المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا - التراجم الاستنباطية: - الإمام البخاري وفقه التراجم في جامعه الصحيح

[نور الدين عتر]

الفصل: ‌ثانيا - التراجم الاستنباطية:

أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟! فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ:«أَوْ مُسْلِمًا؟» فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي،

وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:«يَا سَعْدُ، إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ» . اهـ. (1).

قال الحافظ في " الفتح "(2)«حَذَفَ جَوَاب [قَوْله] " إِذَا " لِلْعِلْمِ بِهِ كَأَنَّهُ يَقُول: إِذَا كَانَ الإِِسْلَامُ كَذَلِكَ لَمْ يُنْتَفَع بِهِ فِي الآخِرَة. وَمُحَصَّلِ مَا ذَكَرَهُ وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَنَّ الإِسْلَامَ يُطْلَق وَيُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَهُوَ الَّذِي يُرَادِف الإِيمَان وَيَنْفَع عِنْد اللهِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36]، وَيُطْلَق وَيُرَاد بِهِ الْحَقِيقَةَ اللُّغَوِيَّةَ وَهُوَ مُجَرَّدَ الانْقِيَاد وَالاسْتِسْلَام، فَالْحَقِيقَة فِي كَلَام الْمُصَنِّف هُنَا هِيَ الشَّرْعِيَّة، وَمُنَاسَبَة الْحَدِيث لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرة مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمَ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ أَظْهَر الإِسْلَامَ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بَاطِنهُ، فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا لأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ تَصْدُقْ عَلَيْهِ الحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَأَمَّا اللُّغَوِيَّة فَحَاصِلَةٌ» . اهـ.

‌ثَانِيًا - التَّرَاجِمُ الاِسْتِنْبَاطِيَّةَ:

يضع المؤلفون العناوين لمسائل كتبهم للدلالة على مضمونها وموضوعها، وتوجيه ذهن القارئ إليها من أول الأمر، فالأصل في العناوين والتراجم أن تكون مطابقتها لمضمون الباب ظاهرة واضحة، لا تحتاج إلى قدح زناد الفكر.

فلماذا توضع التراجم الاستنباطية التي تحتاج إلى إعمال الفكر حتى نعرف مطابقتها لما وضعت له؟

نجيب عن هذا بأن المؤلف قد لا يقتصر عَلَى الفائدة السابقة، بل يلاحظ أُمُورًا أخرى أبعدَ منها؛ فيسلك طريق الاستنباط. ومن ذلك:

(1) جـ 1 ص 14.

(2)

جـ 1 ص 59، 60.

ص: 81

1 -

أن يريد مؤلف الكتاب الوصول بالقارئ إلى نتيجة لا تدل عليها أحاديث الباب التي بَيْنَ يديه بصورة مباشرة، فيضع له ما يرشده إليها في العنوان، ليصل إليها القارىء بِإِعْمَالِ فِكْرِهِ، ويعلم أنها المقصودة.

2 -

أن يقصد المؤلف شَحْذَ ذِهْنِ الطَّالِبِ وتمرينه على التفهم والاستنباط، فيسلك طريق الإشارة ليتفكر القارىء فيها فيستيقظ عقله، ويكتسب تَفَقُّهًا وَتَعَمُّقًا في العلم.

ونستطيع أن نعتبر هذا الفن من التراجم خصوصيه لـ " الجامع الصحيح " للبخاري عَلَى وجه الجملة، قد يشاركة غيره في قدر قليل منه، ثم ينفرد الامام البخاري بألوان كثيرة منه، لها وهذه مسالكه نوضحها بالأمثلة فيما يلي:

1 -

أن تتضمن الترجمة حُكْمًا زَائِدًا على مدلول الحديث، لوجود ما يدل على هذا الحكم من طريق آخر.

ومثاله عند " البخاري ": ما ذكر الامام بدر الدين بن جماعة في " مناسبات تراجم البخاري "(1) قال: «فَتَارَةً يَخْتَصِرُ الحَدِيثَ المُتَضَمِّنَ حُكْمَ تَرْجَمَةِ البَابِ، وَيُحِيلُ فَهْمَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَعْرِفُهُ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ، كَحَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ فِي الشِّعْرِ فَي المَسْجِدِ، فَإِنَّ الحَدِيثَ الذِي أَوْرَدَهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالمَسْجِدِ، لَكِنَّهُ جَاءَ مُصَرِّحًا بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، فَاكْتَفَى بالإِشَارَةِ فِي الحَدِيثِ إِحَالَةً عَلَى مَعْرِفَةِ أَهْلِهِ» . اهـ. وَالحَدِيثُ المَذْكُورُ أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي (الصَّلَاةِ)، قَالَ (2)«(بَاب الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ)، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟» قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ «نَعَمْ» اهـ.

2 -

أن يكون تطابق الترجمة مع الباب بطريق الاستنتاج لعلاقة اللزوم مثلاً، وهو

(1) ورقة (1 ب) من النسخة المخطوطة بمكتبة الأوقاف بحلب رقم 318 - الخزانة الأحمدية.

(2)

جـ 1 ص 98.

ص: 82

كثير في تراجمه.

مثاله في " الجامع الصحيح ": (بَاب أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ) أخرج فيه من طرق متعددة، بألفاظ متقاربة، حديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم وإنابته أبابكر لِيُصَلِّي بالناس. وَفِيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ:«إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ» . قَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»

فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ

» الحديث (1).

فقد قدمه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى من هو أجهر صَوْتًا وَأَقْوَى، ومعلوم أن أبابكر أعظم الصحابة عِلْمًا وًفَضْلاً، كما دلت الدلائل الأخرى في غير هذا المقام، فعلم أن التقدم للعلم والفضل كما ترجم البخاري.

3 -

أَنَّ تطابق الترجمة للحديث بالعموم والخصوص: بأن يكون الحديث خَاصًّا والترجمة أعم منه، فيطابقها بتعميم معناه، أو يكون الحَدِيثُ عَامًّا وَالتَرْجَمَةُ خَاصَّةً فتدرج فيه.

ومن أمثلة ذلك عند أبي عبد الله البخاري:

(بَابُ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ) أخرج فيه حديث بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ أَخَاهُ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ» (2).

والنهي مطلق يعم جميع الأوقات، منها يوم الجمعة الذي ترجم به البخاري.

4 -

الترجمة بشيء بدهي قد يظنه قليل الجدوى، ثم بالبحث والاستقصاء تظهر له فائدة مجدية.

كما ترجم البخاري بـ (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الحَصِيرِ) وَ ([بَاب] الصَّلَاةِ عَلَى الخُمْرَةِ) فِي كِتَابِهِ (3).

وَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ مثل هذه التراجم غير مُجْدِيَةٍ، لأن ما تضمنته أمر شائع معلوم لكنها في الحقيقة ذات فائدة، حيث إنها إشارة إلى الرَدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ ذلك، كابن الزبير وغيره.

وقال الحافظ أبوالفضل ابن حجر: «النُّكْتَةُ فِي تَرْجَمَةِ البَابِ - يعني الصلاة على

(1) جـ 1 ص 136.

(2)

جـ 2 ص 8 وانظر " فتح الباري ": جـ 2 ص 267.

(3)

جـ 1 ص 85، 86 وانظر " فتح الباري ".

ص: 83

الحصير - الإِشَارَةُ إِلَى مَا رَوَاهُ اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْح بْنِ هَانِئٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ: " أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الحَصِيرِ وَاللهُ يَقُول ({وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا؟} [الإسراء: 8]) " فَقَالَتْ: " لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ "، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُت عِنْد الْمُصَنِّف أَوْ رَآهُ شَاذًّا مَرْدُودًا لِمُعَارَضَتِهِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ

» (1)

فظهر بذلك ما وراء هذه التراجم من الفوائد القيمة.

وفي الحقيقة أن ما نجده في كُتُبِ السُنَّةِ المُبَوَّبَةِ مِنَ التَّرَاجِمِ الاستنباطية ليس إلا طَرَفًا من فنون البخاري البديعة في تراجمه، فما أكثر تعمقه وما أبعد غوصه! ثم ما أكثر فنونه!. لقد:

أَعْيَا فُحُولَ العِلْمِ حَلَّ رُمُوزِ مَا *

*

* أَبْدَاهُ فِي الأَبْوَابِ مِنْ أَسْرَارِ

ونذكر فيما يلي بعض ما تميزت به تراجمه الاستنباطية مِمَّا ذكره الائمة، وَعَدَّدَهُ العلماء، لِنُبَيِّنَ هذه المزية في مقام إظهار الخصوصية، فمنها:

1 -

أنه في استنباط الأحكام والفوائد في تراجمه يتصرف في الأحاديث على طريقة الفقهاء، من تأويل لنص وتفسير لمشكل (مَثَلاً) ويسلك في ذلك طريق الإشارة فيظن بعض الناس أنه ليس هناك ارتباط بين الحديث والترجمة، ولكن إذا تأمل وجد ارْتِبَاطًا قَوِيًّا، لأنها - كما قال الحافظ ابن حجر:«بيان لتأويل ذلك الحديث، نائبة مناب قول الفقهاء مثلاً: المراد بهذا الحديث العام الخصوص، أو بهذا الحديث الخاص العموم، إشعارًا بالقياس لوجود العلة الجامعة. أو أن ذلك الخاص المراد به ما هو أعم، مِمَّا يدل عليه ظاهره بطريق الأعلى، أو الأدنى ويأتي في المطلق والمقيد نظير ما ذكرنا في الخاص والعام. وكذا في شرح المشكل، وتفسير الغامض، وتأويل الظاهر، وتفصيل المجمل، وهذا النوع هو معظم ما يُشْكِلُ من تراجم هذا الكتاب، ولهذا اشتهر من قول جمع من الفضلاء «فِقْهُ البُخَارِي فِي تَرَاجِمِهِ» . وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حَدِيثًا على شرطه في الباب ظاهر المعنى في المقصد الذي ترجم به، ويستنبط الفقه منه، وقد يفعل ذلك لغرض شحذ الأذهان

وكثيرًا ما يفعل ذلك - أي الأخير - حيث ذكر

(1)" فتح الباري ": جـ 1 ص 333.

ص: 84