الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التصغير
تحقيق
أ. د. السيد تقي عبد السيد
التصغير
فَعَيلاً اجعلِ الثلاثي إذا صغرته نحو قُذَيّ في قَذَى
فُعَيعِِلٌ معَ فُعَيعِيلٍ لا فاقَ كجَعْلِ درهمٍ دُرَيْهِمَا
التصغير عند النحويين عبارة عن تغيير ما يلحق الاسم، بدل به على أحد ثلاثة معان: تحقير ذات ما يتوهم عظيماً، أو تقليل ما يتوهم كثيراً، أو تقريب ما يتوهم بعيداً، وهو فيه بمنزلة وصفه بمعنى من تلك المعاني، فإذا قلت رُجيل فهو بمنزلة قولك: رجلٌ صغيرٌ، وإذا قلت: دُريهمات، فهو بمنزلة قولك: دراهمُ قليلةٌ، وإذا قلت: دُوَينَ السماءِ، فهو بمنزلة قولك: بمكانٍ قريب من السماء، إلا أنه لما كان هذا التغيير أخصرَ عدلوا إليه.
وابتدأ الناظم - رحمه الله تعالى - بالإشارة إلى مسائلَ:
إحداها: أن أبنية التصغير ثلاثة، لا مزيد عليها، وذلك ظاهر
من كلامه، وهي: فُعَيلٌ، وفُعَيعِلٌ، وفُعَيعِيلٌ، وإنما أراد بهذه الأبنية الصور والأشكال، كأنه يريد مقابلة المتحرك بالمتحرك، والساكن بالساكن، لا أنه مقابلة الزائد بالزائد، والأصلي بالأصلي كما فعلوا في التصريف، ألا ترى أن (أُحَيْمِرَ) في التصغير وزنه ومثاله (فُعَيعِلٌ) ومثاله في التصريف (أُفَيْعِلٌ)؛ لأنهم إنما يريدون في التصريف بيان الزائد من الأصلي، فتركوا الزائد في البناء - إذا لم يكن بالتضعيف - على لفظه، وعبَّروا عن الأصلي بالفاء والعين واللام، وأما ههنا فلم يريدوا ذلك، وإنما أرادوا ما ذُكِر.
ومثل التصغير في هذا المعنى ما تقدَّم لنا فيما / لا ينصرف مما هو على زنة (مفاعِل) أو (مفاعيل)؛ إذ لم يُرِدْ هنالك هو ولا غيره إلا مقابلة الساكن بالساكن والمتحرك بالمتحرك خاصة.
الثانية: بيان كيفية التصغير، وذلك - على مقتضى ما مثل به - أن يضمَّ أول الاسم ويُفتح ثانيه، ويُزاد ياءٌ ساكنةٌ تقع ثالثة؛ ويُكسَرَ ما قبل الآخر إن كان المصغَّرُ فوق الثلاثي. هذا الذي يُعطيه كلامُهُ إذ قال:
فُعَيلاً اجعلِ الثلاثي
…
...
ثم قال:
فُعَيعِلٌ مع فُعَيعِيل لما فاقَ
…
...
…
...
…
يعني لما فاق الثلاثة فكان رباعياً، أو خماسياً، أو أكثر، فما عدا
(فُعَيْلاً) يُكسر ما قبل آخره على هذا، فتقول في (رجل): رجيل، وفي (زيد): زُيَيد، وفي (قُفل): قُفَيل، وفي (جعفر): جُعَيفر، وفي (هِجْرَع): هُجيرع، وفي (سفرجل): سفيرج، وفي (قنديل): قنيديل، وفي (تمثال): تميثيل، وفي (بهلول): بهيليل.
ومثَّل الناظم الثلاثي بـ (قَذًى)، وأنك تقول فيه:(قُذَيٌّ) كما يقتضي الحكم؛ فإنك لما ضممتَ القاف، وفتحت الذال، وزدتَ ياء التصغير ثالثة زالت الألف، ورجعت إلى أصلها من الياء؛ لزوال ما أوجب قلبها ألفاً وهو تحرك ما قبلها، فالتقت مع ياء التصغير الساكنة، فوجب الإدغام، فقيل: قُذَيٌّ.
والقذى في العين وفي الشراب: ما يسقط فيه، يقال: قذِيت العين تَقذى: إذا سقط فيها ذلك، وقذت العين تَقذى: إذا رمت بالرَّمَصِ وما فيها من القذى.
ومثَّل ما فوق الثلاثي بـ (درهم)، تقول فيه: دُرَيهم.
وهذا كله حكم جُمْليٌّ حتى يتبين في تفصيل الأحكام، إذ ليس كل ما فوق الثلاثي يُكسَرُ ما بعد ياء التصغير فيه كحُبْلى، وصحراء، وسكران، وأطلال مسمًّى به، وما كان نحو ذلك مما سيبين الناظم.
الثالثة: أن مراده - هنا - بالثلاثي المجرد من الزوائد كما مثل به، لا أنه يريد الثلاثي الأصول وإن كانت فيه زيادة كأحمر وأرطًى؛ لأن مثل هذا رباعي، لا ثلاثيٌّ، وقد تقدم مثل هذا في التكسير، وأيضاً فإنما يريد - ههنا - ما كان ثلاثياً باعتبار اللفظ والأصل، وهو الذي يعطيه المثال. وأما غير ذلك مما خرج عن أصله بالحذف فله حكم يستدركه بعد. وكذلك القول في الرباعي هو مقصور على ما كان نحو مثاله، وما فوق الرباعي على ذلك السبيل إلا ما يستثنى فيه من الأحكام العارضة.
الرابعة: أن مثاله قد يعطي الاقتصار / بالتصغير (على ما كان) متمكناً مثله؛ فـ (قذًى) و (دِرهم) متمكنان، أصلهما الإعراب، فما كان كذلك في الذي يصح تصغيره، فلو كان الاسم غير متمكن فلا يصح تصغيره نحو:(حيث، وكيف، وأين، وأيان، ولَدُن) وما أشبه ذلك وإن كان ثلاثياً، ومن باب أولى خروج ما كان من غير المتمكن ثنائياً نحو:(مَن، وما، وكم) ونحو ذلك، فلا يجوز أن تقول:
حُيَيْث، ولا كُيَيْف، ولا نحو ذلك؛ لتوغلها في شبه الحرف، والتصغير نوع من التصرف، وهو قد قال في باب التصريف:
حرفٌ وشبهُهُ من الصَّرفِ بَرِي
فتحرز هنا بالمثال مما عسى أن يُعترض به على إطلاقه.
وما جاء من التصغير في أسماء الإشارة، و (الذي) و (التي) من الموصولات فعلى خلاف الأصل، وسيأتي وجه ذلك فيه إن شاء الله تعالى حيث يذكره الناظم.
الخامسة: أن التصغير إنما يكون فيما يقبل معناه، ودل على هذا قوله:
فُعَيلاً اجعلِ الثلاثيَّ إذا صغَّرتَهُ
…
...
…
...
ويريد إذا أردتَ تصغيره، وإرادة التصغير إنما تكون حيث يكون ذلك المعنى جائزاً فيه، وحيث يكون الاسم قابلاً لمعنى التصغير؛ لأنه المطلوب تصغيره، وما لا يقبل التصغير لا يمكن أن يراد تصغيره. وما لا يقبل التصغير على وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك من جهة معقولية معناه كالمضمن معنى الحرف من الأسماء مثل: (مَن، وكم، وما) ونحو ذلك؛ لأن
وضع هذه الأشياء لقصد الإبهام والعموم، والتصغير يناقض ذلك؛ لأنه تخصيص بوصف من الأوصاف التي يمكن أن تكون عليها، فمعنى التخصيص مناقض لوضعها من جهة المعنى، وكذلك هو مناقض من جهة اللفظ؛ لأنه وضعها وضع الحروف، والحروف لا تقبل التصغير.
ومثل هذا الظروف المضمنة معاني الحروف كمتى وأين، يمتنع تصغيرها من جهة مناقضة اللفظ والمعنى كما ذكر؛ لأنها تشبه الحروف، ووضعت على الإبهام.
ومثل ذلك (عند). قال سيبويه: "لأنك إذا قلت: (عند) فقد قلَّلتَ ما بينهما، وليس يراد بالتحقير إلا مثل ذلك".
يعني أن التحقير في الظروف إنما يراد به التقريب، وإذا قلت:(زيد عندك) فقد قربته منه، فلا معنى للتصغير فيه. وكذلك (بين) و (وسْط) مما يقتضي التقريب.
ومنه (غير) لا يقبل معناه التحقير؛ بخلاف (مثل) فإن المماثلة تقل وتكثر بخلاف / (غير)، فإنه ليس في كون شيء ما غير شيء آخر معنى يكون أنقص من معنى آخر، تقول: هذا أكثر مماثلة لهذا من
غيره وأقل، ولا تقول: هذا أكثر مغايرة لذا، قال السيرافي:"ويعني بالمغايرة كونه ليس به"، وأيضاً فإنه كـ (سوى) في المعنى، و (سوى) غير متمكن فلا يُحقَّرُ.
وكذلك (حسبُكَ) لا يُحقَّر؛ لأنه في معنى (كفاك)، و (كفاك) فِعلٌ لا يصح تحقيره، فكذا ما في معناه، ومن هذا النحو اسم الفاعل الذي بمعنى الحال أو الاستقبال النائب مناب الفعل، فإنه لا يُحّقَّرُ؛ لأنه بمنزلة الفعل، فلا يجوز:(ضُوَيْرِبٌ زيداً)، فإن كان بمعنى الماضي جاز؛ لأنه اسم من الأسماء ليس في معنى الفعل.
ومن ذلك الأسماء المختصة بالنفي كأحد وعَريب، وكَتيع ودُبيّ وطوريّ ونحوها؛ لأن معناها التعميم في النفي، والتصغير بناقض التعميم.
ومن ذلك أيضاً جموع الكثرة. قال ابن عصفور: "لأنه لا فائدةَ في تصغيرها، ألا ترى أن دراهم تقع على ما فوق العشرة إلى ما لا يتناهى كثرة، فإن صغرتها فإنك تقصد تقليلها، وليس ذلك مما يعطي ذلك؛ لأن كل عدد يقل ويكثر بالإضافة إلى غيره، بخلاف
جموع القلة؛ لأنها تقع على العشرة فما دونها، فإذا قللت علم أن العدد أقل من العشرة، ولا يتصور ذلك في جموع الكثرة".
والثاني: أن يكون ذلك من جهة أمر خارج عن معقولية المعنى، وهو على ثلاثة أنواع:
أحدها: ما امتنع تحقيره شرعاً كأسماء الله وأسماء الأنبياء وكتب الله تعالى، وغير ذلك مما هو معظم شرعاً، ولذلك لما أراد سيبويه تصغير (النبيء) قصد عند ذل ما يقبل التصغير فقال:"كان مسيلمة نُبَيِّئ سَوءٍ"، و ("كان مسيلمة نُبوَّتُهُ نُبَيِّئَةُ سَوءٍ") وذلك ظاهر.
والثاني: ما فُه منه استغناء العرب عن تصغيره بتصغير غيره كالأسماء الأعلام وما أشبهها في أسماء الأوقات، وذلك كالسبت والأحد والمحرم، وما أشبه ذلك، والمشبه للأعلام (أمس) و (أول من أمس) و (غد) و (بعد غد) و (البارحة) ونحو ذلك، استغنوا عن تصغيرها بتصغير الأيام والشهور. قال ابن الضائع ظاهر كلام سيبويه فيما زعم أنه لا يحقر السماع؛ لأنه قال:"فعلاماتُ ما ذكرنا من الدهر لا يُحقر، إنما يُحقر الاسم غير العلم".
قال ابن الضائع: يعني / أنهم استغنوا عن تحقير العلم بتحقير الاسم الذي يقع عليه وعلى غيره وذلك يوم الجمعة، وشهر المحرم، قال: وكأن هذه الأسماء لما كانت أعمالاً لأيام تتكرر صارت شبيهة بالمضمرات وأسماء الإشارة؛ لأنها تقع على كل من هو بتلك الصفة، فقل تمكنها لذلك، فاستغنوا عن تصغيرها بتصغير الاسم النكرة المضاف إليها.
وأما (أمس) و (غد) فأقوى في ذلك؛ لأن تعريفها بالإشارة. وهذا التعليل الذي علل به امتناع تصغيرها والانصراف إلى الاستغناء بتصغير غيرها من اليوم والشهر ونحوه يعطي أن المانع في هذا النوع هو المانع في النوع الأول من عدم قبول هذه الأسماء للتصغير، لكن لما كان ذلك فيها ليس في قوته في (مَنْ) و (متى) ونحو ذلك عدل سيبويه وغيره إلى الوقوف مع السماع، وادعاء الاستغناء، فهو قسم قائم برأسه.
والثالث: أن يكون الاسم المراد تصغيره لا يتأتى ذلك في لفظه كما كان متأتياً في أمثلة الناظم ونحوها كالمركب تركيب إسناد، واللازم للحكاية، فإنه ليست له صيغة ثلاثي ولا غيره، فلا يصح أن
يُصغر، وكذلك الاسم المصغر لا يصح تصغيره ثانية، وإن قلت: إنه يُصغر بعدما تُزال بنية التصغير الأول، فهو تصغير ما ليس بمصغر تقديراً، فقد حصل هذا القيد الذي أعطاه تمثيل الناظم من كون الاسم قابلاً للتصغير فوائد كثيرة جداً. وقوله:
فُعيلاً اجعلِ الثلاثي
…
...
(اجعل) ههنا يتعدى إلى اثنين بمعنى التصيير: أولهما (الثلاثي)، والثاني هو (فُعيل) المقدم، أي: صير الاسم الثلاثي فُعيلاً.
وقوله: (
…
إذا صغرته .. ) أي إذا أردت تصغيره، كقوله تعالى:{إذا قمتم إلى الصلاة} ، وقوله:{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} .
وقوله: (فُعيعِل مع فُعَيعِيلٍ
…
) أي هاتان الصيغتان ثابتتان لما فاق، يريد لما فاق الثلاثي، فحذف المفعول وهو الضمير العائد على الثلاثي.
وقوله:
…
كجَعْلِ درهمٍ دُرَيهماً
الجعل أيضاً هنا بمعنى التصيير، وهو مصدر مقدر بأن والفعل أضيف إلى أحد مفعوليه وهو الأول، و (دريهماً) هو الثاني. ثم على الناظم هنا سؤالان:
أحدهما: أن أبنية التصغير بحسب الاستقراء غير منحصرة في هذه الأبنية الثلاثة وما كان على شاكلتها، بل هي أكثر من هذا بحيث لا يتأتَّى فيها دعوى / الرد إلى هذه الثلاثة؛ وذلك أنك تصغر على (فُعَيْلَى) نحو: حُبَيْلَى، وعلى (فُعيلاء) نحو: حميراء، وعلى (فُعيلان) (وفُعَيلين) نحو: سكيران وسُريحين، وعلى (أُفيعال) نحو: أُجَيمال، وعلى (فُعَيعِلان) نحو: زعيفران، وعلى (فُعَيعِلاء) نحو: خُنَيفساء، وعلى (فُعَيلون) و (فُعيلان) و (فُعيعلات) نحو: زُيَيدون وجُعَيفرون وهنيدات وزُيَيْنِبات، وكثير من ذلك جداً، فكيف يتأتى ههنا الرد إلى أحد الثلاثة؟
وإن سلِّم في الجمع لم يسلَّم في (أُفَعيال)، ولذلك قال السيرافي:"لو ضَمَّ سيبويه إلى ثلاثة أمثلة التصغير رابعاً وهو (أُفَيعال) لعمَّ التصغير". يعني أنه قد كان يمكن الاعتذار فيما عداه، وأما فيه فبعيد الاعتذار عنه.
والثاني: أنه أطلق القول في جعله البناءين الأخيرين لما فاق
الثلاثي، فيقتضي أنهما معاً يصحان لكل رباعي، ولكل خماسي، ولكل ما فرض مما عدا الثلاثي، فيصح مثلاً في جعفر جُعَيفر وجُعَيفير ليحصل فُعَيعِل وفُعَيعِيل، وكذلك في (بهلول) يصح أن يقال: بُهَيلل على فُعَيعل، وبُهَيلِيل على فعيعيل، وذلك كله غير مستقيم، فكلامه فيه إجمال كما ترى.
والجواب عن الأول: أن هذه الأبنية الثلاثة هي أصول التصغير كما ذكر، وما خرج عن ذلك في اللفظ فإنما خرج لسبب طارئ أوجب خروجه، مع أن الأصل فيه أحد هذه الثلاثة، فمن ذلك أن ما فيه تاء التأنيث المصغر ما قبلها، وذلك لأنها عندهم ليست زيادة في الاسم قد بُني عليها، والدليل على ذلك أنها تجيء ثامنة نحو: اشْهِيبابة، واحْرِنْجَامة، وليس في الكلام اسم على أكثر من سبعة أحرف، وأيضاً فإنه لا يحذف في التصغير لإقامة بنائه حرف أصلي وفي الكلمة حرف زائد، وهم يقولون:(سُفَيرِجَة) فيحذفون اللام والتاء باقية؛ لأنها عندهم ليست من الكلمة، فـ (تُمَيرَةُ) ونحوه لا يخرج عن فُعَيل؛ لأن مثال التصغير ما قبل التاء، وكذلك ألفُ التأنيث الممدودة حكموا لها بهذا الحكم فصغروا ما قبلها، فقالوا:
(خُنَيْفِساء) فهذا راجع إلى فُعَيعِل فُعَيعِلَة بالتاء، وكذلك ما أجري مجرى هذه الألف مما في آخره الألف والنون الزائدتان نحو: سكران وعثمان على ما يتبين في موضعه حيث يتعرض / له الناظم.
وأما (فُعَيْلَى) فراجع أيضاً إلى (فُعَيعِل)، لكن لم يكسِروا ما بعد ياء التصغير لعلةٍ تذكر بعد إن شاء الله تعالى.
(وكذلك (أُفَيعال) هو راجع إلى (فُعَيعِيل) لكنه لم يُكسر لعلةٍ تذكر بعد إن شاء الله) فليس قول السيرافي فيها بموافق لمذاهب النحويين.
وأما ما لحقته علامتا الجمع المذكر أو المؤنث فمن ذلك القبيل أيضاً؛ إذ الكلمة لم تبنَ عليهما وإنما المصغر هو الصدر، والصدر لا يكون إلا على [أحد] الثلاثة على ما يذكره الناظم في ذلك كله، وهذا كله ظاهر.
والجواب عن الثاني: أن البيت الذي يلي هذا فيه يتبين أن موضع (فُعَيعِل) ليس هو موضع (فُعَيعِيل)، وإنما ذكر هنا حكماً جملياً لا يتبين منه حمٌ مستوفًى، لأنه كالمقدمة لما يأتي تفصيله في الباب، فلا اعتراض عليه.
***
وما به لمنتَهَى الجمعِ وُصِلْ بِهِ إلى أمثلة التَّصغير صِلْ
هذه قاعدة شاملة مختصرة تتها تفصيل كثير لم يبينه لذكره له في باب التكسير.
وبناؤه حكم التصغير على حكم التكسير موافق لما فعل سيبويه؛ إذ كانت عادته أن يبني أحكامه على أحكام التكسير فيقول: يُصغر هذا على كذا؛ لأنه كُسِّرَ على كذا، ولا يعكس الحكم فيجعلُ التصغير أصلاً للتكسير، وكأن الناظم لما رأى هذا قدَّم باب التكسير أولاً ثم عطف عليه باب التصغير، وأحال في أحكامه على باب التكسير تنبيهاً على أن التكسير هو الأصل.
وقد قال ابن جني: سألتُ مرةً أبا عليٍّ (رحمه الله تعالى) عن رد سيبويه كثيراً من أحكام التحقير إلى أحكام التكسير وحملِه إياها عليها، ألا تراه قال: تقول: سُرَيحي؛ لقولك: سراحين، ولا تقول: عُثَيمين؛ لأنك لا تقول: عَثامين، ونحو ذلك قال.
فقال: إنما حمل التحقير في هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيداً عن رتبة الآحاد، فاعتدَّ بما يعرض فيه لاعتداده بمعناه، والمحقَّر هو المكبر، والتحقير فيه جارٍ مَجرى الصفة، فكأنه لم يحدُث
بالتحقير أمر يحمل عليه غيره، كما حدث بالتكسير حكم ٌ يُحمل عليه الأفراد.
هذا ما نقله، وإنما يشير إلى أن ما عرض في الجمع أصلٌ فيه، والجمع مستقلٌ بنفسه؛ لتكسير بناء الأفراد، فكل حكم لحقه من حيث هو جمع معتدٌّ به ومستند إليه، والمفرد كأنه متناسًى فيه، بخلاف / التحقير، فإن العرب حافظت فيه على أحكام المفرد؛ ألا تراهم يحقرون ما حذف منه حرف على حاله إذا قامت بما بقي منه بنيَّة التصغير، ويقولون في قائم: قُويئم بالهمز اعتداداً بحكم المفرد، فكأن التحقير لم يكن، وأنت لو كسَّرت لردَدْتَ ما حذفتَ ولا بد، ولرددتَ همزة (قائم) إلى أصلها فقلتَ: قُوَّمٌ وقُوَّام اعتداداً ببنية التكسير، فلما كان الأمر على هذا جعلوا التكسير أصلاً، وجعلوا التحقير فرعاً. وهذا التفات حسن.
ومعنى كلام الناظم: أنَّ ما يتوصل به إلى إقامة بنية الجمع المتناهي من حذفِ أصلي وزائدٍ واحد، أو اثنين، أو أكثر من ذلك، فإنك
بذلك تصل إلى إقامة أبنية التصغير باتفاق أو باختلاف؛ فإن الكلام في الموضعين واحد؛ ولذلك ذكرتُ في الباب قبل هذا من مسائل التصغير أشياءَ لكون أحدهما على حكم الآخر، لا يختلف عنه، فكل ما مر هنالك فانقله إلى هنا حسبما ينبه عليه.
وإنما قال: (لمنتهى الجمع) ليخص بذلك الجمع المتناهي، وصيغة (فعالِلَ) وشبهه تسمى صيغة منتهى الجموع، وهو معنى كلامه، فكأنه يقول: ما يوصل به إلى الجمع على (فعالِلَ) وشبهه فبمثل ذلك يتوصل إلى بنية التصغير؛ وذلك لأن بنية التصغير على (فُعَيعِل) أو (فُعيعيل) رباعية، فلا بد أن يُردَّ ما زاد على الأربعة إلى الأربعة، فتقول في الخماسي الأصول:(سُفَيرج) في سفرجل، و (قُذَيْعم) في قُذَعْمِل.
وما ذكر في التكسير من حذف ما قبل الآخر إذا كان مضاهياً للزائد في حقيقة أو صيغة فهو ههنا كذلك، فتقولُ - إن شئت -: قُذَيعِل، وفُرَيزِق.
وخلاف الكوفيين في جواز إبقاء الحرف الخامس جارٍ هنا، وكذلك خلاف من خالف فإجاز حذفَ ما كان ثالثاً، وغير ذلك مما تقدم الخلاف فيه.
وكذلك تقول فيما فيه من الخماسي زوائد: إن كانت زيادة واحدة حذفتها نحو: (عُذَيْفر) في عذافر، و (فُدَيكس) في فَدَوْكَس، وإن كانت زيادتان نظرت إلى الترجيح، فتقول في عَقَنْقَل:(عُقَيْقِل)، وفي عَفَنْجَج:(عُفَيجِج)، وعلى هذه السبيل في السداسي والسباعي.
وعلى هذا إذا احتيج إلى حذف أحد الزائدين نظرتَ في أوجه
الترجيح المتقدمة في التكسير؟ فرجَّحْتَ، ثم حذفت المرجوح وأثبت الراجح:
/ فترجح بالتقدم، فتقول في (ألَنْدَد) و (يَلَنْدَد): أُلَيْد ويُلَيْد؛ لأنك تقول: ألاد ويَلاد.
وبالدلالة على المعنى فتقول: مُطَيلق في (منطَلِق)؛ لأنك تقول: مَطالِق. وبكون الإثبات يؤدي إلى مثال غير موجود، أو إلى كسر بنيَّة التصغير كـ (مُدَيعٍ) في (مستدع)، وامتناع (سُدَيع) و (مُسَيدِع)؛ لأنك تقول: مَدَاعٍ، ولا تقول: مَدَاعٍ، ولا تقول: سَداعٍ، ولا مَسَاتِدْع.
وبكونه لا يغني حذفه عن حذف غيره، فتقول في (حيزبون): حزيبين، كما تقول: حزابين.
وهذه الأربعة هي التي ذكر الناظم هنالك من المرجحات، وهو الذي أشار إليه، وفيه أيضاً الإحالة على القيد المعتبر في هذا الحذف، وهو ألا يكون الزائد حرف لين زائداً قبل الآخر، فإن كان كذلك لم تحذفه، بل تثبته؛ لأنه يوصل به إلى أبنية التصغير كما يوصل به إلى
بِنية التكسير، فكما تقول:(فعاليل) كذلك تقول: (فُعَيعِيل) وهذا هو الموضع الذي يتعين فيه (فُعَيعِيل) بالياء، وما عدا ذلك فلفُعَيعل، فإذاً قد زال الإجمال في قوله أولاً:
فُعَيعلٌ مع فُعَيعيل لما فاقَ
…
...
…
...
فإن قلتَ: إن هذا الحكم لا يؤخذ من هنا؛ (لأنه) إنما قال:
وما به لمنتهى الجمعِ وُصِلْ
…
...
…
...
…
الخ
يعني أن البنية إن كانت لا تقوم بالمراد تصغيره لكثرة حروفه فاحذف منه، وهذا الذي قلتُ ليس من أحكام الحذف، بل من أحكام الإثبات، فلم يدخل تحت مراده.
فالجواب: أن مراده أعمُّ من هذا؛ لأنه قد بين في الباب قبل هذا ما يحذف منه ومالا؛ إذ بين أن زائد ما عدا الرباعي يحذف، لكن إذا لم يكن لينا بعده الحرف الآخر (فإنك لا تحذفه، بل) تتركه بحاله، لكن تكسر ما قبله فينقلب ياء، فإنه على هذا الوصف يُتوصل إلى إقامة بنية التكسير، فكذلك تقول هنا، وعليه أحال "أنَّ" زائدَ ما
عدا الرباعي يحذف إن لم يكن ليناً بعده الحرف الآخر فإنه يترك على حد ما تُرك في التكسير"، وقد بين في هذا الباب أن (فُعَيعِل) يُكسَرُ فيه ما بعد ياء التصغير، فلا بد أن ينقلب حرف اللين ياءً إن لم يكن كذلك.
وفيه أيضاً أن حرف اللين قبل الآخر يعتبر فيه من الأوصاف ما اعتبر في التكسير من كونه زائداً، لا أصلاً، ولا منقلباً عنه، وكونه حرف لين، لا حرف مد، فتقول: / في (كَنَهْوَر) و (قِلَّوْب) و (عُلَّيْق): كُنَيْهِير، وقُلَيليب، وعُلَيليق، وأنه لا يعتبر اللين المدغم إدغاماً أصلياً، بل يثبته، فتقول:(عُطَيِّيد) و (هُبَيِّيخ) على مذهبه وهو رأي المبرد كما تقدم.
هذا كله محالٌ عليه بهذا القول من الناظم: إلا أن في عبارته
بعضَ إشكال من جهة قوله:
به إلى أمثلةِ التصغير صِلْ
فجمَعَ الأمثلة، فيظهر أنه أراد جميع الأمثلة: فُعَيلاً وفُعَيعلاً وفُعَيعِيلاً، فإذا كان كذلك فُهم منه أن الحذف قد يجوز ليوصل به إلى بناء (فُعَيل)، وهذا غير صحيح؛ لأن كل ما يتأتى فيه فُعَيعِل أو فُعَيعِيل لا يجوز أن يحذف منه شيءٌ حتى يصير إلى مثال فُعَيل؛ لأنه حذف من غير فائدة، كما أنهم لم يحذفوا من نو (قِنْدِيلٍ) الياءَ ليتوصلوا به إلى فُعَيعِل، بل تركوها، وأتَوا بها على فُعَيعِيل، فهذا الجمع للأمثلة من الناظم غير سديد.
والجواب: أن هذا كله إحالةٌ على ما تقدم، وهو قد قال هنالك:
وزائدَ العادي الرباعي احذِفْه
…
فاقتضى أن زائد الرباعي لا يحذف أصلاً، وذلك ثابتٌ هنا، ورجوع الرباعي إلى فعيل لا يكون إلا يحذف زائده حتى يصير ثلاثياً، فقد حصل أن (فُعيلاً) لا حظَّ له فيما عدا الرباعي فما فوقه، وإنما يبقى في كلامه أنه أطلق لفظ الأمثلة - وهو جمع - على اثنين منها وهما ما عدا (فُعَيلاً)، وقد جاء منه في القرآن:{فإنْ كانَ له إخوة} ، المراد عند العلماء أخَوَان، فسامح الناظم نفسه في مثل هذا؛ لأن المراد حاصلٌ.
و (به) في الشطر الأول، و (لمنتهى) متعلقان بـ (وُصِلْ).
و(به) في الثاني، و (إلى) متعلقان بـ (صِلْ) أي: صِلْ إلى أمثلة التصغير بما وُصِلَ به إلى منتهى الجمع، و (ما) بمعنى (الذي) واقعةٌ على الحذف المقيَّد في باب التكسير.
***
ثم أخذ يذكر حكم التعويض مما حُذف فقال:
وجائزٌ تعويضُ يا قبلَ الطرفْ إنْ كان بعض الاسم فيهما انحَذَفْ
هذه تتمة لحكم ما ذكر في التصغير والتكسير، فالضمير في (فيهما) عائدٌ إلى التصغير والتكسير المذكورين في قوله:
وما به لمنتهى الجمعِ وصلْ
إلى آخره. و (يا) مقصورٌ من ياء، وهو حذف في الحقيقة نادر في الكلام، وإنما حُكي منه:(شربت ما يا هذا)، وعادة الناظم ارتكاب هذا الشذوذ بعينه في مواضع كثيرة: منها ما تقدم، ومنها ما يأتي.
ويعني أن الاسم المصغّر أو المكسر إن كان قد حذف منه شيء حرف واحد فأكثر، زائداً كان المحذوف / أو أصلياً - وهو مقتضى إطلاقه - فإنه يجوز أن تعوِّض من ذلك المحذوف ياءً قبل الطرف،
أي: قبل آخر الاسم، ويجوز ألا تعوَّض، فأنت مخير في ذلك، ولذلك قال: (وجائز
…
ولم يقل: ولازمٌ؛ لأن العرب أتت به على الجواز لا على اللزوم، فتقول في (فرزدق): فُرَيزد و (فُريزيد)، وفي (جَحَنْفَل): جُحَيفِل وجُحَيفِيل، وفي (سَرَنْدَى): سُرَينِد وسُرينيد، وفي (خَفَيْدَد): خُفيدِد وخُفَيدِيد، وفي (عَضْرَفُوطَ): عُضَيرف وعُضَيريف، وما أشبه ذلك، ومن قول يزيد الغواني:
وما زال تاجُ الملك فينا وتاجُهُم قلاسِيُّ فوقَ الهام من سَعَفِ النخل
وإنما أتى بالياء جَبْراً لما حذف، كأنه عوض منه لكن على وجه لا يخل ببنية واحدٍ من التصغير والتكسير، بل بحيث يمكن بقاء البنية مع وجود العوض، ولا يمكن مع بقاء المعوض منه، وليس ذلك إلا
في المدة قبل الآخر، ولذلك أبقَوا الحرف الزائد إذا كان في ذلك الموضع، إذا كان حرف لين ولم يحذفوه وإن كان خامساً، ولا تقوم بنية تصغير أو تكسير بخمسة أحرف، لأن (فعالِلَ) و (فُعَيعِل) وشبههما لا يخل بها بقاء ذلك الحرف.
وفي قوله: (فيهما) فائدة حسنة، وذلك أنه متعلق بـ (انحذَفْ)، أي: إن كان حذف بعض الاسم بسبب التصغير أو التكسير بعد استقرار الحذف، فإن العرب لا تعوِّض في هذا الموضع، وذلك أنك لو سميت بسفرَج المحذوف من (سَفَرْجَل) لقلتَ في التكسير: سفارِجُ، وفي التصغير: سُفَيرج لا غير، ولا يجوز أن تقول: سَفَاريج، ولا سُفَيريج إلا على من قال ضرورة:
نَفْيَ الدَّراهيم تنقاد الصياريفِ
وعلى هذا تقول في تحقير (سنين) لا غير، ولا تقول:(سُنَيِّين) إلا على قولَ من يرد المحذوف في التصغير، لا أن الياء عوض مما حذف.
وقد زعم ابنُ خروف أنه يجوز أن تقول: (سُنَيِّين) بالياء على أنها عوضٌ، لا على رد المحذوف كما يقال: سُفَيريج.
قال ابن الضائع: وهذا عندي خطأ؛ لأن هذه الياء إنما تعوَّضُ من المحذوف بسبب التصغير، أما إذا كان الاسم محذوفاً قبل التصغير فلا ينبغي أن تكون عوضاً مما حذف في غير التصغير، قال: ثم إن / هذه الزيادة للعوض إنما ينبغي أن تقاس حيث تثبت، وما قال هذا القائل وهو أن يعوض في التصغير مما حذف قبل التصغير لم يثبت، فلا ينبغي أن يقال به أصلاً.
وعلى هذا يجري القول في تكسير (سِنين) هذا.
فما تحرز به الناظم من قوله: (فيهما انحذَفْ) حسنٌ من التحرز جداً، إلا أن فيه نظراً من جهة أخرى، وذلك أنه أطلق القول بجواز
إلحاق الياء عوضاً قبل الآخر، وليس على إطلاقه؛ لأن ما حذف منه لأجل إقامة بنية التصغير على وجهين:
أحدهما: ما يصح فيه ذلك وهو جميع ما تقدم من الأمثلة.
والثاني: ما لا يصح ذلك فيه كالذي آخره ألف التأنيث مثل (حُبَارى) إذا حذفت ألفه فإنك تقول: حُبَيرَى كما ذكره بعد، ولا سبيل إلى تعويض الياء قبل الألف؛ لأن الألف تَطلُبُ أن يُفتَحَ ما قبلها، والياء ساكنة أبداً، فلا يصح أن تقع قبلها، فالتزموا ترك التعويض لعدم تأتِّيه.
وكذلك ما كان نحو: (جَلُولاء) على مذهب سيبويه حيث [لا] تحذف الألف، فتقول: جليلاء، فلا يصح أن تعوض الياء قبل همزة التأنيث؛ لأن همزة التأنيث كألف التأنيث.
ومن الحذف الذي لا تعوض منه حذف الزوائد في تصغير الترخيم؛ لأن الغرض بتصغير الترخيم الاقتصار على الأصول وحذف الزوائد كلها، والتعويض ينافي ذلك. فهذه أشياء تقتضي قاعدته فيها خلاف حكمها.
والجواب: أن التعويض لما كان فيما آخره ألف التأنيث أو همزته
لا يتأتى نطقاً اتَّكل على ذلك فيه فلم يحتج إلى النص عليه؛ لأن ألف التأنيث في عدم قبلها حكماً تحتص به سيأتي ذكره، وهمزة التأنيث معدودة في المنفصل، وأيضاً فليس مذهبه في (جَلُولاء) ونحوه إلا مذهب المبرد على ما يظهر من كلامه بعد، فلا اعتراض به.
وأما تصغيرُ الترخيم فليس الحذف فيه لأجل إقامة بنية التصغير فيعوض منه، وإنما هذا الحكم فيما حذف لإقامتها، لا فيما حذف مطلقاً، ألا ترى أن (عطاءً) و (سماءً) على مذهب سيبويه لم يعوَّض فيها من المحذوف حين قلتَ: عُطَيٌّ وسُمَيَّة؛ إذ لم يكن الحذف فيه إلا من أجل اجتماع الياءات. فكلامه صحيح.
ومفهوم كلام الناظم أنه إذا لم يحذف من الاسم شيء في البابين فلا يلحق حرف اللين، وهذا ظاهر؛ لأنه / إنما يؤتى [به] جبراً وعوضاً، وليس ثم ما يجبر ولا ما يعوض منه. وهذا الذي قرر هنا هو مذهب أهل البصرة.
وقد ذكر في التسهيل في التكسير منه أنه يجوز أن يماثل مفاعيلَ
وشبهه لمفاعل وشبهه مطلقاً فتحذف الياء مما يستحق أن تثبت فيه، وأن يماثل مفاعل لمفاعيل فتزاد فيه الياء لغير عوض إلا في فواعِلَ، فإنه لا يجوز فيه فواعيلُ إلا أن يشذَّ ذلك، فيجوز عنده أن تقول في قنديلٍ: قنادِلُ، وفي بُهلول: بهالِلُ، وفي انطلاقٍ: نَطالِقُ ونحو ذلك، وسواءٌ كان على فواعل أو غير ذلك.
ويجوز أيضاً أن تقول في جعفر: جعافير، وفي درهم: دراهيم إلا في فواعل فإنك لا تقول في هالكة: هواليك، ولا في سابغة: سوابيغ إلا أن يشذَّ. نحو ما أنشده الفراء:
عليها أسودٌ ضاريات لبُوسُهم سوابيغُ بيضٌ لا تُخرِّقها النبلُ
وقال الأخطل:
…
...
…
...
…
... وإن تركبوا إحدى الدواهي تركب
وأما ما كان من نحو ما أنشده سيبويه:
وكحَّل العينين بالعواور
بحذف الياء، وواحده (عُوَّار)، وكذلك ما أنشده من قوله:
والبَكَرَاتِ الفُسَّجَ العَطامسا
يريد (العطاميس)، ومنه أيضاً:
وغيرُ سُفْع مُثَّلٍ يَحَامِمِ
جمع (يحموم)، وقول أبي طالب:
ترى الودْعَ فيها والرُّخام وزينةً بأعناقها معقودة كالعثاكل
يريد (العثاكيل)، وقول عبيد الله بن الحر:
وبُدَّلتُ بعد الزعفران وطِيبِهِ
صَدا الدرع من مُسْتَحكِمَات المسامرِ
يريد (المسامير) فجائز عنده في الكلام، وكذلك ما أنشده سيبويه من قول الفرزدق:
تنفِي يداها الحصى في كل هاجرة نفيَ الدنانير تنقادُ الصِّياريفِ
فمد الصياريف جمع صيرف، ويروى أيضاً:(نفي الدراهيم) كذلك بزيادة الياء. وقال أبو النجم:
منها المطافيل وغير المطْفِلِ
وهذا كله غير مذهب البصريين في التكسير.
ولم ينص ابن مالك في التسهيل على هذا الحكم في التصغير، فلا أدري هل هو قال بالجواز فيه أم لا؟ وإن ذهب النظر فيه إلى السماع فلا شك أن أكثر ما سمع فيه هذا التكسير.
وقد قالوا - مما هو عنده في التسهيل شاذ -: طابق وطوابيق،
وخاتم وخواتيم، ودانق ودوانق.
وأما التصغير فقلما سمع ذلك فيه، وحكى سيبويه: خُوَيتيم وخواتيم، لكن حكى عن أبي الخطاب: خاتام، فيكون (خُوَيتيم) مصغراً عليه، وقالوا: درهم / ودريهيم، وصغير وصُغَيِّير، وفي عكسه قال الراجز:
قد شربتْ إلا دُهَيدِهِينا
قُلَيِّصَاتٍ وأُبَيكِرِيْنا
وهو تصغير (دَهْدَاه) فقياسه (دُهَيْدِيه).
والمعتمد من هذا كله ما ذهب إليه هنا من أن ذلك كله
مسموعٌ لا يقاس عليه، وهو مذهب سيبويه ومن انتمى إليه، لضعفه من جهة القياس، وقلته من جهة السماع. وإلى هذا المعنى أشار الناظم بقوله:
وحائدٌ عن القياس كل ما خالف في البابين حكماً وُسِمَا
يعني أن كل ما جاء عن العرب مخالفاً لما ذكر في البابين معاً: باب التكسير وباب التصغير من الحكم فهو حائد عن القياس، موقوف على محله، والحائد عن الشيء هو الذي مال عنه، وعدل عنه، يقال: حاد عنه يحيد حَيْده وحُيوداً وحَيْدُودة.
وإنما قصد بهذا الكلام التنبيه على ما خالف ما تقدم من الحذف لإقامة بنية التصغير، والتعويض عن المحذوف خاصة، وهو الفصل الذي ختم به باب التكسير، والفصل الذي افتتح به باب التصغير، لا أنه يعني كل ما خالف جميع ما ذكر في البابين من أولهما إلى آخرهما؛ لأنه لو عنى ذلك لكان فاسداً؛ لأنا نعلم قطعاً أنه إنما ذكر من أحكام التكسير وقياساته ما هو الأشهر والمحتاج إليه، وكذلك في باب التصغير لم يورد فيه من الأحكام إلا جملاً ضرورية على مقدار ما نصب إليه نفسه في هذا المختصر؛ إذ لم يقصد فيه استيفاء أحكام النحو فكان يكون هذا الكلام منه يردّ جميع ما ترك ذكره من
أحكامها إلى السماع ونفى القياس، وذلك باطل قطعاً بحسب الأمر في نفسه، وبحسب قصده هو، والله أعلم.
ويمكن أن يكون قصده بهذا الكلام التنبيه على ما جاء من التصغير والتكسير على غير بناء واحده، فيحفظ ولا يقاس عليه.
فمن ذلك في التصغير قولهم في المغرب: مُغَيربان، وفي العشية: عُشَيشية، وفي إنسان: أُنيسيان، وفي ليلة: لُيَيلية، وفي رجل: روجيل، وفي صبية: أُصيبية، وقد بوب على ذلك سيبويه وغيره.
ومن ذلك في التكسير قولهم: رهط وأراهط، وكُراع وأكارع، وحديث أحاديث، وعَروض وأعاريض، ومكان وأمكُن، وناقة وأينُق ونُوق / وموانيق، وبهذا المعنى فسَّر كلام الناظم ابنُهُ، وهو صحيح إذا انضم إلى المعنى المذكور أولاً.
فعلى هذا يدخل تحت هذا النوع من السَّماع وقوع (مفاعل) موقع (مفاعيل) وبالعكس كما ذكره، ويدخل أيضاً تحته مثل ذلك في التصغير كما تقدم ذكره.
ويدخل تحته ما نقل من تكميل ما يحتاج إلى الحذف في البابين
معا. نحو قولهم: عناكبيت في عنكبوت.
ومن هذا يفهم أنه لم يرتض مذهب الكوفيين في التصغير والتكسير حيث أجازوا التكميل في نحو: سفرجل وكُمَّثرى وباقلَّى وجَرْجرايا، وأشياء ذكرت عنهم لا يقول بها أصلاً، إذ أجازوا في (سفرجلة): سُفَيرجَلَة وسفيرجْلَة وسفيرلة، وفي (كمثرى): كُمَيثرية، كُمَيثرى، وفي (باقلَّى): بُوَيقلة وبويقيلية، وفي (جرجرايا): جُرَيجرْيا وجُرَايجرَايا، وهذا كله كما ترى.
***
لتلوِ يا التصغير من قبل عَلَمْ تأنيثٍ أو مدتهِ الفتحُ انحَتَمْ
كذاكَ ما مدَّةَ أفعالٍ سَبَقْ أو مدَّ سكرانَ وما به التحق
لما كان الناظم (رحمه الله تعالى) قد قدم أول الباب أن الرباعي وما فوقه له فُعَيعِيل وفُعَيعِل، وأن ما بعد ياء التصغير يُكسر كما أعطاه مثاله، وكان ذلك حكماً جًملياً لا بد من تفصيله، أراد أن يبين أن ذلك ليس في كل ما زاد على الثلاثي، بل قد يكون ثمَّ أمر آخر وهو عدم الكسر، وإن كان الكسر هو الأصل مثلاً، وكذلك ما كان من الثلاثي قد لحقته تاء التأنيث فصار بسببها على أربعة على الجملة.
و(التلو) هو التالي أي: التابع، و (علم التأنيث) هو علامته. و (انحتم) معناه وجب، وهو مطاوع حتمته فانحتم.
ومعنى كلامه أن الفتح يجب للحرف الذي يلي ياء التصغير، وهو العين الثانية في (فُعَيعيل) واللام في (فُعَيل) في مثال التصغير إذا وقع ذلك الحرف قبل أحد خمسة أشياء وهي: تاء التأنيث، وألف التأنيث، والمدة المزيدة قبل ألف التأنيث التي صارت بسببها همزة، وألف أفعال الذي هو جمع، وألف فَعلان.
فأما تاء التأنيث فداخل تحت قوله قبلُ: (علم التأنيث) فإن علم التأنيث في كلامه جنسٌ يدخل تحته جميع علاماته ومنها التاء، ومثال
الفتح لأجلها قولك في طلحة: طُليحة، وفي ضربة: ضريبة، وفي علبة: عليبة، وفي سدرة: سديرة. / ووجه لزوم الفتح ظاهر؛ لأن التاء ليست من أصل الكلمة، ولا بنيت الكلمة عليها، فهي إنما دخلت لمعناها من التأنيث، والمصغر هو صدر الاسم، لا التاء، وهي لا بد من فتح ما قبلها؛ إذ لا يكون ما قبل تاء التأنيث ساكناً ما عدا الألف، ولذلك جعلوا تاء (أخت وبنت) للإلحاق بقُفْل وعِدْل، لا للتأنيث على ما ذكر سيبويه وغيره، فعاملوا التاء معاملة الثاني من المركبين فصغروا الصدر وألحقوها.
وأما ألف التأنيث فداخلة أيضاً تحت قوله: (علم التأنيث) والفتح لأجلها أيضاً لازم، فتقول في حُبلَى: حُبَيلى، وفي بُشرى: بُشَيرى، وفي ذكرى: ذُكيرى، وفي دِفلى: دفيلى، وفي سلمى: سُليمى، وفي عَلقى: عُلَيقى، وفي غرثى: غُرَيثى، وما أشبه ذلك. وإنما فتح ما قبلها، وكان الأصل أن تقلب ياءً كما هو قياس التكسير حملاً
لألف التأنيث على تائه؛ إذ كانت الألف علامة له كتاء فعاملوها معاملتها، وأيضاً فليفرقوا بين ألف الإلحاق وألف التأنيث؛ إذ كانوا يقولون في أرطًى: أُريط، وفي ذفرى - منونا-: ذُفير، وفي علقى - منونا-: عُليق، وما أشبه ذلك، فلو قلبوها إذا كانت للتأنيث لالتبست بهذه الألف فتركوا ما قبلها مفتوحاً.
وعلى هذه القاعدة يجري الحكم في (حُبارى) على مذهب سيبويه إذا حذفنا الألف الأولى فإنه يصير من قبيل: ذِكرى وبُشرى، فتقع الألف التي للتأنيث تلي الحرف التالي لياء التصغير، فنقول: حبيرى فليزم فتح الراء.
وأما مدة التأنيث فيعني أن الناظم بها الألف الزائدة قبل همزة التأنيث، وذلك أن الأصل في ألف التأنيث القصر والسكون، فزيد قبلها هذه المدة المذكورة، فوجب لها المد والهمز على ما تقرر في التصريف، وصار الحرفان كالحرف الواحد، وهذه المدة تطلب فتح ما قبلها، وهو ما بعد ياء التصغير؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، فيقول في (حمراء): حُميراء، وفي (صفراء): صفيراء، وفي
(سوداء): سويداء، وفي (صحراء): صحيراء، وفي (عذراء): عذيراء.
وكان الأصل أن تنقلب هذه المدة ياء مع الهمزة كما فعلوا في التكسير، فقالوا: صحارٍ، لكنهم لم يفعلوا ذلك لأن همزة التأنيث شبيهة التاء من جهة التأنيث / وكون الكلمة غير مبنية عليها، وأيضاً فأرادوا أن يفرقوا بين الألف الممدودة المنقلبة عن ألف التأنيث وبين الألف الممدودة المنقلبة عن غير ألف التأنيث، كما فرقوا بين الألف المقصورة التي للتأنيث والتي ليست للتأنيث؛ لأنك تقول في (علباء): عُليبى، وفي (قوباء): قُوَيبى، وفي (حرباء): حُريبى، فلو قلت: حُميرى لالتبس الأمر في الألفين، فرأوا الفرق أولى.
وأما مدَّة أفعال فهو قوله:
كذاك ما مدَّةَ أفعالٍ سَبَقْ
…
...
…
...
…
(مدة) مفعول بسبق، و (سبق) صلة ما، و (أفعال) هنا هو الجمع كأجمال وأعدال وأطمار يعني أن الحرف الذي قبل ألف (أفعال)
وهو عين الكلمة حكمه أيضاً لزوم فتحه، فتقول في (أجمال): أُجيمال، وفي (أُعيدال): أُعيدل، وكذلك إذا سميت به تقول: أُفيعال أيضاً، لا أُفيعيل، وإن كنت تقول في تكسيره: أفاعيل، فتقلب الألف ياء. ولأجل أن (أفعالاً) جمعاً ومفرداً لمسمًّى به حكمهما واحد أطلق الناظم القول فيه، فلم يقيده بكونه جمعاً، فقد نصوا على أن الحكم كذلك: كان جمعاً على أصله، أو مسمى به.
وإنما لم يكسروا ويقلبوا الألف ياء ليفرقوا بينه وبين (إفعال) المفرد المكسور الهمزة؛ إذ كنت إنما تقول في (إسكاف): أُسَيكيف، على قياس أساكيف، بخلاف الجمع؛ إذ كانت صيغة (أفعال) لا تكون إلا جمعاً، ولا تغير بعد التسمية به عن حاله قبل أن يكون اسماً علماً، كما لا يغير (سِرحان) عن تحقيره إذا سميت به.
فإن قلت: إنهم قد قالوا: (أفاعيل) في (أفعال) فليزم على قياسه أن يقال: (أُفيعيل) كما قيل في (سِرحان): سُريحين؛ لأنهم قالوا: سَراحين.
فالجواب أن هذا لو كان كما قلت لقلت في (جمَّال): جُميمال؛ لأنهم لم يقولو: جماميل، وفي (حمَّال): حُميمال، وفي (نجَّار): نُجيجار، ونحو ذلك؛ لأنهم لم يجمعوها على (فعاعيل). فإنما وجه
(أُفيعال) هنا الفرق كما تقدم بين المفرد والجمع، وهذا معنى تعليل سيبويه وغيره.
وأما مد سكران فهو قوله: "أو مد سكران وما به التحق" يعني أنه يلزم أيضاً فتح الحرف التالي لياء التصغير إذا كان قد سبق ألف سكران وما لحق به في وصفه المعتبر، فتقول في سكران: سُكيران، وفي غضبان: غضيبان، وفي عطشان: عطيشان، وما أشبه ذلك، ومثل بسكران الذي هو من باب / "فَعلان فَعلى" تنبيهاً على أصل العلة في الباب، وذلك أنه لما وجب لفُعلاء ما تقدم من لزوم فتح ما قبل الألف فيه بناء على تحقير صدره وجب أيضاً ذلك لفعلان فَعْلى، الذي مثل الناظم بمثال منه لما تقدم في باب ما لا ينصرف من أن حكمهما واحد للشبه الحاصل بينهما حتى قيل: إن النون بدل من الهمزة، ففتحوا ما قبل الألف والنون بناء على تحقير الصدر كما فعلوا ذلك في فعلاء، قالوا: سُكيران، ولم يقولوا: سُكيرين، كما لم يقولوا في حمراء: حُميرى، ثم أرادوا أن يلحقوا بنحو سكران غيره
مما لم تُكسِّره العرب تكسيراً يخالف به فعلان فَعلى، فحكموا له بحكمه في التصغير؛ لأنه شبيه به، كما حكم له أيضاً بحكمه حيث امتنع دخول تاء التأنيث عليه، وذلك في حال العلمية والتكسير الذي يخالف به فعلان فعلى هو فعالين.
هذا هو الوصف المعتبر في فعلان فَعْلى الذي أشار إليه الناظم بقوله: (وما به التحق)[أي التحق به] في كونه لا يجمع على فَعَالين، فكل ما كان على (فَعْلان) فانظر: فإن جمعْتهُ العرب على فعالين فاذهب به مذهب القياس في كسر ما (بعد) ياء التصغير على ما أعطاه كلامه أولاً، فتقول في (حَومان): حُويمين، ولا تقول: حويمان؛ لأن العرب لم تلحق (فيه) الألف والنون بالألف والنون في سكران.
وإن لم تجمعه العرب على فعالين فاذهب به مذهب سكران فتقول: دُحيمان في (دَحمان) كما قلت: سُكيران في سَكران.
ولا يقتصر بهذا الإلحاق على (فَعلان) المفتوح الفاء، بل يكون في المكسور الفاء والمضمومها، وأيضاً يكون في كل ما كان ثلاثي الأصول آخره ألف ونون زائدتان فإن حكمه أيضاً حكم سكران إذا كان مثله، فتقول في (عثمان): عُثيمان؛ لأنهم لم يقولوا: عثامين، وتقول في سلطان: سُليطين؛ لأنهم قالوا: سلاطين، وتقول في (عِمران): عُميران؛ لأن العرب لم تجمعه على فعالين، وتقول في (سِرحان): سُريحين؛ لأنهم قالوا: سَراحين، وفي (ضَبُعان): ضُبيعين؛ لأنهم قالوا: ضباعين، وكذلك لو سميت بـ (نَزَوان) لقلت: نُزَيَّيان؛ لأنهم لم يكسِّروه على (فعالين)، فإن صغرتَ (وَرَشان) قلتَ: وُرِيشين؛ لأنهم قالوا: وَرَاشين.
قال سيبويه: "واعلم أن كل شيء كان / آخره كآخر "فَعْلان" الذي له "فَعْلَى" وكان عدة حروفه كعدة حروف "فعلان" الذي له
"فعلى": توالت في ثلاث حركات أو لم يتوالين، اختلفت حركاته، أو لم يختلفن، ولم تكسره للجمع حتى يصير على [مثالٍ] مفاعيل فإن تحقيره كتحقير فعلان الذي له فعلى".
ثم ذكر وجه الشبه بينه وبين ألفَي التأنيث، ثم ذكر نحو ذلك آخر الباب، ثم نص على أن أحد هذه الأشياء إذا سميت به فحكمه حكم ما سُمِّيَ به، لا تخرجه عن أصله إلى غيره (فإذا) سميتَ بسِرحان قلت: سُريحين، وكذلك أيضاً إذا سميتَ بسكران قلت: سُكيران، فالحكم واحد قبل التسمية وبعدها، وذلك كله هو معنى قول الناظم:(وما به التحق).
وقد ظهر منه أن (كل) ما [لم] يجمع على فَعالين سواء أكان علماً أو غير علم فحكمه هذا الحكم كما ظهر [من سيبويه] ومما نص عليه الفارسي في الإيضاح من أن (سَعدان ومُرجان) يصغران ببقاء الألف، فتقول: سُعَيدان ومُريجان، قال: سميت بذلك شيئاً،
أو لم تنقله من اسم الجنس إلى مسمى به، إلا أنك إذا سميت به شيئاً لم تصرفه. وقال السيرافي بعد ما ذكر معنى كلام سيبويه: وإن جاء شيء فجهلت جمعه لم تقلب الألف في التصغير كـ (مُرَيَّان) و (رُغَيَّان) في مَروان ورَغوان، وعلى هذا جمهور النحويين.
والجامع الذي به التحق هذا كله بسكران هو شبه الألف والنون لألفَي التأنيث، والشاهد على ذلك الشبه كون العرب لم تجمعه على (فعالين) استدلالاً بالأثر على المؤثر. وقد زعم الشلوبيين - على ما حكى عنه ابن الضائع - أن هذه الألف والنون لا تثبتان في التصغير إلا (في) فَعلان (فَعلى) أو ما يشبهها مما يمتنع صرفه وهو العلم، فاعتبر في الأثر الحاصل من الشبه منع الصرف، ولم يعتبر امتناع جمعه على فعالين، وهو الذي اعتبره سيبويه وغيره.
قال ابن الضائع: ونصصت على الأستاذ أبي علي ما تقدم - يعني ما ذكره سيبويه من اعتبار التكسير - فلم يقبله، ولَجَّ فيه، وزعم ما تقدم. قال: وهو خلاف نص سيبويه وغيره، ألا ترى أنك تقول في تصغير (ظَرِبان): ظُريبان. قال: فإن قال: قد تمحض الشَّبه في هذا
أكثر من منع الصرف بقولهم في الجمع: ظَرَابيّ، فقد حكم لها بحكم (صحارى) قيل: فقد قال / سيبويه: "إن جاء شيء كسِرحان ولم تعلم العربَ كسَّرتهُ فتحقيره كتحقير فعلان الذي له فعلى"، ثم حكى ما ذكر الفارسي في الإيضاح في (سَعدان) و (مُرْجان)، وأن سيبويه قد نص على أنك تقول في (زعفران): زُعَيفِران.
قال: فلو كان ثبوتها في (فَعْلان) حيث يترك صرفه فقط لما ثبتت في مثل (زعفران). قال: وهذا ظاهر جداً.
واعلم أن كلام الناظم فيه احتمال في دخول العلم تحته، وذلك أن العلم يمتنع صرفه للحاق الألف والنون مع العلمية، وقد مر أن سبب ذلك شبه الألف والنون بألفي التأنيث، وإذا كان كذلك وكان (فَعْلان) إذا سُمي به يمتنع صرفه لشبه (فَعلان) بألفي فعلاء فينبغي ألا يعتبر بأصله في جمعه على (فعالين) أو عدم جمعه، بل يقال في (سِرحان) إذا سمي به:(سُريحان) كما يقال في (عثمان): عُثيمان.
وهذا رأيُ ابن الطراوة في المسألة، ولم يرتض مذهب سيبويه وغيره، فقد يفهم هذا من كلام الناظم؛ لقوله:(وما به التحق)، يعني ما كان من نحو (عثمان) وما سُمي به من فَعلان ونحوه، ووجه اللحاق اجتماعهما في شبه الألف والنون فيهما بألِفَي فَعلاء، ألا ترى
أن التاء لا تلحق في حال العلمية، وأيضاً امتناع صرف العلم دليل على تحقيق الشبه، بخلاف ما قبل التسمية فإن الشبه لا يتحقق إلا إذا امتنعت العرب عن جمعه على (فعالين)، فحينئذٍ يظهر للشبه وجه فيكون على (فُعيلان)، ونحن لم نجد العرب جمعت العلم على (فعالين)، فلم تقل في (عمران): عمارين، ولا في (سلمان): سلامين، ولا في (عثمان): عثامين.
قال ابن جني: "سألت الشجري يوماً فقلت له: كيف تجمع دكاناً؟ قال: دكاكين. قلت: فسِرحانا؟ قلت: سراحين. قلت: فقُرطاناً؟ قال: قراطين. قلت: فعُثمانا؟ قال: عثمانون. قلت: فهلا قلت أيضاً: عثامين، فقال: أيش عَثَامين؟ أرأيت إنساناً يتكلم بما ليس من لغته؟ والله لا أقولها أبداً".
فأنت تراهم لم يجمعوا العلم على فعالين، فندعي نحن ذلك في سرحان بعد التسمية، وأنه لا يجمع على سراحين، فكذلك لا يصغر على سُريحين ما لم يكن سماع عن العرب، وهو معدوم.
وكما أن سكران حين أشبه "فعلاء" لم يصغر على سُكيرين، فكذلك / أيضاً سرحان حين أشبه فعلاء بالتسمية لا يصغَّر على
سُريحين وإلا وجب أن ينصرف سِرحان مسمًّى به وهو باطل اتفاقاً.
ويبعد أن يريد الناظم بقوله: (وما به التحق) وما التحق به في كونه لا يجمع على فعالين من غير أن يعتبر منع الصرف أيضاً، وكلاهما ناشئ عن ثبوت الشبه بفعلاء، ولو كان المراد هذا لم يفهم له، بل السابق إلى الذهن في وجه ذلك ما تقدم من الشبه، وعنهما ينشأ عدم الجمع على فعالين، وامتناع الصرف.
وإذا ثبت هذا كان هذا النظم موافقاً للشلوبين في اقتصاره على امتناع الصرف فيما فيه الألف والنون، ومخالفاً لسيبويه ومن وافقه في الاقتصار على عدم الجمع على فعالين. لكن هذه الطريقة قد اعترضها سيبويه وغيره:
أما سيبويه فقال: "ولو قلتَ: سُريحان - يعني بعد ما سُمي به - لقلت: في رجل يُسمى علقى: عُليقى، وفي مِعزى: مُعيزى، وفي امرأة اسمها سِربال: سُريبال؛ لأنها لا تنصرف، قال: فالتحقير على أصله وإن لم ينصرف الاسم".
ورده الشلوبين بوجه آخر، وهو أنه لو كان كذلك للزمه إذا
نكر سِرحان اسمَ رجل أن يصغره بالقلب، قال: وليس في (الكلام اسم يفترق تصغيره ويختلف بحسب تعريفه وتنكيره.
وقد يعتذر ابن الطراوة عن هذين: أما عُلَيقى ومُعيزى فبينه وبين سِرحان فرقٌ هو أن باب عَلقًى ومِعزًى أصله قبل التسمية التحقير على (فُعِيعل) تقول: عُلَيق ومُعَيز، فإذا سَميت بهما حملتَهما على الأكثر في الباب، بخلاف سِرحان فإن الأكثر فيه قبل التسمية أن يحقر على (فُعيلان) إلا أن يكسِّره العرب، فتحقِّرَه على (فُعيلين) وأما مع عدم العلم بالتكسير فـ (فُعيلان) هو الأصل، فإذا سمى به أو بغيره فالأصل فيه فعيلان، ولا يعتبر فيه تكسيره قبل التسمية؛ لأن باب الأعلام منع التكسير.
قال سيبويه في باب جمع الرجال والنساء: "وأما عثمان ونحوه فلا يجوز فيه أن تكسره؛ لأنك توجب في تحقيره عثيمان، فلا تقول: عثامين [فيما يجب له عثيمان] ولكن عثمانون كما يجب له عُثيمان؛
لأن أصل هذا أن يكون الغالب عليه باب غضبان، إلا أن تكسِّر العرب منه شيئاً على مثال (فعاعيل) / فيجيء التحقير عليه".
فحاصل الأمر أن كل واحد من باب (عَلقًى) وباب (سِرحان) رُدَّ بعد التسمية إلى الأكثر والأصل فيه، مع أن الباب في نحو (عثمان) ألا يُكسَّر.
وأما إلزامه (سُريبال) فلا يلزم؛ إذ لم يعتبر مجرَّد منع الصرف، وإنما اعتبر الشبه المؤثر لمنع الصرف، وهو الشبه بألفَي التأنيث، فلا اعتراض به.
وأما ما قاله الشلوبين فلا يلزم؛ لأن تحقيره بعد (التسمية) والتنكير إنما يكون على اعتبار وجود التعريف، فاعتبر أصله من العلمية، وليس بوصف في الأصل فيعتبر أصله قبل التسمية، كما لا يعتبر الأصل إذا سميت بمصدر من المصادر، فيمتنع من الجمع فيه، بل يعتبر الانتقال إلى الاسمية وإن نُكِّر بعد التسمية.
هذا أقصى ما وجدته في الاحتجاج عن ظاهر مفهوم كلام الناظم. والذي رآه في التسهيل موافقة الجماعة، فهو الذي يغلب على
الظن في مثل ابن مالك، وإن كان اللفظ أظهر فيما تقدم، والله أعلم.
وفي قوله: (أو مدَّ سكران) تنبيهٌ على كون النون بعد الألف لا بد من زيادتها: أما في (سكران) فظاهر. وأما في غيره فكذلك أيضاً؛ لأنه الشبه إنما يحصل بين الألف والنون وألفي التأنيث إذا كانت [النون] زائدة، لا أصلية، فلو صغرت (حسَّان) أو (تبَّان) أو نحو ذلك على اعتقاد أصالة النون لقلت: حُسَيسِين، وتُبَيبِيْن لا غير؛ لأنه إذ ذاك بمنزلة سِربال وقِرطاس، فلا يمكن فيه بقاء الألف، وسبب ذلك فقد الشبه بين الألف والنون وألفَي التأنيث.
وقد بقي عليه مما يلزم فتحه بعد ياء التصغير أن يكون قبل الاسم الثاني من المركبين، فإن حكمه حكم تاء التأنيث في لزوم الفتح، فتقول: حُضَيرموت، وبُعَيلبك، ونحو ذلك فتفتح ولا يجوز غير ذلك، فَترْكُ الناظم له مشعر بأنه ليس كذلك، وذلك غير صحيح.
وقد ذكر الناس فيما لا يكسَّر بعد ياء التصغير على الجملة عشرةَ مواضع وهي:
أن يكون حرف إعراب، أو يكون بعده الف تأنيث، أو همزته، أو تاؤه، أو علامة تثنية، أو واو جمع على حدِّها، أو ألف جمع
المؤنث السالم، أو ألف أفعال مطلقاً، أو ألف ونون إلا فيما كسر على (فعالين)، أو الثاني من المركبين.
هكذا ضبط الناس هذا، وهو أحسن مما / ذكره الناظم، وما عدا هذه العشرة المواضع فلا بد فيما بعد ياء التصغير فيه من الكسر.
***
وألفُ التأنيث حيث مُدَّا وتاؤه منفصلين عُدَّا
كذا المزيد آخراً للنسبِ وعجزُ المضاف والمركبِ
وهكذا زيادتا فَعلانَا من بعد أربعٍ كزعفرانا
وقدِّرِ انفصال ما دلَّ على تثنيةٍ أو جمعِ تصحيحٍ جَلا
لما قدَّم أول الباب أن (فُعيلاً) للثلاثي، وأن (فُعَيعِلا) و (فُعَيعيلا) لما فوق ذلك من رباعي أو خماسي أو غيرهما، وكانت ألف التأنيث الممدودة، وتاء التأنيث، وياء النسب، والألف والنون وسائر ما ذكره هنا مما يلحق بالكلمة فيعد من حروفها، أو يتوهم [أنه] معدود في حروفها، وكان من مقتضى ما قدَّم أن أبنية التصغير تقام من حروف الاسم، خاف أن يتوهم أن هذه الحروف المذكورة من جملة ما يدخل في بِنية التصغير، فأهذ في نفي ما يحتاج إلى نفيه من ذلك، وعد من ذلك ثمانية أشياء:
أحدها: ألف التأنيث الممدودة، وذلك قوله:
وألفُ التأنيث حيث مُدَّا
وقوله: (حيث مدا) إخراج لألف التأنيث المقصورة، فإنه يذكر حكمها، وأنها ليست مما يُعد منفصلاً عن الكلمة، ويعني أن هذه الألف الممدودة لا يُعتدُّ بها في التصغير، بل يقع التصغير فيما قبلها كأنها لم تكن ثمَّ بعد، كأنها لحقت بعد استقرار التصغير، وهذا معنى انفصالها، أي أنها لم تبن عليها الكلمة، وذلك قولك في حمراء: حُميراء، وفي صحراء: صُحيراء، وفي طَرْفاء: طُرَيفاء، وكذلك تقول في (خنفساء): خُنَيفساء، وفي (عُنْصلاء): عُنَيصلاء، وفي (قَرْملاء): قُرَيملاء، وما أشبه ذلك.
وإنما كان ذلك لأن ألف التأنيث الممدودة لما قويت بالحركة فصارت متحرِّكة بعد أن كانت ساكنة، وعضَدها الحرف الذي قبلها في ذلك كرهوا حذفها؛ إذ أشبهت بذلك التاء، والتاء لا تُحذف لما يذكر.
والفرق بينها وبين الألف المقصورة حرفٌ ميت لا حظ لها في الحركة، فلم يقْوَ أن يثبت إذا وقع بعد أربعة أحرف. وسيأتي لذلك ذكر إذا تكلم على الألف المقصورة إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: قد تقدم أن التصغير أصله أن يكون على قياس التكسير، وهم يحذفون هذه الألف في التكسير فيقولون في (خُنفساء): خُنافس.
فالجواب /: أن تاء التأنيث ليس حكمها أن يكسر ما قبلها ثم تلحق، فيحمل عليها الجمع في ذلك، بل متى صح كسر ما فيه تاء التأنيث حُذفت، فلم يكن وجهٌ لثبوت ألف التأنيث في التكسير؛ إذ حكم التاء كذلك بخلاف التصغير.
وقد ظهر من كلام الناظم ظُهوراً بيناً - حيث أطلق القول في عدِّهِ الألف الممدودة منفصلة على الإطلاق - أن مثل (جُلَولاء) و (بَرَاكاء) و (قَريثَاء) يُصغر منه الصدر، كأن الألف لم تكن، وأنت لو حقرتَ مثل: جَلُول، وبَرَاك، وقَريث فإنك تقول: جُلَيِّل وبُرَيِّك وقُرَيِّث، قم تلحق الألف، فيجيء منه: جُلَيِّلاء، وبُرَيِّكاء، وقُرَيِّثاء، وهذا هو مذهب المبرد، واحتج لما ذهب إليه بأن ألف التأنيث إما أن يعتد بها فيلزم على ذلك أن يقال: جُلَيْليّ، وبُرَيكيَ، وقُرَيثيّ، كما يقال في التكسير: جلاليّ وبراكي وقراثي. وإما ألا يعتدَّ بها، فيصغر ما
قبلها، فيقال: جُلَيِّلاء وبُرَيِّكاء وقُرَيِّثاء، ثم صحح هذا الثاني؛ لأنه قد ثبت أن حكم هذه الألف أن يصغر ما قبلها، وحينئذٍ يلحق، وبهذا المعنى ردَّ على سيبويه مذهبه في أنه يقول: جُلَيلاء وبُرَيكاء وقُرَيثاء فيحذف المدة الثالثة.
وقد حكى ابن الضائع عن الشلوبين أنه ذهب في بعض الأوقات إلى أن قياس المبرد صحيح، وأنه لا يمكن أن يكون سيبويه خالف ذلك القياس الظاهر إلا بسماع من العرب.
قال ابن الضائع: ولو كان سيبويه سمع شيئاً من ذلك وهو مخالف القياس للسماع لنصَّ على السماع، وإنما أتى به سيبويه بصورة القياس، وقد رجح الناس مذهب سيبويه، وهو الذي ارتضى في التسهيل.
ووجهه عند السيرافي وغيره أن ألف التأنيث الممدودة لها شبهٌ بالتاء من جهة التأنيث، وقوتها بالحركة بعد ما كانت حرفاً ميتاً، ولذلك لا تثبت المقصورة في التصغير إذا زادت على مثال التصغير كما تقدم، ولها أيضاً شبه بما هو من نفس الحرف، بدليل قولهم:
صحاريَّ وعذاريَّ، فأجريت مجرى ما هو ملحق بالأصل كحِرباء وحَرَابِيَّ، فلما كانت هذه الألف ذات وجهين، وكثُرَت الزوائد استعمل في تحقيرها ضربٌ من تحقير الترخيم، فلما لم يجز حذف ألف التأنيث صارت المدة الأخرى كألف مبارك، فحذفوا هذه الزوائد كألِفِ / مبارك.
والذي ارتضى ابن الضائع في التوجيه أن باب التصغير محمول على باب التكسير، وهم قد قالوا:(بَرَاكِيُّ) فحذفوا الألف الثالثة في التكسير، فكذلك يكون الأمير في التصغير.
وإنما وقع الفرق في ألف التأنيث فإنها قلبت في التكسير لضرورة كسر ما بعد الفه، ولم تقلب في التصغير لما استقر فيه من الضرورة لذلك، ولشبه تاء التأنيث، فما قاله سيبويه جارٍ على القياس دون قول المبرد، وإليه أشار ابن خروف بقوله:"حُذفت في التصغير كما حُذفت في التكسير".
وهذا التوجيه مقتضب من كلام ابن الضائع لطوله، فإن أردتَه مستوفىً فعليك به في "شرح الجمل" ففيه شفاء.
الثاني: من الأمور التي عُدَّت في التصغير منفصلة تاء التأنيث، وذلك قوله:
وتاؤه منفصلين عُدَّا
أي عُدت التاء مع ألف التأنيث الممدودة منفصلين من الكلمة تقديراً، وإن كانا موجودين حسا، ولذلك قال:(عُدَّا)، ولم يقل حُذِفا، ولا فُصِلا؛ ليدل على أن ذلك الانفصال إنما هو في التقدير، كأنهما لحقا بعد كمال بنية التصغير، كذلك ما بعدُ: من ياء النسب وعجز المضاف والمركب، وسائر ما ذكر.
وذكَّرهما، ولم يقل: مُدت، ولا منفصلتين، وذلك جائز.
فتقول في طلحة: طُليحة، وفي دجاجة: دُجيِّجة، وفي حلوبة: حُلَيِّبة، وفي سقيفة: سُقيِّفة، وفي قَمَحْدُوَة: قُمَيْحِدة، وفي سلحفاة: سُلَيحفة، فلا تحذف التاء كما تحذفها في التكسير حين قلت: سقائف، وقماحد، ودجائج، وإنما كان ذلك يخالف التصغير في لحاقها التكسير؛ لأن التكسير لم يجيزوا فيه زيادة على أمثلته؛ لأن لهم مندوحة عن ذلك، وذلك أنهم إذا أرادوا جمع ما فيه التاء كان لهم مثال آخر من الجمع تظهر فيه التاء إذا أرادوا ظهورها، وهو الجمع بالألف والتاء، فكان الاستغناء به إذا قصدوا ذلك أولى من التكسير وحذف التاء، فتفوت فائدتها، أو يكسروا الصدر ويزيدوا التاء،
وكذلك اختلف في أمثلة التكسير. وضمتهم الضرورة في التصغير لذلك؛ إذ لم يريدوا حذف التاء وهي دالة على معنى، وليس للتصغير بناء آخر يستغنى به كما كان ذلك الجمع، فلما جاز في التصغير أن يصغر الصدر ويزاد بعده حرف المعنى، ولم يجز في التكسير فرقوا بينهما في تاء التأنيث، وكذلك في ألف الممدودة، وفي / ياءي النسب مع أن الياء كعجز المركب من صدره، قال سيبويه:"والهاء بمنزلة اسم ضمَّ إلى مثله فجعلا اسماً واحداً"، فالآخر لا يحذف أبداً؛ لأنه بمنزلة اسم مضاف إليه، والتاء لا خلاف في معاملتها معالة عجز المركب من صدره، لا يخالف في ذلك سيبويه ولا غيره، كما لا يخالفون في الثاني من المركبين، بل يقولون في حلوبة: حُلَيِّبة، وفي سقيفة: سُقَيِّفة، بخلاف ألف التأنيث فإن لها شبهاً بما هو من نفس الحرف كما تقدم.
الثالث: ياء النسب وذلك قوله:
كذا المزيد آخراً للنسب
يعني أن ما زيد في الكلمة من الأدوات لمعنى النسب فهو معدود
أيضاً فيما هو منفصل عن الكلمة، فيصَغَّرُ الصدر، وتلحق الياءان، فتقول: في جعفريّ: جُعَيفريّ، وفي فاطميّ: فُوَيطميَ، وفي زَيْدي: زُيَيديّ، وفي فرزدقي: فُرَيزِديّ، وما أشبه ذلك.
وعلة ذلك ما تقد في تاء التأنيث حرفاً بحرف من أن بناء التكسير لم يجيزوا فيه زيادة على أمثلته؛ لأن لهم مندوحة عن ذلك؛ إذ يمكنهم الانصراف عن التكسير إلى التصحيح كجعفريون وجعفريات بخلاف التصغير، وأيضاً ما تقدم من شبه ياءي النسب بتاء التأنيث.
وقوله: (آخراً) يظهر أنه لا فائدة فيه؛ لأن ياءَ النسب لا تزاد إلا آخراً، فما الذي احترز [منه] بهذا اللفظ؟
فلعله أراد التحرز من نحو (تَهامٍ ويَمان وشآمٍ)؛ لأن الذي يعد كالمنفصل حقيقة الياء المشددة اللاحقة آخراً، فأما إذا عوض من إحدى الياءين ألف فقدم إلى وسط الاسم فإنه لا يحكم له بحكم ما لحقه ياء النسب، بل يصير بمنزلة بناء على (فعالٍ) كصَحَارٍ ومَلاهٍ، فإنك تقول: صُحَير ومُلَيهٍ، فكذلك تقول هنا، لأنه إن كانت الألف تدل على النسب فقد صارت البنية كأنها هي الدالة على
النسب، لا الياء، فتقول على هذا في (يمان): يُمَينٍ، وفي (شآم): شُؤَيمٍ، وفي (تَهَامٍ): تُهَيم، فتحذف الألف وإن كانت عوضاً من إحدى الياءين، لما صارت في غير موضعها، وأيضاً ليست بياء النسب، (بل) هي شيء آخر عوض منها، والعوض لا يكون هو المعوض منه.
وانظر في هذا مع النقل فإني لم أجده منقولاً، ولا منصوصاً لأحد ممن رأيت كلامه من النحويين.
الرابع: عجز المضاف، وهو المضاف إليه، وذلك قوله:
وعجز المضافِ والمركَّبِ
يعني أن المضاف إليه حكمه مع المضاف / حكم تاء التأنيث وياء النسب وغير ذلك في أنه لا يصغر إلا الصدر، ويلحق المضاف إليه بعد تمام بنية التصغير في الصدر، فتقول في (غلامُ زيد): غُلَيِّم زيد، وفي (صاحب عمرو): صُوَيْحِبُ عمرو، وفي (فرس بكر): فُرَيْسُ بكر، وفي (عبدالله): عُبَيد الله، وما أشبه ذلك.
وسمي المضاف إليه عَجُزاً؛ لأنه آخر الاسم، وعجز ل شيء مؤخره، وفي مقابلة الصدر، وصدر كل شيء أوله، فغلام زيد، أو
امرؤ القيس قد تركب الاسم فيه من كلمتين: أُولى وأخرى، فسميت الأولى صدراً، والثانية عجزاً؛ لحصول معنى التسمية فيهما. وإنما صُغِّر الصدر؛ لأنه المقصود بالتصغير، وهو الاسم المراد تصغيره، وأمَّا المضاف إليه فإنما هو معرِّف أو مخصِّص، فقولك: غلام زيد (غلام) هو المقصود بالمعنى، و (زَيد) مزيدٌ لتعريف الغلام، وكذلك (عبدالله) و (امرؤ القيس). وإن كان علماً فإن الأصل فيه ما ذكر، وأيضاً فإن أبنية التصغير مفردات، والعرب لا تبني المفردات من الجمل إلا شذوذاً، نحو ما جاء في النسب من قولهم: عَبْشَميّ، وعَبْقَسيّ، ونحو ذلك فهو من القلة بحيث لا يُلتفت إليه، ولا يُبنَى عليه.
هذا الذي ذهب إليه هو مذهب البصريين. وقد ذهب الفراء - على ما نقله ابن الأنباري عنه - أنه أجاز أن يقال في (بعلبك) على لغة من أضاف: بَعْلٌ بُكَيْكَةَ إن لم يصرف (بَكّ)، فإن صرفه قال: بَعْلُ بُكَيْكٍ، وقال في (حضرموت) على لغة الإضافة: أحبُّ إليَّ أن تقول: حَضْرَ مُوَيتَةَ، قال: لأن العرب إذا أضافت مؤنثاً إلى مذكَّر ليس بالمعلوم جعلوا الآخر كأنه هو الاسم، ألا ترى الشاعر قال:
وإلى ابنِ أمِّ أناسَ تعمِدُ ناقتي عمرٍو لتُنْجِحَ حاجتي أو تتلفُ
قال: فلم يُجرِ (أناسَ) والاسم هو الأول، ثم ذكر نحواً مما تقدم في (بعلبك)، فأجاز كما ترى تصغير العجز دون الصدر، والعربُ لا تقول هكذا، وإن قالته فعلى غايةٍ من الشذوذ لا يُعتمد عليه.
الخامس: عجز المركب وهو الاسم الثاني من المركبين، وذلك قوله:
وعجزُ المضافِ والمركَّبِ
أي: وعجزُ المركب، يعني أن الثاني من المركبين حكمه في التصغير الانفصال، فيصغَّرُ الصدر، ثم يلحق العجز، فتقول في (حضرموت): حُضَيرموتٍ، و (بعلبك): بُعَيلبك، وفي (رَامَهُرْمُزَ): رُوَيْمَهُرْمُز، وفي (بلال أباد): بُلَيِّلُ أباد، وما أشبه ذلك، وكذلك / تقول في (خمسة عشر): خُميسة عشر، وكذلك أخواته.
ووجَّه الخليل ذلك بأن الصدر عندهم بمنزلة المضاف، والآخر بمنزلة المضاف إليه؛ إذا كانا شيئين، ثم قال: كأنك حقَّرْتَ
(عبد عمرو) و (طلحة زيد).
وأيضاً فما تقدم في المضاف من أن العرب لا تبني اسماً من اسمين حتى تصيره بِنية مستقلة، إلا ما شذ.
وما ذهب إليه هو المذهب المختار، والرأي الموافق لكلام العرب.
ومن الكوفيين من يجيز حذف العجز رأساً، فيقول:(هذه بُعَيلة) وهو مذهب الفراء، قال: وبعضهم يقول في التصغير: (بُكَيْكَة) يحذف (بعلاً) يعني مع اعتقاد التركيب، وأجازوا أيضاً أن تقول:(هذه بُعَيْلِب) فيبنى من الاسمين، وكذلك قالوا في تصغير (حضرموت): حُضَيرم، وحُضَيرَة، ومُوَيْتَة، فأجازوا ثلاثة أوجه:
تركيب البنية من الاسمين، وتصغير الصدر مع حذف العجز، وتصغير العجز مع حذف الصدر ولحاق تاء التأنيث أيضاً كما وقع تمثيله.
وهذا كله لا تقوله العرب، ولذلك أعرض عنه الناظم هنا وفي التسهيل، فلم يحك خلافهم فيه خلافاً.
وعلى كلامه اعتراض، وهو أن المركَّب على وجهين: مركَّبٌ
تركيب مزجٍ وخلطٍ كبعلبك، ومركَّبٌ تركيب إسناد نحو:(تأبط شراً) و (برق نحره) فكلاهما مركَّبٌ، إلا أن أحدهما هو الذي يجري فيه ما قال، وهو المركب تركيب مزج، وقد تقدم مثاله.
وأما الآخر وهو المركب تركيب إسناد فلا يجري ذلك فيه أصلاً، بل يمتنع تصغيره مطلقاً، فلا يصغر في صدر ولا عجز، وأولى ألا يبنى من الجميع مثال تصغير.
وكلام الناظم يُوهم تصغير الصدر مثل هذا، وليس كذلك؛ لأنه حكاية، والمحكي باق على أصله، و (تأبط) هنا فعل، وكذلك [(برَقَ) مِن](برق نحره)، و (ذَرَّى) من (ذَرَّى حَبّاً) وما أشبه ذلك، والأفعال لا تصغر.
وأيضاً فالاسم الأول ليس بالذي تريد أن تصغَّره؛ لأن الجميع هو الدال على المراد تصغيره فلا يصح تصغير بعض ذلك دون بعض على كل تقدير.
والجواب: أن المركب عنده إنما أراد به المركب تركيب مزجٍ وخلطٍ؛ لأن ذلك ليس في الاصطلاح إلا محكياً، لا مركباً، وإنما
يسمَّى مركباً ما كان مثل: بعلبك، ورامهرمز ونحوه/ هكذا قال النحويون.
فإن قيل: ما الذي يدل / على ذلك من كلام الناظم؟ ولعل ذلك ليس باصطلاح له.
فالجواب أن في نظمه ما يدل على ذاك مما تقدم له، ألا ترى إلى قوله في باب العلم حين تكلم على أقسام الأعلام:
ومنه منقولٌ كفضلٍ وأسَدْ وذو ارتجالٍ كسُعادَ وأُدَدْ
ثم قال:
وجملةٌ وما بمزجٍ رُكباً
فلم يطلق على المحكي لفظ التركيب، وأبين من هذا قوله في باب الترخيم:
والعجزَ احذِفْ من مركبٍ وقلْ ترخيم جملة وذا عمرٌو نَقَلْ
وقد تقدم التنبيه على هذا هناك.
وإذا كان كذلك فإطلاقه التركيب غير مخل بمقصود؛ لأنه مختص بما أراده، فيخرج المحكي إذن من كلامه.
فإن قيل: يبقى عليه أنه لم يذكره، ولا تعرّض لحكمه هنا، والواجب ذكره.
فالجواب: أنه قد تقدمت الإشارة إلى إخراجه عن حكم التصغير؛ لكونه غير قابل لصيغته.
السادس: الألف والنون الزائدتان في آخر الاسم إذا كان قبلهما أربعة أحرف، وذلك قوله:
وهكذا زيادتا فَعْلانا من بعدِ أربعٍ
…
...
…
يعني: أن الألف والنون الزائدتين في (فَعْلان) حكمهما حكم ما تقدم من تقدير الانفصال، فيصَغَّر الصدر، ثم تلحقان بعد ذلك تقديراً، لكن إذا كانتا بعد أربعةِ أحرف كزعفران الممثَّل به، فتقول على هذا: زُعيفران، كأنك صغَّرت (زُعيفر) كجُعيفر، ثم لحقت الألف والنون، وإلا فلو لم تعدا منفصلتين لحذفتا لإقامة بنية التصغير، كما يحذفان في التكسير، فكنت تقول: زُعَيفر، كما تقول: زعافر، لكنهم تركوهما، وعدوهما منفصلتين.
ومثل ذلك (عُقْرُبان) تقول في تصغيره: عُقَيربان، وفي (عُنْظُوان): عُنَيظِيَان، وفي (أُقْحُوان): أُقَيحِيان، وما أشبه ذلك.
واشتراطه أن تكون الزيادة بعد أربعٍ؛ لأنها إن كانت بعد ثلاث
فقد تقدم حكمها قبل هذا، وإن كانت بعد خمس فلا بد من حذفها، لو وجد نحو:(سَفَرْجَلان)، فإنك كنت تقول: سُفَيرج، فتحذف الحرف الآخر، وتحذف بحذفه ما بعده لا بد، كما كنت تقول لو كانت ألف تأنيث ممدودة، ألا ترى أنك تحذف الحرف الخامس وما بعده في مثل:(عَرْطَبيل)، فتقول: عُرَيطِب، و (عَضْرَفوط) فتقول: عُضَيرف، فكذلك هذا، مع أن هذا الفرض غير موجود في الكلام، فتحرز عن هذا كله.
ولا يريد بالمثال أن تكون الأربع أصولاً، بل يدخل تحته ما تقدم من نحو:(عُنْظُوان) / وكذلك فِعْلِيان كـ (عِنْظِيان)، وفَيْعَلان كـ (قَيْقَبَان)، وما كان من ذلك النحو، ووجه عدِّ الألف والنون هنا منفصلتين تشبيه الألف والنون بالألف الممدودة. قال سيبويه: "وإنما وافق (عَقْرَبان) خُنْفُساء كما وافق تحقير (عثمان) تحقير حمراء، جعلوا ما فيه الألف والنون من بنات الأربعة بمنزلة ما فيه ألف التأنيث من بنات الأربعة، كما جعلوا ما هو مثله من بنات الثلاثة مثل ما فيه
ألف التأنيث من بنات الثلاثة، ؛ لأن النون من بنات الأربعة لما تحركت أشبهت الهمزة في (خنفساء) وأخواتها، ولم تسكن فتشبه بسكونها الألف التي في (قَرْقَرى) و (قَهْقَرى) و [قَبَعْثَرى] وتكون حرفاً [واحداً] بمنزلة قهقرى".
يعني: أن النون لم تشبه ألف قرقرى في السكون والضعف المؤدي إلى الضعف الذي يطرق إليها الحذف، بل أشبهت الهمزة القوية بالحركة المؤدي إلى إثباتها كما ثبتت الهمزة.
وقوله: (من بعد أربع) فأنث الأربع والمراد الحروف؛ لأنها تذكر تارة؛ لأن الحرف مذكر، وتؤنث تارة؛ لأن اللفظة مؤنثة، فبهذين الاعتبارين حصل التذكير والتأنيث.
السابع: الألف والنون أو الياء والنون الدالان على التثنية، وذلك قوله:
وقدِّر انفصال ما دلَّ على تثنية
…
...
…
...
…
أي قدر هاتين العلامتين كأنهما منفصلتان من الكلمة، فتحقر الكلمة كأنهما لو يكونا فيها، ثم تلحقهما، فتقول في (زيدان): زُيَيدان، وفي (جعفران): جُعَيفران، وفي (قنديلان): قُنَيديلان، وفي (حَبَنْطَيان): حُبَيطَيَان، أو حُبَينِطان، وفي (سَفَرْجَلَتان): سُفَيرِجَتَان، وبالجملة تفعل ما كنت فاعله قبل التثنية، ثم تلحق العلامتين بلا إشكال.
وكذلك إن كان مما يردّ إليه في التصغير شيء، فإنك ترده كذلك، فتقول في:(ابنان): بُنَيَّان، وفي (بنتان)، وفي (أختان): أُخيَّتان، وفي (دَمَان): دُمَيَّان، وكذلك مع الياء والنون في النصب والجر.
هذا كله يدل عليه قوله:
وقدِّر انفصال ما دلَّ على تثنية
…
...
…
...
…
واشتراطه الدلالة على التثنية، ولم يقل: وقدِّر انفصال علامتي التثنية يقتضي أنك إذا صغَّرتَ المثنى قبل أن تسمي به فإن حكمه ما قال، يُعَدُّ كأن العلامتين إنما لحقتا بعد تصغيره، فلذلك تقول في تصغير (جِدَارَين): جُدَيِّران بتشديد الياء، فلا تحذف شيئاً؛ لأنك لو صغَّرتَ (جِداراً) لقلت: جُدَيِّرٌ، فعلى هذا دل كلامه /؛ لأن الدلالة على التثنية باقية.
فإن سميت بالمثنى حكمتَ له بحكم آخر على مقتضى المفهوم؛ لأن الألف والنون إذ ذاك [لا] تدل على التثنية، فلم تعتبر إلا على حدِّ اعتبار الألف والنون في (زعفران) فتقول في تصغيره: جُدَيْران بتخفيف الياء؛ لأن الألف والنون كالألف الممدودة، فصار كتصغير (بَرَاكاء) على مذهب سيبويه، فلا تقول إلا بُرَيكاء.
قال سيبويه: "ولو سميت رجلاً (جِدَارين) ثم حقرته لقلتَ: جُدَيْران، ولم تثقل؛ لأنك لست تريد معنى التثنية، وإنما هو اسم وحد".
وعلى هذا الحد لو سميت بحصيرين أو قَبُولَين لقلت: حُصَيْران، وقُبَيْلان، إلا في التثنية ما فيه التاء، فإن سيبويه والمبرد يتفقان على التشديد، فيقولان في (دَجَاجتان): دُجَيِّجَتَان، سميتَ أو لم تُسَمِّ، كأن الاسم إذ ذاك مما آخره التاء، وقد تقدم أن التاء لا يعتد بها كياءي النسب، فهذا داخل في ذلك الموضع، لا ههنا.
فإن كان الناظم أراد هذا المعنى لم يتفق مع ما ظهر من كلامه فيما تقدم؛ إذ ظاهر كلامه التزام مذهب المبرد في قوله:
وألف التأنيث حيث مُدَّا وتاؤه منفصلين عُدَّا
وقد نقل أن المبرد يخالف سيبويه في هذه المسائل كلها، فإنما يصغر هنا - وإن سمي به - على حدِّه قبل التسمية به؛ لاعتقاده الانفصال في الجميع؛ لأنه يخالف في الألف الممدودة وفي الألف والنون الشبيهتين بها، وقد نص على ذلك في المقتضب.
فتثبت بهذا التفسير التعارض بين المنطوق هنالك، والمفهوم (هنا)؛ إذ المفهود هنا ليس إلا على مذهب سيبويه، فلا بدَّ من التأويل لأحد الموضعين، وذلك بأن يقال: إن الموضع الأول لم يقصد فيه إلى بيان حكم جَلُولاء ونحوه، بل ذَكَر كون الهمزة الممدودة تُعَدُّ كالمنفصلة ذِكراً مجملاً.
ولا شك أن نحو: جَلُولاء، وبَرَاكاء، وقَرِيثاء أقَلِّيٌّ بالنسبة إلى ما فيه همزةُ التأنيث، فأهمل اعتباره رأساً.
وأيضاً فالألف الممدودة في جَلُولاء لا يصدقُ عليها على مذهب سيبويه أنها في تقدير الانفصال، فإنها ذات وجهين كما تقدم تقديره من كلام السيرافي.
فإذا كان كذلك، وأمكن أن يكون مقصوده هنالك الحكم الإجمالي [صح] هنا احترازه، إلا أن احترازه هنا لا يعطي دلالة مفهوم/ بل يعطي أن ما آخره علامتا تثنية دالتان على معناهما حكمهما حكم ما لو كانتا معدومتين، فإن كانتا غير دالتين على معناهما فليس الحكم معهما كذلك، ويبقى ذلك مسكوتاً عنه؛ لأنه (ليس) من الأحكام المهمة بحسب قصده.
هذا أقصى ما وجدتُهُ في الحال في الجمع بين كلاميه، والله أعلم بمراده.
وقد يمكن أيضاً التأويل في هذا الموضع على بقاء الموضع الأول على ما فسر به، وهو أن يكون قوله:(ما دلَّ على تثنية) لا يريد به الدلالة في الحال، بل يريد ما شأنه الدلالة على التثنية، فيصير الكلام مرادفاً لقولك:(علامتا التثنية)، فيدخل إذن تحت لفظه المثنَّى المسمى به وغيره بناءً على ظاهر كلامه هنالك من ارتكابه مذهب المبرد، ولعل هذا يكون أقربَ متناولاً من التأويل (الأول)، والله أعلم.
الثامن: الواو والنون أو الياء والنون الدالان على الجمع، وذلك قوله:(أو جمع تصحيح) أي: وقدِّر انفصال ما دل على جمع
التصحيح، فلا تحذف الزيادتين، بل يُصغر ما قبلهما على أنه دونهما، ثم تلحقهما، فتقول في: زيدون: زُيَيْدون، وفي عامرون: عُوَيمرون، وفي مسلمون: مُسَيْلمون، وفي جعفرون: جُعَيْفِرون، وفي فرزْدَقُون: فُرَيْزِدُون، وفي حَبَنْطًى: حُبَينِطون أو حُبَيطُون، وذلك تقول في: ظَريفون: ظُرَيِّفون، وما أشبه ذلك، ويجري هنا ما جرى في التثنية فيما إذا سميت بجمع المذكر السالم، هل تحمله محمَلَ (قَرَيْثَاء وجَلُولاء) على مذهب سيبويه، فتقول: ظُرَيْفُون بالتخفيف، أو ظُرَيِّفُون بالتشديد على مذهب المبرد على ما تقدم من النظر؟
ولا فرق بين الموضعين في هذا المعنى، ويدخل تحت كلامه على التأويل الثاني ما إذا صغرتَ (ثلاثين) وإن لم تسمِّ به فإنك لا تقول: ثُلَيثون على مذهب سيبويه، كما قيل في جَلُولا؛ لأن (ثلاثين) وإن كان ليس جمعاً لثلاث وإنما [هو] اسم واحد جرى مجرى الجمع في الإعراب، وإنما تقول: ثُلَيِّثون كما يقوله المبرد جرياً على مفهوم كلام الناظم، إلا أنه مخالف لكلام العرب؛ إذ زعم الفارسي أن (ثُلَيْثِين) في ثلاثين - بالحذف - قولُ جميع العرب. فيبقى في دخول هذا تحت كلام الناظم نظر.
والتاسع: الألف والتاء الدالتان على الجمع، وهو داخل تحت /
قوله: (أو جمع تصحيحٍ)، فتقدير الانفصال فيهما كما تقدَّم في جمع التصحيح بالواو والنون، فتقول في طلحة: طُلَيْحات، وفي فاطمة: فُوَيطمات، وفي اشْهيبابات: شُهَيْبِيْبَات، وفي دجاجة: دُجَيِّجَات بالتشديد إن لم تُسمِّ به، فإن سميت به جرى على ما تقدم في الواو والنون، لا فرق بينهما.
قال سيبويه: "وإذا حقَّرت ظريفين غير اسم رجل، أو ظريفات أو دجاجات غير اسم رجل قلتَ: ظُرَيِّفون، وظُرَيِّفَات، ودُجَيِّجَات".
ثم علل بأن تلك الزوائد لم تبن الكلمة عليها، ولا صُغرت عليها، كما صُغرت علىى ألِفَي جَلُولاء، ولكن هذه الزوائد إنما تلحق إذا أريد الجمع بعد كمل تحقير الاسم وتغييره عن شكله، وتزيلها إذا لم ترد الجمع كياءَي الإضافة، حيث تلحقهما إذا أردت النسب، وتخرجهما إذا لم ترد ذلك، فلما كانت الزوائد للجمع كذلك، شبهوها بتاء التأنيث. هذا معنى كلامه. ثم إنك إذا سميت بها تخفف كما ذَكَر.
وقول الناظم: (جلا) جملة في موضع الصفة لـ (جمع)، أي لجمع تصحيحٍ جلي بمعنى ظاهر. فإن قيل: فما فائدة هذا الوصف؟
فالجواب: أن له فائدة حسنة؛ وذلك أن جمع التصحيح علي قسمين: جمع تصحيح قياسي على أصل بابه، كزيدون وعَمْرون، وهذا هو جمع التصحيح الجليُّ الظاهر، وهو الذي قصد ذكره.
وجمع تصحيح هو في الحقيقة جمع تكسير جارٍ مجرى جمع التصحيح، وهو كل ما حُذف منه حرفٌ فعُوض منه الواو والنون كسِنين وعِضين وعِزين ومِئين، ونحو ذلك فإنه جارٍ مجرى جمع التصحيح، وليس كذلك في الحقيقة، والحكمُ فيه أن الواو والنون لا تُعدان كالمنفصلة من الكلمة، فتكون ثابتة بعد تصغير الصدر؛ لأنهما عِوضٌ من المحذوف، فإذا صُغِّر الاسم فلا بد من رد المحذوف، فإذا رُدَّ زال العوض وهو الواو والنون؛ إذ لا يجتمع العوض والمعوض منه، ترجع من جمعه إلى ما كان القياس فيه، وهو الجمع بالألف والتاء، فتقول في: سنين: سُنَيَّات، وفي عِضين: عُضَيَّات، وفي مِئين: مُؤَيَّات.
فإن لم تُبقِ الواو والنون، بل حذفتهما بسبب التصغير، فصار حكمهما كحكم ما ليس كالمنفصل من الكلمة ففارقت / حكم الواو والنون في جمع التصحيح الجلي، فلأجل هذا احترز بقوله:(جلا) أن يدخل عليه (سنون) وبابه، لكم لم يبين الحكم فيه؛ لأنه ليس من المهمات الأكيدة في باب التصغير بالنسبة إلى هذا المختصر، ولأنه إذا تحرز من مثل ذلك فهو قد نبَّه عليه، فكأنه يقول للناظر في نظمه: انظر أنت ما حكمه فقد نبهتُكَ على خروجه مما ذكرته، فلم يخلُ من التنبيه عليه، وهذا من المقاصد الحسان اللائقة بابن مالك رحمه الله تعالى، ولم يذكر هذه المسألة في التسهيل فيما أظن، وذكرها ههنا.
***
وألفُ التأنيث ذو القصر متى زادَ على أربعةٍ لن يَثبُتا
وعند تصغير حُبارى خَيِّرِ بين الحُبَيرى فادْرِ والحُبَيِّرِ
لما ذكر أولاً أن ألف التأنيث إذا وقعت بعد ثلاثة أحرف فإنها تثبت كما ثبتت تاء التأنيث، وألفه الممدودة، والألف والنون، ثم ذكر بعد ذلك أن الألف الممدودة والألف والنون أيضاً تثبت بعد
أربعة أحرف كما تقدم، خاف أن يتوهم أن الألف أيضاً تثبت كذلك تلافى الحكم فيها، وأنها مخالفة للألف الممدودة والألف والنون فقال:
وألفُ التأنيث ذو القصر
…
إلى آخره، يعني أن هذه الألف المقصورة إذا وقعت زيادة على أربعة أحرف فكانت خامسة أو سادسة فالحكم ألا تثبت أصلاً، بل تُحذف، فتقول في قَرْقَرى: قُرَيْقِر، وفي جَحْجَبَى: جُحَيْجِب، وفي عَرْقَلى: عُرَيقِل، وفي قَهْمَزَى: قُهَيْمِز، وفي عِبِدَّى: عُبَيْدّ.
وقوله: (متى زاد على أربعة) على إطلاقه فيما كانت فيه خامسة أو سادسة، فتقول في حَبَرْكًى: حُبَيْكِر، وفي شَفْتَرى: شُفْيتر، وفي مِرْعِزَّى: مُرَيْعِز، وفي شُقَّارى: شُقَّيْقِر، ولفي لُغَّيْزَى: لُغَيْغِز، وما
أشبه ذلك.
وإنما حذفت الألف هنا؛ لأن بناء التصغير قد انتهى قبلها، وفارقت هذه الألف تاء التأنيث والألف الممدودة لمزيتهما عليها بالحركة، فجعلا كاسم ضُم إلى اسم آخر، وأما المقصورة فحرفٌ ميت، فحذفت؛ لأنها لم تشبه الاسم الذي يضم إلى الاسم. هذا تعليل السيرافي، وهو راجع إلى تعليل سيبويه حيث قال:"وإنما صارت هذه الألف إذا كانت خامسة عندهم بمنزلة ألف مبارك وجوالق؛ لأنها ميتة مثلها"، قال:"ولأنها لو كسَّرت الأسماء للجمع لم تثبت"، قال:"فلما اجتمع فيها / ذلك صارت عند العرب بتلك المنزلة".
وقول الناظم: (ذو القصر) و (زاد) و (لن يثبتا) على اعتبار تذكير الألف، ثم قال:
وعند تصغير حبارى خَيِّرِ
إلى آخره. يعني أنك إذا صغَّرتَ هذا اللفظ فأنت مخيَّرٌ بين أمرين:
أحدهما: أن تحذف الألف أولى لتقيم بنية التصغير، وتبقى ألف التأنيث، فتقول: حُبيرى.
والثاني: أن تترك الألف الأولى على حالها، فتصير ألف التأنيث بعد أربعة أحرف، فتحذف على ما تقرر آنفاً، فتقول: حُبَيِّر، كما قلتَ في (قرقرى): قُرَيْقِر.
فإن قلت: لأي شيء وقع التخيير هنا بخلافه فيما تقدم، فإنه أطلق القول في حذف الألف حتماً؟
فالجواب: أن ذلك لأجل أنه لا بد هنا من حذف إحدى الزائدين لإقامة بنية التصغير: إما الألف الأولى، وإما الثانية، فهما زائدان قد تكافآ: هذا بالتقدم، وهذا بالتحرك، وذلك يقتضي التخيير، فلأجل ذلك اختلف الحكم فيها مع ما تقدم.
فإن قلتَ: فإن [هذا] الكلام منه إذن فضلٌ لا فائدة فيه؛ إذ كان قدم هذه القاعدة في أخريات التكسير، وبينها بياناً شافياً، وشرح وجوه الترخيم، ووجوه التخيير، وهذا داخل تحتها، ثم ذكر في هذا الباب أن ما وصل به إلى (فعالِلَ) وشبهه من الحذف فإن تصل به إلى أبنية التصغير، فشمل هذه المسألة أيضاً، فحصل من ذلك أن هذه المسألة قد تقدم حكمها، فكانت إعادتها على نقيص ما قصده من الاختصار المناقض للتكرار، وهذا كما ترى.
فالجواب: أنَّ ابن مالك قد عُلِمَت عادته في هذا النحو أنه لا يأتي بما يوهم تكراراً أو حشواً إلا لمزيد فائدة. والذي حصل بهذا الكلام أربع فوائد:
إحداها: أنه لما قدم آنفاً في ألف التأنيث حكماً لازماً وهو الحذف خاف أن يتوهم أن هذه المسألة مستثناة مما تقدم من التخيير، فأخذ يبين أن لزوم الحذف في ألف التأنيث إنما هو حيث لا يعارضه حكم التخيير، بل يبقى المخير فيه على بابه، واللازم الحذف على بابه. فلو لم ينبه على هذا المعنى لعد هذا الحكم المذكور ناسخاً لما تقدم من التخيير.
والثانية: أن ألف التأنيث هنا وإن كان حكم التخيير قد ثبت لها، فقد تقدم له ما يعطي الحكم بإثباتها لزوماً، وذلك أن ألف التأنيث / حرف معنى، وقد تقدمت إشارته إلى أن حرف المعنى مرجح على ما ليس بحرف معنى على ما شرحته هنالك، وثبت أيضاً لألف حبارى التخيير على ما نص عليه سيبويه وغيره، فصارت القاعدة الثانية في ترجيح حرف المعنى منخرمة في حبارى، إذ أجمعوا على إثبات ميم مستفعل؛ لأنه حرف معنى، ونحوه مما هو مثله، وهنا خيروا حتى افترق الناس في حبارى ثلاث فرق:
فزعم ابن عصفور وغيره أن مذهب سيبويه أن إحدى الزيادتين إذا كانت لمعنى، والأخرى ليست لمعنى فإنك تحذف أيتهما شئت، فأطلق على سيبويه القول بالتخيير بين ما هو ليس بمعنى، وما ليس كذلك.
وخالف قوم سيبويه في التخيير فألزموا حذف الألف الأولى وإبقاء ألف التأنيث اعتباراً بمزية الدلالة على المعنى، منهم المبرد.
وقال ابن السراج: حذف الأولى أجود، واختاره ابن عصفور، وهو ظاهر على قاعدته، إلا أن من انتصر لسيبويه ردَّ على المبرد بأنه لو كان كما يقول: للزم أن يقول في (جُلَنْدَى): جُلَيْدَى، فيحذف النون، وفي (عِبِدَّى): عُبَيْدَى.
لكن العرب لم تقل إلا: عُبَيْد، وجُلَيْنِد، فحذفت الألف رأساً، فدل على أن كون الألف لمعنى التأنيث غير معتبر: إما لأن ذلك أمر لفظي، وإما لغير ذلك من التأويلات. ولم يخالف المبرد إلا فيما ثالثه مدةٌ كحُبارى، فما ألزموه لازم له.
وجَنحت فرقة ثالثة إلى التأويل، فقال بعضهم: إنما حذفت الألف وإن كانت لمعنى؛ لأن التأنيث يفهم من البناء، وأيضاً فهي عند سيبويه بمنزلة ألف مبارك، يعني أن العرب تتلاعب بها في الحذف كما تتلاعب بألف مبارك التي هي زائدة لغير معنى.
وقال بعضهم: إنها - وإن كانت لمعنى - لما تطرَّفت وكان موضعها الآخر ضعفت رتبتها، فتجرَّءوا عليها بالحذف لأجل ذلك.
وقال السيرافي: إنما جاز حذف ألف التأنيث؛ لأنها بمنزلة ما هو من نفس الحرف فيما كان على خمسة أحرف.
وقال ابن الضائع: كون الألف للتأنيث أمرٌ لفظي؛ لأن التأنيث لا يحتاج إلى علامةٍ، بل جاء منه بغير علامة في أسماء الأجناس أكثر مما جاء بعلامة، والحذف إلى الأواخر أسرع، فلذلك تساوت هنا، لا سيما على التعويض من الألف تاء، وهو مذهب أبي عمرو، ثم ذكر على سيبويه، وقد تقدم ذلك.
فأنت ترى ما في (حبارى) من النزاع والإشكال، فأراد أن يبين أن هذه الألف / مما يخير في حذفها بناءً على دخولها تحت قاعدة التخيير بناء على أحد هذه التأويلات، وأيضاً ليهبين أن مذهبه مذهب سيبويه لا مذهب المبرد ومن وافقه؛ إذ لو سكت عن هذا لدخل في حكم لزوم الحذف المذكور قبل هذا، وهذه فائدة ثالثة.
والرابعة: بيان كونه غيرَ مرتضٍ لمذهب أبي عمرو في حذف الألف وتعويض التاء منها؛ وذلك لأنه خَيَّر في وجهين، وترك الثالث وهو أن تقول: حُبيِّرة، فتحذف ألف التأنيث (على شرط العوض قال سيبويه: "فأما أبو عمرو فكان يقول: حُبيِّرة، ويجعل الهاء بدلاً من الألف التي كانت للتأنيث) إذ لم تصل إلى أن تثبت).
ولم يرد عليه سيبويه، لكن الفارسي قال:(حُبَيرة ليست تصغير حُبارى، وإنما هي كلمة أخرى). قال ابن خروف: هذه دعوى، ويلزم ذلك في نظائرها، يعني أن تكون التاء حيث عوضت من حرف كزنادقة أن تكون كلمة أخرى غير الأولى، وهذا غير صحيح.
والذي عليه الجمهور مذهب سيبويه في التخيير، فأراد الناظم أن يحقق مذهبه فيها. وقول الناظم:(وعند تصغير حبارى) لا يريد هذا اللفظ فقط، بل هو مثال كليٌّ يعطي دخول ما كان نحوه من نحو:
أَرَاطَى وأُرَانَى وحَلاوى وخُزَامى ونُعامَى وما أشبه ذلك، فيتخير في تصغيره بين الوجهين.
وكذلك ألحقوا بالباب أيضاً ما إذا كان المد غير ألف نحو: عَشُورى، تقول: عُشَيرَى - إن شئت - وعُشيِّر - إن شئت - وإنما نقل خلاف المبرد وأبي عمرو فيما كان ثالثه مدَّةٌ، لا في غير ذلك.
وقوله: (فادْرِ) تنبيهٌ منه ليُعْلِمك بموقع المسألة عنده، وأنها مما لا ينبغي أن يترَكَ التنبيه عليها؛ لما فيها من الفوائد المحصنة لكلامه، والمكمِّلة لمقصده.
و(الحُبارى): طائرٌ معروف. أنشد القاليُّ، ونسبه إلى أبي ذؤيب:
تَرَقَّى بأطراف القِرَانِ وعَينُها كَعَيْنِ الحُبارى أخطأتْهَا الأجادِلُ
***
واردُدْ لأصلٍ ثانياً لَيْناً قُلِبْ فَقِيْمَةً صَيَّرْ قُوَيْمَةً تُصِبْ
وشَذَّ في عِيْدٍ عُيَيْدٌ وحُتِمْ للجمعِ من ذا ما لِتَصغيرٍ عُلِمٍ
هذا الفصل يذكر فيه الناظم بعض ما يعرض في الاسم المصغر من الإعلال بالقلب وغيره، وما حكم ذلك في التصغير، وما يردّ من المحذوف في المكبر، وما لا يردّ. وجملة ما ذكر فيه من المسائل ثلاث:
إحداها: حكم الحرف الثاني إذا كان حرف لين قد قلب في المكبر / لموجبٍ فزال في التصغير.
الثانية: حكم الألف إذا وقعت ثانية غير منقلبة: زائدة كانت، أو مجهولة.
الثالثة: حكم الاسم المنقوص إذا اضطر في التصغير إلى ردِّ ما حذف منه، أو لم يضطر.
هذه هي المسائل التي اعتنى بذكرها، واقتصر من سائر وجوه الإعلال على هذه الأوجه، فنذكرها على حسب ما قصد فيها بحول الله تعالى.
المسألة الأولى: قال فيها:
واردُدْ لأصلٍ ثانياً لَيْناً قُلِبْ
يعني أن الاسم المصغر إذا وقع ثانيه حرف لين، وكان قد قلب في المكبر، ويريد ما عدا الألف المذكورة بعد فإن الحكم في التصغير
أن ترد ذلك اللين إلى أصله الذي دل عليه الاشتقاق والتصريف في ذلك المكبر. هذا معنى كلامه على الجملة.
وقوله: (قُلِبْ) شرطٌ في اللين، وهو في موضع الصفة، أي لينا قلب في المكبر عن أصله إلى نحو آخر.
وإنما قال: (ثانياً) ولم يقل: عيناً، وإن كان الحرف الثاني في مكان عين الكلمة على الجملة؛ لأنه قد يكون الأول زائداً، فيكون الثاني فاءً كميزان وميعاد، ولا من رده إلى أصله على ما يتبين إن شاء الله تعالى، فلأجل ذلك لم يقيده بعين دون غيره، بل عين رتبته في العدد؛ لأن ذلك هو المعتبر في بنية التصغير.
وأما التفصيل فحرف اللين الذي قلب وكان ثانياً في الكلمة على أنواع:
أحدها: أن يكون اللين في الأصل واواً فيُقلب ياءً لكسرةٍ قبله، وعلى هذا جاء مثاله وهو (قِيمة)؛ إذ أصله الواو؛ لأنه من التقويم، فمادته [ق وم] بلا شك، فتقول: قُوَيْمَة؛ ولذلك قال:
فَقِيْمَةً صَيَّرْ قُوَيْمَةً تُصِبْ
أي رد الياء إلى أصلها - وأصلها الواو - تُصِبْ؛ لأن العلة التي
لأجلها صارت الواو ياء، وهي الكسرة قبل الواو قد زالت في التصغير، فترجع إلى أصلها لزوال ما أوجب قبلها.
وكذلك تقول في (دِيمة): دُوَيمة، وفي (قِيل): قُوَيل، وفي (رِيح): رُوَيحة؛ لأنه من الواو؛ لقولهم: أَرْوَاح. قال:
قف بالديار التي لم يُعفِها القِدَم بَلى وغيَّرها الأرواحُ والدِّيَمُ
ومثل هذا: مِيزان، وميعاد، وميثاق، هو من الوزن والوعد والوثوق، فتقول فيه: مُوَيزِين ومُوَيْعِيد ومُوَيْثِيق، وكذلك ما أشبهه.
الثاني: أن يكون اللين واواً، فبقلب ياءً لإدغامه في ياء بعده، فتقول في (طيَ): طُوَى، وفي (شيّ): شُوَيّ، وفي (لَيّ) /: لُوَيّ، ومثله طُوَيَّان في (طَيَّان) ورُوَيَّان في (ريَّان)، وما كان نحو ذلك، تردُّ ذلك كله إلى أصله، وأصله الواو؛ لأنه من طَوَيتُ وشَوَيتُ ولَوَيتُ؛ لأن الواو إنما قلبت لاجتماعها مع الياء، وسبقها بالسكون، فلمَّا صغَّرت وقعت ياء التصغير بينهما فوجب رجوع الواو إلى أصلها؛ لزوال موجب الإعلال.
الثالث: أن يكون اللين ياء في الأصل لكنه قلب واواً لسكونه مع الضمة قبله، فإذا صغَّرته فلا بد من الرجوع إلى الأصل، فتقول
إذا صغَّرتَ (موقِن): مُيَيْقِن، وفي (موسِر): مُيَيْسر، وفي (مودِع) من أيْدَع الحجَّ على نفسه: مُيَيْدع، وفي (مُوْنِعٍ) من أينَعَ: مُيَيْنِع، وكذلك ما كان نحوه.
قالوا: ولا يجوز غير ذلك؛ لأن الياء لم تقلب واواً إلا لضعفها بالسكون، والسكون بالتصغير قد زال، فيزول بلا بدٍّ القلب، فترجع إلى الأصل.
قال سيبويه: "وإنما أبدلوا الياء كراهية الياء الساكنة بعد الضمة، كما كرهوا الواو الساكنة بعد الكسرة، قال: فإذا تركت ذهب ما استثقلوا"، وقال:"وليس البدل هنا لازماً، كما لم يكن ذلك في (ميزان)، ألا ترى أنك تقول: مياسير".
الرابع: أن يكون اللين ياء أو واواً في الأصل لكنه قلب ألفاً لتحركه وانفتاح ما قبله، وذلك نحو: باب ودار ومال وحال، فتقول: بُوَيب، ودُوَيْرة، وكذلك: مُوَيْل وحُوَيْل، وشبه ذلك؛ لأنها من الواو؛ لقولهم: أبواب، وأدْوُر، وأموال، وأحوال.
وتقول في (ناب): نُيَيْب؛ لقولهم: أنياب، وفي (خال) الخئولة، و (خال) المخيلة: خُيَيْل؛ لأنه من قولهم: رجلٌ أخْيَلٌ، أي: كثير
الخيلان، ولقولهم: الخيلاء.
وإنما رددت ذلك كله إلى الأصل، لأن موجب القلب ألفاً هو تحركها وانفتاح ما قبلها، والتصغير يزيل الفتح الذي قبلها، فلا بد يزول معلوله وهو القلب، فترجع تلك الألفات إلى أصولها. واعلم أن قول الناظم:
واردُدْ لأصلٍ ثانياً لِيناً قُلِبْ
يحتمل وجهين من التفسير:
أحدهما: أن يكون قوله (ليناً) حالاً من الضمير في (قُلِبْ) كأنه قال: واردُدْ لأصلٍ حرفاً قُلِب حالة كونه ليناً، ويكون حالا مقدرة، كقوله تعالى:{وفجرنا الأرض عيوناً} ، والمعنى أن الحرف الثاني من الكلمة كائناً ما كان من لين أو غير ذلك إذا كان قد قلب ليناً، أي: صُيِّرَ حرفاً ليناً فإنك إذا صغرت الاسم ترده إلى أصله. هذا وجه صحيح.
الثاني: أن يكون قوله (لِيناً) / بدلاً ثانياً، كأن المعنى: وارْدُدْ لأصلٍ حرف اللين الثاني إذا كان قد قلب إلى غيره، وصُيِّرَ حرفاً آخر، سواء كان ما صُيِّرَ إلينا لينا أو غير لين، وهذا أيضاً وجه صحيح.
وكلا الوجهين يشمل جميع ما تقدم من أنواع القلب، فإن
(قِيمة) حين كان أصله الواو ثانيه حرف قُلِبَ حرف لين وهو الياء، فالواجب كما قال أن تقول: قُوَيمة. هذا على التفسير الأول.
وتقول أيضاً: (قِيْمة) أصله حرف لين وهو الواو دخله القلب، فوجب أن ترده إلى أصله أيضاً، وكذلك سائر الأنواع. لكن يختلف الحكم فيهما في حال أخرى، وذلك حيث يكون الثاني غير لين، فيقلب إلى اللين، أو يكون ليناً فيقلب إلى غير اللين.
فعلى التفسير الأول يشمل كلامه نوعين زائداً على ما تقدم:
أحدهما: ما كان أصل الحرف الثاني فيه مضاعفاً لكنه قلب حرف لين استثقالاً للتضعيف نحو: (دينار) و (قِيراط)، فإن أصلهما دِنَّارٌ وقِرَّاطٌ، لكنهم قلبوا النون الأولى والراء الأولى ياء لثقل التضعيف، والدليل على ذلك قولهم في الجمع: قراريط ودنانير، فهذا إذا صغر اقتضى كلامه أنك ترده إلى أصله فتقول: قُرَيْريط ودُنَيْنِير؛ لأن التضعيف الموجب للإبدال قد زال بفصل ياء التصغير بين المضاعفين، فزال الثقل، وكذلك تقول في (ديماس): دُمَيْمِيس على لغة من قال في الجمع: دَمَاميس، وفي (ديباج): دُبَيْبِيْج على لغة من قال: دَبَابيج، وأما من قال: دَيَاميس، ودَيَابيج فالياء عنده غير منقلبة عن غيرها، بل هي كياء جِرْيَال، وواو جِلْوَاخ. كذلك قال
سيبويه والخليل ويونس.
والثاني: ما كان أصل الحرف الثاني فيه همزة، فقلبت ياء أو غير ياء تخفيفاً نحو:(ذئب) و (بئر) إذا خففت فقلت: ذِيب وبِير. قال الأستاذ (رحمه الله تعالى): تقول فيه - فيمن خفَّف -: ذُؤَيب وبُؤَيرة، يعني بغير تخفيف، قال: لأن قلب الهمزة ياء إنما كان لسكونها بعد الكسرة. قال: فلما زال ذلك بالتصغير رجعت إلى الأصل. ومثل ذلك لو سميت رجلاً (ذوائب) لقلتَ: ذُؤَيئِب بالهمز، فترد الهخزة إلى أصلها؛ لأن أصل الواو الهمز، لكن قلبت واواً في الجمع استثقالاً لاجتماع همزتين بينهما ألف، وهي شبيهة بالهمزة، وكان هذا من شذوذ الجمع الذي لا يطرد، فإذا صغر رد إلى القياس، فجعل مكان الواو الهمزة على ما كانت في الأصل /.
وعلى التفسير الثاني يشكل كلامه نوعاً من البدل فيما كان أصله اللين، ثم قلب إلى غير لين، وذلك نحو: مُتَّعِد، ومُتَّسِر، أصله مفتعل من الوعد واليسر: موتعد وموتسر، فأدغمت الواو من موتعد، والياء في موتسر، فأدغمت الواو من موتعد، والياء في موتسر _ إذا أصله مُيْتَسِر - في التاء الذي في بنية مفتعل بعد قلبهما تاء، فقيل: مُتَّعد ومُتَّسر، وهذا في لغة غير الحجازيين،
فسبب هذا القلب في الواو والياء طلب الإدغام للمجاورة، فإذا حالت ياء التصغير بينهما لم يبقَ لقلب الواو والياء تاءً موجِبٌ، فروجع الأصل، فتقول فيهما: مُوَيْعِد ومُيَيْسِر. وإلى هذا ذهب الزجَّاج، وعليه عوَّل الفارسي في الإيضاح، ووجه ذلك ما ذكر من زوال موجب القلب تاء.
وذهب سيبويه إلى إبقاء الأمر في المصغر على ما كان عليه في المكبر من ترك التاء غير مردودة إلى أصلها، فتقول: متيعد ومتيسر، وكذلك (مُتَّلِج) و (مُتَّخِم) و (مُتَّهِم) ونحو ذلك. واحتجَّ لسيبويه بأمرين:
أحدهما: الفرق بين اللغتين؛ لأن لغة أهل الحجاز عدم القلب، إذ يقولون: مُوتَعِد، ومُوتَسِر، ولا شك أن التصغير على هذه اللغة مُوَيْعِد ومُيَيْسِر، فلو قالوا في اللغة الأخرى كذلك، وردت الواو والياء لالتبست اللغتان.
والثاني: وهو الأقوى عندهم في الاحتجاج أن الواو والياء ليستا من الحروف التي تدغم في التاء، فقلبهما هنا تاءين كالقلب
في (تُكَأَة) ونحوه؛ لأن هذه الواو لما كانت في هذا يجب لها تغيير كثير وهو الثابت في لغة أهل الحجاز، فتقول: ايتَعَد ياتَعِدُ ايتعَاداً، وهو مُوتَّعِد، واوتَعَد فلان، فصارت أحوالها تختلف فتكون ألفاً تارة، وواواً أخرى وياء أرادوا أن يقلبوها حرفاً يثبت في جميع الأحوال، وهي مما نقل إليه كثيراً، وذلك التاء، ورأوا ذلك أولى، قالوا: فليست التاء التي بعدها هي الموجبة للقلب فليزم أن ترجع إلى أصلها عند زوال تلك التاء، وإنما الموجب ما ذكر.
هذا ما احتجوا به لسيبويه ومن تبعه، وللزجاج ومن تبعه.
وقد ألزم ابن خروف سيبويه أن يقول في الجمع: مَتَاعد ومَتَاسِر ومَتَالِج، والإلزام [صحيح].
وعلى الجملة فإن كانت العرب قد قالت: مَوَاعد ومَوَازن لزم إبطال مُتَيْعد ومُتَيْزن، والرجوع إلى مُوَيْعد ومُوَيْزن، وإن كانت قد قالت: / مَتَاعِد ومَتَازِن أن يقال هنا: مُتَيْعِد ومُتَيْزِن، وبطل مذهبُ الزَّجَّاج. وإن كانت لم تقل هذا، ولا هذا فهي في موضع الاجتهاد.
والظاهر أن التصغير فيها غير مسموع، فالنظران متقاربان. والله أعلم.
ثم إن كلام الناظم يرشد إلى معنيين:
أحدهما: بيان أن ما كان من اللين منقلب عن شيء، ولا منقلب إليه شيء يبقى على ما كان عليه، وذلك أن ما تقدم من الأنواع إنما يأتي فيما كان ليناً قلب إلى غيره، أو قلب إليه غيره على التفسيرين، وبذلك قيد في قوله:(ليناً قلب) فيفهم أن ما لم يقلب حكمه ما تقدم من ظهور البقاء على أصله، فما كان ثانيه واواً أو ياء لم ينقلب إلى حرف آخر، ولم ينقلب إليها حرف آخر بقي على حاله، فتقول في (حَوْل): حُوَيْل، وفي (عُود): عُوَيد وفي (قَول): قُوَيل، وفي (سَوط): سويط، وفي (دَيْر): دُيَير، وفي (زَيد): زُيَيد، وفي (بيت): بُيَيْت، وفي (شَيْخ): شُيَيْخ. هذا ما يقتضيه نظمُه، وهو صحيحٌ على مذهب البصريين، خلافاً لما ذهب إليه الكوفيون من تجويزهم أن تقلب الياء واواً؛ للضمة، فيقولون في (بَيْت): بُوَيْت، وفي (شَيخ): شُوَيخ، وفي (عين): عُوَينة، وفي (سَير): سُوَير، ونحو ذلك. وإنما قالوا ذلك لأنهم سمعوا في (ناب) وأصله الياء: نُوَيْب، وقالوا: شُوَيخ وبُوَيت، وهي عند البصريين ألفاظٌ شاذةٌ وعلى غير القياس؛ لأن الثاني في بنية التصغير وهو الياء يجب لها التحرك بالفتح، والضمة لا تقوى على قلبها إلا إذا كانت ساكنة كمُوقن ونحوه،
بخلاف المتحركة فإنها قوية بالحركة، فلمتقْوَ الحركة عليها، بل قويت الياء على الضمة حتى قلبتها كسرة، لكن على الجواز، فقالوا: شِيَيْخ وبِيَيْت ونِيَيْب. ولم يحك الناظم هنا هذا الكسر، وقال سيبويه:"ومن العرب من يقول في ناب: نُوَيْب، فيجيء بالواو؛ لأن هذه الألف [مبدلة] من الواوات أكثر" يعني أن الواو على العين أغلب، قال:"وهو غلظ منهم".
وقد حكى السيرافي أنها لغة بعض العرب.
قال ابن الضائع: وهاتان اللغتان نظيرتا (قِيل) و (بِيع)، و (قول) و (بُوع) فيما بني للمفعول، قال: وعلى هذا يجوز في (الناب) نُيَيْب بالضم والكسر، قال: ولو حفظ سيبويه هذه اللغة في (نُوَيْب) لحمل عليها هذا.
قال: ويقوِّي توجيه سيبويه ضمُّ الأول، ألا ترى أن الضم هو الموجب للواو في تصغير (بَيت) فقط؟ انتهى.
وعلى كل تقدير فهو نادر، والنادر لا يعتد به، فلذلك لم يبن عليه الناظم.
والمعنى الثاني في كلام الناظم أن هذا / الرد الذي يحكم به في
التصغير إنما هو حيث يزول موجب الخروج عن الأصل، وهذا مأخوذ من تمثيله؛ لأن (قِيمة) أصله: قِوْمَة، والواو الساكنة لا تثبت بعد الكسرة، فقلبوها ياء، فلما زالت الكسرة حين ضمت القاف للتصغير لم يبق لبقاء الياء موجب، فرجعت إلى أصلها، فقيل: قُوَيْمة، فكذلك جميع ما يرد في التصغير إلى أصله، وقد تقدم تمثيله.
قال السيرافي: ما كان من بدل الحروف لحركة أوجبت قلب ما بعده، أو لحرف على حال يوجب قلب حرف بعده، ثم صغرت ذلك الاسم أو جمعته، فزالت العلة الموجبة للقلب في التصغير أو في الجمع رددته إلى أصله، ثم مثل ذلك بما تقدم.
فأما إذا كان موجب القلب باقياً في التصغير فإن المصغر لا يرد إلى أصله، بل يبقى على حاله، وهو مقتضى ما يعطيه حاصل المثال من المفهوم؛ لأنه في قوة أن لو قال: واردد لأصل كذا إن زالت علة القلب في التصغير، فلا شك أن مفهومه أن العلة إذا لم تَزُل فالحال يبقى كما كان قبل التصغير.
ومثال ذلك مسألة سيبويه إذْ سأل الخليل عن (فُعْلٍ) مبني من (وَأَيْتُ) فقال: وُؤْيّ، قال فسألته عنها فيمن خفف فقال: أُوْيٌ،
ولا بد من الهمزة؛ لاجتماع الواوين.
فعلى هذا إذا صغرت هذا بناء على التخفيف فلا بد أن تقول: اُوَيٌّ، قتبقى الواو الأولى على إبدالها همزة، وتبقى الهمزة بعدها على تسهيلها كما كانت، ولم يفعل التصغير شيئاً؛ لأن ما لأجله وقع الإعلال بالقلب باقٍ بعد التصغير، وذلك أن الهمزة الساكنة لما أبدلت واواً اجتمع واوان في أول الكلمة، فلزم همزُ الأولى على مقتضى القاعدة التصريفية.
وكذلك إذا سميت بـ (فُعُلٍ) من الوَأْدِ جمع (وَءُود) كصَبُور، ثم خفَّفت فإنك تقول: أُوُد، فإذا صغرت قلتَ:(أُوَيد) ولا بدَّ.
وكذلك إذا سميت بـ (أَوَادِم) جمع آدم على أنه (أَفْعَلُ) من الأدمة فإنك تقول في تصغيره: أُوَيْدِم، لبقاء موجب قلب الهمزة الثانية واواً، وهو اجتماعها مع الهمزة الأولى. وكذلك إذا بنيتَ (أفعل) من الأمن فقلت:(آمَن) ثم جمعته على (أفاعل) فقلت: (أَوَامِن) ثم سميت به فإنك تقول في تصغيره: أُوَيمن. ومن هذا كثيرٌ.
ومثله لو بنيتَ من الأمنِ، أو من الأُدْمَة مثل (شامِل) لقلت: آمِن، وآدِم، ثم تجمع / على (أَوَامن) و (أَوَادِم)، ثم تصغر كما تقدم. وهذا كله ظاهر.
وكذلك تعتبر كل ما كان ثانيه ليناً مبدلاً، أو مبدلاً منه، ولم تَزُلْ علة الإبدال في التصغير فتبقي الأمر كما كان عليه.
ومعنى ثالث: مستفادٌ أيضاً من المثال وهو ألا يبقى بعد تصغيره علَّةٌ أخرى تخلُفُ الأولى في الإخراج عن الأصل، وذلك أنه إذا زالت العلة التي أخرجت الحرف في المكبر عن أصله، ثم خلفتها علَّةٌ أخرى من جنسها، أو من غير جنسها فالحرف لا يرجع إلى أصله؛ لمعارضته هذه العلة الحادثة فلا بد أن تعطى حكمها، وذلك أنك تقول: إيمان وإيلاف وإيتاء، وسائر ما كان على (إفْعال) مما فاؤه همزةٌ، فلا بد من إبدال تلك الهمزة (للهمزة) المتقدمة، وتكون ياءً للكسرة، فقد خرجت عن أصلها إلى الياء، فإذا صغَّرْتَ ذلك قلت: أُوَيمين وأُوَيلِيف وأُوَيْتِيء، فيزول كون الهمزة ياء؛ لزوال الكسرة، ولا يزول إبدالها لثبوت الهمزة الأولى، وإنما تصير واواً للضمة الحادثة في التصغير، فقد اختلف البدلان ولم ترجع إلى أصلها؛ إذ لا سبيل إلى ذلك مع وجود علة الإبدال. وفي هذا المثال نوعٌ مما قبله.
ثم ذكر ما شذَّ من هذا فقال:
وشذَّ في عِيدٍ عُيَيْد
يعني أن هذا الاسم الذي هو (عِيد) قالوا فيه: عُيَيْدٌ على لفظه لا على أصل أصله؛ لأن أصله الواو من العَودة؛ لأنه يعود في كل سنة فكأنهم التزموا فيه البدل، ألا تراهم قالوا: أعياد، فإذا كانوا التزموا الياء فلا بدَّ من التزامه في التصغير كما كان في التكسير.
قال سيبويه: "وأما عيد فإن تحقيره عييد؛ لأنهم ألزموا البدل، قالوا: أعياد، ولم يقولوا: أَعْوَاد، كما قالوا: أقوال، قال: فصار بمنزلة همزة قائل". يعني في أنها تثبت في التصغير حين تقول: قُوَيئِل.
ونحو من هذا الذي ذكر الناظم ما أجاز ابن جني في الخصائص من تصغير (مِيثاق) على مُيَيْثِيق على قول من قال: مَياثيق، وأنشد أبو زيد:
حِمًى لا يحلُّ الدَّهْرَ إلا بإذْنِنَا ولا نسألُ الأقوامَ عَقْدَ المياثِقِ
ووجَّهَ ترك الرد إلى الأصل بكثرة استعمالهم لميثاق حتى كأنهم تناسوا أصله، وأنه الواون فتوهموا أنه في الأصل على ظاهر لفظه غير
مسبب عن علة، كبنائك (مِفعالاً) من اليُسْر، ثم تكسيرك إيَّاه على على (مفاعيل) فتقول: مِيْسَار ومياسير، فانِسُوا بميثاق أنسَهُم بمثل / مِيْسَارن فقالوا: مَيَاثِيق، قال ابن جني:"وكذلك عندي قياسُ تحقيره على هذه اللغة أن تقول: مُيَيْثِيق".
وما قاله ابن جني ليس بمصادم لما ادعى ابن مالك هنا من الشذوذ؛ لأن المياثيق نادرةٌ في اللغات أن تثبت لغة، وما قاله ابن جني من القياس بناءٌ عليها، وابن مالك إنما تكلم على اللغة المشهورة، ولا شك أن عُيَيْداً شاذٌّ فيها وعند أهلها، لا أنها اختصَّ بها قومٌ دون قوم، فمن هذا الوجه شذّت.
ثم قال:
…
...
…
... وحُتِمْ للجمع من ذا ما لتصغيرٍ عُلِمٍ
[حُتم] معناه: أُوجِب وأُلزِم، و (ذا) إشارة إلى الحكم المقرر للتصغير، وهو رد الثاني الذي هو لين إلى أصله، فيريد أن ثبت من هذا للتصغير فإنه ثابت للجمع، ويريد به الجمع المكسَّر، فإذا كانت علَّةُ القلب في المفرد قد زالت في الجمع فلا بدَّ من ردِّ الثاني
اللين إلى أصله، فتقول في (رِيح): أَرْوَاح. قال:
قِفْ بالدِّيارِ التي لم يَعْفُها القِدَمُ بِلًى وغيَّرَها الأرْوَاحُ والدِّيمُ
وفي (ريَّا) و (ريَّان): رِوَاء، وفي (ميزان): موازين، وفي (ميعاد): مواعيد، وفي (ميقات): مواقيت، وكذلك تقول في (مُوسِر) و (مُوقِن) لو كسَّرته: مَيَاسِر، ومياقِن، وتقول في (مال): أموال، وفي (حال): أحوال، وفي (باب): أبواب، وفي (ناب): أنياب، وما أشبه ذلك؛ لأن موجب الإعلال في هذه الأشياء قد زال حالة الجمع، فيراجع الأصل بلا بدٍّ.
وكذلك تقول في (قِيراط): قَرَاريط، وفي (دينار) دنانير، وفي (دِيباج): دَبَابيج، وفي (ديماس): دَمَاميس في أحد الوجهين، وهذا على التفسير الأول.
وعلى التفسير الثاني تقول: مَوَاعد ومَيَاسر في (مُتَّعِد) و (مُتَّسِر)، ومَوَالِج في (مُتَّلِج)، ونحو ذلك، وقد تقدم بسط هذا قُبَيل.
وأما إذا كانت على الإعلال باقيةً فلا بد من بقاء الثاني على ما كان عليه قبل ذلك، فتقول في (قِيمة): قِيَم، وفي (ديمة): دِيَم، وفي (حِيلة): حِيَل؛ لأن موجب قلب الواو ياء وهو الكسرة قبلها باقٍ في الجمع (فيبقى موجبُهُ.
وكذلك إذا بَنيت من الهمزة مثل (سَفَرْجَل) فقلت: أَوَأْيَا، ثم جمعته فإنك تقول: أَوَاءٍ) فتبقى الواو على حالها بسبب بقاء موجب إبدالها على حاله، وهو اجتماع الهمزتين، وكذلك إن خلفت في الجمع علة أخرى فإنك لا تردُّ حرفَ اللين إلى أصله لما عرض في الجمع من المانع، ومثاله:(إيمان) و (إيلاف) / تقول في جمعه: أَوَامين وأَوَاليف، وكذلك كل (أفعال) مما الفاء فيه همزة، فالأصل: إِأْلاف وإِأْمَان، أُبدلت ياءً لأجل الهمزة، فلما جمعوها لم تُردَّ إلى أصلها؛ لبقاء موجب الإبدال وهو اجتماع الهمزتين.
وبالجملة فكل ما تقدم في التصغير جارٍ مثله في التكسير، فلذلك قال:
…
...
…
...
…
وحُتِمْ للجمع من ذا ما لتصغيرٍ عُلِم
أي هذا الحكم لازم في الجمع، لا انفكاك له عنه.
ويشمل كلام الناظم ما كان من ذلك مقيساً، وما كان سماعاً، ألا ترى أنهم قالوا: أعياد في جمع (عِيد)، وأصله الواو، وكذلك قالوا: مياثيق في جمع (ميثاق)، وأصل هذا أن التصغير جارٍ على التكسير، ولا سيما فيما كان على مثال (مَفَاعِل) و (مَفَاعِيل)؛ إذ هو مساوقٌ في بنائه لبناء التصغير، ولذلك حَمَلَ سيبويه (عُيَيْد) على
أعياد، وحمل ابن جني (مُيَيْثِيق) على مياثيق.
إلا أن في ظاهر كلام الناظم شيئاً يُشاحُّ فيه، وهو أنه أحال في إعطاء حكم التكسير على التصغير؛ إذ ذكر أن كل ما ثبت من هذا الحكم للتصغير فهو ثابت للتكسير، والذي بنى عليه النحويون العكس من حمل التصغير على التكسير، كما تقدم عن سيبويه وابن جني وابن خروف، وثبت ذلك عن غيرهما، وقد تقدم أيضاً سؤال ابن جني للفارسي في هذا، فصارت عبارة الناظم مخالفةً لهذه القاعدة، وإن كان المعنى والمحصول صحيحاً.
فالجواب: أن مراد الناظم ليس الحمل القياسي وهو الذي ذكره النحويون، بل التعريف بالحكم مجرداً، فكأنه يقول: الحكم في التكسير في هذه المسألة كالحكمِ في التصغير، ولا يلزم من هذا الحملِ القياسي، فلا مشاحَّةَ عليه في عبارته.
وقوله: (من ذا) يريد من هذا الحكم المذكور قريباً، فحرر عبارته وقيَّدها؛ لئلا يتوهم أن جميع الأحكام الثابتة للتصغير ثابتة كلها للتكسير، وهذا فاسد.
وقوله: (ما لتصغير عُلِم) يعني عُلِمَ من كلامه فيها وتقريره.
***
والمسألة الثانية من المسائل الثلاث التي ذكر الناظم في هذا الفصل في حكم الألف إذا كانت زائدة أو مجهولة الأصل، وذلك قوله:
والألفُ الثاني المزيدُ يُجعَلُ واواً كذا ما الأصلُ فيه يُجهَلُ
يعني أن الحرف [الثاني] إذا كان ألفاً مزيدة غير منقلبة عن أصل فإنك تقلبها عند التصغير واواً فتقول في (ضارب): ضُوَيرب، وفي / دابَّة: دُوَيَّبة، وفي (آدم) على أنه فاعل: أُوَيْدم، وكذلك ما كان نحوه.
ووجه ذلك أن أول الكلمة لا بد من ضمَّة، فلا بد من القلب فيها، وقلبها إما إلى الواو، أو إلى الياء، والقلب إلى الواو أولى لمناسبتها للضمة، ولذلك إذا سُهِّلَت الهمزة المفتوحة بعد الضمة صُيِّرَت واواً، وأما الياء فهي أبعد من الواو في هذا الموضع، ولذلك إذا حقَّروا مثل (شيخ) فرُّوا في أحد الوجهين إلى كسر الأول، فقالوا في (شيخ): شِيَيْخ، وقال بعض العرب في (ناب): نُوَيْب، فلم يعتبروا الأصل، وهو واجبُ الاعتبار، بل اعتبروا الضمة فأَتَوا لها بالواو، وهو مذهب الكوفيين.
فلما كان الأمر على هذا ذهبوا مذهب الاستخفاف، فقلبوا الألف واواً، فقالوا: ضُوَيرب، وقُوَيئم، ونُوَيمس في ناموس.
وإنما قيد الألف بكونه مزيداً؛ ليخرج الألف الأصلي عن هذا الحكم، أي المنقلب عن أصل كألف (مال) و (ناب)، فإن هذا الألف قد دخل في حكم الثاني اللين في المسألة الأولى.
وأما الألف الثالث فهو الذي نبَّه عليه بقوله:
كذا ما الأصل فيه يُجهلُ
(ما) واقعة على الألف الثاني؛ لأنه جعل الألف إذا كانت ثانية على وجهين: زائدةً، ومنقلبة عن أصل مجهول، وأما المنقلبة عن أصل معلومٍ فقد تقدَّم ذكرها، فيريد أن الألف الثانية إذا جُهل أصلها، فلم يُدْرَ أأصلها الواو أم الياء، فحكمها أن تُقلبَ واواً.
وقد يشعر قوله: (ما الأصل فيه يجهل) بأن المسألة عنده مفروضة فيما كان له أصل ثابت، لكن لم يدل دليل على كونه واواً أو ياء، فيخرج عنه ما ليس له من الألف أصل انقلبت عنه، بل هي أصول بأنفسها، كما إذا سميت بـ (ما) و (لا) و (ها) على مذهبه في التسهيل، وقد تقدم التنبيه عليه.
وعلى هذا المحمل يشمل كلامه ضربين:
أحدهما: ما كان من الأسماء المعربة المتصرف فيها مجهول الأصل نحو: (صاب) و (عاج)، وأظن أن ابن سِيده جعل من هذا (البان) الشجر المعلوم؛ إذ لم يدل عنه دليل على أصل الألف فيه.
ويجري مجراه على مذهب الجماعة ما إذا سميتَ بـ (ما) أو (لا) أو (ها) التنبيه، فأنت تقول: هذا ماءٌ ولاءٌ وهاءٌ، فتحكم على الألف بالانقلاب، لكن تكون مجهولة الاصل يمكن انقلابها عن الواو أو عن الياء، فمثل هذا تقول في تصغيره: بُوَين / ومُوَيّ ولُوَيّ وهُوَيّ، وكذلك إذا سميت بـ (غاق) أو غيره من أسماء الأفعال والأصوات.
والثاني: أسماء الحروف الموقوفة الجارية مَجرى الأصوات نحوه: كافْ، لامْ، زايْ، صادْ، ضادْ، قافْ، ونحو ذلك، فهذه الألفات من المجهول الأصل إذا جعلتها أسماءً للحروف فقلتَ: كافٌ ولامٌ وزايٌ ونحو ذلك كانت مجهولة الأصل فتقول فيها عند التصغير: كُوَيفٌ، ولُوَيْمٌ، وزُوَيٌّ، وصُوَيْدٌ، وضُوَيْدٌ، وقُوَيْفٌ، وإن شئت أنتث بالهاء اعتباراً بتأنيث الحروف. وإنما كان القلب فيها إلى الواو دون الياء لوجهين:
أحدهما: أن الواو أقرب تناسباً للضمة المتقدمة من الياء وأخفُّ نطقاً، فكان القلب إليها أولى كما تقدم فوق هذا.
والثاني: أن القاعدة المعتمدة عن المحققين أن الواو أغلبُ على العين من الياء. ذكر ذلك سيبويه واعتمده غيره.
قال ابن جني: لأنك إذا استقرأتَ اللغة وجدتها في أكثر الأمر كذا، ألا ترى إلى بابٍ ودارٍ وساقٍ وغارٍ وتاجٍ وصاعٍ فهذا كله من الواو، والياء في هذا الموضع قليلة.
وإذا ثبت هذا فالألف المجهولة الواقعة ثانية هي في موضع العين، فهي داخلة تحت حكم ذلك الغالب، وهو كونها واواً في الأصل، فترجع إلى أصلها.
وعلى هذا التقرير يردُ على الناظم هنا سؤالان:
أحدهما: أن نصه على ما الأصل فيه مجهولٌ حشوٌ لا فائدة فيه، وذلك أن النحويين حكموا على ما كان هكذا لم يعرف له أصل بأنه من الواو، لا من الياء، فإذن أصله عندهم معلومٌ، وإن لم يكن معلوماً باشتقاق ولا تصريف فهو معلوم بالكثرة، أو بالحمل على النظير، أو بغير ذلك من الأدلة المذكورة في علم التصريف الدالة على الأصالة والزيادة، وغير ذلك من الأمور التي هذا منها، وإذا كان كذلك فقد دخل له تحت قوله أولاً:
واردُدْ لأصلٍ ثانياً ليناً قُلِب
فإنه لم يُحل الناظن على الأصل إلا وهو معلوم بطريق من الطرق
المعرِّفَةِ بذلك، وهذا النمط معلومُ الأصل أيضاً بطريقٍ من تلك الطرق فشمله الكلام ولا بدَّ، فصار هذا النوع غير مفيد.
والثاني: على تسليم عدم دخوله تحت ما قدَّمَ فليس الحكم فيه مطلقاً كما يقتضيه نظمُهُ، بل الألف المجهولة تنقسم قسمين: مُمالةً، وغيرَ مُمالةٍ.
فغير الممالة هي التي يستتبُّ فيها ما ذكر من الحكم.
وأما الممالة فليس الحكم / فيها ما قال، بل تُعد كأن أصلها الياء، فتقلب ياءً كما قال ابن جني في (ما) إذا سمَّيتَ به، فإنك تقضي على الألف بأنها ياء، قال: لأجل الإمالة فيه، فجعل الألف كالمنقلبة عن الياء كما ترى، فتقول إذن في تحقيره: مُيَيّ، كما تقول في ناب: نُيَيْبٌ، وكذلك كل ما كان من الألفات الثواني مُمالاً، والإمالة سبب في قلب الألف ياءً والحكم عليها بذلك، ولذلك تقول في تثنية (متى) مسمًّى به: مَتَيَان لأجل الإمالة، وقد تقدم ذكرُ ذلك في باب التثنية.
وقد أمالوا الباء والتاء والثاء ونحوه بعدما أعربوها، وعاملوها
معاملة ما ثانيه ياء بحق الأصل لما كانوا قد أمالوها قبل الإعراب حين قالوا: با، تا، ثا، ثم بنوا ذلك على أن قالوا: يَيَّيْتُ باءً حسنةً، وتَيَّيْتُ، وحَيَّيْتُ، ونحو ذلك؛ لأجل ما تقدم لهم فيها من الإمالة ولم يحكموا للألف بحكم ما أصله الواو، فيقولون: بَوَّيْتُ، وتَوَّيْتُ، وحَوَّيْتُ، وإذا كان كذلك كان الواجب على مقتضى القاعدة أن يقولوا في التصغير: بُيَيّ، وتُيَيّ، وحُيَيّ ولا يقولوا: بُوَيّ، وتُوَيّ، وحُوَيّ.
وظهر أن إطلاق كلام الناظم مشكلٌ ومعترضٌ.
والجواب عن السؤال الأول أن الألف المجهولة عند أهل العربية هي ما لم يقم دليلٌ عليه من اشتقاق أو تصريف؛ لأن الاشتقاق والتصريف هما أصلا جميعِ الأدلة، وإليهما يُرجَعُ، على ما بينتُهُ في كتاب الاشتقاق.
فإذن كل ما لم يقم دليل على تعيين أصله من الألفات يسمى مجهول الأصل اصطلاحاً منهم، ثم بعد ثبوت هذا الأصل نظروا إلى الأكثر في تلك الصفات، فعاملوا المجهولة تلك المعاملة، فقضوا عليها بأنها [من الواو مع أنها] لم تخرج عن حقيقة كونها مجهولة؛ إذ
دليل الكثرة شبهيٌّ، وعلى هذا السبيل جرى الناظم فسماها مجهولة الأصل اعتباراً بفقد أحد الدليلين الأصليين، وحكم بمقتضى ما أصَّلُوهُ فيها، فبنى على حكم الواو فيها، فقلبها في التصغير واواً؛ لأن هذا حكم ما أصله الواو من الألفات الثواني، فلم يخرج عن طريقهم.
والجواب عن السؤال الثاني أن اعتبار الإمالة غير متفق عليه في الحكم بكون الألف ياء، بل أطلقوا القول في القاعدة، ولم يستثن سيبويه منها ممالاً من غيره، وكذلك فعل الفارسي، فلذلك لما ذكر ابن جني / فيما تقدم قال: قياس قول أبي علي أن يكون من الواو، يعني لأجل أن الواو على العين أغلب؛ لأن باب (طَوَيْتُ) كثيرٌ جداً، وباب (عَيِيتُ) قليلٌ، والحمل على الأكثر واجب، لكن لما كانوا قد أمالوا هذه الحروف تصرفوا فيها على ذلك الحكم فقالوا: بيَّيْتُ وحّيَّيْتُ، فلما كانت الإمالة ليست إلا للإعلام بأن تلك الألفات كانت قبل النقل ممالة، لا لأن أصلها الياء لم يبق فيها دلالة على الياء، كما لم يكن فيها دلالة عليها في (بَلى) و (لا) في قولهم:(إمَّا لا) ونحو ذلك، فتصح إذن دعوى الانقلاب عن الواو بهذا النظر.
على هذا المعنى اعتمد ابن جني في ترجيح قياس أبي علي، وهو
مبسوطٌ في سر الصناعة، فقضى الناظم بذلك أيضاً، وترك اعتبار ذلك التصرف، وهو جواب مقدوح فيه؛ لمصادمته السماعَ وكلام النحويين في اعتبار الإمالة في التثنية ونحوها.
وعلى الجملة فالسؤال هنا قوي الإيراد، والله أعلم.
***
المسألة الثالثة: في حكم الاسم المنقوص في التصغير، وما يردُّ لأجله من المحذوف وما لا يردُّ، وذلك قوله:
وكمِّلِ المنقوصَ في التصغير ما لمْ يُحْوِ غير التاء ثالثاً كَمَا
إنما تكلم المنقوص وترك غير المنقوص؛ لأنه لا إشكال فيه.
قوله: (في التصغير) متعلقٌ بـ (كَمِّلِ) أي: كمِّل في التصغير المنقوص إلى آخره، ويعني بهذا الكلام أن الاسم المصغر على ضربين:
أحدهما: ما كان منقوصاً منه حرف، ولم يحر حرفاً ثالثاً، أي هو بعد النقص على حرفين فقط، لم يبق بعد النقص على أكثر من حرفين.
والثاني: أن يحوي ثالثاً، وإن كان منقوصاً.
فأما الضرب الأول وهو الباقي على حرفين فلا بد من تكميله وتصييره على ثلاثة أحرف كما كان قبل النقص؛ لأن بنية التصغير لا تقوم بأقل من ذلك؛ إذ كانت ياؤه لا تقع إلا ثالثة، وبعدها حرف
يقع عليه الإعراب، ولا يمكن ذلك في أقل من ثلاثة أحرف دونها؛ إذ لو وقع الإعراب في الياء لاعتلَّت واختلَّت دلالتها، فلا بد من الرد لذلك.
وأما الضرب الثاني وهو الذي بقي بعد النقص على أكثر من حرفين فلا يرد إليه شيءٌ؛ لأن الرد إنما هو للضرورة المتقدمة، ولا ضرورة مع وجود حرف ثالث يقع عليه الإعراب، وتسلم به ياء التصغير، فلذلك قال الناظم:(ما لم يحوِ ثالثاً) أي: فإن حوى ثالثاً فلا تُكمِلْهُ.
هذا ما أراده على الجملة، وإذا رجعنا / إلى تفصيل ما أراد بهذا الكلام فنقول: النقص المراد عنده يحتمل في بادي الرأي أحد وجهين:
أحدهما: أن يريد النقصَ العرفي المشهور عند النحاة، وهو حذف الحرف الآخر خاصَّةً كيَدٍ ودَمٍ وهَنٍ، ونحو ذلك، وقد يُرشد إلى هذا تمثيله بما في آخر الشطر الثاني، وعلى هذا الوجه لا إشكال في صحة ما قال، فتقول على هذا في الثنائي الذي لا بدَّ من الرد فيه: في (يدٍ): يُدَيَّة، وفي (دمٍ): دُمَيٌّ، وفي (سنة): سُنَيَّةٌ على من قال: سَانَيْتُ، وسُنَيْهَةٌ على من قال: سَانَهْتُ، وكذلك عُضَيَّة، أو عُضَيْهَة، وكذلك ما أشبهه.
والثاني: أن يريد ما هو أعمُّ من ذلك وهو النقص اللغوي مطلقاً: كان النقص [من] الآخر أو من غيره. وكلامه أيضاً على هذا المنزع صحيحٌ؛ لأن الحكم واحد في المحذوف الفاء أو العين أو اللام؛ لأن الضرورة داعيةٌ إلى الرد كما تقدم.
ولا يقدح في هذا الوجه تمثيله بـ"ما"؛ لأنها مثال من أحد أقسامه، لكن حملُ كلامه على هذا الثاني أولى؛ لاشتماله على ما هو ضروري الذكر، بخلاف الأول فإنه قاصر عن ذلك، إلا أنه على غير إطلاق العرفي، وهذا قريبٌ.
وعلى هذا الإطلاق الثاني جرى في التسهيل؛ إذ قال: "ويُتوصَّلُ إلى مثال (فُعَيل) في الثنائي بردِّ ما حذف منه إن كان منقوصاً"، ثم قال:"وإن تَأَتَّى (فُعَيلٌ) بما بقي من منقوص لم يُردُّ إلى أصله"، وأشار إلى نحو (ناسٍ) و (هارٍ) إذ أصله:(أناسٌ) و (هائرٌ) فحذف منه غير الأخير.
وأما ما نقص من أوله حرفٌ فنحو: (عِدَةً) و (زِنَةٍ) و (رَقَةٍ) وبابه تقول فيه: وُعَيْدَةٌ، ووُيْنَةٌ، ووُرَيْقَةٌ، وفي (شِيَةٍ): وُشَيَّةٌ،
وفي (خُذْ) و (كُلْ) مسمًّى بهما: أُخَيْذٌ، وأُكَيْلٌ، وما أشبه ذلك.
وأما ما نقص من أوسطه حرفٌ فنحو (سَهٍ) تقول فيها: سُتَيْهَةٌ، وفي (مذ) مسمًّى به: مُنَيذٌ؛ لأنه عند سيبويه محذوفٌ من (منذ)، وكذلك إن سمَّيتَ بـ (سَلْ) ثم صغَّرته قلتَ: سُؤَيْلٌ، على أن (سل) أصله من الهمز، لا من الواو.
وهذا التكميل الذي ذكره الناظم يحتمل وجهين أيضاً:
أحدهما: ما فسَّرتُهُ به من تكميله بالحرف المحذوف الذي من أصل الكلمة، وهو صحيح جار على كلامه في التسهيل وكلام غيره.
الثاني: أن يريدَ به أنه يُؤتَى بحرفٍ مكمل على الجملة من غير اعتبار بكونه من أصل الكلمة أو لا، وإنما القصد أن تصير به الكلمة ثلاثية، فإن كانت الكلمة محذوفاً منها فذاك، وإلا أتيَ بحرف مكمِّلٍ لا ينسب / إليها كالأسماء المبنية والحروف التي على حرفين، ولا شكَّ أن مثل هذا مرادٌ له، ولذلك مثل بـ (ما) في قوله:
…
...
…
... ما لم يحْوِ غير التاء ثالثاً كما
حسبما يأتي التمثيل فيه إن شاء الله تعالى.
وإذا كان كذلك ففي إطلاقه التكميل نظر؛ فإنه لم يقيد ذلك، فيقتضي أنك تكمِّلُ الاسم بمكمِّل، أيِّ مكمل كان، لا يعتبر فيه كونه من أصل الكلمة أو من غيرها، فيجيء من ذلك نحو ما حكى
الأخفش عن حماد بن الزبرقان النحوي أنه قال في النسب إلى (شِيَة): شِيَوِيٌّ، فقياسه في التصغير شُوَيَّةٌ، فيؤتى إذن بحرف أجنبي من الكلمة تكمَّلُ به، ويطَّرِدُ هذا في جميع ما تقدم، وهو غير صحيح، فإن ما حكى في النسب لا يقاس عليه.
قال ابن الضائع: لاختصاص النسب بتغييرٍ كثير لا يجوز في غيره، فالوجه أن يقال: وُشَيَّةٌ، وكذلك تقول في النسب: وِشَوِيٌّ، أو وِشْيِيٌّ، وقد أشار إلى هذا الرأي سيبويه في النسب، واحتجَّ على فساده بأشياءَ منها التحقير.
فهذا المذهب واردٌ على عبارة الناظم أن يؤخذ منها؛ إذ يقال: لو قصد ما عليه الناس لقيد الحرف المكمِّلَ بكونه هو المحذوفَ في الأصل، ولم يفعل ذلك، فكان فيه إشكالٌ.
والعذر عن هذا أنه قصد إدخال الضربين معاً، وهما المكمَّلُ بما هو من أصل الكمة، والمكمَّلُ بحرف خارجي إذا لم يكن لها أصل سوى ما ظهر، فلم يقيد ذلك ليدخلا معاً، وكأنه أحال في التكميل من أصل الكلمة على ما هو المعروف المتداول عند النحاة، أو ترك ذلك اتكالاً على بحث الباحث وإفادة المعلِّم.
وأما الثلاثي المنقوص منه حرف كـ (ناسٍ) و (هارٍ) أصله: أُنَاس، وهائِرٌ، فقد أعطى كلامه بمفهومه حكمه؛ إذ قال:(ما لم يحو غير التاء ثالثاً) مفهومه أنه إن حوى ثالثاً فلا تكمله بما حذف منه، وعلى هذا تقول في (ناسٍ): نُوَيس، وقد رواه الفراء هكذا عن الكسائي، لكنهم استدلوا به على أنه ليس بمحذوف من (أناس)، خلاف ما ذهب إليه سيبويه منه محذوف منه.
وتقول في (هارٍ): هُوَير، وفي (مَيْت): مُيَيْتٌ، وفي (هَيْنٍ): هُوَيْن، وفي (يَضَع) (ويَعِدُ) مسمى بهما: يُضَيْعٌ ويُعَيْدٌ، وفي (خيرٍ منك) و (شرٍّ منك): خُيَيْرٌ منك، وشُرَيْرٌ منك، وكذلك في (كَيْنُونة) و (قَيْدُودة): كُيَيْنِينَة، وقُيَيْدِيْدَة، ولا ترد المحذوف فتقول: كُوَيْنِيْنَة، وقُوَيْدِيْدَة، وكذلك كل ما / كان منقوصاً وبقي منه ثلاثةٌ فأكثر. وما ذهب إليه هو مذهب سيبويه والجماعة، وذهب أبو عمرو بن العلاء إلى أنه لا بدَّ من الرد، فتقول في (ناس):
أُنَيِّسٌ، وفي (هار): هُوَيْئِرٌ، وكذلك تقول في (يرى) - مسمى به -: يُرَيْءٌ ٍ، وله من الحجة أمران:
أحدهما: أن من شأن التصغير أن يرد الأشياء إلى أصولها كما تقرر باتفاق في الثنائي كـ (يدْ) و (دمٍ)، فكذلك ينبغي فيما كان منقوصاً مثله.
ورُدَّ هذا الاحتجاج بأن رد الشيء إلى أصله في التصغير ليس لأجل التصغير من حيث هو كذلك، بل لأجل الضرورة الداعية إلى الرد، وذلك في الثنائي لكمال بنية التصغير كما تقدم، وأيضاً فإن العرب لم تردَّ حين قالت: نُوَيْسٌ في ناس حسبما حكاه الفراء عن الكسائي.
والثاني: ما حكاه سيبويه عن يونس عن العرب أنهم يقولون في (هارٍ): هُوَيْئِرٌ على مثال (هُوَيْعِرٍ). وهذا نص في موضع الخلاف، فيقاس عليه ما عداه.
ورُدَّ هذا الاحتجاج بثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذا السماع غير متفق عليه عند العرب، وإنما هو شيء منقول عن ناس منهم، قال سيبويه: وزعم يونس أن ناساً
يقولون هُوَيئر على مثال (هُوَيعر). فلم ينقله إلا عن بعض العرب، وذلك لا يكون حجة على جميع العرب.
والثاني: أن ما سُمِع من ذلك نادر شاذ لا يبلغ مبلغ القياس عليه، فلا يبنى عليه قاعدة، وأيضاً فهو مؤوَّل. قال سيبويه - بعد الحكاية -:"فهؤلاء لم يحقروا هاراً، وإنما حقروا هائراً، كما قالوا: رويجل كأنهم حقروا راجلاًن وكما قالوا: أُبَيْنون وأُنَيْسان، قال: إلا أن تسمع شيئاً من العرب فتؤديه، وتجيء بنظائره مما ليس على القياس".
وأبينون وأنيسان تصغير لابن وإنسان على غير قياس، لكن على تقدير واحد غي مستعمل، كأنهم صغروا (أبنَى) و (إِنْسِيَان)، فكذلك القول في (هُوَيئر). وإذا احتمل هذا التأويل لم يكن فيه دليل.
والثالث: المعارضة بقول العرب في (ناس): نُوَيس، فهو إما أن يقول فيه: أُنَيِّسٌ، فيخالف العرب، وإما أن يقول: نُوَيْسٌ، فيخالف قاعدته، ومن هنا رد عليه سيبويه حين حكى عنه هذا المذهب قال: فهو ينبغي له أن يقول: مُيَيْتٌ يعني في (ميت) مخففاً، وينبغي له أن يقول في (ناس): أُنَيِّسٌ؛ لأنهم إنما حذفوا ألف (أُنَاس). فقد ظهر وجهُ ما ذهب إليه الناظم /.
ثم استثنى من القسم الثاني الذي لا يرد فيه المحذوف إلا أن يكون الحرف الثالث الذي يكمل به الاسم المصغر تاء، وذلك قوله:(ما لم يحو غير التاء ثالثاً) وهو استثناء من ثالث مقدم عليه، فكأنه يقول: إن حَوَى ثالثاً فلا تكمِّلْهُ، إلا أن يكون الحرف الثالث تاء، ويعني تاء التأنيث فإنه لا بد من التكميل بردِّ المحذوف. والتاء المستثناة تاءان:
إحداهما: التي تسمى الهاء نحو: ضاربة، وقائمة، فهذه التاء لا يعتد بها، فتقول في (شية) و (عدَة): وُشيَّةٌ، ووُعَيْدَةٌ، فترد المحذوف؛ لأنها في تقدير المنفصل عن الكلمة، ولذلك تشبه بالاسم الثاني من المركبين، وتعامَل بتلك المعاملة، وقد قرر الناظم هذا المعنى أول الباب إذ قال:
وألف التأنيث حيث مُدَّا وتاؤه منفصلين عُدَّا
والثانية: التاء اللاحقة لأخت وبنت وهُنْت فإنها وإن كانت قد بنيت الكلمة عليها، وصارت ملحقة لبنات الاثنين ببنات الثلاثة أصلها أن تكون للتأنيث، ولذلك يطلق عليها سيبويه في بعض المواضع أنها للتأنيث، وإن كان ذلك تجوَزاً منه اعتباراً بأصلها، وقد
بين حقيقتها في غير موضعٍ من كتابه، وأنها كتاء (سَنْبَتَة) وتاء (عفريت).
لكن الناظم اعتبر أصلها، وأنها كانت قبل الحذف للتأنيث، وإطلاقُ لفظ الإمام عليها أنها للتأنيث فشملها لفظه هنا، وكذلك في قوله:
وتاؤه منفصلين عُدَّا
فتقول هنا في التصغير: أُخَيَّة، وبُنَيَّة، وهُنَيَّة، فتردُّ المحذوف، ولا تجتزَئ بها اعتباراً ببناء الكلمة عليها؛ لأن ذلك غير معتبر عندهم، وكذلك سكون ما قبلها غير معتبر في هذا المعنى، نظراً إلى أصلها، وإلى أنها لا تثبت في نسبٍ ولا جمعٍ بالتاء، فلها عندهم حالان مختلفان، واعتبر الناظم أحدهما وهو الحال القَبْليَ.
ولو قال كما قال في التسهيل: "ولا اعتداد بما فيه من هاء تأنيث أو تائه" ففصل إحداهما من الأخرى لكان أبين.
لكن حين جعل التاء للتأنيث في التسهيل اجتزأ بهذا الاشتراك كما تقدم.
وعليه في إيراد هذا الحكم سؤال وهو أنه يقتضي أن ما كان من
الأسماء منقوصاً، وكان له في اللفظ ثالث هو ألف الوصل فإنه [لا] يرد إليه ما حذف منه، بل يجتزأ بذلك الثالث في إقامة بنية التصغير، فكنتَ تقول في (ابن): أُبَيْنٌ، وفي (اسم): أُسَيْم، وفي (استٍ): أُسَيْت، وفي (ابنة): أُبَينة، وكذلك ما أشبهه، وهذا حكم فاسد؛ لأن ألف الوصل / لا حكم لها في الكلمة من حيث كان الإتيان بها لأجل الابتداء بالساكن، فلما كان أول المصغر وثانيه يتحركان كان من الضرورة سقوط ألف الوصل، فيبقى على حرفين، فلا بدَّ من رد اللام، فكان من الواجب كما استثنى التاء أن يستثنيَ ألف الوصل أيضاً.
والجواب أن سقوط ألف الوصل مأخوذ من بابه، لا من ههنا؛ إذ هو حكم من أحكامها، فذكره مختص بباب ألف الوصل فلا اعتراض عليه بذلك.
وأما تمثيل بـ (ما) في قوله:
ما لم يحوِ غير التاء ثالثاً [كما]
فإنه راجع إلى المنقوص الذي لم يحوِ ثالثاً وهي كلمةٌ ثنائية: حرفٌ، أو اسمٌ، وقصد التمثيل به أن ما يكمل من الأسماء الثنائية على قسمين:
أحدهما: ما كان محذوفاً منه في الأصل الاستعمالي، وأصله الأول القياس التام، ثم حُذف كيَدٍ، ودمٍ وثُبَةٍ، وشِيَةٍ، ونحو ذلك مما تقدم، فإن الأصل القياسي فيها أنها ثلاثية، ثم استُعملت محذوفة، وهذا الذي تقدَّم التمثيل به.
والثاني: ما لم يكن محذوفاً منه في أصله القياسي، ولا الاستعمالي، بل كان في الأصل ثنائياً نحو مثاله المذكور، لأنَّ (ما) موضوعة في الأصل وضع الحرف، فليس لها أصل، فإذا سُمّيَ بها ثم أريد التصغير فلا بد من تصييرها إلى القسم الأول تقديراً؛ لأنها قد صارت في حزب الأسماء المعربة، وليس في الأسماء المعربة ثنائي إلا وهو محذوف منه في الأصل، فيقدَّرُ هذا كذلك منقوصاً، فيرد إلهي ما قدر حذفه منه، وهو ياءٌ في الآخر، أو واوٌ، والياء أولى؛ لأنها أكثر فيما حذفت لامه من الأسماء.
فإلى هذا أشار بمثاله؛ وذلك لأن التصغير لا يصح في (ما) وهي على حالها، فلا بد أن يحمل على حالةٍ يصح فيها التصغير، وذلك لا يكون إلا بعد التسمية بها، فأطلق عليها لفظ المنقوص اعتباراً بصيرورتها عند التسمية إلى حكمه، وأتى في التمثيل بها اتكالاً على
فهم هذا المعنى، وهو من المواضع المشكلة على المشتغلين بهذه الأرجوزة، وقد نبه في التسهيل على هذا المعنى إذ قال:"يتوصل إلى مثال فُعَيل في الثنائي برد ما حذف منه إن كان منقوصاً" يعني في أصله الاستعمالي عن كماله في الأصل القياسي، قال:"وإلا فإلحاقه بدم أولى من إلحاقه بأبٍ" اهـ أي: وإن لم يكن منقوصاً في أصله الاستعمالي عن أصله القياسي، فلم يُعلم له أصل حذف منه فإلحاقه بما حذف لامه وهو ياء مما حذف لامه /، وهو واوٌ؛ لأن الياء على ما حذف لامه أغلب. فأطلق الناظم على مثل هذا المثال لفظ المنقوص؛ لأنه صار بعد التمسية كالمنقوص، وذلك ظاهر. فتقول - إذن - في (ما): مُوَيٌّ، وفي (مَن): مُنَيٌّ، وكذلك في (مِن)، وفي (عَن): عُنَيٌّ، وفي (كم): كُمَيٌ، وما أشبه ذلك.
بخلاف (إنْ) المخففة من إنَّ، أو (أنْ) المخففة من أنَّ، أو (قطْ) أو (رُبْ) أو نحو ذلك، فإنها من القسم الأول الذي له أصل يرد إليه بعد التسمية إذا صُغِّر، فتقول: : وقُطَيط ورُبَيب؛ إذ أصلها التضعيف وإن كان في حال الحرفية، فترد إليه، وهذا ظاهر.
إلا أن على كلام الناظم بهذا التفسير اعتراضاً وهو أن (ما) الممثل
بها لا يصلح التمثيل بها فيما قصد، وذلك لأنها كلمة على حرفين آخرهما حرفُ لين، والقاعدة: أنَّ كل ما كان مثل هذا لا يبقى في التسمية على حالته الأولى، بل يزاد على ألف مثلها، فتقلب همزة بسبب اجتماعها مع الألف الأولى، والتقائهما ساكنين، على ما هو مقرر في موضعه، وإذا ثبت ذلك فإذا اعتقد في (ما) أنها اسمٌ لشيء ما لزم مدُّها، فتقول:(هذا ماءٌ يا فتى) وحينئذ يقع عليه التصغير؛ إذ لا يكون مبنياً على التكبير، والاسم حالة التكبير غير نقوص، لأنه على ثلاثة أحرف؛ لقولهم: ماءٌ لاسمِ الماء المعلوم، وكقولك: ثاءٌ وباءٌ وتاءٌ أسماء الحروف، فإذا صُغِّر لم يحتج إلى التكميل؛ لأنه في المكبر كامل، فصار التمثيل غير صحيح على هذا التقدير، وإنما كان يطابق المسألة أن يمثلها بهَلْ وبَلْ وأَمْ ومِنْ وعَنْ، ونحو ذلك مما إذا سمي به بقي على لفظه ثنائياً، كما كان قبل التسمية، فثبت أن هذا التمثيل في غاية الإشكال، ولا يسوغ أن يعتذر عنه بأنه لم يقصد إلا مجرد الثنائي من غير نظرٍ إلى خصوص (ما)، بل يكون كأنه قال: كالأدوات التي جاءت على حرفين، فيشمل هل وبل ومِنْ وعن وغير ذلك من المُثُل التي يصحُّ الكلام على فرضها؛ لأنا نقول: هذا بعيدٌ عن طريقته في التمثيل، إذ قد تقرر غير ما مرة أنه يأتي بالمثل عوضاً من التقييدات، ويذكرها في معرض الاشتراط؛ لاشتمال المُثُل على
تلك الشروط، وتأمل ما تقدم له في المعرب والمبني من قوله:
كالشبه الوضعيِّ) / في اسمَي جِئْتنا
وقصده الإتيان بـ (نا) التي هي على حرفين أحدهما لين.
وإذا كان من طريقته ما ذُكر لم يَسُغ حمل كلامه على خلافه.
ثم إن سلمنا ذلك فيقال له: هل يدخل لك في جملة المثُل ما مثَّلتَ به أو لا يدخل؟
فإن قال: لا يدخل كان ذلك فاسداً أن يأتي بمثال غير مطابق لمسألته، وإن قال: نعم كان تسليماً، للإشكال.
فعلى كل تقدير لا يصحُّ هذا التمثيل.
فلو قال - مثلاً -:
وكمِّل المنقوص في التصغير إنْ لم يَحوِ غيرَ التاء ثالثاً كَمِنْ
لاستقام ولم يكن فيه إشكال ولا مقال.
***
ومنْ بترخيمٍ يُصغّرِ اكتَفَى بالأصل كالعُطَيْفِ يعني المِعْطَفَا
هذا هو الكلام في تصغير الترخيم، وذلك أن التصغير على وجهين:
تصغيرٌ على اعتبار حروف الكلمة: أصولاً كانت أو زوائد، وهو عامٌّ التصغير، وهو الذي تكلم عليه من أول الباب إلى هنا.
وتصغيرٌ على اعتبار أصول الكلمة، وعدمِ اعتبار زوائدها، وهو تصغير الترخيم الذي شرع في الكلام عليه.
وإنما سُمِّي تصغير الترخيم لما فيه من الترخيم اللغوي وهو التسهيل؛ لأن حذف الزوائد تسهيلٌ للكلمة على النطق بها، ومن الترخيم الاصطلاحي وهو جعل الاسم المزيد فيه مجرداً من الزيادة، كأنه لم يستعمل إلا دون زيادة.
وقوله:
ومَن بترخيم يصغِّرِ اكتفَى
(مَن) فيه شرطية، و (يصغِّرِ) مجزومٌ، والجواب (اكتفى)، وهو جوابٌ بالفعل الماضي بعد كون فعلِ الشَّرط مضارعاً، وهو جائز عند الناظم نحو:
مَن يَكِدْني بسيئٍ كنتُ منهُ كالشَّجا بين حَلْقِهِ والوَريدِ
ويحتمل أن تكون (من) موصولة، و (اكتفى) خبرها؛ لأنها في موضع رفع على الابتداء، وهي واقعة: إما على العرب الذي يفعلون ذلك، فكأنه يقول: والذي لغته من العرب أن يصغَّر تصغير الترخيم
فإنه يكتفي بالأصل، وهذا لأن بعضهم يحكي أن ذلك لغة لبعض العرب، وأن منهم مَن يحذفُ الزوائدَ كلها، ويردُّ الاسم إلى أصله.
وإمَّا على مريد التصغير، وهو الأظهر، فكأنه يقول: مَن أراد أن يصغِّرَ تصغير الترخيم، فإنه يفعل كذا وكذا، وكأنه جعل ذلك إلى خيرة المصغر: فإن أراد تصغيره على الوجه الأعمِّ فَعَل، وإن / أراد على هذا الوجه الأخص فذلك أيضاً جائز.
وعلى طريقة التخيير أتى به سيبويه إذ قال: "اعلم أن كل شيء [زِيدَ] في بنات الثلاثة فهو يجوز لك أن تحذفه في الترخيم حتى تصير الكلمة على ثلاثة أحرف؛ لأنها زائدة فيها، وتكون على مثال (فُعَيل) "، ثم مثل ذلك، ثم ذكر أن بنات الأربعة بمنزلة بنات الثلاثة في ذلك.
وأما الوجه الأول وهو أن تكون (مَنْ) واقعة على العرب فهو سائغ، ويكون قوله:(اكتفى) بياناً لكيفية ترخيمهم للاسم المزيد فيه.
ثم إن قوله: (بالأصل) يشتمل على مسائل ثلاث:
إحداها: ما أعطى صريحه ومفهومه وهو أنك تحذف في هذا
التصغير الزوائد، وتبقي الحروف الأول وحدها، فتقول في تصغير (حارث): حُرَيْث، كأنك تصغر (حَرْثاً)، وفي (أسود): سُوَيْد، وفي (خارج): خُريج، وفي (استضراب): ضُرِيْب، وفي (تكرم): كُرَيْم، وكذلك ما أشبهه، وسواء في هذا الحكم أكان الاسم ثلاثي الأصول أم رباعيها. الحكم في الجميع واحد، فتقول في (دِحراج): دُحَيرِج، وفي (قربوس): قُرَيْبس، وفي عصفور: عُصَيْفِر، وفي (قنديل): قُنَيْدِل، ونحو ذلك.
والثانية: إطلاق القول في كل زائد حُكِمَ بزيادته على الإطلاق، وهذا يشمل نوعين من الاعتبار:
أحدهما: شموله ما كان: مما يدل على معنى، أو لا يدل عليه، فالحكم سواءٌ في مقتضى كلامه، فتقول على [هذا] في (حبلى): حُبَيل، وفي (زكرياء): زُكَيْرٌ، ونحو ذلك، فتحذف الألف وإن كانت دالة على التأنيث؛ لأنها زائدة على أصول الكلمة.
والمسألة مختلف فيها على ما أشار إليه ابن هانئ في "شرح التسهيل":
فمن النحويين من ذهب إلى ما ذهب إليه الناظم هنا من جواز حذف الزوائد مطلقاً. ومنهم من منه ذلك.
والذي يقوله ابن أبي الربيع: أنه يستثنى من حذف الزوائد تاء التأنيث، وهذه متفق عليها، وألف التأنيث وهمزته، وعلامتا التثنية والجمع المسلم، وألف (أفعال) في جمع التكسير.
فإن كان الخلاف على ما أشار إليه ابن هانئ فلِمَن يحتج لمذهب الناظم أن يقول: إن القصد المفهوم من العرب في تصغير الترخيم لا يتم إلا بشمول حذف الزوائد من غير استثناء؛ إذ لم يقصدوا إلى حذف بعضها دون بعض، وإنما قصدوا إلى خلوص الأصول عما عداها، وهذا القصد إنما يحصل بحذفِ كل زائد في الكلمة من غير استثناء شيء، وانظر إلى محافظتهم على هذا الغرض حيث حذفوا في / هذا التصغير بعض الأصول الشبيهة بالزوائد، وذلك قولهم: بُرَيْهٌ وسُمَيْعٌ في إبراهيم وإسماعيل فاعتبروا مجرد الاشتراك اللفظي، فحذفوا ميم إبراهيم، ولام إسماعيل لما اشتركتا لفظاً مع حروف الزيادة، وإن لم تكونا هنا زائدتين.
فإن قال صاحب المذهب الآخر: إن حذف حرف المعنى إخلال بالكلمة كما أن حذف الحرف الأصلي إخلال بالكلمة، بخلاف الزائد الذي لا يدل على معنى فإنه غير مخل.
فالجواب: أن هذا غير لازم؛ إذ لو اعتبر هذا لم يصح تصغير ترخيم، من حيث كانت الأبنية قد تدل على معنى مع الزيادةـ ولا تدل عليه دونه، فتحذف الزائد فيكون ذلك (إخلالاً) بمعنى البنية، ولم يمنع ذلك من جواز هذا التصغير كضارب وقائم ومستخرج، ونحو أسماء المصادر والزمان والمكان نحو: مَضْرِب، ومَخْرَج، وما أشبه ذلك.
وإذا ثبت هذا وأنه غير معتبر باتفاقٍ مع ثبوت الإخلال بمعنى ما متعلقٍ بالزوائد فكذلك ما ذكرتم.
والنوع الثاني: شموله ما كان من الزوائد من سألتمونيها، أو من الزائد بالتضعيف. والحكم واحدٌ أيضاً، فتقول في (ضَفَنْدَد): ضُفَيْدٌ، فتحذف النون وإحدى الدالين، وكذلك في (خَفَيْدَد):
خُفَيْدٌ، وفي (مُقْعَنْسِسٍ): قُعَيْسٌ، وفي (مُسْحَنْكِك): سُحَيْكٌ، وما أشبه ذلك. حكى إجازة هذا الوجه سيبويه عن الخليل.
والمسألة الثالثة: منه حذف الحرف الأصلي؛ لقوله: (اكتُفي بالأصل) أي فهو الباقي الذي تقوم به بنية التصغير، وهذا إنما يتصور في الرباعي فتقول في (فَقْعَس): فُقَيْعِس، وفي (جَعْفَر): جُعَيْفِر، ولا تحذف منه شيئاً؛ لأن العرب لا تتجرأ على حذف الأصلي فراراً من الإخلال بالبنية من غير ضرورة، اللهم إلا أن يكون الاسمُ خماسياً لا تقوم مع كماله بنية التصغير فإنه يحذف، وليس بمخصوص بالترخيم، بل يجري في التصغير كله، وقد تقدم ذلك.
فإن جاء ما حذف منه الأصلي فشاذٌ محفوظٌ، نحو ما حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع في إبراهيم وإسماعيل بُرَيهٌ وسُمَيْعٌ، والقياس على مذهب سيبويه في هذا التصغير: بُرَيْهِيْمٌ وسُمَيْعِيْلٌ، حكماً منه على الهمزة بالزيادة، وعلى مذهب المبرد: أُبَيْرِيْهٌ، وأُسَيْمِيْعٌ بناء على أنها أصلية.
ووجه الترخيم في ذلك تشبيه الحرف الأصلي بالحرف الزائد؛ إذ كان على لفظه، فكأنه توهم زيادته فحذفه.
وتمثيله بالمِعْطَف / وتصغيره عُطَيْفاً تنبيهٌ على مسألة رابعة، وذلك أنه مثَّل باسم نكرة، وهو المعْطَف فدل على أن هذا الترخيم عنده جائز فيها، لا يختص بالأعلام، فتقول في (أسْوَد): سُوَيْدٌ، وفي (قائم): قُوَيْمٌ، وفي (آكل): أُكَيْلٌ، كما تقول في (حارث): حُرَيْثٌ، وفي (فاطمة): فُطَيْمَةٌ، وفي (عامر): عُمَيْرٌ. هذا مذهب البصريين.
ونقل عن الفراء أن العرب إنما تفعل ذلك في الأسماء الأعلام خاصة، وأما غيرها فلا يُصغَّرُ إلا على غير الترخيم.
وهذا الذي قاله البصريون يفتقر إلى سماع.
وقيل: إن قول الفراء هو المشبه والقياس، قال ابن الضائع: بل لا ينبغي أن يُعدَلَ عنه إلا بسماع بيِّنٍ، ألا ترى أن الترخيم في النداء لا يكون إلا في الأعلام، ثم ذكر ما نقل من قولهم:(عَرَفَ حُمَيْقٌ جَمَلَه) وهو تصغير (أْحْمَق)، وليس بعَلَم، وحُكَيَ أيضاً في مثل:(يجري بُلَيْقٌ ويُذَمَ) وهو كالأول.
ومن حجة الفراء أن يقول: هذا مثل فلا يقاس عليه.
ولكن زعم سيبويه عن الخليل أنه جائز في كل اسمٍ مَزيد، فإن كان قياساً منه على ما ورد في الأعلام فضعيف، ويبعد أن يكون ذلك قياسا منهم مع كثرة محافظتهم على الوقوف مع السماع، بل لا بد لهم في هذا من أصل سماع يرجعون إليه مما لم يحفظه الفراء. والله أعلم.
والضمير في (يعني) عائد على (مَن) في قوله: (ومن بترخيم يُصغَّر). والمعطف في اللغة العطف، وهو الجانب من كل شيء، وعِطْفَا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى وركيه.
***
واختمْ بتا التأنيث ما صغَّرتَ من مؤنثٍ عارٍ ثلاثي كَسِنْ
ما لم يكن بالتا يرى ذا لبسِ كشجرٍ وبقرٍ وخمسِ
وشَذَّ تركٌ دون لبسٍ ونَدَرْ إلحاقُ تا فيما ثلاثيا كَثُرْ
قد تقدم أن المؤنث بالتاء لا تحذف منه في التصغير، بل يبقى على حاله قبل التصغير، وإنما ذكر الآن حكم ما كان من المؤنث عارياً من التاء، هل تلحقه التاء في التصغير أم لا؟
و(ما) في قوله: ما (صغَّرتَ) واقعة على المصغر، وهي تفيد
العموم، فكل ما صُغِّرَ من ثلاثي يدخل له في العبارة، فالمصغر تصغير الترخيم كزينب وسعاد وغلاب حكمه ما قال، وذلك لأنه في الحكم الثلاثي؛ إذ التصغير إنما ورد على ثلاثي في التقدير، كأنك صغرتَ زنب وسعد غلب.
ويعني الناظم أن كل ما (صغر مما) اجتمعت فيه ثلاثة أوصاف وهي: كونه مؤنثاً، وكونه عارياً من العلامة / وكونه ثلاثياً، فالتاء تلحقه علامة على تأنيثه.
فأما وصف التأنيث فلقوله: (من المؤنث)؛ لأن المذكر لا حاجة له بعلامة، وإنما يحتاج إليها المؤنث.
واعلم أن التأنيث المراد في كلام الناظم هو التأنيث للكلمة بأصل وضعها، أو بالنقل المحض، وذلك أن الاسم المؤنث على وجهين:
تارة يكون مؤنثاً بأصل وضعه كزينب وسعاد وشمس ويد ورجل ونحو ذلك، فهذا تأنيث لا إشكال فيه، ويري فيه الحكم المذكور، فتلحق التاء عند التصغير.
وكذلك إذا نقل إلى المؤنث نقلاً محضاً، كالمرأة تسميها بزيد، أو أَمْلٍ أو غير ذلك من الألفاظ، فهذا نقل محض أيضاً، فتلحقه التاء في التصغير بلا بد؛ لأنه اسم مؤنث حقيقة، ولا يراعي أصله؛ لأنه مهمل مطرح، وهذا مذهب الجمهور.
ونقل ابن الأنباري عن الكسائي أن ما كان من أسماء النساء على ثلاثة أحرف منقولاً من المصدر فإن فيه وجهين:
لحاق التاء اعتباراً بالحال، وعدم اللحاق اعتباراً بالأصل، وهو مذكر.
وما كان غير منقول فإنه بالتاء في الأكثر، فتقول في: بَرْق، ولهْو، وخَوْد، وجُمْل، وريم أسماء نساء: خُوَيْدٌ وخُوَيْدة، وبُرَيْق وبُرَيْقة، ولَهْيٌ ولُهَيَّة، وجُمَيل وجُمَيْلة، ورُوَيْمٌ ورُوَيْمَةٌ.
وتقول في شمس: شُمَيْسة، وفي عين: عُيَيْنَة ونحو ذلك.
فاعتبر الكسائي الأصل في النقل المحض، كما اعتبره الجميع البتة في الوجه الثاني، وهو أن يكون مؤنثاً لا بأصل الوضع، ولا بالنقل الحقيقي، ولكن بالجريان على المؤنث وإطلاقه عليه مع أن أصله المذكر، واعتباره باقٍ لم ينتسخ حكمه، فهذا حكمه خلاف حكم الأول، وذلك كالصفات الجارية على المؤنث بغير تاء كامرأة حائض وطاهر ونصف، وكذلك الوصف بالمصادر نحو: امرأة عَدْلٌ ورضاً وزُوْرٌ وفِطْرٌ، فالأصل في هذه الأشياء التذكير، والصفات عند سيبويه جارية على المذكر تقديراً، والمصادر باقية على أصلها؛ لأن الوصف بها وصف بالجنس وهو مذكر، فلم تخرج إذن عن أصلها
من التذكير، فليست بمؤنثة في الحقيقة وإن كانت جارية على المؤنث في اللفظ، فلم تدخل تحت كلام الناظم؛ إذ لم يثبت كونها مؤنثة بعد، فيقتضي ألا تلحقها التاء في التصغير وإن جرت على المؤنث، فتقول في عدل /: عُدَيْل، وفي رضا: رُضَيٌّ وفي زَوْرك زُوَيْر، وفي صَوم: صُوَيْم، وذلك تقول في حائض وطاهر وطامث ونحوها إذا صغرتها تصغير الترخيم: حُوَيْض وطُهَيْر وطُمَيْث، وفي نَصَف: نُصَيْف، فلا تلحق تاء أصلا.
وهذا التقرير في الوجهين أصَّله سيبويه قال: (وسألته - يعني الخليل رحمه الله (تعالى) - عن تحقير (نَصَف) نعتِ امرأة، فقال: تحقيرها نُصَيْف، وذلك لأنه مذكر وُصِفَ به مؤنث، ألا ترى أنك تقول: هذا رجلٌ نَصَف، قال: ومثل ذلك أنك تقول: هذه امرأة رِضاً، فإذا حقرتها لم تدخل الهاء؛ لأنها وصفت بمذكر، شاركت المذكر في صفته، فلم تغلب عليه، ألا ترى أنك لو رخمتَ (الضامر) لم تقل: ضُمَيْرة. قال: وتصديق ذلك فيما زعم الخليل رحمه الله (تعالى) في الخلق: خُلَيْقٌ، وإن عنَوا المؤنث؛ لأنه مذكر يوصف [به] المذكَّر فشاركه فيه المؤنث).
وما ذهب إليه الناظم من تقسيم الاسم المؤنث إلى القسمين هو المذهب الذي عليه كلام العرب، ولم يتحرر كلام الكسائي في ذلك، فلا ينبغي أن يؤخذ به في المسألة.
وما تقرر في المؤنث هو بعينه جارٍ في المذكر، فتارةً يكون مذكراً بأصل وضعه كرجُل وزيدٍ وعمروٍ ونابٍ، ونحو ذلك، فهذا لا إشكالَ فيه في عدم لحاقه التاء، وذلك بمقتضى تقييده، ومثله ما نقل نقلاً حقيقياً إلى المذكر وإن كان أصله المؤنث كرجلٍ يُسمى بعين أو أذنٍ أو (يدٍ) أو نحو ذلك (فلا تلحقه التاء) عند الناظم؛ لأنه ليس بمؤنث، وأصله من التأنيث منسوخ بالتذكير، غير معتبر ولا ملحوظ.
وتارة يكون مذكراً لا بأصل الوضع، ولا بالنقل الحقيقي، وإنما يكون مذكراً باعتبار مَّا مع أن أصل اللفظ من التذكير معتبر، وذلك كالعين المراد به الرَّبِيئة فإنك تقول في تصغيره: عُيَيْنَة، لأنه إذا سمي عينا استعارة من العين المبصرة؛ لأن المقصود منه عينه، لأنه إنما سمي عيناً استعارة من العين المبصرة؛ لأن المقصود منه عينه، فصار كالناب في نوعه، فلم يطَّرَحْ أصله، فلا بد أن يقال: عُيَيْنَةُ بالتاء؛ لأن العين للربيئة ليس بخالص النقل، فلم يكن ليترك أصله. وهذا كله داخل تحت كلام الناظم.
وبهذا التقدير يظهر أنه مخالف ليونس في اعتبار الأصل بعد النقل الحقيقي، فيقول في (قَدَم) و (يَدٍ) اسمَي رجل: قُدَيْمَة ويُدَيَّة اعتباراً بأصله، وهو أيضاً مذهب الفراء.
وحجته في ذلك ما جاء من قولهم: أُذَيْنَة في اسم الرجل / مع أنه منقول نقلاً محضاً، ولكنهم اعتبروا أصله.
وأجاب سيبويه عن هذا أنه إنما سُمِّيَ الرجل بالأذن محقَّرةً، لا بها مكبَّرةً ثم صغروه فقالوا: أذينة.
قال ابن الضائع: والدليل على ذلك أن الرجل الذي اسمه (أُذَيْنَة) لا يقال فيه: أُذُن.
ونظير مذهب يونس ههنا مذهب الكسائي فيما تقدم.
وأما وصف العُرُوِّ، وهو التجرد عن العلامة فلقوله:(عارٍ) أي: متجرد عن علامة التأنيث، فإنه إذا لم يكن عارياً عنها فذلك هو المقصود، فلا يحتاج إلى علامة أخرى.
والعلامة التي هو عارٍ منها هي كل علامة تأنيث: سواءٌ كانت تاءً أو ألفاً أو همزةً، فإنه إن كان في الاسم واحدٌ منها استُغْنِيَ عن الإتيان بعلامةٍ أخرى نحو: عَمْرَة وحُبْلَى وحمراء.
فإذن إذا عَرِيَ عن كل علامةٍ فهو الذي يفتقر إلى التاء إحرازاً
لمعنى التأنيث ودلالة عليه.
وأما وصفه بكونه ثلاثياً فذلك قوله: (ثلاثي) وهو احتراز من الرباعي، فإن الرباعي لا تلحقه إذا صُغر، إلا ما نبه عليه من الشذوذ بعد، فإذا صغِّر (زينب) و (سعاد) و (غلاب) و (رَقاش) ونحو ذلك قلتَك زُيَيْنِبُ وسُعَيِّدُ ورُقَيِّشُ، ولا تأتي بتاءٍ؛ لأنه ليس بثلاثي، ولا فرق في هذا الحكم بين كون الرباعي ذا وجهين كذراع وكُراع، أو ذا وجه واحدٍ، وهو مقتضى كلامه، وهو مذهب الجمهور.
وذهب ابن الأنباري إلى أن ما كان ذا وجهين فإنه يُصَغَّرُ بالتاء عند قصد التأنيث، فإذا صغَّرتَ كُراعاً على من أنَّث قلتَ: كُرَيِّعَة، وكذلك في ذراع: ذُرَيِّعَة، ولا تقول: كُرَيِّعٌ، ولا ذُرَيِّعٌ وإن كان رباعياً؛ لئلا يلتبس بتصغيره على ما ذَكَّر.
وماقالاه يفتقر إلى سماع مخصص.
فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة لزم لحاق التاء في التصغير إلا ما استثنى، فتقول في:(يدٍ): يُدَيَّة، وفي (رِجلٍ): رُجَيْلَة، وفي (أُذُن): أُذَيْنَة، وفي (هِند): هُنَيْدة، وفي (دَعْدٍ): دُعَيْدَة.
وكذلك تقول في تصغير الترخيم إذا حذفت الزوائد من الثلاثي، فتقول في (سعاد): سُعَيْدَة، وفي (غَلابِ): غُلَيْبَة، وفي (زينب):
زُنَيْبَة، وما أشبه ذلك؛ لأنه ثلاثي بعد دخول التصغير.
وحقيقة الأمر فيه أنهم إذا أرادوا التصغير / عرَّوْهُ عن الزوائد تقديراً، وصيَّروه كأنه ثلاثي في الأصل، فكأن (سعاد) صار إلى سَعْد، و (غَلابِ) صار إلى غَلَب، و (زينب) إلى زَنَب، هكذا القياس فيه، وإذا كان كذلك فلم يرد التصغير إلا على اسم على ثلاثة أحرف، وهو مؤنث، عارٍ، فتلحقه العلامة.
وكذلك تقول على هذا القياس في (سماء): سُمَيَّة، وفي (قضاء) و (عطاء) و (بقاء). ونحو ذلك - اسم مؤنث-: قُضَيَّة وعُطَيَّة وبُقَيَّة، فتأتي بالهاء، وذلك أن أصله: عُطَيِّيٌ، وقَضَيِّيٌ، وسُمَيِّيٌ على بناء فُعَيْعِل؛ لأنه رباعي، لكن استثقلوا الياء لكثرتها، فحذفوا الآخر، فصار في التحصيل ثلاثياً، فلزم لحاق التاء.
قال سيبويه: "قلتُ: فما بال (سماء) قالوا: سُمَيَّة؟ يعني: أنهم ألحقوا التاء مع أنه رباعي، قال: من قِبَلِ أنها تحذف في التحقير، فيصير تحقيرها كتحقير ما كان على ثلاثة أحرف. قال: فلمَّا خفَّت صارت بمنزلة دَلْو، كأنك حقَّرتَ شيئاً على ثلاثة أحرف".
فإن قيل: هذا الذي تقرر صحيح، فكيف يتنزل عليه كلام
الناظم؟ فالجواب أن تنزيله على هذا المعنى ظاهر؛ لأنه قال:
واختمْ بتا التأنيث ما صغَّرتَ من مؤنثٍ عارٍ ثلاثي (كَسِنْ)
وما ذكر من سماءٍ وعطاءٍ وزينت يصدق عليه أنه ثلاثي صُغِّر؛ لأنه ما وقعت عليه بنية التصغير إلا وهو كذلك.
فالثلاثي المراد على قسمين: ثلاثي في التحقيق وهو المستعمل، وثلاثي في التقدير وهو هذا.
والجميع في القياس ثلاثي، ويشمل كلام الناظم القسمين.
ومثل ما أراد بقوله: (كَسِنْ) تقول فيه: سُنَيْنَة، والسن واحدة الأسنان، وهي معلومة، والسنُّ من الكِبَر أيضاً، يقال: كَبِرَتْ سِنِّي.
ووجه لحاق هذه التاء في التصغير أن الأصل في كل مؤنث أن يكون بعلامة التأنيث، فكان ما جاء منه دون علامة كأنه محذوف منه العلامة، ولما كان الحرف الثالث إذا حُذف يُرَدُّ في التحقير، حكموا لهذه العلامة بحكمه، فردُّوها في تحقير الثلاثي كما ردوا اللام، ألا ترى أنهم قد حكموا في بعض المواضع للتاء المحذوفة بحكم اللام، قالوا:(أَرَضُون) فجعلوا هذا الموضع الذي هو على طريق جمع
السلامة عوضاً من التاء المحذوفة، كما جعلوه عوضاً من اللام في (سنين) و (ثُبين) ونحو ذلك، هذا مع [أن] التصغير عندهم كأنه يرد الشيء إلى أصله. وأما الرباعي فقد كان الأصل فيه أيضاً أن تلحقه الهاء تنبيهاً على أنه مؤنث، كما لحقت الثلاثي، قال الخليل: لكنهم لما زاد العدد / استثقلوا الهاء، فكأنهم صيَّروا الحرف الرابع عوضاً منها.
وقد علل سيبويه اللحاق في الثلاثي بالفرق بين المذكر والمؤنث. ثم استثنى الناظم من هذا الحكم المذكور ما كان من الثلاثي مؤدياً لحاقُ التاء فيه إلى اللبس، فقال:
مالم يكن بالتا يُرَى ذا لَبْسِ
الضمير في (يكن) عائدٌ على المؤنث الثلاثي المتقدم، يعني أن حكم اللحاق إنما يكون إذا لم يؤدِّ إلى لبس في الكلام، فإن كان مؤدياً للبْسِ كان اللحاق مجتنباً، وصُغَّرَ بغير تاء كما يُصَغَّرُ الرباعي المؤنث والثلاثي المذكر.
وظاهر هذا الاستثناء أنه قياس لا سماع؛ إذ لم يقيد ذلك بشيء، بل عين للسماع شيئاً آخر بقوله:"وشذّ تركٌ دون لبسٍ" فأعطى كلامه أن مثل هذا قياس.
وما قاله ظاهر، لكنه جعله في التسهيل شاذاً في الجملة حيث قال:(تلحق تاء التأنيث في تصغير ما لم يشذ من مؤنث، بلا علامة، ثلاثي) إلى آخره، ولم يُجْرِ للتفرقة ذكراً.
وكذلك عده غيره من الأشياء الخارجة عن مقتضى القياس على ما سيأتي إثر هذا إن شاء الله تعالى.
وأتى بأمثلة ثلاثة مما يقع اللبس فيها إن أتى بالتاء في التصغير، وذلك قوله:(كشجرٍ وبَقَرٍ وخمْسٍ).
أما (شجرٌ وبقرٌ) فلأنك لو قلت في شجر: شُجَيْرَةٌ، وفي بقر: بُقَيْرَة، وذلك إنما يكون على لغة مَن أنَّثَ فقال: هي الشجر، وهي البقر، لالتبس بتصغير الواحد من الجنس وهو شجرة وبقرة، فلا يُعلم أهو تصغير شجرة أم شَجَر. فتركوا التاء في الجنس وألحقوه في الواحد، وكذلك ما أشبهها من أسماء الأجناس.
وأما (خَمس) فلأنك لو قلت: خُمَيْسة لالتبس بتصغير خمسة بالتاء، فتركت التاء في تصغيره وإن كان مؤنثاً لذلك، وكذلك سائر أسماء العدد الثلاثية كستٍّ وسبعٍ وتسعٍ وعشرٍ، تقول: سُدَيْسٌ وسُبَيْعٌ وتُسَيْعٌ وعُشَيرٌ، دون تاء كذلك.
فإن قيل: إنه أتى بثلاثة أمثلة لنوعين مما يقع في اللبس، فأتى لاسم الجنس مع واحده بمثالين وهما: شَجَرٌ وبقرٌ، وكان الواحد كافياً فيما أراد، فما فائدة التكرار؟
فالجواب أن التكرار في مثل هذا قريب، لكن يمكن أن يقصد بذلك التنبيه على معنى زائد على ظاهر المفهوم، وذلك أن اسم الجنس يستعمل على وجهين:
أحدهما: على أصل وضعه من الدلالة على حقيقة ذلك الجنس، يصدق على الواحد منه فأكثر.
والثاني: أن يستعمل نائباً عن جمع الكثرة، كأنك أردتَ / أن تجمع الواحد من الجنس فاستغنيت عن جمع الكثرة باسم الجنس باعتبار إطلاقه مراداً به كثرة آحاده، وفي القلة تستغني بجمع التصحيح، وهو في كلا الاستعمالين اسم مفرد يذكر ويؤنث، والتأنيث للحجازيين، والتذكير للتميميين والنجديين، والتفرقة فيهما بين ذي التاء وغيره محتاج إليها، فلعله أراد التنبيه على كلا القسمين، وأن كل واحد منهما يجري فيه ذلك الحكم المذكور، والله أعلم.
ثم إنه نبَّه على ما شذ عن القاعدة دون ما ذكر من خوف اللبس بقوله: (وشذ ترك دون لبس) يعني: أنه جاء من كلام العرب ترك التاء في تصغير المؤنث الثلاثي العاري مع عدم اللبس، لكنه شاذ
يُحفظُ ولا يقاس عليه، ولا يُخلُّ بما تقدم من القاعدة.
والذي خرج عن القاعدة على الجملة على ما جمعه المتأخرون عشرون لفظاً، منها ما تقدم من اسم الجنس كشجرٍ ونخلٍ وعنَبٍ وبرٍّ وتمرٍ وبقرٍ ونحو ذلك، وأسماء العدد الثلاثية بلا تاء وهي: خمسٌ وستٌّ وسبعٌ وتسعٌ وعشرٌ، فهذه ستة ألفاظ.
والسابع: (الناب) للناقة المسنو، قالوا في تصغيره: نُيَيْبٌ، لما سموها بنابها الذي بَزَلَ، وهو مذكر راعوه في التصغير.
والثامن: (الحرب) قالوا في تصغيره: حُرَيْب، وهي مؤنثة، لما كان مصدراً وهو السَّلْب سُمِّيت به لكثرة السلب فيها، فراعَوا أصلها، فلم يأتوا بالتاء، كما فعلوا في (الناب).
والتاسع: (الفرس) قالوا: فُرَيْسٌ، وذكر سيبويه في وجع ذلك شيء مذكر في الأصل أوقعوه على المؤنث، وشبهه بقولك للمرأة: ما أنتِ إلا رُجَيل، وللرجل: ما أنتَ إلا مُرَيَّةٌ، قال: وإنما حقَّرتَ الرجل والمرأة، فكذلك عنده الفرس.
وقال ابن أبي الربيع: يمكن أن يراعَى فيها الصفة، كأنها من الفرس وهو الدَّقُّ، ثم ذكر معنى كلام سيبويه، وهذا هو المشهور المعروف.
ونقل ابن هانئ في شرح التسهيل عن بعض من قيَّدَ على المفصل للزمخشري قال: إن أردتَ بالفرس المذكر قلتَ: فُرَيْسٌ، وإن أردتَ المؤنث قلتَ: فُرَيْسة، قاله الشيخ يعيش والتبريزي، قال ابن هانئ: ولم أرَ هذه التفرقة لغيره. هذا ما قاله.
والجوهري يحكي عن ابن السَّرَّاج أن تصغير الفرس فُرَيْسٌ، فإذا أردتَ المؤنث على الخصوص قلتَ: فُرَيْسة، وهو نقلٌ أثبتُ مما ذكره ابن هانئ عن أولئك /.
والعاشر: (الدرع) ذكر الجرمي أنهم صغَّروه بغير هاء مع أنه مؤنث، وهي درع الحديد فقالوا: دُرَيْعٌ. قال الأستاذ (رحمة الله (تعالى) عليه): راعوا فيها معنى الملبوس أو الثوب.
والحادي عشر: (العرب) قالوا في تصغييرها: عُرَيْبٌ، وهي مؤنثة، قال [أبو الهندي] عبدالمؤمن بن عبدالقدوس:
ومَكْنُ الضباب طعامُ العُرَيْبِ ولا تشتهيهِ نفوس العَجَمْ
وكأنهم لحظوا فيه معنى (قوم ورَهْط)؛ إذ كانت من أسماء الجموع.
والثاني عشر: (القوس) قالوا في تصغيره: قُوَيْسٌ، قال الشاعر:
تَرَكْتُهُمْ خَيْرَ قُوَيسٍ سَهْما
وكأنهم لحظوا أنها في الأصل مصدر: قاسَ يَقُوسُ قَوساً، وانظر في الصحاح فإن الجوهري زعم أن (القوس) يذكر ويؤنث، فمن أنث قال: قُوَيْسَة، ومن ذكَّر قال: قُوَيْسٌ على القياس، والذي ينقله النحويون ما تقدم.
والثالث عشر: (العُرْس) قالوا: عُرَيْسٌ وعُرَيْسَة بالوجهين مع التأنيث. ذكر ذلك الفراء ويعقوب وقد حكي أنها تذكر وتؤنث، وإنما صغروها بغير هاء؛ لأنهم لحظوا فيها معنى الغِنَاء واللهو، وعلى القول بأن (العرس) يراد بها الطعام رُوعِيَ مدلولها وهو مذكر.
والرابع عشر: (العُرْس) وهي الزوجة، قالوا: عُريْسٌ، كأنهم لحظوا فيها معنى العَشِير والصاحب، أو الطعام.
والخامس عشر: (الذَّوْدُ) قالوا: ذُوَيْدٌ، وهي مؤنثة، قال:
ثلاثةُ أنفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ
كأنهم (رأوا) أن أصلها المصدر من ذَادَ يذُودُ ذَوداً.
والسادس عشر: (الضحى) قالوا: ضُحَيَ، مع أنها مؤنثة. قال الفراء: كرهوا أن يصغِّروها بالهاء؛ لئلا يشبه تصغيرها تصغير ضَحْوَة، وعلى هذا التأويل تدخل في القسم المطرد إن كان الناظم راعى ذلك هنا.
والسابع عشر: (الطَّسْت) زاده بعضهم، وحكى أنهم (قالوا): طُسَيْتٌ، وكذلك (الطَسُّ) قالوا: طُسَيْسٌ فرقاً بينه وبين تصغير (طَسَّة)؛ لأن فيها لغتين؛ إذ يقال: طَسَّة، وتصغير هذه طُسَيْسَة
على الأصل، فعلى هذا تنضم إلى الضابط الأول.
والثامن عشر: (الشَّوْلُ) يقال فيه: شُوَيْلٌ. كذا ذكر ابن الأنباري عن الكسائي.
والتاسع عشر: (الغنم) نقل ابن الأنباري أنها تصغر بالهاء وبغير هاء، فتقول: غُنَيْمٌ وغُنَيْمَةٌ، مع أن الغنم مؤنثة لا غير، كأنهم لحظوا فيها وفيما قبلها معنى الجمع.
والعشرون: (القِدْرُ)، قالوا في تصغيرها: قُدَيْرٌ.
حدثنا شيخنا الأستاذ الشهير أبو عبدالله بن / الفخار (رحمة الله (تعالى) عليه) قال: لقيتُ بعض أصحابنا في سوق من أسواق سبتة زمان قراءتي بها، فسألني: كيف تصغَّر (قِدْراً)؟ فقلتُ: قُدَيْرَة، فقال: كذا كنت أقول، ولكن هَلُمَّ معي، فمضيت معه، فإذا شيخنا الأستاذ أبو عبدالله بن عبدالمنعم (رحمة الله تعالى عليه) يقول لفخَّارٍ كان يساومه: بكم هذا القُدَيْرُ؟ فقلتُ له في ذلك، فقال: كذا هو النص عن الخليل في العين. قال الأستاذ: ثم رأيت ذلك في الصحاح للجوهريِّ. انتهت الحكاية.
وعلى أن الزمخشري قال: تقول في (قِدْرٍ): قُدَيْرَة، وهو الذي
ذكر ابن الأنباري في كتاب المذكر والمؤنث، فجاء بها على القياس، ووجه إسقاطها أنهم لحظوا فيها معنى الإناء، قاله الأستاذ (رحمه الله تعالى).
هذا أقصى ما رأيته في جمع هذه الألفاظ الشاذة عن القياس، وقد عد منها الأُبَّذِيُّ (النَّعْلَ) وأنه يقال فيها: نُعَيْلٌ، ورأيت ذلك بخطه، والذي ذكر الجوهري وغيره في (النعل): نُعَيْلَةٌ بالتاء على القياس والأصل، فانظر من أين نقل الأُبَّذِيُّ ما نقل.
وعدَّ أيضاً من هذه الألفاظ (النادرة) بعض ما تقدم التنبيه عليه من نحو: امرأةٌ عَدْلٌ وحائضٌ، وهذا ليس منها على ما تقدم للناظم.
وكذا ينبغي أن يكون الأمر في اسم الجنس، (وألَاّ) بعد منها، لكونه قياساً على ما ظهر من كلام الناظم.
وأما أسماء العدد المذكورة فسائغٌ أن تُعَدَّ في الألفاظ الشاذة؛ لانحصارها بالعدد. والله أعلم.
ثم قال:
…
...
…
وندَرْ لحاقُ تا فيما ثلاثياً كَثَرْ
(تا) ههنا قد قصر حتى صار مثل قولهم: (شربتُ ماً يا هذا)، و (كثَر) فعلٌ مفتوح العين، لا مضمومها؛ لأنه من أفعال المغالبة، كقولك: ضاربتُهُ فضربتُهُ أضرِبُهُ، أي فغلبته في الضرب، وشاتمته فشتمته، أي غلبته في الشتم، فكذلك تقول: كاثرتُهُ فكَثَرْتُهُ أكثُرُهُ، أي غلبته في الكثرة.
و(ثلاثيا) مفعوله، كأنه قال: وندر لحاقها فيما كَثَرَ الثلاثي، يعني أن ما زاد على الثلاثي قد جاء فيه لحاق التاء في التصغير نادراً، وأشار بذلك إلى ما جاء من قولهم:(قُدَيْدِيْمَة) في قُدَّام، و (وُرَيِّئَة) في وراء. قال الشاعر وهو علقمة:
وقد عَلَوْتُ قُتُودَ الرَّحْلِ يَسْفَعُنِي يومٌ قُدَيْدِيْمَةَ / الجوزاءِ مسمومُ
وقال القطامي:
قُدَيْدِيْمَةُ التجريبِ والحلم إنني أرى غَفَلات العيش قبل التجارب
وقالوا: (وُرَيِّئَة) أيضاً في لغة من جعل همزة (وراء) أصلية، فقال: وَرَأْتُ بكذا. وعلى ظني أو البتة: أن ابن جني حكى في (أمام) أُمَيْمَة، ، وقد حكى ذلك ابن الأنباري عن الفراء قال: يقولون في تحقير (أمام): أُمَيِّمَة، وكذلك حكى الوجهين أيضاً في (قدام).
ووجه هذا الإلحاق في الرباعي أن هذه الظروف المصغرة التي يراد بها التقريب قليلة الاستعمال استعمال الأسماء في أن يكون مخبراً عنها، أو تقع فاعلة أو مبتدأة، فلما لم تتصرف تصرف الأسماء وصغروها قوَّوا فيها التذكير، فلم يدخلوا في تصغيرها التاء حملاً على تغليب التذكير وهو الأكثر، ونوَوا في (قدَّام) و (وراء) التأنيث، لكن لما لم يخبر عنهما، ولم يتصرفا تصرف الأسماء التي يتبين فيها الفرق بين المذكر والمؤنث كالوصف والإشارة وغيرهما، أدخلوا التاء في تصغيرهما وإن كانا على أكثر من ثلاثة أحرف حرصاً على التنبيه على التأنيث؛ إذ لو لم يفعلوا ذلك لم يتبين قصدهم لتأنيثهما. وهذا توجيه ظاهر.
فإن قيل: إن الناظم قال هنا: (ندر) فأتى بلفظ يُشعر بسهولةٍ ما،
وعدم الشذوذ لا يشعر بها أن لو قال: (وشذ)، وقال فيما قبل هذا:(وشذ) فأتى بلفظٍ يُشعر بضيق في الباب لا يُشعر به (ندر)، مع أن الاستقراء قد ظهر منه أن ما تركت فيه الهاء من الثلاثي أكثر وأوسع في السماع مما لحقته من الرباعي، وأن ما لحقته من الرباعي حكوا في الأول ألفاظاً صالحة، ومنها ألفاظ لها وجهٌ من القياس، ولم يحكوا في الثنائي إلا لفظتين أو ثلاثة، ولم يذكروا غير ذلك، ولو وجدوا لذَكَروا، فكان الأحق أن لو عكس العبارة، فأتى بلفظ الندور في الأول، فكان يقول فيه:(وندر تَرْكٌ دون لبس)؛ وأتى بلفظ الشذوذ في الثاني، فكان يول فيه:(وشذ لحاق التاء فيما زاد على الثلاثي) فما وجه ما قال؟
فالجواب أن لفظ الندور لا يقتضي سهولةً، وإنما يقتضي غاية القلة على الجملة، وأما (شذَّ) فهو مقتضٍ للانفراد عن الجمهور؛ لقولهم: شذت الشاة / عن الغنم إذا خرجت عن جملتهم، وإذا كان كذلك فمحصول الحال توفقهما في المعنى، إلا أن لفظ الشذوذ مُشعر بخروجٍ عن جنسه مخصوصٍ، وذلك موجود فيما قال فيه شذوذ، وذلك أن الأصل القياسي أن تلحق التاء في المصغر مطلقاً، كما مرَّ بيانه أول الفصل، فكل ما لحقته من المصغر فهو على القياس،
وما لم تلحقه خارج عن مقتضى ذلك القياس.
والشذوذ هو الخروج والانفراد عن الجملة، فكأنه أشهر بأن ما تلحقه التاء شاذ عن القياس خارج عنه.
وأما الندور فراجع إلى معنى القلة من غير إشعارٍ بخروجٍ عن القياس؛ وكذلك (قُدَيْدِيْمَة) وأخواته غير خارجة عن مقتضى القياس من لحاق التاء، فكان لفظ الندور الذي لا يُشعر بخروج عن القياس أنسبَ فيه، ولفظ الشذوذ المشعِر بذلك أنسب في (نابٍ) وبابه. والله أعلم.
***
وصغَّروا شُذُوذاً الذي التي وذا مع الفروع منها تَا وتِي
نبَّه في هذين المزدوجين على ما جاء في كلام العرب من التصغير في غير المتمكن، وذلك أنه قدم الإشارة إلى أن المبني بحق الأصل لا يُصغَّر، ومر التنبيه عليه أول الباب، فألحق هنا ما خروج عن ذلك الحكم، ونسب ذلك إلى العرب فقال:(وصغَّروا) فالضمير للعرب، ثم نبَّه على أن ذلك شاذٌّ خارج عن القياس.
ولما قال: (وصغَّروا شذوذاً) دلَّ ذلك من كلامه على أنه لا يقال منه إلا ما سمع؛ إذا ليس على أصل القياس، ولا واقعاً في متمكن،
لكن عَيَّنَ للتصغير من غير المتمكن بابين: أحدهما: باب الموصول والآخرُ: باب اسم الإشارة، وعيَّنَ من باب الموصول لفظين وهما الذي والتي، وعيَّنَ من باب الإشارة ثلاثة ألفاظ وهي: ذا وتا وتي ثم بين أن فروع هذه الألفاظ لاحقة بها.
فقوله: (وصغَّروا شذوذاً الذي التي) أي الذي والتي، فحذف العاطف، فهذا من باب الموصول، فخرج عنها (ما) و (من) و (أي) و (ذا) مع ما أو مَن الاستفهامية، ونحو ذلك من الموصولات.
وقوله: (وذا) هذه من باب الإشارة.
وقوله: (مع الفروع منها) يعني الفروع من (الذي والتي وذا) كالتثنية والجمع على ما سيذكر بحول الله.
ثم قال: (تا وتي) وهو على حذف / العاطف، أي (وتا وتي) كأنه قال:(وذا وتا وتي مع الفروع منها) لكن لما تأخرت (تا وتي) وجب أن يقدر لهما مثل ما تقدم لـ (ذا)، والتقدير: وذا مع الفروع منها، وتا وتي مع الفروع منها أيضاً.
هذا وجه الكلام في هذا النظم.
ولا يقال: إن قوله: (منها) راجعٌ إلى الفروع، كأنه قال: والفروع المذكورة (تا وتي)، لأن (تا وتي) ليست من فروع (ذا)،
بل كل لفظ مستقل بنفسه، وإنما الفروع التثنية والجمع فـ (تا) مع (ذا) كالتي مع الذي، ليس أحدهما فرعاً عن صاحبه، وأيضاً فإنه كان يوهم أن غير ذلك أيضاً من الفروع الداخلة في الحكم كذي وذه ونحو ذلك، وهو فاسدٌ؛ إذ لا يصغَّرُ منها إلا ما ذكره، كما ستراه إن شاء الله (تعالى)، فإنما يستقيم المعنى المقصود على ما ذكرتُهُ من التنزيل، والذي ذكر في التسهيل من التصغير في هذه الأشياء وما لحق فيها من فروعها هو ما أذكره.
أما الذي فقالوا فيه: اللذيا، وفي تثنيته: اللذيان، وفي الذين: اللَّذيُّون في الأكثر.
وأما (التي) فقالوا: اللَّتَيَّا. أنشد سيبويه للعجاج:
بعد اللَّتَيَّا واللَّتَيَّا والتي
وفي اللتان: اللَّتَيَّان، واللَّوَيْتا في اللآتي، واللَّوَيَّا في اللائي، هذا
على مذهب الأخفش، فيحذف الآخر خوفاً من بقاء الكلمة بعد التصغير على خمسة أحرفٍ لو قال: اللَّوَيْتِيَا واللَّوَيْئِيَا، وغير ذلك موجود.
ومذهب المازني أن تحذف الألف الثانية؛ لأنها زائدة، وحذف الزائد أولى، فيقول في (اللاتي): اللَّتَيَّا.
وأما سيبويه فعنده أن هذا لا يقال، وإنما اقتصروا على اللتيَّات جمع التي، ولم يصغِّروا غير ذلك. وأما (ذا) فقالوا فيه: ذَيَّا وفي تثنيته: ذَيَّان، وفي (أُولَى): أُلَيَّا، وفي (أولاء): أُلَيَّاء. قال:
يا ما أُمَيْلِحَ غِزْلاناً شَدَنَّ لنا مِن هَؤُلَيَّائِكُنَّ الضَّال والسُّمُرِ
وأما (تا) و (تي) فقالوا: (تَيَّا) فيهما. قال الأعشى:
ألا قُلْ لِتَيَّا قَبْلَ مِرَّتِهَا اسلَمِي تحيةَ مشتاقٍ إليها متيَّمِ
وقال أعشى أيضاً:
ألا قل لِتَيَّاكِ ما بَالُها أَلِلْبَيْنِ تُحْدَجُ أجمالُهَا؟
وقال أيضاً:
تذكَّر تَيَّا وَأَنَّى بها وقدْ أخْلفَتْ بعض ميعادِهَا
وفي (تان): تيَّان. هذا ما نُقل في التسهيل من ذلك، إلا أنه معترض عليه هنا من أوجه:
أحدها: أنه لم يبين كيفية التصغير / مع أنه مخالف لما تقدم له من التصغير في المعربات؛ فإن تصغير هذه الأسماء المبهمة حكمه ألا يضم أوائلها، بل تترك على حالها من الفتح فرقاً بينها وبين المتمكن، غير أنهم خصُّوها بزيادة ألف في أواخرها فقالوا في (الذي): اللَّذَيَّا، وفتحوا ثانيه؛ لأن ياء التصغير لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، وزادوا ياء التصغير ثالثة على ما ينبغي، وأدغموها في الياء، وزادوا ألفاً لتدل على التحقير، وكأنها عوضٌ من الضمة في أول الكلمة، وفتحوا ما قبل الألف كما يجب، فقالوا: اللَّذَيَّا واللَّتَيَّا.
وأما (أولاء) فتركوا الهمزة على ضمها، وألحقوا الألف لما ذَكَر، وقلبوا الألف ياء، وأدغموها في ياء التصغير فقالوا: أُولَيَّاء على القياس المذكور.
وأما (ذا) فكان الأصل فيه: ذَيَيا عند التصغير؛ لأن الاسم الثنائي إذا صُغِّرَ رُدَّ له ثالث لإقامة بناء التصغير على الجملة، فكان ينبغي أن تقلب ألفُهُ ياءً وتفتح، وتزادُ ياء التصغير بعدها، وترد إليه ياء أخرى لتمام حروف المصغَّرت تدغم فيها [ياء] التصغير، ثم
تلحق الألف التي تزاد في آخر المبهم المصغر، ويفتح ما قبلها فكان يقال: ذَيَيَّا، لكنهم حذفوا الياء المنقلبة عن الألف كراهية لاجتماع ثلاث ياءات، مع قلَّةِ تمكُّنِ هذه الأسماء، ولأنهم قد يفعلون ذلك في المتمكن كراهية الاجتماع، فهذا أولى.
وأما (تَيَّا) فحكمها حكم (ذا) فيما تقدم.
وأما (ذيَّان) و (تَيَّان) فكالمفرد منهما، وكذلك (اللَّذَيَّان) و (اللتيَّان) حذفوا الألف منهما، ثم ألحقوا العلامتين، وهذا الحذف عند سيبويه كالحذف في المفرد حين حذفت الياء من (الذي) و (التي) والألف من (ذا) و (تا). وعند الأخفش إنما حُذفت قبل لحاقها.
ولا يظهر لاختلافهما في التثنية ثمرة، وإنما تظهر في الجمع: فسيبويه يقول: اللذَيُّون، واللذَيِّين بضم ما قبل الواو، وكسر ما قبل الياء. والأخفش يقول: اللذيَّون واللذيَّين بفتح ما قبلهما كالمقصور في المعربات. هذا كله مما ذكره أهل النحو في كيفية التثنية وما يتعلق بها، ولم يشر الناظم إلى شيءٍ من ذلك، ولا عرَّجَ عليه، ولو بالمثال، فكان ذلك موهماً لتصغيرها على تصغير المعربات، أو مبهماً
لحكم محتاج إلى ذكره حين / ذكر أن المبهمات تصغَّر.
والثاني: أنه خصَّ ذلك بالنقل، وردَّه إلى السماع، ونفى عنه القياس، وظاهر كلامهم أنه قياس فيما ذُكِّر هو وفروعه على حسب ما نصوا عليه؛ إذ لم يقفوا ذلك على ما سُمع، وقد رأيت خلاف الناس في تثنية اللاتي واللائي وغيرهما، فأين وقوفهم على السماع؟
والثالث: على تسليم أنه سماع، لم يعين مواضعه، بل ظاهره أن هذه الأشياء التي ذكر وجميع فروعها يدخلها التصغير سماعاً، وليس كذلك؛ إذ من الفروع التي لم تصغَّر (اللاتي) و (اللائي) عند سيبويه، واستغنوا عن تحقيرهما بقولهم اللَّتَيَّات، وما ذكر من قولهم:(اللَّوَيَّا) و (اللَّوَيْتَا) فالظاهر أنه قياس، ولا شك أن القياس في مثل هذا الباب ممنوع، لأنه خارج عن أقيسة كلام العرب؛ إذ المبنى بحق الأصل لا يصغر، فما خرج عن هذا فموقوف على محله، وكذلك (اللَّوَيُّون) في (اللائِي) لم يذكره سيبويه، وإنما يظهر من غيره القياس كما ذكر.
وأيضاً أسماء الإشارة لم يصغر منها إلا (ذا) و (تا) - وأعني من المفرد - استغنوا بذلك عن تصغير (ذي) و (تي)، كما استغنوا في التثنية بتثنيتهما عن تثنية ما سواهما، والناظم قد أدخل (تي) فيما
صغّرَ سماعاً، وذلك لا يتعين فيه سماعٌ أصلاً؛ لأنهم قالوا: تَيَّان، وهذا أولى أن يُدَّعى فيه أنه تثنية (تا)، لا تثنية (تي)، بل قد يقال: لو كانوا ثنَّوا (تي) لقالوا: (تِيَان) بكسر أوله، لكن يجاب عن هذا بأنهم لما حذفوا الحرف الثاني الذي قبل ياء التصغير، وجب فتح التاء؛ لأن ياء التصغير لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، فهذا كله فيه من النظر ما ترى.
والرابع: أنه قال: (وصغروا شذوذاً كذا .. ) وظاهر هذا أنه لا يقال به إلا في محله الذي سُمِعَ فيه، فكنت مثلاً تقتصرُ في (اللَّتَيَّا) على موضعه المنقول وهو قوله:
بعد اللَّتيا واللتيا والتي
ولا تقول أنت: (رأيتُ فلانة اللَّتيَّا فَعَلَتْ)، وكذلك تقتصر في (أُولَيَّاء) على قوله:
من هَؤُلَيَّائِكُنَّ الضَّالِ والسُّمُرِ
ولا تقول: (رأيتُ أوليَّائِكَ النساء) أو (السُّمُر) أو نحو ذلك؛ لأن هذا مقتضى الشذوذ أنه يوقف فيه على موضع السماع، كما أنك لا تقول:(أطوَلَ زيدٌ المدَّةَ) من حيث قالوا:
صَدَدْتِ فأطْوَلْتِ الصُّدودَ ....
ولا تقول: (مررتُ بعُنَيزة) مثلاً قياساً على قوله:
ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خدر عُنَيْزةٍ
ومن ذلك ما لا يحصى، بل تقتصر / في ذلك على نفس المنقول، فإذا أتيتَ باللفظة الشاذة في غير ذلك الموضع المسموع أتيت بها على القياس، فتقول:(أطالَ زيدٌ المدَّة)، و (مررتُ بعُنَيزة) وما أشبه ذلك، فكلام الناظم يشعر بالاقتصار في هذا على موضع السماع، وليس كذلك، بل هو في نفسه قياسٌ تقوله أنت في كل موضع تحتاج إليه فيه، وعلى ذلك أتى به سيبويه والنحويون.
وأيضاً فليس في طبقة الشذوذ الذي ذكر، بل هو في السماع كثيرٌ، ألا ترى أن كبار النحويين كأبي الحسن والمازني وغيرهما، قد قاسوا على ما سمع منه غيره، كما تقدم ذكره، وما كان في رتبة ما يقال بالقياس فيه لا يوصف بالشذوذ.
والجواب عن الأول أنه إنما لم يبين الكيفية من جهة أنه أحال على السَّماع، فلم يحتج إلى تبيينه لأن السماع بعين الكيفية إذا بحث عن موضعه فلا يقع فيه إشكالٌ من هذا الوجه، وإنما كان يقع الإشكال أن لو قال به قياساً؛ وهو لم يفعل ذلك.
والجواب عن الثاني أن سيبويه لم يقل بالقياس فيه، وإنما اقتصر على المنقول، وإياه ذكر، وإنما قاس الأخفش ومن تقدم ذكره، فالناظن اتبع سيبويه، ونعمَ ما فعل؛ فإن القياس كما تقدم في مثل هذا غير سائغ، فلا اعتراض عليه في اتباعه أحد المذهبين إذا كان راجحاً عنده.
والجواب عن الثالث: أن المؤلف يَظهر منه أنه حمل ما ذكره الأخفش وغيره على أنه سماعٌ، لا قياس، وذلك أنه قال في التسهيل:(لا يصغر) من غير المتمكن إلا (ذا) و (الذي) وفروعهما الآتي (ذِكرها)، ثَمَّ ذكر ما تقدم ذكره أول الفصل، فدل ذلك من كلامه
على أنه مسموع من حيث قال: (الآتي ذكرها) فقيدها بما ذكر، ولم يطلق القول فيما ذكر وما لم يُذكر، ثم قال في هذا النظم:(مع الفروع) ويريد ما ذكر في التسهيل، ولم يقيد كما قيد في التسهيل؛ لأنه أحال على كلام العرب، وإذا حصر المسموع وُجِدَ على ما ذكر في التسهيل، وليس فيما نقل عن الأخفش وغيره ما يقطع بعُرُوِّهِ عن السماع.
ولذلك قال ابن الضائع: (إن كان قول أبي الحسن في اللَّوَيْتَا واللَّوَيَّا مسموعاً قيل: ولا مجال للقياس في هذه الأسماء). فلم يقطع بنفي السماع فيهما، وإن كان الأظهر / نفيه، فلذلك قال: وإلا فالصحيح ما نقل سيبويه من الاستغناء.
وأما قول الناظم: (تا وتي) فإن كون (تيَّا) تصغير (تا) ليس لنا ما يعينه دون (تي) كالتثنية أيضاً إذا قلت: (تان) و (تيَّان) غير أن (تا) أولى به من (تي)؛ لأنها الأكثر.
وفي قوله: (تا وتي) ما ينفي عن (ذي) أن يكون مصغراً، وهذا صحيح؛ لأنهم لو صغروه لالتبس بتصغير (ذا)، فهذا الاعتراض ليس ببيِّنِ الورود عليه.
والجواب عن الرابع: أن الشاذَّ في كلام العرب على وجهين:
شاذٌّ عما ثبت من القياس في نوعه، وشاذٌّ عما ثبت من القياس فيه نفسه.
فأمالشاذ عما ثبت في نوعه فنحو قولهم: استحوذ، واسْتَنْوقَ، فإنه قد شذ بالتصحيح عما ثبت في نوعه من الإعلال، وهو ما كان على (استفعل) معتل العين نحو: استقام واستطال، ونحو ذلك، ولم يثبت له في نفسه قياسٌ، فهذا شاذ في نوعه، يتبع السماع فيه مطلقاً حيث استعمل وحيث لم يستعمل، فلا تقول: استحاذ ولا استناق؛ لأن العرب لم تقله، بل اقتصرت فيه على التصحيح فلا بد من اتباعها في التصحيح مطلقاً، وإن كان شاذاً؛ لأنها اعتزمت فيه ذلك الحكم.
ونظير هذا في باب التصغير قولهم: قُدَيْرٌ في (قِدْر)، وضُحَيٌّ في (ضُحَا)، وعُرَيْسٌ في (عُرْس) فإن العرب قد اعتزمت فيها طرحَ التاء وإن كان ذلك خارجاً عن قياس الثلاثي المؤنث، فلا يقتصر من ذلك على موضع السماع؛ لأن العرب لم تستعمل فيها غير ذلك.
ومسألتنا من هذا القبيل؛ إذ لم يصغَّر الموصول والمبهم إلا على ذلك، فلا بدَّ من العمل بهو الاتباع له، ولم يخرج في ذلك عن اتباع السماع؛ لأنها لم تعتمد في المبهم والموصول غير ذلك.
وأما الشاذُّ عما ثبت في الكلمة نفسها فهو الذي اعترض به السائل، وحكمه ما تقدم، وذلك أن (أطْوَلْتِ الصُّدُودَ) ثبت فيه نفسه أطلتِ الصدودَ، وأطلتِ السفر هكذا مُعَلاًّ، وهو قياسه، فلو قلنا: أطوَلْتِ السفر قياساً على (أطوَلْتِ الصدود) لكنا قد خرجنا عن كلام العرب في هذه الكلمة؛ إذ لا تقول العرب فيها: (أطوَلْتِ) إلا ضرورة، بخلاف الوجه الأول، فإن العرب اعتمدت فيه ذلك الشذوذ، فلم تُعْمِلْ فيه قياس نوعه، وكذلك (عُنيزَةٍ) في بيت الكندي، / إنما استعملَتْهُ العرب غير منصرفٍ إلا في هذا الموضع مثلاً، فلا بدَّ أن نستعمله على ما استعملته من القياس في غير هذا الموضع، فليس شذوذ التصغير (في هذا الموضع) بالذي يُخرجه عن استعماله كذلك في غير محل السماع؛ لأنه سماعٌ متَّبَعٌ، فكل ما كان من الشاذِّ خارجاً عن قياس نوعه، فلا يلزم الاقتصار به على محل السماع، وكل ما كان خارجاً عن قياسه في نفسه فهو الذي يلزم الاقتصار فيه (على محله).
وهذه قاعدة محل ذكرها في الأصول. وكلام الناظم صحيح، وبالله التوفيق.