المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ١٢

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ‌الفصل الأول: في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته

عوارف المعارف.

تنبيه: زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد من التلاوة وأظهر تأثيرًا.

والحجة في ذلك: إن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة، ولا تحتمله صفاتها المخلوقة، ولو كشف للقلوب ذرة من معناه لدهشت وتصدَّعت وتحيِّرت، والألحان مناسبة للطباع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف، شاكل بعضها بعضًا، فكان أقرب إلى الحظوظ النفسانية، وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق. قاله أبو نصر السراج.

بالرفع فاعل "خطاب الأزل" في {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} "بما سقيته من مواد هذه اللطائف عوارف المعارف" مفعول أثمرت، "تنبيه" إيقاظ.

"زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد" من التلاوة" للقرآن، "وأظهر تأثيرًا، والحجة" أي: الدليل في ذلك الزعم المذكور "أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة، ولا تحتمله صفاتها المخلوقة"؛ لعدم المناسبة، "ولو كشف للقلوب ذرة" أي: قدرها "من معناه؛ لدهشت وتصدعت" انشقت "وتحيرت، والألحان مناسبة للطبائع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر" كذلك نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان" الهموم والأحزان، "والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف، شاكل" ناسب "بعضها بعضًا، فكان أقرب إلى الحظوظ النفسانية، وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق، فلذا كان أدعى للوجد بخلاف القرآن؛ لجلالته لا مناسبة بينه وبين المخلوق "قاله أبو نصر السراج"، وسبقه إلى معناه الجنيد، وهو كما ظاهر احتجاج لكون السماع أدعى للوجد لا جواب عنه كما زعم.

ص: 70

‌المقصد العاشر:

‌الفصل الأول: في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته

ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه صلى الله عليه وسلم

بالرفع فاعل "خطاب الأزل" في {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} "بما سقيته من مواد هذه اللطائف عوارف المعارف" مفعول أثمرت، "تنبيه" إيقاظ.

"زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد" من التلاوة" للقرآن، "وأظهر تأثيرًا، والحجة" أي: الدليل في ذلك الزعم المذكور "أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة، ولا تحتمله صفاتها المخلوقة"؛ لعدم المناسبة، "ولو كشف للقلوب ذرة" أي: قدرها "من معناه؛ لدهشت وتصدعت" انشقت "وتحيرت، والألحان مناسبة للطبائع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر" كذلك نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان" الهموم والأحزان، "والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف، شاكل" ناسب "بعضها بعضًا، فكان أقرب إلى الحظوظ النفسانية، وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق، فلذا كان أدعى للوجد بخلاف القرآن؛ لجلالته لا مناسبة بينه وبين المخلوق "قاله أبو نصر السراج"، وسبقه إلى معناه الجنيد، وهو كما ظاهر احتجاج لكون السماع أدعى للوجد لا جواب عنه كما زعم.

"المقصد العاشر: الفصل الأول: في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته" متعلق بإتمامه، "ونقلته إلى حظيرة" بظاء معجمة مشالة "قدسة" أي: الجنة لديه، أي: عنده، وهذا عطف مسبب على سبب صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره مقرّ الميت، وأصله مصدر قَبَرَه إذا دفنه، وهو هنا بمعنى المقبور فيه، "الشريف" شرفًا ما

ص: 70

وزيارة قبره الشريف، ومسجده المنيف، وتفضيله في الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم، والدرجات العليات، وتشريفه بخصائص الزلفى في مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين، وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، وانفراده بالسؤدد في مجمع مجامع الأولين والآخرين، وترقيه في جنة عدن أرقى مدارج السعادة، وتعاليه في يوم المزيد أعلى الحسنى وزيادة.

وفيه ثلاثة فصول

الفصل الأول:

اعلم -وصلنى الله وإياك بحبل تأييده، وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده- أنَّ هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع

ناله مكان سواه؛ بحيث كان أفضل الباقع بإجماع، "ومسجده المنيف" المرتفع في الشرف على غيره حتى المسجد الحرام أو إلا المسجد الحرام على القولين، "وتفضيله في الآخرة بفضائل الأوليات" جمع أوله، أي: بالأمور التي يتقدم وصفه بها على جميع الخلق، ككونه أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع، وأول من يقرع باب الجنة، وقال شيخنا: أي بفضائل الأمم المتقدمة مع أنبيائهم، أي: إنه جمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، فكان في ذلك المشهد أتَمَّ الناس فضيلة وأكملهم. انتهى.

وتعسفه لا يخفى "الجامعة لمزايا" فضائل "التكريم والدرجات" المراتب "العليات، وتشريفه بخصائص الزلفى" فعلى من أزلف، أي: القربى "في مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين، وتحميده بالشفاعة" العظمى العامة "والمقام المحمود" الذي يقوم فيه لها فيحمده الأولون والآخرون، ولا شكَّ أنه مغاير لها وإن احتوى عليها، "وانفراده بالسؤدد" بضم السين وبالهمز- أي: السيادة، أي: المجد والشرف "في مجمع" بكسر الميم وفتحها- مفرد "مجامع"، يطلق على الجمع وعلى موضع الاجتماع كما في المصباح، "الأولين والآخرين، وترقِّيه في جنة عدن" إقامة، "أرقى" أي: أعلى "مدارج" جمع درجة، وفي نسخة: معارج جمع معرج ومعراج، "السعادة" أي: أعلى مراتبها، وتعاليه في يوم المزيد" وهو يوم الجمعة في الجنة.

كما رواه الشافعي كما مرَّ في الجمعة "أعلى معالى الحسنى" الجنة، وزيادة النظر إلى وجه الله تعالى "وفيه ثلثة فصول".

الفصل الأول: "اعلم وصلني الله وإياك بحبل تأييده، وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده" بسين مهملة "أنَّ هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب

ص: 71

لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوي الإيمان.

ولما كان الموت مكروهًا بالطبع، لما فيه من الشدة والمشقَّة العظيمة، لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخيّر.

وأوّل ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجًا، فقد اقترب أجلك، فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به، من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا خير لك من الدنيا، فاستعدّ للنقلة إلينا.

وقد قيل: إن هذه السورة آخر سورة نزلت يوم النحر، وهو صلى الله عليه وسلم بمنى في حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوما. وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال. وعن مقاتل. سبعا، وعن بعضهم: ثلاثا.

الفجائع" أي: الآلام، "لإثارة الأحزان" بسبب فقد رؤيته عليه الصلاة والسلام، ويلهب نيران الموجدة" الحزن على أكباد ذوي الإيمان، ولما كان الموت مكروهًا بالطبع لما فيه من الشدة والمشقّة العظيمة لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخيّر" بضم الياء وفتح الخاء المعجمة كما في الصحيح من حديث عائشة، ويأتي في المتن: أوَّل ما علم النبي صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة، "فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجًا" جماعات، "فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة والتبليغ، لكلّ ما أمر بتبليغه "وما عندنا خير لك من الدنيا" كما قال:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} الآية "فاستعدّ للنقلة إلينا، وقد قيل: إن هذ السورة آخر سورة نزلت يوم النحر وهو صلى الله عليه وسلم بمِنَى في حجة الوداع" ولذا خطب وودَّع الناس كما مَرَّ في الحج.

"وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يومًا" إن كان قائل هذا يقول: نزلت يوم النحر، فلا يستقيم هذا العد إلّا على القول أنه توفي في ثاني ربيع الأول وأوّل يوم منه، أمَّا على قول الجمهور أنه توفي ثاني عشر ربيع الأوّل، فيكون عاش بعدها ثلاثًا وتسعين يومًا، والأقوال الثلاثة مَرَّت للمصنف في آخر المقصد الأول.

"وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليالٍ" بفوقية فمهملة، "وعن مقاتل: سبعًا" بسين قبل الموحدة، "وعن بعضهم: ثلاثًا، ولأبي يعلى" بإسناد ضعيف "من حديث

ص: 72

ولأبي يعلى من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجّة الوداع، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع.

وفي حديث ابن عباس، عند الدارمي: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة، وقال:"نعيت إليّ نفسي" فبكت، قال:"لا تبكي، فإنك أول أهلي لحوقًا بي" فضحكت. الحديث.

وروى الطبراني من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادًا في أمره الآخرة.

وللطبراني أيضًا، من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل:"نعيت إلي نفسي" فقال له جبريل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4] .

ابن عمر، نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجَّة الوداع، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع" فركب راحلته واجتمع الناس إليه فخطب، الحديث. وعلى تقدير صحة جميع هذه الأقوال، فيحتمل أن الرواة اختلف وقت سماعهم، فمنهم من سمعها قبل وفاته بإحدى وثمانين، ومنهم بتسع ليالٍ، وهكذا فكل أخبر عن وقت سماعه ظنًّا أنه وقت نزولها.

"وفي حديث ابن عباس عند الدارمي: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة، وقال" لها حين جاءته، وفي نسخة: قال بلا واو، أي: فلمَّا جاءته قال: "نعيت إلي نفسي" ببناء نعيت للمجهول، "فبكت" أسفًا عليه، "قال:"لا تبك" وفي نسخة: لا تبكي بالياء للإشباع، "فإنك أول أهلي لحوقًا بي" فضحكت..... الحديث" وهو دالّ للقول بنزولها قبل موته بتسع أو سبع أو ثلاث لما في الصحيح، أنه دعا فاطمة في مرض موته، فسارَّها فبكت، ثُمَّ سارَّها فضحكت، إن فسرنا ما سارَّها به بنزول سورة النصر.

"وروى الطبراني من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نعيت -بضم النون- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فأخذ بشأن ما كان قط اجتهادًا في أمر الآخرة" أي: أخذ باجتهاد أشد من الاجتهاد الذي كان يجتهده قبل، "وللطبراني أيضًا من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل:"نعيت" بفتح النون وتاء الخطاب، أو بضمها مبني للمفعول، "إلي نفسي" فقال له جبريل:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} الآية. أي: الدنيا.

ص: 73

وروي في حديث ذكره ابن رجب في "اللطائف" أنه تعبَّد حتى صار كالشن البالي.

وكان عليه الصلاة والسلام يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين، وكان عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام، فاعتكف في ذلك العام عشرين، وأكثر من الذكر والاستغفار.

وقالت أم سلمة: كان صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم، فقال: "إن ربي أخبرني أني سأرى علمًا في

"وروي في حديث ذكره ابن رجب في اللطائف أنه صلى الله عليه وسلم تعبَّد حتى صار كالشن" بفتح المعجمة وشد النون- الجلد البالي، فجرد عن بعض معناه فاستعمله في الجلد بلا قيد، فوصفه بقوله:"البالي" والله أعلم بحال هذا الحديث.

فإن المفهوم من الأحاديث الصحيحة أنَّه لم يصل إلى هذه الحالة، وإن زاد في العبادة إلى الغاية، "وكان عليه الصلاة والسلام يعرض" بفتح الياء وكسر الراء- يدارس "القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين" في رمضان، كما في الصحيحين في حديث عائشة عن فاطمة "أسرَّ إلي أن جبريل كان يعراضني القرآن في كل سنة مرة، وأنه عارضني الآن مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي"، وفي رواية للشيخين أيضًا بالجزم، ولفظه: فقالت: سارَّني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت..... الحديث. وهو يرد على قوله أولًا أنَّ أول علمه بانقضاء أجله نزول سورة النصر، فإنها نزلت يوم النحر على أبعد ما قيل، والعرض في رمضان الذي قبله، إلّا أن يقال: الإعلام من سورة النصر ظاهر للأمر بالتسبيح والاستغفار، وقول جبريل له:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4] . بخلاف معارضة جبريل، فليس فيها إفصاح بقرب أجله، لكنه فهمه من مخالفة عادته؛ حيث كرره مرتين، أو أنه لما تأخر تحديث فاطمة بهذا حتى مات، لم يعلم منه أنه أوّل ما أعلم به، والذي ظهر الإعلام به أولًا إنما هو سورة النصر "وكان عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام، فاعتكف في ذلك العام" الذي قُبِضَ فيه عشرين، وأكْثَرَ من الذكر والاستغفار"؛ لعلمه بانقضاء أجله، والظاهر من إطلاق العشرين أنها متوالية، فيكون العشر الوسط منها، ولما عارضه مرتين اعتكف مثلي ما كان يعتكف.

"وقالت أم سلمة: كان صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم" سمته دعاء نظرًا لقوله: "استغفر الله"..... إلخ.

ص: 74

أمتي، وأنى إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره" ثم تلا هذه السورة. رواه ابن جرير وابن خزيمة، وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عائشة نحوه.

وروى الشيخان من حديث عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين؛ كالمودع للأحياء واللأموات، ثم طلع المنبر فقال: "إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني لست أخشى

فغلبت أو أرادت بالدعاء ما فيه ثناء على الله، سواء كان فيه طلب أم لا، "فقال:"إن ربي أخبرني أني سأرى علمًا" بفتحتين- دليلًا "في أمتي" على وفاتي، "وأني" أي: وأمرني أني "إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره"، ثم تلا هذه السورة" يعني: وقد رأيته.

"رواه ابن جرير" محمد الطبري "وابن خزيمة، وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق" بن الأجدع "عن عائشة نحوه" أي: نحو حديث أم سلمة، "وروى الشيخان من حديث عقبة" بالقاف "ابن عامر" الجهني "قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أُحد" زاد في رواية للشيخين: صلاته على الميت، أي: مثل صلاته، والمراد: إنه دعا لهم بدعاء صلاة الميت؛ كقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} لا أنه صلى عليهم الصلاة المعهودة على الميت؛ للإجماع على أنه لا يصلى على القبر، "بعد ثمان سنين" فيه تجوّز، لأن أحدًا كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق، والوفاة النبوية في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فيكون سبع سنين ودون النصف، فهو من جبر الكسر، "كالمودّع للأحياء والأموات" بصلاته على أهل أُحد، وخرج إليهم كما في رواية في الصحيح: خرج يومًا فصلى على أهل أُحد، ثم انصرف "ثم طلع المنبر" كالمودِّع للأحياء والأموات "فقال: "إني بين أيديكم فرط" بفتح الفاء والراء- المتقدم على الواردين ليصلح لهم الحياض والدلاء ونحوها، أي: أنا سابقكم إلى الحوض كالمهييء له لأجلكم، وفيه إشارة إلى قرب وفاته وتقدّمه على أصحابه، "وأنا عليكم شهيد" أشهد بأعمالكم، فكأنه باقٍ معهم لم يتقدمهم، بل يبقى بعدهم حتى يشهد بأعمال آخرهم، فهو قائم بأمرهم في الدَّارين في حال حياته وموته.

وعند البزار بسند جيد عن ابن مسعود رفعه: "حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فما كان من حسن حمدت الله عليه، وما كان من سييء استغفرت الله لكم" ، "وإن موعدكم الحوض" يوم القيامة، "وإني" زاد في رواية: والله "لأنظر إليه" نظرًا حقيقيًّا "وأنا في مقامي" بفتح الميم "هذا" الذي أنا قائم فيه، فهو على ظاهره، وكأنه كُشِفَ له عنه في تلك الحالة، قاله الحافظ وغيره، ويقويه رواية في الصحيح:"إني والله لأنظر إلى حوضي الآن"، قال المصنف وغيره: فيه أن الحوض على الحقيقة، وأنه مخلوق موجود الآن، "وإني قد أعطيت

ص: 75

عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها".

وزاد بعضهم: "فتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم".

وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: "إن عبدًا خيِّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله، فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيِّره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخَيِّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

مفاتيح خزائن الأرض" فيه إشارة إلى ما فتح لأمته من الملك والخزائن من بعده، "وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي" أي: لا أخاف على جميعكم الإشراك، بل على مجموعكم؛ لأنه قد وقع من بعضهم بعده، "ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا" بحذف إحدى التاءين، "فيها" أي: الدنيا بدل اشتمال مما قبله، والمنافسة في الشيء الرغبة فيه وحب الانفراد به، "وزاد بعضهم" أي: الرواة "فتقتتلوا على المنافسة، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم" وقد وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم، ففتحت على أمته بعده الفتوح، وصبّت عليهم الدنيا صبًّا، وتحاسدوا وتقاتلوا، وكان ما كان، ولم يزل الأمر في ازدياد.

"وعن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر" قبل موته بخمس كما يأتي، وفي رواية: خطب الناس "فقال: "إن عبدًا خيِّره الله" من التخيير "بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا" زينتها "ما شاء" أن يؤتيه منها، وفي نسخة: زهرة بدون من، لكن الذي في البخاري من، وفي مسلم: بدونها، لكن لم يقل ما شاء، "وبين ما عنده" في الآخرة، "فاختار" ذلك العبد "ما عنده"، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله، فديناك بآبائنا وأمهاتنا".

قال أبو سعيد: "فعجبنا له"، وفي رواية: لبكائه، وقال الناس" متعجبين من تفديته؛ لأنهم لم يفهموا المناسبة بين الكلامين:"انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله " بالرفع فاعل يخبر "صلى الله عليه وسلم عن عبد خيِّره الله بين أن يؤتيه زهرة".

كذا في نسخ، وفي آخرى: من، وهو في الصحيح من زهرة "الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا"، وللبخاري في الصلاة: فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خُيِّرَ عبدًا بين..... إلخ، وجمع الحافظ، بأنَّ أبا سعيد حدَّث نفسه بذلك، فوافق تحديث غيره به فنقل جميع ذلك.

"قال" أبو سعيد: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخَيَّر" بفتح التحتية المشددة والنصب

ص: 76

"إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام، لا يبقى في المسجد خوخة إلّا سدت إلّا خوخة أبي بكر" رضي الله عنه. رواه البخاري ومسلم.

خبر كان، ولفظة: هو، ضمير فصل، ورواه أبو ذر بالرفع خبر المبتدأ، أعنى: هو، والجملة في موضع نصب خبر كان، "وكان أبو بكر أعلمنا به" أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالمراد من الكلام المذكور، فبكى حزنًا على فراقه، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" زاد في رواية للبخاري: "يا أبا بكر لا تبك" ، "إن أمَنَّ الناس" بفتح الهمزة والميم وشد النون، أي: أكثرهم مِنَّة، "عليَّ في صحبته وماله أبو بكر" أفعل تفضيل من المنِّ بمعنى العطاء والبذل، يعني: إن أبذل الناس لنفسه وماله لا من المانية التي تفسد الصنيعة، وأغرب الداودي فشرحه على أنه من المانية، وقال: تقديره: لو توجه لأحد الامتنان علي لتوجّه لأبي بكر والأول أَوْلَى، قاله الحافظ، "ولو كنت متخذًا" وقوله: من أهل الأرض، ليس في الصحيحين في حديث أبي سعيد وإنما في البخاري في حديثه في بعض طرقه "من أمتي"، وفي روايات له بدونها، نعم لفظ من أهل الأرض.

رواه مسلم، لكن من حديث ابن مسعود لا من حديث أي: سعيد، "خليلًا" أرجع إليه في المهمات، وأعتمد عليه في الحاجات، وفي رواية للبخاري:"لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا"؛ لأنه أهلٌ لذلك لولا المانع، فإن خِلّة الله لا تسع مخالة شيء غيره أصلًا، "ولكن أخوة" بالرفع "الإسلام" جامعة بيني وبينه، ولتمامها: صرت معه لأخ، زاد في راية: ومودته أي: الإسلام.

وفي حديث ابن عباس عند البخاري: "ولكن أخوة الإسلام أفضل" واستشكل بأن الخلة أفضل من أخوة الإسلام، فإنها تستلزمها وزيادة، وأجيب بأن أفضل بمعنى فاضل، وبأنَّ المراد مودة الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من مودته مع غيره، ولا يعكر عليه اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة مع أبي بكر؛ لأن رجحانه عليهم عُلِمَ من غير هذا، وأخوة الإسلام ومودته متقاربة بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب، ولأبي بكر من ذلك أكثره وأعظمه "لا يبقى" الذي في البخاري: في أزيد من موضع كمسلم لا يبقين.

قال الحافظ وغيره: بفتح أوله ونون التوكيد الثقيلة، "في المسجد خوخة" بمعجمتين- باب صغير، ونسبة النهي إليها تجوّز؛ لأن عدم بقائها لازم للنهي عن إبقائها، وكأنه قال: لا تبقوها حتى تبقى، وقد رواه بعضهم بضم أوله وهو واضح، وكانوا قد اتخذوا في ديارهم أبوابًا صغارًا إلى المسجد، فأمر صلى الله عليه وسلم بسدِّها كلها، "إلا خوخة أبي بكر" إكرامًا له وتنبيهًا على أنه الخليفة بعده، أو المراد المجاز فهو كناية عن الخلافة وسد أبواب المقالة دون التطرق والتطلع إليها، رجَّحه

ص: 77

ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس ليالٍ.

وكأنَّ أبا بكر رضي الله عنه فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى.

وما زال صلى الله عليه وسلم يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنَّه لما خطب في حجة الوداع قال للناس:"خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" ، وطفق

التوربشتي بأنه لم يصح عنده أن أبا بكر كان له منزل بجنب المسجد، وإنما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة، وردَّه الحافظ بأنه استدلال ضعيف؛ إذ لا يلزم من كونه بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى وهي أسماء بنت عميس باتفاق، وأم رومان على القول، بأنها كانت باقية يومئذ.

وقد ذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة أنَّ دار أبي بكر الذي أذَّن له في إبقاء الخوخة فيها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد، ولم تزل بيده حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض مَن وفد عليه، فباعها لام المؤمنين حفصة بأربعة آلاف درهم.

"رواه البخاري" في موضعٍ "ومسلم" في الفضائل، "ولمسلم من حديث جندب:"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس ليال: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل" هذا بقية الحديث في مسلم، فليس بالمراد بقول ما مَرَّ من قوله: "إن عبدًا" كما زعم من لم يقف على شيء، قال الحافظ: قد تواردت الأحاديث على نفي الخلة من النبي صلى الله عليه وسلم لأحد.

وأمَّا ما روي عن أُبَيّ بن كعب: إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمسٍ دخلت عليه وهو يقول: "إنه لم يكن نبي إلّا وقد اتخذ من أمته خليلًا، وإن خليلي أبو بكر، ألا وإن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا".

أخرجه أبو الحسن الحربي في فوائده، فمعارض بحديث جندب المذكور، فإن ثبت حديث أُبَيّ أمكن الجمع بينهما بأنها لما برئ من ذلك تواضعًا لربه وإعظامًا له، أذن الله تعالى له فيه في ذلك اليوم لما رأى من تشوّقه إليه، وإكرامًا لأبي بكر بذلك، فلا يتنافى الخبر أن أشار إليه المحب الطبري.

وروي عن أبي أمامة نحو حديث أُبَيّ دون التقييد بالخمس، أخرجه الواحدي في تفسيره، والخبران واهيان، وكأن أبا بكر رضي الله عنه فهم الرمز" أي: الإشارة "الذي أشار به صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى" أسفًا وحزنًا "وما زال صلى الله عليه وسلم يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال

ص: 78

يودع الناس، فقالوا: هذا حجة الوداع.

فلمَّا رجع عليه الصلاة والسلام من حجه إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى "خما" في طريقه بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال:"أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب" ثم حضَّ على التمسك بكتاب الله، ووصَّى بأهل بيته.

قال الحافظ ابن رجب: وكان ابتداء مرضه عليه السلام في آخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يومًا في المشهور.

وكانت خطبته التي خطب بها المذكور في حديث أبي سعيد الذي قدمته في ابتداء مرضه الذي مات فيه، فإنه خرج كما رواه الدارمي- وهو معصوب الرأس بخرقة، حتى أهوى إلى المنبر، فاستوى عليه فقال: "والذي نفسي بيده، إني

للناس: "خذوا عني مناسككم" احفظوها واعملوا بها، "فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"، وطفق أي: شرع "يودّع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع، فلمَّا رجع عليه الصلاة والسلام من حجِّه" أي: شرع في الرجوع "إلى المدينة" ليلًا في قوله: "جمع الناس بماء يدعى" يسمَّى "خُمّا" بضم الخاء المعجمة وشد الميم- غدير في طريقه بين مكة والمدينة" على ثلاثة أيام من الجحفة، يقال له: غدير خم، "فخطبهم وقال" بعد أن حمد الله وأثنى عليه، ووعظ، وذكر كما في مسلم: "أيها الناس" الحاضرون أو أعمّ، "إنما أنا بشر" وقوله: "مثلكم" ليست في مسلم، ولا في نقل السيوطي عنه، وعن أحمد وعبد بن حميد، فكأن كتابها سبقه قلمه لحفظ القرآن، "يوشك" يقرب "أن يأتيني رسول ربي" يعني: ملك الموت، "فأجيب" اي: أموت، كنَّى عني بالإجابة إشارةً إلى أنه ينبغي تلقيه بالقبول، كأنه يجيب إليه باختياره، ثم حضَّ على التمسط بكتاب الله" القرآن "ووصَّى بأهل بيته" ومَرَّ الحديث في مقصد المحبة السابع.

"قال الحافظ ابن رجب" عبد الرحمن الحنبلي: "وكان ابتداء مرضه عليه السلام في آخر شهر صفر" يوم الاثنين أو السبت أو الأربعاء كما يأتي، "وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يومًا في المشهور" يأتي مقابله قريبًا، "وكانت خطبته التي خطب بها المذكورة في حديث أبي سعيد الذي قدمته" آنفًا "في ابتداء مرضه الذي مات فيه، فإنه خرج كما رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي سعيد، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد وهو معصوب الرأس بخرقة" من الصداع "حتى أهوى" ارتفع صاعدًا إلى المنبر، فاستوى" جلس "عليه، فقال: "والذي نفسي بيده" قسم كان يقسم به كثيرًا، وفيه الحلف على الأمر المحقق من

ص: 79

لأنظر إلى الحوض في مقامي هذا" ثم قال: "إن عبدًا عرضت عليه الدنيا" إلخ، ثم هبط عنه، فما رؤي عليه حتى الساعة.

فلمَّا عرَّض على المنبر باختياره اللقاء لله تعالى على البقاء، ولم يصرّح خفي المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى، وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكن الرسول صلى الله عليه وسلم جزعه، وأخذ في مدحه والثناء عليه على المنبر؛ ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال:"إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر" رضي الله عنه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذًا من أهل الأرض

غير استخلاف لمزيد التأكيد، "إني لأنظر إلى الحوض" نظرًا حقيقيًّا "في مقامي" بفتح الميم "هذا"، ثم قال:"إن عبدًا عرضت عليه الدنيا إلى آخره"، بقيته:"وزينتها، فاختار الآخرة" فلم يفطن لها غير أبي بكر فذرفت عيناه، فبكى ثم قال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأولادنا وأموالنا يا رسول الله، ثم هبط عنه" نزل عن المنبر "فما رؤي عليه" بضم الراء وهمزة مكسورة وفتح الياء، وبكسر الراء ومد الهمزة "حتى الساعة" أي: فما قام عليه بعد في حياته، والمراد بالساعة القيامة، قاله المصنف: فلمَّا عرض على المنبر باختياره اللقاء لله تعالى على البقاء" في الدنيا، "ولم يصرحّ، خفي المعنى على كثير ممن سمع" كلامه، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به" زيادة على غيره {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال من قوله:{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: أحد الاثنين، والآخر أبو بكر {إِذْ} بدل من إذ قبله {هُمَا فِي الْغَارِ} ثقب في جبل ثور، "وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى، وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكَّن الرسول صلى الله عليه وسلم جزعه" ضعف قوته وعدم صبره على ما حلَّ به "وأخذ في مدحه والثناء عليه" عطف مساوٍ "على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال: "إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر".

وفي رواية في الصحيح أيضًا: "إن من أمَنِّ الناس" فقيل من زائدة على رأي الكسائي فلا خلف، أو يحمل على أن لغيره مشاركة ما في الأفضلية، لكنه مقدَّم في ذلك، بدليل السياق المتقدم والمتأخر، ويؤيده حديث أبي هريرة عند الترمذي:"ما لأحد عندنا يد إلّا كافأناه عليها ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة"، فدلَّ ذلك على ثبوت يد لغيره، إلّا أن لأبي بكر رجحانًا، وحاصله: إنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم، وحيث لم يطلق أراد الإشارة إلى من شاركه "ثم قال صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا" زاد في رواية: غير ربي

ص: 80

خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام"، لما كان صلى الله عليه وسلم لا يصلح له أن يخالل مخلوفًا، فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح، ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل:

قد تخللت مسلك الروح مني

وبذا سمي الخليل خليلًا

أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"لا يبقى في المسجد خوخة إلّا سدت، إلا خوخة أبي بكر" إشارةً إلى أنَّ أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلين، ثم أكّد هذا المعنى بأمره صريحًا أن يصلي بالناس أبو بكر رضي الله عنه، فرُوجِعَ في ذلك وهو يقول:"مروا أبا بكر أن يصلي بالناس" فولّاه إمامة الصلاة، ولذا قال الصحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا

"لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام" أي: حاصلة، وتقدَّم أن لفظ: من أهل الأرض، ليس في الصحيحين، ولا أحدهما من حديث أبي سعيد، وإنما في بعض طرقه عند البخاري: من أمتي، وإن لفظ من أهل الأرض إنما رواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله""لما كان صلى الله عليه وسلم لا يصلح له أنه يخالل مخلوقًا، فإن الخليل مَنْ جرت محبة خليله منه مجرى الروح، ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل".

قد تخللت مسلك الروح مني

وبذا سمي الخليل خليلا

ومَرَّ الخلاف في مقصد المحبة: هل هي والخلة متساويان، أو المحبة أرفع، أو الخلة، "أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لا يبقي في المسجد خوخة إلّا" خوخة "سدت" فحذف المستثنى والفعل صفته، لكن لم يقع في الصحيحين بهذا اللفظ، فإنه إنما وقع في بعض طرقه عند البخاري: "لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر".

أما رواية: خوخة، فليس فيها إلّا سدت، وإنما فيهما كما مَرَّ:"لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" إشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلين" فإبقاؤها مصلحة عامّة، "ثم أكَّد هذا المعنى بأمره صريحًا أن يصلي بالناس أبو بكر، فرُوجِعَ في ذلك وهو يقول:"مروا أبا بكر أن يصلي بالناس" والمراجع له عائشة وحفصة كما يأتي، "فولَّاه إمامة الصلاة".

ص: 81

نرضاه لدنيانا.

"ولذا قال الصحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا" أي: الصلاة؛ لأنها عماد الدين، "أفلا نرضاه لدنيانا"، وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه الخلافة، لا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمَّهم إلّا أبو بكر، قاله الخطابي وابن بطال وغيرهما، وجاء في سد الأبواب أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب، فلأحمد والنسائي بإسنادٍ قوي عن سعد بن أبي وقاص: أمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي.

زاد الطبراني في الأوسط برجال ثقاتٍ فقالوا: يا رسول الله، سددت أبوابنا، فقال:"ما سددتها، ولكن الله سدها"، ولأحمد والنسائي والحاكم برجال ثقاتٍ عن زيد بن أرقم: كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم:"سدوا هذه الأبواب إلّا باب علي"، فتكلم ناس في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:"إني والله ما سدت شيئًا ولا فتحته، ولكن أمرت بشيء فاتبعته".

وعند أحمد والنسائي برجالٍ ثقات عن ابن عباس: أمر صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسدت غير باب عليّ، فكان يدخل المسجد وهو جنب، ليس له طريق غيره، وللطبراني عن جابر بن سمرة:"أمَرَّ صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مَرَّ فيه وهو جنب"، ولأحمد بإسناد حسن عن ابن عمر: لقد أعطي علي ثلاث خصال، لأن تكون لي واحدة منهن أحبَّ إلي من حمر النعم، زوَّجه صلى الله عليه وسلم ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلّا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر، وهذه أحاديث يقوي بعضها بعضًا، وكل طريق منها صالح للحجة فضلًا عن جموعها.

وأوردها ابن الجوزي في الموضوعات، وأعلها بما لا يقدح، وبمخالفتها للأحاديث الصحيحة في باب أبي بكر، وزعم أنها من وضع الرافضة، قابلوا بها الحديث الصحيح، فأخطأ في ذلك خطأ شنيعًا فاحشًا، فإنه سلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة، مع أن الجمع بين القضيتين ممكن، كما أشار إليه البزار بما دلَّ عليه حديث أبي سعيد عند الترمذي، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي:"لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبًا غيري وغيرك"، والمعنى: إن باب علي كان إلى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره، فلذا لم يؤمر بسدِّه، ويؤيده ما أخرجه إسماعيل القاضي عن المطلب بن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يمرَّ في المسجد وهو جنب إلّا لعلي بن أبي طالب؛ لأن بيته كان في المسجد، ومحصّل الجمع أنه أمر بسد الأبواب مرتين، ففي الأولى استثنى باب علي لما ذكر، وفي الأخرى باب أبي بكر، لكن إنما يتمّ بحمل باب علي على الباب الحقيقي وباب أبي بكر على المجازي، أي: الخوخة -كما في بعض طرقه، وكأنهم لما أمروا بسدها سدوها وأحدثوا خوخًا يستقربون الدخول إلى المسجد منها، فأمروا بعد ذلك بسدها، فهذا لا بأس به في الجمع، وبه جمع الطحاوي والكلاباذي، وصرَّح بأن بيت أبي بكر كان له باب خارج المسجد، وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت علي لم يكن له باب إلّا من

ص: 82

وكان ابتداء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، كما ثبت في رواية معمر عن الزهري، وفي سيرة أبي معشر: كان في بيت زينب بنت جحش، وفي سيرة سليمان التيمي: كان في بيت ريحانة، والأوّل هو المعتمد.

وذكر الخطابي أنه ابتدأ به يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء، واختلف في مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يومًا -كما مَرَّ، وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما في الروضة، وصدَّر بالثاني، وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح.

وفي البخاري قالت عائشة: لما ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتدَّ به وجعه، استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي فأذِنَّ له، فخرج وهو بين رجلين تخطّ رجلاه في

داخل المسجد. انتهى، ملخصًا من فتح الباري.

"وكان ابتداء" اشتداد "مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، كما ثبت في رواية معمر عن الزهري" عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة: أوّل ما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة. الحديث في الصحيحين، وأما ابتداؤه الحقيقيّ فكان في بيت عائشة كما يأتي "وفي سيرة أبي معشر" نجيح بن عبد الرحمن، "كان في بيت زينب بنت جحش، وفي سيرة سليمان التيمي، كان في بيت ريحانة، والأوّل" بيت ميمونة "هو المعتمد" كما قال الحافظ؛ لأنه الذي في الصحيحين مسندًا.

"وذكر الخطابي أنه ابتدأ به" المرض، "يوم الاثنين، وقيل: يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد" شيخ الحاكم أبي عبد الله "يوم الأربعاء، واختلف في مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يومًا" وهو المشهور "كما مَرَّ، وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما" أي: القولين "في الروضة، وصدَّر بالثاني" الذي هو اثنا عشر، "وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح" عنه، وجمع شيخنا بجواز اختلاف أحواله في ابتداء مرضه، فذكر كلّ منهم اليوم الذي علم بحصول ما رآه من حاله وشدة مرضه التي انقطع بها عن الخروج في بيت عائشة: كانت سبعة أيام على ما يأتي، وما زاد عليها قبل اشتداده الذي انقطع به صلى الله عليه وسلم.

"وفي البخاري" ومسلم "قالت عائشة: لما ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد به وجعه" عطف تفسير، يقال: ثقل مرضه إذا اشتدَّ وركضت أعضاؤه عن الحركة، قال عياض: العرب تسمي كل مرض وجعًا "استأذن أزواجه في أن يمرَّض" بضم أوله وفتح الميم وشد الراء "في بيتي، فأذِنَّ -بفتح الهمزة وكسر المعجمة وشد النون- أي: الأزواج له صلى الله عليه وسلم.

ص: 83

الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بالذي قالت عائشة فقال لي عبد الله ابن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسمّ عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب. الحديث.

وفي رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العبّاس ورجل آخر.

وفي أخرى: بين رجلين أحدهما أسامة. وعند الدارقطني: أسامة والفضل، وعند ابن حبان في أخرى: بريرة ونوبة -بضم النون وسكون الواو ثم موحدة، قيل: وهو اسم أمة، وقيل: هو عبد، وعند ابن سعد من وجه آخر: بين الفضل وثوبان.

قال الكرماني: وروي -بضم الهمزة وكسر الذال وخفة النون- مبني للمجهول "فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض" أي: لا يقدر على تمكينها منها لشدة مرضه، "بين عباس بن عبد المطلب" عمه "وبين رجل آخر، قال عبيد الله" بضم العين- ابن عبد الله -بفتحها- ابن عتبة -بضمها وإسكان الفوقية- راوي الحديث عن عائشة "فأخبرت عبد الله" ابن عباس مستفهمًا للعرض عليه "بالذي قالت عائشة، فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة".

وفي رواية للشيخين: فدخلت على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدَّثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هات، فعرضت عليه حديثها، فما أنكر منه شيئًا، غير أنه قال: أسمَّت لك الرجل الذي كان مع العباس، "قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب" زاد الإسماعيلي: ولكن عائشة لا تطيب له نفسًا بخير، وعند ابن إسحاق: ولكن لا تقدر أن تذكره بخير. انتهى.

وذلك لما جبل عليه الطبع البشري، فلا إزراء في ذلك عليها ولا على علي رضي الله عنهما...... "الحديث".

"وفي رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العباس" أكبر ولده "ورجل آخر" هو علي -كما في بقية هذه الرواية أيضًا.

"وفي " رواية "أخرى" لغير مسلم كما في شروحه "بين رجلين، أحدهما أسامة بن زيد "وعند الدارقطني أسامة والفضل" بن عباس "وعند ابن حبان في أخرى: بريرة ونوبة -بضم النون وسكون الواو، ثم موحدة- كما ضبط ابن ماكولا، "قيل: وهو اسم أمة" واحدة الإماء "وقيل: هو عبد " أسود ذكر، وبه جزم سيف، ويؤيده رواية ابن خزيمة: فخرج بين بريرة ورجل آخر، فوهم من ذكر نوبة في النساء الصحابيات، قاله الحافظ.

"وعند ابن سعد" محمد "من وجه آخر بين الفضل وثوبان" بمثلثة مولاه صلى الله عليه وسلم، "وجمعوا

ص: 84

وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدّد، فتعدد من اتكأ عليه.

وعن عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه:"إني لا أستطيع أن أدور في بيوتكنّ، فإن شئتنّ أذنتنّ لي" رواه أحمد.

وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدا؟ " يريد يوم عائشة، حرصًا على أن يكون في بيت عائشة.

وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري: إن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك، فقالت لهنَّ: إنه يشق عليه الاختلاف.

وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة، أن دخوله عليه الصلاة والسلام بيتها كان يوم الإثنين، وموته يوم الإثنين الذي يليه.

وفي مرسل أبي جعفر عند ابن أبي شيبة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أين أكون أنا غدًا"،

بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأنَّ خروجه تعدَّد، فتعدد من اتكأ عليه" وهو أَوْلَى ممن قال: تناوبوا في صلاة واحدة، هذا بقية ما ذكره الحافظ هنا في الوفاة.

"وعن عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: "إني لا أستطيع أن أدور" أطوف عليكن "في بيوتكنّ، فإن شئتن أذنتنَّ لي" في أن أكون في بيت عائشة "رواه أحمد" وفيه مزيد لطفه وحسن عشرته، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بأنه لا يستطيع الدوران مع أنه عذر ظاهر حتى أنه علّق الإذن على مشيئتهن.

"وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول" وفي رواية يسأل: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ " مرتين "يريد يوم عائشة حرصًا على أن يكون في بيت عائشة"، قال ابن التين في الرواية الأخرى: إن أزواجه أذِنَّ له أن يقيم عند عائشة، فظاهره يخالف هذا، ويجمع باحتمال أنهنَّ له بعد أن صار إلى يومها، يعني: فيتعلّق الإذن بالمستقبل وهو جمع حسن، قاله الحافظ.

"وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري أن فاطمة" الزهراء "هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك" أي: الاستئذان، "فقالت لهنَّ: أنه يشق" يصعب "عليه الاختلاف" بالمجيء والرواح من حجرة إلى أخرى.

"وفي رواية ابن أبي مليكة" بضم الميم- اسمه: عبد الله "عن عائشة، أن دخوله عليه الصلاة والسلام بيتها كان يوم الإثنين وموته يوم الإثنين الذي يليه" فاختصَّت بسبعة أيام.

"وفي مرسل أبي جعفر عند ابن أبي شيبة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أين أكون غدًا؟: كررها أي:

ص: 85

كررها مرتين، فعرف أزواجه أنه إنما يريد عائشة، فقلن: يا رسول الله، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة.

وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن الإسماعيلي، كان يقول:"أين أنا غدًا" حرصًا على بيت عائشة، فلمَّا كان يومي أذن له نساؤه أن يمرَّض في بيتي.

وعن عائشة: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه، فقال:"بل أنا وا رأساه" ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك، ودفنتك، فقالت: لكأنِّي بك والله لو فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسَّم صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه. رواه أحمد والنسائي.

هذه المقالة "مرتين فعرف" وفي نسخة: فعرفنا على لغة أكلوني البراغيث "أزواجه أنه إنما يريد عائشة فقلن: يا رسول الله، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة".

"وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند الإسماعيلي: كان صلى الله عليه وسلم يقول: "أين أنا غدًا؟ " حرصًا على بيت عائشة" أي: على أن يكون في بيتها، كما في رواية:"فلمَّا كان يومي أذن له نساؤه أن يمرَّض في بيتي"، ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن كان يقول:"أين أنا غدًا؟ " قبل يوم عائشة، وأمر فاطمة أن تستأذنهنَّ فأخبرتهنَّ بذلك، فلمَّا كان يوم عائشة قال وهن عنده:"أين أنا غدًا؟ " وكرها، ففهم أزواجه أنه يريد عائشة، وأكَّد ذلك قول فاطمة: إنه يشق عليه الاختلاف، فوهبن أيامهنَّ لعائشة، فقال صلى الله عليه وسلم زيادة في تطييب قلوبهنَّ:"أني لا أستطيع....." إلخ.

وكان ذلك في يومها كما قالت، فلمَّا كان في يومي أذن له نساؤه أن يمرَّض في بيتي، هكذا ظهر لي.

"وعن عائشة: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة" لبعض أصحابه "بالبقيع" بموحدة- مقبرة المدينة، "وأنا أجد صداعًا في رأسي" جملة حالية، "وأنا أقول: وا رأساه" ندبت نفسها وأشارت إلى الموت، قاله الطيبي: كأنها فهمت أن وجع رأسها يتولّد منه الموت، فقال صلى الله عليه وسلم مشيرًا إلى أنها لا تموت منه بالإضراب "بل أنا وا رأساه"، ثم قال مشيرًا إلى أنها لو ماتت قبله لكان خيرًا لها: "ما ضرك لو مت قبلي فغسَّلتك" بنفسي على ظاهره، ففيه أنَّ الزوج أحقّ بتغسيل زوجته، "وكفَّنتك وصليت عليك ودفنتك"، فقالت: لكأنِّي بك والله لو فعلت" أي: لو قام بي "ذلك" فهو -بضم التاء أو بفتحها خطابًا، أي: لو فعلت الغسل وما بعده "لقد رجعت إلى بيتي فأعرست، من أعرس، أي: غشي "فيه ببعض نسائك، فتبسّم صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه، ورواه أحمد والنسائي" من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها.

ص: 86

وفي البخاري: قالت عائشة: وا رأساه، فقال صلى الله عليه وسلم:"ذاك لو كان وأنا حي، فأستغفر لك وأدعو لك" فقالت عائشة: وا ثكلياه، والله إنّي لأظنك تحب موتي، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسًا ببعض أزواجك، فقال صلى الله عليه وسلم:"بل أنا وا رأساه، لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه، فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنَّى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون".

"وفي البخاري" في الطب والأحكام "قالت عائشة: وا رأساه" من الصدع ظنًّا أنه قد يتولّد منه الموت "فقال صلى الله عليه وسلم: "ذاك" بكسر الكاف، أي: موتك -كما يدل عليه السياق "لو كان وأنا حي" الواو للحال "فأستغفر لك وأدعو لك" بكسر الكاف فيهما، "فقالت عائشة: واثكلياه" بضم المثلثة وسكون الكاف وكسر اللام مصححًا عليها في الفرع بعدها تحتية خفيفة فألف فهاء ندبة، وفي بعض الأصول: بفتح اللام، ولم يذكر الحافظ ابن حجر غيرها، وتعقّبه العيني فقال: ليس كذلك؛ لأنَّ ثكلياه إمَّا أن يكون مصدرًا أو صفة للمرأة التي فقدت ولدها، فإن كان مصدرًا فالثاء مضمومة واللام مكسورة، وإن كان صفة فالثاء مفتوحة واللام كذلك، قال في القاموس: الثكل بالضم الموت والهلاك وفقدان الحبيب أو الولد. انتهى.

وليست حقيقته مرادة هنا، بل هو كلام يجري على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها، قاله المصنف، "والله إني لأظنك تحب موتي" فهمت ذلك من قوله:"لو كان وأنا حي"، "فلو كان ذلك" أي: موتي، وفي رواية: ذاك بلا لام" لظللت" بفتح اللام والظاء المعجمة وكسر اللام الأولى وسكون الثانية، أي: لدنوت وقربت "آخر يومك" من موتى حال كونك "معرسًا" بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الراء المشددة فسين مهملة- اسم فاعل، وبسكون العين وخفة الراء من أعرس بالمرأة إذا بنى بها أو غشيها "ببعض أزواجك"، ونسيتني، "فقال صلى الله عليه وسلم:"بل أنا وا رأساه" قال المصنف: هكذا في الأصول المعتمدة التي وقفت عليها بإثبات بل الإضرابية، "لقد همت أو أردت" بالشك من الراوي "أن أرسل إلى أبي بكر" الصديق وابنه عبد الرحمن، "فأعهد" بفتح الهمزة والنصب عطفًا على أرسل: أي: أوصي بالخلافة إلى أبي بكر كراهية "أن يقول القائلون" الخلافة لفلان أو يقول واحد منهم: الخلافة لي، وأن مصدرية، والمقول محذوف، "أو يتمنَّى المتمنون" أن تكون الخلافة لهم فأعينه قطعًا للنزع، وقد أراد الله تعالى أن لا يعهد ليؤجر المسلمون على الاجتهاد، والمتمنون -بضم النون- جمع متمنٍّ بكسرها، وقال ابن التين: ضبط بفتح النون، وإنما هو بضمها؛ لأن الأصل المتمنيون بزنة المتطهرون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فاجتمع ساكنان الياء والواو فحذفت الياء لذلك وضمت النون لأجل الواو؛ إذ لا يصح واو قلبها كسرة. انتهى.

ص: 87

وقوله: "بل أنا وا رأساه" إضراب، يعني: دعي ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي.

فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد في الزهد عن طاوس أنه قال: أنين المريض شكوى، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن تأوّه المريض مكروه.

قلت: تعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه

وأقرَّه الحافظ، وردّه العيني فقال: فتح النون هو الصواب وهو الأصل، كما في قوله: المسمون؛ إذ لا يقال فيه بضم الميم، وتشبيه القائل المذكور بالمتطهرون غير مستقيم؛ لأن هذا صحيح وذاك معتلّ اللام، وكل هذا عجز، وقصور عن قواعد علم التصريف.

كذا قال وأقرَّه المصنّف وردَّه شيخنا بأن الصواب خلافه لما علل به، وأمَّا تشبيهه بالمسمّون فهو من اشتباه اسم الفاعل باسم المفعول، فإن النون في اسم الفاعل مكسورة، ومفتوحة في اسم المفعول، فيفعل فيها ما ذكر، وقياس اسم الفاعل من سمي المسمون بضم الميم الثانية جمع المسمَّى.

وفي التقريب قال الأزهري: تميت الشيء قدرته، والفاعل متمنٍّ والجمع متمنون -بضم النون، والأصل متمنيون، ومثله قاضون وأصله قاضيون، "ثم قلت:"يأبى الله" إلّا خلافة أبي بكر "ويدفع المؤمنون" خلاف غيره لاستخلافي له في الإمامة الصغرى "أو" قال صلى الله عليه وسلم: "يدفع الله" خلافة غيره "ويأبى المؤمنون" إلّا خلافته، شك الراوي في التقديم والتأخير.

وفي رواية لمسلم: "ادعو إلي أبا بكر أكتب له كتابًا، فإني أخاف أن يتمنَّى متمنٍّ ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر"، وللبزار:"معاذ الله أن يختلف الناس على أبي بكر"، ففيه إشارة إلى أن المراد الخلافة وهو الذي فهمه البخاري، وبوّب عليه في كتاب الأحكام باب الاستخلاف.

قال الكرماني: وفائدة إحضار ابن الصديق معه في العهد بالخلافة ولم يكن له فيها دخل، أنَّ المقام مقام طيب قلب عائشة، كأنه قيل: كما أنَّ الأمر مفوّض إلى أبيك كذلك الاشتوار في ذلك بحضرة أخيك فأقاربك هم أهل مشورتي.

"وقوله: "بل أنا وا رأساه" إضراب بمعنى: دعي ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي" فإنك لا تموتين في هذا الأيام من هذا الوجع، بل تعيشين بعدي، علم ذلك بالوحي.

"فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد" الإمام "في" كتاب الزهد عن طاوس" بن كيسان اليماني، "أنه قال: أنين المريض" تأوه، وتوجّعه "شكوى".

وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية، أنَّ تأوه" توجّع "المريض مكروه" تنزيهًا، "قلت: تعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه

ص: 88

نهي مخصوص، وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتجَّ بحديث عائشة هذا، ثم قال: فلعلّهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أَوْلَى. انتهى.

قال في فتح الباري: ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخّط للقضاء، وتورّث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس اتفاقًا، فليس ذكر الوجع شكاية. فكم من ساكت وهو ساخط، وكم من شاكٍ وهو راض، فالمعوّل في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان.

وقد تبيّن -كما نبَّه عليه في اللطائف- أن أوَّل مرضه عليه الصلاة والسلام كان صداع الرأس، والظاهر أنه كان مع حمى، فإن الحمَّى اشتدت به في مرضه، فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، يتبرَّد بذلك.

وفي البخاري قالت: لما دخل بيتي واشتدَّ وجعه قال: "أهريقوا علي من

نهي مقصود" له بعينة ولم يصلح للتحريم، "وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة هذا" فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"بل أنا وا رأساه" دليل على الجواز، "ثم قال النووي: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله" أي: المريض "بالذكر أَوْلَى. انتهى".

وأما حديث المريض: أنينه تسبيح، فليس بثابت كما نقله السخاوي عن شيخه الحافظ، "قال في فتح الباري: ولعلهم أخذوه" أي: قولهم بالكراهة "بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخّط" أي: إظهار التألُّم وعدم الصبر "للقضاء" الذي أصابه مما يكرهه "وتورّث شماتة الأعداء" فرحهم.

وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه" الذي يداويه "عن حاله فلا بأس به" أي: يجوز "اتفاقًا، فليس ذكر الوجع شكاية، فكم من ساكت وهو ساخط" بقلبه، "وكم من شاكٍ" بلسانه "وهو راضٍ" بقلبه، "فالمعوّل في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان"؛ لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله.

"وقد تبيّن كما نبَّه عليه في اللطائف أنَّ أوَّل مرضه عليه الصلاة والسلام كان صداع الأس، والظاهر أنه كان مع حمَّى، فإن الحمَّى اشتدت به في مرضه، فكان يجلس في مخضب" بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح الضاد المعجمتين- الإجانة "ويصبّ عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرَّد بذلك" من الحمَّى.

وفي البخاري قالت عائشة: لما دخل بيتي واشتدَّ وجعه قال: "أهريقوا" أي: صبوا

ص: 89

سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس" فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طففنا نَصُبّ عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن. الحديث.

وقد قيل في الحكمة في هذا العدد: إن له خاصية في دفع ضرر السمّ والسحر، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنه عليه الصلاة والسلام قال:"هذا أوان انقطاع أبهري" أي: من ذلك السمّ. وتمسَّك بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب به، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعًا إنما هو لدفع السمية التي في ريقه.

وكانت عليه -صلوات الله وسلامه عليه- قطيفة، فكانت الحمَّى تصيب من يضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك، فقال: "إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف

علي من سبع قرب لم تحلل" بضم الفوقية وسكون المهملة وفتح اللام خفيفة "أوكيتهن" جمع وكاء وهو رباط القربة، "لعلي أعهد إلى الناس" أي: أوصي، "فأجلسناه في مخضب" بكسرالميم بزنة منبر، إناء يغتسل فيه "لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طفقنا" شرعنا "نصُبّ عليه من تلك القرب" السبع، "حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتنّ" أي: كفّوا عن الصب "الحديث" تتمته هنا في البخاري، قالت: ثم خرج إلى الناس فصلَّى لهم وخطبهم.

وفي حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم خطب في مرضه.... الحديث، وفيه آنه آخر مجلس جلسه، ولمسلم عن جندب: إن ذلك كان قبل موته بخمس. قال الحاظ: فعليه يكون يوم الخميس، ولعلّه كان بعد اختلافهم عنده، وقوله لهم:"قوموا" فلعله وجد بعد ذاك خفة فخرج، "وقد قيل في الحكمة في هذا العدد" أي: قوله: "من سبع قرب""أنَّ له" أي: العدد "خاصية في دفع ضرر السم والسحر، وسيأتي إن شاء الله تعالى" قريبًا "أنه عليه الصلاة والسلام قال: "هذا أوان" بالفتح ظرفًا "انقطاع أبهري" بفتح فسكون "من ذلك السم" الذي أكله بخيبر، "وتمسك به بعض في أنكر نجاسة سؤر الكلب، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعًا إنما هو لدفع السمية التي في ريقه".

زاد الحافظ: وقد ثبت حديث: "من تصبَّح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" ، وللنسائي في قراءة الفاتحة على المصاب سبع مرات وسنده صحيح، ولمسلم: القول لمن به وجع أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحذر سبع مرات، وفي النسائي: من قال عند مريض لم يحضر أجله أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات، "وكانت عليه -صلوات الله وسلامه عليه- قطيفة" كساء له خمل "فكانت الحمَّى تصيب من يضع يده عليه" أي: المصطفى "من فوقها" أي: القطيفة لشدة حرارة الحمَّى "فقيل له في ذلك، فقال: "إنا"

ص: 90

لنا الآجر" رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبي سعيد الخدري.

وقالت عائشة: ما رأيت أحدًا كان أشدَّ عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عبد الله قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يوعك وعكًا شديدًا، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا، قال:"أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال:"أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كَفَّر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها" رواه البخاري.

معاشر الأنبياء "كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر".

"رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك بن سنان، "وقالت عائشة: ما رأيت أحدًا كان أشدّ عليه الوجع" أي: المرض، والعرب تسمي كل مرض وجعًا "من رسول الله صلى الله عليه وسلم" زيادة في أجره، وهذا الحديث رواه الشيخان.

"وعن عبد الله" بن مسعود قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو" أي: والحال أنه يوعك بفتح العين- يحمّ "وعكًا شديدًا" فمسسته، "فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا" بسكون العين وفتحها "شديدًا: قال: "أجل" بفتح الجيم وسكون اللام مخفَّفة، أي: نعم "إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"؛ لأنه كالأنبياء مخصوص بكمال الصبر.

قال ابن مسعود: "قلت ذلك" التضاعف "إن لك لأجرين، قال: "أجل ذلك كذلك" فالبلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعم الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد، "وما من مسلم يصيبه أذى شوكة" بالرفع بدل، والتنكير للتقليل، ودونها في الحقارة، وعكس ذلك قاله في الفتح والكواكب، وفي رواية: أذى مرض فما سواه، "إلا كفَّر الله بها" وفي نسخة: به، أي: بالأذى، لكن الذي في البخاري بها، أي: بالشوكة "سيئاته" الصغائر أو الكبائر، حدث عن الكرم بما شئت "ما تحط الشجرة ورقها" وذلك زمن الخريف، فإنها حينئذ تتجرّد عنها سريعًا لجفافها وكثرة هبوب الرياح.

زاد في حديث سعد بن أبي وقاص عند الدارمي، وصحَّحه الترمذي وابن حبان:"حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"، قال الطيبي: تحات ورق الشجر كنايةً عن إذهاب الخطايا، شبَّه حالة المريض وإصابة المرض جسده، ثم محو السيئات عنه سريعًا، بحملة الشجر وهبوب الرياح وتناثر الأوراق منها وتجردها عنها، فهو تشبيه تمثيلي لانتزاع الأمور والمتوهمة في المشبه

ص: 91

والوَعْك -بفتح الواو وسكون العين المهملة، وقد تفتح- الحمى، وقيل: ألم الحمى، وقيل: إرعادها الموعك وتحريكها إياه. وعن الأصمعي: الوعك الحر، فإن كان محفوظًا فلعلَّ الحمى سميت وعكًا لحرارتها.

قال أبو هريرة: ما من وجع يصيبني أحبَّ إليَّ من الحمَّى، إنها تدخل في كل مفصل من ابن آدم، وإن الله يعطي كل مفصل قسطًا من الأجر.

وأخرج النسائي وصححه الحاكم، من حديث فاطمة بنت اليمان -أخت حذيفة- قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نساء نعوده: فإذا سقاء يقطر عليه من شدة الحمَّى، "فقال:"إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

من المشبه به، فوجه الشبه الإزالة الكلية سريعًا لا الكمال والنقصان؛ لأن إزالة ذنوب الإنسان سبب كماله، وإزالة الأوراق عن الشجر سبب نقصانها.

"رواه البخاري" في مواضع عديدة من الطب، وكذا رواه مسلم في الطب "والوعك بفتح الواووسكون العين المهملة وقد تفتح - الحمى" نفسها "وقيل: ألم الحمَّى، وقيل: إرعادها الموعوك وتحريكها إياه".

وعن الأصمعي" بفتح الميم- عبد الملك بن قريب "الوعك الحرّ، فإن كان محفوظًا" عند أهل اللغة فلعل الحمَّى سميت وعكًا لحرارتها، "قال أبو هريرة: ما من وجع" أي: مرض يصيبني "أحبَّ إليَّ من الحمَّى، إنها تدخل في كل مفصل" بزنة مسجد، أحد مفاصل الإنسان "من ابن آدم، وإن الله يعطي كل مفصل قسطًا" نصيبًا "من الأجر".

"وأخرج النسائي وصحَّحه الحاكم من حديث فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة" العبسية، ويقال اسمها خولة، روى عنها ابن أخيها أبو عبيد بن حذيفة، أنها "قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نساء نعوده، فإذا سقاء -بكسر السين- معلق "يقطر" ماؤه عليه من شدة ما يجد من حر "الحمَّى، فقال: "إن أشد" هكذا الرواية في النسائي وغيره أشد "الناس" بدون من قبلها، فما في نسخ: إن من لا يصح ولا من جهة المعنى؛ لأن الأنبياء أشدّ على الإطلاق، وفي تاريخ البخاري مرفوعًا: "أشد الناس بلاء في الدنيا نبي أو صفي"، والذي في الإصابة: والزيادات معز، وللنسائي وغيره وبلفظ: "إن أشد الناس بلاء" في الدنيا "الأنبياء ثم الذين يلونهم" الأصفياء والصالحون "ثم الذين يلونهم" وهذا يفسره رواية الطبراني في الكبير عن فاطمة بنت اليمان نفسها مرفوعًا بلفظ: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل".

قال القرطبي: أحب الله تعالى أن يبتلى أصفياءه تكميلًا لفضائلهم ورفعة لدرجاتهم عنده

ص: 92

وفي حديث عائشة: إنه صلى الله عليه وسلم كان بين يديه علبة أو ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول:"لا إله إلا الله، إن للموت سكرات" الحديث رواه البخاري.

وروى أيضًا عن عروة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم".

وفي رواية: "ما زالت أكلة خيبر تعادني".

وليس ذلك نقصًا في حقهم ولا عذابًا، بل كمال رفعة مع رضاهم بجميل ما يجريه الله عليهم، وقال العارف الجيلاني: إنما كان الحق يديم على أصفيائه البلايا والمحن ليكونوا دائمًا بقلوبهم في حضرته لا يغفلون عنه؛ لأنه يحبهم ويحبونه، فلا يختارون الرخاء؛ لأن فيه بعدًا عن محبوبهم، وأمَّا البلاء فقيد للنفوس يمنعها من الميل لغير المطلوب، فإذا دام ذابت الأهوية وانكسرت القلوب، فوجدوا الله أقرب إليهم من حبل الوريد كما قال الله تعالى.

وفي بعض الكتب الإلهية: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، أي: على الكشف منهم والشهود، وإلا فهو عند كل عبد انكسر قلبه أم لا.

"وفي حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان بين يديه علبة" بضم العين وسكون اللام وفتح الموحدة- قدح ضخم من خشب "أو ركوة" بفتح الراء- من جلد، يشك عمر بن سعيد أحد رواته، كما في البخاري:"فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات" جمع سكرة وهي الشدة..... "الحديث" باقية، ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده.

"رواه البخاري" إن عائشة كانت تقول: إن من عم الله عليّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي.... الحديث، وفيه: وكان بين يديه ركوة إلى آخر ما هنا.

"روى" البخاري "أيضًا" لكن تعليقًا، قال الحافظ: وصله البزار والحاكم والإسماعيلي "عن عروة "بن الزبير، عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ما أزال أجد ألم الطعام" أي: أحس الألم في جوفي بسبب الطعام المسموم "الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان" بالرفع على الخبرية، وهو الذي في الفرع وبالفتح لإضافته إلى مبني وهو الماضي؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، وهو في موضع رفع خبر المبتدأ، قاله المصنف واقتصر الحافظ على قوله: أوان -بالفتح على الظرفية "وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم" بفتح السين وضمها.

"وفي رواية" لابن سعد بأسانيد متعددة في قصة الشاة التي سمت له بخيبر، وقال في آخرها: وعاش بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قبض فيه جعل يقول: "ما زلت أكلة

ص: 93

والأكلة -بالضم: اللقمة التي أكل من الشاة. وبعض الرواة يفتح الألف، وهو خطأ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل منها إلا لقمة واحدة، قاله ابن الأثير.

ومعنى الحديث: إنه نقض عليه سم الشاة التي أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانًا.

والأبهر: عرق مستبطن بالصلب يتَّصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه.

وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا من السم.

وعند البخاري أيضًا قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيديه، فلمَّا اشتكى وجعه الذي توفي فيه، طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه.

خيبر تُعادّني" بضم الفوقية وشد الدال المهملة، قاله في النهاية، أي: تراجعني ويعاودني ألم سمها في أوقات معلومة، يقال به عداد من ألم، أي: يعاوده في أوقات معلومة. انتهى. فنسخ تعاودني بزيادة واو قبل الدال تحريف، وعند ابن سعد: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلتها بخيبر عدادًا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري" وتوفي شهيدًا. انتهى.

"والأكلة -بالضم" للهمزة "اللقمة التي أكل من الشاة، وبعض الرواة يفتح الألف وهو خطأ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل منها إلا لقمة واحدة، قاله ابن الأثير" في النهاية، ومعنى الحديث أنه نقض عليه سم الشاة التي أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانًا"، حتى ينال رتبة الشهادة، ومرَّت القصة مبسوطة في خيبر "والأبهر" بفتح الهمزة والهاء بينهما موحدة ساكنة "عرق مستبطن بالصلب متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه".

هكذا نقله في الفتح عن أهل اللغة، ثم قال: وقال الخطابي: يقال: إن القلب متصل، "وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا من السم" الذي تناوله بخيبر، ومن المعجزة أنه لم يؤثّر فيه في وقته؛ لأنهم قالوا: إن كان نبيًّا لم يضره، وإن كان ملكًا استرحنا منه، فلمَّا لم يؤثر فيه تيقنوا نبوته حتى قيل: إن اليهودية أسلمت، ثم نقض عليه بعد ثلاث سنين لإكرامه بالشهادة.

"وعند البخاري أيضًا قالت" عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى" أي: مرض "نفث" بمثلثة، أي: تفل بغير ريق أو مع ريق خفيف "على نفسه بالمعوذات" بكسر الواو المشددة، ومسح أي: يقرأ ماسحًا "بيديه" عند قراءتها؛ لتصل بركة القرآن إلى بشرته المقدَّسة، "فلما اشتكى" مرض "وجعه"، مرضه الذي توفي فيه طفقت" أي: أخذت حال كوني "أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث" بكسر الفاء "وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه" بركتها، وهذا

ص: 94

وفي رواية مالك: وأمسح بيده رجاء بركتها.

ولمسلم: فلما مرض مرضه الذي مات فيه، جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي.

وأطلقت على السور الثلاث: المعوّذات تغليبًا.

وفي البخاري عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستنّ به، فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، فأخذت السواك فقضمته ونقضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستنَّ به، فما رأيته استنَّ استنانًا قط أحسن منه. الحديث.

رواه البخاري في الوفاة من طريق يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة.

"وفي رواية مالك" عن ابن شهاب بهذا الإسناد عند البخاري في فضائل القرآن: "وأمسح بيده صلى الله عليه وسلم "رجاء بركتها"، وفي رواية معمر عن ابن شهاب، بسنده عند البخاري في الطب: أمسح بعد نفسه، "ولمسلم" من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي".

وعند البخاري عن ابن أبي مليكة عن عائشة: فذهبت أعوّذه، فرفع رأسه إلى السماء وقال:"في الرفيق الأعلى" ، وللطبراني من حديث أبي موسى، فأفاق وهي تمسح صدره وتدعو بالشفاء، فقال:"لا ولكن أسال الله الرفيق الأعلى"، "وأطلقت على السور الثلاث" الإخلاص والتاليتين لها "المعوذات تغليبًا" كما قال الحافظ: إنه المعتمد، وعبارته: المراد بالمعوذات: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، وجمع باعتار أن أقل الجمع اثنان، أو باعتبار أن المراد الكلمات التي يقع بها التعويذ من السورتين، ويحتمل أن المراد هاتان السورتان مع سورة الإخلاص، وأطلقت ذلك تغليبًا وهذا هو المعتمد.

"وفي البخاري عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب" من جريد "يستنّ" بشدّ النون- يستاك به، قال الخطابي: أصله من السنّ، أي: بالفتح- ومنه السن الذي يسن عليه الحديد، فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، فأخذت السواك" من عبد الرحمن "فقضمته ونقضته" بالفاء والضاد المعجمة "وطيبته، ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستنَّ" استاك "به، فما رأيته استنَّ استنانًا قط أحسن منه.... الحديث" تمامه: فما عدا أن فرغ صلى الله عليه وسلم رفع يده أو إصبعه، ثم قال:"في الرفيق الأعلى" ثلاثًا، ثم قضى، وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي.

ص: 95

وقولها: "فأبده" بتشديد الدال المهملة- أي: مَدَّ نظره إليه.

وقولها: "فقضمته" بكسر الضاد المعجمة- أي: لطوله، ولإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن، "ثم طيبته": أي لينته بالماء.

وفي رواية له أيضًا قالت: إنَّ من نعم الله تعالى عليَّ أن جمع الله بين ريقي وريقه عند موته، دخل على عبد الرحمن وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم.

وفي رواية: مَرَّ عبد الرحمن وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم، فظننت أنَّ له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها ودفعتها إليه، فاستنَّ بها كأحسن ما

"وقولها: فأبدَّه" بموحدة خفيفة "وبتشديد الدال المهملة، أي: مَدَّ نظره إليه" يقال: أبددت فلانًا النظر إذا طوَّلته إليه.

وفي رواية الكشميهني: فأمدَّه بالميم، قال المصنف: وهما بمعنى، "وقولها: فقضمته" بفتح القاف و "بكسر الضاد المعجمة" أي: مضغته، والقضم الأخذ بطرف الأسنان "أي: لطوله، ولإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن، ثم طيبته، أي: لينته بالماء".

قال الحافظ: وحكى عياض أن الأكثر رووه بالصاد المهملة، أي: كسرته أو قطعته، حكى ابن التين رواية بالفاء والمهملة.

قال المحب الطبري: إن كان بالضاد المعجمة فيكون قولها: فطيبته تكرارًا، وإن كان بالمهملة فلا؛ لأنه يصير المعنى: كسرته لطوله، أو لإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون طيبته تأكيدًا للينته.

"وفي رواية له" للبخاري "أيضًا، قالت" عائشة: "إنَّ من نِعَمِ الله تعالى عليَّ" بشد الياء "أنَّ الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليَّ عبد الرحمن" بن أبي بكر "وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم" فيه العمل بالإشارة عند الحاجة، وقوة فطنة عائشة.

وباقي هذا في البخاري: فناولته فاشتدَّ عليه، وقلت: أليِّنه لك، فأشار برأسه أن نعم، فليِّنته فأمره، وبين يديه ركوة إلى آخر ما مَرَّ.

"وفي رواية" للبخاري أيضًا عن عائشة: "مَرَّ عبد الرحمن وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم. فظننت أن له بها" بالجريدة "حاجة، فأخذتها، فمضغت رأسها ونقضتها" بفاء ومعجمة

ص: 96

كان مستنًا، ثم ناولنيها، فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، أوّل يوم من الآخرة.

وفي حديث خرَّجه العقيلي: أنه صلى الله عليه وسلم قال لها في مرضه: "ائتيني بسواك رطب فامضيغه، ثم ائتيني به أمضغه؛ لكي يختلط ريقي بريقك"؛ لكي يهوّن علي عند الموت.

قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت هوّن الله عليهم ذلك بلقاء الله، وبكل ما أحبوا من تحفة أو كرامة، حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك، لما قد مثل له.

وفي المسند عن عائشة أيضًا: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليهوَّن عليَّ الموت؛ لأني رأيت بياض كف عائشة في الجنة". وخرَّجه ابن سعيد وغيره مرسلًا: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد رأيتها في الجنة، حتى ليهوّن عليَّ بذلك موتى، كأني أرى كفيها"، يعني عائشة.

فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة حبًّا شديدًا، حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت

"ودفعتها إليه، فاستنَّ بها كأحسن ما كان مستنًا، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت" الجريدة "من يده" شك الراوي: "فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم" من أيامه صلى الله عليه وسلم "من الدنيا وأول يوم" من أيامه من الآخرة" عليه الصلاة والسلام.

"وفي حديث خرجه العقيلي" بضم العين- أنَّه صلى الله عليه وسلم قال لها في مرضه: "ائتيني بسواك رطب فامضغيه، ثم ائتيني به أمضغه؛ لكي يختلط ريقي بريقك لكي يهوّن" الأمر "عليّ عند الموت".

وعند ابن عساكر: "ما أبالي بالموت مذ علمت أنك زوجتي في الجنة"، "قال الحسن" البصري:"لما كرهت الأنبياء الموت" باعتبار الطبع البشريّ، "هوَّن الله عليهم ذلك بلقاء الله، وبكل ما أحبوا من تحفة" وزان رطبة، ما اتحفت به غيرك.

وحكى الصغاني: سكون الحاء أيضًا، "أو كرامة، حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك لما قد مثل له، وفي المسند" للإمام أحمد "عن عائشة أيضًا: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليهوّن" بسكون الواو- يسهل "عليّ الموت" أي: تطيب نفسي به وإن وجدت فيه شدة ومشقة؛ "لأبي رأيت بياض كف عائشة في الجنة" وخرجه ابن سعد وغيره مرسلًا" بدون ذكر عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد رأيتها في الجنة حتى ليهوَّن عليَّ بذلك موتى كأني أرى كفيها"، يعني عائشة، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب عائشة حبًّا شديدًا.

ص: 97

له بين يديه في الجنة ليهوّن عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحِبَّة، وقد سأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: أي الناس أحب إليك؟ فقال: "عائشة"، فقال: من الرجال، قال:"أبوها"، ولهذا قال لها في ابتداء مرضها لما قالت: وا رأساه، وددت أن ذلك كان وأنا حي، فأصلي عليك وأدفنك، فعظم ذلك عليها، وظنت أنه يحب فراقها، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما.

ويروى أنه كان عنده صلى الله عليه وسلم في مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة، ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها في كفِّه وقال:"ما ظنّ محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه؟ " ثم تصدَّق بها كلها، رواه البيهقي.

انظر إذا كان هذا سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين المغفور له ما تقدَّم

حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت" صورت "له بين يديه في الجنة؛ ليهون" بسكون الواو يسهل "عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة" وقراءته بشدّ الواو تقتضي أنه خُفِّفَ عليه في قبض روحه وهو خلاف قوله:"إن للموت سكرات"، وخلاف قول عائشة: لا أكره شدة الموت لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، "وقد سأله صلى الله عليه وسلم رجل" هو عمرو بن العاص، لما أمَّره على ذات السلاسل على جيش فيهم أبو بكر وعمر، قال: فظننت أن لي منزلة عنده، فأتاه "فقال: أيّ الناس" هكذا الرواية في الصحيحين وغيرهما، فنسخة النساء تصحيف سببه خيال يقول في العقل، أنه أنسب بالجواب، "أحب إليك" زاد في رواية: فأحبه "فقال: "عائشة" فقال: من الرجال".

وعند ابن خزيمة وابن حبان عن عمرو: فقلت: إني لست أعني النساء، أني أعني الرجال، فلو كان السؤال، أي النساء، ما صح أن عمرًا يقول هذا، "قال:"أبوها"، فقلت: ثم مَنْ؟ قال: "ثم عمر بن الخطاب" فعدَّ رجالًا، هذا تمامه في الصحيحين، زاد في رواية: سكت مخافة أن يجعلني في آخرهم، "ولهذا قال لها في ابتداء مرضها، لما قالت: وا رأساه: "وددت أن ذلك كان" وجد "وأنا حي، فأصلي عليك وأدفنك" فعظم" شقَّ "ذلك عليها، وظنت أنه يحب فراقها، وإنما كان عليه الصلاة والسلام يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما، ويروى أنه كان عنده صلى الله عليه وسلم في مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم" أي: من عنده "بالصدقة بها، ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها" أي: أمر بإحضارها "فوضعها في كفِّه وقال: "ما ظن محمد بربه لو لقي الله تعالى" مصدرية "وعنده هذه"، ثم تصدق بها كلها" رغبةًَ في الأجر وإعراضًا عن الدنيا.

"رواه البيهقي، انظر إذا كان هذا سيد المرسلين" بالنصب خبر كان، "وحبيب رب العالمين، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وجواب إذا محذوف، أي: تبرأ من الدنيا

ص: 98

من ذنبه وما تأخَّر، فكيف حال من لقي الله عنده دماء المسلمين وأموالهم المحرّمة، وما ظنه بربه تعالى.

وفي البخاري من طريق عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه الذي قبض فيه، فسارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارَّها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارَّني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارَّني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.

وفي رواية مسروق عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشي كأنَّ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"مرحبا يا بنتي" ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارَّها.

ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت

مع أنه إنما اكتسبها من أحلّ الحلال، "فكيف حال من لقي الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة، وما ظنه بربه تعالى" إن لم يتجاوز عنه ويرض عنه خصماؤه.

"وفي البخاري" ومسلم والنسائي "من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة" بنته رضي الله عنها "في شكواه" مرضه الذي قُبِضَ فيه" بالتذكير على معنى شكوى للكشميهني، فيها بالتأيث على لفظها، "فسارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارَّها بشيء فضحكت" سقطت بشيء، الثانية لبعض رواة البخاري، "فسألناها عن" سبب "ذلك" البكاء والضحك "فقالت:" بعد وفاته "سارَّني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت" حزنًا عليه، "ثم سارّني فأخبرني أني أوّل أهله" ولبعض الرواة: أول أهل بيته "يتبعه" بسكون الفوقية "فضحكت" فرحًا بقرب الاجتماع به.

"وفي رواية" الصحيحين والنسائي عن "مسروق" بن الأجدع "عن عائشة" قالت: "أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها" بكسر الميم "مشية النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: "مرحبًا يا بنتي" بموحدة فألف وصل فموحدة ساكنة، ويوجد في بعض أصول البخاري: "يا بنتي" بياء النداء بعدها ألف، وصوّب الأوّل، "ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله" شكّ الراوي، "ثم سارَّها" لفظه: ثم أسرَّ إليها حديثًا فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسرَّ إليها حديثًا فضحكت؟ فقلت: ما رأيتك كاليوم فرحًا أقرب من حزن، فسألتها عمَّا قال: فقالت: ما كنت لأفشي سِرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، فسألتها فقالت: "أسرَّ إليَّ أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرَّة وأنه عارضني الآن مرتين، ولا أراه إلّا حضر أجلي، وأنَّك أول أهلي لحاقًا بي" فبكيت، فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين" فضحكت لذلك.

ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة" بن

ص: 99

طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا وهديًا ودلًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامها وقعودها من فاطمة. وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلمَّا مرض دخلت عليه فأكبَّت عليه قبلته.

واتفقت الروايتان على أنَّ الذي سارَّها به أولًا فبكت، هو إعلامه إياها بأنه يموت من مرضه ذلك، واختلفا فيما سارَّها به فضحكت، ففي رواية عروة أنه: إخباره إياها بأنها أوّل أهله لحوقًا به، وفي رواية مسروق أنه: إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة. وجعل كونها أوّل أهله لحوقًا به مضمومًا إلى الأوّل، وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة، وهو من الثقات الضابطين.

ومما زاده مسروق: قول عائشة: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن، فسألتها، عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي

عبيد الله التميمية، كانت فائقة الجمال، روى لها الجميع "عن عائشة" أم المؤمنين، "قالت: ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا" بفتح المهملة وسكون الميم وفوقية "وهديًا" بفتح فسكون "ودلًّا" بفتح الدال المهملة وشد اللام- الثلاثة عبارة عن الحالة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة واستقامة المنظر والهيبة -كما في النهاية، "برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامها وقعودها من فاطمة، وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها" إجلالًا لها، وفيه مشروعية القيام، "وقَبَّلها" حبًّا لها "وأجلسها في مجلسه" تعظيمًا لها، "وكان" صلى الله عليه وسلم "إذا دخل عليها" في بيتها "فعلت ذلك، فلمَّا مرض دخلت" فاطمة "عليه، فأكبَّت عليه فقبَّلته" حبًّا وإشفاقًا "واتفقت الروايتان على أن الذي سارَّها به أولًا فبكت هو: إعلامه إياها بأنه يموت من مرضه ذلك، "واختلفا" أي: الروايتان "فيما سارَّها به فضحكت، ففي رواية عروة: إنه إخباره إياها بأنها أوّل أهله لحوقًا به".

"وفي رواية مسروق" كما رأيت: إنه إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة، وجعل كونها أوّل أهله لحوقًا به مضمومًا إلى الأوّل" إخباره بأنه ميت من وجعه "وهو الراجح، فإن حديث مسروق" عن عائشة "يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة" عنها، "وهو" أي: مسروق "من الثقات الضابطين" فزيادته مقبولة، "ومما زاده مسروق قول عائشة: ما رأيت كاليوم" أي: كفرح اليوم "فرحًا" بفتح الراء- أو التقدير: ما رأيت فرحًا كفرح رؤيته اليوم أقرب من حزن" بضم المهملة وسكون الزاي، ولأبي ذرٍّ بفتحهما، "فسألتها عن ذلك، فقالت: ما كنت لأفشي" بضم

ص: 100

فسألتها فقالت: أسرَّ إلي "أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وأنك أوّل أهل بيتي لحاقًا بي".

وفي رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة: إن عائشة لما رأت بكاها وضحكها قالت: إن كنت لأظن أن هذه المرأة من أعقل النساء، فإذا هي من النساء.

ويحتمل تعدد القصة.

وفي رواية عروة الجزم أنه ميت من وجعه ذلك، بخلاف رواية مسروق، ففيها أنه ظنّ ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن.

وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أوّل أهله لحوقًا به سببًا لبكائها ولضحكها معًا باعتبارين، فذكر كل من الراويين ما لم يذكر الآخر.

الهمزة "سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي" متعلق بمحذوف تقديره: فلم تقل لي شيئًا حتى توفي، "فسألتها، فقالت: أسرَّ إلي: "إن" بكسر الهمزة "جبريل كان يعارضني" يدارسني "القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه" بضم الهمزة- أي: لا أظنه "إلا حضر أجلي، وإنك أوّل أهل بيتي لحاقًا بي".

قال المصنف: بفتح اللام والحاء المهملة، قال الحافظ: وقد طوى عروة هذا كله.

"وفي رواية عائشة بنت طلحة" السابقة قريبًا "من الزيادة، أنّ عائشة لما رأت بكاءها وضحكها، قالت: إن" مخففة من الثقيلة، أي: إني "كنت لأظن أن هذه المرأة" أي: فاطمة "من أعقل النساء، فإذا هي من النساء، لجمعها بين حزن وفرح؛ لكنها معذورة؛ لأنه أخبرها بما يوجب كلًّا منهما "ويحتمل تعدد القصة" جمعًا بين روايتي مسروق وعروة.

"وفي رواية عروة "لفظ الفتح، ويؤيده، أي: هذا الاحتمال أنَّ في رواية عروة "الجزم أنه ميت من وجعه ذلك بخلاف رواية مسروق، ففيها أنه ظنَّ ذلك بطريق الاستنباط، مما ذكره من معارضة القرآن" مرتين "وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين" خبر عروة وخبر مسروق "إلّا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أوّل أهله لحوقًا به سببًا لبكائها وضحكها معًا باعتبارين" فباعتبار أسفها على بقائها بعده مدة بكت، وهو ما رواه مسروق، وباعتبار سرعة لحاقها به ضحكت، وهو ما رواه عروة "فذكر كلّ من الراويين" مسروق وعروة "ما لم يذكره الآخر"، وهذا الجمع أَوْلَى من احتمال التعدد؛ لأن الأصل عدمه.

ص: 101

وقد روى النسائي من طريق أبي سلمة عن عائشة في سبب البكاء أنه ميت، وفي سبب الضحك الأمرين الأخيرين.

ولابن سعد من رواية أبي سلمة عنها: إن سبب البكاء موته، وسبب الضحك لحاقها به.

وعند الطبراني -من وجه آخر- عن عائشة، أنه قال لفاطمة:"إن جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكوني أدنى امرأة منهن صبرًا".

وفي الحديث: إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع، فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم، فإنّهم اتفقوا على أنَّ فاطمة رضي الله عنها كانت أوّل من مات من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعده، حتى من أزواجه عليه الصلاة والسلام.

وقد كان صلى الله عليه وسلم من شدة وجعه يغمى عليه في مرضه ثم يفيق، وأغمي عليه مرة فظنّوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه، فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه، فقالوا:

وقد روى النسائي من طريق أبي سلمة" ابن عبد الرحمن "عن عائشة، في سبب البكاء أنه ميت، وفي سبب الضحك الأمرين الأخيرين" أنها أوّل أهله لحاقًا به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، وهذا يؤيد الجمع الثاني.

"ولابن سعد من رواية أبي سلمة عنها" أي: عائشة: "إنَّ سبب البكاء موته، وسبب الضحك لحاقها به" فوافق رواية عروة.

"وعن الطبراني من وجهٍ آخر عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "إن" بكسر الهمزة "جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية" براء فزاي- مصيبة "منك، فلا تكوني أدنى" أقل "امرأة منهن صبرًا" وبهذا فضلت أخواتها؛ لأنهنَّ متن في حياته، فكنَّ في صحيفته، ومات هو في حياتها فكان في صحيفتها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله تعالى.

"وفي الحديث" معجزة، وهو إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع، فوقع كما قال، فإنهم اتفقوا على أنَّ فاطمة أوّل من مات من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعده" بستة أشهر على الصحيح "حتى من أزواجه عليه الصلاة والسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم من شدة وجعه يغمى عليه في مرضه ثم يفيق، وأغمي عليه مرة، فظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه" بإشارة أم سلمة وأسماء بنت عميس، كما رواه ابن سعد عن أبي بكر بن عبد الرحمن "فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه -بضم اللام "فقالوا: كراهية المريض للدواء".

ص: 102

كراهية المريض للدواء، فلمَّا أفاق قال:"ألم أنهكم أن تلدوني؟ " فقالوا: كراهية المريض للدواء، فقال:"لا يبقى أحد في البيت إلّا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم" رواه البخاري.

واللدود هو ما يجعل في جانب الفم من الدواء، فأمَّا ما يصب في الحلق فيقال له: الوجور.

وفي الطبراني من حديث العباس: إنهم أذابوا قسطًا بزيت ولدّوه به.

وفي قوله: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد"

إلخ مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان، وفيه نظر؛ لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم؛ لتركهم امتثال نهيه عمَّا نهاهم عنه. قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم

قال عياض: ضبطناه بالرفع، أي: هذا منه كراهية، وقال أبو البقاء: خبره مبتدأ محذوف، أي: هذا الامتناع كراهية، ويجوز النصب مفعول له، أي: نهانا لكراهية أو مصدر، أي: كرهه كراهية.

قال عياض: الرفع أوجه من النصب على المصدر، "فلما أفاق قال:"ألم أنهكم أن تلدوني" بإشارتي لكم بعدم فعل ذلك، "فقلنا" ظننا أنك إنما نهيت "كراهية المريض للدواء" لا لسبب يقتضي ترك اللد "فقال:"لا يبقى أحد في البيت إلا لد" بضم اللام مبني للمفعول، أي: إلّا فعل ذلك به تأديبًا حتى لا يعود وأنا أنظر" جملة حالية، أي: في حال نظري إليهم، "إلا العباس، فإنه لم يشهدكم" أي: لم يحضركم حال اللد فلا يلد.

"رواه البخاري، واللدود" بوزن صبور "هو ما يجعل" أي: يصبّ "في جانب الفم بالمسعط "من الدواء" بيان لما، "فأمَّا ما يصب في الحلق" من الدواء "فيقال له: الوجور" بفتح الواو بعدها جيم.

"وفي الطبراني من حديث العباس" بن عبد المطلب، "إنهم أذابوا قسطًا" بضم القاف العود الهندي "بزيت ولدوه به" صبوه من أحد شقي فمه "وفي قوله:"لا يبقى أحد في البيت إلا لد".... إلخ.

"مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان عمدًا "وفيه نظر؛ لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك" أي: أمر بفعله "عقوبةً لهم؛ لتركهم امتثال نهيه عمَّا نهاهم عنه" قال الحافظ: أمَّا من باشره فظاهر، وأما من لم يباشره فلكونهم تركوا نهيهم عمَّا نهاهم هو عنه، ويستفاد منه أنَّ التأويل البعيد لا يعد ربه صاحبه، ثم فيه نظر أيضًا؛ لأن اللد وقع في معارضة النهي.

ص: 103

القيامة وعليهم حقه، فيقعوا في خطيئة عظيمة، وتعقَّب بأنه كان يمكن أن يقع العفو؛ ولأنه كان لا ينتقم لنفسه، والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلَّا يعودوا، فكان ذلك تأديبًا لا اقتصاصًا ولا انتقامًا.

قيل: وإنما كره اللدود مع أنه كان يتداوى؛ لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن تحقق ذلك كره له التداوي.

قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، والذي يظهر أنَّ ذلك كان قبل التخيير والتحقيق، وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب، فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك، كما هو ظاهر في سياق الخبر.

وعند ابن سعد قال: كانت تأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصرة، فاشتدت به، فأغمي عليه، فلددناه، فلمَّا أفاق قال:"كنتم ترون أن الله يسلط علي ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها عليّ سلطانًا، والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد"، فما بقي أحد في البيت إلا لد، ولددنا ميمونة وهي صائمة.

"قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه، فيقعوا في خطيئة عظيمة"، وفي الفتح، عنه: في خطب عظيم، "وتعقب بأنه كان يمكن أن يقع العفو"، وبعد وقوعه لا يبقى عليهم حق يطالبون به في القيامة، "ولأنه كان لا ينتقم لنفسه" كما صحَّ، "والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلَّا يعودوا، فكان ذلك أي: لدهم "تأديبًا لا اقتصاصًا ولا انتقامًا، قيل: وإنما كره اللدود" أي: استعماله بصبِّهم في حلقه، وفي الفتح: اللد وهو أظهر، "مع أنَّه كان يتداوى؛ لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن تحقَّق ذلك كره له التداوي" لعدم فائدته.

"قال الحافظ بن حجر: وفيه نظر"؛ لاحتياج الكراهة إلى نهي مقصود، والدواء وإن لم ينفع في دفع الموت قد ينفع في تخفيف الوجع حتى يقع الموت، "والذي يظهر أن ذلك كان قبل التخيير" في البقاء في الدنيا ولقاء الله، "والتحقيق" للموت باختياره اللقاء، "وإنما أنكر التداوي؛ لأنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب، فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك" المرض المسمَّى بذات الجنب، "كما هو ظاهر في سياق الخبر".

"وعند ابن سعد" محمد، عن عائشة أنه "قال: كانت تأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصرة" أي: وجعها، "فاشتدت به، فأغمي عليه، فلددناه، فلمَّا أفاق" من الإغماء "قال:"كنتم ترون أن الله يسلط عليَّ ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها عليَّ سلطانًا" تسلطًا عليّ، "والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد"، فما بقي أحد إلا لد، ولددنا ميمونة" أم المؤمنين

ص: 104

وروى أبو يعلي -بسند ضعيف فيه ابن لهيعة- من وجه آخر عن عائشة: إنه صلى الله عليه وسلم مات من ذات الجنب.

وجمع بينهما: بأنَّ ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين: أحدهما ورم حارّ يعرض في الغشاء المستبطن، والآخر ريح محتقن بين الأضلاع، فالأوّل هو المنفي هنا. وقد وقع في رواية الحاكم في المستدرك: ذات الجنب من الشيطان، والثاني هو ما أثبت هنا، وليس فيه محذور كالأوّل.

وفي حديث ابن عباس عند البخاري: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت رجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هلموا أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده"، فقال بعضهم:

"وهي صائمة" امتثالًا لأمره وبرًّا لقسمه.

وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أسماء بنت عميس، قالت: أوَّل ما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة، فاشتدَّ مرضه حتى أغمي عليه، فتشاورا في لده فلدوه، فلمَّا أفاق قال: هذا فعل نساء جئن، أي: أتين من هنا، وأشار إلى الحبشة، وكانت أسماء منهنّ، فقالوا: كنا نتّهم بك ذات الجنب، فقال:"ما كان الله ليقذفني به، لا يبقى أحد في البيت إلا لُدّ"، قالت: فلقد التدت ميمونة وإنها لصائمة.

"وروى أبو يعلي بسند ضعيف فيه ابن لهيعة،" بفتح اللام وكسر الهاء "من وجه آخر عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم مات من ذات الجنب، وجمع" الجامع الحافظ فلفظه: ظهر لي الجمع "بينهما، بأن ذات الجنب تطلق بإزاء" أي: مقابل "مرضين، أحدهما: ورم حارّ يعرض في الغشاء المستبطن، والآخر: ريح محتقن" أي: محتبس "بين الأضلاع، فالأوّل هو المنفي هنا".

"وقد وقع في رواية الحاكم في المستدرك: ذات الجنب من الشيطان"، ولذا لم تسلط على حبيب الرحمن، "والثاني:" الريح المحتقن، "هو ما أثبت هنا، وليس فيه محذور كالأوّل" فهي المراد بذات الجنب في هذه الرواية.

"وفي حديث ابن عباس عند البخاري" في مواضع، قال:"لما حضر" بضم الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة "رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: حضره الموت، وفي إطلاق ذلك تجوّز، فإنَّ ذلك كان يوم الخميس كما عند البخاري في الجهاد وغيره، وعاش بعد ذلك إلى يوم الاثنين.

قاله الحافظ: "وفي البيت رجال" من الصحابة، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هلمّوا أكتب لكم كتابًا لا تضلوا" بلا نون على أنّ لا ناهية، وللكشميهني تضلون بالنون على أنها نافية "بعده، فقال

ص: 105

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قوموا عني" قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب ذلك لاختلافهم ولغطهم.

قال المازري: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب، مع صريح أمره لهم بذلك؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنَّه ظهرت منه قرينة دلّت على أنَّ الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختُلِفَ اجتهادهم،

بعضهم:" هو عمر "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا:" كافينا "كتاب الله"، فلا نكلف النبي صلى الله عليه وسلم إملاء الكتاب في هذه الحالة، قال ذلك شفقة عليه، "فاختلف أهل البيت" الذين كانوا فيه من الصحابة، لا أهل بيته عليه الصلاة والسلام، قاله الحافظ. "واختصموا" تنازعوا، "فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم كتابًا لا تضلوا" بفتح فكسر "بعده" فيه إشعار بأنَّ بعضهم كان مصممًا على الامتثال والرد على من امتنع منه، "ومنهم من يقول غير ذلك، فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قوموا عني" أي: عن جهتي، زاد في رواية في الصحيح:"ولا ينبغي عندي التنازع"، وفي أخرى:"عند نبي تنازع".

قال الحافظ: ولما وقع منهم الاختلاف ارتفعت البركة كما جرت العادة بذلك عند وقوع التنازع والتشاجر، وقد مضى في الصيام أنه صلى الله عليه وسلم خرج يخبرهم بليلة القدر، فرأى رجلين يختصمان، فرفعت.

"قال عبيد الله" بضم العين- ابن عبد الله -بفتحها، راوي هذا الحديث عن ابن عباس:"فكان ابن عباس يقول: إن الرزيئة" بفتح الراء وكسر الزاي بعدها ياء ساكنة ثم همزة، وقد تسهل وتشدد الياء- أي: المصيبة "كل الرزيئة" بالنصب على التأكيد، "ما حال" أي: الذي حجز "بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب ذلك؛ لاختلافهم ولغطهم" بفتح اللام والغين المعجمة- أي: أصواتهم.

"قال المازري: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك" بقوله: "هلموا أكتب"، وفي رواية:"ائتوني بكتاب أكتب"؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلّت على أن الأمر ليس على التحتم، أي: القطع، "بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم" في أن كتبه أَوْلَى للإيضاح والبيان، أو تركه اكتفاء بالقرآن

ص: 106

وصمَّم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم.

وقال النووي: اتفق العلماء على أن قول عمر: "حسبنا كتاب الله" من قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورًا ربما عزوا عنها، فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء، وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر إشارةً إلى تصويبه، وأشار بقوله:"حسبنا كتاب الله" إلى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 38]، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس:"إن الرزية.. إلخ"؛ لأن عمر كان أفقه منه قطعًا، ولا يقال: إن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن، وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه قال أسفًا على

وصمَّم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك من غير قصد جازم"، وعزمه صلى الله عليه وسلم كان إمَّا بالوحي وإمَّا بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان العزم بالوحي فبالوحي، وإلا فبالاجتهاد أيضًا، وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الاجتهاد في الشرعيات، هذا باقي كلام المازري كما في الفتح، فمعنى قوله: من غير قصد جازم: أنه قاله على وجه يفهم منه أنه لم يجزم بذلك، بل قاله مع التردد في الكتبة وتركها.

"وقال النووي: اتفق العلماء على أنَّ قول عمر: حسبنا كتاب الله من قوة فقهه" أي: فهمه "ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورًا ربما عجزوا عنها، فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء" فيفوتهم ثواب الاجتهاد، "وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه"؛ إذ لو تحتَّم لأنكر عليه ولم يتركه لاختلافهم، كما لم يترك التبليغ لخالفة من مخالفه، ومعاداة من عاداه، وكما أمرهم حينئذ بقوله:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو: ما كنت أجيزهم...." الحديث في الصحيح "وأشار بقوله: حسبنا كتاب الله إلى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 38] بناء على أن المراد به القرآن، فإنه فيه أمر الدين إمَّا مفصَّلًا وإما مجملًا، وقيل: المراد اللوح المحفوظ؛ لاشتماله على ما يجري في العلم من جليل ودقيق، لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد، ولا يحتمل أن يكون عمر قصد التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما هو فيه من شدة الكرب، وقامت عنده قرينة بأنَّ ما أراد كتابته مما يستغنون عنه؛ إذ لو كان من غير هذا القبيل لم يتركه صلى الله عليه وسلم لأجل اختلافهم، وهذا من جملة كلام النووي المنقول عنه في الفتح. "ولا يتعارض ذلك قول ابن عباس: إن الرزيئة...... إلخ؛ لأن عمر كان أفقه" أي: أفهم "منه قطعًا و" لكن "لا يقال" في تعليل كونه أفقه "أنَّ ابن عباس لم يكتف بالقرآن" واكتفى به عمر،

ص: 107

ما فاته من البيان بالتنصيص عليه؛ لكونه أَوْلَى من الاستنباط، والله أعلم.

ولما اشتدَّ به صلى الله عليه وسلم وجعه قال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقالت له عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء، قال:"مروا أبا بكر فليصل بالناس" ، فعاودته بمثل مقالتها، فقال:"إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس". رواه الشيخان وأبو حاتم واللفظ له.

وفي رواية: إن أبا بكر رجل أسيف.

وفي حديث عروة عن عائشة عند البخاري: فمر عمر فليصلّ بالناس، فقال:"مروا أبا بكر فليصل بالناس"، قالت: قلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالناس، ففعلت حفصة، فقال:"

كما قال ابن بطال؛ لأن عمر لم يرد أنه يكتفي به عن بيان السنة، بل لما قام عنده من القرينة، وخشي مما يترتب على كتابة الكتاب، فرأى أن الاعتماد على القرآن لا يترتَّب عليه شيء مما خافه، وابن عباس لا يقال في حقه: لم يكتف بالقرآن، "مع أنه حبر القرآن، وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه قال" ذلك "أسفًا"، ولفظ الحافظ: ولكنه أسف "على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه؛ لونه أَوْلَى من الاستنباط، والله أعلم" لا سيما وقد بقي ابن عباس حتى شاهد الفتن، "ولما اشتدَّ به صلى الله عليه وسلم وجعه قال:"مروا" بضمتين- بوزن كلوا، "أبا بكر فليصلّ" بسكون اللام الأُولى- ويروى بكسرها مع زيادة ياء مفتوحة، "بالناس" إمامًا، "فقالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق" بقافين، "إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء " لرقة قلبه.

وفي رواية: إذا قرأ القرآن لا يملك معه، "قال:"مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فعاودته مثل مقالتها، فقال:"إنكن صواحبات يوسف" ، والخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به عائشة فقط، كما أن صواحبات جمع، والمراد زليخاء فقط، "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس".

رواه الشيخان وأبو حاتم، واللفظ له" من حديث عائشة.

"وفي رواية" للشيخين من طريق الأسود، عنها أنها قالت:"إن أبا بكر رجل أسيف" بفتح الهمزة وكسر المهملة وسكون التحتية ففاء- أي: حزين.

"وفي حديث عروة عن عائشة عند البخاري" في الصلاة والاعتصام، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقالت عائشة: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء "فمر عمر فليصل بالناس، فقال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، قالت: قلت لحفصة" بنت عمر: "قولي له" صلى الله عليه وسلم: "إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء" لرقة قلبه وغلبة دمعه، "فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة" ذلك، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مه" اسم فعل

ص: 108

صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا.

والأسيف: بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل، من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا: رقيق القلب.

ولابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عن مسروق عن عاشة في هذا الحديث: قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم، وصواحب: جمع صاحبة، والمراد: إنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن.

ثم إنَّ هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهي عائشة، ووجه المشابهة بينهما في ذلك أنَّ زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهنّ الإكرام بالضيافة، ومرادها الزيادة على ذلك، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه الصلاة والسلام ويعذرنها في محبته، وإن عائشة أظهرت أنّ سبب إرادتها صرف الإمامة

مبني على السكون- زجر بمعنى: اكففي، "إنكن أنتن صواحب يوسف" جمع صاحبة، "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا"؛ لأن كلامها صادف المرة الثالثة من المعاودة، وكان صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث، فلمَّا أشار إلى الإنكار عليها بما ذكر وجدت حفصة في نفسها؛ لأن عائشة هي التي أمرتها بذلك، ولعلها تذكّرت ما وقع لها أيضًا معها في قصة المغافير، قاله الحافظ. وقال ابن عبد البر فيه: إن المكترب ربما قال قولًا يحمله عليه الحرج؛ إذ معلوم أن حفصة لم تعدم من عائشة خيرًا، وإذا كان هذا في السلف الصالح، فأحرى من دونهم "الأسيف -بوزن فعيل- وهو بمعنى فاعل من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا: رقيق القلب" لتصريحها في روايات بأنه رقيق، فيحمل عليه قولها أسيف.

"ولابن حبان من رواية عاصم" بن سليمان الأحول البصري، من رجال الجميع، "عن شقيق" بن سلمة الكوفي، من رجال الكل "عن مسروق، عن عائشة في هذا الحديث".

"قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم، وصواحب: جمع صاحبة، والمراد:؛ إنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن، ثم إنَّ هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهي عائشة" وأما حفصة فإنما قالته بأمرها، ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخاء -بفتح الزاي والمد، وقيل بضمها- على هيئة المصغَّر.

قال ابن كثير: والظاهر أنه لقب، "استدعت النسوة وأظهرت لهنّ الإكرام بالضيافة، ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه الصلاة والسلام ويعذرنها" بكسر الذال "في محبته"؛ لأنهنَّ قلن: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} "وأن عائشة

ص: 109

عن أبيها؛ لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه. ومرادها زيادة على ذلك: وهو أن لا يتشاءم الناس به، وقد صرَّحت هي بذلك، كما عند البخاري في باب وفاته عليه الصلاة والسلام، فقالت: لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه أبدًا. وأن لا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم الناس به.

ونقل الدمياطي: إن الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة.

وقد ذكر الفاكهي في "الفجر المنير" مما عزاه لسيف ابن عمر في كتاب

أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها؛ لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك: وهو أن لا يتشاءم الناس به" بشين معجمة والمد.

"وقد صرَّحت هي بذلك كما عند البخاري في باب وفاته عليه الصلاة والسلام"، وكذا عند مسلم في الصلاة "فقالت: لقد راجعته" صلى الله عليه وسلم في ذلك، "وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه" بهم "أبدًا و" ما حملني على ذلك "أن لا".

زاد مسلم: أني "كنت أرى" بضم الهمزة، أي: أظن "أنه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم الناس به" بشين معجمة- أي: وما حملني عيه إلّا ظني عدم محبَّة الناس للقائم مقامه، وظني تشاءمهم به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر، هذا باقيه في الصحيحين.

وفي رواية لمسلم قالت: والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأوّل من يقوم في مقامه صلى الله عليه وسلم، فراجعته مرتين أو ثلاثًا.

"ونقل الدمياطي، أنَّ الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة"، وفي مسند الدارمي من وجه آخر: إن أبا بكر هو الذي أمر عائشة أن تشير على النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر عمر بالصلاة، وكذا في مرسل الحسن عند ابن أبي خيثمة، قال الحافظ: لكن لم يرد أبو بكر ما أرادت عائشة بل قاله لعذره برقة قلبه، أو لفهمه منها الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره، والظاهر أنه لم يطّلع على المراجعة، وفهم من أمره بذلك تفويضه سواء باشر بنفسه أو استخلف.

"وقد ذكر الفاكهاني في" كتاب "الفجر المنير" في الصلاة على البشير النذير "مما عزاه لسيف بن عمر" التميمي، ويقال: الضبي الكوفي، ضعيف الحديث، عمدة في التاريخ، أفحش ابن حبان القول فيه، مات في زمن الرشيد، روى له الترمذي.

قاله الحافظ "في كتاب الفتوح" وله كتاب الردة "أنَّ الأنصار لما رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم

ص: 110

"الفتوح" أنَّ الأنصار لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد وجعًا، أطافوا بالمسجد، فدخل العباس، فأعلمه عليه الصلاة والسلام بمكانهم وإشفاقهم، ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه علي بن أبي طالب كذلك. فخرج صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عليّ والفضل، والعباس أمامه، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس يخطّ برجليه، حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر، وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "يا أيها الناس، بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خُلِّدَ نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألَا إني لاحق بربي، وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأوَّلين خيرًا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم، فإن الله تعالى يقول:{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} إلى آخرها، وإنَّ الأمور تجري بإذن الله، ولا يحمّلنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإنَّ الله عز وجل لا يعجل بعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ

يزداد وجعًا أطافوا بالمسجد، فدخل العباس فأعلمه عليه الصلاة والسلام بمكانهم وإشفاقهم" خوفهم عليه الفقد، "ثم دخل عليه الفضل" بن عباس "فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه علي بن أبي طالب كذلك" أي: كدخول مَنْ قبله، بأن ذكر له حال الأنصار، "فخرج صلى الله عليه وسلم" حال كونه متوكئًا على علي والفضل، والعباس أمامه" قدَّامه، "والنبي صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس" من الوجع "يخط برجليه" بضم الخاء "حتى جلس على أسفل مرقاة" درجة "من المنبر، وثار" اجتمع "الناس إليه" في المجلس، "فحمد الله وأثنى عليه" بما هو أهله "وقال: "يا أيها الناس، بلغني" من الثلاثة المذكورين "أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبي قلبي فيمن بعث إليه" بالإفراد نظرًا للفظ من "فأخلد فيكم" بالنصب، وفيه تسلية لهم وتذكير بقوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ} "ألا" بالفتح والتخفيف، "وإني لاحق بربي، ألا وإنكم لاحقون به، وأوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرًا" بأن تعرفوا حقهم وتنزلوهم منزلتهم، "وأوصى المهاجرين فيما بينهم" بالدوام على التقوى وعمل الصالحات، "فإن الله تعالى يقول:{وَالْعَصْرِ} الدهر، أو ما بعد الزول إلى الغروب أو صلاة العصر {إِنَّ الْإِنْسَانَ} الجنس {لَفِي خُسْرٍ} في تجارته، وتلاها "إلى آخرها"، وأنه قال إلى آخرها "وإن الأمور تجري" أي: تقع "بإذن الله" أي: بإرادته، "ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل بعجلة" أي: بسبب عجلة "أحد" ، فلا فائدة في الاستعجال، بل فيه الهمّ والغمّ والنكال، "ومن غالب الله غلبه" الله، ومن خادع الله خدعه" والمفاعلة في الأمرين ليست مرادة، بل هي نحو: عافاك الله، وإنما

ص: 111

وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] ، "وأوصيكم بالأنصار خيرًا، فإنهم الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلكم، أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسّعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا وإني فرط لكم، وأنتم لاحقون بي، ألا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليَّ غدًا فيلكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغي، يا أيها الناس، إن الذنوب تغيّر النعم، وتبدّل القِسَم، فإذا بَرَّ الناس برَّهم أئتمتهم، وإذا فجر الناس

عَبَّر بالمفاعلة تشبيهًا بفعل المغالب والمخادع لمن هو مثله، كما قال تعالى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] تشبيهًا لفعل المنافقين بفعل المخادع {فَهَلْ عَسَيْتُم} فهل يتوقع منكم {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أمور الناس، وتأمَّرتم عليهم، أو أعرضتم وتوليتم عن الإسلام {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تشاجرًا على الدنيا وتجاذبًا لها، أو رجوعًا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغاور ومقاتلة الأقارب، والمعنى: إنهم لضعفهم في الدِّين وحرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم، ويقول لهم: هل عسيتم.

قاله البيضاوي: ولا يخفى مناسبة تلاوته لهذه الآية في هذا المقام، "وأوصيكم بالأنصار خيرًا، فإنهم الذين تبوّءوا الدار" أي: اتخذوا المدينة وطنًا، سُمِّيَت دارًا لأنها دار الهجرة، "والإيمان" أي: ألفوه، فنصب بعامل خاص، أو بتضمين تبوّءوا معنى لزموا، أو يجعل الإيمان منزلًا مجازًا لتمكنهم فيه، فجمع في تبوءوا بين الحقيقة المجاز، "من قبلكم، أن تحسنوا إليهم" بدل من خيرًا، ثم بَيَّن أن أمره به لمكافأتهم بقوله:"ألم يشاطروكم في الثمار" بإعطائكم نصف ثمارهم، والاستفهام للتقرير، "ألم يوسّعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم؟ " يقدموكم "على أنفسهم، وبهم الخصاصة" الحاجة إلى ما يؤثرون به، "ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين" منهم، "فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم" في غير الحدود، وعَبَّر بالجمع إشارة إلى أن المراد جنس رجلين، أو على أن أقل الجمع اثنان، "ألا" بالفتح مخففًا "ولا تستاثروا عليهم" بتقديم أنفسكم وتميزكم بالأمور الدنيوية دونهم، "ألا وإني فرط" بفتحتين سابق، "لكم" أهييء لكم حوائجكم، "وأنتم لاحقون بي، ألا وإن موعدكم الحوض" في القيامة، "ألا فمن أحب أن يَرِدَه عليَّ غدًا" عَبَّر به؛ لأن كل ما هو آتٍ قريب، "فليكفف يده ولسانه إلّا فيما ينبغي" وخصَّهما؛ لأنهما أغلب ما يحصل الفعل، وإلا فباقي الأعضاء كذلك، "يا أيها الناس، إن الذنوب تغيِّر النِّعَم" كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]"وتبدِّل القِسَم، فإذا بَرَّ الناس بَرَّهم أئمتهم، وإذا فجروا عقوهم"، أي: عقَّهم أئمتهم بمخالفة مطلوبهم وقطع الإحسان

ص: 112

عقوهم".

وفي حديث أنس عند البخاري قال: مَرَّ أبو بكر والعبّاس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منَّا، فدخل أحدهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر -ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم".

إليهم، وغير ذلك.

"وفي حديث أنس عند البخاري، قال: مَرَّ أبو بكر" الصديق، "والعبَّاس" بن عبد المطلب، "بمجلس من مجالس الأنصار"، وذلك في مرضه صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، "وهم يبكون" جملة حالية "فقال: ما يبكيكم؟ " بأفراد، قال عند البخاري: فما في نسخة: فقالا، غير صحيحة، فقد قال الحافظ: لم أقف على الذي خاطبهم بذلك هل هو أبو بكر أو العباس، ويظهر لي أنه العباس، "فقالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا" الذي كنَّا نجلسه معه، ونخاف أن يموت من هذا المرض ونفقد مجلسه، فبكينا لذلك، "فدخل أحدهما" ليس في البخاري، إنما فيه: فدخل فقط.

قال الحافظ: كذا أفرد بعد أن ثنَّى، والمراد به من خاطبهم، وقدمت رجحان أنه العباس. انتهى، ومراده بقوله: ثنَّى، أي: في قوله: مَرَّ أبو بكر والعباس، فكان أصل المصنف، أي: أحدهما بأي التفسيرية "على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك" الذي وقع من الأنصار، "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، و" الحال أنه "قد عصب" بخفَّة الصاد المهملة، "على رأسه حاشية برد" بضم الموحدة وسكون الراء- نوع من الثياب معروف.

وفي رواية المستملي: بردة بزيادة هاء التأنيث، وحاشية مفعول عصب، "فصعد" بكسر العين "المنير ولم يصعده" بفتحها "بعد ذلك" اليوم، "فحمد الله وأثنَى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي" بفتح الكاف وكسر الراء والشين المعجمة، "وعيبتي" بفتح العين المهملة وسكون التحتية وفتح الموحدة وتاء تأنيث، "وقد قضوا الذي عليهم" من الإيواء ونصره صلى الله عليه وسلم، كما بايعوه ليلة العقبة، "وبقي الذي لهم" وهو دخول الجنة كما وعدهم عليه السلام، فإنهم بايعوه على إيوائه ونصره على أنَّ لهم الجنة، قاله المصنف تبعًا للحافظ، ويحتمل أن الذي لهم أعمّ من الجنة التي وعدهم بها وإكرامهم في الدنيا.

ويؤيده أن المراد الوصية بهم في الدنيا، وما في الرواية التي قبله وقوله:"فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم" في غير الحدود "وقوله: "كرشي وعيبتي"، أي: موضع سري،

ص: 113

وقوله: "كرشي وعيبتي"، أي: موضع سري، أراد أنهم بطانته وموضع أمانته، والذين يعتمد عليهم في أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأن المجتر يجمع علفه في كرشه، والرجل يجمع ثيابه في عيبته، وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي. يقال: عليه كرش من الناس، أي: جماعة، قاله في النهاية.

وذكره الواحدي بسندٍ وصله لعبد الله بن مسعود قال: نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه قبل موته بشهر، فلمَّا دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة فقال: "حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، نصركم الله، رفعكم الله، آواكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأستخلفه عليكم، وأحذركم الله، إني لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله في بلاده وعباده، فإنه قال لي ولكم: {تلك الدار

أراد أنهم بطانته" أي: موضع سره "وموضع أمانته، والذين يعتمد عليهم في أموره".

قال القزاز: المثل بالكرش؛ لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، "واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأن المجتر يجمع علفه في كرشه، والرجل يجمع ثيابه في عيبته"، وهي اسم لما يجمع فيه الثياب، وفي الفتح: ما يحرز فيه الرجل نفيس ما عنده "وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي، يقال عليه كرش من الناس، أي: جماعة، قاله في النهاية".

قال ابن دريد: هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم الموجز الذي لم يسبق إليه، وقال غيره: الكرش بمنزلة المعدة للإنسان، والعيبة مستودع الثياب، الأوّل أمر باطن، والثاني أمر ظاهر، فكأنه ضرب المثل بهما في إراد اختصاصهم بأموره الظاهرة والباطنة، والأوّل أَوْلَى، وكل من الأمرين مستودع لما يخفى فيه، قاله الحافظ.

"وذكره الواحدي بسندٍ وصله لعبد الله بن مسعود قال: نعى" بالنون "لنا" أي: أخبر "رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه" أي: أخبر بموته "قبل موته بشهر، فلمَّا دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة، فقال: "حياكم الله" أصله الدعاء بالحياة، ثم استعمل شرعًا في دعاء خاص وهو السلام، كما قال: "بالسلام رحمكم الله" أتاكم الله رحمته التي وسِعَت كل شيء، "جبركم الله" بالجيم- أصلحكم، "رزقكم الله" الحلال على ما هو اللائق في مقام الدعاء، وإن كان الرزق أعمّ عند أهل السنة، "نصركم الله" أي: أعانكم، "رفعكم الله" أي: رفع قدركم بين العباد، ورفع أعمالكم بأن يتقبلها منكم، "آواكم الله" بالمد والقصر والمد أشهر، أي: ضمكم إلى رحمته ورضوانه، وإلى ظل عرشه يوم القيامة، "أوصيكم بتقوى الله، واستخلفه عليكم، وأحذركم الله، إني لكم منه نذير مبين" بَيِّنَ الإنذار "أن لا تعلوا" تتكبروا "على الله في بلاده" بترك ما أمركم به وفعل ما نهاكم

ص: 114

الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وقال:{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] قلنا: يا رسول الله، متى أجلك؟ قال:"دنا الفراق، والمنقلب إلى الله ، وإلى جنة المأوى"، قلنا: يا رسول الله، من يغسّلك؟ قال:"رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى"، قلنا: يا رسول الله، فيم نكفنك؟ قال:"في ثيابي هذه، وإن شئتم في بياض ثياب مصر، أو حلة يمنية"، قلنا: يا رسول الله، من يصلي عليك؟ قال: "إذا أنتم غسَّلتموني وكفَّنتموني، فضعوني على سرير هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أوّل من يصلي عليّ جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت ومعه جنود من الملائكة، ثم ادخلوا عليّ فوجًا فوجًا، فصلوا علي وسلموا تسليمًا، وليبدأ بالصلاة عليَّ رجال أهل بيتي، ثم نسائهم، ثم أنتم، وأقرءوا السلام على من غاب من أصحابي ومن تبعني على

عنه، "وعباده" بظلمهم، "فإنه قال لي ولكم:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} أي: الجنة {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} بالبغي {وَلَا فَسَادًا} بعمل المعاصي، {والعاقبة} المحمودة {للمُتَّقِين} عقاب الله بعمل الطاعات، "وقال:{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} مأوى "للمتكبرين" عن الإيمان، كما قال في الآية الآخرى {مَثْوًى لِلْكَافِرِين} [العنكبوت: 68] ، الزمر: 32] ، والمراد: إن لهم فيها المأوى "قلنا: يا رسول الله، متى أجلك؟ قال: "دنا" قرب "الفراق" للدنيا "والمنقلب" الرجوع "إلى الله وإلى جنة المأوى" الإقامة، "قلنا: يا رسول الله، من يغسلك؟ بكسر السين من باب ضرب ويثقّل للمبالغة، "قال:"رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى" الأقرب فالأقرب، "قلنا: يا رسول الله، فيم نكفنك؟ قال:"في ثيابي هذه" التي علي، "وإن شئتم في ثياب بياض مصر" أي: في الثياب البيض التي جاءته من مصر.

روى ابن عبد الحكم أنَّ المقوقس أهدى له عليه الصلاة والسلام في جملة الهدية عشرين ثوبًا من قباطي مصر، وأنها بقيت حتى كفِّن في بعضها، والصحيح ما في الصحيح عن عائشة أنه كفِّن في ثياب يمانية كما يأتي، "أو حلة يمنية" من اليمن، "قلنا: يا رسول الله، مَن يصلي عليك؟

"قال: "إذا أنتم غسَّلتموني وكفَّنتموني، فضعوني على سريري هذا على شفير" بمعجمة وفاء- أي حرف "قبري، ثم اخرجوا عني ساعة" قدرًا من الزمان، "فإن أوَّل من يصلي عليَّ جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت ومعه جنود" جماعة "من الملائكة، ثم ادخلوا عليَّ فوجًا فوجًا" جماعة بعد جماعة -بفتح فسكون- مفرد أفواج، وجمع الجمع أفاويج، "فصلوا عليّ وسلموا تسليمًا، وليبدأ بالصلاة عليَّ رجال أهل بيتي" علي والعبَّاس ونحوهما، "ثم

ص: 115

ديني"، من يومي هذا إلى يوم القيامة، قلنا: يا رسول الله، من يدخلك قبرك؟ قال: "أهلي مع ملائكة ربي". وكذا رواه الطبراني في "الدعاء" وهو واهٍ جدًّا.

وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا أو يخيّر" ، فلمَّا اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي غشي عليه، فلمَّا أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال:"اللهم في الرفيق الأعلى"، فقلت: إذًا لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح.

وفي رواية: إنها أصغت إليه قبل أن يموت، وهو مستند إلى ظهره يقول:

نساؤهم ثم أنتم" أي: باقي الصحابة الموجودين بالمدينة، "وأقرءوا" بلغوا "السلام" عني "على من غاب من أصحابي".

قال ابن الأثير: يقال: أقرئ فلانًا السلام واقرأ عليه السلام، كأنَّه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام، ويرده:"ومن تبعني على ديني من يوم هذا إلى يوم القيامة" قلنا: يا رسول الله، من يدخلك قبرك؟ قال:"أهلي" أقاربي "مع ملائكة ربي".

"وكذا رواه الطبراني في" كتاب "الدعاء، وهو واهٍ" أي: ضعيف "جدًّا" من وهي الحائط إذا مال للسقوط فلا ينتفع به، "وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح، يقول:"إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا" بضم التحتية وشدة الثانية مفتوحة بينهما حاء مهملة مفتوحة- أي: يسم إليه الأمر أو يملك في أمره، أو يسلم عليه تسليم الوداع، "أو يخيّر" بين الدنيا والآخرة، والشك من الراوي، قاله المصنف.

وفي رواية للبخاري: "لا يموت نبي حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة"، "فلما اشتكى" أي: مرض "وحضره القبض، ورأسه على فخذي، غشِّي عليه، فلمَّا أفاق شخص" بفتح المعجمتين، أي: ارتفع "بصره نحو سقف البيت، ثم قال: "اللهم" اجعلني "في الرفيق الأعلى" ، أو في بمعنى مع، "فقلت: إذًا لا يختارنا" من الاختيار، وللأكثر: لا يجاورنا من المجاورة، "فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا" به "وهو صحيح".

وعند أبي الأسود في المغازي عن عروة، أنَّ جبريل نزل إليه في تلك الحالة فخيّره، زاد في رواية للبخاري: قالت -أي: عائشة: فكانت آخر كلمة تكلّم بها: "اللهم في الرفيق الأعلى".

"وفي رواية" للبخاري عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة "أنها" سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، و"أصغت" بسكون الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة- أي: أمالت معها "إليه قبل أن يموت

ص: 116

"اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" ، رواه البخاري من طريق الزهري عن عروة.

وما فهمته عائشة من قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم في الرفيق الأعلى" أنه خُيِّرَ، نظير فهم أبيها رضي الله عنه من قوله عليه الصلاة والسلام:"إن عبدًا خَيِّرَه الله ما بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده" ، أنَّ العبد المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم كما قدَّمته. ذكره الحافظ ابن حجر.

وعند أحمد من طريق المطّلب بن عبد الله عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب ثم يخيِّر".

ولأحمد أيضًا، من حديث أبي مويهة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد، ثم الجنة، فخُيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فاخترت

وهو مستند إلى ظهره" فسمعته "يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني" بهمزة قطع "بالرفيق الأعلى".

رواه البخاري من طريق الزهري عن عروة" عن عائشة، وصوابه: تقديم هذا على قوله، وفي رواية: إذ هو الذي في البخاري من هذا الطريق، أمَّا هذه الرواية فإنما رواها البخاري من طريق عباد عنها كما علم، "وما فهمته عائشة من قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم في الرفيق الأعلى" أنه خُيِّرَ" بين الدنيا والارتحال إلى الآخرة، "نظير فهم أبيها رضي الله عنه من قوله عليه الصلاة والسلام: "إن عبدًا خَيِّرَه الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده" أنَّ العبد المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم كما قدَّمته".

"ذكره الحافظ ابن حجر" بلفظ فائدة، "وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد الله" بن المطلب بن حنطب المخزومي "عن عائشة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب" الذي أُعِدَّ له في الآخرة، "ثم يُخَيِّر" بضم أوله وفتح الخاء المعجمة- بين البقاء في الدنيا والارتحال إلى الآخرة.

ولأحمد أيضًا من حديث أبي مويهة" ويقال: أبو موهية وأبو موهوية، وهو قول الواقدي، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، كان من مولدي مزينة، روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو من أقرانه، ذكره صاحب الإصابة في الكنى، ولم يذكر له اسمًا، فاسمه كنيته، "قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت" بالبناء للمفعول "مفاتيح خزائن الأرض والخلد" البقاء في الدنيا إلى انقضائها، "ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي" عاجلًا، "والجنة، فاخترت لقاء ربي والجنة" حبًّا

ص: 117

لقاء ربي والجنة".

وعند عبد الرزاق من مرسل طاوس، رفعه:"خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل".

وفي رواية أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه عند النسائي، وصحَّحه ابن حبان، فقال:"أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل".

وظاهره أنَّ الرفيق: المكان الذي تحصل فيه المرافقة مع المذكورين، وقال ابن الأثير في "النهاية" الرفيق" جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وقيل: المراد به الله تعالى، يقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة، انتهى، وقيل: المراد

في لقاء الله وزهدًا في الدنيا، مع أن الجنة معطاة له على التخييرين.

"وعند عبد الرزاق من مرسل طاوس، رفعه: "خُيِّرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي" من المدائن والفتوحات، "وبين التعجيل" إلى لقاء الله تعالى، "فاخترت التعجيل" شوقًا إلى الله تعالى.

"وفي رواية أبي بردة" قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث بن أبي موسى" الأشعري، المتوفَّى في سنة أربع ومائة، وقيل: غير ذلك، وقد جاوز ثمانين سنة "عن أبيه عند النسائي، وصحَّحه ابن حبان فقال" صلى الله عليه وسلم:"أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل".

وفي رواية المطلب عن عائشة عند أحمد: فقال: "مع الرفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين....." إلى قوله رفيقًا، قال الحافظ بعد ذكر هاتين الروايتين مقدمًا الثانية "وظاهره: أنَّ الرفيق المكان الذي تحصل فيه المرافقة مع المذكورين" في الآية، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن الملائكة الثلاثة المذكورين في الحديث لا معهم فقط، كما أوهمه تصرف المنف.

"وقال ابن الأثير في النهاية: الرفيق جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين" فهو اسم جنس تشمل الواحد فما فوقه، والمراد: الأنبياء، ومن ذكر في الآية، وقد ختمت بقوله تعالى:{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] ونكتة الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد، الإشارة إلى أنَّ أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد، نَبَّه عليه السهيلي.

"وقيل: المراد به" بالرفيق "الله تعالى"؛ لأنه من أسمائه تعالى كما في مسلم عن عائشة، وأبي داود عن عبد الله بن مغفل، رفعاه:"إن الله رفيق يحب الرفق"، وعَزْوه لأبي داود وحده تقصير، "يقال: الله الرفيق بعباده من الرفق والرأفة. انتهى".

ص: 118

به: حظيرة القدس.

وفي كتاب "روضة التعريف بالحب الشريف": لما تجلَّى له الحق ضعفت العلاقة بينه وبين المحسوسات، والحظوظ الضرورية من أداني معاني الترقيات البشرية، فكانت أحواله في زيادة الترقي، ولذلك روي أنه عليه الصلاة والسلام قال:"كلّ يوم لا أزداد فيه قربًا من الله فلا بورك لي في طلوع شمسه". وكلما فارق مقامًا واتصل بما هو أعلى منه لمح الأوّل بعين النقص، وسار على ظهر المحبّة، ونعمت المطية لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال، والسفر إلى حضرة ذي الجلال، والاتّصال بالمحبوب الذي كل شيء هالك إلا وجهه.

وهو يحتمل أن يكون صفة ذات كالحليم أو صفة فعل، وغلط الأزهري، هذا القول لقوله:"مع الرفيق" ولا وجه لتغليطه؛ لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ، قاله الحافظ.

"وقيل: المراد به" بالرفيق "حظيرة القدس" أي: الجنة، وبه جزم الجوهري وابن عبد البر وغيرهما، ويؤيده ما عند ابن إسحاق: الرفيق الأعلى الجنة، قال الحافظ بعد أن ذكر خمس روايات صحاح، كلها بلفظ الرفيق الأعلى: وهذه الأحاديث تردُّ على من زعم أن الرفيق تغيير من الراوي، وأنَّ الصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة، وهو من أسماء السماء. انتهى.

وفي كلام بعضهم: الرفيق الأعلى: نهاية مقام الروح وهي الحضرة الواحدية، فالمسئول إلحاقه بالمحل الذي ليس بينه وبين أحد في الاختصاص، والقول بأنَّ المراد إلحاقة بالملائكة، ومن في الآية مردود بأن محله فوقهم، فكيف يسأل اللحاق بهم، وتعقبت بأن المراد المحل الذي يحصل فيه مرافقتهم في الجمة على اختلاف درجاتهم، ويوجد في بعض نسخ المصنف هنا، "وفي كتاب روضة التعريف بالحب الشريف: لما تجلَّى" ظهر "له الحق" تعالى ليلة المعراج، حتى رآه بعيني رأسه على الصحيح، "ضعفت العلاقة بينه وبين المحسوسات" الأشياء المشاهدة بحاسّة البصر، "والحظوظ الضرورية من أداني" أقاصي "معاني الترقيات البشرية، فكانت أحواله عليه الصلاة والسلام "في زيادة الترقي" فلذا بادر باختيار اللقاء على البقاء شوقًا لرؤية محبوبه الذي رآه سابقًا، ولذلك روي أنه عليه الصلاة والسلام قال:"كل يوم لا أزداد فيه قربًا من الله فلا بورك لي في طلوع شمسه"، وكلما فارق مقامًا واتَّصل بما هو أعلى منه لمح الأول بعين النقص" عن الأعلى، وإن كان كمالًا، "وسار على ظهر المحبَّة ونعمت المطية" هي "لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال" عطف تفسير للمراحل "والسفر إلى حضرة ذي الجلال، والاتصال بالمحبوب الذي كل شيء هالك إلا وجهه"، فبادر باختيار الموت ليظفر عاجلًا باللقاء، وإذا قيل في وجه ترديد موسى للمصطفى لية المعراج ليظفر بتكرار

ص: 119

قال السهيلي: الحكمة في اختتام كلامه صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، كونها تتضمّن التوحيد والذكر بالقلب، حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنّه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان؛ لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره ذلك إذا كان قلبه عامرًا بالذكر، انتهى ملخصًا.

قال الحافظ ابن رجب: وقد روي ما يدل على أنه قُبِضَ ثم رأى مقعده من الجنة، ثم رُدَّت إليه نفسه، ثم خُيِّر. ففي المسند قالت -يعني: عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من نبي إلّا تقبض نفسه ثم يرى الثواب، ثم ترد إليه نفسه، فيخير بين أن تُرَدّ إليه إلى أن يلحق" فكنت قد حفظت ذلك عنه، وإني لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه حين مالت عنقه، فقلت: قضى، قالت: فعرفت الذي قال، فنظرت إليه حين ارتفع ونظر، فقلت: إذًا والله لا يختارنا، فقال: "مع الرفيق الأعلى

رؤية مَنْ قد رأي، فما بالك بمن رأى بنفسه، وقد سقط هذا من غالب نسخ المصنف، وليس من مسموعنا، وقد بينَّا وجه ذكره هنا.

"قال السهيلي: الحكمة في اختتام كلامه صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة كونها تتضمَّن التوحيد"؛ لدلالتها على قطع العلائق عن غيره سبحانه وتعالى؛ حيث قصر نظره على طلب الرفيق الأعلى على كل تفسيراته، "والذكر بالقلب"؛ لأن الرفيق مفرد، وهو يستدعي تقديرًا في الكلام، كأن يقال: أسألك مجاورة الرفيق ونحوه.

هذا وإن لم يذكر باللسان فهو مستحضر بالقلب، "حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنَّه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان" عند الموت؛ "لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع" كعقل اللسان عنه، "فلا يضره ذلك إذا كان قلبه عامرًا بالذكر. انتهى ملخصًا" كلام السهيلي.

"قال الحافظ ابن رجب: وقد روي ما يدل على أنه قُبِضَ، ثم رأى مقعده من الجنة، ثم رُدَّت إليه نفسه، ثم خُيِّر، ففي المسند للإمام أحمد، من طريق المطّلب بن عبد الله "قالت" يعني: عائشة:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول" وهو صحيح: "ما من نبي" أراد به ما يشمل الرسول، "ألَّا تقبض نفسه، ثم يرى الثواب"، الذي أعدَّه الله له، "ثم ترد إليه نفسه، فيخير بين أن تُرَدّ إليه إلى أن يلحق، فكنت قد حفظت ذلك عنه" في صحته، "وإني لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه حين مالت عنقه، فقلت:"قضي" أي: مات" قالت" عائشة: "فعرفت الذي قال" هو ما حفظته عنه، "فنظرت إليه حين ارتفع" بصره "ونظر" إلى جهة سقف البيت "فقلت:"إذًَا والله لا يختارنا"، أي: لا يريد البقاء فينا، فقال: "مع الرفيق الأعلى في الجنة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين

ص: 120

والصالحين وحسن أولئك رفيقًا".

وفي البخاري من حديث عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح - يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا أو يخيّر" فلما اشتكى وحضره القبض، ورأسه على فخذ عائشة، غُشِّيَ عليه، فلمَّا أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال:"اللهم في الرفيق الأعلى".

ونبَّه السهيلي على أنه النكتة في الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد، الإشارة إلى أنَّ أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد.

والصديقين" أفاضل أصحاب الأنبياء لمبالغتهم في الصدق والتصديق، "والشهداء" القتلى في سبيل الله، "والصالحين" غير من ذكر، "وحسن أولئك رفيقًا" أي: رفقاء في الجنة، بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في درجات عالية بالنسبة إلى غيرهم.

"وفي البخاري من حديث" الزهري، عن "عروة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة" ، وصريحه أن ذلك من خواصّ الأنبياء، ولا يخالفه حديث الصحيحين: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى....." الحديث، للفرق بأنَّ الأنبياء تعرض عليهم، ثم يخيّرون بخلاف غيرهم فلا يخيرون، وإن كان العرض عليهم قبل الموت كما هو مفاد الحديث الصحيح، فالخصوصية أيضًا عرضه حال الحياة بخلاف غيرهم، "ثم يحيَّا" بضم أوله وفتح المهملة وتشديد التحتانية بعدها، "أو يخير" شك الراوي هل قال: يحيا أو قال: يخير" قاله الحافظ، "فلما اشتكى" مرض، "وحضره القبض، ورأسه على فخذ عائشة".

كذا في البخاري، وكأنه التفات، وقدَّمه المصنف: على فخذي بالمعنى، "غُشِّيَ" أي: أغمي "عليه، فلمَّا أفاق شخَصَ" ارتفع بصره" بالرفع فاعل، "نحو سقف البيت، ثم قال:"اللهم" اجعلني "في الرفيق الأعلى" ، وفي بمعنى مع، أي: مع الجماعة الذين يحمد مرافقتهم، وهذا الحديث مَرَّ قريبًا وكأنه أعاده؛ لأنَّ ابن رجب ذكره كالمعارض لما قبله عن المسند، ويمكن الجمع بينهما بحمل قبض نفسه على شدة الاستغراق في رؤية الثواب، حتى كأنه قبض، فلا يخالف حديث البخاري الصريح في أن التخيير قبل القبض.

"ونبَّه السهيلي على أن النكتة في الإتيان بهذه الكلمة" أي: لفظع الرفيق "بالإفراد، الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد"، وهي نكتة في الآية والحديث جميعًا.

ص: 121

وفي صحيح ابن حبان عنها قالت: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأسه في حجري. فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء، فلمَّا أفاق قال:"أسال الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل".

ولما احتضر صلى الله عليه وسلم اشتدَّ به الأمر، قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول:"اللهم أعنِّى على سكرات الموت".

وفي رواية: فجعل يقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات".

قال بعض العلماء: فيه أنَّ ذلك من شدة الآلام والأوجاع لرفعة منزلته.

وقال الشيخ أبو محمد المرجاني: تلك السكرات سكرات الطرب، ألا ترى إلى قول بلال حين قال له أهله وهو في السياق: وا حرباه، ففتح عينيه وقال:

"وفي صحيح ابن حبان، عنها" أي: عائشة "قالت: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجري، فجعلت أمسحه" أي: صدره، كما في رواية الطبراني "وأدعو له بالشفاء، فلمَّا أفاق قال" زاد الطبراني: لا، ولكن "أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل" وهذا يؤيد أنه خُيِّرَ قبل الموت، ولما احتضر صلى الله عليه وسلم اشتدَّ به الأمر، قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشدَّ منه على النبي صلى الله عليه وسلم"، زيادةً في رفع درجاته.

"قالت" عائشة: "وكان عنده" صلى الله عليه وسلم "قدح من ماء"، أي: فيه ماء، "فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: "اللهم أعنِّى على سكرات الموت" شدائده.

"وفي رواية: فجعل يقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات" قال بعض العلماء فيه: إن ذلك من شدة الآلام والأوجاع لرفعة منزلته. وقد قالت عائشة: لا أكره شدة الموت لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

"وقال الشيخ أبو محمد المرجاني: تلك السكرات سكرات الطرب" الفرح، "ألا ترى إلى قول بلال" أول من أسم في أحد الأقوال:"لما قال له أهله وهو في السياق" النزع: وا حرباه -بفتح المهملة والراء والموحدة- من الحرب -بفتحتين- نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له.

وروي بضم الحاء وزاي ساكنة، وروي: وا حوباه -بفتح الحاء وسكون الواو- من الحوب وهو الإثم، والمراد ألمها بشدة جزعها عليه أو من الحوبة، أي: رقة القلب "ففتح عينيه وقال:

ص: 122

وا طرباه، غدًا ألقى الأحبَّة محمدًا وصحبه، فإذا كان هذا طربه، وهو في هذا الحال بلقاء محبوبه وهو النبي صلى الله عليه وسلم وحزبه، فما بالك بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وهذا موضع تقصر العبارة عن وصف بعضه.

وفي حديث مرسل ذكره الحافظ ابن رجب: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والأنامل والقصب، فأعنِّي عليه وهوّنه عليّ".

وعند الإمام أحمد والترمذي من طريق القاسم عنها قالت: ورأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول:"اللهم أعنِّى على سكرات الموت".

وا طرباه، غدًا ألقى الأحبَّة محمدًا وصحبه".

وفي رواية: وحزبه، "فإذا كان هذا طربه وهو في هذا الحال" السياق "بلقاء محبوبه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وحزبه، فما بالك بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى" استفهام تعجبي، واستدلَّ على ذلك بقوله تعالى:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} لا ملك مقرَّب، ولا نبي مرسل، {مَا أُخْفِيَ} خبيء {لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، ما تَقَرّ به عيونهم.

وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة يرفعه، "قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ....} الآية. وأخرج الحاكم وصحَّحه عن ابن مسعود، قال: إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعدَّ الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولم يعلم ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، وأنه لفي القرآن {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} الآية "وهذا موضع تقصر العبارة عن وصف بعضه"؛ إذ لا يعلم إلا الله.

"وفي حديثٍ مرسل ذكره الحافظ ابن رجب" عبد الرحمن الحنبلي، أنه عليه الصلاة والسلام قال:"اللهمَّ إنك تأخذ الروح من بين العصب" بعين مهملة "والأنامل والقصب" بالقاف- عظام اليدين والرجلين ونحوهما، "فأعنِّي عليه" أي: على أخذ الروح، أي: على المشقَّة الحاصلة عند أخذه، "وهوّنه عليّ" يسِّره وسهّله.

"وعند الإمام أحمد والترمذي من طريق القاسم بن محمد عنها، أي: عائشة "قالت: ورأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول:"اللهم أعنِّي على سكرات الموت" شدائده، "ولما غشاه الكرب" الشدة "قالت فاطمة -رضي

ص: 123

ولما غشَّاه الكرب، قالت فاطمة رضي الله عنها: وا كرب أبتاه، فقال لها:"لا كرب على أبيك بعد اليوم" رواه البخاري.

قال الخطابي: زعم من لا يُعَدّ من أهل العلم أن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" أنَّ كربه كان شفقة على أمته، لما علم من وقوع الاختلاف والفتن بعده، وهذا ليس بشيء؛ لأنه كان يلزم أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة؛ لأنه مبعوث إلى مَن جاء بعده، وأعمالهم تعرض عليه، وإنما الكلام على ظاهره، وأنَّ المراد بالكرب ما كان يجده عليه الصلاة والسلام من شدة الموت، وكان فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر؛ ليتضاعف له الأجر. انتهى.

وروى ابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "إنه حضر من أبيك ما الله تعالى بتارك منه أحدًا لموافاة يوم القيامة".

الله عنها: وا كرب أبتاه" بألف الندبة والهاء ساكنة للوقف وللنسائي: واكرابه.

قال الحافظ والأوّل أصوب لقوله: "فقال لها: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" ، وهذا يدل على أنها لم ترفع صوتها، وإلا لنهاها.

"رواه البخاري" من إفراده عن أنس عن فاطمة "قال الخطابي: زعم من لا يُعَدّ من أهل العلم" لغباوة فهمه "أنَّ المراد بقوله عليه السلام: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" أنَّ كربه كان شفقة على أمته، لما علم من وقوع الاختلاف والفتن بعده، وهذا ليس بشيء؛ لأنه كان" زائدة "يلزم" من ذلك "أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة؛ لأنه" حيّ في قبر، ومبعوث إلى من جاء بعده، وأعمالهم تعرض عليه"، فما وجده حسنًا حمد الله عليه، وما وجده سيئًا استغفر لهم، كما ورد عنه "وإنما الكلام على ظاهره، وأن المراد بالكرب ما كان يجده -علي السلام- من شدة الموت، وكان فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر؛ ليتضاعف له الأجر، انتهى.

وملخصه: إن هذا الزعم تخيل أن شدة الموت لا تصيبه كغيره، فصرف الكرب إلى الشفقة، وما علم ما لزم عليه من انقطاعها، مع أنها لا تنقطع، وخفي عليه أنه في الآلام الحسية كغيره.

"وروى ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "إنه" أي: الحال والشأن "حضر من أبيك" أي: عنده "ما" ، وفاعل حضر محذوف، أي: أمر ليس "الله بتارك منه أحدًا لموافاة" أي: إتيان، أي: إنه مستمر لكل أحد إلى "يوم القيامة" أي: قربها هذا على ما في نسخ المصنف، وفيه

ص: 124

وفي البخاري من حديث أنس بن مالك: إنَّ المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم، لم يفجأهم إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسَّم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، قال أنس: وهَمَّ المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.

سقط، وتقصير في العزو، فإن الحديث رواه البخاري والترمذي في الشمائل، عن أنس: لما وجد صلى الله عليه وسلم من كرب الموت ما وجد، قالت فاطمة: وا كرباه، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا كرب على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك منه أحدًا لموافاة يوم القيامة"، فسقط من قلم المصنف لفظ: ليس بعد ما وألف الموافاة.

قال الشراح: ما، أي: أمر عظيم، فاعل حضر، "ليس الله بتارك منه"، أي: من الوصول إليه أحدًا، وذلك الأمر العظيم هو الموافاة يوم القيامة، أي: الحضور، ذلك اليوم المستلزم للموت قبله، وقيل: الموافاة فاعل تارك، أي: لا يترك الموت أحدًا لا يصل إليه، ثم بَيِّنَ ذلك الأمر الذي يوصّل الموت إليه كل أحد بقوله:"يوم القيامة" الواصل إليه كل ميت، وفيه ركاكة، والقصد تسليتها بأنَّه لا كرب عليه بعد اليوم، وأمَّا اليوم فقد حضره ما هو مقر عام لجميع الخلق، فينبغي أن ترضي وتسلمي.

"وفي البخاري من حديث أنس بن مالك، أن المسلمين بينما هم" بميم ودونها روايتان "في صلاة الفجر" الصبح "من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم" وفي رواية: لهم، أي: لأجلهم إمامًا، "لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف، ولأبي ذر: وهم صفوف في "الصلاة، ثم تبسَّم يضحك" حال مؤكدة؛ لأن تبسّم بمعنى يضحك، وأكثر ضحك الأنبياء التبسّم، وكان ضحكه فرحًا باجتماعهم على الصلاة وإقامة الشريعة واتفاق الكلمة، "فنكص" بصاد مهملة، أي: تأخَّر "أبو بكر على عقبيه" بالتثنية؛ "ليصل الصفَّ"، أي: يأتي إليه، "وظنَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة" بهم إمامًا، "قال أنس: وهَمَّ" بشد الميم "المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم" بأن يخرجوا منها، "فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر".

قال الحافظ: فيه أنه لم يصلّ معهم ذلك اليوم، وما رواه البيهقي عن حميد عن أنس: آخر صلاة صلاها صلى الله عليه وسلم مع القوم. الحديث، وفسَّرها بأنها صلاة الصبح، فلا يصح الحديث الباب،

ص: 125

وفي رواية أبي اليمان عن شعيب، عند البخاري، في "الصلاة": فتوفي من يومه ذلك. وكذا في رواية معمر عنده أيضًا في حديث أنس: لم يخرج إلينا صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدَّم، فقال: نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فرفعه، فلمَّا وضح لنا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما نظرنا منظرًا كان أعجب إلينا من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا، قال: فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يتقدَّم وأرخى الحجاب. الحديث رواه الشيخان.

وعنه أنَّ أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف في الصلاة، كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة،

ويشبه أنَّ الصواب أنها صلاة الظهر، وهذا الحديث في البخاري هنا من طريق عقيل عن ابن شهاب عن أنس.

"وفي رواية أبي اليمان" الحكم بين نافع شيخ البخاري، "عن شعيب" بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أنس "عند البخاري في الصلاة، فتوفِّي من يومه ذلك" قرب الزوال، "وكذا في رواية معمر" عن الزهري، عن أنس "عنده"، أي: البخاري "أيضًا" في غير هذا الموضع، ومعمر هو ابن راشد، أحد أصحاب ابن شهاب، فنسخة أبي معمر تحريف، "وفي حديث أنس: لم يخرج إلينا صلى الله عليه وسلم ثلاثًا" من الأيام، وكان ابتداؤها من حين خرج فصلى بهم قاعدًا، "فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدَّم، فقال: نبي الله صلى الله عليه وسلم" من إجراء قال مجرى فعل وهو كثير، أي: أخذ "بالحجاب" الستر الذي على الحجرة، "فرفعه، فلما وضح" أي: ظهر "لنا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما نظرنا منظرًا" بفتح الميم والظاء المعجمة بينهما نون ساكنة- أي: شيئًا ننظر إليه "قط كان أعجب إلينا من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضح: "ظهر لنا".

"قال" أنس: "فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يتقدَّم" إلى الصلاة ليؤمَّهم "وأرخى الحجاب" قال الحافظ: ليس مخالفًا لقوله في أوله: فتقدَّم أبو بكر، بل في السياق حذف يظهر من قوله في رواية الزهري: فنكص أبو بكر، والحاصل أنه تقدَّم، ثم ظنَّ أنه صلى الله عليه وسلم يخرج فتأخَّر، فأشار إليه حينئذ أن يرجع إلى مكانه.... "الحديث" تمامه" فلم يقدر عليه حتى مات صلى الله عليه وسلم.

"رواه الشيخان" ففيه أن الصديق استمرَّ خليفة على الصلاة حتى مات المصطفى، لا كما زعمت الشيعة أنه عزله بخروجه وتخلّف أبو بكر، يرد عليهم وعنه" أي: أنس "إن أبا بكر كان يصلي بهم"، وفي رواية: لهم، أي: لأجلهم إمامًا في المسجد النبوي، "في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين" برفع يوم فكان تامَّة ونصبه خبر لكان ناقصة، "وهم صفوف في الصلاة" جملة حالية "كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، فنظرنا إليه"

ص: 126

فنظرنا إليه وهو قائم، كأنَّ وجهه ورقة مصحف مثلث الميم، ثم تبسَّم صلى الله عليه وسلم ضاحكًا. الحديث رواه مسلم.

وقد جزم موسى بن عقبة عن ابن شهاب، أنه صلى الله عليه وسلم مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبي الأسود عن عروة.

وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما بقي من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث، نزل عليه جبريل فقال: يا محمد، إن الله قد أرسلني إليك إكرامًا لك، وتفضيلًا لك، وخاصَّة لك، يسألك عمَّا هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ فقال: "أجدني يا جبريل مغمومًا، وأجدني يا جبريل مكروبًا"، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك، ثم جاءه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك

لفظ مسلم: فنظر إلينا، "وهو قائم كأنَّ وجهه ورقة" بفتح الراء "مصحف مثلث الميم" كناية عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته، "ثمَّ تبسَّم صلى الله عليه وسلم ضاحكًا" فرحًا باجتماعهم على الصلاة، واتفاق كلمتهم وإقامة شريعته، ولهذا استنار وجهه الوجيه؛ لأنه كان إذا سُرَّ استنار وجهه.... "الحديث" ذكر في بقيته نحو ما مَرَّ في رواية البخاري من همهم بالخروج ونكوص أبي بكر إلى آخره.

"رواه مسلم" من طريق صالح عن الزهري، قال: حدثني أنس فذكره، وفي آخره أيضًا: فتوفي من يومه ذلك، "وقد جزم موسى بن عقبة عن" شيخه "ابن شهاب بأنه صلى الله عليه وسلم مات حين زاغت الشمس" بزاي ومعجمة- أي: مالت، "وكذا لأبي الأسود" محمد بن عبد الرحمن "عن عروة" بن الزبير، وجزم ابن إسحاق، بأنه مات حين اشتدَّ الضحاء، أي: بالفتح والمد- ويخدش فيه قوله: وتوفي من آخر ذلك اليوم، ويجمع بنهما بأن إطلاق الآخر بمعنى ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار وذلك عند النزول واشتداد الضحاء يقع قبل الزوال، ويستمر حتى يتحقّق زوال الشمس، ويؤيد هذا الجمع ما ذكره ابن شهاب وعروة أنه مات حين زاغت الشمس.

كذا قال الحافظ، مع أن لفظ أنس عند الشيخين: فتوفي من يومه ذلك، ليس فيهما لفظ آخر الذي خدش به، فهو صادق باشتداد الضحاء وبالزوال، نعم جمعه بين هذين بما ذكر متجه. "وعن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر "عن أبيه" محمد بن عليّ بن الحسين "قال: لما بقي من أَجَل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث نزل عليه جبريل، فقال: يا محمد، إن الله قد أرسلني إليك إكرامًا لك وتفضيلًا لك، وخاصة" تخصيصًا "لك، يسألك عمَّا هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ " أي: تجد نفسك في هذا الوقت، "فقال: "أجدني يا جبريل مغمومًا، وأجدني يا جبريل مكروبًا"، ثم أتاه في اليوم الثاني، فقال له مثل ذلك" الذي قاله في اليوم الأول "ثم أتاه في

ص: 127

الموت فقال جبريل: يا محمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، قال:"ائذن له"، فدخل ملك الموت، فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل أرسلني إليك، وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمر، إن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، فقال جبريل: يا محمد، إن الله قد اشتاق إلى لقائك، قال صلى الله عليه وسلم:"فامض يا ملك الموت لما أمرت به"، فقال جبريل: يا رسول الله، هذا آخر موطئي من الأرض، إنما كنت حاجتي من الدنيا، فقبض روحه، فلمَّا توفي صلى الله عليه وسلم وجاءت

اليوم الثالث".

وفي رواية: فلمَّا كان في اليوم الثالث هبط جبريل ومعه ملك الموت ومعهما ملك آخر يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط، يقال له: إسماعيل، موكَّل على سبعين ألف ملك، كل ملك على سبعين ألف ملك، فسبقهم جبريل، "فقال له مثل ذلك" القول المذكور، "ثم استأذن في" اليوم الثالث "ملك الموت" وجبريل عنده، "فقال جبريل: يا محمد" وفي نسخة: يا أحمد "هذا ملك الموت يستأذن" يطلب الإذن في الدخول "عليك، ولم يستأذن على أدمي قبلك، ولا يستأذن على أدمي بعدك" فهو تخصيص لك على الجمع "قال:"ائذن له فدخل ملك الموت".

وفي حديث ابن عباس عند الطبراني أنه قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، إن ربك يقرئك السلام، "فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كلِّ ما تأمر" به "إن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها".

زاد في رواية، قال:"وتفعل ذلك يا ملك الموت؟ " قال: نعم، أمرت أأطيعك في كل ما أمرتني، "فقال جبريل: يا محمد، إن الله قد اشتاق إلى لقائك، قال صلى الله عليه وسلم:"فامض يا ملك الموت لما أمرت به" من قبض روحي إن شئت، فإني اخترت ذلك، "فقال جبريل: يا رسول الله، هذا آخر موطئي من الأرض، إنما كنت حاجتي من الدنيا".

وفي حديث أبي هريرة عند ابن الجوزي: وهذا آخر عهدي بالدنيا بعدك، والمنفي نزوله بالوحي المتجدّد، فلا ينافي ما ورد في أحاديث أنه ينزل ليلة القدر، ويحضر قتال المسلمين مع الكفار، ويحضر من مات على طهارة من المسلمين، ويأتي مكة والمدينة بعد خروج الدجال ليمنعه من دخولهما، وفي زمن عيسى عليه السلام لا بشرع جديد، وتفصيل ذلك يطول، "فقبض روحه" الزكية، "فلمَّا توفي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية" إسناد مجازي، أي: أهل التعزية "سمعوا صوتًا

ص: 128

التعزية، سمعوا صوتًا من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال عليّ: أتدرون من هذا؟ هو الخضر عليه السلام. رواه البيهقي في دلائل النبوة.

وفي تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقي، وذكر التعزية المذكورة عن ابن عمر، مما ذكره في الإحياء، وأن النووي أنكر وجود الحديث المذكور في كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب، ثم قال العراقي: قد رواه الحاكم في المستدرك من حديث أنس ولم يصحّحه، ولا يصح.

ورواه ابن أبي الدنيا عن أنس أيضًا قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع

من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته".

زاد في حديث ابن عمر عند البلاذري: فرددنا عليه مثل ذلك، فقال:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} جزاء أعمالكم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إن في الله عزاء" تسلية "من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا" اعتمدوا، "وإياه فارجوا، فإنما المصاب".

وفي لفظ: فإن المصاب "من حُرِمَ الثواب" الذي أعدَّه الله تعالى له بعدم الصبر ومزيد الجزع؛ لأنه فاته "والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، ختم بالسلام كما بدأ به، "فقال عليّ: أتدرون من هذا" فكأنهم قالوا: لا ندري، فقال: "هو الخضر" بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين "عليه السلام".

رواه البيهقي في دلائل النبوة، وفي تخريج أحاديث الإحياء" للغزالي "للحافظ العراقي" زين الدين عبد الرحيم، "وذكر التعزية المذكورة عن ابن عمر مما ذكره في الإحياء، وأنَّ النووي أنكر وجود الحديث المذكور في كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب" يعني: علماء الشافعية في كتب الفقه بلا إسناد، "ثم قال العراقي" تعقبًا على نفي النووي: "قد رواه الحاكم في المستدرك من حديث أنس ولم يصححه" أي: لم يصرح بقوله: صحيح، وإن كان موضوع كتابه المستدرك في الأحاديث الصحيحة الزائدة على الصحيحين، "ولا يصح" لضعف سنده، ولكنه وجد في كتاب مشهور من كتب الحديث، وإن كان ضعيف السند.

"ورواه ابن أبي الدنيا عن أنس قال: لما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع أصحابه حوله

ص: 129

أصحابه حوله يبكون، فدخل عليهم رجل طويل شعر المنكبين في إزار ورداء، يتخطَّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أخذ بعضادتي باب البيت، فبكى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على أصحابه فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضًا من كل فانٍ. الحديث. وفيه: ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر: عليَّ بالرجل، فنظروا يمينًا وشمالًا فلم يروا أحدًا، فقال أبو بكر: لعلَّ هذا الخضر جاء يعزينا. ورواه ابن أبي الدنيا أيضًا من حديث علي بن أبي طالب، وفيه محمد بن جعفر الصادق، تكلم فيه، وفيه انقطاع بين علي بن الحسين وبين جده علي، والمعروف عن علي بن الحسين مرسلًا من غير ذكر علي، كما رواه الشافعي في الأم، وليس فيه ذكر للخَضِر عليه السلام.

قال البيهقي: قوله: إن الله اشتاق إلى لقائك، معناه: قد أراد لقاءك بأن يردّك من دنياك إلى معادك زيادة في قربك وكرامتك.

يبكون" بلا رفع صوت، "فدخل عليهم رجل طويل شعر المنكبين في إزار ورداء يتخطَّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخذ بعضادتي" بكسر العين وضاد معجمة- تثنية عضادة، أي: جانبي "باب البيت، فبكى رسول الله" بنصبه مفعول بكى.

"وفي نسخة: بكى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على أصحابه فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضًا من كل فانٍ. الحديث وفيه: ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر الصديق: "عليَّ بالرجل" أي: ائتوني به، "فنظروا يمينًا وشمالًا فلم يروا أحدًا، فقال أبو بكر: لعل هذا الخضر جاء يعزينا".

"ورواه ابن أبي الدنيا أيضًا من حديث علي بن أبي طالب، وفيه محمد بن جعفر الصادق، تُكُلِّمَ فيه، وفيه انقطاع بين علي بن الحسين وبين جدَّه علي" بن أبي طالب؛ لأنه لم يدركه، فالحديث ضعيف، وأيما كان فكيف ينكر وجوده في كتب الحديث، وقد وجد في أكثر من كتاب "والمعروف عن علي بن الحسين مرسلًا من غير ذكر عليّ" بن أبي طالب "كما""رواه الشافعي في الأم، وليس فيه ذكر للخضر عليه الصلاة والسلام".

"قال البيهقي: قوله: إن الله اشتاق إلى لقاءك، معناه: قد أراد لقاءك" لاستحالة الحقيقي الذي هو نزاع النفس إلى الشيء في حقه تعالى، "بأن يردك من دنياك إلى معادك، زيادة في قربك وكرامتك، انتهى".

ص: 130

وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: جاء ملك الموت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه ورأسه في حجر علي، فاستأذن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال له: ارجع فإنَّا مشاغيل عنك، فقال صلى الله عليه وسلم:"هذا ملك الموت، ادخل راشدًا" فلمَّا دخل قال: إن ربك يقرئك السلام، فبلغني أن ملك الموت لم يسلم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده.

وقالت عائشة: توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي. رواه البخاري.

والحاقنة: بالحاء المهملة والقاف والنون: أسفل من الذقن.

والذاقنة: طرف الحلقوم.

والسحر: بفتح السين وسكون الحاء المهملتين، وهو الصدر. والنحر: بفتح

"وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس، قال: جاء ملك الموت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه" الذي توفي فيه، "ورأسه في حجر علي، فاستأذن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال له: ارجع فإنَّا مشاغيل عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا ملك الموت، ادخل راشدًا"، فلما دخل قال: إن ربك يقرئك السلام"، والظاهر المتبادر أن قوله:"فبلغني أن ملك الموت لم يسلّم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده" من قول ابن عباس، والجزم بأنه من كلام الطبراني يحتاج إلى دليل؛ لأنه خلاف المتبادر، "وقالت عائشة:" إن من نِعَمِ الله عليَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "توفي في بيتي وفي يومي" الذي كان يدور علي فيه "وبين سحري ونحري" بفتح فسكون فيهما كما يأتي.

"وفي رواية" عنها: مات "بين حاقنتي وذاقنتي" بذال معجمة وقاف مكسورة، قال الحافظ: وهذا لا يعارض حديثها السابق أن رأسه كان على فخذها؛ لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها.

"رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري، والحاقنة -بالحاء المهملة والقاف المكسورة "والنون" المفتوحة: "أسفل من الذقن، والذاقنة: طرف الحلقوم"، وفي الفتح: الحاقنة ما سفل من الذقن، والذاقنة ما علا منه، أو الحاقنة نقرة الترقوة وهما حاقنتان، ويقال: الحاقنة: المظهر من الترقوة والحلق، وقيل: ما دون الترقوة من الصدر، وقيل: هي تحت السرة، وقال ثابت: الذاقنة طرف الحلقوم، والسحر -بفتح السين وسكون الحاء المهملتين- هو الصدر" وهو في الأصل: الرئة -كما في الفتح، "والنحر -بفتح النون وسكون الحاء المهملة" موضع

ص: 131

النون وسكون الحاء المهملة.

والمراد: أنه صلى الله عليه وسلم توفي ورأسه بين عنقها وصدرها.

وهذا لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق: أنه صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر عليّ؛ لأن كل طريق منها -كما قال الحافظ ابن حجر- لا يخلو عن شيء، فلا يلتفت لذلك والله أعلم.

القلادة من الصدر كما في الصحاح، قال الحافظ: والمراد به موضع النحر، وأغرب "الداودي فقال: هو ما بين الثديين، والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر، "والمراد أنه صلى الله عليه وسلم توفي ورأسه بين عنقها وصدرها".

وروى أحمد والبزار والحاكم بسند صحيح، عنها: لما خرجت نفسه لم أجد ريحًا قط أطيب منها، وروى البيهقي عن أم سلمة، وضعت يدي على صدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات، فمرَّ بي جمع آكل وأتوضأ ما يذهب ريح المسك من يدي "وهذا" الحديث الصحيح "لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق، أنه صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر علي؛ لأن كل طريق منها كما قال الحافظ ابن حجر لا يخلو عن شيء" أي: مقال في إسناده، "فلا يلتفت لذلك" لمعارضته الحديث الصحيح، لكن لفظ الحافظ لا يخلو عن شيعي -بكسر الشين- مفرد الشيعة، فلا يلتفت إليهم، أي: إلى الشيعة، إلا أنه لما بينه لم يذكر فيهم شيعيًّا، وقد رأيت بيان حال الأحاديث التي أشرت إليها دفعًا لتوهم التعصب.

روى ابن سعد عن جابر: سأل كعب الأحبار عليًّا: ما كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أسندته إلى صدري، فوضع رأسه على منكبه، فقال:"الصلاة الصلاة"، فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء، وفي سنده الواقدي وحرام ابن عثمان وهما متروكان.

وعند الواقدي عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"ادعوا لي أخي"، فدُعِيَ له عليّ فقال:"دن مني" قال: فلم يزل مستندًا إليَّ وإنه ليكلمني حتى نزل به وثقل في حجري، فصحت: يا عباس، أدركني فإني هالك، فجاء العباس، فكان جهدهما جميعًا أن أضجعاه. فيه انقطاع مع الواقدي عبد الله فيه لين، وبه عن أبيه، عن علي بن الحسين: قبض ورأسه في حجر علي. فيه انقطاع.

وعند الواقدي عن أبي الحويرث، عن أبيه عن الشعبي، مات ورأسه في حجر علي. فيه الواقدي والانقطاع، وأبو الحويرث اسمه: عبد الرحمن بن معاوية بن الحارث المدني، قال مالك: ليس بثقة، وأبوه لا يعرف حاله.

وعن الواقدي، عن سليمان بن داود بن الحصين، عن أبيه، عن أبي غطفان: سألت ابن

ص: 132

قال السهيلي: وجدت في بعض كتب الواقدي: إن أول كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة: "الله أكبر"، وآخر كلمة تكلم بها:"في الرفيق الأعلى".

وروى الحاكم من حديث أنس قال: "إن آخر ما تكلّم به النبي صلى الله عليه وسلم: "جلال ربي الرفيع".

ولما توفي صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر غائبًا بالنسخ -يعني: العالية، عند زوجته بنت خارجة- وكان صلى الله عليه وسلم قد أذن له في الذهاب إليهما، فسلَّ عمر بن الخطاب سيفه

عباس، قال: توفي وهو إلى صدر علي، فقلت: إن عروة حدَّثني عن عائشة، قالت: توفي بين سحري ونحري، فقال ابن عباس: لقد توفي وأنه لمسند إلى صدر علي، وهو الذي غسَّله وأخي الفضل، وأبي أبى أن يحضر، فيه الواقدي وسليمان لا يعرف حاله، وأبو غطفان -بفتح المعجمة ثم المهملة- اسمه: سعد، مشهور بكنيته، وثَّقه النسائي.

وأخرج الحاكم في الإكليل من طريق حبة العربي: أسندته إلى صدري فسالت نفسه. وحبة ضعيف، ومن حديث أم سلمة، قالت: علي آخرهم عهدًا به صلى الله عليه وسلم. وحديث عائشة أثبت من هذا، ولعلها أرادت أنه آخر الرجال عهدًا، ويمكن الجمع بأن يكون علي آخرهم عهدًا به، وأنه لم يفارقه حتى مال، فظنَّ أنه مات، ثم أفاق بعد أن توجّه، فأسندته عائشة بعده إلى صدرها فقبض، ولأحمد في أثناء حديث عنها، فبينما رأسه ذات يوم على منكبي؛ إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجت من فيه نقطة باردة، فوقعت على نقرة نحري، فاقشعرَّ جلدي، وظننت أنه غشي عليه، فسجيته ثوبًا، انتهى.

فلم يذكر فيها شيعيًّا، وإنما ذكر ضعف رواته كما ترى، "قال السهيلي: وجدت في بعض كتب الواقدي أن أوَّل كلمة تكلّم بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة" السعدية "الله أكبر"، وآخر كلمة تكلم بها "في الرفيق الأعلى".

وفي حديث عائشة عند البخاري: فكانت آخر كلمة تكلم بها: "اللهمَّ الرفيق الأعلى" وروى الحاكم من حديث أنس قال: إن آخر ما تكلّم به النبي صلى الله عليه وسلم: "جلال" أي: أختار جلال "ربي الرفيع" فقد بلغت ثم قضي، هذا بقية الحديث.

وجمع بينهما بأن هذا آخريه مطلقة وما عداه آخرية نسبية، "ولما توفي صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر غالبًا بالسنح" بضم السين المهملة فنون ساكنة، وبضمها أيضًا فحاء مهملة "يعني: بالعالية، أي: بأقربها، على ميل من المسجد النبوي "عند زوجته" حبيبة "بنت خارجة بن زيد الخزرجية، صحابية بنت صحابي، "وكان عليه السلام قد أذن له في الذهاب إليها"؛ لأنه أصبح يوم الإثنين

ص: 133

وتوعّد من يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى عليه السلام، فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم. فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة فدخل، فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجثا يقبله ويبكي ويقول: توفي والذي نفسي بيده، صلوات الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيًّا وميتًا، ذكره الطبري في "الرياض".

وقالت عائشة: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجَّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبَّله ثم بكى وقال: بأبي

خفيف المرض، فقال له أبو بكر: أراك يا رسول الله قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب، واليوم يوم ابنة خارجة أفآتيها، قال: نعم، فذهب فمات في غيبته، "فسلَّ عمر بن الخطاب سيفه وتوعّد" بالقتل "من يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم" بناءً على ما قدم عنده، وأداه إليه اجتهاده أنه لا يموت حتى يشهد على أمته بأعمالها أخذًا من قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، كما رواه ابن إسحاق عنه، ثم رجع عن ذلك كما يأتي: "وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى عليه السلام، فلبث عن قومه أربعين ليلة"، وهذا قاله اجتهادًا بالقياس، ثم رجع عنه "والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم".

زاد في رواية: وألسنتهم، يعني: المنافقين، وفي لفظ: لا يموت حتى يؤمر بقتال المنافقين، "فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة، فدخل فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجثا" بجيم فمثلثة برك على ركبتيه "يقبّله ويبكي، ويقول: توفي والذي نفسي بيده -صلوات الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيًّا وميتًا".

"ذكره الطبري" محب الدين الحافظ "في" كتاب "الرياض" النضرة في فضائل العشرة "وقالت عائشة: أقبل أبو بكر" حال كونه راكبًا "على فرس من مسكنه" متعلق بأقبل، "بالسنح" منازل بني الحارث من الخزرج، "حتى نزل" عن الفرس، "فدخل المسجد، فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة، فبصر برسول الله"، الذي في البخاري هنا وقبله في الجنائز: فتيمَّم، قال المصنف: أي: قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجَّى" بضم الميم وفتح السين والجيم المشددة، أي: مغطّى، هذا لفظ الجنائز، وفي الوفاة مغشَّى -بضم الميم وفتح الغين والشين

ص: 134

أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. رواه البخاري.

واختلف في قول أبي بكر رضي الله عنه: "لا يجمع الله عليك موتتين".

فقيل هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال؛ لأنه لو صحَّ ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كـ {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} ، و {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها.

المشددة المعجمتين- أي: مغطّى "ببرد" لفظ الجنائز، وفي الوفاة: بثوب، "حبرة" بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة، وإضافة برد أو ثوب، وبالتنوين، فحبرة صفته، وهي ثوب يماني مخطّط أو أخضر، "فكشف عن وجهه" لبرد ثم أكبَّ عليه" لازم وثلاثيه كَبَّ متعدٍّ عكس المشهور من قواعد التصريف، فهو من النوادر، "فقبَّله" بين عينيه "ثم بكى" اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت، فأكبَّ عليه وقبَّله، ثم بكى حتى سالت دموعه على وجنتيه.

رواه الترمذي "وقال: بأبي أنت وأمي" الباء متعلقة بمحذوف، أي: أنت مفدَّى بأبي، فهو مرفوع مبتدأ وخبر، أو فعل فما بعده نصب، أي: فديتك، "لا يجمع" بالرفع، ولفظ الجنائز: يا نبي الله، وي الوفاة: والله لا يجمع "الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك" بصيغة المجهول، وللمستملي والحموي كتب الله عليك "فقدمتها".

"رواه البخاري" في الجنائز والوفاة النبوية من أفراده عن مسلم.

ورواه النسائي وابن ماجه في الجنائز، "واختلف في" معنى "قول أبي بكر رضي الله عنه: لا يجمع الله عليك موتتين، فقيل: هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم" هو عمر "أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال" كما في البخاري في المناقب، قالت -أي: عائشة: وقال عمر: وليبعثه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم؛ لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى ثانية؛ إذ لا بُدَّ من الموت قبل القيامة "فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كـ {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون ألفًا {حَذَرَ الْمَوْتِ} وهم قوم بني إسرائيل، وقع الطاعون ببلادهم ففروا، فقال لهم الله: موتوا، فماتوا ثم أحياهم بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حزقيل -بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي، فعاشوا دهرًا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوبًا إلا عاد كالكفن، واستمرَّت في أسباطهم و {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} هي بيت المقدس راكبًا على حمار ومعه سلة تين وقدح

ص: 135

وقيل: أراد أنه لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره، إذا يحيا فيسأل ثم يموت، وهذا جواب الداودي.

وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك. وقيل: كنَّى بالموت الثاني عن الكرب، أي: لا تلقى بعد هذا الموت كربًا آخر. قال في فتح الباري.

وعنها: إن عمر قام يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبَّله، وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رسلك، فلمّا تكلم أبو بكر

عصير وهو عزير، وقيل: أرمياه، وقيل: غيرهما {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} ساقطة على عروشها" سقوفها لما خربها بخت نصر، قال استعظامًا لقدرة الله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} ليريه كيفية ذلك، {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} الآية "وهذا أوضح" أظهر الأجوبة وأسلمها من الاعتراض.

"وقيل: أراد أنه لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره؛ إذ يحيا فيسأل ثم يموت"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يسأل، "وهذا جواب الداودي" أحمد بن نصر المالكي شارح البخاري، "وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك، وقيل: كُنِّيَ بالموت الثان عن الكرب، أي: لا تلقى بعد هذا الموت كربًا آخر" ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" "قاله في فتح الباري" في كتاب الجنائز، وتعقّب الثالث في الوفاة، فقال: وأغرب من قال: المراد بالموتة الأخرى موت الشريعة، قال هذا القائل، ويؤيده قول أبي بكر بعد ذلك في خطبته، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، "وعنها" أي: عائشة أيضًا، "أنَّ عمر قام يقوم: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم" بناء على ظنه الذي أداه اجتهاده إليه، وأسقط من الحديث، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك، وليبعثه الله فليقطعنَّ أيدي رجال وأرجلهم "فجاء أبو بكر" من السنح، "فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبَّله" بين عينيه "وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده لا يذيقك" بالرفع "الله الموتتين أبدًا"؛ لأنه يحيا في قبره ثم لا يموت كما هو أحد الوجوه المتقدمة. قال الحافظ: وهذا أحسن، ولعل هذا هو الحكمة في تعريف الموتتين، يعني: في هذه الرواية، أي: المعروفتين المشهورتين الواقعتين لكل أحد غير الأنبياء، فبطل تمسك من تمسك به لإنكار الحياة في القبر. انتهى.

"ثم أخرج" أبو بكر من عنده صلى الله عليه وسلم وعمر يكلم الناس، "فقال: أيها الحالف على رسلك" بكسر الراء وسكون المهملة- هينتك، أي: اتئد في الحلف ولا تستعجل، وعبَّر بالحالف لأن

ص: 136

جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية [آل عمران: 144]، قال: فنشج الناس يبكون، رواه البخاري.

يقال: نشج الباكي، أي: غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.

عادتهم النداء بالحالة التي يكون الشخص عليها، كقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة:"قم يا نومان" ولعلي: "قم أبا تراب" وتنبيهًا على أنه لا ينبغي الحلف في ذا المقام، لا لأنه لم يعرفه لما خرج، وإنما سمع الحلف، فأبهمه؛ لأن أبا بكر يعرف صوت عمر، ولأنه قال: اجلس يا عمر كما يأتي قريبًا "فلمَّا تكلم أبو بكر جلس عمر" بعد إبايته -كما في حديث ابن عباس الآتي، فقال: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس، "فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا" بالفتح والتخفيف- تنبهًا على ما بعده، كأنه قال: تنبهوا، "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أي: ستموت ويموتون فلا شماتة بالموت، فالميت بالتثقيل من لم يمت وسيموت، وأما بالتخفيف فمن حلَّ به الموت، قال الخليل: أنشد أبو عمرو:

أيا سائلي تفسير ميت وميت

فدونك قد فسرت إن كنت تعقل

فمن كان ذا روح فذلك ميت

وما الميت إلّا من إلى القبر يحمل

"وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] ، اختصار من المصنف، وإلّا فهي متلوة كلها عند البخاري، فقال: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} رجعتم إلى الكفر، والجملة الأخيرة محلّ الاستفهام الإنكاري، أي: ما كان معبودًا فترجعوا، نزلت لما أشيع يوم أحد أنه صلى الله عليه وسلم قُتِلَ، وقال المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} وإنما يضر نفسه، {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} نعمة بالثبات، "قال فنشج" بفتح النون والشين المعجمة وبالجيم "الناس يبكون لتحققهم موته، ولم يبين المصنف ولا الحافظ فاعل قال: فيحتمل أنه عائشة، وذكر باعتبار الشخص، أو إنها قالته حاكية له عن عمر ويؤيده قولها أولًا: وقال عمر: والله...... إلخ.

هكذا أفاده شيخنا أبو عبد الله الحافظ البابلي.

"رواه البخاري" في مناقب الصديق بهذا اللفظ: "يقال نشج" بفتحات "الباكي، أي: غُصَّ بالبكاء في حلقه من غير انتحاب" أي: شدة البكاء.

ص: 137

وعن سالم بن عبيد الأشجعي قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخذ بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحدًا يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضربته بسيفي هذا، قال: فقال الناس: يا سالم، أطلب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجت إلى المسجد، فإذا بأبي بكر، فلمَّا رأيته أجهشت بالبكاء، فقال: يا سالم أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدًا يقول مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضربته بسيفي هذا، قال: فأقبل أبو بكر حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجَّى، فرفع البرد عن وجهه، ووضع فاهه على فيه، واستنشى الريح، ثم سجَّاه والتفت إلي فقال:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية، وقال:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} يا أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال عمر: فوالله لكأنِّي لم أتل هذه الآيات قط. خرَّجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن الحارث، كما ذكره الطبري في "الراض" له، وقال: خرج الترمذي معناه

"وعن سالم بن عبد الأشجعي" الصحابي، من أهل الصُّفَّة، نزل الكوفة، روى له أصحاب السنن حديثين بإسناد صحيح في العطاس، وله رواية عن عمر، هي أنه "قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب، فأخذ بقائم سيفه" من إضافة الصفة للموصوف، أي: شهر سيفه "وقال: لا أسمع أحدًا يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضربته بسيفي هذا، قال" سالم:"فقال الناس: يا سالم، أطلب صاحب رسول الله" يعنون: أبا بكر "قال: فخرجت إلى المسجد، فإذا بأبي بكر، فلمَّا رأيته أجهشت" بجيم وهاء ومعجمة- أي: فزعت إليه "بالبكاء" كالصبي يفزع إلى أمه، "فقال: يا سالم، أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدًا يقول مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضربته بسيفي هذا، قال" سالم: فأقبل أبو بكر حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهومسجى" يجيم بوزن مغطَّى ومعناه "فرفع" كشف وأزال البرد عن وجهه، ووضع فاهه على فيه، واستنشى "أي: شمَّ الريح، أي: ريح الموت، فعلم أنه مات، "ثم سجَّاه: غطاه بالبرد والتفت إلينا بعد خروجه من عنده فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وتلا "الآية" كلها "وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، يا أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال عمر: فوالله لكأنِّي لم أتل هذه الآيات" بناءً على أن الجمع ما فوق الواحد "قط. خرَّجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن الحارث، كما ذكره الطبري في الرياض، له وقال: خرَّج الترمذي معناه بتمامه".

ص: 138

بتمامه.

واستنشى الريح: شمها، أي: شمَّ ريح الموت.

وعند أحمد: عن عائشة قالت: سجَّيت النبي صلى الله عليه وسلم ثوبًا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا، فأذنت لهما، وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه، ثم قاما، فقال المغيرة: يا عمر، مات، قال: كذبت، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث ابن عباس عند البخاري: إن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا

وأخرجه يونس بن بكير في زيادات المغازي "واستنشى الريح: شمها، أي: شمَّ ريح الموت" فعرف أنه مات عليه الصلاة والسلام، "وعند أحمد عن عائشة، قالت: سجيت النبي صلى الله عليه وسلم ثوبًا" نصب بنزع الخافض، "فجاء عمر" بن الخطاب "والمغيرة بن شعبة، فاستأذنا" في الدخول، "فأذنت لهما، وجذبت" سحبت "الحجاب، فنظر عمر إليه، فقال" متعجبًا: "واغشياه"، ظنَّ أنه أغمي عليه إغماء شديدًا بدون موت، "ثم قاما"، فلما دنوا من الباب، "فقال المغيرة: يا عمر مات" أخبره بذلك تحسرًا وتأسفًا لا أنه استفهام بحذف الأداة؛ لقوله: "قال" عمر: "كذبت"؛ إذ لو كان استفهامًا لم يسغ له تكذيبه، "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين".

قال المصنف: هذا قاله عمر بناءً على ظنه؛ حيث أدَّاه اجتهاده إليه، وفي سيرة ابن إسحاق عن ابن عباس أن عمر قال له: إن الحاصل له على هذه المقالة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ} [البقرة: 143] ، فظنَّ أنه صلى الله عليه وسلم يبقى في أمته حتى يشهد عليها، "ثم جاء أبو بكر" من النسخ، "فرفعت الحجاب، فنظر إليه فقال: إنا لله" ملكًا وعبيدًا يفعل بنا ما يشاء، "وإنا إليه راجعون" في الآخرة فيجازينا، "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وروى ابن إسحاق وعبد الرزاق والطبراني أن العباس قال لعمر: هل عند أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال: لا. قال: فإنه قد مات، ولم يمت حتى حارب وسالم، ونكح وطلق، وترككم على محجَّة واضحة، وهذا من موافقات العباس للصديق.

"وفي حديث ابن عباس عند البخاري" هنا وقبله في الجنائز: "إنَّ أبا بكر خرج" من عند النبي صلى الله عليه وسلم "وعمر بن الخطاب يكلم الناس" يقول لهم: لم يمت صلى الله عليه وسلم، "فقال أبو بكر" له:

ص: 139

عمر، فقال أبو بكر: أمَّا بعد، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله عز وجل:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} قال: والله لكأنَّ الناس لم يعلموا أنَّ الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقَّاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها.

وفي حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة، أنَّ أبا بكر مَرَّ بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين. قال: وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رءوسهم، فقال: أيها الرجل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات: ألم تسمع الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْد} ثم أتى أبو بكر المنبر. الحديث.

اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس" لما حصل له من الدهشة والحزن، "فأقبل الناس إليه، وللكشميهني: عليه، "وتركوا عمر"، وفي الجنائز: فأبى عمر، فتشهد أبو بكر، فمال إليه الناس وتركوا عمر، "فقال أبو بكر: أما بعد، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَت} مضت {مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل} .

زاد في رواية البخاري: إلى قوله الشاكرين، "قال" ابن عباس:"والله لكأنَّ الناس لم يعلموا أنَّ الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقَّاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها".

قال الكرماني: فإن قلت: ليس فيها أنه صلى الله عليه وسلم قد مات، وأجاب بأنَّ أبا بكر تلاها لأجل أنه صلى الله عليه وسلم قد مات، قال الحافظ: ورواية ابن السكن قد أوضحت المراد. فإنه زاد لفظ علمت.

"وفي حديث ابن عمر" عبد الله "عند ابن أبي شيبة أن أبا بكر مَرَّ بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين، قال" ابن عمر: "وكانوا أظهروا الاستبشار" الفرح، وأسقط عقب هذا لفظ: وفرحوا بموته، "ورفعوا رءوسهم فقال" أبو بكر لعمر:"أيها الرجل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ألم تسمع الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} فأخبر بأنه سيموت، فكيف تنكره، "وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} أفإن مت، "ثم أتى أبو بكر المنبر..... الحديث" تمامه: فصعد عليه، فحمد الله وأثنى عليه، فذكر خطبته: أما بعد

إلخ.

وفي البخاري أن عمر قال: والله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها، أي: آية آل عمران، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض، حين سمعته تلاها علمت أن

ص: 140

قال القرطبي أبو عبد الله المفسّر: وفي هذا أدلّ دليل على شجاعة الصديق، فإن الشجاعة حدّها ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم. فظهر عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واضطرب الأمر، فكشفه الصديق بهذه الآية، فرجع عمر عن مقالته التي قالها.

كما ذكره الوائلي أبو نصر عبد الله في كتاب "الإنابة"، عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوى على منبره صلى الله عليه وسلم، تشهَّد ثم قال: أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة، وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب الله، ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرجو أن

النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.

"قال القرطبي -أبو عبد الله" محمد "المفسر" أي: مؤلف التفسير، وهو تلميذ القرطبي صاحب المفهم على مسلم، "وفي هذا أدل دليل على شجاعة الصديق، فإن الشجاعة حدها ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم، فظهر عنده شجاعته وعلمه، قال الناس" أي: أكثرهم: "لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واضطرب الأمر، فكشفه الصديق بهذه الآية" وفي نسخة: فكشف، أي: عن الناس اضطرابهم، ففيه وة جأشه وكثرة علمه، وقد وافقه على ذلك العبَّاس -كما مَرَّ- والمغيرة، كما رواه ابن سعد وابن أم مكتوم، كما في مغازي أبي الأسود عن عروة، قال: إن ابن أم مكتوم كان يتلو {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} والناس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك، فيؤخذ منه أن الأقل عددًا في الاجتهاد قد يصيب ويخطيء الأكثر، فلا يتعيّن الترجيح بالأكثر، ولا سيما إن ظهر أنّ بعضهم قلد بعضًا.

قاله الحافظ: "فرجع عمر عن مقالته التي قالها، كما ذكره الوائلي أبو نصر عبد الله في كتاب الإنابة عن أنس بن مالك، أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر" على الخلافة "في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوى على منبره: تشهّد عمر".

أخرجه ابن إسحاق في السيرة بنحوه، قال: حدثني الزهري قال: حدثني أنس قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة، وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلّم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، "ثم قال" عمر:"أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة، وأنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب الله" صريحًا، وإنما كنت استنبطها من قوله:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} فظننت أنه يبقى في أمته حتى يشهد على آخر أعمالها -كما عند ابن إسحاق، عنه: "ولا في عهد عهده إليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم

ص: 141

أي: يكون آخرنا موتًا، أو كما قال، فاختار الله عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى به رسوله، فخذوا به تهتدوا لما هدي له رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو نصر: المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولن يموت حتى يقطع أيد وأرجل، وكان ذلك لعظيم ما ورد عليه، وخشي الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد عمر قوة يقين الصديق الأكبر، وتفوهه بقول الله عز وجل:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم. انتهى.

وقال ابن المنير: لما مات صلى الله عليه وسلم طاشت العقول، فمنهم من خبل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى، وكان

قال: ذلك دعا لتوهمهم أنه قال ذلك، فيستمر الاضطراب، "ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا" بضم التحتية وسكون الدال وفتح الموحدة "أي: يكون آخرنا موتًا، أو كما قال" شك الراوي، "فاختار الله عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب" القرآن "الذي هدى الله به رسوله، فخدوا به" اعملوا بما فيه، "تهتدوا لما هدي له رسول الله صلى الله عليه وسلم" فتكونوا ورثته، وفي آخر هذا الخبر عند ابن إسحاق: فبايع الناس أبا بكر البيعة العامَّة بعد بيعة السقيفة، ثم تكلّم أبو بكر..... الحديث.

"قال أبو نصر:" المذكور "المقالة التي قالها عمر ثم رجع عنا هي "قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولن يموت حتى يقطع أيدي الرجل" رجال، يعني: المنافقين، "وكان قوله: "ذلك لعظيم ما ورد عليه، وخشي الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد عمر قوة يقين الصديق الأكبر وتفوهه"، نطقه بقول الله عز وجل:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنَّها لم تنزل قط إلّا ذلك اليوم. انتهى".

وجواب: فلمَّا شاهد محذوف دلَّ عليه ما قبله، أي: رجع عن مقالته، "وقال ابن المنير" في معراجه:"لما مات صلى الله عليه وسلم طاشت" ذهبت العقول، أي: كادت تذهب؛ إذ لم تذهب بالفعل، "فمنهم من خبل" أي: قارب الخبل، أو حصلت له حالة تشبه الخبل، قال في القاموس: خبله الحزن جننه وأفسد عقله، "ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس" منع النطق، "فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى" مرض "وكان عمر ممن خبل، أي: كاد لأنه لم يخبل بالفعل

ص: 142

عمر ممن خبل، وكان عثمان ممن أخرس، يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلامًا، وكان علي ممن أقعد فلم يستطع حراكًا، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمدًا. وكان أثبتهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، جاء وعيناه تهملان، وزفراته تتردد، وغصصه تتصاعد وترتفع، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأكبَّ عليه، وكشف الثوب عن وجهه وقال: طبت حيًّا وميتًا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء قبلك، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أنَّ موتك كان اختيارًا لجدنا لموتك بالنفوس. اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك.

ووقع في حديث ابن عباس وعائشة عند البخاري: إنَّ أبا بكر قَبَّل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما مات، كما قدمنا، وكذا وقع في رواية غيره.

وفي رواية يزيد بن بابنوس عنها، عند أحمد، أنه أتاه من قَبَّل رأسه، فحدر

وكان عثمان ممن أخرس، يذهب به ويجيء ولا يستطيع كلامًا، وكان علي ممن أقعد فلم يستطع حراكًا" بزنة سحاب، أي: حركة كما في القاموس، "وأضنى عبد الله بن أنيس، فمات كمدًا" بفتح الكاف والميم- حزنًا، "وكان أثبتهم أبو بكر جاء وعيناه تهملان" بضم الميم، "وزفراته" بزاي ففاء فراء- أنفاسه "تتردد" مرة بعد مرة، "وغصصه" جمع غصة كغرف وغرفة، شجاه "تتصاعد وترتفع" عطف تفسير فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فأكبَّ عليه وكشف الثوب عن وجهه، وقال: طبت حيًّا وميتًا وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء قبلك"، وهو النبوة والرسالة؛ لأنك آخر الأنبياء "فعظمت عن الصفة" النعت، أي: إن كل صفة تقصر عنك، "وجللت عن البكاء"؛ لأنه لا يوازيك "ولو أن موتك كان اختيارًا" أي: لو خُيِّرنا فيه وفي فدائك "لجدنا لموتك بالنفوس، أذكرنا يا محمد عند ربك" تعالى "ولنكن من بالك".

"ووقع في حديث ابن عباس وعائشة عند البخاري أن أبا بكر قَبَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما مات" قال الحافظ: ففيه كتقبيله لعثمان بن مظعون بعد موته، جواز تقبيل الميت تعظيمًا وتبركًا، "كما قدمناه مطولًا" عنهما.

وقد رواه البخاري مختصرًا تلو المطول، بلفظ: عن عائشة وابن عباس، أنَّ أبا بكر قَبَّل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، "وكذا في رواية غيره" أي: البخاري، "وفي رواية يزيد" بتحتية وزاي "ابن بابنوس" بموحدتين بينهما ألف غير مهموز وبعد الثانية المفتوحة نون مضمومة فواو ساكنة فسين مهملة، البصري، مقبول الرواية، خرَّج له أبو داود والنسائي، "عنها" أي: عائشة، "عند أحمد، أنه" أي: أبا بكر "أتاه" صلى الله عليه وسلم "من قِبَلِ رأسه، فحدر" بمهملتين أبو بكر "فاه" أي: حطّ فم نفسه من

ص: 143

فاه وقَبَّل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقَبَّل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقَبَّل جبهته وقال: واخليلاه.

وعند ابن ابي شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقبّله ويبكي ويقول: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا.

وعن عائشة: إنَّ أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فوضع فاه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه. أخرجه ابن عرفة العبدي كما ذكر الطبري، قال: ولا تضاد بين هذا على تقدير صحته وبين ما تقدَّم مما تضمَّن ثباته، بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق خافتًا به صوته، ثم التفت إليهم، وقال لهم ما قال.

وأخرج البيهقي وأبو نعيم من طريق الواقدي عن شيوخه: إنهم شَكُّوا في موته صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه صلى الله عليه وسلم فقالت: قد توفي، قد رفع الخاتم من بين كتفيه، فكان

علوّ أي: قيام، "فقَبَّل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه" أي: رأس نفسه "فحدر فاه" ثانيًا: "وقَبَّل جبهته، ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقَبَّل جبهته" ثالثًا، "وقال: واخليلاه".

وعند ابن أبي شيبة عن ابن عمر" عبد الله: "فوضع أبو بكر "فاه على جبين" هو بمعنى جبهة "رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقبّله ويبكي ويقول: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا" فيه جواز التفدية بهما، وقد يقال: هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها ولا تقصد معناها الحقيقي؛ إذ حقيقة التفدية بعد الموت لا تتصور.

قاله الحافظ: "وعن عائشة أنَّ أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فوضع فاه بين عينيه" أي: المصطفى، "ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه".

"أخرجه" الحسن "بن عرفة" بن يزيد العبدي، أبو علي البغدادي الصدوق، مات سنة سبع وخمسين ومائتين، وقد جاوز المائة "كما ذكره الطبري" في الرياض، "قال: ولا تضاد" لا تخلف "بين هذا على تقدير صحته، وبين ما تقدَّم مما تضمَّن ثباته بأن "أي: بسبب أن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق خافتًا به صوته، ثم التفت إليهم وقال لهم ما قال".

وأخرج البيهقي وأبونعيم من طريق الواقدي" محمد بن عمر بن واقد، الأسمى عن شيوخه، أنهم شكُّوا في موته صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس" وكانت زوج الصديق يومئذ، وهي أم ابنه محمد وجدّة القاسم، "يدها بين

ص: 144

هذا هو الذي قد عرف به موته، وأخرجه ابن سعد عن الواقدي أيضًا.

ولما توفي عليه الصلاة والسلام قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه مَنْ إلى جبريل ننعاه. رواه البخاري.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد قيل: الصواب: إلى جبريل ننعاه. جزم بذلك سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان، قال: والأوّل متوجّه فلا معنى لتغليط الرواة بالظن.

وزاد الطبراني: يا أبتاه، مِنْ ربه ما أدناه.

كتفيه، فقالت: قد توفي، قد رفع الخاتم من بين كتفيه " وأراد أنَّ النبوة والرسالة باقيتان بعد الموت حقيقة كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته، فلم رفع ما هو علامة، وأجيب بأنه لما وضع لحكمة وهي تمام الحفظ والعصمة، وقد تَمَّ الأمر بالموت، فلم يبق لبقائه في الجسد فائدة، "فكان هذا هو الذي عرف به موته" أي: إنه من جملة ما عرف به، وإلّا قد عرفه الصديق بشمّ ريح الموت من فمه، وبغير ذلك كما مَرَّ، أو المراد الذي عرف به للنساء.

"وأخرجه ابن سعد" محمد "عن" شيخه "الواقدي أيضًا" قال: حدَّثنا القاسم بن إسحاق عن أمه عن ابنها القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن أم معاوية، أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. والواقدي متروك، وذكر مغلطاي في الزهد: إن الحاكم روى في تاريخه عن عائشة أنها لمست الخاتم حين توفي صلى الله عليه وسلم فوجدته قد رفع، قال الشامي: ولا أخًا له صحيحًا، "ولما توفي عليه الصلاة والسلام قالت فاطمة: يا أبتاه" أصله يا أبي، والفوقية بدل من التحتية، والألف للندبة والهاء للسكت، "أجاب ربًّا دعاه" إلى حضرته القدسية، "يا أبتاه، مَنْ جنة الفردوس" بفتح ميم من مبتدأ والخبر قوله:"مأواه" منزله، وحكى الطيبي عن نسخة من المصابيح: كسر الميم على نها حرف جر، قال: والأولى أَوْلَى. انتهى.

وعلى الثاني: فمن للتبعيض، أي: بعض جنة الفردوس، خبر لقوله: مأواه، "يا أبتاه مَنْ إلى جبريل ننعاه -بفتح النون الأولى وسكون الثانية- وإلى جاره.

"رواه البخاري" عن أنس من أفراده، "قال الحافظ ابن حجر: قد قيل: الصواب إلي" بشد ياء المتكلم "جبريل" بالرفع فاعل، "نعاه" أخبر بموته، جزم بذلك سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان، قال" الحافظ: "والأول متوجّه" أي: له وجه، هو أنه لا يلزم أن الإخبار بالموت إنما يكون لغير العالم به، بلقد يذكر للعالم به تأسفًا على ما فقده من خصاله المحمودة، وتذكيرًا لما بينهما من المحبة والوصلة، "فلا معنى لتغليط الرواة بالظنّ، وزاد الطبراني" والإسماعيلي: "يا أبتاه، مِنْ ربه ما أدناه" ما أقربه.

ص: 145

وقد عاشت فاطمة رضي الله عنها بعده صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فما ضحكت تلك المدة وحُقَّ لها ذلك.

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه

وإن كان من ليلى على الهجر طاويًا

وأخرج أبو نعيم عن علي قال: لما قُبِضَ صلى الله عليه وسلم صعد ملك الموت باكيًا إلى السماء، والذي بعثه بالحق نبيًّا لقد سمعت صوتًا من السماء ينادي: وامحمداه. الحديث.

كل المصائب تهون عند هذه المصيبة

وفي سنن ابن ماجه: إنه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "أيها الناس، إن أحدًا من الناس، أو من المؤمنين، أصيب بمصيبة فليعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي".

وقال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد الله، اتق الله، فإن في رسول الله أسوة حسنة. ويعجبني قول

قال الحافظ: يؤخذ منه أنَّ تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفًا بها أنه لا يمنع ذكره بها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرًا، وهو في الباطن بخلافه، أولًا: يتحقق اتصافه بها فتدخل في المنع، "وقد عاشت فاطمة بعده صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فما ضحكت تلك المدة وحُقَّ لها" بضم الحاء "ذلك" أي: عدم الضحك، وأنشد بيتًا لغيره.

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه

وإن كان من ليلى على الهجر طاويا

أي: على هجرها له مصرًّا، جاز ما به "وأخرج أبو نعيم عن علي قال: لما قبض صلى الله عليه وسلم صعد ملك الموت باكيًا إلى السماء، والذي بعثه بالحق نبيًّا، لقد سمعت صوتًا من السماء ينادي: وا محمداه.... الحديث. كل المصائب تهون" تسهل "عند هذه المصيبة؛ " إذ لا يساويها شيء، "وفي سنن ابن ماجه" عن عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه" الذي توفي فيه: "أيها الناس، إن أحدًا" وفي رواية:"إيما أحد من الناس أو من المؤمنين" شك الراوي، "أصيب بمصيبة فليتعزّ" يتصبر "بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي" أي: مصيبته بي، "وقال أبو الجوزاء" بجيم وزاي- أوس بن عبد الله الربعي -بفتح الموحدة- البصري، التابعي الثقة.

"كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته المصيبة جاءه أخوه" في الإسلام "فصافحه، ويقول: يا عبد الله اتق الله" واصبر على ما أصابك، "فإن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة،

ص: 146

القائل:

اصبر لكل مصيبة وتجلّد

واعلم بأن المرء غير مخلّد

واصبر كما صبر الكرام فإنها

نوب تنوب اليوم تكشف في غد

وإذا أتتك مصيبة تشجَّى بها

فاذكر مصابك بالنبي محمد

ويرحم القائل:

تذكرت لما فرّق الدهر بيننا

فعزَّيت نفسي بالنبي محمد

وقلت لها إن المنايا سبيلنا

فمن لم يمت في يومه مات في غد

كادت الجمادات تتصدّع من ألم مفارقته صلى الله عليه وسلم، فكيف بقلوب المؤمنين؟ ولما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حَنَّ إليه وصاح. كان الحسن إذا حدَّث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.

وروي أن بلالًا لما كان يؤذن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ارتجَّ المسجد بالبكاء والنحيب. فلما دُفِنَ ترك بلال الأذان.

ويعجبني قول القائل:

اصبر لكل مصيبة وتجلّد

واعلم بأن المرء غير مخلّد

واصبر كما صبر الكرام فإنها

نوب تنوب اليوم تكشف في غد

وإذا أتتك مصيبة تشجّى بها

فاذكر مصابك بالنبي محمد

تشجّى بفتح التاء وسكون المعجمة- تحزن بها "ويرحم الله القائل".

تذكرت لما فرَّق الدهر بيننا

فعزيت نفسي بالنبي محمد

وقلت لها إن المنايا سبيلنا

فمن لم يمت في يومه مات في غد

"كادت" قاربت: "الجمادات تتصدع" تنشق "من ألم مفارقته صلى الله عليه وسلم" مستأنف لقصد الإخبار بالجزع عليه لكل موجود حتى لغير الحيوانات، "فكيف بقلوب المؤمنين، ولما فقده الجذع" واحد جذوع- النخل "الذي كان يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر حنَّ إليه وصاح" صوت حتى نزل إليه والتزمه ومرَّت قصته، "كان الحسن" البصري "إذا حدَّث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إليه" لأنكم عقلاء.

"وروي أن بلالًَا لما كان يؤذّن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ارتجَّ" بشد الجيم "المسجد"، أي: أهله، أي: تحركوا واضطربوا "بالبكاء والنحيب،

ص: 147

ما أمرَّ عيش من فارق الأحباب، خصوصًا من كان رؤيته حياة الألباب.

لو ذاق طعم الفراق رضوى

لكان من وجده يميد

قد حمَّلوني عذاب شوق

يعجز عن حمله الحديد

وقد كانت وفاته صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين بلا خلاف، وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتدّ الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل: ليلة الأربعاء.

فعند ابن سعد في الطبقات، عن علي: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، ودُفِنَ يوم الثلاثاء، وعنده أيضًا عن عكرمة: توفي يوم الإثنين، فحُبِسَ بقية يومه وليلته، ومن الغد حتى دفن من الليل، وعنده أيضًا: عن عثمان بن محمد الأخنسي: توفي يوم الإثنين حين زاغت الشمس، ودفن يوم الأربعاء، وروي أيضًا عن أبيّ بن

فلمَّا دُفِنَ ترك بلال الأذان. ما أمرَّ عيش من فارق الأحباب، خصوصًا من كانت رؤيته حياة الألباب: العقول، وأنشد:

لو ذاق طعم الفراق رضوى

لكان من وجده يميد

قد حملوني عذاب شوق

يعجز عن حمله الحديد

رضوى -بفتح الراء- جبل بالمدينة، ويميد: يتحرك "وقد كانت وفاته صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين بلا خلاف، وقت دخوله المدينة في هجرته، حين اشتدَّ الضحاء" بالفتح والمد قرب الزوال، "ودفن يوم الثلاثاء، وقيل:" دفن "ليلة الأربعاء"، فعند ابن سعد في الطبقات عن علي قال:"توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين"، وهذا مروي في الصحيح عن عائشة وأنس، "ودفن يوم الثلاثاء".

وكان رواه ابن سعد عن ابن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وزعم ابن كثير أنه قول غريب، وعنه أي: ابن سعد "أيضًا عن عكرمة" أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الإثنين فحُبِسَ" أي: منع من الدفن بقية يومه وليلته "التالية له، "ومن الغد" أي: يوم الثلاثاء، حتى دفن من الليل أي: ليلة الأربعاء وزعم ابن كثير أن هذا قول الجمهور، "وعنده" أي: ابن سعد أيضًا عن عثمان بن محمد" بن المغيرة بن الأخنس "الأخنسي" بخاء معجمة ونون ومهملة- نسبة إلى جده المذكور، الثقفي الحجازي، صدوق، له أوهام.

روى له الأربعة، "توفي يوم الإثنين حين زاغت:" مالت "الشمس، ودفن يوم الأربعاء" ويأتي مثله عن سهل بن سعد، فحاصل الخلاف هل دفن يوم الثلاثاء أو ليلة الأربعاء أو يوم الأربعاء، ويمكن الجمع على تقدير صحة الكل بالتجوّز في دفن يوم الثلاثاء على أنَّ معناه شرع

ص: 148

عباس بن سهل عن أبيه عن جده: توفي يوم الإثنين، فمكث بقية يوم الإثنين والثلاثاء حتى دُفِنَ يوم الأربعاء. وعنده أيضًا، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب: توفي يوم الإثنين حين زاغت الشمس.

ورثته عمَّته صفية بمراثي كثيرة منها قولها:

ألا يا رسول الله كنت رجاءنا

وكنت بنا برًّا ولم تك جافيا

وكنت رحيمًا هاديًا ومعلمًا

ليبك عليك اليوم من كان باكيا

لعمرك ما أبكي النبي لفقده

ولكن لما أخشى من الهجر آتيا

كأن على قلبي لذكر محمد

وما خفت من بعد النبي المكاويا

أفاطم صلى الله رب محمد

في دفنه في يوم ثم تأخر لاختلافهما في المحل الذي يدفن فيه وهل يجعل له لحد أو شق، وطول الزمن بصلاتهم عليه فوجا بعد فوج حتى دفن ليلة الأربعاء، وبالتجوز في قوله: يوم الأربعاء على أن معناه في الليلة التي صبيحتها يوم الأربعاء والعلم لله.

"وروي" ابن سعد "أيضا عن أبي" بضم الهمزة وموحدة وتحتية ثقيلة "ابن عباس بن "سهل" بن سعد الأنصاري، الساعدي فيه ضعف ماله في البخاري غيرحديث واحد تقدم في الحيل النبوية وروى له الترمذي وابن ماجه "عن أبيه عباس الثقة.

روى له الشيخان وغيرهما "عن جده" الصحابي المشهور، قال:"توفي" صلى الله عليه وسلم "يوم الاثنين، فمكث يوم الانين والثلاثاء حتى دفن يوم الأربعاء وعنده" أي: ابن سعد "أيضا عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب، قال: توفي يوم الاثنين حين زاغت" بمعجمتين، أي مالت "الشمس" للزوال "ورثته عمته صفية بمراثي كثيرة، منها قولها:" لكن هذا إنما نسبه ابن سعد وغيره لأختها أروي بنت عبد المطلب: "ألا يا رسول الله كنت رجاءنا" بالمد "وكنت بنا برا" محسنا رفيقا "ولم تك جافيا" معرضا عنا، أو طاردا لنا "وكنت رحيما" بالخلق "هاديا ومعلما" لهم "لبيك عليك اليوم من كان باكيا" فلا لوم عليه "لعمرك" حياتك "ما أبكى النبي لفقده" أي: لمجرده "ولكنني لما أخشى من الهجر آتيا" مفعول أخشى قدم عليه متعلقة "كأن على قلبي لذكر محمد وما خفت" عطف على ذكر، أي ولما خفته من بعد النبي" من الذل والاختلاف وتغير الأحوال "المكاويا:" اسم كان مؤخر جمع مكواه وهي الحديدة التي يحرق بها الجلد ونحوه.

والمعنى: كأن على قلبي نيرانا من أثر المكاوي التي أحرقته لذكر محمد، وفي نسخة: المقاليا "أفاطم" بضم الميم وفتحها على لغة من ينتظر ومن لا "صلى الله رب محمد، على

ص: 149

........................

على جدث أمسى بيثرب ثاويا

فدًى لرسول الله أمي وخالتي

وعمي وخالي ثم نفسي وماليا

فلو أنَّ رب الناس أبقى نبينا

سعدنا ولكن أمره كان ماضيا

عليك من الله السلام تحية

وأدخلت جنات من العدن راضيا

أرى حسنًا أيتمته وتركته

يبكي ويدعو جدّه اليوم نائيا

ورثاه أبو سفيان بن الحارث فقال:

أرقت فبت ليلي لا يزول

وليل أخي المصيبة فيه طول

وأسعدني البكاء وذاك فيما

أصيب المسلمون به قليل

لقد عظمت مصيبتنا وجلت

عشية قيل: قد قبض الرسول

وأضحت أرضنا مما عراها

تكاد بنا جوانبها تميل

فقدنا الوحي والتنزيل فينا

بروح به ويغدوا جبرئيل

وذاك أحق ما سالت عليه

نفوس الناس أو كادت تسيل

نبي كان يجلو الشك عنا

بما يوحي إليه وما يقول

ويهدينا فلا نخشى ضلالًا

علينا والرسول لنا دليل

جدث" بجيم ودال ومثلثة- لغة تهامة، وبها جاء القرآن: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} ، ولغة نجد: جدف بالفاء بدل المثلثة، أي: قبر "أمسى بيثرب ثاويًا" مقيمًا، "فدًى" القصير "لرسول الله أمي وخالتي وعمي وخالي ثم نفسي وماليا" بألف الإطلاق "فلو أنَّ رب الناس أبقى نبينا سعدنا، ولكن أمره كان ماضيًا، عليك من الله السلام تحيّة، وأدخلت جنات من العدن راضيًا أرى حسنًا" ابن فاطمة "أيتمته وتركته يبكي" بالتشديد، "ويدعو جده اليوم نائيا" بالنون، أي: حال كونه بعيدًا.

"ورثاه أبو سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب "فقال: أرقت" سهرت، "فبت ليلي لا يزول" لا ينقضي، "وليل أخي المصيبة فيه طول" كثير، وأسعدني: أعانني "البكاء" بالمد، "وذاك فيما أصيب المسلمون به" إلى يوم القيامة "قليل، لقد عظمت مصيبتنا وجلّت" على كل مصيبة، "عشية قيل: قد قبض الرسول وأضحت أرضنا ما عراها" أصابها، "تكاد" تقرب "بنا جوانبها تميل، فقدنا الوحي والتنزيل" يحتمل أنه عطف مساوٍ وأنه مغاير يجعل التنزيل القرآن، والوحي ما عداه، "فينا يروح به" يأتي وقت الرواح من الظهر "ويغدو" يأتي وقت الغدوة أول النهار، "جبرئيل، وذاك أحق من سالت" أي: خرجت "عليه نفوس الناس أو كادت تسيل" تحتمل، أو للإضراب والتنويع، "نبي كان يجلو الشك عنا بما يوحى إليه" على لسان الملك، "وما يقول" بالإلهام والمنام ونحوهما، وكله وحي، "ويهدينا فلا نخشى ضلالًا علينا والرسول لنا

ص: 150

أفاطم أن جزعت فذاك عذر

وإن لم تجزعي ذاك السبيل

فقير أبيك سيد كل قبر

وفيه سيد الناس الرسول

ورثاه الصديق بقوله:

لما رأيت نبينا متجدلًا

ضاقت عليَّ بعرضهنَّ الدور

فارتاع قلبي عند ذاك لهلكه

والعظم مني ما حييت كسير

أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى

فالصبر عنك لما بقيت يسير

يا ليتني من قبل مهلك صاحبي

غيبت في جدث علي صخور

فلتحدثنّ بدائع من بعده

تعيا بهنّ جوانح وصدور

ورثاه الصديق أيضًا بقوله:

ودعنا الوحي إذ وليت عنَّا

فودعنا من الله الكلام

سوى ما قد تركت لنا رهينًا

تضمنه القراطيس الكرام

ولقد أحسن حسان بقوله يرثيه:

بطيبة رسم للرسول ومعهد

دليل على الهدى والصراط المستقيم "صراط الله، "أفاطم إن جزعت" بكسر الزاي- يعني: لم تصبري "فذاك عذر" لأنها مصيبة لا تشابهها مصيبة، "وإن لم تجزعي" بفتح الزاي- أي: صبرت "ذاك السبيل" لكل مخلوق، "فقبر أبيك سيد كل قبر" بل سيد جميع الأمكنة، "وفيه سيد الناس الرسول" بل سيد الخلق كلهم.

"ورثاه الصديق بقوله: لما رأيت نبينا متجدلًا" ملقيًا على الجدالة -بفتح الجيم- الأرض، "ضاقت عليّ بعرضهن" أي: سعتهنّ الدور، فارتاع" جواب لما دخلته الفاء على قلة "قلبي عند ذاك لهلكه" بضم الهاء وسكون اللام- موته، "والعظم مني ما حييت" مدة حياتي "كسير، أعتيق" ينادي نفسه؛ لأنه لقبه أو اسمه "ويحك" وقعت في ورطة لا تستحقها، إن حبك -بكسر الحاء- محبوبك "قد توى" بفوقية بزنة حصى، أي: هلك، "فالصبر عنك لما بقيت يسير" أي: قلّ صبرك لموت محبوك، "يا نفسي" ليتني من قبل مهلك" أي: موت "صاحبي غيبت في جدث، قبر علي صخورٍ فلتحدثنّ" بنون التوكيد الثقيلة، "بدائع" جمع بدعة، اسم من الابتداع، كالرفعة من الارتفاع، ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة "من بعده تعيا بهنّ جوانح"، الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر "وصدور، ورثاه الصديق أيضًا بقوله: ودعنا الوحي؛ إذ وليت عنّا فودعنا" بالتشديد "من الله الكلام سوى ما قد تركت لنا رهينًا، تضمنه القراطيس: جمع قرطاس -بكسر القاف- أشهر من فتحها ما يكتب فيه "الكرام، ولقد أحسن حسان بقوله: يرثيه بطيبة رسم" أثر "للرسول ومعهد" بفتح الهاء- منزل، معهود به الهدى والنور

ص: 151

...........................

مبين وقد تعفوا الرسوم وتهمد

ولا تنمحي الآيات من دار حرمه

بها منبر الهادي الذي كان يصعد

وأوضح آيات وباقي معالم

وربع له فيه مصلى ومسجد

بها حجرات كان ينزل وسطها

من الله نور يستضاء ويوقد

معارف لم تطمس على العهد آيها

أتاها البِلى فالآي منها تجدد

عرفت بها رسول الرسول وعهده

وقبرًا بها واراه في الترب ملحد

أطالت وقوفًا تذرف العين دمعها

على طلل القبر الذي فيه أحمد

فبوركت يا قبر الرسول وبوركت

بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد

وبورك لحد منك ضمن طيبًا

عليه بناء من صفيح منضد

تهيل عليه الترب أيد وأعين

"مبين" بَيّن ظاهر لا يمكن إنكاره ما دامت الدنيا، "وقد تعفو" تدرس الرسوم غير رسمه ومعهده، و"تهمد" بهاء قبل الميم- تبلى، قالها: مَدّ البالي من كل شيء، "ولا تنمحي" تذهب الآيات من دار حرمه بفتح فسكون للوزن، وأصله -بفتحتين- "بها منبر الهادي الذي كان يصعد" بفتح العين يرقى عليه" وبها "أوضح آيات وباقي معالم" آثار، "وربع" منزل "له فيه مصلى" مكان صلاة، "ومسجد بها حجرات، كان ينزل وسطها" بالسكون "من الله نور" القرآن والوحي، "يستضاء" به من ظلمات الجهل، "ويوقد" يقتبس منه أنوار الهدى "معارف لم تطمس" أي: لم تمح "على" بعد "العهد آيها" جمع آية، فإن "أتاها البلى" بالكسر والقصر- الفناء، "فالآي منها تجدّد" ما بلي، "عرفت بها رسم الرسول وعهده" آثاره ومنزله، "وقبرًا بها واراه في الترب ملحد" بضم الميم وكسر الحاء- من الحد، أي: جعل اللحد، وبعد هذا عند ابن هشام:

ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت

عيون ومثلاها من الجن تسعد

تذكرن آلاء الرسول وما أرى

لها محصيًا نفسي فنفسي تبلد

مفجعة قد شقّها فقد أحمد

فظلت لا آلاء الرسول تعدد

وما بلغت من كل أمر عشيرة

ولكن لنفسي بعد هذا توجد

وبعد هذا قوله: "أطالت" أي: العيون المذكورة في قوله: فأسعدت عيون، "وقوفها تذرف -بكسر الراء- العين دمعها" الذي في ابن هشام: تذرف الدمع جهدها، وأيما كانت فأخطأ من قال: أحسن من أطلت، لأنَّ أطالت للمطايا ولم تذكر، "على طل القبر الذي فيه أحمد، فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى" أقام فيها حيًّا وميتًا، "الرشيد المسدّد" هما من أسمائه عليه الصلاة والسلام كما مَرَّ، "وبورك لحد منك ضمن" بشد الميم "طيبًا من أسمائه "عليه بناء من صفيح" حجارة عريضة منضد بعضه فوق بعض، "تهيل" تصب "عليه الترب" مفعول فاعله "أيد

ص: 152

.........................

تباكت وقد غارت بذلك أسعد

لقد غيبوا حلمًا وعلمًا ورحمة

عشية عالوه الثري لا يوسد

وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم

وقد وهنت منهم ظهور وأعضد

يبكون من تبكي السموات موته

ومن قد بكته الأرض والناس أكمد

فهل عدلت يومًا رزية هالك

رزية يوم مات فيه محمد

وأعين تباكت، وقد غارت بذلك أسعد" أنجم، جمع سعد، وسعود النجوم عشرة، بينها القاموس: "لقد غيبوا حلمًا وعلمًا ورحمة عشية عالوه" جعلوا عليه "الثرى" التراب، "لا يوسّد" وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم، وقد وهنت" ضعفت "منهم ظهور وأعضد" جمع عضد، "يبكون من تبكي السموات موته، ومن قد بكته الأرض والناس أكمد" أشد كمدًا وهو الحزن المكتوم، "فهل عدلت يومًا رزية هالك" مصيبة ميت، "رزية يوم مات فيه محمد" كذا ثبتت هذه الأبيات في بعض نسخ المصنف، وهي من قصيدة عند ابن هشام، من زيادته على ابن إسحاق، رواها ابن هشام عن أبي زيد الأنصاري وبقيتها عنده:

تقطع فيه منزل الوحي عنهم

وقد كان ذا نور يغور وينجد

يدل على الرحمان من يقتدي به

وينقذ من هول الخزايا ويرشد

إمام لهم يهديهم الحق جاهدًا

معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا

عفوّ عن الزلَّات يقبل عذرهم

وإن يحسنوا بالله بالخير أجود

وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله

فمن عنده تيسير ما يتشدد

فبينا هموا في نعمة الله بينهم

دليل به نهج الطريقة يقصد

عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى

حريص على أن يستقيموا ويهتدوا

عطوف عليهم لا يثنى جناحه

إلى كتف يحنو عليهم ويمهد

فبينا همو في ذلك النور إذ غدا

إلى نورهم سهم من الموت يقصد

فأصبح محمودًا إلى الله راجعًا

تبكيه جفن المرسلات ويجمد

وأمست بلاد الحرم وحشًا بقاعها

لغيبة ما كانت من الوحي تعهد

قفارًا سوى معمورة اللحد ضافها

فقيد يبكيه بلاط وغرقد

ومسجده كالموحشات لفقده

خلاء له فيه مقام ومقعد

فيا جمرة الكبرى له ثم أوحشت

ديار وعرصات وربع ومولد

فبكى رسول الله يا عين جهرة

ولا أعرفنّك الدهر دمعك يجمد

وما لك لا تبكين ذا النعم التي

على الناس منها سابغ يتغمد

فجودي عليه بالدموع وأعولي

لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد

ص: 153

ورثاه حسان بقوله أيضًا:

كنت السواد لناظري

فعمي عليك الناظر

من شاء يعدك فليمت

فعليك كنت أحاذر

ولما تحقَّق عمر بن الخطاب رضي الله عنه موته صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر، ورجع إلى قوله، قال وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلمَّا كثروا اتخذت منبرًا لتسمعهم، فحنَّ الجذع لفراقك، حتى جعلت يدك عليه سكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من

وما فقد الماضون مثل محمد

ولا مثله حتى القيامة يفقد

أعفّ وأوفى ذمة بعد ذمة

وأقرب منه نائلًا لا ينكد

وأبذل منه للطريف وتالد

إذا ضنَّ ذو مال بما كان يتلد

وأكرم بيتًا في البيوت إذا انتمى

وأكرم جدًّا أبطحيًّا يسود

وامنع ذروات وأثبت في العلا

دعائم عز شامخات تشيد

وأثبت فرعًا في الفروع ومنبت

وعودًا كعود المزن فالعود أغيد

رباه وليدًا فاستتم تمامه

على أكرم الخيرات رب ممجد

تناهت وصاة المسلمين بكفّه

فلا العلم محبور ولا الرأي يفند

أقول ولا يلقي لقولي عائب

من الناس إلا عازب العقل مبغد

وليس هواي نازعًا عن ثنائه

لعلي به في جنة الخلد أخلد

مع المصطفى أرجو بذاك جواره

وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد

ورثاه حسان أيضًا بقوله:

كنت السواد لناظري

فعمي عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت

فعليك كنت أحاذر

"لا يرد على هذا كله ما رواه ابن ماجه وصحَّحه الحاكم عن ابن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المراثي؛ لأنَّ المراد مراثي الجاهلية، وهي ندبهم الميت بما ليس فيه نحو: واكهفاه واجبلاه لا مطلقًا، فقد رثى حسان حمزة وجعفرًا وغيرهما في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم ينهه، "ولما تحقق عمر بن الخطاب موته صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر الصديق: ورجع إلى قوله: قال: وهو يبكي بأبي أنت وأمي" أي: لو كان لي إلى الفداء سبيل لفديتك بأبوي، فضلًا عن المال وغيره "يا رسول الله لقد

ص: 154

فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم، فقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الآية، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده، أنَّ أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها يعذّبون، يقولون:{يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} . الخبر ذكره أبو العباس القصَّار في شرحه لبردة الأبو صيري، ونقله عن الرشاطي في كتابه:"اقتباس الأنوار والتماس الأزهار"، وذكره ابن الحاجّ في المدخل وساقه بتمامه، والقاضي عياض في "الشفاء"، لكنه ذكره بعضه، ويقع في كثير من نسخ الشفاء: روي عن عمر بن الخطاب

كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلمَّا كثروا اتخذت منبرًا لتسمعهم، فحَنَّ الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه سكن" أي: سكت وترك الحنين "فأمتك أَوْلَى، "أحق بالحنين" التألّم عليك حين فارقتهم"

قال المجد: الحنين الشوق وشدة البكاء والطرب، أو هو صوت الطرب عن حزن أو فرح، "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} مَرَّ شرحه "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن" مخففة من الثقيلة، أي: إنه "بعثك آخر الأنبياء، وذكرك في أولهم" أي: قدَّم ذكرك على ذكرهم فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] فبدأ به بقوله: ومنك، "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار" من أمة الدعوة "يودون" يتمنون "أن يكونوا أطاعوك وهم" أي: والحال أنهم "بين أطباقها" جمع طبق، وهي المنزلة والمرتبة واحدًا بعد واحد، وما تراكم بعضه على بعض، "يعذّبون" بيان لما أورثهم دخولها وذكره لكشف حالهم، ولو حذف تَمَّ المعنى بدونه، "يقولون:{يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} ، وقيل: المراد بأهل النار جميع أهلها على معنى أنهم تمنَّوا أن يكونوا من مطيعيه لرؤيتهم حسن حال أمته الذين أطاعوه، فتمنّوا أنهم أدركوا زمانه وأطاعوه، ففيه فضله على سائر الأنبياء، وإلّا فكل طائفة جهنمية تودّ لو كانت أطاعت رسولها.... "الخبر ذكره أبو العباس القصّار في شرحه لبردة الأبو صيري" صوابه: البوصيري -كما مَرَّ كثيرًا؛ لأنه نسبة إلى بوصير.

"ونقله عن الرشاطي" بضم الراء، "في كتابه: اقتباس الأنوار والتماس الأزهار، وذكره ابن الحاج في المدخل وساقه بتمامه، والقاضي عياض في الشفاء، لكنه ذكر بعضه، ويقع في كثير من نسخ الشفاء".

"روي عن عمر بن الخطاب أنّه قال في كلام بكى به النبي صلى الله عليه وسلم بتشديد الكاف -

ص: 155

رضي الله عنه- أنه قال في كلام بكَّى به النبيُّ صلى الله عليه وسلم -بتشديد الكاف من بَكَى، والصواب فيها التخفيف؛ لأن هذا الكلام إنما سمع من عمر بعد موته صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ونبهت عليه في حاشية الشفاء"، والله أعلم. ويؤيد هذا قوله في الخبر نفسه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد اتبعك في عصر عمرك ما لم يتبع نوحًا في كبر سنة وطول عمره، فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل. وأخرج ابن عساكر عن أبي ذؤيب الهذلي قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عليل،

من بكى، والصواب فيها التخفيف؛ لأن هذا الكلام إنما سُمِعَ من عمر بعد موته صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم، ونبَّهت عليه في حاشية الشفاء، وأجاب بعض شراحها بأن التشديد يصحّ بحذف المفعول، أي: بكَّى به الناس النبيُّ، أي: صيّرهم باكين عليه، أو بكى نفسه كذلك، وهذا خير من دعوى الخطأ "والله أعلم".

"ويؤيد هذا قوله في الخبر نفسه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد اتبعك في" أي مع "عصر عمرك" مدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، آمن فيها أزيد من مائة وعشرين ألفًا، "ما لم يتبع نوحًا في كِبَر سنِّه وطول عمره"، فلقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا وما آمن معه إلا قليل، قيل: ستة رجال ونساؤهم، وقيل: تسعة وسبعون؛ زوجته المسلمة وبنوه حام وسام ويافث ونساؤهم، واثنان وسبعون من غيرهم، نصفهم رجال ونصفهم نساء، ونوح، فجملة من كان في السفينة ثمانون. "وأرج ابن عساكر عن أبي ذؤيب الهذلي" الشاعر المشهور، اسمه: خويلد بن خالد، ويقال: خالد بن خويلد، كان فصيحًا كثير الغريب متمكنًا في الشعر، وعاش في الجاهلية دهرًا، وأدرك الإسلام فأسلم، وعامة شعره في إسلامه، وحضر سقيفة بني ساعدة، وسمع خطبة أبي بكر، ورثى النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة منها:

كسفت لمصرعه النجوم وبدرها

وتزعزعت آطام بطن الأبطح

ثم انصرف إلى باديته، فأقام حتى توفي في خلافة عثمان بطريق مكة، قاله ابن منده، وقال غيره: مات بطريق إفريقية وكان غزاها، ورافق ابن الزبير لما توجَّه مبشرًا بالفتح، فدفنه ابن الزبير بيده، وقيل: مات غازيًا بأرض الروم، وقيل: بإفريقية، وقيل: في طريق مصر.

وعند ابن البرقي أن أبا ذؤيب جاء إلى عمر في خلافته، فقال: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: قد فعلت، فأي العمل بعده أفضل؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: كان ذلك علي وأنا لا أرجو جنة ولا أخشى نارًا، فتوجَّه من فوره غازيًا هو وابنه وابن أخيه أبو عبيد حتى أدركه الموت في بلاد الروم والجيش سائرون، فقال لابنه: إنكما لا تتركان علي جميعًا فاقترعا، فصارت القرعة لأبي عبيد، فأقام عليه حتى واراه.

ص: 156

فأوجس أهل الحي خيفةً على النبي صلى الله عليه وسلم، وبت بليلة طويلة حتى إذا كان قرب السحر نمت، فهتف بي هاتف في منامي وهو يقول:

خطب أجل أناخ بالإسلام

بين النخيل ومقعد الآطام

قبض النبي محمد فعيوننا

تذري الدموع عليه بالتسجام

فوثبت من نومي فزعًا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح، فعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قُبِضَ!! أو هو ميت، فقَدِمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلّوا للإحرام، فقلت: مه؟ فقيل: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن عجيب ما اتفق ما روي: أنهم لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لا ندري، أنجَرِّد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرِّد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه، فلمَّا اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلّا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو: اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا وغسَّلوه عليه قميصه، يضعون الماء.

"قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عليل" مريض، "فأوجس" أضمر "أهل الحي خيفة" خوفًا "على النبي صلى الله عليه وسلم، وبِتّ بليلة طويلة حتى إذا كان قرب السحر" آخر الليل "نمت، فهتف بي هاتف في منامي وهو يقول"

خطب أجل أناخ بالإسلام

بين النخيل ومقعد الآطام

قبض النبي محمد فعيوننا

تذري الدموع عليه بالنسجام

خطب، أي: أمر شديد عظيم، والنِّسجام سيلان الدمع المنسجم القوي، وهو بفتح التاء ككل ما وزنه تفعال إلا التلقاء والتسباب، "فوثبت من نومي فزعًا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلّا سعد الذابح" اسم نجم، فتفاءلت به ذبحًا يقع في العرب كما في الرواية، "فعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قُبِضَ، أو هو ميت" أي: قريب الموت، "فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج" بضاد معجمة وجيمين- صياح، "بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلّوا للإحرام، فقلت: مه" استفهام، والهاء للسكت، أي: ما هذا؟ "فقيل: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عجيب ما اتفق ما روي: إنهم لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لا ندري" ما نفعل "أنجرِّد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرِّد موتانا، أم نغسِّله وعليه ثيابه، فلمَّا اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلّا وذقنه" بفتح الذال والقاف- مجتمع لحييه، جمع القلة أذقان كسبان وأسباب، والكثرة ذقون؛ كأسد وأسود كما في المصباح، "في صدره، ثم كلّمهم مكلم من ناحية" جانب "البيت، لا يدرون من هو: اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه- ثيابه، فقاموا" انتبهوا من النوم، "فغسَّلوه وعليه قميصه،

ص: 157

فوق القميص ويدلكونه بالقميص. رواه البيهقي في دلائل النبوة.

وروى ابن ماجه بسند جيد عن علي يرفعه: "إذا أنا متُّ فاغسلوني بسبع قرب من بئري بئر غرس". قال في النهاية: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والسين المهملة.

وقد روى ابن النجار: إنه عليه الصلاة والسلام قال: "رأيت الليلة أنِّي على بئر من الجنة" فأصبح على بئر غرس فتوضأ منها وبزق فيها.

وغسل صلى الله عليه وسلم ثلاث غسلات؛ الأولى: بالماء القراح، والثانية: بالماء والسدر، والثالثة: بالماء والكافور، وغسَّله علي والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران مولاه صلى الله عليه وسلم يصبون الماء وأعينهم معصوبة من وراء الستر؛ لحديث علي:"لا يغسلني إلّا أنت فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طُمِسَت عيناه". رواه البزار

يضعون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص.

رواه البيهقي في دلائل النبوة"، وأصله في أبي داود عن عائشة، وابن ماجه عن بريدة "وروى ابن ماجه بسند جيد" أي: مقبول "عن علي يرفعه: "إذا أنا مِتُّ فاغسلوني بسبع قرب من بئري" أضافها إليه؛ لأنه كان يشرب منها وبزق فيها "بئر غرس.

"قال في النهاية: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والسين المهملة"، بئر بقباء، "وقد روى ابن النجار أنه عليه الصلاة والسلام قال:"رأيت الليلة أني على بئر من الجنة" فأصبح" أي: جاء صبيحة الرؤيا "على بئر غرس، فتوضأ منها وبزق فيها"؛ ليحصل فيها بركته، "وغسل" بالتخفيف وتشدد للمبالغة "صلى الله عليه وسلم ثلاث غسلات؛ الأولى: بالماء القَراح" بفتح القاف- خالص لم يخالطه كافور ولا حنوط ولا غير ذلك، والثانية: بالماء والسدر، والثالثة: بالماء والكافور" طيب معروف يكون من شجر ببلاد الهند والصين، يظلّ خلقًا كثيرًا وتألفه النمور، وخشبه أبيض هشّ، ويوجد في أجوافه الكافور، وهو أنواع، ولونه أحمر، وإنما يبيض بالتصعيد، قاله القاموس. "وغسله علي والعباس" مبتدأ، "وابنه الفضل" عطف عليه والخبر "يعينانه" في تقليب جسمه الشريف، "وقثم" بضم القاف ومثلثة مفتوحة ابن العباس، "وأسامة" بن زيد "وشقران" بضم المعجمة "مولاه صلى الله عليه وسلم يصبون الماء وأعينهم معصوبة" أي: مربوطة بعصابة، "من وراء الستر" حتى لا ينظرون جسده الشريف وهو يغسل، خِيفَة أن يبدو ما لم يؤذن في النظر إليه، وضمير أعينهم للعبّاس ومن بعده لا لعلي، فإنه لم يعصب عينيه "لحديث علي" أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يغسلني إلا أنت، فإنه لا يرى أحد عورتي إلّا طمست عيناه" بفتح الطاء والميم- زال ضوؤها وصورتها، وهو تعليل

ص: 158

وأخرج البيهقي عن الشعبي قال: غسل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول وهو يغسله صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا.

أخرج أبو داود وصحَّحه الحاكم عن علي قال: غسلته صلى الله عليه وسلم، فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئًا، وكان طيب حيًّا وميتًا.

وفي رواية ابن سعد: وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط.

قيل: وجعل علي على يده خرقة وأدخلها تحت القميص، ثم اعتصروا قميصه، وحنطوا مساجده ومفاصله، ووضؤوا منه ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه، وجمّروه عودًا وندًا.

وذكر ابن الجوزي أنه روي عن جعفر بن محمد قال: كان الماء يستنقع في جفون النبي صلى الله عليه وسلم، فكان علي يحسوه، وأمَّا ما روي أن عليًّا لما غسله صلى الله عليه وسلم امتص

لمقدَّر هو، "فإني أخشى على غيرك أن تحين منه لفتة فتطمس عيناه، وأمَّا أنت يا علي فأعرف تحرزك عن ذلك، فلا أخشى عليك".

وروي أن عليًّا نودي وهو يغسله أن ارفع طرفك نحو السماء خوفًا أن يديم النظر إليه.

"رواه البزار والبيهقي، وأخرج البيهقي عن الشعبي" عامر بن شراحيل التابعي "قال: غسل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول وهو يغسله: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا".

"وأخرج أبو داود وصحَّحه الحاكم عن علي قال: غسلته صلى الله عليه وسلم، فذهبت أنظر ما يكون" يوجد "من الميت" من الفضلات الخارجة بعد الموت وعند التغسيل، "فلم أر شيئًا، وكان طيبًا حيًّا وميتًا".

"وفي رواية ابن سعد: وسطعت" أي: ارتفعت "ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط، قيل: وجعل علي على يده خرقة، وأدخلها تحت القميص، ثم اعتصروا قميصه وحنّطوا" أي: جعلوا الحنوط وهو كل طيب يخلط للميت خاصة "مساجده ومفاصله، ووضؤوا منه" صلى الله عليه وسلم "ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه، وجمروه" بالجيم- بخروه "عودًا وندًا" بفتح النون وتكسر- طيب معروف، أو العنبر كما في القاموس.

"وذكر ابن الجوزي أنه روي عن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر "قال: كان الماء يستنقع" أي: يجتمع بكسر القاف "في جفون النبي صلى الله عليه وسلم، فكان علي يحسوه" أي: يشربه بفمه.

"وأمَّا ما روي أن عليًّا لما غسله عليه الصلاة والسلام امتص" أي: مص، وفي نسخة:

ص: 159

ماء محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والآخرين، فقال النووي: ليس بصحيح.

وفي حديث عروة عن عائشة قالت: كفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية. أخرجه النسائي من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة. واتفق عليه الأئمة الستة من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بزيادة: من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة. وليس قوله:"من كرسف" عند الترمذي ولا ابن ماجه.

وزاد مسلم: أما الحلة فإنما شُبِّه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفَّن فيها، فتركت الحلة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنَّها حتى أكَفّن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله عز وجل لنبيه لكفَّنه فيها، فباعها وتصدَّق بثمنها.

اقتلص، أي: أخذ من الاقتلاص "ماء من محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والآخرين، فقال النووي: ليس بصحيح" وأقرَّه السخاوي وغيره.

"وفي حديث عروة عن عائشة قالت: كفِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض" في طبقات ابن سعد عن الشعبي: إزاء ورداء ولفافة، "سحولية" بالضم والفتح.

"أخرجه النسائي من راية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة" عنها، "واتَّفق عليه الأئمة الستة من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، بزيادة: من كرسف" قطن، "ليس فيها قميص ولا عمامة"، هذا نحو قوله تعالى:{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي: بغير عمد أصلًا أو عمد غير مرئية، وليس قوله: من كرسف عند الترمذي ولا ابن ماجه".

"وزاد مسلم" في روايةٍ من طريق أبي معاوية عن هشام، عن أبيه، عن عائشة:"أمَّا الحلة" بضم المهملة وشد اللام- ضرب من برود اليمن، وهي إزار ورداء، ولا تسمَّى حلة حتى تكون ثوبين، فإنما شُبِّه -بضم المعجمة وكسر الموحدة شديدة- أي: اشتبه "على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفّن فيها، فتركت الحلة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض" جمع أبيض، وزنه في الأصل بضم الفاء، كأحمر وحمر، فأبدلت الضمة كثرة لسلم الياء من قلبها واو؛ لوقوعها بعد ضمة، "سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر" الصديق "فقال: لأحسبنها حتى أكفّن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله لنبيه لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها" وهذا من عائشة يدل على أنَّ قولها: ثلاثة أثواب عن علم وإيقان لا عن تخمين وحسبان.

ص: 160

وفي رواية له: أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر، ثم نزعت عنه، وذكر الحديث.

وفي رواية أصحاب السنن الأربعة: فذكر لعائشة قولهم: كفن في ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتى بالبرد ولكنَّهم ردوه ولم يكفنوه فيه، قال الترمذي: حسن صحيح.

وفي رواية البيهقي: في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد.

والسحولية: بفتح السين وضمها، قال النووي: والفتح أشهر، وهو رواية الأكثرين، وفي النهاية تبعًا للهروي، فالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار؛ لأنه يسحلها، أي: يغسلها، أو إلى سحول وهي قرية باليمن، وأما الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلّا من قطن، وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضًا.

"وفي رواية له" لمسلم أيضًا من طريق علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:"أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة يمنية" بشد الياء، وهذه رواية العذري لمسلم.

ورواه الصدقي يمانية بالألف وخفة الياء على الأفصح؛ لأن الألف بدل من ياء النسب فلا يجتمعان "كانت لعبد الله بن أبي بكر، ثم نزعت عنه" صلى الله عليه وسلم، "وذكر الحديث" بنحو ما قبله.

"وفي رواية أصحاب السنن الأربعة: فذكر لعائشة قولهم: كفّن في ثوبين وبرد" بضم الموحدة، "حبرة" بكسرة المهملة وفتح الموحدة والراء- ثوب مخطّط يؤتى به من اليمن، روي بإضافة برد وتنوينه، "فقالت: قد أتي بالبرد، ولكنّهم ردوه ولم يكفنوه فيه، وقال الترمذي:" حديث "حسن صحيح، وفي رواية البيهقي:" كفن "في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد" جمع جديد، "والسحولية -بفتح السين وضمها، قال النووي: والفتح أشهر" لغة، "وهو رواية الأكثرين" لهذا الحديث.

ورواه الأقَّلون بالضم، "وفي النهاية تبعًا للهروي" في الغريبين "بالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار" للثياب "لأنه يسحلها" بزنة يمنعها، "أي: يغسلها"، وأصل معناه القشر والنحت، "أو إلى سحول" بالفتح "وهي قرية باليمن، وأمَّا الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقي" بالنون، ولا يكون إلّا من قطن وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضًا" فيكون نسب إليها، "والكرسف -بضم الكاف وإسكان الراء

ص: 161

والكرسف: بضم الكاف وإسكان الراء، وضم السين المهملتين والفاء: القطن.

وقال الترمذي: روي في كفن النبي صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الأحاديث في ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم.

وقال البيهقي في "الخلافيات": قال أبو عبد الله -يعني الحاكم: تواترت الأخبار عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة وابن عمر، وجابر وعبد الله بن مغفل، في تكفين النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة.

وعن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية عن علي: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفّن في سبعة أثواب، وقد روى هذا الحديث أحمد في مسنده، وذكر ابن حزم أن الوهم فيه من ابن عقيل أو ممن بعده.

وقد اختلف في معنى قوله: "ليس فيها قميص ولا عمامة".

فالصحيح أن معناه: إنه ليس في الكفن قميص ولا عمامة أصلًا.

والثاني: إن معناه أن كفن في ثلاثة أثواب خارج عن القميص والعمامة.

وضم السين المهملتين والفاء- القطن".

"قال الترمذي: روي في كفن النبي صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة" هذا "أصح الأحاديث في ذلك، والعلم عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم" فله مرجحان، "وقال البيهقي في الخلافيات: قال أبو عبد الله -يعني:" شيخه "الحاكم" محمد بن عبد الله: "تواترت الأخبار عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة وابن عمر وجابر وعبد الله بن مغفل" بمعجمة وفاء وزن محمد- في تكفين النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وعن عبد الله بن محمد بن عقيل" بفتح فكسر- ابن أبي طالب، صدوق، في حديثه لين، "عن ابن الحنفية" محمد بن علي بن أبي طالب، اشتهر بأمه، ثقة عالم، من رجال الجميع، "عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفّن في سبعة أثواب".

"وقد روى هذا الحديث أحمد في مسنده، وذكر ابن حزم أن الوهم فيه من ابن عقيل" عبد الله؛ لأن في حديثه لينًا، ويقال: إنه تغيّر بأخرة، "أو مِمَّن بعده" من الرواة.

"وقد اختلف في معنى قوله: ليس فيها قميص ولا عمامة، فالصحيح" عند جماعة "أنه ليس في الكفن قميص ولا عمامة أصلًا، والثاني: إن معناه أنه كفِّن في ثلاثة أثواب خارج

ص: 162

وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: والأول أظهر في المراد. وذكر النووي في شرح مسلم أنَّ الأول تفسير الشافعي وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث، وقال: إن الثاني ضعيف، فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كفن في قميص وعمامة. انتهى.

وترتَّب على هذا اختلافهم في أنه: هل يستحب أن يكون في الكفن قميص وعمامة أم لا؟

فقال مالك والشافعي وأحمد: يستحب أن تكون الثلاثة لفائف، ليس فيها قميص ولا عمامة، واختلفوا في زيادة القميص والعمامة أو غيرهما على اللفائف الثلاثة لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقال الشافعية: إنه جائز غير مستحب، وقال المالكية: إنه يستحب للرجال والنساء، وهو في حق النساء آكد. قالوا: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف، وقال الحنفية: الثلاثة: إزار وقميص ولفافة.

وقد أجمع المسلمون على وجوبه، وهو فرض كفاية، فيجب في ماله، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته.

عن القميص والعمامة"، قال المصنف في شرح مسلم ورجَّح كل منهما، "وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: والأول أظهر في المراد، وذكر النووي في شرح مسلم: إن الأول تفسير الشافعي وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث.

وقال: إن الثاني ضعيف، فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كفن في قميص وعمامة. انتهى"، وهو مشترك الإلزام، فلم يثبت أنه لم يكفن فيهما، والحديث يحتمل الوجهين، "وترتب على هذا الخلاف" اختلافهم في أنه: هل يستحب أن يكون في الكفن قميص وعمامة أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد: يستحب أن تكون الثلاثة لفائف ليس فيها قميص ولا عمامة، واختلفوا" بعد هذا "في زيادة القميص والعمامة أو غيرهما على اللفائف الثلاثة لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقال الشافعية: إنه جائز" مستوي "غير مستحب" ولا مكروه.

"وقال المالكية: إنه يستحب للرجال والنساء، وهو في حق النساء آكد" أشد في الاستحباب، "قالوا: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف، وقال الحنفية: الثلاثة إزار وقيمص ولفافة، وقد أجمع المسلمون على وجوبه" أي: الكفن، "وهو فرض كفاية، فيجب في ماله" أي: الميت، "فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته"؛ لأنه من توابع

ص: 163

واختلف أصحابنا في المتزوجة إذا كان لها مال، هل يجب تكفينها من مالها، أو هو على زوجها، فذهب إلى الأوّل الرافعي في "الشرح الصغير" والمحرر"، والنووي في "المنهاج"، وذهب إلى الثاني: الرافعي في "الشرح الكبير"، والنووي في "الروضة" و "شرح المهذب"، وقال فيه: قيّد الغزالي وجوب التكفين على الزوج بشرط إعسار المرأة، وأنكروه عليه.

ومتى كانت معسرة فتكفينها على زوجها قطعًا، ثم إنّ الواجب ثوب واحد، وهو حق الله تعالى، لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه، بخلاف الثاني والثالث، فإنه حق للميت، تنفذ وصيته بإسقاطهما.

وفي هذا الحديث أيضًا دلالة على أنَّ القميص الذي غسل فيه النبي صلى الله عليه وسلم نزع عنه عند تكفينه. قال النووي في شرح مسلم: وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره؛ لأنه لو بقي مع رطوبته لأفسد الأكفان. قال: وأمَّا الحديث الذي في سنن أبي داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان، وقميصه الذي توفي فيه، فحديث ضعيف، لا يصح الاحتجاج به؛ لأن يزيد بن

الحياة.

"واختلف أصحابنا في المتزوجة إذا كان لها مال، هل يجب تكفينها من مالها، أو هو على زوجها، فذهب إلى الأوّل الرافعي في الشرح الصغير" على وجيز الغزالي، "والمحرر، والنووي في المنهاج، وذهب إلى الثاني" وهو المعتمد عندهم "الرافعي" في الشرح الكبير" على الوجيز، والنووي في الروضة وشرح المهذّب".

"وقال فيه: قيد الغزالي وجوب الكفن على الزوج بشرط إعسار المرأة، وأنكروه عليه، وذلك لأنها متى كانت معسرة، فتكفينها على زوجها قطعًا"، وإنما الخلاف إذا كانت موسرة، "ثم إن الواجب ثوب واحد" يستر جميع بدنه، "وهو حق الله تعالى، لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه، بخلاف الثاني والثالث، فإنه حق للميت تنفذ وصيته بإسقاطهما، وفي هذا الحديث أيضًا دلالة على أنَّ القميص الذي غسل فيه النبي صلى الله عليه وسلم نزع عنه عند تكفينه"، من قولها: كفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية.

"قال النووي في شرح مسلم: وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره؛ لأنه لو أُبْقِيَ مع رطوبته" بماء الغسل "لأفسد الأكفان قال: وأما الحديث الذي في سنن أبي داود عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان، وقميصه الذي توفي فيه، فحديث

ص: 164

زياد، أحد رواته مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقات.

وفي حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا من جهازه صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس عليه صلى الله عليه وسلم أرسالًا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان، ولم يؤمّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.

وفي رواية: إنَّ أول من صلى عليه صلى الله عليه وسلم الملائكة أفواجًا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجًا فوجًا، ثم نساؤه آخرًا.

وروي أنه لما صلى أهل بيته لم يدر الناس ما يقولون، فسألوا ابن مسعود، فأمرهم أن يسألوا عليًّا، فقال لهم: قولوا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية، لبيك اللهم ربنا وسعديك، صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين،

ضعيف لا يصلح الاحتجاج به" لضعفه؛ "لأن يزيد بن زياد أحد رواته مجمَع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقات"، فتكون شاذَّة لو كان ثقة.

"وفي حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا من جهازه" بفتح الجيم وكسرها لغة قليلة، "صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس عليه صلى الله عليه وسلم أرسالًا" بفتح أوله- أي: جماعات متتابعين، "يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان، ولم يؤمّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد" فاعل يؤم.

قال ابن كثير: هذا أمر مجمَع عليه، واختُلِف في أنه تعبد لا بعقل معناه، أو ليباشر كل واحد الصلاة عليه منه إليه، وقال السهيلي: قد أخبر الله تعالى أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر كل واحد من المؤمنين أن يصلي عليه، فوجب على كل أحد أن يباشر الصلاة عليه منه إليه، والصلاة عليه بعد موته من هذا القبيل، قال: وأيضًا فإن الملائكة لنا في ذلك أئمة، انتهى.

وقال الشافعي في الأم: "وذلك لعظم أمره صلى الله عليه وسلم، وتنافسهم فيمن يتولَّى الصلاة عليه "وفي رواية: إنَّ أوّل من صلّى عليه الملائكة أفواجًا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجًا فوجًا، ثم نساؤه آخرًا" على ما روي عند الطبراني وغيره بسند واهٍ أنه أخبر بذلك قبل موته وتقدَّم.

"وروي أنه لما صلى أهل بيته لم يدر الناس ما يقولون، فسألوا ابن مسعود، فأمرهم أن يسألوا عليًّا"؛ لأنه أعلم منه بذلك، فسألوه فقال لهم: قولوا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ..... الآية" لعل حكمة الأمر بها تذكيرهم بالصلاة والسلام عليه في هذا الموطن، "لبيك اللهم ربنا" إجابة لك بعد إجابة فيما أمرتنا به من الصلاة والتسليم عليه، "وسعديك" إسعادًا بعد

ص: 165

والنبيين والصدقين والشهداء والصالحين، وما سبح لك من شيء يا رب العالمين، على محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الشاهد البشير، الداعي إليك بإذنك، السراج المنير، وعليه السلام. ذكره الشيخ زين الدين بن الحسين المراغي في كتابه: تحقيق النصرة.

ثم قالوا: أين تدفنونه؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

إسعاد "صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين" كالأربعة، والنبيين والصديقين" أفاضل أصحاب الأنبياء، "والشهداء والصالحين، وما سبَّح لك من شيء" {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ، فهو عبارة عن دوام الصلاة أبدًا، "يا رب العالمين، على محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وسيد" أي: أفضل "المرسلين وإمام" قدوة "المتقين، ورسول رب العالمين" إلى الخلق أجمعين، "الشاهد" على أمته، وعلى الأمم بأن أنبياءهم بلغوهم، "البشير" للمؤمنين، "الداعي إليك بإذنك" بإرادتك، "السراج المنير، وعليه السلام، ذكره الشيخ زين الدين بن الحسين المراغي" بفتح الميم وغين معجمة- من مراغة الصعيد، ومن أفاضل جماعة الأسنوي "في كتابه تحقيق النصرة" في تاريخ دار الهجرة، وظاهر هذا أن المراد ما ذهب إليه جماعة أنه لم يصل عليه الصلاة المعتادة، وإنما كان الناس يأتون فيدعون.

قال الباجي: ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم أفضل من كل شهيد، والشهيد يغنيه فضله عن الصلاة عليه، فهو صلى الله عليه وسلم أولى، قال: وإنما فارق الشهيد في الغسل؛ لأن الشهيد حذر من غسله إزالة الدم عنه، وهو مطلوب بقاؤه لطيبه؛ ولأنه عنوان لشهادته في الآخرة، وليس على النبي صلى الله عليه وسلم ما تكره إزالته، فافترقا. انتهى.

لكن قال عياض: الصحيح الذي عليه الجمهور، أنَّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاة حقيقية لا مجرّد الدعاء فقط. انتهى.

وأجيب عمَّا اعتلّ به الأولون بأن المقصود من الصلاة عليه عود التشريف على المسلمين، مع أن الكامل يقبل زيادة التكميل، نعم. لا خلاف أنه لم يؤمّهم أحد عليه كما مَرَّ لقول علي: هو إمامكم حيًّا وميتًا، فلا يقوم عليه أحد..... الحديث.

رواه ابن سعد وأخرج الترمذي، أن الناس قالوا لأبي بكر: أنصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: وكيف نصلي؟ قال: يدخل قوم فيكبِّرون ويصلون ويدعون، ثم يدخل قوم فيصلون فيكبِّرون ويدعون فرادى، "ثم قالوا" بعد الفراغ من الصلاة:"أين تدفنونه؟ " فقال الناس: عند المنبر، وقال آخرون: بالبقيع، كما في الموطأ وغيره، "فقال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هلك" أي: مات "نبي قط، إلا يدفن حيث تقبض روحه"، وقال علي:

ص: 166

يقول: "ما هلك نبي قط إلا يدفن حيث تقبض روحه"، وقال علي: وأنا أيضًا سمعته. وحفر أبو طلحة لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع فراشه حيث قُبِض.

وقد اختلف فيمن أدخله قبره، وأصحّ ما روي أنه نزل في قبره عمَّه العباس وعلي وقثم بن العباس والفضل بن العباس، وكان آخر الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العباس.

وروي أنه بُنِيَ في قبره تسع لبنات، وفرش تحته قطيفة نجرانية كان يتغطَّى بها، فرشها شقران في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك.

قال النووي: وقد نصَّ الشافعي وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر. وشذَّ

وأنا أيضًا سمعته".

أخرجه ابن ماجه وغيره، ورواه الترمذي، بلفظ:"ما قبض الله نبيًّا إلّا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه"، وفي الموطأ بلفظ:"ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه"، فحفر له فيه، "وحفر أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري لحد رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع فراشه حيث قبض" وروى ابن سعد: اختلفوا في الشق واللحد، فقال المهاجرون: شقوا كأهل مكة، وقالت الأنصار: ألحدوا كما نحفر بأرضنا، فقالوا: بعثوا إلى أبي عبيدة وأبي طلحة، فأيهما جاء قبل الآخر فليعمل عمله، فجاء أبو طلحة فقال: والله إني لأرجو أن يكون الله قد اختار لنبيه أنه كان يرى اللحد فيعجبه، فالحد له.

"وقد اختلف فيمن أدخله قبره"، وأصح ما روي أنه نزل في قبره عمَّه العباس وعلي وقثم" بقاف مضمومة ومثلثة مفتوحة "ابن العباس، والفضل بن العباس"، ويقال: دخل معهم أوس بن خولي -بفتح المعجمة وسكون الواو، وقيل بفتحها، "وكان آخر الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العباس" أي: إنه تأخَّر في القبر حتى خرجوا قبله.

"وروي أنه بني في قبره تسع لبنات" جمع لبنة، "وفرش تحته قطيفة" بفتح القاف وكسر المهملة وسكون التحتية ففاء- كساء له خمل، "نجرانية" بفتح النون وإسكان الجيم- بلد بين اليمن وهجر، "كان يتغطَّى بها"، ويروى: كان يجلس عليها، ولاخلف لجواز أنه فعل الأمرين، "فرشها شقران" بضم الشين وإسكان القاف- مولاه صلى الله عليه وسلم في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك.

قال النووي: وقد نصَّ الشافعي وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر، وشَذَّ" انفرد "البغوي من

ص: 167

البغوي من أصحابنا، فقال في كتابه "التهذيب": لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهية ذلك كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث: بأنَّ شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وفي كتاب "تحقيق النصرة" قال ابن عبد البر: ثم أخرجت -يعني: القطيفة- من القبر لما فرغوا من وضع اللبنات التسع. حكاه ابن زبالة.

ولما دفن صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة رضي الله عنها فقالت: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟ وأخذت من تراب القبر الشريف ووضعته على عينيها وانشأت تقول:

ماذا على من شمّ تربة أحمد

أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا

أصحابنا الشافعية، "فقال في كتابه التهذيب: لا بأس بذلك" أي: يجوز؛ "لهذا الحديث"، والصواب كراهة ذلك، كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرنا عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى" كلام النووي.

"وفي كتاب تحقيق النصرة" للزين المراغي، "قال ابن عبد البر: ثم أخرجت -يعني: القطيفة- من القبر، لما فرغوا من وضع اللبنات التسع، حكاه" محمد بن الحسن "بن زبالة" بفتح الزاي وخفة الموحدة- المخزومي، أبو الحسن المدني، كذَّبوه، ومات قبل المائتين، روى له أبو داود، وفي الألفية:

وفرشت في قبره قطيفة

وقيل أخرجت وهذا أثبت

"ولما دفن صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة رضي الله عنها فقالت: كيف طابت"، لفظ البخاري من حديث أنس، عقب قولها السابق: إلى جبريل، تتعلّق، فلمَّا دفن قالت فاطمة: أطابت نفوسكم أن تحثوا" بفتح الفوقية وإسكان المهملة وضم المثلثة "على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب".

قال الحافظ: هذا من رواية أنس عن فاطمة، وأشارت بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك؛ لأنه يدل على خلاف ما عرفته منهم من رِقَّة قلوبهم عليه؛ لشدة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابها رعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك إلّا أنا قهرنا على فعله امتثالًا لأمره، "وأخذت من تراب القبر الشريف ووضعته على عينيها" هذا زائد على ما في البخاري، "وأنشأت تقول:"

ماذا على من شمَّ تربة أحمد

أن لا يشم مدى الزمان غواليا

ص: 168

صُبَّتْ عليَّ مصائب لو أنها

صُبَّت على الأيام عدن لياليا

قال رزين: ورشَّ قبره صلى الله عليه وسلم، رشَّه بلال بن رباح بقربة، بدأ من قِبَل رأسه، حكاه ابن عساكر، وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء وبيضاء. ورفع قبره عن الأرض قدر شبر.

وفي حديث عائشة عند البخاري قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ، لولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أو خشي أن يتخذ قبره مسجدًا.

كذا في رواية أبي عوانة عن هلال "خَشي أو خُشي" على الشك. فرواية

صبَّت عليَّ مصائب لو أنها

صبَّت على الأيام عدن لياليا

الغوالي بمعجمة: جمع غالية، أخلاط من الطيب، وروي أنها قالت:

أغبر آفاق السماء وكورت

شمس النهار وأظلم العصران

والأرض من بعد النبي كئيبة

أسفًا عليه كثيرة الرجفان

فليبكه شرق البلاد وغربها

وليبكه مضر وكل يماني

"قال رزين" بن معاوية السرقسطي: "ورشَّ قبره صلى الله عليه وسلم، رشَّه بلال بن رباح بقربة، بدأ قِبَل رأسه، حكاه ابن عساكر. وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء وبيضاء" حال من حصباء، يعني: إنه أخذ من الحصباء الموصوفة بما ذكر شيء ووضع على قبره "ورفع قبره عن الأرض قدر شبر، فهو مسنم.

"وفي حديث عائشة عند البخاري" في موضعين من الجنائز، وفي المغازي، ومسلم في الصلاة "قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" في مرضه الذي لم يقم منه"، وفي رواية: الذي توفي فيه: "لعن الله اليهود والنصارى" يعني: أبعدهم عن رحمته، "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" بالجمع للكشميهني.

ورواه غيره مسجدًا بالإفراد على إرادة الجنس، وهو في اليهود واضح، أمَّا النصارى، فإنما لهم نبي واحد ولا قبر له، مع أنهم لا يقولون أنه نبي، بل ابن أو إله، أو غير ذلك، على اختلاف مللهم الباطلة، وأجيب بعود الضمير على اليهود فقط، بدليل رواية الاقتصار عليهم، وبأنَّ المراد من أمروا بالإيمان بهم من الأنبياء السابقين، كنوح وإبراهيم، "لولا ذلك لأبرز قبره، غير أن خَشي" صلى الله عليه وسلم "أو خُشي" بالبناء للمفعول، والفاعل الصحابة أو عائشة، "أن يتَّخذ" بضم أوله وفتح ثالثه- قبره مسجدًا، كذا في رواية أبي عوانة" بفتح العين- اسمه: الوضاح بن عبد الله، "عن هلال" بن

ص: 169

"الضم" مبهمة، يمكن أن تفسَّر بأنها هي التي منعت من إبرزاه، والهاء ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك. وهذا يقتضي أنهم فعلوه باجتهاد، بخلاف رواية الفتح، فإنها تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك.

وقوله: "لأبرز قبره" لكشف قبره ولم يتخذ عليه الحائل. أو المراد: لدفن خارج بيته صلى الله عليه وسلم، وهذا قالته عائشة رضي الله عنها قبل أن يوسّع المسجد، ولهذا لما وسّع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة، حتى لا يتأتَّى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر الكريم مع استقباله القبلة.

وفي البخاري أيضًا من حديث أبي بكر بن عياش عن سفيان التمار: إنه حدثه أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنمًا، أي: مرتفعًا. زاد أبو نعيم في "المستخرج": وقبر أبي بكر وعمر كذلك.

واستدلَّ به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك

حميد الجهني، عن عروة عن عائشة عند البخاري في الموضع الثاني، "خَشي أو خُشي على الشك"، وعنده في الموضع الأول، عن شيبان، عن هلال: غير أني أخشى أن يتَّخذ مسجدًا بالجزم "فرواية الضم" للخاء "مبهمة، يمكن أن تفسر بأنها" أي: عائشة "هي التي منعت من إبرازه"، بدليل رواية غير أني أخشى، "والهاء" في قولها: غير أنه "ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك، وهذا يقتضي أنهم فعلوا ذلك باجتهاد" منهم، "بخلاف رواية الفتح" للخاء، "فإنها تقضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك".

"وقوله: لأبرز قبره، أي: لكشف قبره، ولم يتخذ عليه الحائل، أو المراد: لدُفِنَ خارج بيته صلى الله عليه وسلم، وهذا قالته عائشة قبل أن يوسّع المسجد" النبوي، "ولهذا لما وسّع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتَّى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر الكريم مع استقباله القبلة".

"وفي البخاري أيضًا" في الجنائز "من حديث أبي بكر بن عياش" بتحتية وشين معجمة- ابن سالم الأسدي، الكوفي، مشهور بكينته، والأصح أنها اسمه، "عن سفيان التمار" بالفوقية- قال الحافظ: هو ابن دينار على الصحيح، وقيل: ابن زياد، والصواب أنه غيره، وكلّ منهما كوفي، وهو من كبار أتباع التابعين، وقد لحق عصر بعض الصحابة، ولم أر له رواية عن صحابي، "أنه حدَّثه أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنمًا" بضم الميم وشد النون المفتوحة "أي: مرتفعًا".

"زاد أبو نعيم في المستخرج: وقبر أبي بكر وعمر كذلك" مسنمًا كلّ منهما "واستدلَّ به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير

ص: 170

وأحمد والمزني وكثير من الشافعية، وادَّعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه. وتعقّب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نَصَّ عليه الشافعي، وبه جزم الماوري وآخرون.

وقول سفيان التمَّار لا حجة فيه، كما قال البيهقي؛ لاحتمال أن قبره صلى الله عليه وسلم في الأوّل لم يكن مسنمًا. فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه، اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. زاد الحاكم: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمًا، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كان في خلافة معاوية. فكأنَّها كانت في الأول مسطَّحة، ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قِبَل الوليد بن عبد الملك صيّروها مرتفعة.

من الشافعية، وادَّعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه، وتعقب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نصَّ عليه الشافعي، وبه جزم الماوردي وآخرون"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سطَّح قبر ابنه إبراهيم، وفِعْله حجة لا فعل غيره، وأجيب بأن الله تعالى لا يختار لنبيه إلا الأفضل، وفعله هو لبيان الجواز، "وقول سفيان التمار لا حجة فيه كما قال البيهقي؛ لاحتمال أن قبره صلى الله عليه وسلم في الأوَّل لم يكن مسنمًا" في الأزمنة الماضية قبل رؤية التمار، "فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر" الصديق "قال: دخلت على عائشة" عمته "فقلت: يا أمه، اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم" وصاحبيه، "فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة" أي: لا هي مرتفعة كثيرًا "ولا لاطئة" أي: لاصقة بالأرض "مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء" يقال: لطِئ -بكسر الطاء، ولطأ -بفتحها، أي: لصق، وغاية ما يفيده هذا أنها لم تكن غاية في الارتفاع وهو المطلوب، فكيف يتأتَّى احتمال أنه لم يكن مسنمًا.

"زاد الحاكم: فرأيت رسول الله" أي: قبره "صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم"، قال أبو اليمين بن عساكر وهذه صفته:

النبي صلى الله عليه وسلم، عمر -رضي الله تعالى عنه

أبو بكر -رضي الله تعالى عنه.

"وهذا" أي: رؤية القاسم لها "كان في خلافة معاوية، فكأنها كانت في الأول مسطحة" من أين هذا الترجي، "ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قِبَل" بكسر ففتح "الوليد بن عبد الملك، صيِّروها مرتفعة".

ص: 171

وقد روى أبو بكر الآجري في كتاب "صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم"، من طريق إسحاق بن عيسى بن بنت داود بن أبي هند، عن عثيم بن نسطاس المدني قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعًا نحوًا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه.

ثم الاختلاف في ذلك في أيهما أفضل، لا في أصل الجواز، ورجَّح المزني التسنيم من حيث المعني، بأن المسطح يشبه ما يصنع للمجوس، بخلاف المسنّم.

ويرجّح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بستويتها.

وقد روى أبو بكر الآجري" بضم الجيم وتشديد الراء المهملة- نسبة إلى عمل الآجر وبيعه، وإلى درب الآجر كما في اللب الحافظ الإمام، المحدث القدوة، محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي، كان عالمًا عاملًا دينًا صاحب سنة، توفي في محرم سنة ست وثلاثمائة، في كتاب صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من طريق "إسحاق بن عيسى" القشيري البصري، صدوق يخطى، وهو "ابن بنت داود بن أبي هند" البصري "عن عثيم" بمهملة فمثلثة مصغر، "ابن نسطاس" بكسر النون المهملة "المدني"، وهوأخو عبيد مولى آل كثير بن الصلت، تابعي مقبول كما في التقريب، ونسخة بسطام تحريف "قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز" على المدينة من جهة ابن عمه الوليد، "فرأيته مرتفعًا نحوًا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر" وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه"، ورواه أبو نعيم بزيادة وصورة لنا.

المصطفى

أبو بكر

عمر

"ثم الاختلاف في ذلك في أيهما أفضل لا في أصل الجواز"، فإن كلًّا جائز، "ورجَّح لمزني التسنيم من حيث المعنى، بأنَّ المسطح يشبه ما يصنع للمجوس"، وفي نسخة: للجولس، والذي في الفتح للمجوس، "بخلاف المسنم"، ورجَّحه ابن قدامة، بأنه يشبه أبنية أهل الدنيا، وهو من شعار أهل البدع، فكان التنسيم أولى، هكذا في الفتح قبل قوله:"ويرجّح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة" بفتح الفاء "ابن عبيد" بضم العين "أنه أمر بقبر فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها"، وقد ردَّ على من قال: إنه صار شعار الروافض، بأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع عليها.

ص: 172

وعن هشام بن عروة عن أبيه: لما سقط عليهم الحائط، يعني: حائط حجرة النبي صلى الله عليه وسلم في زمان الوليد بن عبد الملك، أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدم، ففزعوا وظنّوا أنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما وجدوا أحدًا يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: والله ما هي قدم النبي صلى الله عليه وسلم، والله ما هي إلا قدم عمر، رواه البخاري أيضًا.

والسبب في ذلك ما رواه الآجري من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر الشريف، فأمر به عمر بن عبد العزيز فرُفِعَ حتى لا يصلي إليه أحد، فلمَّا هدم بدت قدم ساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال: هذه ساق عمر وركبته، فسري عن عمر بن عبد العزيز.

وروى الآجري: قال رجاء بن حيوة: فكان قبر أبي بكر عند وسط النبي صلى الله عليه وسلم،

وعن هشام بن عروة عن أبيه، قال: لما سقط عليهم الحائط، يعني: حائط حجرة النبي صلى الله عليه وسلم في زمان الوليد بن عبد الملك" بن مروان، "أخذوا في بنائه، فبدت" ظهرت "لهم قدم، ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما وجدوا أحدًا يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة". فيه التفات، والأصل: حتى قلت لهم: "والله ما هي قدم النبي صلى الله عليه وسلم، ما هي إلّا قدم عمر".

"رواه البخاري أيضًا" من طريق علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، "والسبب في ذلك ما رواه الآجري من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر الشريف، فأمر به عمر بن عبد العزيز فرُفِعَ حتى لا يصلي إليه أحد، فلمَّا هدم بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال: هذه ساق عمر وركبت، فسري عن عمر بن عبد العزيز" أي: أزيل عنه الفزع.

"وروى الآجري" أيضًا عن رجاء بن حيوة، قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز، وكان اشترى حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أن اهدامها ووسع بها المسجد، فقعد ناحية ثم أمر بهدمها، فما رأيت باكيًا أكثر من يومئذ، ثم بناه كما أراد، فلمَّا أن بني البيت على القبر، وقدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة، وكان الرمل الذي كان عليها قد انهار، ففزع عمر بن عبد العزيز، وأراد أن يقوم فيسويها بنفسه، فقلت له: أصلحك الله، إن قمت قام الناس معك، فلو أمرت رجلًا أن يصلحها، ورجوت أن يأمرني بذلك، فقال: يا مزاحم -يعني: مولاه، قم فأصلحها.

"قال رجاء بن حيوة" بفتح المهملة وسكون التحتية وفتح الواو- الكندي، التابعي الثقة الفقيه، مات سنة ثنتي عشرة ومائة، روى له مسلم والأربعة: "فكان قبر أبي بكر عند وسط

ص: 173

وعمر خلف أبي بكر، رأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع، وإلا فحديث القاسم أصح.

وأمَّا ما أخرجه أبو يعلى من وجهٍ آخر عن عائشة: أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، فسنده ضعيف. انتهى مخلصًا من فتح الباري.

وقد اختلف أهل السير وغيرهم في صفة القبور المقدسة على سبع روايات، أوردها ابن عساكر في "تحفة الزائر"، ونقل أهل السير عن سعيد بن المسيب قال: بقي في البيت موضع قبر في السهوة الشرقية يدفن فيه عيسى بن مريم عليهما السلام، ويكون قبره الرابع.

النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر خلف أبي بكر، رأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم المتقدم أنَّ أبا بكر رأسه عند كتفي المصطفى، ورأس عمر عند رجليه، "فإن أمكن الجمع بالتجوّز في الوسط بأن يراد به ما بين الكتفين، والتجوّز أيضًا على بعد في قوله: وعمر...... إلخ.

"وإلّا" يمكن لبعده جدًّا "فحديث القاسم أصحّ، فيقدَّم عليه "وأمَّا ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة: أبو بكر عن يمينه صلى الله عليه وسلم، وعمر عن يساره، فسنده ضعيف، انتهى ملخصًا من فتح الباري".

"وقد اختلف أهل السير وغيرهم في صفة القبور المقدّسة على سبع روايات، أوردها أبو اليمن "بن عساكر في" كتابه "تحفة الزائر" خمسة منها ضعيفة، والصحيح منها روايتان.

إحداهما ما تقدَّم عن القاسم، والأخرى: وبها جزم رزين وغيره، وعليها الأكثر، كما قال المصنف في الفصل الثاني، وقال النووي: إنها المشهورة، والسمهودي: إنها أشهر الروايات، أنَّ قبره صلى الله عليه وسلم إلى القبلة مقدمًا بجدارها، ثم قبر أبي بكر حذاء منكبي النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر، وهذا صفتها

المصطفى

الصديق

الفاروق

ومرت واحدة من الضعيفة ولا حاجة الذكر باقيها، "ونقل أهل السير عن سعيد بن المسيب" أنه "قال: بقي في البيت موضع قبر في السهوة" بفتح المهملة وإسكان الهاء- قال في النهاية: بيت صغير منحدر في الأرض قليلًا شبيه بالمخدع والحزانة، وقيل: هو كالصفة يكون بين البيت، وقيل: شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيهما الشيء، "الشرقية، يدفن فيه عيسى بن مريم عليهما السلام، ويكون قبره الرابع، وفي المنتظم" اسم كتاب "لابن الجوزي

ص: 174

وفي "المنتظم" لابن الجوزي، عن ابن عمر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل عيسى ابن مريم إلى الأرض، فيتزوج ويولد له، ويمكث خمسًا وأربعين سنة، ثم يموت فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر" كذا ذكره في "في تحقيق النصرة" والله أعلم.

فإن قلت: تقدَّم أنه عليه الصلاة والسلام توفي يوم الإثنين، ودفن يوم الأربعاء، فلِمَ أُخِّرَ دفنه؟ وقد قال لأهل بيت أخَّروا دفن ميتهم:"عجلوا دفن ميتكم ولا تؤخروه".

فالجواب: لما ذكر من عدم اتفاقهم على موته، أو لأنهم كانوا لا يعلمون حيث يدفن، قال قوم: بالبقيع، وقال آخرون: بالمسجد، وقال قوم: يحمل إلى أبيه إبراهيم حتى يدفن عنده، حتى قال العالم الأكبر صديق الأمة: سمعته يقول: "ما دفن نبي إلا حيث يموت". ذكره ابن ماجه والموطأ كما تقدَّم. وفي رواية الترمذي:

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض" آخر الزمان، "فيتزوج ويولد له، ويمكث خمسًا وأربعين سنة".

وعند أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رفعه: أنه "يمكث في الأرض أربعين سنة" وهذا أصح، وما في مسلم أنه يلبث سبع سنين فمئول بقوله فيه:"ليس بين اثنين عداوة" ، "ثم يموت، فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى بن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر"، كذا ذكره في تحقيق النصرة" في تاريخ دار الهجرة، "والله أعلم" بصحته، والمنكر منه قوله: خمسًا وأربعين.

"فإن قلت: تقدَّم أنه عليه الصلاة والسلام توفي في يوم الإثنين ودُفِنَ يوم الأربعاء، فلِمَ أُخِّرَ دفنه، وق قال لأهل بيت آخروا دفن ميتهم: "عجلوا دفن ميتكم ولا تؤخروه"

وفي الصحيح: "أسرعوا بجنائزكم، فإنما هو خير تقدموه إليه....." الحديث، "فالجواب" أخروه "لما ذكر من عدم اتفاقهم على موته" فأخروه حتى تيقنوه، "أو لأنهم كانوا لا يعلمون حيث يدفن، قال قوم: بالبقيع"؛ لأنه دفن فيه من مات بالمدينة في حياته من أصحابه.

"وقال آخرون: بالمسجد"؛ لأنه أفضل المساجد أو من أفضلها، "وقال قوم: يحمل إلى أبيه إبراهيم حتى يدفن عنده، حتى قال العالم الأكبر صديق الأمة: سمعته يقول: "ما دفن نبي إلا حيث يموت"، أي: في المكان الذي تقبض روحه فيه، "ذكره" أي: رواه "ابن ماجه والموطأ" أي: صاحبه، "كما تقدم" بلا عزو.

وفي رواية الترمذي: "ما قبض الله نبيًّا إلّا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه،

ص: 175

"ما قبض الله نبيًّا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه"، ادفنوه في موضع فراشه.

أو لأنهم اشتغلوا في الخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة، فنظروا فيها حتى استقرَّ الأمر في الخلافة ونظامها، فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه بالغد بيعة أخرى على ملتهم، وكشف الله به الكربة من أهل الردة، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظروا في دفنه، فغسلوه وكفنوه ودفنوه.

ولما قُبِضَ صلى الله عليه وسلم تزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة، لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك.

إذا كان عرش الرحمن قد اهتزَّ لموت بعض أتباعه فرحًا واستبشارًا لقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح.

ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحًا بقدومه. كما رواه أبو داود من حديث أنس، وفي رواية الدارمي قال أنس: ما رأيت يومًا كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا

ادفنوه في موضع فراشه" فحفروا له تحته، "أو لأنهم اشتغلوا في الخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة"، فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الأئمة من قريش" ، "فنظروا فيها حتى استقرَّ الأمر في الخلافة ونظمها"، وأجمعوا "فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه بالغد بيعة أخرى على ملتهم" جماعتهم، وقوله: "وكشف الله به الكربة من أهل الردة" لا محلَّ له هنا؛ لأن قتاله لهم إنما وقع بعد ذلك بمدة، فكيف يصح قوله، "ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظروا في دفنه، فغسلوه وكفنوه ودفنوه، ولما قُبِضَ صلى الله عليه وسلم تزينت الجنان ليوم قدوم روحه المقدسة" زينة، "لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك" السلطان، "إذا كان عرش الرحمن قد اهتز" تحرك "لموت بعض أتباعه" سعد بن معاذ "فرحًا واستبشارًا لقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح، ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم" بكسر الحاء- جمع حربة، "فرحًا بقدومه، كما رواه أبو داود من حديث أنس" بن مالك.

"وفي رواية الدارمي: قال أنس: ما رأيت يومًا كان أحسن ولا أضوأ" أشد ضياء وهو فرط النور، "من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وما رأيت يومًا كان أقبح" أشنع

ص: 176

أظلم من يوم مات فيه الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية الترمذي: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء منها كل شيء، فلمَّا كان اليوم الذي مات فيه، أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه، حتى أنكرنا قلوبنا.

ومن آياته عليه الصلاة والسلام ما ذكر من بعد موته، من حزن حماره عليه حتى تردَّى في بئر، وكذا ناقته فإنها لم تأكل ولم تشرب حتى ماتت.

ومن ذلك: ظهور ما أخبر أنه كان بعد موته، مما لا نهاية له ولا عد يحصيه، مما ذكرت بعضه في المقصد الثامن.

وفي حديث أبي موسى عند مسلم: إنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا أراد بأمِّة خيرًا قبض نبيها قبلها، فجعله فرطًا وسلفًا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمَّة عذَّبها ونبيها

"ولا أظلم:" أشد ظلمة "من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

"وفي رواية الترمذي" في المناقب، وقال: صحيح غريب، عن أنس:"لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء منها كل شيء" بحلوله فيها، وفي البخاري عن البراء: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، "فلمَّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا".

قال الحافظ: يريد أنهم وجدوها تغيرت عمَّا عهدوه في حياته من الإلفة والصفاء والرقة لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأييد، "ومن آياته عليه الصلاة والسلام بعد موته ما ذكر من حزن حماره" يعفور عليه، "حتى تردَّى:" ألقى نفسه "في بئر" لأبي الهيثم بن التيهان يوم مات صلى الله عليه وسلم، فكانت البئر قبرًا للحمار، وقع ذلك في حديث طويل ذكره ابن حبان في الضعفاء، وقال: لا أصل له، وساقه المصنف في المعجزات، "وكذا ناقته، فإنها لم تأكل ولم تشرب حتى ماتت، ومن ذلك ظهور ما أخبر أنه كائن بعد موته مما لا نهاية له ولا عد يحصيه، مما ذكرت بعضه في المقصد الثامن".

وفي حديث أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري "عند مسلم" في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كما قال القرطبي وغيره: أحد الأحاديث الأربعة عشر الواقعة في مسلم، منقطة؛ لأنه قال في أوله: حدَّثنا عن أبي أسامة، وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعد الجوهري، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثني بريد بن عبد الله عن أبي بردة، عن أبي موسى "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا أراد بأمة خيرًا" لفظ مسلم: "إن الله إذا أراد رحمة أمة من عباده" "قبض نبيها قبلها،

ص: 177