاق: حدثنا عمرو بن دينار أنه سمع جابرا يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل الحجارة للكعبة مع قريش وعليه إزار، فقال له عمه العباس: يابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكب دون الحجارة، ففعل ذلك، فسقط مغشيا عليه، فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانا. متفق عليه. وأخرجاه أيضا من حديث ابن جريج.
وقال معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، قال: لما بنى البيت كان الناس ينقلون الحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، فأخذ الثوب فوضعه على عاتقه فنودي:"لا تكشف عورتك" فألقى الحجر ولبس ثوبه. رواه أحمد في "مسنده".
وقال عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي: حدثنا عمرو بن أبي قيس،
عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه، قال: كنت أنا وابن أخي ننقل الحجارة على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس اتزرنا فبينا هو أمامي خر على وجهه منبطحا، فجئت أسعى وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء، فقلت: ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره وقال: "نهيت أن أمشي عريانا". فكنت أكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون. رواه قيس بن الربيع بنحوه، عن سماك.
وقال حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي رضي الله عنه قال: لما تشاجروا في الحجر أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فكان أول من دخل النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد جاء الأمين.
مسلم الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، قال: جلس رجال من قريش فتذاكروا بنيان الكعبة، فقالوا: كانت مبنية برضم يابس، وكان بابها بالأرض، ولم يكن لها سقف، وإنما تدلى الكسوة على الجدر، وتربط من أعلى الجدر من بطنها، وكان في بطن الكعبة عن يمين الداخل جب يكون فيه ما يهدي للكعبة منذ زمن جرهم، وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم من جرهم فسرقوا ما به، فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة، وما فيها خمسمائة سنة إلى أن بنتها قريش، وكان قرنا الكبش معلقين في بطنها مع معاليق من حلية. إلى أن قال: حتى يطيق الحجر منها ثلاثون رجلا يحرك الحجر منها، فترتج جوانبها، قد تشبك بعضها ببعض، فأدخل الوليد بن المغيرة عتلة بين إصبعين حجرين فانفلقت منه فلقة، فأخذها رجل فنزت من يده
حتى عادت في مكانها، وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم، ورجفت مكة بأسرها، فأمسكوا. إلى أن قال: وقلت النفقة عن عمارة البيت، فأجمعوا على أن يقصروا عن القواعد ويحجروا ما يقدرون ويتركوا بقيته في الحجر، ففعلوا ذلك وتركوا ستة أذرع وشبرا، ورفعوا بابها وكسوها بالحجارة حتى لا يدخلها السيل ولا يدخلها إلا من أرادوا، وبنوها بساف من حجارة وساف من خشب، حتى انتهوا إلى موضع الركن فتنافسوا في وضعه. إلى أن قال: فرفعوها بمدماك حجارة ومدماك خشب، حتى بلغوا السقف، فقال لهم باقوم النجار الرومي: أتحبون أن تجعلوا سقفها مكنسا أو مسطحا؟ قالوا: بل مسطحا. وجعلوا فيه ست دعائم في صفين، وجعلوا ارتفاعها من ظاهرها ثمانية عشر ذراعا وقد كانت قبل تسعة أذرع، وجعلوا درجة من خشب في بطنها يصعد منها إلى ظهرها، وزوقوا سقفها وحيطانها من بطنها ودعائمها، وصوروا فيها الأنبياء والملائكة والشجر، وصوروا إبراهيم يستقسم بالأزلام، وصوروا عيسى وأمه، وكانوا أخرجوا ما في جب الكعبة من حلية ومال وقرني الكبش، وجعلوه عند أبي طلحة العبدري، وأخرجوا منها هبل، فنصب عند المقام حتى فرغوا فأعادوا جميع ذلك ثم ستروها بحبرات يمانية.
وفي الحديث عن أبي نجيح، عن أبيه، عن حويطب بن عبد العزى وغيره: فلما كان يوم الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت، فأمر بثوب فبل بماء وأمر بطمس تلك الصور، ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال:"امحوا الجميع إلا ما تحت يدي". رواه الأزرقي.
ابن جريج، قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي
رباح، وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟ قال: نعم أدركت تمثال مريم مزوقا في حجرها عيسى قاعد، وكان في البيت ستة أعمدة سواري، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي
الباب: فقلت لعطاء: متى هلك؟ قال: في الحريق زمن ابن الزبير، قلت: أعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني كان؟ قال: لا أدري، وإني لأظنه قد كان على عهده.
قال داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج: ثم عاودت عطاء بعد حين فقال: تمثال عيسى وأمه في الوسطى من السواري.
قال الأزرقي: حدثنا داود العطار، عن عمرو بن دينار، قال: أدركت في الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى وأمه، قال داود: فأخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا شيبة امح كل صورة إلا ما تحت يدي". قال: فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه.
قال الأزرقي، عن سعيد بن سالم: حدثني يزيد بن عياض بن جعدبة، عن ابن شهاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها صورة الملائكة، فرأى صورة إبراهيم فقال:"قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام". ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها فقال: "امحو ما فيها إلا صورة مريم". ثم ساقه الأزرقي بإسناد آخر بنحوه، وهو مرسل، لكن قول عطاء وعمرو ثابت، وهذا أمر لم نسمع به إلى اليوم.
أخبرنا سليمان بن حمزة، قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرنا محمد بن أحمد، أن فاطمة بنت عبد الله أخبرتهم، قالت: أخبرنا ابن بريدة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن
عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الطفيل، قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم، ليس فيها مدر، وكانت قدر ما نقتحمها، وكانت غير مسقوفة، إنما توضع ثيابها عليها، ثم تسدل عليها سدلا، وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة، فأقبلت سفينة من أرض الروم فانكسرت بقرب جدة، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها، فوجدوا رجلا روميا عندها، فأخذوا الخشب، وكانت السفينة تريد الحبشة، وكان الرومي الذي في السفينة نجارا، فقدموا به وبالخشب، فقالت قريش: نبني بهذا الذي في السفينة بيت ربنا، لما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت، مثل قطعة الجائز سوداء الظهر، بيضاء البطن، فجعلت كلما دنا أحد إلى البيت ليهدم أو يأخذ من حجارته، سعت إليه فاتحة فاها، فاجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله وقالوا: ربنا لم ترع، أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك، وإلا فما بدا لك فافعل. فسمعوا خوارا في السماء، فإذا هم بطائر أسود الظهر، أبيض البطن، والرجلين، أعظم من النسر، فغرز مخلابه في رأس الحية، حتى انطلق بها يجرها، ذنبها أعظم من كذا وكذا ساقطا، فانطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، تحملها قريش على رقابها، فرفعوا في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل
حجارة من أجياد، وعليه نمرة، فضاقت عليه النمرة، فذهب يضعها على عاتقه، فبرزت عورته من صغر النمرة، فنودي: يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك. وكان بين بنيان الكعبة، وبين ما أنزل عليه خمس سنين. هذا حديث صحيح.
وقد روى نحوه داود العطار، عن ابن خثيم.
ورواه محمد بن كثير المصيصي، عن عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن نافع بن سرجس، قال: سألت أبا الطفيل، فذكر نحوه.
وقال عبد الصمد بن النعمان: حدثنا ثابت بن يزيد، قال: حدثنا هلال بن خباب، عن مجاهد، عن مولاه، أنه حدثه أنه كان فيمن يبني الكعبة في الجاهلية، قال: ولى حجر أنا نحته بيدي أعبده من دون الله، فأجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على نفسي فأصبه عليه، فيجيء الكلب فيلحسه، ثم يشغر فيبول، فبنينا حتى بلغنا الحجر، وما يرى الحجر منا أحد، فإذا هو وسط حجارتنا، مثل رأس الرجل، يكاد يتراءى منه وجه الرجل، فقال بطن من قريش: نحن نضعه، وقال آخرون: بل نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكما. قالوا: أول رجل يطلع من الفج، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتاكم الأمين، فقالوا له، فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فأخذوا بنواحيه معه، فوضعه هو. اسم مولى مجاهد: السائب بن عبد الله.
وقال إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن جاهد عن عبد الله بن عمرو، قال: كان البيت قبل الأرض بألفي سنة {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: 3]، قال: من تحته مدا. وروى نحوه عن منصور، عن مجاهد.
ما عصمه الله به من أمر الجاهلية:
ومما عصم الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية أن قريشا كانوا يسمون الحمس، يعني الأشداء الأقوياء، وكانوا يقفون في الحرم بمزدلفة، ولا يقفون مع الناس بعرفة، يفعلون رياسة
وبأوا، وخالفوا بذلك شعائر إبراهيم عليه السلام في جملة ما خالفوا. فروى البخاري ومسلم من حديث جبير بن مطعم، قال: أضللت بعيرا لي يوم عرفة، فخرجت أطلبه بعرفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا مع الناس بعرفة، فقلت: هذا من الحمس، فما شاء ههنا؟ .
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن الحنفية، عن أبيه، عن جده، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين، عصمني الله، قلت ليلة لفتى من قريش: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما تسمر الفتيان. قال: نعم، فخرجت حتى جئت أدنى دار من دور مكة، فسمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج، فلهوت بذلك حتى غلبتني عيني، فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، ثم فعلت ليلة أخرى مثل ذلك فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمله أهل الجاهلية، حتى أكرمني الله بنبوته".
وروى مسعر، عن العباس بن ذريح، عن زياد النخعي، قال: حدثنا عمار بن ياسر أنهم سألوا رسول الله صلى لله عليه وسلم: هل أتيت في الجاهلية شيئا حراما؟ قال: "لا، وقد كنت معه على ميعادين، أما أحدهما فحال بيني وبينه سامر قومي، والآخر غلتني عيني" أو كما قال.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن حسين
ابن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن
ابن عباس قال: حدثتني أم أيمن، قالت: كان بوانة صنما تحضره قريش، تعظمه وتنسك له النساك، ويحلقون رءوسهم عنده، ويعكفون عنده يوما في السنة، وكان أبو طالب يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد، فيأبى، حتى رأيت أبا طالب غضب، ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع إلينا مرعوبا، فقلن: ما دهاك؟ قال: "إني أخشى أن يكون بي لمم". فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان، وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ قال:"إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح: وراءك يا محمد لا تمسه". قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ.
وقال أبو أسامة: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن أبيه، قال: كان صنم من نحاس يقال له: إساف أو نائلة يتمسح المشركون به إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تمسه" قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألم تنه؟ ". هذا حديث حسن. وقد زاد فيه بعضهم عن محمد بن عمرو بإسناده: قال زيد: فوالله ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أنزل عليه.
وقال جرير بن عبد الحميد، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم شهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا
حتى نقوم خلف رسول الله، فقال: كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام قبيل؟ قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم. تفرد به جرير، وما أتى به عنه سوى شيخ البخاري عثمان بن أبي شيبة. وهو منكر.
وقال إبراهيم بن طهمان: أخبرنا بديل بن ميسرة، عن عبد الكريم، عن عبد الله بن شقيق، عن أبيه، عن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعا قبل أن يبعث، فبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك. قال: فنسيت يومي والغد، فأتيته
في اليوم الثالث، فوجدته في مكانه، فقال:"يا فتى لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" أخرجه أبو داود.
وأخبرنا الخضر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: أخبرنا أبو محمد بن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي العلاء، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر، قال: أخبرنا علي بن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن عائذ، قال: حدثني الوليد، قال: أخبرني معاوية بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، عمن حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا بأعلى مكة، إذا براكب عليه سواد فقال: هل بهذه القرية رجل يقال له: أحمد؟ فقلت: ما بها أحمد ولا محمد غيري، فضرب ذراع راحلته فاستناخت، ثم أقبل حتى كشف عن كتفي حتى نظر إلى الخاتم الذي بين كتفي فقال: أنت نبي الله؟ قلت: ونبي أنا؟ قال: نعم. قلت: بم أبعث؟ قال: بضرب أعناق قومك، قال: فهل من زاد؟ فخرجت حتى أتيت خديجة فأخبرتها،
فقالت: حريا أو خليقا أن لا يكون ذلك، فهي أكبر كلمة تكلمت بها في أمري، فأتيته بالزاد فأخذه وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى زودني نبي الله صلى الله عليه وسلم طعاما، وحمله لي في ثوبه".