الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقرَّ عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره".
وإنما كان قبض النبي قبل أمته خيرًا؛ لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم، وإذا أراد الله بهم خيرًا جعل خيرهم مستمرًّا ببقائهم، محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات، نسلًا بعد نسل، وعقبًا بعد عقب.
فجعله لها فرطًا" بفتحتين- بمعنى: الفارط المتقدّم على الماء يهيء السقي، قال الطيبي: يريد أنه شفيع يتقدم، قال بعض المحققين: والظاهر منه المرجوّ أن له صلى الله عليه وسلم شفاعة ونفعًا غير مأمنة يوم القيامة، فإنها لا تتفاوت بالموت قبل أو بعد، ولأن الفرط يهيء قبل الورود، ويؤيده ما نقل من حضوره عند الموت والميت، "وسلفا بين يديها" قيل: عطف مرادف أو أعمّ، وفائدة التقديم الأنس وقلة كربة الغربة ونحو ذلك، "وإذا أراد هلكة" بفتح الهاء واللام- هلاك "أمة عذَّبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره" كما وقع لأمه نوح وهود وصالح ولوطا، "وإنما كان قبض النبي قبل أمته خيرًا؛ لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم، وإذا أراد بهم خيرًا جعل خيرهم مستمرًّا ببقائهم، محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات، نسلًا بعد نسل وعقبًا بعد عقب" تعقبه بعضهم بأنه لا خفاء أن قوله: فجعله..... إلخ، إشارة إلى علة فقوله: إنهم إذا ماتوا انقطع عملهم، والخير في بقائهم نسلًا بعد نسل مستغنى عنه، مع أن فيه ما فيه. انتهى، أي: من تعليله بخلاف ما علل به الحديث.
الفصل الثاني: في زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف
اعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات، وأرجى الطاعات، والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام.
الفصل الثاني: في بيان حكم زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف
المرتفع الزائد في الشرف على غيره، "اعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات وأرجى الطاعات" عبَّر به تفننًا، "والسبيل" الطريق إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام" بكسر الراء وإسكان الموحدة وفتح القاف- أي: عقدة، قال في النهاية: الربقة في الأصل عروة من حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام، يعني: ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام، أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه، "وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام".
وقد أطلق بعض المالكية، وهو أبو عمران الفاسي، كما ذكره في المدخل عن تهذيب الطالب لعبد الحق، أنها واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة.
وقال القاضي عياض: إنها سنة من سنن المسلمين مجمَع عليها، وفضيلة مرغَّب فيها.
وروى الدارقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري وجبت له شفاعتي"، ورواه عبد الحق في أحكامه الوسطى، وفي الصغرى، وسكت عنه، وسكوته عن الحديث فيهما دليل على صحته.
"وقد أطلق بعض المالكية وهو أبو عمران" موسى بن عيسى الفقيه "الفاسي" بالفاء إلى فاس بالمغرب "كما ذكره في المدخل عن تهذيب الطالب لعبد الحق أنها" أي: الزيارة "واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة"، طلبها بحيث أشبهت الواجب، وقد صرَّح الجمال الأفقهسي في شرح الرسالة بأنها سنة مؤكدة.
"وقال القاضي عياض" في الشفاء: "إنها سنة من سنن المسلمين مجمع عليها" أي: على كونها سنة مأثورة "وفضيلة مرغَّب فيها" بصيغة المفعول مشدَّد، أي: رغَّب السلف فيها وحثّوا عليها.
"وروى الدارقطني" وأبو الشيخ وابن أبي الدنيا، كلهم "من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من زار قبري وجبت" أي: تحقَّقت وثبتت، فلا بُدَّ منها بالوعد الصادق، وليس بالمراد الوجوب الشرعي.
وروي: حلت "له شفاعتي" أي: أخصه بشفاعة ليست لغيره لا عمومًا ولا خصوصًا تناسب عظيم عمله، إمَّا بزيادة نعيم أو تخفيف هول ذلك اليوم عنه، أو دخول الجنة بلا حساب، أو رفع درجاته بها، أو بزيادة شهود الحق والنظر إليه، أو بغير ذلك، أو المراد أنَّ الزائر يفرد بشفاعة عمَّا يحصل لغيره، ويكون إفراده تشريفًا وتنويهًا بسبب الزيارة، أو المراد ببركة الزيارة يجب دخول الزائر في عموم من تناله الشفاعة، وفائدته البشرى بموته على الإسلام، وإضافة الشفاعة له لإفادة أنها عظيمة؛ إذ هي تعظم بعظم الشافع ولا أعظم منه عليه الصلاة والسلام، ولا أعظم من شفاعته كما قاله السبكي وغيره.
"ورواه عبد الحق في أحكامه الوسطى، وفي الصغرى، وسكت عنه" أي: التكلّم في سنده بالقدح "وسكوته عن الديث فيهما" أي: الوسطى والصغرى "دليل على صحته"، أراد
وفي المعجم الكبير للطبراني: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جاءني زائرًا لا تعمله حاجة إلا زيارتي، كان حقًّا علي أن أكون شفيعًا له يوم القيامة". وصحَّحه ابن السكن.
وروي -عنه صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة ولم يفد إلي فقد جفاني". ذكره ابن فرحون في مناسكه، والغزالي في الإحياء، ولم يخرجه العراقي، بل أشار إلى ما أخرجه ابن النجار في تاريخ المدينة مما هو في معناه عن أنس بلفظ:"ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني إلّا وليس له عذر".
بها ما قابل الضعف، فيشمل الحسن لغيره؛ كهذا الحديث المنجبر بتعدد طرقه، وإلّا فقد ضعَّفه البيهقي، وقال الذهبي: طرقه كلها لينة، لكن يتقوَّى بعضها ببعض؛ لأن ما في رواتها منهم بكذب، قال: ومن أجودها إسنادًا حديث حاطب: "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي"، وقال الحافظ: حديث غريب أخرجه ابن خزيمة في صحيحه.
وقال في القلب من سنده: وأنا أبرأ إلى الله من عهدته، فغفل من زعم أن ابن خزيمة صححه.
وبالجملة: قول ابن تيمية موضع ليس بصواب، وقد عارضه السبكي بقوله: بل حسن أو صحيح، انتهى.
ولعل ذلك لتعدد طرقه وكثرة شواهده التي منها قوله" وفي المعجم الكبير للطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جاءني زائرًا لا تعمله" بضم التاء، أي: لا تحمله على العمل حاجة "إلا زيارتي" بأن لا يقصد ما لا تعلق له بالزيارة أصلًا، أمَّا ما له تعلق بها؛ كقصد اعتكاف بالمسجد النبوي وشد الرحل إليه وكثرة العبادة فيه وزيارة الصحابة ومسجد قباء، وغير ذلك مما يندب للزائر فعله، فلا يمنع قصده حصوله الشفاعة، كما نبَّه عليه في الجوهر المنظم، "كان حقًّا" أي: ثابتًا لازمًا "علي أن أكون له شفيعًا يوم القيامة، وصحَّحه ابن السَّكَن" وهو من كبار الحافظ النقاد.
"وروي عنه صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة" بفتح السين أفصح من كسرها، "ولم يفد" بفتح الياء وكسر الفاء- يأت، "إليَّ، فقد جفاني" أي: أعرض عني، "ذكره ابن فرحون" بفتح الفاء؛ لأنه على وزن فعلون كحمدون وشمعون وهو مفتوح، كما قال ابن الصلاح وغيره "في مناسكه والغزالي في الإحياء، ولم يخرجه العراقي" زين الدين بلفظه، "بل أشار إلى ما أخرجه ابن النجار في تاريخ المدينة مما هو في معناه عن أنس" مرفوعًا "بلفظ:"ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني إلّا" بكسر الهمزة، وشد اللام "وليس له عذر" يعتذر به في عدم زيارتي، بمعنى: أنه يلام
ولابن عدي في "الكامل"، وابن حبان في "الضعفاء"، والدارقطني في "العلل"، و "غرائب مالك"، وآخرين كلهم عن ابن عمر مرفوعًا:"من حج ولم يزرني فقد جفاني" ولا يصح.
وعلى تقدير ثبوته، فليتأمّل قوله:"فقد جفاني" ، فإنه ظاهر في حرمة ترك الزيارة؛ لأن الجفاء أذى، والأذى حرام بالإجماع، فتجب الزيارة؛ إذ إزالة الجفاء واجبة، وهي بالزيارة، فالزيارة واجبة حينئذ، وبالجملة فمن تمكَّن من زيارته ولم يزره فقد جفاه، وليس من حقه علينا ذلك.
وعن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من زارني بعد موتي فكأنما زراني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين" رواه البيهقي عن رجل من آل
على تركها؛ لأنه فوت نفسه ثوابها العظيم بلا عذر.
"ولابن عدي في الكامل، وابن حبان في الضعفاء، والدارقطني في" كتاب العلل، وكتاب "غرائب" الرواة عن "مالك وآخرين، كلهم عن ابن عمر، مرفوعًا: "من حج ولم يزرني فقد جفاني" ولا يصح إسناده، وعلى تقدير ثبوته، فليتأمّل قوله: "فقد جفاني"، فإنه ظاهر في حرمة ترك الزيارة؛ لأن الجفاء بالمد ويقصر نقيض الصلة أذى، والأذى حرام بالإجماع، فتجب الزيارة؛ إذ إزالة الجفا واجبة، وهي" أي: إزالة الجفا بالزيارة، فالزيارة حينئذ واجبة، ولا قائل به إلا الظاهرية، قال شيخنا: وقد يجاب بأنه ليس كل أذى حرامًا؛ لأن الأذى الخفيف يحتمل في دفع الحرمة. نعم هو مكروه. انتهى.
والأَوْلَى أن المراد فعل مثل فعل الجافي لا أنه جفا، أي: أذى حقيقي؛ إذ لا يجوز أذاه صلى الله عليه وسلم، ولا بالمباح فضلًا عن المكروه "وبالجملة: فمن تمكَّن من زيارته، ولم يزره فقد جفاه" أي: فعل فعل من جفاه كما علم، "وليس من حقه علينا ذلك" الجفا، إنما من حقه زيادة الصلة والحب.
وعن حاطب بن أبي بلتعة البدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من زارني بع موتي فكأنما زارني في حياتي"؛ لأنه حي في قبره، يعلم بمن يزوره ويرد سلامه كما مَرَّ، "ومن مات بأحد الحرمين" المكي أو المدني "بعث من الآمنين" ، فلا يصد الزائر خوف موته قبل رجوعه إلى بلده؛ لأنه إن مات بعث آمنًا، ففيه بشرى لمن مات في أحدهما بالموت على الإسلام؛ إذ لا يبعث من مات على غير الإسلام آمنًا.
"رواه البيهقي عن رجل من آل حاطب: لم يسمه عن حاطب" صلة رواه "وعن عمر
حاطب لم يسمه عن حاطب.
وعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من زار قبري" أو قال: "من زارني كنت له شفيعًا وشهيدًا" رواه البيهقي وغيره عن رجل من آل عمر لم يسمه عن عمر.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زارني محتسبًا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة" رواه البيهقي أيضًا.
قال العلامة زين الدين بن الحسين المراغي: وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته صلى الله عليه وسلم قربة، للأحاديث الواردة ذلك، ولقوله تعالى:{لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] لأن تعظيمه صلى الله عليه وسلم لا ينقطع بموته، ولا يقال: إن استغفار الرسول لهم إنما هو في حال
رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من زار قبري" أو" قال شك الراوي: "من زارني كنت له شفيعًا" لبعض الزائرين، "وشهيدًا" لآخرين، أو شفيعًا للعاصين، شهيدًا للطائعين، وهذه خصوصية زائدة على شفاعته العامَّة، وعلى شهادته على جميع الأمم.
"رواه البيهقي وغيره عن رجل من آل عمر لم يسمه عن عمر" بن الخطاب، "وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زارني" في حياتي أو بعد مماتي حال كونه، "محتسبًا" أي: ناويًا بزيارته وجه الله تعالى طالبًا ثوابه، سمي محتسبًا لاعتداده بعمله، فجعل حال مباشرته الفعل كأنه معتد به "إلى المدينة" صلة زارني، أي: منتهيًا في مجيئه من محله إلى المدينة، ولفظ الشفاء بلا عزو والجامع عازيًا للبيهقي: "من زارني بالمدينة محتسبًا كان في جواري" بكسر الجيم أفصح من ضمها، أي: أماني وعهدي، فلا يناله مكروه أصلًا، أو المراد له: منزلة رفيعة في الآخرة، وبقية الحديث: "وكنت له شهيدًا وشفيعًا يوم القيامة".
"رواه البيهقي" أيضًا تامًّا، "قال العلامة زين الدين" أبو بكر بن الحسين" بن عمر القرشي، العثماني، المصري "المراغي" بغين معجمة- نسبة إلى بلد بصعيد مصر، ثم المدني قاضي طيبة وخطيبها الشافعي، من أفاضل جماعة الإسنوي، وله تحقيق النصرة في تاريخ دار الهجرة، "وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته صلى الله عليه وسلم قربة" عظيمة، "للأحاديث الواردة في ذلك"؛ إذ لا تقصر عن درجة الحسن وإن كان في إفرادها مقال "ولقوله تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] فيه التفات عن الخطاب تفخيمًا لشأنه، "الآية"{لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} "لأن تعظيمه صلى الله عليه وسلم لا ينقطع بموته، ولا يقال: إن استغفار الرسول لهم إنما هو في حياته، وليست الزيارة كذلك، لما أجاب به بعض الأئمة المحققين".
حياته، وليست الزيارة كذلك، لما أجاب به بعض أئمة المحققين: إنَّ الآية دلَّت على تعليق وجدان الله توابًا رحيمًا بثلاثة أمور: المجيء، واستغفارهم، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد استغفر للجميع، قال الله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكمّلت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته.
وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووي، وأوجبها الظاهرية، فزيارته صلى الله عليه وسلم مطلوبة بالعموم والخصوص لما سبق؛ ولأن زيارة القبور تعظيم، وتعظيمه صلى الله عليه وسلم واجب. ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق في زيارته صلى الله عليه وسلم بين الرجال والنساء، وإن كان محل الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال، وفي النساء خلاف، والأشهر في مذهب الشافعي الكراهة.
قال ابن حبيب من المالكية: ولا تدع زيارة قبره صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده،
تعليل لنفي القول لا للقول المنفي، "أن الآية على تعليق وجدان الله تعالى" بإضافة المصدر للمفعول "توابًا" عليهم "رحيمًا" بهم "بثلاثة أمور: المجيء واستغفارهم واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد استغفر للجميع، قال الله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] ومعلوم بالضروة أنه يمتثل أمر الله، فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكمّلت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى" عليهم "ورحمته" لهم.
"وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووي، وأوجبها الظاهرية، فزيارته صلى الله عليه وسلم مطلوبة بالعموم" لاستحباب زيارة القبور، "والخصوص لما سبق" من الأحاديث الناصَّة عليها بخصوصها، والاستنباط من الآية المذكورة، "ولأن زيارة القبور تعظيم، وتعظيمه صلى الله عليه وسلم واجب"، وقد كانت زيارته مشهورة في زمن كبار الصحابة، معروفة بينهم، لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم، ففرح به، وقال: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره صلى الله عليه وسلم، وتتمتع بزيارته، قال: نعم.
"ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق في زيارته صلى الله عليه وسلم بين الرجال والنساء، وإن كان محل الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال، وفي النساء خلاف، والأشهر" وفي نسخة: الأظهر "في مذهب الشافعي الكراهة" وهو المعتمد عندهم.
"قال ابن حبيب" عبد الملك "من المالكية" أتباع الإمام: واحترز بذلك عن
فإن فيه من الرغبة مالا غنى بك ولا بأحد عنه.
وينبغي لمن نوى الزيارة أن ينوي مع ذلك زيارة مسجده الشريف، والصلاة فيه؛ لأنه أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهو أفضلها عند مالك، وليس لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فضل؛ لأن الشرع لم يجئ به، وهذا الأمر لا يدخله قياس؛ لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص في هذه دون غيرها.
وقد صحَّ أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة. ومن نذر الزيارة وجبت عليه، كما جزم به ابن كج من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء وجهًا واحدًا، انتهى. ولو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة لزمه ذلك على الأصح عندنا، وبه قال المالكية والحنابلة، لكنه يخرج عنه بالصلاة في المسجد الحرام.
محمد بن حبيب، من المؤرخين المختلف في أنَّ حبيب اسم أبيه أو اسم أمه، "ولا تدع زيارة قبره صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده، فإن فيه من الرغبة ما لا غنى بك ولا بأحد عنه" بكسر الغين المعجمة والقصر بلا تنوين- على أن لا لنفي الجنس، أي: لا استغناء، ويجوز الفتح مع المد، أي: لا كفاية، وهما متقاربان، "وينبغي لمن نوى الزيارة أن ينوي مع ذلك زيارة مسجده الشريف والصلاة فيه؛ لأنه أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهو أفضلها عند مالك وليس لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فضل؛ لأنَّ الشرع لم يجئ به" أي: بفضل غير الثلاثة، "وهذا الأمر لا يدخله قياس؛ لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص في هذه دون غيرها" فلا يقاس عليها لعدم الجامع.
"وقد صح" عند البيهقي في الشعب "أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد" بضم أوله وكسر الراء من أبرد وبالفتح وضم الراء من برد، أي: يرسل "البريد"، الرسول المستعجل من الشام "للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم".
زاد في الشفاء: وعن يزيد بن أبي سعيد: قدمت على عمر بن عبد العزيز، فلمَّا ودعته قال لي: إليك حاجة، إذا أتيت المدينة ترى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرئه مني السلام، "فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة، ومن نذر الزيارة وجبت عليه، كما جزم به ابن كج" بفتح الكاف وشد الجيم "من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء وجهًا واحدًا. انتهى".
ولو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة لزمه ذلك على الأصح عندنا، وبه قال
وصحَّح النووي أيضًا أنه يخرج عنه بالصلاة في مسجد المدينة. قال: ونصَّ عليه الشافعي في البويطي. وبه قال الحنفية والحنابلة.
وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب، يتضمّن منع شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب، بل بضد ذلك.
ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في "شفاء السقام" فشفى صدور المؤمنين.
وحكى الشيخ ولي الدين العراقي أن والده كان معادلًا للشيخ زين الدين
المالكية والحنابلة، لكنه يخرج عنه" أي: النذر "بالصلاة في المسجد الحرام، وصحَّح النووي أيضًا أنه يخرج عنه بالصلاة في مسجد المدينة، قال: ونصَّ عليه الشافعي في" مختصر البويطي، وبه قال الحنفية والحنابلة، وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع" أي: قبيح، "عجيب، يتضمَّن منع شد الرحال للزيارة النبوية، وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، وردَّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في" كتابه "شفاء السقام" في زيارة خير الأنام، "فشفى صدور المؤمنين" بردّه عليه، لكن نازعه ابن عبد الهادي بأن ابن تيمية لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينه عنها ولم يكرهها، بل استحَبَّها وحضَّ عليها، ومصنفاته ومناسكه طافحة بذكر استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وسائر القبور، وإنما تكلّم على شد الرحال وإعمال المطي إلى مجرّد زيارة القبور، فذكر قولين للعلماء المتقدمين المتأخرين، أحدهما: إباحة ذلك، كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد، والثاني: أنه ينهى عنه كما نص عليه مالك، ولم ينقل عن أحد من الثلاثة خلافه، وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد، واحتج ابن تيمية للثاني بحديث الصحيحين:"لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى" ، فأي عتب على من حكى الخلاف في مسألة بين العلماء، واحتجَّ لأحد القولين بحديث صحيح، ولكن نعوذ بالله من الحسد والبغي واتباع الهوى.
وفي شرح مسلم للنووي عن الجويني: النهي عن شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذاهب إلى قبور الأنبياء والصالحين والمواضع الفاضلة ونحو ذلك. انتهى ملخصًا.
وما نقله عن مالك: لا يعرف عنه ولا حجة له في الحديث؛ لأن المعنى لا تشد الصلاة في مسجد بدليل ذكر مساجد.
"وحكى الشيخ ولي الدين العراقي: أن والده" الحافظ زين الدين عبد الرحيم "كان
عبد الرحمن بن رجب الدمشقي في التوجّه إلى بلد الخليل عليه السلام، فلمَّا دنا من البلد قال: نويت الصلاة في مسجد الخليل، ليحترز عن شد الرحال لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية، فقلت: نويت زيارة قبر الخليل عليه السلام، ثم قلت: أمَّا أنت فقد خالفت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه قال: "لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد" ، وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع، وأمَّا أنا فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال:"زوروا القبور" أفقال: إلا قبور الأنبياء؟! فبهت.
وينبغي لمن أراد الزيارة أن يكثر من الصلاة عليه في طريقه، فإذا وقع بصره على معالم المدينة الشريفة وما تعرف به، فليردد الصلاة والتسليم، وليسأل الله أن ينفعه بزيارته، ويسعده بها في الدارين.
وليغتسل ويلبس النظيف من ثيابه، وليترجَّل ماشيًا باكيًا.
ولما رأى وفد عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقوا أنفسهم عن رواحلهم ولم ينيخوها وسارعوا إليه، فلم ينكر ذلك عليهم -صلوات الله وسلامه عليه.
معادلًا للشيخ زين الدين عبد الرحمن بن رجب الدمشقي" الحنلي، "في التوجّه إلى بلد الخليل عليه الصلاة والسلام، فلمَّا دنا" ابن رجب "من البلد، قال: نويت الصلاة في مسجد الخليل ليحترز عن شد الرحال لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية".
"قال" الزين العراقي والد الوالي: "فقلت: نويت زيارة قبر الخليل عليه الصلاة والسلام، ثم قلت له: أما أنت" يا ابن رجب "فقد خالفت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، وقد شددت" بفتح تاء الخطاب "الرحل إلى مسجد رابع، وأمَّا أنا فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: "زوروا القبور" أفقال: إلا قبور الأنبياء" استفهام توبيخي، "فبهت" بالبناء للمفعول: دهش وتحير.
"وينبغي لمن أراد الزيارة أن يكثر من الصلاة والتسليم عليه في طريقه، فإذا وقع بصره على معالم" جمع معلم، ما يستدل به على "المدينة الشريفة، وما تعرف به" عطف تفسير لمعالم، "فليردد الصلاة عليه والتسليم، ويسأل الله أن ينفعه بزيارته، ويسعده بها في الدارين، وليغتسل وليلبس النظيف من ثيابه "وليترحَّل" يمشي على رجليه، فقوله: "ماشيًا" حال مؤكدة "باكيًا" خضوعًا وخشية وغلبة شوق، أو سرورًا، فإنه قد يحصل منه البكاء، "ولما رأى وفد عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقوا أنفسهم" أي: نزلوا مسرعين "عن رواحلهم، فلم ينيخوها، وسارعوا إليه، فلم ينكر ذلك عليهم -صلوات الله وسلامه عليه"، لكنه استحسن فعل
وروينا مما ذكره القاضي عياض في "الشفاء" أنَّ أبا الفضل الجوهري لما ورد إلى المدينة زائرًا، وقرب من بيوتها ترجَّل ومشى باكيًا منشدًا.
ولما رأينا رسم من لم يدع لنا
…
فؤادًا لعرفان الرسوم ولا لبا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة
…
لمن بان عنه أن نلم به ركبا
وأنبئت بأن العلامة أبا عبد الله بن رشيد قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع
الأشج؛ حيث أناخ راحلته، وأخرج منها ثيابًا لبسها، ثم أتى إليه، فقال:"إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
"وروينا مما ذكره القاضي عياض في الشفاء أنَّ أبا الفضل الجوهري" قال: شارح الشفاء ليس هو عبد الملك بن الحسن البصري، الواعظ بمصر في حدود السبعين وأربعمائة، وكان من العلماء الصالحين، يتبرك به ويقتدى به في السلوك، وإنما هو كما في تاريخ الأندلس: عبد الله بن الحكم الترمذي الأندلسي، ذو الوزارتين، له فضل باهر وحسب وأدب، عالم بالقراءات والحديث، وله شعر رائق ونثر فائق، وارتحل للمشرق فأخذ به عن ابن عساكر، وأكثر الرواية عنه، وله رياسة في عصره، صار بها كالمثل السائر إلى أن ردت الأيام منه ما وهبت، فانقضت أيامه وذهبت، فقُتِل لما خلع سلطانه، فنهبت أمواله وكتبه، ومات شهيدًا رحمه الله، "لما ورد إلى المدينة زائرًا، وقرب من بيوتها ترجَّل" نزل عن دابته التي كان راكبًا عليها، "ومشى" تأدبًا حال كونه "باكيًا" خضوعًا وشوقًا أو سرورًا، "منشدًا" قول أبي الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة من قصيدة أولها:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربًا
…
لأنك كنت الشرق للشمس والغربا
إلى أن قال: "ولما رأينا رسم" آثار الديار الدارسة، والمراد هنا آثاره صلى الله عليه وسلم في معاهده ومساكنه، "من لم يدع" يترك "لنا فؤادًا" قلبًا، أو داخل القلب أو غشاءه، "لعرفان" بمعنى معرفة "الرسوم" جمع رسم، "ولا لبًّا" عقلًا، "نزلنا عن الأكوار" جمع كور بالضم، وهو الرحل للإبل، بمنزلة السرج للفرس، "نمشي كرامة لمن بان" أي: بعد "عنه" أي: عن الإلمام، فالضمير عائد على متأخّر وهو البدل في قوله:"أن نلمّ" أي: عن أن نلم به من ألَمَّ إذا أتى، أي: نأتي لزيارته، "ركبًا" اسم جمع لراكب الإبل، أو أعمّ، أي: ركبانًا، وحاصل معناه أنه لا يليق بالأدب لمن كان بعيدًا عن محبوبه، ثم قرب منه أن يأتي إليه راكبًا، بل ماشيًا إكرامًا له.
قال بعضهم: والإلمام الإتيان قليلًا، ويكون بمعنى القرب، ومن فسّر بأن بمعنى ظهر لم يصب، ولقد أجاد في تمثّله به ونقله للمحل الأليق به، وهذا نوع من البلاغة قريب من التضمين، وهو أن يورد شعر الغير في مقام يكون أحقّ به من صاحبه، ولم يتعرّض له أصحاب البديع، إلّا أن الإمام محمدًا التوزي أورده في كتاب الغرَّة اللائحة "وأنبئت أن العلامة أبا عبد الله" محمد بن
وثمانين وستمائة، كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكم، وكان أرمد، فلمَّا دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابًا لتلك الآثار، وإعظامًا لمن حلَّ تلك الديار، فأحس بالشفاء، فأنشد لنفسه في وصف الحال:
ولما رأينا من ربوع حبيبنا
…
بيثرب أعلامًا أثرن لنا الحبا
وبالتراب منها إذا كحلنا جفوننا
…
شفينا فلا بأسًا نخاف ولا كربا
وحين تبدَّى للعيون جمالها
…
ومن بعدها عنا أذيلت لنا قربا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة
…
لمن حلّ فيها أن نلم به ركبا
نسح سجال الدمع في عرصاته
…
ونلثم من حب لواطئه التربا
عمر "بن رشيد" بضمّ الراء وفتح المعجمة- الفهري السبتي، المولود بها سنة سبع وخمسين وستمائة، كان إمامًا حافظًا، فقيهًا عالمًا باللغة والعربية والعروض والقراءات والأصلين، حسن الخلق، كثير التواضع، ريّان من الأدب، ماهرًا في الحديث، أخذ ببلاده عن جماعة، ثم رحل فسمع بمصر والشام والحجاز عن خلائف ضمنهم رحلته التي سماها: ملء العيبة، وهي ست ملجدات، ثم عاد إلى غرناطة، فنشر بها العلم، ومات بفاس في محرَّم سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، "قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع وثمانين وستمائة، كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكم، وكان أرمد، فلمَّا دخلنا ذا الحليفة" ميقات المدينة "أو نحوها، نزلنا عن الأكوار" الرحال، "وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل" عن راحلته وبادر إلى المشي على قدميه احتسابًا" طالبًا الثواب مخلصًا "لتلك الآثار، وإعظامًا لمن حلّ تلك الديار" حبيب العزيز الغفار، "فأحسَّ بالشفاء" من الرمد، "فأنشد لنفسه في وصف الحال"
ولما رأينا من ربوع حبيبنا
…
بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا
ولو قال: بطيبة بدل بيثرب كان الأولى بمزيد الشوق والأدب، "وبالترب:" بضم فسكون- جمع تراب "منها: إذ كحلنا" بالتخفيف "جفوننا، شفينا فلا بأسًا" شدة "نخاف ولا كربًا، وحين تبدى" ظهر "للعيون جمالها، ومن بعدها عنا أذيلت" بضم الهمزة وكسر الذال المعجمة- أي: سهلت "لنا قربًا" أي: من جهة القرب حتى صرنا نراها بأعيننا، "نزلنا عن الأكوار" الرحال "نمشي كرامة لمن حلّ فيها" لعل هذه رواية ثانية، وهي أسلس من قوله في الرواية الأولى السابقة: لمن بان عنه، "أن نلمّ به" نأتي إليه "ركبًا" أي: ركبانًا، وهذا البيت من قصيدة المتنبي، فهو من التضمين، وهو أن يضمّن شعره أو نثره شيئًا من كلام غيره، من غير نسبته إليه، وهو من البديع، "نسح" بضم السين، أي: نسيل، "سجال" بكسر السين وبالجيم- جمع سجل، وهو الدلو العظيمة الدمع في عرصاته" ساحاته، "ونلثم" بفتح المثلثة أفصح من كسرها نقبل "من" أجل حب لواطئه التربا"
وإن نفادي دونه لخسارة
…
ولو أن كفي تملك الشرق والغربا
فيا عجبًا ممن يحب بزعمه
…
يقيم مع الدعوى ويستعمل الكذبا
وزلات مثلي لا تعدد كثرة
…
وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا
لما كنت سائرًا لقصد الزيارة في ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولاح لنا عند الصباح جبل مفرح الأرواح، المبشر بقرب المزار من أشرف الديار، تسابق الزوار إليه، وتعالوا بالصعود عليه استعجالًا لمشاهدة تلك الآثار، فبرقت لوامع الأنوار النبوية، وهبّت عرف نسمات المعارف المحمدية، فطبنا وغبنا؛ إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية:
ألا مع برق يغتدي ويروح
…
أم النور من أرض الحجاز يلوح
وريح الصبا هبت بطيب عرفهم
…
أم الروض في وجه الصباح يفوح
إذا ريح ذاك الحي هب فإنها
…
حاة لمن يغدو لها ويروح
ترفق بنا يا حادي العيس والتفت
…
فللنور بين الواديين وضوح
مفعول نلثم "وأن نفادي دونه لخسارة، ولو أن كفِّي تملك" من الملك "الشرق والغربا".
وفي نسخة: تملأ، أي: ولو فرض أن كفّي ملأتهما بإيصال النوال إلى أهلها، "فيا عجبًا ممن يحب بزعمه" مثلث الزاي- القول الحق والباطل، والكذب ضد، وأكثر ما يقال فيما يشك فيه كما في القاموس:"يقيم مع الدعوى" على البعد، "ويستعمل الكذب" في دعوى الحب، "وزلات مثلي لا تعدد" بدالين "كثرة" بالنصب، أي: لأجل كثرتها لا يمكن تعدادها، "وبعدي عن المختار أعظمها ذنبًا"، وحدث المصنّف عن نفسه من باب التحديث بالنعم:"ولما كنت سائرًا لقصد الزيارة في ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولاح ظهر لنا عند الصباح جبل مفرح الأوراح المبشر" الجبل، وهو أحد، يقرب المزار من أشرف الديار" المدينة، تسابق الزوار إليه، وتعالوا: "ارتفعوا بالصعود عليه استعجالًا لمشاهدة تلك الآثار، فبرقت: لمعت لوامع" إضاءات "الأنوار النبوية، وهبت عرف -بفتح المهملة وسكون الراء وبالفاء- ريح "نسمات المعارف المحمدية، فطبنا" في أنفسنا وغبنا" عمَّا يدرك بالحواس في مشاهدة تلك الأنوار المحمدية؛ "إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية، ألامع برق يغتدي ويروح" يجيء وقت الغدوة والرواح، أم النور من أرض الحجاز يلوح" يظهر، "وريح الصبا هبت بطيب عرفهم" ريحهم أم الروض في وجه الصباح يفوح" أزهاره، "إذا ريح ذاك الحي هبت، فإنها حياة لمن يغدو لها" يأتي وقت الغدوة أول النهار، ويروح يأتي وقت الزوال، ترفق بنا يا حادي العيس" الإبل، والتفت، فللنور بين الواديين وضوح" ظهور "فما هذه إلّا ديار محمد، وذاك سناها يغتدي
فما هذه إلا ديار محمد
…
وذاك سناها يغتدي ويروح
وإلّا فما للركب هاج اشتياقهم
…
فكل من الشوق الشديد يصيح
وأنت مطايا الركب حتى كأنها
…
حمام على قضب الأراك تنوح
وقد مدت الأعناق شوقًا وطرفها
…
إلى النور من تلك الديار لموح
رأت دار من تهوى فزاد اشتياقها
…
ومدمعها في الوجنتين سفوح
إذا العيس باحت بالغرام ولم تطق
…
خفاء فما للصب ليس يبوح
ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها، وتدانينا من معاينة رباها الكريمة وآكامها، وانتشقنا عرف لطائف أزهارها، وبت لنواظرنا بوارق أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا، ونزل القوم عن المطايا، فأنشدت متمثلًا:
أتيتك زائرًا وودت أني
…
جعلت سواد عيني أمتطيه
ومالي لا أسير على المآقي
…
إلى قبر رسول الله فيه
ولما وقع بصري على القبر الشريف والمسجد المنيف فاضت من الفرح
ويروح فيه إبطاء، "وإلا فما للركب هاج" ثار "اشتياقهم، فكل من الشوق الشديد يصيح" يصون بأقصى طاقته، "وأنَّت" بشد النون- صوَّتت مطايا الركب، حتى كأنها حمام على قضب" بضم القاف وإسكان المعجمة- أغصان الأراك تنوح -بفوقية فنون- تسجع، "وقد مدت الأعناق شوقًا وطرفها" بصرها "إلى النور من تلك الديار لموح" بضم الميم- كثير النظر، "رأت دار من تهوى فزاد اشتياقها ومدمعها" أي: دمعها "في الوجنتين" أي: عليهما، "سفوح" أي: مصبوب، "إذا العيس" بالكسر- الإبل البيض يخالط بياضها شقرة كما في القاموس، والمراد هنا مطلق الإبل، "باحت بالغرام" الولوع بالحب "ولم تطق خفاء" بالمد، أي: إخفاءه وستره، "فما للصب ليس يبوح" بصبابته وهي الشوق، أو رقَّته، أو رقة الهوى، مع أنه عاقل بخلاف العيس "ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها، وتدانينا من معاينة رباها" بضم الراء- جمع ربوة مثلثة- المكان المرتفع، "الكريمة وأكامها" جمع أكم بزنة كتب، ومَرَّ بيانه في الاستسقاء، "وانتشقنا عرف" أي: شممنا ريح "لطائف أزهارها وبدت" ظهرت "لنواظرنا بوارق" لوامع "أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا" الهبات، "ونزل القوم عن المطايا" جمع مطية، الدابة تمطو، أي: تمد في سيرها، "فأنشدت متمثلًا وهو إنشاد شعر الغير في مقام يناسبه، "أتيتك زائرًا وودت" تمنيت "أني جعلت سواد عيني أمتطيه" أجعله مطية لي "ومالي لا أسير على المآقي" جمع المموق طرف العين مما يلي الأنف إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، "ولما وقع بصري على القبر الشريف والمسجد المنيف فاضت من الفرح سوابق العبرات" الدموع "حتى أصابت بعض
سوابق العبرات حتى أصابت بعض الثرى والجدرات، وقلت:
أيها المغرم المشوق هنيئًا
…
ما أنالوك من لذيذ التلاق
قل لعينيك تهملان سرورًا
…
طالما أسعداك يوم الفراق
واجمع الوجد والسرور ابتهاجًا
…
وجميع الأشجان والأشواق
ومر العين أن تفيض انهمالًا
…
وتوالى بدمعها المهراق
هذه دارهم وأنت محب
…
ما بقاء الدموع في الآماق
وقلت:
وكان ما كان مما لست أذكره
…
فظن خيرًا ولا نسأل عن الخبر
ويستحَبُّ صلاة ركعتين تحية المسجد قبل الزيارة، وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، فإن كان استحبت الزيارة قبل التحية، قال في "تحقيق النصرة" وهو استدراك حسن، قاله بعض شيوخنا.
وفي منسك ابن فرحون، فإن قلت: المسجد إنما تشرَّف بإضافته إليه صلى الله عليه وسلم، فينبغي البداءة بالوقوف عنده صلى الله عليه وسلم، قلت: قال ابن حبيب في أوّل كتاب الصلاة:
الثرى" التراب، "والجدرات" جمع جدار، "أيها المغرم المشوق هنيئًا ما أنالوك من لذيذ التلاق، قل لعينيك تهملان سرورًا طالما أسعداك يوم الفراق" تهملان -بضم الميم وكسرها- كما أفاده القاموس: تفيضان، وأسعداك عاوناك، "واجمع الوجد" الغضب في الحب، "والسرور" الفرح، "ابتهاجًا" سرورًا، "وجميع الأشجان" أي: الحاجات، "والأشواق" جمع شوق، نزاع النفس وحركة الهوى، والمعنى: إنه يجمع بين الأمور المتضادة من شدة فرحه بلقاء محبوبه، "ومر بالعين" بضم الميم وخفة الراء مكسورة "أن تفيض انهمالًا" تأكيد لمعنى تفيض، "وتوالى" تتابع، "بدمعها المهراق" المصبوب، "هذه دارهم، وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق" وأنشد أيضًا بيتًا مفردًا:
وكان ما كان مما لست أذكره
…
فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر
ويستحب صلاة ركعتين تحية المسجد قبل الزيارة" اتباعًا لأمره بالتحية، فأَوْلَى ما يتبع في مسجده، "قيل: وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف عليه الصلاة والسلام، فإن كان استحبت الزيارة قبل التحية، قال في تحقيق النصرة" في تاريخ دار الهجرة، "وهو استدراك" أي: تقييد "حسن، قاله بعض شيوخنا، وفي منسك ابن فرحون" بفتح فسكون، "فإن قلت" المسجد إنما شرف بإضافته إليه صلى الله عليه وسلم، فينبغي البداءة بالوقوف عنده صلى الله عليه وسلم، قلت: قال ابن حبيب" عبد الملك الأندلسي أبو مران الفقيه المشهور.
حدَّثني مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلِّم عليه وهو بفناء المسجد، فقال:"أدخلت المسجد فصليت فيه"؟ قلت: لا، قال:"فاذهب فادخل المسجد وصلّ فيه، ثم سلِّم علي".
ورخص بعضهم في تقديم الزيارة على الصلاة. قال ابن الحاج: وكل ذلك واسع، ولعل هذا الحديث لم يبلغهم، والله أعلم. انتهى.
وينبغي للزائر أن يستحضر من الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصدًا في سلامه بين الجهر والإسرار، وفي البخاري: أنَّ عمر رضي الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربًا، ترفعان أصواتكم في مسجد
قال الحافظ: صدوق، ضعيف الحفظ، كثير الغلط، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين، "في أول كتاب الصلاة" من الواضحة، "حدَّثني مطرف" بضم الميم وفتح الطاء المهملة وكسر الراء الثقيلة- ابن عبد الله بن مطرف اليساري -بفتح التحتية والمهملة، أبو مصعب المدني، ابن أخت مالك، ثقة، من رجال البخاري والترمذي وابن ماجه، لم يصب ابن عدي في تضعيفه، مات سنة عشرين ومائتين على الصحيح، وله ثلاث وثمانون سنة، "عن مالك، عن يحيى بن سعيد" الأنصاري "عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلِّم عليه وهو بفناء المسجد" بكسر الفاء والمد- أي: خارجه، "فقال:"أدخلت المسجد فصليت فيه؟ " قلت: لا، قال:"فاذهب فادخل المسجد وصلّ فيه، ثم سلِّم علي" ، فإذا أمر بتقديم الصلاة على السلام فيه عليه، مع كونه بفنائه، فأَوْلَى إذا كان داخله، "ورخَّص بعضهم في تقديم الزيارة على الصلاة، وقال ابن الحاج: وكل ذلك واسع، ولعل هذا الحديث لم يبلغهم، والله أعلم
…
انتهى" كلام ابن فرحون.
"وينبغي للزائر أن يستحضر ن الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصدًا في سلامه بين الجهر والإسرار، وفي البخاري" في الصلاة "أنَّ عمر رضي الله عنه قال لرجلين" قال الحافظ: لم أقف على تسمية هذين الرجلين، لكن في رواية عبد الرزاق أنهما ثقفيان. انتهى.
وهو مفاد قوله: "من أهل الطائف"؛ إذ أهله ثقيف: "لو كنتما من أهل البلد" أي: المدينة، "لأوجعتكما" يدل على أنه كان تقدَّم نهيه عن ذلك، وفيه العذر لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله، وقوله:"ضربًا" ليس في البخاري.
قال الحافظ: قوله: لأوجعتكما، زاد الإسماعيلي جلدًا من هذه الجهة يتبيّن كون الحديث له
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيًّا ولا ميتًا. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد، والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعيْ داره إلا بالمصانع توقيًا لذلك، نقله ابن زبالة. فيجب الأدب معه كما في حياته.
وينبغي للزائر أن يتقدَّم إلى القبر الشريف من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلي الصحابين فهو أبلغ في الأدب من الإتيان من جهة رأسه الكريم، ويستدبر القبلة ويقف قبالة وجهه صلى الله عليه وسلم، بأن يقابل المسمار الفضة المضروب في الرخام الذي
حكم الرفع؛ لأن عمر لا يتوعدهما بالجلد إلّا على مخالفة أمر توقيفي، "ترفعان" جواب سؤال مقدَّر كأنهما قالا: لم توجعنا؟ قال: لأنكما ترفعان، وفي رواية الإسماعيلي: برفعكما "أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيًّا ولا ميتًا" فوق ما يساور به الإنسان صاحبه، روي "عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تسمع صوت الوتد" بالفتح وبالتحريك، وككتف- ما رز في الأرض أو الحائط من خشب، قاله القاموس: يوتد يدق "والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة -بضم الميم وكسر الطاء وسكون الياء وبالفاء- أي: المحيطة "بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فترسل إليهم، لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" بدق الوتد وضرب المسمار، "قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه" أي: ما صنع "مصراعي داره إلّا" خارج المدينة، "بالمصانع" بصاد وعين مهملتين- محل بالمدينة، كان متبرز النساء ليلًا قبل اتخاذ الكنف، وهي ناحية بئر أبي أيوب، وأظنها لمعروفة اليوم ببئر أيوب، شرقي سوق المدينة ببقيع الغرقد، قاله الشريف، "توقيًا لذلك" لئلَّا يتأذَّى بسماع صوت الخشب عند صنعه لو صنعه في بيته أو خارج المسجد بقربه، "نقله ابن زبالة" بفتح الزاي- محمد بن الحسن، "فيجب الأدب معه كما في حياته"؛ إذ هو حي في قبره يصلي فيه بأذان وإقامة، كما مرَّ في الخصائص.
"وينبغي للزائر أن يتقدَّم إلى القبر من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلي الصاحبين فهو أبلغ في الأدب من الإتيان من جهة رأسه الكريم، ويستدبر القبلة ويقف قباله".
في الجدار، ولا عبرة بالقنديل الكبير اليوم؛ لأن هناك عدة قناديل.
وقد روي أن مالكًا لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي: يا أبا عبد الله، أأستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو، أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله عز وجل يوم القيامة.
لكن رأيت منسوبًا للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: إن هذه الحكاية كذب على مالك، وأنَّ الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده صلى الله عليه وسلم قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك.
بضم القاف تجاه "وجهه صلى الله عليه وسلم، بأن يقابل المسمار الفضة المضروب في الرخام الذي في الجدار، ولا عبرة بالقنديل الكبير اليوم؛ لأنَّ هناك عدة قناديل"، وإن كان معتبرًا في زمن التابعين، ففي الشفاء قال ابن أبي مليكة: من أحَبَّ أن يكون وجاه النبي صلى الله عليه وسلم فليجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه.
"وقد روي أن مالكًا لما سأله أبو جعفر" عبد الله بن محمد "المنصور العباسي" ثاني خلفاء بني العباء: "يا أبا عبد الله" كنية مالك، "أأستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو، أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك، ووسيلة أبيك أدم عليه السلام إلى الله عز وجل يوم القيامة، بل استقبله واستشْفِع به فيشفعه الله، هذا بقية المروي عن مالك -كما في الشفاء، "لكن رأيت منسوبًا للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه، أنَّ هذه الحكاية كذب على مال" هذا تهوّر عجيب، فإن الحكاية رواها أبو الحسن علي بن فهر في كتابه: فضائل مالك، بإسنادٍ لا بأس به، وأخرجها القاضي عياض في الشفاء من طريقه، عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه، فمن أين أنها كذب، وليس في إسنادها وضَّاع ولا كذَّاب، "وأنَّ الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه" نفيه مردود عليه من قصوره أو مكابرته، ففي الشفاء قال بعضهم: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف فرفع يديه، حتى ظننت أنه افتتح الصلاة، فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، "ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده صلى الله عليه وسلم، قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهيةً لذلك" كذا قال، وهو خطأ قبيح، فإن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلًا له مستدبر القبلة، ومِمَّنْ نَصَّ على ذلك أبو الحسن القابسي، وأبو بكر بن عبد الرحمن، والعلامة خليل في مناسكه، ونقله
وينبغي أن يقف عند محاذاة أربعة أذرع، ويلازم الأدب والخشوع والتواضع، غاضّ البصر في مقام الهيبة، كما كان يفعل بين يديه في حياته، ويستحضر علمه بوقوفه بين يديه، وسماعه لسلامه، كما هو الحال في حال حياته؛ إذ لا فرق بين موته وحياته في مشاهدته لأمته، ومعرفته أحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جليّ لا خفاء به.
فإن قلت: هذه الصفات مختصة بالله تعالى.
فالجواب: إن من انتقل إلى عالم البرزخ من المؤمنين يعلم أحوال الأحياء.
في الشفاء عن ابن وهب عن مالك، قال: إذا سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا، يقف وجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلِّم، ولا يمسَّ القبر بيده. انتهى.
وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور، ونقل عن أبي حنيفة، قال ابن الهمام، وما نُقِلَ عنه أنه يستقبل القبلة مردود بما روي عن ابن عمر: من السُّنَّة أن يستقبل القبر المكرَّم، ويجعل ظهره للقبلة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة. وقول الكرماني: مذهبه خلافه ليس بشيء؛ لأنه حيّ، ومن يأتي لحيٍّ إنما يتوجَّه إليه. انتهى.
ولكن هذا الرجل ابتدع له مذهبًا وهو عدم تعظيم القبور، وإنها إنما تزار للترحّم والاعتبار، بشرط ألَّا يشد إليها رحل، فصار كل ما خالفه عنده كالصائل لا يبالي بما يدفعه، فإذا لم يجد له شبهة واهية يدفعه بها بزعمه، انتقل إلى دعوى أنه كذب على من نُسِبَ إليه مجازفة وعدم نصفة، وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله، ثم إن نقل كلامه من أوّل، لكن رأيت ساقط في أكثر نسخ المصنف وهو أَوْلَى بالصواب، وسيعيد المصنّف قريبًا نقله، والتبري منه بقوله: كذا.
قال: وينبغي أن يقف عند محاذاة أربع أذرع" وقيل: ثلاثة، وهذا باعتبار ما كان في العصر الأوّل، أمَّا اليوم فعليه مقصورة تمنع من دنو الزائر، فيق عند الشباك، قاله بعض، "ويلازم الأدب والخشوع والتواضع، غاضّ البصر في مقام الهيبة، كما كان يفعل بين يديه في حياته"؛ إذ هو حي، "ويستحضر علمه بوقوفه بين يديه، وسماعه لسلامه، كما هو في حال حياته؛ إذ لا فرق بين موته وحياته في مشاهدته لأمته، ومعرفته بأحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جليّ" ظاهر "لا خفاء به" باطِّلاع الله تعالى على ذلك.
"فإن قلت: هذه الصفات" المذكورة من معرفته إلى هنا "مختصَّة بالله تعالى، فالجواب: إن من انتقل إلى عالم البرزخ من المؤمنين" الكاملين، "يعلم أحوال الأحياء غالبًا" بإعلام الله تعالى لهم، كما في حديث: "تعرض الأعمال كل يوم الخميس والإثنين على الله
غالبًا، وقد وقع كثير من ذلك كما هو مسطور في مظنَّة ذلك من الكتب.
وقد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب: ليس من يوم إلّا ويعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم.
ويمثل الزائر وجهه الكريم عليه الصلاة والسلام في ذهنه، ويحضر قلبه جلال رتبته وعلوّ منزلته، وعظيم حرمته، وإنَّ أكابر الصحابة ما كانوا يخاطبونه إلّا كأخي السرار، تعظيمًا لما عظَّم الله من شأنه.
وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها: أن اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكشفته، فبكت حتى ماتت.
وحكي عن أبي الفضائل الحموي، أحد خدَّام الحجرة المقدسة، أنه شاهد شخصًا من الزوار الشيوخ، أتى باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة، فحركوه فإذا هو ميت، وكان ممن شهد جنازته.
تعالى، وتعرض على الأنبياء والآباء والآمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم بياضًا وإشراقًا، فاتقوا الله ولا تؤذوا أمواتكم".
رواه الترمذي الحكيم، "وقد وقع كثير من ذلك كما هو مسطور في مظنَّة ذلك من الكتب، وقد روى ابن المبارك" عبد الله: بذكره تستنزل الرحمة "عن سعيد بن المسيب، قال: ليس من يوم إلّا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمَّته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم" يوم القيامة، "ويمثل" يصور "الزائر وجهه عليه الصلاة والسلام في ذهنه، ويحضر الزائر قلبه جلال رتبته وعلوَّ منزلته وعظيم حرمته، وإن أكابر الصحب ما كانوا يخاطبونه إلّا كأخي السرار" بكسر السين وراءين بينهما ألف "تعظيمًا لما عظَّم الله من شأنه".
وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها، أن اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكشفته، فبكت حتى ماتت" شوقًا إليه.
"وحكي عن أبي الفضائل الحموي أحد خدَّام الحجرة المقدَّسة أنه شاهد شخصًا من الزوار الشيوخ أتى باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة، فحركوه فإذا هو ميت، وكان" أبو الفضائل "ممن شهد جنازته، ثم يقول: الزائر بحضور قلب وغض طرف"
ثم يقول الزائر بحضور قلب، وغضّ بصر وصوت، وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر المحجَّلين، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين، السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر عباد الله الصالحين، جزاك الله يا رسول الله أفضل ما جازي نبيًّا ورسولًا عن أمته، وصلى الله عليك كُلَّما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه، وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلَّغت الرسالة، وأدَّيب الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده.
ومن ضاق وقته عن ذلك أو عن حفظه، فليقل ما تيسّر منه، أو مما يحصل به الغرض.
وفي "التحفة": أنَّ ابن عمر وغيره من السلف كانوا يقتصرون ويوجزون في
بصر "و" خفض "صوت وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا سيد" أفضل "المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر" بضم المعجمة وشد الراء "المحجَّلين" هم أمته، وهذه سيماهم ليست لغيرهم، "السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات" صفة لازمة "أمهات المؤمنين"، وهل يقال لهنَّ أمهات المؤمنات أيضًا، قولان مرجحان، "السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر" أي: جميع "عباد الله الصالحين" أي: المؤمنين، "جزاك الله يا رسول الله أفضل ما جزى نبيًّا ورسولًا عن أمته، وصلى الله عليك كُلَّما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون" عبارة عن استمرار الصلاة؛ إذ لا ينفك الخلائق بعضهم عن الذكر، وآخرون عن الغفلة، "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلَّغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونصحت الأمَّة، وجاهدت في الله حقَّ جهاده" بنفسك وبعوثك وسراياك، ما جملته نحو المائة في تسع سنين، "ومن ضاق وقته عن ذلك أو عن حفظه، فليقل ما تيسَّر" له "منه، أو" من غيره، "مما يحصل به الغرض".
"وفي التحفة" أي: كتاب تحفة الزائر لابن عساكر "أن ابن عمر وغيره من السلف
هذا جدًّا. فعن مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وناهيك به خبرة بهذا الشأن، من رواية ابن وهب عنه، يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا قَدِم من سفر دخل المسجد، ثم أتى القبر المقدَّس فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.
وينبغي أن يدعو، ولا يتكلّف السجع، فإنه قد يؤدي إلى الإحلال بالخشوع.
وقد حكى جماعة منهم الإمام أبو نصر بن الصباغ في "الشامل"، الحكاية المشهورة عن العتبي، واسمه: محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب، وتوفي في سنة ثمان وعشرين ومائتين، وذكرها ابن النجار وابن عساكر وابن الجوزية في منبر الغرام الساكن عن
كانوا يقتصرون ويوجزون" يأتون بألفاظ قليلة جامعة لمعانٍ كثيرة، "فعن مالك إمام دار الهجرة، وناهيك به خبرة بهذا الشأن، من رواية ابن وهب" عبد الله "عنه يقول" المسلِّم أو الزائر:"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، فهذا لفظ موجز مع صحته عنه صلى الله عليه وسلم في التشهد، زاد مالك في المبسوط: ويسلم على أبي بكر وعمر، أي: بعد السلام عليه.
وعن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا قَدِمَ من سفر دخل المسجد" فصلى ركعتين، "ثم أتى القبر المقدَّس، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه"، وفي الشفاء عن نافع: كان ابن عمر يسلِّم على القبر، رأيته مائة مرة وأكثر، يأتي فيقول: السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف، انتهى.
وظاهر أنَّ هذا كان دأبه وإن لم يسافر؛ لأنه لم يسافر أكثر من مائة مرة، فحدَّث نافع تارة عن حالة إذا قدم من سفر، وتارة عن حاله بدون سفر فلا يحمل عليه، وفيه إشارة إلى أن الأَوْلَى الاختصار، وقيل: يطيل ما شاء من ثناء ودعاء وتوسّل، وقيل: يختلف باختلاف الناس والأحوال، "وينبغي أن يدعو ولا يتكلّف لسجع، فإنه قد يؤدي إلى الإخلال بالخشوع، وقد حكى جماعة منهم الإمام أبو نصر بن الصباغ في الشامل، الحكاية المشهورة عن العتبي" بضم فسكون، "واسمه: محمد بن عبيد الله" بضم العين "ابن عمرو بن معاوية بن عمرو" بفتح العين "ابن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب، وتوفي" محمد المذكور "في سنة ثمان وعشرين ومائتين".
"وذكرها ابن النجار وابن عساكر وابن الجوزي في منبر الغرام الساكن، عن
محمد بن حرب الهلالي قال: أتيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فزرته، وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرسل، إن الله أنزل عليك كتابًا صادقًا، قال فيه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي مستشفعًا بك إلى ربي، وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
…
فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكن
…
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ووقف أعرابي على قبره الشريف وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد، وهذا حبيبك وأنا عبدك، فأعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا، تسأل العتق لك وحدك، هلّا سألت لجميع الخلق، اذهب فقد أعتقناك من النار.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم
…
في رقهم أعتقوهم عتق أحرار
وأنت يا سيدي أولى بذا كرمًا
…
قد شبت في الرق فاعتقني من النار
محمد بن حرب الهلالي، قال: أتيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فزرته وجلست بحذائه" بمعجمة ومد بمقابله، "فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: يا خيرة الرسل، إن الله أنزل عليك كتابًا صادقًا قال فيه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] التفت عن استغفرت لهم تنويهًا بشأنه، {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا} عليهم {رَحِيمًا} بهم، "وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي، مستشفعًا بك إلى ربي، وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
…
فطاب من طيبهنَّ القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
…
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وبقية هذه الحكاية: ثم استغفر وانصرف، فرقدت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول: الحق الأعرابي وبشِّره بأنَّ الله قد غفر له بشفاعتي، فاستيقظت فخرجت لطلبه فلم أجده، "ووقف أعرابي على قبره الشريف وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد وهذا حبيبك وأنا عبدك، فاعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا، تسأل العتق لك وحدك، هلّا سألت العتق لجميع الخلق، اذهب فقد أعتقناك من النار"، وأنشد المصنف لغيره.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم
…
في رقهم أعتقوهم عتق أحرار
وأنت يا سيدي أَوْلى بذا كرمًا
…
قد شبت في الرق فاعتقني من النار
وعن الأصمعي: وقف أعرابي مقابل القبر الشريف، فقال: اللهمَّ إن هذا حبيبك وأنا عبدك
وعن الحسن البصري قال: وقف حاتم الأصم على قبره صلى الله عليه وسلم فقال: يا رب، إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودي: يا هذا، ما أذنَّا لك في زيارة قبر حبيبنا إلّا وقد قبلناك، فارجع أنت ومن معك من الزوار مغفورًا لكم.
وقال ابن أبي فديك: سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتلا هذه الآية:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] وقال: صلى الله عليك يا محمد، حتى يقولها سبعين مرة، ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان، ولم تسقط له حاجة.
قال الشيخ زين الدين المراغي وغيره: الأَوْلَى أن ينادي: يا رسول الله، وإن كانت الرواية: يا محمد، انتهى.
والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك، اللهمَّ إن العرب الكرام إذا مات منهم سيد أعتقوا على قبره، وإن هذا سيد العالمين فأعتقني على قبره.
قال الأصمعي: فقلت: يا أخا العرب، إن الله قد غفر لك وأعتقك بحسن هذا السؤال.
"وعن الحسن البصري قال: وقف حاتم الأصم" البلخي، من أجل المشايخ الزهّاد، اعتزل الناس ثلاثين سنة في قبة لا يكلمهم إلّا جوابًا بالضرورة، "على قبره صلى الله عليه وسلم فقال: يا رب، إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودي: يا هذا، ما أذنّا لك في زيارة قبر حبيبنا إلّا وقد قبلناك، فارجع أنت ومن معك من الزوار مغفورًا لكم. وقال ابن أبي فديك -بضم الفاء وفتح المهملة وتحتية وكاف- محمد بن إسماعيل بن مسلم الديلمي، مولاهم المدني، مات سنة مائتين على الصحيح، وهو من رجال الجميع.
وهذا رواه البيهقي عنه، قال:"سمعت بعض من أدركت" من العلماء والصلحاء "يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] إلى تسليمًا، "وقال: صلى الله عليك يا محمد، حتى يقولها سبعين مرة، ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان، ولم تسقط له حاجة" أي: لا ترد ولا تخيب، شبَّه عدم قبولها بسقوط شيء يقع من يده، وخصّ السبعين لأنها محلّ الإجابة، كما قال تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة} [التوبة: 80] .
"قال الشيخ زين الدين المراغي وغيره: والأَوْلَى أن ينادي: يا رسول الله، وإن كانت الرواية: يا محمد. انتهى" للنهي عن ندائه باسمه حيًّا وميتًا، فإن كان هذا مأثورًا عنه صحيحًا.
وقد نبَّهت على ذلك مع مزيد بيان في كتاب "لوامع الأنوار في الأدعية والأذكار".
فإن أوصاه أحد بإبلاغ السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان.
ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلّم على أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنَّ رأسه بحذاء منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما جزم به رزين وغيره، وعليه الأكثر، فيقول: السلام عليك يا خليفة سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيَّد الله به -يوم الردة- الدِّين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، اللهمَّ ارض عنه، وارض عنَّا به.
ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلِّم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيِّد الله به الدِّين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، اللهمَّ ارض عنه، وارض عنا به.
اغتفرا تباعًا للمأثور، ولتقدم تعظيمه بقوله: صلى الله عليك، كما قيل:"وقد نبَّهت على ذلك مع مزيد بيان في كتاب لوامع الأنوار في الأدعية والأذكار، فإن أوصاه أحد بإبلاغ السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم" بأن قال الموصي: قل: السلام عليك من فلان، أو سلم لي عليه صلى الله عليه وسلم، وتحمل ذلك، ورضي به، وجب عليه إبلاغه؛ لأنه أمانة يجب أداؤها، "فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان"، وقول بعضهم: إنه سنة لا واجب؛ إذ ليس في تركه سوى عدم اكتساب فضيلة للغير فلا سبب يقتضي التحريم، ردَّ بأن المأمور حيث التزم ذلك، وقبله وجب التبليغ؛ لأنه أمانة التزم أداءها له عليه السلام، "ثم ينتقل" الزائر المسلم "عن يمينه قدر ذراع، فيسلّم على أبي بكر -رضي اله عنه؛ لأن رأسه بحذاء منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما جزم به رزين وغيره، وعليه الأكثر"، وهو أشهر الروايات السبع وأصحّها فيقول: السلام عليك يا خليفة سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيد الله به -يوم الردة- الدِّين" ومَرَّ حديث: "أنا سيف الإسلام وأبو بكر سيف الردة" جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، اللهمَّ ارض عنه وارض عنا به، ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلِّم على عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيد الله به الدِّين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، اللهمَّ ارض عنه وارض عنا به"، وما ذكره من الدعاء لهما بلفظ: السلام، ذكره جماعة من المالكية وغيرهم، وهذا بخلاف الصلاة، فتكره استقلالًا على غير نبي أو ملك، وفي موطأ مالك عن عبد الله بن دينار، قال: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي على قبر
ثم يرجع إلى موقفه الأوَّل قبالة وجه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام على سيدنا أبي بكر وعمر، فيحمد الله تعالى ويمجده، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكثر من الدعاء والتضرّع، ويجدِّد التوبة في حضرته الكريمة، ويسأل الله بجاهه أن يجعلها توبة نصوحًا، ويكثر من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحضرته الشريفة؛ حيث يسمعه ويردّ عليه.
وقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يسلِّم علي إلّا ردَّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام".
النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر.
كذا رواه يحيى بن يحيى الليثي عن مالك، ورواه القعنبي وابن بكير، وسائر رواة الموطَّأ، بلفظ: فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو لأبي بكر وعمر، ففرَّقوا بين يصلي ويدعوا، وإن كانت الصلاة قد تكون دعاء؛ لأنه خص بلفظ: الصلاة عليه..... الآية: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] .
وقد أنكر العلماء رواية يحيى ومن وافقه، قاله ابن عبد البر، ولعلَّ إنكارهم من حيث اللفظ الذي خالف فيه الجمهور، فتكون روايته شاذّة، وإلّا فالصلاة على غير النبي تجوز تبعًا كما هنا، وإنما اختلف فيها استقلالًا بالمنع والجواز والكراهة، وصحَّحها الأبي، "ثم يرجع إلى موقفه لأوَّل قبالة" بضم القاف "وجه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام على سيدنا أبي بكر وعمر، فيحمد الله تعالى ويمجده" على هذه النعمة العظيمة من تسهيل الزيارة له، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكثر الدعاء والتضرّع، ويجدد التوبة في حضرته الكريمة، ويسأل الله تعالى بجاهه أن يجعلها توبة نصوحًا" خالصة، "ويكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته الشريفة؛ حيث يسمعه ويرد عليه" بأن يقف بمكان قريب منه ويرفع صوته إلى حد لو كان حيًّا مخاطبًا له لسمعه عادة.
وقد روى أبو داود بإسناد صحيح "من حديث أبي هريرة، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم" الذي في أبي داود، وهو الذي قدَّمه المصنف في مبحث الصلاة: ما من أحد. نعم المراد مسلم، "يسلِّم عليّ" في أي محل كان، قال السخاوي: وزيادة عند قبري، لم أقف عليها فيما رأيته من طرق الحديث.
"إلا رَدَّ الله عليّ روحي" قال السيوطي: كذا رواه أبو داود: علي، وللبيهقي، إلي، وهي ألطف وأنسب؛ لأن ردَّ يعدى بعلى في الإهانة، وبإلى في الإكرام، فمن الأوّل:{يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ، ومن الثاني:{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} انتهى.
وعند ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومن صلّى عليَّ نائيًا بلغته".
وعن سليمان بن سحيم، مما ذكره القاضي عياض في الشفاء" قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك، أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأرد عليهم.
ولا شكَّ أن حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ثابتة معلومة مستمرة، ونبينا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، وإذا كان كذلك فينبغي أن تكون حياته صلى الله عليه وسلم أكمل وأتمّ من
ولا يطرد هذا بدليل رواية: عليّ، هنا في الإكرام، "حتى" غاية لرد في معنى التعليل، أي: لأجل أن "أرد عليه السلام، عند ابن أبي شيبة"، وعبد الرزاق "من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"من صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومن صلَّى عليَّ نائيًا" بعيدًا، "بلغته" من الملك الموكَّل بقبره، بإبلاغه صلاة أمته عليه، والظاهر أنَّ المراد بالعندية قرب القبر؛ بحيث يصدق عليه عرفًا أنه عنده، وبالبعد ما عداه، وإن كان بالمسجد، قال السخاوي: إذا كان المصلي عند قبره سمعه بلا واسطة، سواء كان ليلة الجمعة أو غيرها، وما يقوله بعض الخطباء ونحوهم أنه يسمع بأذنيه في هذا اليوم من يصلي عليه، فهو مع حمله على القرب لا مفهوم له. انتهى.
وتقدم لذلك مزيد في مقصد المحبة وقبله في الخصائص، وأورد أن ردَّ السلام على المسلِّم لا يختص به صلى الله عليه وسلم، ولا بالأنبياء، فقد صحَّ مرفوعًا:"ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن، ومن كان يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه، إلا عرفه وردَّ عليه السلام"، وأجيب بأنَّ الرد من الأنبياء رد حقيقي بالروح والجسد بجملته، ولا كذلك الرد من غير الأنبياء والشهداء فليس بحقيقي، وإنما هو بواسطة اتصال الروح بالجسد، لأنَّ بينه وبينها اتصالًا يحصل بواسطة التمكّن من الرد، كون أرواحهم ليست في أجسادهم، وسواء الجمعة وغيرها على الأصح، لكن لا مانع أنَّ الاتصال في الجمعة واليومين المكتنفين به أقوى من الاتصال في غيرها من الأيام. انتهى.
"وعن سليمان بن سحيم" بمهملتين- مصغَّر، المدني، مولى آل العباس، وقيل: مولى آل الحسين، تابعي، ثقة، روى له مسلم، والسنن إلا الترمذي، "مما ذكره القاضي عياض في الشفاء" وأخرجه البيهقي في حياة الأنبياء، وابن أبي الدنيا عن سليمان "قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم"، ورؤياه حق "فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك فيسلِّمون عليك، أتفقه" أتفهم "سلامهم، قال: نعم" أفقهه، "وأرُدّ عليهم" عطف على معنى نعم، لا على قول السائل، وإنه من العطف التقليني كما توهم لوجود نعم؛ إذ معناها: أفقه "ولا شكَّ أن حياة الأنبياء عليهم السلام ثابتة معلومة مستمرة ثابتة" في الاستمرار، فلا تكرار، ونبينا صلى الله عليه وسلم أفضلهم" بالنصوص
حياة سائرهم.
فإن قال سقيم الطبع رديء الفهم: لو كانت حياته صلى الله عليه وسلم مستمرة ثابتة، لما كان لرد روحه معنَى كما قال:"إلا ردَّ الله عليَّ روحي".
يجاب عن ذلك من وجوه:
أحدها: إن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائمًا لثبوت رد السلام دائمًا، فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم، واللازم يجب وجوده عند ملزومه، أو ملزوم ملزومه، فوصف الحياة ثابت دائمًا؛ لأن ملزوم ملزومه ثابت دائمًا، وهذا من نفاثات سحر البيان في إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة، وأجمل فنون البراعة التي هي قطرة من بحار بلاغته العظمى.
ومنها: إن ذلك عبارة عن إقبال خاصّ، والتفات روحانيّ يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا، وقوالب الأجساد الترابية، وتنزل إلى دائرة البشرية، حتى يحصل عند ذلك ردّ السلام، وهذا الإقبال يكون عامًّا شاملًا، حتى لو كان
والإجماع، "وإذا كان كذلك فينبغي" يجب "أن تكون حياته أكمل وأتم من حياة سائرهم" أي: الأنبياء عليهم السلام، "فإن قال سقيم الطبع رديء الفهم: لو كانت حياته صلى الله عليه وسلم مستمرة ثابتة، لما كان لرد روحه معنًى، كما قال" في الحديث:"إلا ردَّ الله عليَّ روحي" ، فإن مقتضاه انفصالها عنه وهو الموت، "يجاب عن ذلك من وجوه، أحدها: إن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائمًا" لاستحالة خلوّ الوجود كله عن مسلِّم عليه عادة، "فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم" لصفة الحياة، "واللازم يجب وجوده عند ملزومه، أو ملزوم ملزومه" فأطلق الملزوم هنا وهو ردّ الروح، وأراد لازمه وهو صفة الحياة الملزومة لرد السلام، فكأنه قال: إلّا وجدني حيًّا، "فوصف الحياة ثابت دائمًا؛ لأن ملزوم ملزومه ثابت دائمًا، وهذا من نفّاثات" بفتح النون والفاء المشددة ويجوز ضم النون وفتح الفاء مخففة- لكن الأوَّل أنسب بقوله: "حر البيان"، والمراد: العبارات البليغة "في إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة، وأجمل" بالجيم "فنون" جمع في البراعة، التي هي قطرة من بحار بلاغته العظمى" صلى الله عليه وسلم، ومنها: إن ذلك عبارة عن إقبال خاصّ، والتفات روحاني" بضم الراء- لا يكيّف يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا، وقوال -بكسر اللام- جمع قال -بفتحها؛ لأن فاعل بالفتح جمعه فواعل بالكسر "الأجساد الترابية، وتنزل إلى دائرة البشرية" عَبَّر عنه برد الروح تجوزًا للتقريب للإفهام حتى يحصل عند ذلك رد السلام، وهذا الإقبال يكون عامًّا شاملًا حتى لو كان
المسلِّمون في كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف، لوسعهم ذلك الإقبال النبوي والالتفات الروحاني، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبّر عنه، ولقد أحسن من سُئِلَ: كيف يرد النبي صلى الله عليه وسلم على مَنْ سَلَّمَ عليه من مشارق الأرض ومغاربها في آنٍ واحد، فأنشد قول أبي الطيب:
كالشمس في وسط السماء ونورها
…
يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا
المسلِّمون" بكسر اللام الثقيلة، "في كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف" ثلاثًا؛ "لوسعهم ذلك الإقبال النبوي، والالتفات الروحاني، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبِّر عنه"؛ لأنه أمر لا يدرك بالعبارة، وإنما يعرفه من شاهده، ولا يقدر على التعبير عنه.
وفي فتح الباري أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، أحدها: إن المراد بقوله: "ردَّ الله إلي روحي" أن رد روحه كانت ساقة عقب دفنه، لا أنها تعاد ثم تنزع ثم تعاد. الثاني: سلمنا، لكن ليس هو نزع موت بل لا مشقة فيه. الثالث: إن المراد بالروح الملك الموكَّل بذلك. الرابع: المراد بالروح النطق، فتجوز فيه من جهة خطابنا بما نفهمه. الخامس: إنه يستغرق في أمور الملأ الأعلى، فإذا سلَّم عليه رجع إليه فهمه؛ ليجيب مَنْ يسلِّم عليه، واستشكل ذلك من جهة أخرى، وهو أنه يستلزم استغراق الزمان كله في ذلك لاتصال الصلاة -عليه والسلام- في سائر أقطار الأرض ممن لا يحصى كثرة، وأجيب بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة. انتهى.
بلفظه: والجوب الأوّل للبيهقي، واعترض بأنه خلاف الظاهر، واعترض الثالث بأن الإضافة في روحي تأباه، وأجيب بأنه لما كان ملازمًا مختصًّا به صحَّت إضافته إليه، بل قيل: إنه أقرب الأجوبة، وقد أطلق الروح على الملك في القرآن والسنَّة، واعترض الرابع بأن استعارة الروح للنطق بعيدة وغير مألوفة، ولا رونق لها يليق بالفصاحة النبوية، ولو سلم كان ركيكًا؛ لأن قوله: حتى أراد يأباه، وتعقّب بأنه لا بعد ولا ركاكة؛ لأنه للتقريب للإفهام كما قال، بل علاقة المجاز كما قال ابن الملقن وغيره: إن النطق من لازمه وجود النطق بالفعل أو بالقوة، وهو في البرزخ مشغول بأحوال الملكوت، مستغرق في مشاهدته، مأخوذ عن النطق بسبب ذلك، ومن الأجوبة أنَّ رد الروح مجاز عن المسرَّة، فإنه يقال لمن سر عادت له روحه، ولضده ذهبت، فهو عبارة عن دوم سروره صلى الله عليه وسلم بالسلام عليه؛ لأن الكون لا يخلو عن مسلِّمٍ عليه، بل قد يتعدَّد في آنٍ واحد ما لا يحصى وأن رد الروح عبارة عن حضور الفكر كما قيل في خبر: إنه ليغان على قلبي، "ولقد أحسن من سئل كيف يرد النبي صلى الله عليه وسلم على مَنْ سَلَّم عليه في مشارق الأرض ومغاربها في آنٍ واحد، فأنشد قول أبي الطيب" أحمد المتنبي في ممدوحه ناقلًا له إلى من هو اللائق به:
كالشمس في وسط السماء ونورها
…
يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا
ولا ريب أن حاله صلى الله عليه وسلم في البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل عليه السلام يقبض مائة ألف روح في وقت واحد، ولا يشغله قبض عن قبض، وهو مع ذلك مشغول بعبادة الله تعالى، مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا صلى الله عليه وسلم حي يصلي ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال في حضرة اقترابه، متلذذًا بسماع خطابه، وقد تقدَّم الجواب عن قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} في أواخر الخصائص من المقصد الرابع.
وقد روى الدارمي عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة، لم
كالبدر من حيث التفت رأيته
…
يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا
ولا ريب أن حاله صلى الله عليه وسلم في البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل" اسم ملك الموت على ما اشتُهر "عليه السلام، يقبض مائة ألف روح" أو أزيد في وقت واحد، ولا يشغله" بفتح أوله وثالثه على الأفصح "قبض عن قبض، وهو مع ذلك مشغول بعبادة الله تعالى، مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا صلى الله عليه وسلم حي" في قبره "يصلي ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال في حضرة اقترابه" أي: دنوه "متلذذًا بسماع خطابه".
وكذا كان شأنه وعادته في الدنيا، يفيض على أمته من سبحات الوحي الإلهي مما أفاضه الله عليه، ولا يشغله هذا الشأن وهو شأن إفاضة الأنوار القدسية على أمته عن شغله "بالحضرة الإلهية "وقد تقم الجواب عن قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] في أواخر الخصائص من المقصد الرابع" عن السبكي، بما حاصله: إن موته لم يستمر، وأنه أحيي بعد الموت حياة حقيقية، ولا يلزم منه أن يكون البدن معها كما في الدنيا من الحاجة إلى طعام وشراب، وغير لك من صفات الأجسام التي نشاهدها، أي: لأنَّ ذلك عادي لا عقلي، والملائكة أحياء ولا يحتاجون إلى ذلك.
"وقد روى الدارمي عن سعيد بن عبد العزيز، قال: لما كان أيام الحرة" بفتح الحاء والراء المهملتين- أرض بظاهر المدينة ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار، كانت بها الوقعة المشهورة بين عسكر يزيد بن معاوية وبين أهل المدينة بسبب أنهم خلعوا يزيد، وولوا على المهاجرين عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة، وأخرجوا عامل يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان من بينهم، فبعث لهم يزيد جيشًا عدته سبع وعشرون ألف فارس، وخمسة عشر ألف راجل، فظفروا، فأباحوا المدينة ثلاثة أيام قتلًا ونهبًا وزنًا، وغير ذلك، وقتل فيها خلق كثير من الصحابة وغيرهم.
يؤذّن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلّا بهمهمة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن النجار وابن زبالة بلفظ: قال سعيد -يعني: ابن المسيب: فلمَّا حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر، فصليت ركعتين، ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر، ثم مضى ذلك الأذان والإقامة في القبر المقدَّس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، يعني: ليالى أيام الحرة.
وقد روى البيهقي وغيره: من حديث أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون"، وفي رواية:"إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور".
وفي البخاري عن ابن المسيب، أنها لم تبق من أصحاب الحديبية أحدًا "لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم" لعدم تمكّن أحد من دخول المسجد من الخوف، "ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم"، "وذكره ابن النجار وابن زبالة" بفتح الزاي "بلفظ" أنَّ الأذان ترك في أيام الحرة ثلاثة أيام، وخرج الناس وسعيد بن المسيب في المسجد.
"قال سعيد -يعني ابن المسيب" فاستوحشت فدنوت من القبر، "فلمَّا حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر" الشريف، يحتمل من ملك موكّل بذلك، إكرامًا له عليه السلام، ويحتمل غير ذلك، فصليت ركعتين" نفلًا "ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر" اكتفاءً بذلك؛ لعلمه أنه حق، إلّا أن قوله: فلمَّا حضرت الظهر يقتضي أنه علم دخول الوقت قبل سماع الأذان، وصريح لرواية الأولى أنه لا يعرف الوقت إلا بسماع الهمهمة من القبر.
فإما ن يئول: حضرت الظهر، على معنى بسماع الأذان، وإمَّا أن المراد بالحضر في الوقت غير الظاهر كالظهر، "ثم مضى" أي: استمرَّ "ذلك الأذان والإقامة في القبر المقدَّس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال -يعني: ليالي أيام الحرة، كرامةً له وتأنيسًا لاستيحاشه بانفراده في المسجد.
"وقد روى البيهقي" في كتاب حياة الأنبياء وصحَّحه، "وغيره" كأبي يعلي والبزار وابن عدي "من حديث أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون" تلذذًا وإكرامًا.
"وفي رواية" للبيهقي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أحد فقهاء الكوفة، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا:"إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة" من موتهم، "ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور".
وله شواهد في الصحيح، منها: قوله في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: "مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره"، وفي حديث أبي ذر في قصة المعراج: أنه لقي الأنبياء
قال الحافظ: ومحمد سيء الحفظ، وذكر الغزالي ثم الرفعي حديثًا مرفوعًا:"أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث ولا أصلّ له" إلا أن أخذ من رواية ابن أبي ليلى هذه، وليس الأخذ بجيد، لأن روايته قابلة للتأويل.
قال البيهقي: إن صحَّ، فالمراد أنهم لا يتركون يصلون إلّا هذا القدر، ثم يكونون مصلين بين يدي الله تعالى. انتهى كلام الحافظ.
وفي جامع الثوري ومصنف عبد الرزاق، عن ابن المسيب، أنه رأى قومًا يسلِّمون على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما يمكث نبي في قبره أكثر من أربعين يومًا حتى يرفع، ولا يصح هذا عن ابن المسيب، كما قال شيخنا، بأنه لا يتركني على حالتي؛ بحيث لا يقوى تعلق الروح بالجسد على وجه يمنع من ذهاب الروح بعد تعلقها بالجسد؛ حيث شاءت متشكلة بصورة الجسد، وأمَّا الجسد فهو باقٍ إلى يوم القيامة، وقوله:"ما يمكث نبي" يعني: غير المصطفى، فغيره من الأنبياء إنما يقوى تعلق أرواحهم بأجسادهم بعد الأربعين، ومع ذلك هو صادق بأن يكون بعدها بزمن طويل أو يسير، وبهذا الجمع يندفع التعارض. انتهى.
لكن قوله: هو صادق لا يصح؛ لأنه خلاف قول الخبر: "لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة"، وخلاف قول ابن المسيب: ما يمكث نبي في قبره أكثر من أربعين، فإن صريحهما أن حدَّ المكث لا يزيد على الأربعين بقليل فضلًا عن الكثير "وله شواهد" أي: للحديث الأوّل كما في الفتح.
قال البيهقي: وشاهد الحديث الأوّل "في الصحيح منها قوله في صحيح مسلم" عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"مررت بموسى" ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر "وهو قائم يصلي في قبره" هذا لفظ مسلم، فاختصره المصنف كما ترى، قيل: المراد الصلاة اللغوية، أي: يدعو الله ويذكره ويثني عليه، وقيل: الشرعية.
قال القرطبي: ظاهره أنه رآه رؤية حقيقية في اليقظة، وأنه حي في قبره، يصلي الصلاة التي كان يصليها في الحياة وذلك ممكن، وفي الفتح: فإن قيل: هذا خاصّ بموسى، قلنا: له شاهد عند مسلم أيضًا عن أبي هريرة رفعه: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسرايط".
…
الحديث وفيه: وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء إلى أن قال: "فحانت الصلاة فأممتهم".
قال البيهقي: وفي حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه لقيهم ببيت المقدس.
"وفي حديث أبي ذر" ومالك بن صعصعة في الصحيحين، في قصة المعراج أنه لقي
في السموات، وكلموه وكلمهم. وقد ذكرت مزيد بيان لذلك في حجة الوداع من مقصد عباداته، وفي ذكر الخصائص الكريمة في مقصد معجزاته، وفي مقصد الإسراء والمعراج.
وهذه الصلوات والحج الصادر من الأنبياء ليس على سبيل التكليف، إنما هو على سبيل التلذذ، ويحتمل أن يكونوا في البرزخ ينسحب عليهم حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور من غير خطاب بتكليف، وبالله التوفيق.
وإذا ثبت بشهادة قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] حياة الشهيد، ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى، والذي عليه جمهور العلماء أنَّ الشهداء أحياء حقيقية، وهل ذلك للروح فقط أو للجسد معها؟ بمعنى عدم البلى، قولان.
الأنبياء في السموات وكلموه" وجمع البيهقي بين هذه الروايات بأنه رأى موسى قائمًا في قبره، ثم اجتمع به هو ومن ذكر من الأنبياء في السماوات، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اجتمعوا في بيت المقدس، فحضرت الصلاة فأمَّهم.
قال: وصلواتهم في أوقات مختلفة في أماكن مختلفة لا يرده العقل، وقد ثبت به النقل، فدلَّ على حياتهم "وقد ذكرت مزيد بيان لذلك في حجة الوداع من مقصد عباداته، وفي ذكر الخصائص الكريمة من مقصد معجزاته، وفي مقصد الإسراء والمعراج، وهذه الصلوات والحج الصادر من الأنبياء عليهم السلام ليس" المذكور على سبيل التكليف؛ لانقطاعه بالموت، "إنما هو على سبيل التلذذ" بها، فهو من النعيم.
وفي مسلم مرفوعًا: "إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس" ، ويحتمل أن يكونوا في البرزخ ينسحب" ينجر "عليهم حكم الدنيا"؛ لأنه قبل يوم القيامة، وكل ما قبله يعد من الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور من غير خطاب بتكليف" بل من عند أنفسهم لزيادة الأجر، "وبالله التوفيق، وإذا ثبت بشهادة قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ} هم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] الآية "حياة الشهداء فاعل ثبت "ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى؛ لأنه فوقهم درجات.
قال السيوطي: وقلّ نبي إلّا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة، فيدخلون في عموم الآية "والذي عليه جمهور العلماء أنَّ الشهداء أحياء حقيقة، وهل ذلك للروح فقط، أو الجسد معها، بمعنى عدم البلى" بالكسر مع القصر والفتح مع المد "فيه قولان"، وفيما نقله المصنف في
وقد صحَّ عن جابر: أن أباه وعمرو بن الجموح، وكانا مَمَّن استُشْهِدا بأحد، ودفنا في قبر واحد، حتى حفر السيل قبرهما، فوجدا لم يتغيرا، وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت، فرجعت كما كانت. وكان بين ذلك وبين أحد ست وأربعون سنة.
وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في شهداء أحد: "والذي نفسي
الخصائص عن السبكي: عود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح لسائر الموتى، فضلًا عن الشهداء، فضلًا عن الأنبياء، وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أنَّ البدن يصير حيًّا كحالته في الدنيا أو حيَّا بدونها، وهي حيث شاء الله تعالى، فإنَّ ملازمة الروح للحياة أمر عادي لا عقلي، فهذا مما يجوّزه العقل، فإن صحَّ به سمع أتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء، ويشهد له صلاة موسى في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدًا حيًّا.
"وقد صحَّ" عند ابن سعد "عن جابر" وهو في الموطأ من وجه آخر "أنَّ أباه" عبد الله بن عمرو -بفتح العين- ابن حرام بن ثعلبة الخزرجي، العقبي، البدري، "وعمرو" بفتح العين "ابن الجموح" بفتح الجيم وخفة الميم وإسكان الواو ومهملة- ابن زيد بن حرام بن كعب الخزرجي، من سادات الأنصار وأشرافهم وأجوادهم، "وكانا ممن استشهدا بأحدٍ ودفنا في قبر واحد" بأمره صلى الله عليه وسلم بقوله:"اجمعوا بينهما، فإنهما كانا متصادقين في الدنيا" كما عند ابن إسحاق "حتى حفر السيل قبرهما، فوجدا لم يتغيرا" زاد في الموطأ: كأنهما ماتا بالأمس، "وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت" نحيت "يده عن جرحه" ثم أرسلت، فرجعت كما كانت، دليل على الحياة، وكان بين ذلك، أي: حفر السيل قبرهما "وبين أحد، ولفظ الموطأ: وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة".
وفي الصحيح عن جابر: كان أبي أول قتيل، ودفن معه آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته، فجعلته في قبر على حدة، وظاهره يخالف حديث الموطأ هذا.
وجمع ابن عبد البر بتعدد القصة، ونظر فيه الحافظ بأن الذي في حديث جابر أنه دفن أباه وحده في قبر بعد ستة أشهر، وحديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد ستة وأربعين سنة، فإمَّا أنَّ المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو أنَّ السيل جرف أحد القبرين حتى صارًا واحدًا.
"وروي عنه عليه السلام أنه قال في شهداء أحد: "والذي نفسي بيده" إن شاء نزعها،
بيده، لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردوا عليه". رواه البيهقي عن أبي هريرة.
وقد قال ابن شهاب: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا من الصلاة علي في الليلة الزهراء واليوم الأزهر، فإنهما يؤديان عنكم، وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء" رواه أبو داود وابن ماجه.
ونقل ابن زبالة عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كلمه روح القدس لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه".
وقد ثبت أن نبينا صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا لأكله يوم خيبر من شاة مسمومة سمًّا قاتلًا من ساعته، حتى مات منه بشر بن البراء، وصار بقاؤه صلى الله عليه وسلم معجزة، فكان به ألم
وإن شاء أبقاها، "لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردوا عليه" السلام، "رواه البيهقي عن أبي هريرة" رضي الله عنه.
"وقد قال ابن شهاب" محمد بن مسلم الزهري: "بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا من الصلاة عليَّ في الليلة الزهراء" ، وفي نسخة: الغراء، لكن الذي في الشفاء: الزهراء، وهي المناسبة لقوله: "واليوم الأزهر" يعني: ليلة الجمعة ويومها، والمراد بالزهراء والأزهر الأبيض المستنير؛ لأن الزهر لا يطلق لغةً على غير النور الأبيض، وإن شاع بعد ذلك في مطلقه، ونورهما لبركتهما وما في ذلك اليوم من العبادة التي خُصّ بها، وساعة الإجابة، وغير ذلك، "فإنهما" أي: الليلة واليوم "يؤديان عنكم" بضم التحتية وفتح الهمزة وكسر المهملة المشددة، أي: يوصّلان صلاتكم إلي ويبلغانها لي، وإسناد ذلك للزمان مجاز، أي: تؤدي الملائكة فيهما، وكونهما يخلق لهما النطق بالأداء بعيد، وإن جاز، لكن التصريح بعده يحمل الملك يبعده أو يمنعه، "وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء"؛ لأنهم أحياء فلا تبلى أجسادهم، وهذا جواب سؤال مقدَّر، كأنه قبل: كيف يكون لمن مات وأكلته الأرض كما صرح به في حديث آخر، وإن -بكسر الهمزة، والجملة حالية أو بفتحها بتقدير: وبلغنا أن الأرض، وقيل: إنه بيان لخاصة أخرى والأول أَوْلَى.
"رواه أبو داود وابن ماجه" وزاد في الشفاء بعد قوله: "أجساد الأنبياء، وما من مسلم يصلي علي إلا حملها ملك حتى يؤديها ويسميه، حتى إنه يقول: إن فلانًا يقول لك كذا وكذا".
"ونقل ابن زبالة" بفتح الزاي "عن الحسن" البصري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كلمه روح القدس" جبريل عليه السلام، "لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه" إكرامًا له بالنبوة، وسرى ذلك الإكرام إلى بعض أتباعه كالعالم والشهيد والمؤذّن المحتسب.
وقد ثبت أن نبينا صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا؛ لأكله يوم خيبر من شاة مسمومة سمًّا قاتلًا من ساعته، حتى مات منه بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة "ابن البراء" بن معرور، "وصار بقاؤه
السم يتاعهده إلى أن مات به، ولذا قال في مرض موته -كما مَرَّ:"مازالت أكلة خيبر تعادّني حتى كان الآن قطعت أبهري".
والأبهران: عرقان يخرجان من القلب تتشعّب منهما الشرايين، كما ذكره في الصحّاح.
قال العلماء: فجمع الله له بذلك بين النبوّة والشهادة، انتهى.
وقد اختلف في محل الوقوف للدعاء، فعند الشافعية أنه قبالة وجهه -كما ذكرته، وقال ابن فرحون من المالكية: اختلف أصحابنا في محل الوقوف للدعاء، ففي الشفاء قال مالك -في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، وقد سأل الخليفة المنصور مالكًا
صلى الله عليه وسلم معجزة، فكان به ألم السمّ يتعاهده أحيانًا إلى أن مات به، ولذا قال في مرض موته -كما مَرّ:"ما زالت أكلة خيبر" بضم الهمزة ولا يصح فتحها؛ لأنها لقمة واحدة، "تعادّني" بشد الدال المهملة- تأتي مرة بعد أخرى، "حتى كان الآن قطعت أبهري" بفتح الهمزة والهاء بينهما موحدة ساكنة، "والأبهران عرقان يخرجان من القلب تتشعّب منهما الشرايين، بمعجمة وتحتيتين- العروق النابضة، واحدها شريان "كما ذكره في الصحاح"
قال العلماء: فجمع الله له بذلك بين النبوة والشهادة. انتهى" ولأحمد والحاكم وغيرهما عن ابن مسعود، قال: لأن أحلف تسعًا أنه صلى الله عليه وسلم قتل قتلًا أحبَّ إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبيًّا واتخذه شهيدًا.
"وقد اختلف في محل الوقوف للدعاء، فعند الشافعية أنه قبالة" بضم القاف "وجهه صلى الله عليه وسلم كما ذكرته" سابقًا، "وقال ابن رحون من المالكية: اختلف أصحابنا في محل الوقوف للدعاء" لم يذكر خلافًا في ذلك، وإنما ذكر هل يدعو أم لا؟ وإذا دعا يستقبل القبر قطعًا كما ترى، ففي الشفاء" لعياض: "قال مالك في رواية ابن وهب" عبد الله، من أجَلّ أصحابه:"إذا سلم" الزائر على النبي صلى الله عليه وسلم" ودعا، يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة"، كما يستحب للداعي في غير هذا الموطن؛ لأن استدباره خلاف الأدب.
وقد سأل الخليفة المنصور مالكًا فقال: يا أبا عبد الله" خاطبه بكنيته تعظيمًا "أستقبل القبلة" أصله أأستقبل بهمزتين، همزة الاستفهام وهمزة المضارع المتكلم، فحذفت الأولى للتخفيف ووجود القرينة، وقد ورد حذفها كثيرًا كقوله:
فوالله ما أدري وإن كنت داريا
…
بسبع رمين الجمر أم بثمان
فقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك، ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة. وقال مالك في "المبسوط": لا أرى أن يقف عند القبر يدعو، ولكن يسلم ويمضي. قال ابن فرحون: ولعلَّ ذلك ليس اختلاف قول، وإنما أمر المنصور بذلك؛ لأنه يعلم ما يدعو به، ويعلم آداب الدعاء بين يديه صلى الله عليه وسلم، فأمِنَ عليه من سوء الأدب، فأفتاه بذلك، وأفتى العامَّة أن يسلموا وينصرفوا لئلَّا يدعوا تلقاء وجهه الكريم ويتوسَّلوا به
أراد أبسبع، وهو من خصائص الهمزة، "وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: أجعل وجهي مقابلًا لجهته، وحينئذ أستدبر القبلة، فلذا أشكل عليه؛ لأن استقبالها في الدعاء مشروع، فإذا عارضه هذا فأيهما يقدَّم، "فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه" أي: عن مقابلته ومواجهته حال الدعاء، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك أدم عليه السلام" الوسيلة: السبب المتوصّل به إلى إجابة الدعاء، وكنَّى بآدم عن جميع الناس، أي: هو الشفيع المشفّع المتوسّل به، "إلى الله يوم القيامة" إشارة إلى حديث الشفاعة العظمى، وإلى ما ورد أن الداعي إذا قال: اللهم إني أستشفع إليك بنبيك، يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك، استجيب له، وبقيته كما في الشفاء: بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله، قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64] وإنما أعاد هذا المصنف وإن قدَّمه آنفًا لوقوعه في كلام ابن فرحون نقلًا عن الشفاء، لكن سؤال المنصور أورده في الشفاء بإسناده في الباب الثالث، ثم بعده يطول في حكم زيارة قبره.
أورد رواية ابن وهب والمبسوط دون الحكاية، فجمع بينهما ابن فرحون، ونسبة للشفاء وهو صادق؛ لأنه كله فيه في موضعين، وإنما نبعت على هذا لئلّا يقف ناقص العلم على أحد الموضعين فينكر الآخر.
وقال مالك في المبسوط" اسم كتاب لإسماعيل القاضي: "لا أرى" لا أستحب، وأعده رأيًا "أن يقف عند القبر يدعو" أي: حال كونه داعيًا؛ "لكن يسلِّم" عليه "ويمضي" ينصرف من غير وقوف.
"قال ابن فرحون: ولعلَّ ذلك ليس اختلاف قول" هكذا في النسخ الصحيحة، ليس، وهو الذي يتأتَّى ترجيه؛ إذ كونه اختلافًا صريحًا ظاهرًا لا يترجى، ولهذا ولما بعده أشكل سقوط ليس في بعض النسخ، وتعسّف توجيهها لمنابذتها لقوله:"وإنما أمر المنصور بذلك؛ لأنه يعلم ما يدعو به، ويعلم آداب الدعاء بين يديه صلى الله عليه وسلم، فأمن عليه من سوء الأدب، فأفتاه بذلك"؛ لأنه كان عالمًا" وأفتى العامة أن يسلِّموا وينصرفوا" بدون دعاء "لئلَّا يدعو تلقاء" بكسر فسكون،
في حضرته إلى الله العظيم فيما لا ينفي الدعاء به، أو فيما يكره أو يحرم، فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة، وأكثرهم لا يقوم بآداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسلام والانصراف. انتهى.
ورأيت مما نسب للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، ولا يصلي إليها ولا يقبلها، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك، والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذب على مالك، وكذا قال والله أعلم، انتهى.
أي: مقابل "وجهه الكريم، ويتوسَّلوا به في حضرته إلى الله العظيم، فيما لا ينبغي الدعاء به، أو فيما يكره أو يحرم، فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة، وأكثرهم لا يقوم بآداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسلام والانصراف. انتهى".
ومقتضى كلام العلامة خليل في مناسكه، أنَّ المعتمد رواية ابن وهب ولو للعامّة، لكن يعلمون وينهون عمَّا لا ينبغي الدعاء به، "ورأيت مما نسب للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة ولا يصلي إليها ولا يقبلها، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة" هو مسلِّم في التقبيل والصلاة، وأمَّا الدعاء فإن الجمهور ومنهم الشافعية والمالكية والحنفية على الأصح، عندهم كما قال العلامة الكمال ابن الهمَّام على استحباب استقبال القبر الشريف، واستدبار القبلة لمن أراد الدعاء، "ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك" يقال له: في أي كتاب نصَّ على كراهته، فإنه نصَّ في رواية ابن وهب عنه وهو من أجلّ أصحابه على أنه يقف للدعاء، وأقل مراتب الطلب الاستحباب.
وجزم به الحافظ أبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبد الرحمن، وغيرهما من أئمة مذهب مالك، وجزم به العلامة خليل بن إسحاق في مناسكه، أفما يستحيي هذا الرجل من تكذيبه بما لم يحط بعلمه، وليس في قوله في المبسوط: لا أرى أن يقف عند القبر للدعاء تصريح بالكراهة، لجواز أنه أراد خلاف الأولى، مع أنا إذا سلكنا الترجيح على طريقة أصحاب الحديث، فرواية ابن وهب مقدَّمة لاتصالها على رواية إسماعيل؛ لأنه لم يدرك مالكًا، فهي منقطعة، "والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذب على مالك، كذا قال والله أعلم" تبرأ منه؛ لأن الحكاية رواها أبو الحسن علي بن فهر في كتابه: فضائل مالك، ومن طريقه الحافظ أبو الفضل عياض في الشفاء بإسنادٍ لا بأس به، بل قيل: إنه صحيح، فمن أين أنها كذب، وليس في رواتها كذّاب ولا وضَّاع، ولكنه لما ابتدع له مذهبًا وهو عدم تعظيم القبور ما كانت، وأنها إنما تزار للاعتبار والترحّم، بشرط أن لا يشد إليها رحل، صار كل ما خالف ما ابتدعه بفاسد عقله
وأما قول الأبوصيري في بردة المديح:
لا طيب يعدل تربًا ضم أعظمه
…
طوبى لمنتشق منه وملتثم
فقال شارحها العلامة ابن مرزوق وغيره: كأنَّه إشارة إلى النوعين المستعملين في الطيب؛ لأنه إمَّا أن يستعمل بالشمّ، وإليه أشار بقوله "لمنتشق"، وإما بالتضمخ وإليها أشار بـ "ملتثم"، قال: وأقلّ ذلك بتعفير جبهته وأنفه بتربته حال السجود في مسجده صلى الله عليه وسلم، فليس المراد به تقبيل القبر الشريف، فإنه مكروه.
ونقل الزركشي عن السيرافي: أن "طوبى" الطيب، وكذا قال ابن مرزوق: طوبى فعلى من أنواع الطيب.
وهذا مبني على أنَّ المراد أنَّ تربته أفضل أنواع الطيب باعتبار الحقيقة الحسية، وذلك إمَّا لأنه كذلك في نفس الأمر، أدركه من أدركه أم لا، وإما باعتبار اعتقاد المؤمن في ذلك، فإن المؤمن لا يعدل بشمّ رائحة تربته عليه السلام شيئًا من
عنده كالصائل لا يبالي بما يدفعه، فإذا لم يجد له شبهة واهية يدفعه بها بزعمه، انتقل إلى دعوى أنه كذب على من نسب إليه مباهتة ومجازفة، وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله، "وأما قول الأبوصيري" صوابه البوصيري كما مَرَّ "في بردة المديح":
لا طيب يعدل تربًا ضمَّ أعظمه
…
طوبى لمنتشق منه وملتثم
"فقال شارحها العلامة" محمد بن محمد "بن مرزوق وغيره: كأنه أشار إلى النوعين المستعملين في الطيب؛ لأنه إمَّا أن يستعمل بالشمّ، وإليه أشار بقوله: لمنتشق"؛ لأن الانتشاق الشمّ، "وإما بالتضمخ، وإليه أشار بملتثم، قال: وأقلّ ذلك بتعفير جبهته وأنفه بتربته حال السجود في مسجده عليه السلام، فليس المراد به" أي: بلمتثم "تقبيل القبر الشريف، فإنه مكروه" إلّا لقصد تبرُّك فلا كراهة كما اعتمده الرملي.
"ونقل الزركشي عن السيرافي:" بكسر السين وبالفاء- نسبة إلى سيراف، بلد بفارس، أبي سعيد الحسن بن عبد الله، صاحب التصانيف، ولد قبل السبعين ومائتين، ومات ببغداد في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة، "أن طوبى الطيب، وكذا قال ابن مرزوق: طوبى فعلى" بضم الفاء "من الطيب" أي: لا الجنة والشجرة؛ إذ لا يقطع بذلك للشام ولا الملتثم، "وهذا مبني على أن المراد أن تربته أفضل أنواع الطيب باعتبار الحقيقة الحسية، وذلك إمَّا لأنه كذلك في نفس الأمر، أدركه من أدركه أم لا، وإمَّا باعتبار اعتقاد المؤمن في ذلك، فإن المؤمن الكامل لا يعدل بشمّ رائحة تربته عليه السلام من الطيب" بل هو عنده أجلّ كما قالت فاطمة:
الطيب:
فإن قلت: لو كان المراد الحقيقة الحسية لأدرك ذلك كل أحد.
فالجواب: لا يلزم من قيام المعنى بمحل إدراكه لكل أحد، بل حتى توجد الشرائط، وتنتفي الموانع، وعدم الإدراك لا يدل على عدم المدرك، وانتفاء الدليل لا يدل على انتفاء المدلول، فالمزكوم لا يدرك رائحة المسك، مع أن الرائحة قائمة بالمسك لم تنتف عنه.
ولما كانت أحوال القبر من الأمور الأخروية، لا جرم لا يدركها من الأحياء إلّا من كشف له الغطاء من الأولياء المقرَّبين؛ لأن متاع الآخرة باقٍ، ومن الدنيا فانٍ، والفاني لا يتمتع بالباقي للتضاد، ولا ريب عند من له أدنى تعلّق بشريعة الإسلام أن قبره صلى الله عليه وسلم روضة من رياض الجنة، بل أفضلها، وإذا كان القبر كما ذكرنا وقد حوى جمسه الشريف عليه الصلاة والسلام الذي هو أطيب الطيب، فلا مرية أنه لا طيب يعدل تراب قبره المقدّس. ويرحم الله أبا العباس أحمد بن محمد العريف حيث يقول في قصيدته التي أولها:
ماذا عليَّ من شم تربة أحمد
…
أن لا يشم مدى الزمان غواليا
"فإن قلت: لو كان المراد الحقيقة الحسية لأدرك ذلك كل أحد"، والواقع أن أكثر الناس لا يدركون ذلك "فالجواب لا يلزم من قيام المعنى بمحل إدراكه لكل أحد، بل حتى توجد الشروط وتنتفي الموانع، وعدم الإدراك لا يدل على عدم المدرك، وانتفاء الدليل لا يدل على انتفاء المدلول، فالمزكوم لا يدرك رائحة المسك، مع أن الرائحة قائمة بالمسك لم تنتف" أي: لم تزل "عنه"، خصَّه لأنه أطيب الطيب، وطيبه ظاهر، "ولما كانت أحوال القبر من الأمور الأخروية ولا جرم" لا خفاء، جواب لما، وفي نسخ: بدون لما، كانت "لا يدركها من الأحياء إلّا من كشف له الغطاء من الأولياء المقرَّبين؛ لأن متاع الآخرة باق ومن في الدنيا فان" هالك، "والفاني لا يتمتَّع بالباقي للتضاد بينهما، "ولا ريب عند من له أدنى تعليق بشريعة الإسلام، أنَّ قبره صلى الله عليه وسلم روضة من رياض الجنة" كما صحَّ عنه القبر روضة من رياض الجنة. الحديث، "بل أفضلها" أي: الجنة للإجماع على أن أفضل البقاع، "وإذا كان القبر كما ذكرناه" روضة، "وقد حوى جسمه الشريف عليه الصلاة والسلام الذي هو أطيب الطيب، فلا مرية" بكسر الميم، أنه لا طيب يعدل تراب قبره المقدّس، ويرحم الله أبا العباس أحمد بن محمد العريف؛ حيث يقول في قصيدته التي أولها:"
إذا ما حدا الحادي بأحمال يثرب
…
فليت المطايا فوق خدي تعبق
ثم قال بعد أبيات:
فما عبق الريحان إلّا وتربها
…
أجلّ من الريحان وأعبق
راحت ركائبهم تبدي روائحها
…
طيبًا فيا طيب ذاك الوفد أشباحًا
نسيم قبر النبي المصطفى لهم
…
روض إذا نشروا من ذكره فاحا
ولله در القائل:
فاح الصعيد بجسمه فكأنه
…
روض ينمّ بعرفه المتأرج
ما جسمه مما يغيره الثرى
…
والروح منه كالصباح الأبلج
إذا ما حدا الحادي بأحمال يثرب
…
فليت المطايا فوق خدي تعبق
الأولى بأحمال طيبة للنهي عن تسميتها يثرب، وإنما سميت في القرآن حكاية عن المنافقين، وتعبّق -بضم الفوقية وفتح المهملة وكسر الموحدة مشددة- أي: تظهر رائحة التراب المتعلق بخفافها بأن تمشي على خدي فيصل التراب إليهما، وفي نسخة: تعنق -بضم الفوقية وسكون المهملة وكسر النون- أي: تسير سيرًا فسيحًا سريعًا "ثم قال بعد أبيات"، وهو يقوي الضبط الأول:
فما عبق الريحان إلا وتربها
…
أجل من الريحان طيبًا وأعبق
وله أيضًا:
راحت ركائبهم تبدي روائحها
…
طيبًا فيا طيب ذاك الوفد أشباحا
تبدي -بموحدة- تظهر وتنشر، وفي نسخة: تندي -بفوقية مفتوحة ونون ساكنة- من الندى، وهي ظاهرة.
نسيم قبر النبي المصطفى لهم
…
روض إذا نشروا من ذكره فاحا
أي: إذا ذكروا من شمائله ومعجزاته شيئًا فاحت رائحتها، كما تفوح رائحة المسك المستعمل في بدن ونحوه، كذا في الشرح، والظاهر أنَّ ضمير ذكره للقبر، أي: إذا نشروا شيئًا من ذكر القبر، وأنه خير البقاع، وحوى خير الخلائق، وله ولصاحبه عند الله ما تقصر عنه العقول، ونحو ذلك فاح.
ولله در القائل: فاح الصعيد بجسمه، فكأنه روض ينم" بكسر النون وضمها- أي: يظهر ويفوح، "بعرفه" طيبه المتأرج" بالجيم- المتوهج ريحه -كما في القاموس، "ما جسمه مما يغيره الثرى" التراب "والروح منه كالصباح الأبلج" أي: النير.
وقال ابن بطال في قوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة يَنْصَع طيبها" ، هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها مع فراق الأهل، والتزام المخافة من العدو، فلمَّا باع نفسه من الله، والتزم هذا الأمر بأن صدقه، ونصع إيمانه وقوي لاغتباطه بسكنى المدينة، وبقربه من رسوله، كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقًا على سائر البلاد، خصوصية خصَّ الله بها بلدة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اختار تربتها المباشرة جسده الطيب المطهّر، وقد جاء في الحديث:"إن المؤمن يقبر في التربة التي خلق منها".
وقال ابن بطال" علي أبو الحسن في شرح البخاري "في قوله عليه الصلاة والسلام" لما جاءه أعرابي فبايعه، فجاء من الغد محمومًا فقال: أقلني، فأبى ثلاث مرار، فخرج فقال صلى الله عليه وسلم: "المدينة" كالكبر تنفي خبثها "وينصع طيبها".
قال المصنف: بفتح الطاء وشد التحتية وبالرفع فاعل ينصع بفتح التحتية وسكون النون وصاد مهملة مفتوحة وعين مهملة من النصوع وهو الخلوص، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: وتنصع -بفوقية- طيبها -بكسر الطاء وسكون التحتية- منصوب على المفعولية، والرواية الأولى قال أبو عبد الله الأبي: هي الصحيحة، وهي أقوم معنى، وأي مناسبة بين الكير والطيب. انتهى.
وهذا تشبيه حسن؛ لأن الكير لشدة نفخه ينفي عن النار السخام والرماد والدخان، حتى لا يبقى إلا خالص الجمر، وهذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار، وإن أريد به الموضع، فالمعنى أنَّ ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والفضة والذهب، ويخرج خلاصة ذلك، والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمَّى والوصب وشدة العيش، وضيق الحال التي يخلص النفس من الاسترسال في الشهوات، وتظهر خيارهم وتزكيهم. انتهى.
"هو مثل ضربه" صلى الله عليه وسلم "للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها" أي: شدتها "مع فراق الأهل، والتزام المخافة من العدو" أي: من بينه وبينه عداوة سابقًا، فإنه إذا لم يكن بين أهله لا يجد في الغالب معاونًا على من يريد به سوءًا، أو المراد الشيطان، فإنه أعدى عدو الإنسان، "فلمَّا باع نفسه من الله والتزم هذا الأمر بان" أي: ظهر "صدقه، ونصع" أي: خلص "إيمانه، وقوي لاغتباطه" بغين معجمة- فرحه، "بسكنى المدينة، وبقربه من رسوله، كما ينصع" يسطع ويظهر ويخلص "ريح الطيب فيها ويزيد عبقًا" بفتحتين- مصدر عبق الطيب كفرح، بالمكان أقام فيه "على سائر البلاد خصوصية، خص الله بها بلدة رسوله عليه الصلاة والسلام الذي اختار تربتها المباشرة جسده الطيب المطهر".
"وقد جاء في الحديث: "إن المؤمن يقبر في التربة التي خلق منها، فكانت بهذا".
فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب، كما أنه هو صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، فلهذا والله أعلم يتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلدان، انتهى.
وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرّع والاستغاثة والتشفّع والتوسّل به صلى الله عليه وسلم، فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه.
واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ: الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التجوّه أو التوجّه؛ لأنهما من الجاه والوجاهة ومعناه: علوّ القدر والمنزلة.
وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثم إن كلًّا من الاستغاثة والتوسّل والتشفع والتوجه بالنبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكره في "تحقيق النصرة"، و "مصباح
بسببه "تربة المدينة أفضل الترب" أي: جميعها لا خصوص القبر الشريف، يعني: إنه سرى بسبب كون القبر الكريم فيها، تفضيل باقي تربتها على جميع الترب، وابن بطال مالكي قائل بفضل المدينة على غيرها، فعجيب نقل كلام في أن قبره أفضل بالإجماع، أما أولًا فلأنه ليس المراد القبر؛ إذ لا نزاع فيه، وأما ثانيًا، فلأنه يأتي للمصنف قريبًا مبسوطًا، وأما ثالثًا، فقوله:"كما أنه عليه الصلاة والسلام أفضل البشر، فلهذا والله أعلم يتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلدان. انتهى". صريح في أن المراد ما قلته.
"وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرّع والاستغاثة والتشفُّع والتوسّل به صلى الله عليه وسلم، فجدير" أي: حقيق "بمن استشفع به أن يشفّعه الله تعالى فيه"، ونحو هذا في منسك العلامة خليل، وزاد وليتوسّل به صلى الله عليه وسلم، ويسأل الله تعالى بجاهه في التوسّل به؛ إذ هو محطّ جبال الأوزار وأثقال الذنوب؛ لأن بركة شفاعته وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو المحروم الذي طمس الله بصيرته وأضل سريرته، ألم يسمع قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} انتهى.
ولعل مراده التعريض بابن تيمية، "واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث" الإعانة والنصر، "فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ الاستغاثة أو التوسّل أو التشفع أو التجوّه -بجيم قبل الواو، "أو التوجّه" بتقديم الواو على الجيم؛ لأنهما من الجاه والوجاهة، ومعناه: علو القدر والمنزلة" الرتبة.
"وقد يتوسّل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه" كالتوسّل بالمصطفى إلى الله، ثم إنَّ كلًّا من الاستغاثة والتوسّل والتشفّع والتوجّه بالنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره في تحقيق النصرة
الظلام" واقع في كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة.
فأمّا الحالة الأولى: فحسبك ما قدمته في المقصد الأول من استشفاع آدم عليه السلام به لما أخرج من الجنة، وقول الله تعالى له: يا آدم، لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفعناك. وفي حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقي وغيرهما: وإن سألتني بحقّه فقد غفرت لك. ويرحم الله ابن جابر حيث قال:
به قد أجاب الله آدم إذ دعا
…
ونجَّى في بطن السفينة نوح
وما ضرت النار الخليل لنوره
…
ومن أجله نال الفداء ذبيح
وصحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي، قال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه، قال: يا رب، إنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت قوائم العرش مكتوبًا عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنك لا
ومصباح الظلام" في المستغيثين بخير الأنام""واقع في كل حال قبل خلقه، وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا، وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة" جمع عرصة، كل موضع لا بناء فيه "فأمَّا الحالة الأولى" قبل خلقه "فحسبك ما قدمته في المقصد الأوّل من استشفاع آدم به عليه الصلاة والسلام لما خرج من الجنة، وقول الله تعالى له: يا آدم، لو تشفَّعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأض لشفعناك" أي: لقبلنا شفاعتك.
وفي حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقي وغيرهما: "وإن" للتعليل "سألتني بحقه غفرت لك" ما وقع منك "ويرحم الله ابن جابر حيث قال":
به قد أجاب الله آدم إذ دعا
…
ونجى في بطن السفينة نوح
وما ضرت النار الخليل لنوره
…
ومن أجله نال الفداء ذبيح
"وصحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي، قال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه، قال: يا رب، إنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسي، فرأيت قوائم العرش مكتوبًا عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنك لا تضيف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال الله:
تضيف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك". ذكره الطبري، وزاد فيه: "وهو آخر الأنبياء من ذريتك".
وأمَّا التوسل به بعد خلقه في مدة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع ونحو ذلك مما ذكرته في مقصد المعجزات ومقصد العبادات في الاستسقاء، ومن ذلك استغاثة ذوي العاهات به، وحسبك ما رواه النسائي والترمذي عن عثمان بن حنيف، أن رجلًا ضريرًا أتاه صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربك في حاجتي لتقضي، اللهم شفّعه في" وصحَّحه البيهقي،
تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقك" ذكره الطبري، وزاد فيه: "وهو آخر الأنبياء من ذريتك".
نجي -بضم النون وشد الجيم، "وأمَّا التوسل به بعد خلقه مدة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به عليه الصلاة والسلام عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع، ونحو ذلك مما ذكرته في مقصد المعجزات ومقصد العبادات في الاستسقاء، ومن ذلك: استغاثة ذوي العاهات به، وحسبك:" كافيك على طريق الإجمال.
"ما رواه النسائي والترمذي" والحاكم وقال على شرطهما، "عن عثمان بن حنيف" بمهملة ونون- مصغَّر، الأنصاري الأوسي، صحابي شهير، استعمله عمر على مساحة أرض الكوفة وعل البصرة، ومات في خلافة معاوية:"أن رجلًا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني" من العمى.... اسقط من الحديث، فقال:"إن شئت أخَّرت وهو خير"، وفي رواية:"إن شئت صبرت فهو خير لك وإن شئت دعوت".
قال: فادعه "قال" عثمان: "فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه" بالإتيان بفرائضه ونوافله، وتجنب مكروهاته، "ويدعو بهذا الدعاء" وهو:"اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك" الباء للتعدية "محمد" صرَّح باسمه تواضعًا؛ لأن التعليم منه "نبي الرحمة" إلي، أرسله الله رحمة للعالمين.
وفي الحديث: "إنها رحمة مهداة"، "يا محمد إني أتوجّه" أي: أستشفع والباء في "بك" للاستعانة "إلى ربك في حاجتي لتقضى" أي: ليقضيها ربك لي بشفاعتك، سأل الله أولًا أن
وزاد: فقام وقد أبصر.
وأمَّا التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد موته في البرزخ، فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء، وفي كتاب "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" للشيخ أبي عبد الله بن النعمان طرف من ذلك.
ولقد كان حصل لي داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به صلى الله عليه وسلم ليلة الثامن والعشرين من جمادي الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة، بمكة زداها الله شرفًا، ومنَّ عليَّ بالعود في عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذا جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة، بعد الإذن الشريف النبوي، ثم استيقظت فلم أجد بي- والله شيئًا مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبي صلى الله عليه وسلم.
ووقع لي أيضًا في سنة خمس وثمانين وثمانمائة في طريق مكة، بعد رجوعي من الزيارة الشريفة لقصد مصر، أن صرعت خادمتنا غزال الحبشية، واستمر بها
يأذن لنبيه أن يشفع، لقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، ثم أقبل على النبي ملتمسًا شفاعته، ثم كر مقبلًا على ربه أن يقبلها، فقال:"اللهم شفعه فيّ" اقبل شفاعته، "وصحَّحه البيهقي وزاد" في روايته: "فقام وقد أبصر ببركته صلى الله عليه وسلم.
وكذا رواه البخاري في تاريخه، وأبو نعيم، وللنسائي: فرجع وقد كشف الله عن بصره، وللطبراني: كأن لم يكن به ضر، قيل: لم يدع له بنفسه؛ لأنه لم يختر الصبر مع قوله: فهو خير لك، فجبر خاطره بأمره بالوضوء، وأن يدعو بنفسه متوسلًا به بهذا الدعاء.
"وأما التوسّل به صلى الله عليه وسلم بعد موته في البرزخ، فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء، وفي كتاب مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام للشيخ أبي عبد الله بن النعمن طرف من ذلك، ولقد كان حصل لي داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به صلى الله عليه وسلم ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة، بمكة زادها الله شرفًا، ومنَّ عليَّ بالعود إليها في عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذا رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف النبوي، ثم استيقظت فلم أجد بي والله شيئًا مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا وما بعده ذكر المصنف تحدثًا بنعمة الله، "ووقع لي أيضًا في سنة خمسين وثمانين وثمانمائة بطريق مكة بعد رجوعي من الزيارة الشريفة؛ لقصد مصر أن صرعت
أيامًا، فاستشفعت به صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني آتٍ في منامي، ومعه الجني الصارع لها، فقال: لقد أرسله لك النبي صلى الله عليه وسلم فعاتبته، وحلفته أن لا يعود إليها، ثم استيقظت وليس بها قلبة كأنما نشطت من عقال، ولا زالت في عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة سنة أربع وتسعين وثمانمائة، والحمد لله رب العالمين.
وأما التوسّل به صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة، فما قام عليه الإجماع، وتواترت به الأخبار في حديث الشفاعة.
فعليك أيها الطالب إدراك السعادة الموصّل لحسن الحال في حضرة الغيب والشهادة، بالتعلق بأذيال عطفه وكرمه، والتطفل على موائد نعمه، والتوسُّل بجاهه الشريف، والتشفُّع بقدره المنيف، فهو الوسيلة إلى نيل المعالي واقتناص المرام، والمفزع يوم الجزع والهلع لكافة الرسل الكرام، واجعله أمامك فيما نزل بك من النوازل، وإمامك فيما تحاول من القرب والمنازل، فإنك تظفر من المراد بأقصاه،
خادمتنا غزال الحبشية، واستمرَّ بها أيامًا، فاستغثت به صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني آتٍ في منامي، ومعه الجني الصارع لها، فقال: لقد أرسله لك النبي صلى الله عليه وسلم فعاتبته" لمته، قال الخليل: حقيقة العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، "وحلَّفته أن لا يعود إليها، ثم استيقظت وليس بها قلبة -بفتح القاف واللام والموحدة- داء وتعب، "كأنما نشطت" بكسر الشين- حلت وأطلقت "من عقال -بالكسر: ما يعقل به الإبل ولا زالت" أي: استمرَّت، "في عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة في سنة أربع وتسعين وثمانمائة، والحمد لله رب العالمين".
"وأما التوسّل به صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة، فما قام عليه الإجماع، وتواترت به الأخبار في حديث الشفاعة"، ويأتي في المصنف:"فعليك أيها الطالب إدراك" بالنصب- مفعول السعادة الموصل" ذلك الإدراك "لحسن الحال في حضرة الغيب والشهادة، بالتعلق بأذيال عطفه" بكسر العين المهملة- جانبه، "وكرمه، والتطفل على موائد نعمه" أي: التضرع بطلب ما يحتاج إليه، ويتقرّب إلى الله به، وإن لم يكن أهلًا لتلك الحضرات الشريفة، وعبَّر عن ذلك تشبيهًا للمقصر في الطاعة إذا طلب ما يليق بالخواص بالداخل وليمة بلا دعوة المسمى بالطفيلي، "والتوسل بجاهه الشريف، والتشفع بقدره المنيف، فهو الوسيلة إلى نيل المعالي، واقتناص" أي: صيد "المرام، والمفزع يوم الجزع" بفتح الجيم والزاي- خلاف الصبر، "والهلع" بفتحتين- الجزع، فالعطف للتفسير، "لكافة الرسل الكرام، واجعله أمامك" بالفتح- أمامك، "فيما نزل بك من النوازل وإمامك" بالكسر- قدوتك فيما تحاول من القرب والمنازل، فإنك تظفر من المراد
وتدرك رضى من أحاط بكل شيء علمًا وأحصاه، واجتهد ما دمت بطيبة الطيبة حسب طاقتك في تحصيل أنواع القربات، ولازم قرع أبواب السعادات بأظافير الطلبات، وارق في مدارج العبادات، ولج في سرادق المرادات.
تمتع إن ظفرت بنيل قرب
…
وحصل ما استطعت من ادخار
فها أنا قد أبحت لكم عطائي
…
وها قد صرت عندي في جواري
فخذ ما شئت من كرم وجود
…
ونل ما شئت من نعم غزار
فقد وسعت أبواب التداني
…
وقد قرب للزوار داري
فمتّع ناظريك فها جمالي
…
تجلى للقلوب بلا استتار
ولازم الصلوات مكتوبة ونافلة في مسجده المكرّم، خصوصًا بالروضة التي ثبت أنها روضة من رياض الجنة. كما رواه البخاري.
بأقصاه وتدرك" تصل وتنال رضى من أحاط بكل شيء علمًا وأحصاه، واجتهد ما دمت بطيبة الطيبةحسب طاقتك" قدرتك "في تحصيل أنواع القربات، ولازم قرع أبواب السعادات بأظافير" جمع ظفر -بضم فسكون وبضمتين- كما في القاموس "الطلبات" جمع طلبة، وزن كلمة وكلمات، ما تطلبه من غيرك، "وارق" اصعد "في مدارج العبادات، ولج" بكسر اللام وجيم- أمر من ولج يلج، أي: ادخل في جوانب، "سرادق" أي: خيام "المرادات"، ولا يخفى ما في هذه الألفاظ من الاستعارات يعلمها من له تعلق بألفاظ العبارات، وأنشد المصنف:
تمتع إن ظفرت بنيل قرب
…
وحصل ما استطعت من ادخار
أصله إذ تخار بذال فتاء، قلبت التاء دالًا لوقوعها بعد ذال معجمة، ثم قلبت دالًا وأدغمت في الدال المهملة المبدلة من التاء، ويجوز إبقاء المعجمة على أصلها، فيقال إذ دخار، ويجوز قلب المهملة معجمة، ثم تدغم فيها المعجمة، فيقال اذخار:
فها أنا قد أبحث لكم عطائي
…
وها قد صرت عندي في جواري
فخذ ما شئت من كرم وجود
…
ونل ما شئت من نعم غزار
فقد وسعت أبواب التداني
…
وقد قربت للزوار داري
فمتع ناظريك فها جمالي
…
تجلّى للقلوب بلا استشاري
"ولازم الصلوات مكتوبة ونافلة في مسجده المكرَّم، خصوصًا بالروضة التي ثبت أنها روضة من رياض الجنة -كما رواه البخاري" ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم
قال ابن أبي جمرة: معناه: تنقل تلك البقعة بعينها في الجنة، فتكون روضة من رياض الجنة، قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا، يعني: احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة، قال: ولكل وجه منهما دليل يعضّده ويقويه من جهة النظر والقياس.
أما الدليل على أنَّ العمل فيها يوجب روضة في الجنة، فلأنه إذا كانت الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف فيما سواه من المساجد، فلهذه البقعة زيادة على باقي البقع، كما كان للمسجد زيادة على غيره.
وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة، وكون المنبر أيضًا على الحوض، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وأن الجذع في الجنة، والجذع في البقعة نفسها، فالعلة التي
قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي".
"قال ابن أبي جمرة: معناه: تنقل تلك البقعة"، وقدرها ثلاث وخمسون ذراعًا، وقيل: أربع وخمسون وسدس، وقيل: خمسون إلّا ثلثي ذراع، وهو الآن كذلك، فكأنَّه نقص لما أدخل بين الحجرة في الجدار، قاله الحافظ، "بعينها" يوم القيامة، فتجعل "في الجنة فتكون روضة من رياض الجنة".
"قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا" إذ لا تخالف بينهما "يعني: احتمال كونها تنقل إلى الجنة، واحتمال كون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة".
قال: ولكل وجه منهما" أي: الاحتمالين، وفي نسخة: منها، أي: الاحتمالين، والجمع بينهما "دليل يعضده ويقويه" عطف تفسير من جهة النظر والقياس.
"أمَّا الدليل على أنَّ العمل فيها يوجب روضة في الجنة، فلأنه إذا كانت الصلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام بألف فيما سواه من المساجد، فلهذه البقعة زيادة على باقي البقع" بضم ففتح- جمع بقعة "كما كان للمسجد زيادة على غيره"، واعترض هذا بأنه لا اختصاص لذلك بتلك البقعة، فالعمل في أي مكان، كذلك وأجيب بأنها سبب قوي يوصّل إليها على وجه أتم من بقية الأسباب، وبأنها سبب لروضة خاصَّة أجلّ من مطلق الدخول والتنعم، فإن أهل الجنة يتفاوتون في منازلها بقدر أعمالهم، "وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة، وكون المنبر أيضًا على الحوض، كما أخبر عليه الصلاة والسلام" في بقية الحديث، "وأن" بالواو كما في نسخ صحيحة، عطف على كونها، أي: وعلى أن "الجذع في الجنة والجذع"
أوجبت للجذع الجنة هي في البقعة سواء، على ما أذكره بعد إن شاء الله تعالى.
والذي أخبر بهذا أخبر بهذا فينبغي الحمل على أكمل الوجوه، وهو الجمع بينهما، لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن البقعة المباركة، ما فائدة بركتها لنا، والإخبار بها لنا إلا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضًا، فعلى هذا يكون الموضع روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة كما كان في موضعه، ويكون للعامل بالعمل فيها روضة في الجنة، وهو الأظهر لوجهين: أحدهما: لعلوّ منزلته صلى الله عليه وسلم، ولما خصّ الخليل عليه السلام بالحجر من الجنة، خص الحبيب صلى الله عليه وسلم بالروضة من الجنة.
مدفون "في البقعة نفسها" وجواب أمَّا قوله: "فالعلة التي أوجبت للجذع الجنة هي" موجودة "في البقعة، سواء على ما أذكره بعد إن شاء الله، والذي أخبر بهذا أخبر بهذا" صلى الله عليه وسلم، "فينبغي الحمل على أكمل الوجوه وهو الجمع بينهما؛ لأنه قد تقرَّر من قواعد الشرع أن البقع المباركة ما فائدة بركتها لنا و" فائدة "الإخبار بها لنا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضًا" كأيام رمضان، "فعلى هذا يكون روضة من رياض الجنة الأن" لم يتقدم من كلامه ما يدل هذا التفريغ، ولكنَّه في أوّل كلام ابن أبي جمرة حيث قال: هذا يحتمل الحقيقة والمجاز، أما الحقيقة فبأن يكون ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأنَّه من الجنة مقتطعًا منها، كما أنَّ الحجر الأسود منها، وكذلك النيل والفرات من الجنة، وكذلك الثمار الهندبة من الورق التي أهبط بها أدم من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة، ومن ترابها، ومن حجرها، ومن فواكهها، حكمة حكيم جليل، ويحتمل أنَّ معناه: تنقل تلك البقعة بعينها في الجنة، فتكون روضة من رياض الجنة، وأمَّا المجاز فيحتمل أن يكون المراد أنَّ العمل، فذكر ما نقله المصنف عنه، فيصح حينئذ تفريعه بقوله: فعلى هذا، أي: المذكور من الاحتمالات والجمع بينها، بكون الموضع روضة من رياض الجنة الآن، ولم يثبت خبر عن بقعة بخصوصها أنها من الجنة إلّا هذه البقعة على هذا الاحتمال، "ويعود روضة كما كان في موضعه، ويكون للعامل بالعمل فيها روضة في الجنة، وهو الأظهر لوجهين".
"أحدهما: لعلوّ منزلته عليه الصلاة والسلام"، والثاني: أنه "لما خص الخليل عليه السلام بالحجر" الذي كان يقف عليه لما بُنِيَ البيت، أتاه الجبريل به "من الجنة"، وهو المقام الذي يصلي خلفه ركعتا الطواف وجواب لما قوله:"خص الحبيب عليه الصلاة والسلام بالروضة من الجنة" ويصح قراءته بكسر اللام وخفة الميم علة لقوله: خص الحبيب مقدمة عليه.
وها هنا بحث: لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة؟ فإن قلنا: تعبد، فلا بحث، وإن قلنا: لحكمة، فحينئذ يحتاج إلى البحث.
والأظهر أنه لحكمة، وهي أنه قد سبق في العلم الرباني بما ظهر أن الله عز وجل فضله على جميع خلقه، وأنَّ كل ما كان منه بنسبة ما من جميع المخلقوات، يكون له تفضيل على جنسه، كما استقرئ في كل أموره، من بدء ظهوره صلى الله عليه وسلم إلى حين وفاته، في الجاهلية والإسلام، فمنها ما كان في شأن أمه، وما نالها من بركته مع الجاهلية الجهلاء، حسب ما هو مذكور معلوم، ومثل ذلك حليمة السعدية، وحتى الأتان، وحتى البقعة التي تجعل أتانه يدها عليها تخضر من حينها، وما هو من ذلك كله معلوم.
كان مشيه صلى الله عليه وسلم حيث ما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله، وحيث وضع صلى الله عليه وسلم يده المباركة ظهر في ذلك كله من الخيرات والبركات حسًّا ومعنًى، كما هو منقول معروف.
ولما شاءت القدرة أنه صلى الله عليه وسلم لا بُدَّ له من بيت، ولا بُدَّ له من منبر، وأنه
"وهنا بحث: لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة؟ فإن قلنا: تعبُّد، فلا بحث" لأنه لا يعلم معناه، وإن قلنا: لحكمة، فحينئذ يحتاج" الكلام "إلى البحث" أي: التكلم في الحكمة والأظهر أنها لحكمة، وهي أنه قد سبق في العلم الرباني" أي: علم الله تعالى، "بما" أي: بسبب ما "ظهر" على لسانه ولسان الأنبياء، "أنَّ الله عز وجل فضَّله على جميع خلقه، وأنَّ كل ما" عبَّر بما تغليبًا للأكثر، نحو {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .
وفي نسخة: من تغليبًا للعقلاء، "كان منه بنسبة ما" بشد الميم "من جميع المخلوقات يكون له تفضيل على جنسه، كما استقرئ في جميع أموره من بدء ظهوره -علي السلام- إلى حين وفاته في الجاهلية" توكيد للأوّل، اشتق له من اسمه ما يؤكّد به، كما يقال: وتد واتد، وهمج هامج، وليلة ليلاء، ويوم يوم، قاله الجوهري "حسبما هو مذكور معلوم، ومثل ذلك حليمة السعدية" مرضعته، "وحتى الأتان" الحمارة "وحتى البقعة التي تجعل أتانه يدها عليها تخضر من حينها" فأشبه ما حصل له مما يدل على شرفه على جنسه ما حصل لأمه وظئره، "وما هو من ذلك كله معلوم، وكان مشيه عليه السلام حيثما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله، وحيث وضع يده المباركة ظهر في ذلك كله من الخيرات والبركات حسًّا ومعنًى، كما هو منقول معروف، ولما شاءت القدرة" أي: صاحب القدرة، ففيه مسامحة "أنه عليه السلام لا بُدَّ له من بيت
بالضرورة يكثر بمشيئة صلى الله عليه وسلم بين المنبر والبيت، فالحرمة التي أعطي غيرهما إذا كان من مسّه واحدة بمباشرته، أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير، فكيف مع كثرة ترداده صلى الله عليه وسلم في البقعة الواحدة مرارًا في اليوم الواحد طول عمره، من وقت هجرته إلى حين وفاته. فلم يبق من الترفيع بالنسبة إلى عالمها أعلى مما وصفناه، وهو أنَّها كانت من الجنة، وتعود إليها، وهي الآن منها. وللعامل فيها مثلها، فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه في هذه الدار، لكان لهذه أعلى مرتبة مما ذكرناه في جنسها.
فإن احتج محتج لا فهم له بأن يقول: ينبغي أن يكون ذلك للمدينة بكمالها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطؤها بقدمه مرارًا.
فالجواب: إنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها، من ذلك أنَّ ترابها شفاء كما أخبر صلى الله عليه وسلم، مع ما شاركت فيه البقعة المكرَّمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام، وأنه صلى الله عليه وسلم أوّل ما يشفع لأهلها يوم القيامة، وأنَّ ما كان بها من الوباء والحمَّى رُفِعَ عنها، وأنَّه بورك في طعامها وشرابها وأشياء كثيرة،
ولا بُدَّ له من منبر، وأنه بالضرورة يكثر ترداده عليه السلام بين المنبر والبيت" حذف جواب لما، وهو: وجب أن يكون ذلك البيت والمنبر أفضل البقاع وأشرفها لكثرة تردده إليهما، وعلل هذا الجوب بقوله: "فالحرمة التي أعطي غيرهما إذا كان بمشية" بفتح الميم "واحدة، بمباشرة" بقدميه الكريمتين، "أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير، فكيف مع كثرة ترداده عليه السلام في ابقعة الواحدة مرارًا في اليوم الواحد طول عمره من وقت هجرته إلى وقت وفاته، فلم يبق لها من الترفيع بالنسبة إلى عالمها" بفتح اللام وكسر الميم- التي هي منه، "أعلى مما وصفناه، وهو أنها كانت من الجنة" كما قدمته عن أول كلام ابن أبي جمرة الذي تركه المصنف، "وتعود إليها، وهي الآن منها، وللعامل فيها مثلها" روضة في الجنة، "فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه في هذه الدار؛ لكان لهذه أعلى مرتبة مما ذكرناه في جنسها" المعبَّر عنه بعالمها قريبًا، "فإن احتج محتج لا فَهْمَ له بأن يقول: ينبغي أن يكون ذلك للمدينة بكمالها؛ لأنه عليه السلام كان يطؤها" يمشي عليها "بقدمه مرارًا".
"فالجواب: إنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها من ذلك" التفضيل الحاصل لها "أنَّ ترابها شفاء كما أخبر به عليه السلام، مع ما شاركت" المدينة "فيه البقعة المكرَّمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام" الواقعة من الدجال، "وأنه عليه السلام أول ما يشفع في أهلها يوم القيامة" وأنهم يحشرون معه، "وإن ما كان بها من الوباء" المرض العام
فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولًا، بأنَّ تردده صلى الله عليه وسلم في المسجد نفسه أكثر مما في المدينة نفسها، وتردده صلى الله عليه وسلم فيما بين المنبر والبيت أكثر مما سواه من سائر المسجد، فالبحث تأكد بالاعتراض؛ لأنه جاءت البركة مناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة، والقرب من تلك النسمة المرتفعة لا خفاء فيه إلا على ملحد أعمى البصيرة، فالمدينة أرفع المدن، والمسجد أرفع المساجد، والبقعة أرفع البقع، قضية معلومة، وحجة ظاهرة موجودة. انتهى.
وقال الخطَّابي: المراد من هذا الحديث الترغيب في سكنى المدينة، وأنَّ من لازم ذكر الله في مسجدها آل به إلى روضة من رياض الجنة، وسقي يوم القيامة من الحوض، انتهى. وقد تقدَّم في الخصائص من مقصد المعجزات مزيد لذلك
…
بالهمز بمد ويقصر، "والحمَّى" لا ينصرف لألف التأنيث، "رفع عنها، وأنه بورك في طعامها وشرابها وأشياء كثيرة" من ذلك، "فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولًا بأن تردده عليه السلام في المسجد نفسه أكثر مما" أي: من تردده "في المدينة نفسها، وتردده فيما بين المنبر والبيت أكثر مما سواه من سائر" أي: باقي "المسجد، فالبحث تأكد بالاعتراض؛ لأنه جاءت البركة مناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة، والقرب من تلك النسمة" بفتح النون والسين "المرتفعة" مبتدأ، خبره "لا خفاء فيه إلا على ملحد" مائل عن الصواب، "أعمى البصيرة، فالمدينة أرفع المدن، والمسجد أرفع المساجد، والبقعة أرفع البقع"، والمراد كون هذه المذكورات كذلك "قضية معلومة" لا تجهل، "وحجة ظاهرة موجودة. انتهى" كلام ابن أبي جمرة.
"وقال الخطابي: المراد من هذا الحديث الترغيب في سكنى المدينة، وأن من لازم ذكر الله في مسجدها آل" أي: رجع "به" أي: يكون سبب لوصوله "إلى روضة الجنة"، وقيل: أن تشبيه بليغ، أي: كروضة في تنزل الرحمة وحصول السعادة، "وسُقِيَ يوم القيامة من الحوض" أخذه من قوله:"ومنبري على حوضي""انتهى".
والأصح أنَّ المراد منبره الذي كان يخطب عليه في الدنيا، ينقل يوم القيامة فينصب على حوضه، ثم تصير قوائمه رواتب في الجنة كما في حديث رواه الطبراني، وقيل: التعبّد عنده يورث الجنة، وقيل: إنه منبر يوضع له هناك، ورد بما روى أحمد برجال الصحيح:"منبري هذا على ترعة من ترع الجنة" قاسم الإشارة ظاهر، أو صريح في أنه منبره الذي كان في الدنيا، والقدرة صالحة.
"وقد تقدم في الخصائص من مقصد المعجزات" وهو الرابع "مزيد لذلك" قليل.
وعند مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
وقد اختلف العماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيهما أفضل؟
فذهب سفيان بن عيينة والشافعي وأحمد -في أصح الروايتين عنه، وابن وهب ومطرف وابن حبيب -الثلاثة من المالكية، وحكاه الساجي عن عطاء بن أبي رباح، والمكيين والكوفيين، وحكاه ابن عبد البر عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وجابر وابن الزبير وقتادة، وجماهير العلماء، أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة؛ لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على
"وعند مسلم من حديث ابن عمر" عبد الله، ومن حديث ابن عباس عن ميمونة أيضًا، والشيخين معًا من حديث أبي هريرة، "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة في مسجدي هذا أفضل"
هكذا رواه ابن عمر وميمونة بلفظ: أفضل، وراه أبو هريرة عند الشيخين بلفظ: خير، وفي رواية عنه لمسلم: أفضل، وهما بمعنى، "من ألف صلاة فيما سواه، إلّا المسجد الحرام" بالنصب استثناء، وروي بالجر على أنَّ إلّا بمعنى غير.
قال النووي: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم دون ما يزيد فيه بعده؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده، وقد أكده بقوله: هذا بخلاف مسجد مكة، فإنه يشمل جميع مكة، بل صحَّحَ النووي أنه يعم جميع الحرم.
كذا في الفتح، "وقد اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيهما أفضل، فذهب سفيان بن عيينة والشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه" عند أصحابه، "وابن وهب ومطرف" صاحبًا مالك، "وابن حبيب" تابع أتباعه، "الثلاثة من المالكية" المتقدِّمين، واختاره ممن بعدهم ابن عبد البر وابن رشد وابن عرفة، "وحكاه الساجي" بسين وجيم- الإمام الحافظ زكريا بن يحيى الضبي البصري، مات سنة سبع وثلاثمائة عن نحو تسعين سنة، "عن عطاء بن أبي رباح، والمكيين والكوفيين، وحكاه ابن عبد البر عن عمر" ابن الخطاب، وهو خلاف الآتي في المتن، وهو المروي في الموطأ وغيره عن عمر، تفضيل المدينة، "وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وجابر وابن الزبير وقتادة وجماهير العلماء أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة؛ لأن الأمكنة تفضل بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيها مرجوحة".
غيرها مما تكون العبادة فيها مرجوحة.
وقد حكى ابن عبد البر أنه روي عن مالك ما يدل على أن مكَّة أفضل الأرض كلها، قال: ولكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة. انتهى.
وقال مالك: المدينة ومسجدها أفضل.
ومما احتج به أصحابنا لتفضيل مكة حديث عبد الله بن الحمراء، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته يقول:"والله إنك لخير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"، قال الترمذي: حسن صحيح. وقال ابن عبد البر: "هذا أصح الآثار عنه صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا قاطع في محل الخلاف. انتهى.
"وقد حكى ابن عبد البر أنه روى عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها" هي رواية ضعيفة، ولذا قال: ولكن المشهور عند أصحابه في مذهب تفضل المدينة انتهى.
"وقال مالك" وأكثر أهل المدينة وعمر بن الخطاب وجماعة "المدينة" أفضل من مكة ومسجدها أفضل" من مسجد مكة، واختاره كثير من الشافعية، من آخرهم السيوطي، فقال: المختار تفضيل المدينة، والشريف السمهودي والمصنف كما يأتي معتذرًا عن مخالفة مذهبه، بأنَّ هوى كل نفس أين حل حبيبها، "ومما أحتج به أصحابنا لتفضيل مكة حديث عبد الله" بن عدي بالدال "ابن الحمراء" القرشي الزهري، ويقال: إنه ثقفي حالف بني زهرة، وكان ينزل قديدًا وأسلم في الفتح وسكن المدينة.
قال البغوي: لا أعلم له غير هذا الحديث، وهو "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته" كذا في النسخ، والذي في الحديث على الحزورة -بفتح المهملة وإسكان الزاي فواو مفتوحة فراء فهاء تأنيث: سوق كانت بمكة أدخلت في المسجد، وقد قدمه المصنف في الهجرة على الصواب "يقول:"والله إنك لخير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا إني أخرجت منك ما خرجت".
وفي رواية: "ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك" أي: تسببوا في إخراجي، "قال الترمذي: حسن صحيح"، قال في الإصابة: تفرَّد به الزهري، واختلف عليه فيه، فقال الأكثر: عن الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء، وقال معمر: عنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومرة أرسله، وقال ابن أخي الزهري عنه، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عدي، والمحفوظ الأول، "وقال ابن عبد البر: هذا أصح الآثار عنه صلى الله عليه وسلم قال: وهذا قاطع في محل الخلاف. انتهى".
فعند الشافعي والجمهور معناه -أي: الحديث: "إلّا المسجد الحرام" فإنَّ الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي.
وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف.
وعن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلّا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا" رواه أحمد وابن حزيمة وابن حبان في صحيحه وزاد: يعني في مسجد المدينة، والبزار ولفظه: "صلاة في مسجدي هذا
وجوابه أنه إنما يكون قاطعًا لو قاله بعد حصوله فضل المدينة، أما حيث قاله قبل ذلك فليس بقاطع؛ لأن التفضيل إنما يكون بين أمرين يتأتَّى بينهما تفضيل، وفضل المدينة لم يكن حصل حينئذ حتى يكون هذا حجة، وحاصل الجواب أنه قاله قبل أن يعمل بفضل المدينة، وأجيب أيضًا بأنها خير الأرض ما عدا المدينة، كما قالوا بكلٍّ منهما في قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: يا خير البرية، ذاك إبراهيم.
"فعند الشافعي والجمهور معناه، أي: الحديث: إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي" بناءً على قولهم بفضل مسجد مكة على مسجد المدينة.
"وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف"، ويؤيده أن في بعض طرق حديث أبي هريرة عند مسلم والنسائي:"إلا المسجد الحرام، فإني آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد".
قال عياض: هذا ظاهر في تفضيل مسجده لهذه العلة، قال القرطبي: لأنَّ ربط الكلام بقاء التعليل يشعر أن مسجده إنما فضل على المساجد كلها؛ لأنه متأخر عنها، ومنسوب إلى نبي متأخر عن الأنبياء كلهم، فتدبره، فإنه واضح. انتهى.
وقال ابن بطال: يجوز في الاستثناء أن يكون المراد: فإنه مساوٍ لمسجد المدينة أو فاضلًا أو مفضولًا، والأوّل أرجح؛ لأنه لو كان فاضلًا أو مفضولًا لم يعلم مقدار ذلك إلّا بدليل، بخلاف المساواة، قيل:"كأنه لم ير دليل كونه فاضلًا، "و" هو ما جاء "عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا".
رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه، وزاد: يعني: في مسجد المدينة" بيان
أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، فإنه يزيد عليه مائة". قال المنذري: وإسناده صحيح أيضًا.
ومما يستدل به المالكية، ما ذكره ابن حبيب في "الواضحة" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة في مسجدي كألف صلاة فيما سواه، وجمعة في مسجدي كألف جمعة فيما سواه، ورمضان في مسجدي كألف رمضان فيما سواه".
لاسم الإشارة، قال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت، ومثله لا يقال بالرأي"، ورواه أيضًا "البزار ولفظه: "صلاة في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، فإنه يزيد عليه مائة" والصلاة فيه بألف، فتكون الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في مسجد المدينة.
"قال المنذري: وإسناده صحيح"، وفي ابن ماجه عن جابر مرفوعًا:"صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام خير من مائة ألف صلاة فيما سواه" وفي بعض نسخه: "من مائة صلاة فيما سواه"، فعلى الأول معناه: إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه: من مائة صلاة في مسجد المدينة، وللبزار والطبراني عن أبي الدرداء رفعه:"الصلاة في مسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة".
قال البزار: إسناده حسن، فوضح أن المراد بالاستثناء تفضل الصلاة في المكي على الصلاة في المدني، ولكن كل ذلك لا يقتضي تفضيل المكي عليه؛ لأن أسباب التفضيل لم تنحصر في المضاعفة كما يأتي عن الشريف، ثم التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الأجزاء باتفاق العلماء، كما نقله النووي وغيره، فمن عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة.
"ومما يستدل به المالكية ما ذكره ابن حبيب في الواضحة".
وأخرجه البيهقي في الشعب عن ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي كألف صلاة فيما سواه" زاد في رواية البيهقي: إلا المسجد الحرام، "وجمعة في مسجدي كألف جمعة فيما سواه، ورمضان في مسجدي كألف رمضان فيما سواه".
لفظ رواية البيهقي: "وصيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها" وهذه أوسع، إذا قد يصوم بالمدينة ولا يكون بالمسجد؛ لعذر أو لغيره كالنساء، وأخرج الطبراني والضياء المقدسي عن بلال بن الحارث المزني، رفعه:"رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان".
ومذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين -كما قاله القاضي عياض: إن المدينة أفضل، وهو أحد الروايتين عن أحمد.
وأجمعوا على أن الموضع الذي ضمَّ أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض، حتى موضع الكعبة، كما قاله ابن عساكر والباجي والقاضي عياض، بل نقل التاج السبكي كما ذكره السيد السمهودي في "فضائل المدينة"، عن ابن عقيل الحنبلي: إنها أفضل من العرش، وصرَّح الفاكهاني بتفضيلها على السماوات، ولفظه: وأقول أنا: وأفضل من بقاع السماوات أيضًا. ولم أر من تعرض لذلك، والذي أعتقده لو أن ذلك عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه، وقد جاء أن السماوات شرفت
وللبزار عن ابن عمر، رفعه:"رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة"، وللبيهقي عن جابر رفعه:"الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وشهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر فيما سواه إلا المسجد الحرام".
"ومذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين" أي: علماء المدينة -كما قال القاضي عياض: إن المدينة أفضل، وهو إحدى الروايتين عن أحمد"، والصحيح المشهور عن مالك، والأدلة كثيرة من الجانبين، حتى مال بعضهم إلى تساوي البلدين، "وأجمعوا على أنَّ الموضع الذي ضمَّ أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة، كما قاله ابن عساكر والباجي" أبو الوليد سليمان بن لف، الحافظ الفقيه، "والقاضي عياض" معبرًا بقوله: موضع قبره، والظاهر أن المراد جميع القبر لا خصوص ما لاقى الجسد الشريف؛ لأنه يقال عرفًا للقبر ضمّ الأعضاء، ويؤيد ذلك قول القائل في قصيدة أولها:
دار الحبيب أحق أن تهواها
إلى أن قال:
جزم الجميع بأن خير الأرض ما
…
قد حاط ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا بساكنها علت
…
كالنفس حين زكت زكى مأواها
"بل نقل التاج السبكي كما ذكره السيد السمهودي" بفتح السين وسكون الميم، "في فضائل المدينة، عن ابن عقيل الحنبلي أنها" أي: البقعة التي قُبِرَ فيها المصطفي صلى الله عليه وسلم "أفضل من العرش، وصرَّح الفاكهاني بتفضيلها على السماوات، ولفظه: وأقول أنا: وأفضل من بقاع السماوات أيضًا، ولم أر مَنْ تعرَّض لذلك" بالنص عليه، "والذي أعتقده أن ذلك لو عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه".
بمواطئ قدميه، بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها؛ لكونه صلى الله عليه وسلم حالًّا فيها لم يبعد، بل هو عندي الظاهر المتعيّن. انتهى.
وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووي: والجمهور على تفضيل السماء على الأرض، أي: ما عدا ما ضمّ الأعضاء الشريفة.
وقد استشكل ما ذكره من الإجماع على أفضلية ما ضمّ أعضاءه الشريفة على جميع بقاع الأرض، ويؤيده ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام في تفضيل بعض الأماكن على بعض، من أنَّ الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما، لا بصفات قائمة بهما. قال: ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه، والتفضيل الذي فيهما أنَّ الله تعالى يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما. انتهى ملخصًا.
"وقد جاء أن السماوات شرفت بمواطئ قدميه، بل" إضراب انتقالي، "لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها؛ لكونه صلى الله عليه وسلم حالًّا فيها لم يبعد، بل هو عندي الظاهر المتعيّن. انتهى" كلام الفاكهاني.
"وحكاه" أي: تفضيل الأرض على السماء، "بعضهم عن الأكثرين" من العلماء، "لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووي: والجمهور على تفضيل السماء على الأرض"؛ لأنها لم يعص الله فيها، ومعصية إبليس لم تكن فيها أو كانت فيها، ولكن لندورها، كأنه لم يعص فيها أصلًا، وصحَّحه بعضهم، وبعض آخر صحَّح الأول، فهما قولان مرجحان، ومحل الخلاف فيما عدا القبر الشريف، كما قال "أي: ما عدا ما ضمّ الأعضاء الشريفة" فإنها أفضل إجماعًا، بل قال البرماوي عن شيخه السراج البلقيني: الحق أن مواضع أجساد الأنبياء وأرواحهم أشرف من كل ما سواها من الأرض والسماء، ومحل الخلاف غير ذلك. انتهى.
"وقد استشكل ما ذكره من الإجماع على أفضلية ما ضمّ أعضاءه الشريفة على جميع بقاع الأرض، ويؤيده ما قاله الشيخ عز الدين" الذي قاله غيره: إن المستشك هو العز "بن عبد السلام في تفضيل بعض الأماكن على بعض، من أن الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما" من الأعمال، "لا بصفة قائمة فيهما".
"وقال" العز: "ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل" أي: يعطي، "الله العباد فيهما من فضله وكرمه والتفضيل الذي فيهما" هو "أنّ الله تعالى يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين
لكن تعقَّبه الشيخ تقي الدين السبكي بما حاصله: إن الذي قاله لا ينفي أن يكون التفضيل لأمر آخر فيهما، وإن لم يكن عمل؛ لأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبَّة، ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل؟ وليس محل عمل لنا؛ لأنه ليس مسجدًا، ولا له حكم المسجد، بل هو مستحق للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم حي كما تقرره، وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن.
قال: ومن فهم هذا انشرح صدره، لما قاله القاضي عياض من تفضيل ما ضمّ أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم باعتبارين: أحدهما: ما قيل: إنَّ كل أحد يدفن في الموضع
فيهما" قال العز: وموضع القبر الشريف لا يمكن العمل فيه؛ لأن العمل فيه يحرم فيه عقاب شديد.
"انتهى ملخصًا، لكن تعقبه" تلميذه العلامة الشهاب القرافي، بأنَّ التفضيل للمجاورة والحلول كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود، فلا يمسه محدث، ولا يلابس بقذر، لا لكثرة الثواب، وإلا لزمه أن لا يكون جلد المصحف، بل ولا المصحف نفسه أفضل من غيره؛ لتعذر العمل فيه، وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة، وأسباب التفضيل أعمّ من الثواب، فإنها منتهية إلى عشرين قاعدة، وبيِّنَها كلها في كتابه الفروق، ثم قال: إنها أكثر، وأنه لا يقدر على إحصائها خشية الإسهاب. انتهى.
وكذا تعقَّبه "الشيخ تقي الدين السبكي بما حاصله: إن الذي قاله لا ينفي أن يكون التفضيل لأمر آخر فيهما" أي: الأزمنة والأمكنة، "وإن لم يكن عمل؛ لأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه من الرحمة، ولساكنه، ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل، و" والحال أنه، "ليس محل عمل لنا؛ لأنه ليس مسجدًا، ولا له حكم المسجد، بل هو مستحق" أي: حق للنبي صلى الله عليه وسلم، وأيضًا" وجه آخر "فقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم حي -كما تقرّر" وأنه يصلي في قبره بأذان وإقامة، "وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من" مضاعفة عمل، "كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعملنا نحن" أيها الأمة.
"قال" السبكي: "ومن فهم هذا انشرح صدره لما قاله القاضي عياض" تبعًا للباجي وابن عساكر، "من تفضيل ما ضمَّ أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم باعتبارين:"
"أحدهما" باعتبار "ما قيل: إن كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه" ولذا أشكل
الذي خلق منه، والثاني: تنزل الملائكة والبركات عليه، وإقبال الله تعالى. ولا نسلم أن الفضل للمكان لذاته، ولكن لأجل من حلَّ فيه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقد روى أبو يعلي عن أبي بكر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقبض النبي إلّا في أحبّ الأمكنة إليه" ، ولا شكَّ أن أحبها إليها أحبها إلى ربه تعالى؛ لأن حبه تابع لحب ربه -جلَّ وعلا، وما كان أحبَّ إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم إن إبراهيم دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ومثله معه"، ولا ريب أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من دعاء إبراهيم؛ لأن فضل الدعاء على قدر فضل الداعي. وقد صحَّ أنه صلى الله عليه وسلم قال:
قول ابن عباس: أصل طينته صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض بمكة، يعني: موضع الكعبة، وأجاب في العوارف بأن الماء، أي: الذي كان عليه العرش لما تموَّج رمي الزيد إلى النواحي، فوقعت طينة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، كما بسطه المصنف أول الكتاب.
"والثاني: تنزل الرحمة والبركات عليه وإقبال الله تعالى" قال السمهودي: والرحمات النازلات بذلك المحل يعمّ فيضها الأمة، وهي غير متناهية لدوام ترقياته صلى الله عليه وسلم، فهو منبع الخيرات. انتهى. "ولا نسلم أن الفضل للمكان لذاته، ولكن لأجل من حلَّ فيه صلى الله عليه وسلم: انتهى".
"وقد روى أبو يعلى عن أبي بكر" الصديق، "أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقبض" يموت "ني، إلّا في أحبِّ الأمكنة إليه"، ولا شكَّ أن أحبها إليه أحبها إلى ربه تعالى؛ لأن حبه تابع لحب ربه -جلَّ وعلا، وما كان أحب لله ورسوله فكيف لا يكون أفضل، وقد قال عليه السلام:"اللهم إن إبراهيم" عبدك ونبيك وخليلك، وإني عبدك ونبيك، وإن إبراهيم "قد دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعا إبراهيم لمكة ومثله معه".
أخرجه مسلم والموطأ وغيرهما، عن أبي هريرة في حديث:"ولا ريب أن دعاءه أفضل من دعاء إبراهيم، لأن فضل الدعاء على قدر فضل الداعي" خصوصًا، وقد قال ومثله معه، قال بعض العلماء: قد استجاب الله دعوته للمدينة، فصار يجبى إليها في زمن الخلفاء الراشدين من مشارق الأرض ومغاربها ثمرات كل شيء.
وكذا مكة بدعاء الخليل، وزادت عليها المدينة لقوله: ومثله معه شيئين.
إحداهما: في ابتداء الأمر وهو كنوز كسرى وقيصر وغيرهما وإنفاقها في سبيل الله على أهلها.
وثانيهما: في آخر الأمر، وهو أن الإيمان يأرز إليها من الأقطار. انتهى.
"اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" ، وفي رواية "بل أشد" وقد أجيبت دعوته، حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها. وروى الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي، فأسكني في أحب البقاع إليك" أي: فيه موضع تصيره كذلك، فيجتمع فيه الحبان، قيل: وضعَّفه ابن عبد البر، ولو سلمت صحته فالمراد: أحب إليك بعد مكة؛ لحديث "إن مكة خير بلاد الله"، وفي رواية "أحب أرض الله إلى الله"، ولزيادة التضعيف بمسجد مكة.
وتعقبه العلامة السيد السمهودي: "بأن ما ذكر لا يقتضي صرفه عن ظاهره؛ إذ القصد به الدعاء لدار هجرته بأن يصيّرها الله كذلك. وحديث: "إن مكة خير بلاد الله" محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدِّين، وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها وأنال بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر إجابة دعوته، وصيرورتها أحب مطلقًا بعد، ولهذا افترض الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم
وصحَّ في البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة في حديث "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد".
"وفي رواية: بل أشد"، فأوفى الأولى للإضراب، فاستجاب الله له، فكانت أحب إليه من مكة كما جزم به السيوطي، ونحوه قوله:"وقد أجيبت دعوته حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها" أي: المدينة، كما رواه البخاري عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع، وإن كان على دابة حركها من حبها.
"وروى الحاكم" في المستدرك، وأبو سعد في الشرف عن أبي هريرة "أنه صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي، فاسكنِّي في أحب البقاع إليك"، أي: في موضع تصيره كذلك فيجتمع فيه الحبان" وتمامه، فأسكنه الله المدينة.
"قيل: وضعَّفه ابن عبد البر" فقال: لا يختلف أهل العلم في نكارته وضعفه، "ولو سلمت صحته فالمراد: أحب إليك بعد مكة لحديث "إن مكة خير بلاد الله".
"وفي رواية: "أحب أرض الله إلى الله" ولزيادة التضعيف بمسجد مكة" في الصلوات، "وتعقبه العلامة السيد السمهودي، بأن ما ذكر" من الحديث والتضعيف "لا يقتضي صرفه عن ظاهره؛ إذ القصد به الدعاء لدار هجرته بأن يصيرها الله كذلك، وحديث: "إن مكة خير بلاد الله" محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدِّين، وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها" أي: المدينة "وأنال:" أعطى "بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر" بذلك "إجابة دعوته وصيرورتها أحب مطلقًا" أي: من مكة وغيرها "بعد" بالضم، أي: بعد حلوله فيها
الإقامة بها، وحثَّ هو صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به في سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل.
قال: وأمَّا مزيد المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر في ذلك، فالصلوات الخمس بمنى للمتوجه لعرفة أفضل منها بمسجد مكة، وإن انتفت عنها المضاعفة؛ إذ في الاتباع ما يربو عليها، ومذهبنا: شمول المضاعفة للنَّفل مع تفضيله بالمنزل، ولهذا قال عمر رضي الله عنه بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة، ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة: تفضيل مكة؛ إذ غايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، مع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضًا، وقد يبارك في العدد القليل فيربو على الكثير، ولهذا استدلّ به على تفضيل المدينة.
وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب: إن الكلام فيما
ولهذا افترض الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم الإقامة بها" حيًّا وميتًا، "وحثَّ هو صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به في سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل" من مكة.
"قال" السمهودي: "وأما مزيد" أي: زيادة "المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر في ذلك" أي: مزيد المضاعفة، "فالصلوات الخمس بمنى للمتوجِّه لعرفة أفضل منها" أي: من صلاتها "بمسجد مكة، وإن انتفت عنها المضاعفة؛ إذ في الاتباع" لفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث صلَّاها بمنى، "ما يربو" يزيد عليها، أي: المضاعفة، "ومذهبنا" أي: الشافعية "شمول المضاعفة للنقل"، وبه قال مطرف صاحب مالك، "مع تفضيله بالمنزل" مع أنه لا مضاعة فيه، "ولهذا قال عمر" بن الخطاب "بمزيد المضاعفة لمسجد مكة" على مسجد المدينة، "مع قوله" أي: عمر "بتفضيل المدينة" ومسجدها على مكة ومسجدها؛ لأن التفضيل لم ينحصل في المضاعفة "ولم يصب من أخذ من قوله" أي: عمر "بمزيد المضاعفة" أنه يرى "تفضيل مكة؛ إذ غايته أن للمفضول" مسجد مكة "مزية ليست للفاضل" مسجد المدينة، والمزية لا تقتضي الأفضلية، "مع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضًا"؛ إذ لا وجه لتخصيصه بالدنيوية، "و" لا يرد مزيد التضعيف؛ لأنه "قد يبارك في العدد القليل فيربو" يزيد نفعه على العدد "الكثير، ولهذا استدلّ به على تفضيل المدينة"؛ إذ لو لم يكن كذلك ما صحَّ الاستدلال، "وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة" نائب فاعل أريد "فقط".
"فالجواب أنَّ الكلام فيما عداها، فلا يرد شيء مما جاء في فضلها"، فإنها تلي القبر
عداها، فلا يرد شيء مما جاء في فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد الله بن عياش المخزومي: أنت القائل: لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا، ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد الله جوابه، فأعاد له: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا، فأشير إلى عبد الله فانصرف.
وقد عوضت المدينة عن العمرة، ما صحَّ في إتيان مسجد قباء، وعن الحج ما جاء في فضل الزيارة النبوية والمسجد، والإقامة بعد النبوة بالمدينة، وإن كانت أقل من الإقامة مكة على القول به، فقد كانت سببًا لإعزاز الدين وإظهاره، ونزول أكثر
الشريف، فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقًا كما في كلام السمهودي، "ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها".
"ولذا قال عمر لعبد الله بن عياش" بتحتية وشين معجمة- ابن أبي ربيعة، القرشي المخزومي، وأبوه قديم الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، فولد له عبد الله هذا بها، وأدرك من حياته صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، وحفظ عنه.
وروى عن عمر وغيره، ومات سنة أربع وستين:"أنت القائل: لمكة" بفتح اللام للتأكيد، "خير" أي: أفضل "من المدينة، فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته" الكعبة، وما أضيف لله خير مما أضيف لرسوله، "فقال عمر: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا" يعني: إنه ليس من محلّ الخلاف ولم أسألك عنه، وإنما سألتك عن البلدين، "ثم كرّر عمر: "لينظر هل تغيّر اجتهاده إلى موافقة عمر في تفضيل المدينة، "قوله الأول: أنت" القائل..... إلخ.
"فأعاد عبد الله جوابه": هي حرم الله..... إلخ، فأعاد له عمر" قوله:"لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا" وما تغيّر اجتهاد واحد منهما لموافقة الآخر، والقصة رواها مالك في الموطأ مطوَّلة عن أسلم مولى عمر، وفيها أنهم كانوا بطريق مكة، ولكن قال في آخرها: ثم انصرف ولم يقل، "فأشير إلى عبد الله فانصرف، وقد عوضت المدينة عن العمرة ما صحَّ في إتيان مسد قباء والمسجد" النبوي، وفي الحجج المبينة عن أبي أمامة مرفوعًا:"من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي هذا، حتى يصلي فيه، كان بمنزلة حجة". انتهى.
"والإقامة بعد النبوة بالمدينة وإن كانت أقلّ من الإقامة بمكة" بثلاث سنين، "على القول به"، وهو الصحيح، "فقد كانت سببًا لإعزاز الدين وإظهاره، ونزول أكثر الفرائض" إذ لم يفرض
الفرائض وإكمال الدّين، حتى كثر تردّد جبريل عليه السلام بها، ثم استقرَّ بها صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ولهذا قيل لمالك: أيما أحب إليك المقام هنا -يعني المدينة- أو مكة؟ فقال: هنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلّا سلك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين في أقل من ساعة؟
وروى الطبراني حديث "المدينة خير من مكة" ، وفي رواية للجندي "أفضل من مكة"، وفيه: محمد بن عبد الرحمن الرداد، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطيء، وقال أبو زرعة: ليّن، وقال ابن عدي: روايته ليست محفوظة، وقال أبو حاتم: ليس بقوي.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد".
بمكة بعد الإيمان سوى الصلاة على المعروف، "وإكمال الدّين حتى كثر تردّد" مجيء جبريل عليه السلام بها، ثم استقرَّ بها صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة" ولا يوازي ذلك شيء، "ولهذا قيل لمالك": "أيما أحب إليك المقام هنا؟ يعني: المدينة أو مكة، فقال: ههنا" أحب إلي، "وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلّا سلك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين في أقلّ من ساعة" مدة من الزمن، فأيّ فضل يعادل هذا.
"وروى الطبراني" في الكبير، والدارقطني "حديث" رافع بن خديج: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المدينة خير من مكة"؛ لأنه إذا تأمَّل ذو البصيرة لم يجد فضلًا أعطيته مكة إلا وأعطيت المدينة نظيره، أو أعلى منه، كما في الحجج المبينة، وزادت ببقاء المصطفى فيها إلى يوم القيامة.
"وفي رواية للجندي" بفتح الجيم والنون ودال مهملة- نسبة إلى الجند، بلد باليمن:"أفضل من مكة" وهما بمعنى، لكن أفضل أصرح، "وفيه محمد بن عبد الرحمن الرداد، ذكره ابن حبان في الثقات".
"وقال: كان يخطيء، وقال أبو زرعة" الرازي، الحافظ عبيد الله بن عبد الكريم:"لين، وقال ابن عدي: روايته ليست محفوظة، وقال أبو حاتم" محمد بن إدريس الرازي: "ليس بقوي"، وحاصله أنه ضعيف متماسك".
"وفي الصحيحين:" في الحج، والنسائي فيه، وفي التفسير، كلهم من طريق مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن يسار "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت" بالبناء للمفعول "بقرية تأكل القرى، يقولون" أي: بعض المنافقين "يثرب" باسم واحد من العمالقة نزلها
أي: أمرني الله بالهجرة إليها، إن كان قاله صلى الله عليه وسلم بمكة، أو بسكناها، إن كان قاله بالمدينة.
وقال القاضي عبد الوهاب: لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلّا رجوح فضلها عليها، أي: على القرى وزيادتها على غيرها.
أو يثرب بن فانية، من ولد أرم بن سام بن نوح، وكان اسمًا لموضع منها سميت به كلها، وكرهه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملازمة، أو من الثرب وهو الفساد، وكلاهما قبيح، وقد كان يحب الاسم الحسن ويكره القبيح، ولذا أبدله بطيبة وطابة والمدينة كما قال:"وهي المدينة" أي: الكاملة على الإطلاق؛ كالبيت للكعبة، فهو اسمها الحقيق بها؛ لدلالة التركيب على التفخيم كقوله الشاعر:
هم القوم كل القوم يا أم خالد
أي: المستحقة لأن تتخذ دار إقامة، وتسميتها في القرآن يثرب إنما هو حكاية عن المنافقين.
وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه: "من سمَّى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة" وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب.
ولهذا قال عيسى بن دينار: من سمَّى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة، وحديث الهجرة في الصحيحين، فإذا هي يثرب، وفي رواية: لا أراها إلا يثرب، كان قبل النهي، "تنفي" المدينة "الناس" أي: الحديث الرديء منهم في زمنه صلى الله عليه وسلم، أو في زمان الدجال، "كما ينف الكير" بكسر الكاف وسكون التحتية.
قال في القاموس: زق ينفخ فيه الحداد، وأما المنبني من طين فكور، "خبث" بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة "الحديد" أي: وسخه الذي تخرجه النار، أي: إنها لا تبقي فيها من في قلبه دغل، بل تميزه عن القلوب الصادقة، وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده، ونسب التمييز للكير؛ لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها.
وقد خرج من المدينة بعد الوفاة النبوية معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود في طائفة، ثم علي وطلحة والزبير وعمّار وآخرون، وهم من أطيب الخلق، دلَّ على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس، ووقت دون ووقت، وقوله:"أمرت بقرية" أي: أمرني الله" تعالى "بالهجرة إليها إن كان قاله عليه السلام بمكة" أن يهاجر، "أو بسكناها إن كان قاله بالمدينة".
"وقال القاضي عبد الوهاب" البغدادي، ثم المصري: وبها مات "لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلّا رجوح فضلها عليها، أي: على القرى، وزيادتها على غيرها"، ومن جملته مكة.
وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بذلك غلبة فضلها على فضل غيرها، أي: إن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكون عدمًا، وهذا أبلغ من تسمية مكة "أم القرى"؛ لأن الأمومة لا ينمحي معها ما هي له أم، لكن يكون لها حق الأمومة، انتهى.
ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهله على القرى، والأقرب: حمله عليهما؛ إذ هو أبلغ في الغرض المسوق له. انتهى ما قاله السيد السمهودي.
وقد أطلت في الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة، وإن كان مذهب إمامنا الشافعي رحمه الله تفضيل مكة؛ لأن هوى كل نفس أين حلَّ حبيبها.
عليَّ لربع العامرية وقفة
…
ليملي على الشوق والدمع كاتب
"وقال" الزين "بن المنير" في حاشية البخاري، "قال السهيلي في التوراة: يقول الله: يا طابة، يا مسكينة، إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى. وهو قريب من قوله:"تأكل القرى"؛ لأنها إذا علت عليها علوّ الغلبة أكلتها، و"يحتمل أن يكون المراد بذلك غلبة فضلها على فضل غيرها، أي: إن الفضائل تضمحل" بمعجمة فميم فمهملة فلام- تذهب، "في جنب عظيم فضلها حتى تكون عدمًا" أي: يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها، فهو لمراد بأكل، "وهذا أبلغ من تسمية مكة أم القرى؛ لأن الأمومة لا ينمحي معها ما هي له أم، لكن يكون لها حق الأمومة. انتهى" كلام ابن المنير، وبقيته: وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل، "ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهلها على القرى" يعني: إن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها، يقال: أكلنا بني فلان، أي غلبناهم وظهرنا عليهم، فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه، وفي موطأ ابن وهب، قلت لمالك: ما تأكل القرى؟ قال: تفتح القرى، "والأقرب حمله عليهما" بالتثنية، أي: على غلبتها على القرى، وغلبة فضلها على فضل غيرها؛ "إذ هو أبلغ في الغرض المسوق له. انتهى".
"ما قاله السيد السمهودي" وهو من النفائس الخلية عن عصبية المذهبية، "وقد أطلت في الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة، وإن كان مذهب إمامنا الشافعي رحمه الله تفضيل مكة؛ لأن هوى كل نفس أين حلَّ حبيبها" كما قيل:
وقائلة لي ما وقوفك ههنا
…
ببرية يعوي من العصر ذيبها
فقلت لها قلي الملامة واقصري
…
هوى كل نفس أين حلّ حبيبها
وأنشد لغيره:
عليَّ لربع العامرية وقفة
…
ليملي عليَّ الشوق والدمع كاتب
ومن مذهبي حب الديار لأهلها
…
وللناس فيما يعشقون مذاهب
على أنَّ للقلم في أرجاء تفضيل المدينة مجالًا واسعًا ومقالًا جامعًا، لكن الرغبة في الاختصار تطوي أطراف بساطه، والرهبة من الإكثار تصرف عن تطويله وإفراطه.
وقد استنبط العارف ابن أبي جمرة من قوله صلى الله عليه وسلم المروي في البخاري: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجَّال إلا مكة والمدينة" التساوي بين فضل مكة والمدينة. قال: وظاهر هذا الحديث يعطي التسوية بينهما في الفضل؛ لأنَّ جميع الأرض يطؤها الدجال إلّا هذين البلدين، فدلَّ على تسويتهما في الفضل، قال: ويؤكد ذلك
ومن مذهبي حبّ الديار لأهلها
…
وللناس فيما يعشقون مذاهب
يملي -بضم الياء وكسر اللام- فاعله الشوق، ومن ذلك المعنى قول الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي
…
ولكن حب من سكن الديارا
"على أنَّ للقلم في أرجاء" بفتح الهمزة وسكون الراء وجيم- جمع رجا بالقصر: الناحية، أي: في جهات تفضيل "المدينة مجالًا" مصدر ميمي لجال، أي: طوافًا "واسعًا" في بيان أدلة ذلك، "ومقالًا جامعًا" لما تفرَّق "لكن الرغبة في الاختصار تطوي أطراف بساطه، والرهبة" الخوف من "الإكثار تصرف" تصد "عن تطويله وإفراطه".
"وقد استنبط": استخرج العارف بالله ابن أبي جمرة" بجيم وراء "من قوله عليه السلام المروي في البخاري"، والنسائي في الحج، ومسلم في الفتن، عن أنس مرفوعًا: "ليس من بلد" من البلدان "إلا سيطؤه" يدخله "الدجال" ، قال الحافظ: هو على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذَّ ابن حزم فقال: المراد لا يدخله بجنوده، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجَّال جميع البلاد لقصر مدته، وغفل عمَّا في مسلم، أن بعض أيامه يكون قدر سنة، "إلا مكَّة والمدينة" لا يطؤهما، مستثنى من المستثنى لا من بلد في اللفظ، وإلّا ففي المعنى منه؛ لأن ضمير يطؤه عائد على بلد.
وبقية هذا الحديث: "ليس من نقابهما نقب إلّا عليه الملائكة صافّين يحرسونهما، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج الله كل كافر ومنافق" ، "التساوي" مفعول استنبط، "بين مكة والمدينة"؛ حيث قال: وظاهر هذا الحديث يعطي التسوية بينهما في الفضل؛ لأنَّ جميع الأرض يطؤها الدجال إلّا هذين البلدين، فدلَّ على تسويتهما في الفضل، وليس ذلك بلازم، فإنهما متساويان في أشياء كثيرة، ومع ذلك الخلاف في أيهما أفضل.
"قال: ويؤكد ذلك أيضًا من وجه النظر أنه" أي: الشأن "إن كانت خصت المدينة
أيضًا من وجه النظر؛ لأنه إن كانت خُصَّت المدينة بمدفنه صلى الله عليه وسلم وإقامته بها ومسجده، فقد خُصَّت مكة بمسقطه صلى الله عليه وسلم بها، ومبعثه منها، وهي قبلته، فمطلع شمس ذاته الكريمة المباركة مكة، ومغربها المدينة، وإقامته بعد النبوة على المشهور من الأقاويل بمكة، مثل إقامته صلى الله عليه وسلم بالمدينة، عشر سنين في كلّ واحدة منهما. كذا قاله.
وأنت إذا تأمَّلت قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث سعد: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلمَّ إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده، لا يخرج أحد غربة عنها إلّا أخلف الله فيها خيرًا منه".
بمدفنه عليه السلام وإقامته بها ومسجده، فقد خُصَّت مكة بمسقطه" أي: ولادته "عليه السلام بها، ومبعثه منها، وهي قبلته، فمطلع شمس ذاته المباركة مكة، ومغربها المدينة، وإقامته بعد النبوة على المشهور من الأقاويل بمكة، قدر إقامته بالمدينة، عشر سنين في كل واحدة منهما، كذا قاله" تبرأ منه؛ لأنَّ دلالة ما قاله على التساوي ليست بقوية؛ ولأن ما قال: إنه المشهور خلاف المشهور، أنه أقام بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة، وحمه على أنَّ المراد بعشر مكة العشر التي دعا الناس فيها؛ لأن الثلاثة قبلها لم يكن مأمورًا فيها بدعوة، يمنعه قوله على المشهور من الأقاويل؛ إذ لو حمل على ذلك لم يكن خلاف، "وأنت إذا تأمَّلت قوله عليه السلام فيما رواه مسلم من حديث سعد".
كذا في النسخ، والذي في مسلم: إنما هو عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه" أي: الرجل "هلمَّ" أي: تعال "إلي الرخاء" الزرع والخصب وغير ذلك، "والمدينة خير لهم" من الرخاء؛ لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل في البركات، "لو كانوا يعلمون" بما فيها من الفضائل؛ كالصلاة في مسجدها، وثواب الإقامة فيها، وغير ذلك من الفوائد الدينية والأخروية التي تحتقر دونها الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها، وجواب لو محذوف، أي: ما خرجوا منها، أو لو للتمنى فلا جواب لها، وعلى التقديرين، ففيه تجهيل من فارقها تقويته على نفسه خيرًا عظيمًا، وللبزار برجال الصحيح عن جابر مرفوعًا:"ليأتينَّ على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الخاء، فيجدون رخاء، ثم يتحملون بأهليهم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" والأرياف: جمع ريف -بكسر الراء- وهو ما قارب المياه في أرض العرض، وقيل: هو الأرض التي فيها الزرع والخصب، وقيل غير ذلك، "والذي نفسي بيده، لا يخرج أحد رغبة عنها" أي: كراهة لها، من: رغبت عن الشيء إذا كرهته، قاله المازري، "إلا أخلف الله فيها خيرًا منه" بمولود يولد بها، أو
ظهر لك أن فيه إشعارًا بذم الخروج من المدينة، بل نقل الشيخ محب الدين الطبري عن قوم أنه عام أبدًا مطلقًا، وقال: إنه ظاهر اللفظ.
وفي الصحيح مسلم من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلّا كنت له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا".
وفيه عن سعيد -مولى المهري- أنه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال: ويحك. لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصبر أحد على لأوائها إلّا كنت له شفيعًا أو
قدوم خير منه من غيرها، وهذا فيما استوطنها، أمَّا من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه، أو استوطنها وسافر لحاجة أو شدة أو فتنة، فليس من ذلك.
قاله الباجي: "ظهر لك أن فيه إشعارًا" قويًّا "بذمِّ الخروج من المدينة" رغبةً عنها، كما قيد به الحديث، فلا يرد أن الصحابة الذين خرجوا منها لم تخلف المدينة بمثلهم، فضلًا عن خير منهم، بل نقل الشيخ محب الدين الطبري عن قوم أنه عامّ أبدًا مطلقًا، أي: في زمنه صلى الله عليه وسلم وبعده، "وقال" مختارًا له:"إنه ظاهر اللفظ".
وقد اختلف في ذلك، فقال ابن عبد البر وعياض وغيرهما: أنه خاص بزمنه صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: هو عام في زمنه وبعده، ورجَّحه النووي، وقال الأبي: إنه الأظهر، والذين خرجوا من الصحابة لم يخرجوا رغبة عنها، بل لمصالح دينية.
"وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها" أي: اللأواء، أو المدينة احتمالان للمازري، فعلى الأوّل هو عطف تفسير، "أحد من أمتي، إلّا كانت له شفيعًا يوم القيامة، أو شهيدًا" وفيه عن سعيد" صوابه كما في مسلم عن أبي سعيد مولى المهري -بفتح الميم وسكون الهاء وبالراء- نسبة إلى مهرة، قبيلة من قضاعة.
قال المنذري: لا يعرف له اسم، "أنَّه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة" بفتح الحاء والراء المهملتين، "فاستشاره في الجلاء" بفتح الجيم والمد- الخروج "من المدينة، وشكا إليه أسعارها" أي: غلوّها "وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد" مشقة "المدينة ولأوائها" عطف مساو، "فقال له أبو سعيد: ويحك، لا آمرك بذلك"، أي: الجلاء، "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصبر أحد على لأوائها إلّا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة".
"شهيدًا يوم القيامة".
و"اللأواء" بالمد: الشدة والجوع.
و"أو" في قوله: "إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا" الأظهر أنها ليست للشك؛ لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأسماء بنت عميس، وصفية بن أبي عبيد، عنه صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك، وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه قاله صلى الله عليه وسلم.
وتكون "أو" للتقسيم، ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة، وشفيعًا لباقيهم، إمَّا شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين، وإما شهيدًا لمن مات في حياته، وشفيعًا لمن مات بعده، أو غير ذلك.
وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين، أو للعالمين في القيامة، وعلى
إذا كان مسلمًا، هذا تمام الحديث عند مسلم "واللأواء" بفتح اللام وسكون الهمزة بعدها واو، و "بالمد- الشدة" أي: شدة الكسب، "والجوع".
قال عياض في شرح مسلم: سئلت قديمًا عن هذا الحديث، ولم خصَّ ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته صلى الله عليه وسلم، وادخاره إياها.
قال: وأجبت عنه بجواب شافٍ مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه، وأذكر منه هنا لمعًا تليق بهذا الموضع وأو "في قوله:"إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا" قال بعض شيوخنا: إنها للشك، "والأظهر أنها ليست للشك"، فهذا كله كلام عياض قائلًا؛ "لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله" الأنصاري "وسعد بن أبي وقاص" عند مسلم والنسائي في حديث بلفظ:"ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلّا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة" ، "وابن عمرو وأبو سعيد" الخدري، "وأبو هريرة" الثلاثة عند مسلم، "وأسماء بنت عميس" بمهملتين مصغر، وصفية بنت أبي عبيد" زوجة ابن عمر، في صحبتها خلاف، السبعة عنه صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ"، أي: شهيدًا أو شفيعًا "ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشكّ وتطابقهم" توافقهم "على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه قاله عليه السلام، وتكون أو للتقسيم، ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة، وشفيعًا لباقيهم" بيان للتقسيم، وأوضحه فقال:"إمَّا شفيعًا للعاصين، وشهيدًا للمطيعين" بطاعاتهم، "وإما شهيدًا لمن مات في حياته" صلى الله عليه وسلم، "وشفيعًا لمن مات بعده، أو غير ذلك" مما الله أعلم به كما في كلام عياض، "وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين.
شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بهذا كله على علو مرتبة وزيادة وحظوة. وإذا قلنا "أو" للشك، فإن كانت اللفظة الصحيحة "شهيدًا" اندفع الاعتراض؛ لأنها زائدة على الشفاعة المدَّخرة لغيرهم، وإن كانت اللفظة الصحيحة "شفيعًا" فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة، أنَّ هذا شفاعة أخرى غير العامّة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات؛ لكونهم على منابر أو في ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص الكرامات.
كيف لا يتحمّل المشقات من يحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسماوات، وينال ما وعده به من جزيل المثوبات وجسيم الهبات، وإنجاز وعده
في القيامة و" زائدة على شهادته على جميع الأمم" بأن أنبيائهم بلغتهم، وحذف من كلام عياض، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد:"أنا شهيد على هؤلاء" ، "فيكون لتخصيصهم بهذا كله علوّ مرتبة" منزلة، "وزيادة منزلة وحظوة" بضم المهملة وكسرها الظاء المعجمة- محبَّة ورفعة قدر، وأسقط من كلام عياض: وقد تكون أو بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا. انتهى.
وقد رواه البزار بالواو برجال الصحيح عن ابن عمر: "وإذا قلنا أو للشك" كما قال المشايخ، كما عبر عياض وهو يفيد أن قوله أولًا بعض شيوخنا، أراد بالبعض جماعة من شيوخه، قالوا: إنها للشك، "فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدًا اندفع الاعتراض" بأن شفاعته عامة؛ "لأنها زائدة على الشفاعة المدَّخرة لغيرهم، وإن كانت اللفظة الصحيحة" أي: الواردة في نفس الأمر "شفيعًا، فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة، إن هذه شفاعة أخرى غير العامَّة" المدَّخرة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات" في الجنة، أو تخفيف الحساب يوم القيامة، "أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات، ككونهم على منابر أو في ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو كونهم في روح أو غير ذلك من خصوص الكرامات" الواردة لبعضهم دون بعض، إلى هنا كلام عياض.
وقد نقله عنه النووي: "كيف لا يتحمَّل المشقَّات" استفهام توبيخي، "من يحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسماوات، وينال ما وعده به من جزيل المثوبات وجسيم الهبات، و" ينال
لشفاعته وشهادته، وبلوغ قصده في المحيا والممات، وكم عسى تكون شدة المدينة ولأوائها، وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها، لو تأمَّلت يا هذا لوجدت في البلاد ما هو في الشدة وشظف العيش مثلها أو أشق منها، وأهلها مقيمون فيها، وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال فلا ينتقل، وقوي على الرحلة فلا يرتحل، ويؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على الانتقال.
على أنَّ المدينة مع شظف العيش بها في غالب الأحيان، قد وسَّع الله فيها على بعض السكان، حتى من أصحابنا من غير أهلها، مِمَّن استوطنها وحسن فيها حاله، وتنعَّم بها باله، دون سائر البلدان، فإن مَنَّ الله على المرء بمثل ذلك هنالك، وإلّا فالصبر للمؤمن أَوْلَى، فمن وفَّقه الله تعالى صبره في إقامته بها ولو على أحر من الجمر، فيتجرَّع مرارة غصتها؛ ليجتلي عروس منصتها، ويلقي نزرًا من لأوائها؛ ليوقي بذلك من مصائب الدنيا وبلائها.
وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الإيمان
"إنجاز" أي: تعجيل "وعده الصادق بشفاعته وشهادته و" ينال "بلوغ قصده في المحيا والممات، وكم عسى تكون شدة المدينة ولأوائها" بالقصر لتوافق السجعة بعده وإن كان ممدودًا، وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها، لو تأمَّلت يا هذا لوجدت في البلاد ما هو في الشدة، وشظف" بفتح الشين والظاء المعجمتين وفاء- شدة "العيش" وضيقه "مثلها، أو أشق منها، وأهلها مقيمون فيها" جملة حالية، "وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال فلا ينتقل" يتحوَّل عنها، "وقوي على الرحلة فلا يرتحل، ويؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على الانتقال"؛ لأن حب الوطن من الإيمان، "على أن المدينة مع شظف العيش بها في غالب الأحيان، قد وسَّع الله فيها على بعض السكان، حتى من أصحابنا من غير أهلها، ممن استوطنها وحسن فيها حاله، وتنعَّم بها باله" أي: قلبه، "دون سائر البلدان، فإن مَنَّ الله على المرء بمثل ذلك هنالك" أي: سعة العيش بالمدينة فظاهر؛ لأنها منة عظيمة يجب عليه شكرها، وإلا فالصبر للمؤمن أَوْلَى" {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، "فمن وفقه الله تعالى" صيره، "رزقه الصبر "في إقامته بها ولو على أمرِّ من الجمر، فيتجرَّع مرارة غصتها؛ ليجتلي عروس منصتها" بكسر الميم- كرسي تقف عليه العروس في جلائها، "ويلقي" يصيب "نزرًا" شيئًا "قليلًا من لأوائها" شدتها؛ "ليوقى" يصان من مصائب الدنيا وبلائها".
"وقد روى البخاري" وابن ماجه في الحج، ومسلم في الإيمان، من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الإيمان ليأرز" بلام التأكيد وهمزة ساكنة وراء مكسورة، وحكى القابسي
ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها" ، أي: تنقبض وتنضم وتلتجئ، مع أنها أصل في انتشاره، فكل مؤمن له من نفسه سائق إليها في جميع الأزمان، لحبه في ساكنها صلى الله عليه وسلم، فأكرم بسكانها، ولو قيل في بعضهم ما قيل، فقد حظوا بشرف المجاورة لهذا الحبيب الجليل، فقد ثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم، فلا يسلب عليهم اسم الجار، وقد عمم صلى الله عليه وسلم في قوله: "ما زال جبريل يوصيني بالجار" ولم يخص جارًا دون جار، وكل ما احتجَّ به محتج مِن رَمْي بعض عوامّهم السنية بالابتداع وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت ذلك في شخص منهم فلا يترك
فتحها، وحكى غيره ضمها، وصوَّب ابن التين الكسر فزاي معجمة، أي: إنَّ أهل الإيمان لتنضمّ وتجتمع "إلى المدينة ،كما تأرز الحية إلى حجرها" بضم الجيم، أي: كما تنضمّ وتلتجئ إليه إذا خرجت في طلب المعاش ثم رجعت، "أي: تنقبض وتنضم وتلتجئ" تفسير للمشبّه والمشبه به، "مع أنها" أي: المدينة "أصل في انتشاره" أي: الإيمان، "فكل مؤمن له من نفسه سائق إليها في جميع الأزمان؛ لحبه في ساكنها صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: لأنه في زمنه للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم، ومن بعد ذلك لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، والصلاة في مسجده، والتبرك بمشاهدة آثاره وآثار أصحابه.
وقال الداودي: كان هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، والقرن الذي كان منهم، والذين يلونهم، والذين يلونهم خاصّة، وقال القرطبي: فيه تنبيه على صحة مذهب أهل المدينة وسلامتهم من البدع، وأن عملهم حجة.
"فأكرم بسكانها، ولو قيل في بعضهم ما قيل، فقد حظوا -بفتح الحاء المهملة وضم الظاء المعجمة بزنة رضوا لأنَّ فعله لازم، فلا يصح ضم الحاء على البناء للمفعول؛ لأنه لا يبني من لازم إلّا إذا وجد ما يصلح للنيابة عن الفاعل بعد حذفه نحو مَرَّ بزيد؛ ولأنَّ شرط البناء للمفعول أن يحذف الفاعل ويقام المفعول، أو نحوه مقامه، وما هنا ليس كذلك، "بشرف المجاورة لهذا الحبيب الجليل، فقد ثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم، فلا يسلب عليهم اسم الجار، وقد عمَّم صلى الله عليه وسلم في قوله:"ما زال جبريل يوصيني بالجار" ولم يخص جارًا من جار" فشمل الطائع والعاصي، "وكل ما احتج به محتج من رمي بعض عوامهم السنية" بضم السين- أي عوامهم أهل السنة، لكن رمي بعضهم "بالابتداع وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت
إكرامه، ولا ينتقص احترامه، فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار، ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيفما دار، بل يرجى أن يختم له بالحسنى، ويمنح بهذا القرب الصوري قرب المعنى.
فيا ساكني أكناف طيبة كلكم
…
إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
ولله در ابن جابر حيث قال:
هناؤكمو يا أهل طيبة قد حُقَّ
…
فبالقرب من خير الورى زتم السبقا
فلا يتحرك ساكن منكم إلى
…
سواها وإن جار الزمان وإن شقا
فكم ملك رام الوصول لمثل ما
…
وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا
فبشراكم نلتم عناية ربكم
…
فها أنتم في بحر نعمته غرقى
ترون رسول الله في كل ساعة
…
ومن يره فهو السعيد به حقَّا
متى جئتم لا يغلق الباب دونكم
…
وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا
فيسمع شكواكم ويكشف ضركم
…
ولا يمنع الإحسان حرًّا ولا رقًّا
ذلك في شخص" أو أشخاص، "منهم لا يترك إكرامه ولا ينتقص احترامه، فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار" اعتدى، "ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيفما دار، بل يرجى أن يختم له بالحسنى ويمنح" يعطي "بهذا القرب الصوري قرب المعنى" وأنشد لغيره:
فيا ساكني أكناف طيبة كلكم
…
إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
"ولله در ابن جابر" العلامة محمد "حيث قال:
هناؤكمو يا أهل طيبة قد حقا
…
فبالقرب من خير الورى حزتم السبقا
حق ثبت والسبق بسكون الباء التقدم.
فلا يتحرك ساكن منكمو إلى
…
سواها وإن جار الزمان وإن شقا
فكم ملك رام الوصول لمثل ما
…
وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا
فبشراكم نلتم عناية ربكم
…
فها أنتم في بحر نعمته غرقى
ترون رسول الله في كل ساعة
…
ومن يره فهو السعيد به حقا
أي: ترون آثاره من مسجده وغيره، فهو كقول الآخر:
إن لم تريه فهذه آثاره
متى جئتم لا يغلق الباب دونكم
…
وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا
فيسمع شكواكم ويكشف ضركم
…
ولا يمنع الإحسان حرًّا ولا رقّا
بطيبة مثواكم وأكرم مرسل
…
يلحظم فالدهر يجري لكم وفقا
فكم نعمة لله فيها عليكم
…
فشكرًا ونعم الله بالشكر تستبقى
أمنتم من الدجال فيها فحولها
…
ملائكة يحمون من دونها الطرقا
كذلك من الطاعون أنتم بمأمن
…
فوجه الليالي لا يزال لكم طلقا
فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم
…
وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا
حياة وموتا تحت رحماه أنتم
…
وحشرًا فستر الجاه فوقكم ملقى
فيا راحلًا عنها لدنيا تريدها
…
أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى
أتخرج عن حوز النبي وحرزه
…
إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا
لئن سرت تبغي من كريم إعانة
…
فأكرم من خير البرية ما تلقى
هو الرزق مقسوم فليس بزائد
…
ولو سرت حتى كدت تخرق الأفقا
فكم قاعد قد وسع الله رزقه
…
ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا
فعش في حمى خير الأنام ومت به
…
إذا كنت في الدارين تطلب أتٍ ترقا
إذا قمت فيما بين قبر ومنبر
…
بطيبة فاعرف أن منزلك الأرقى
بطيبة مثواكم وأكرم مرسل
…
يلاحظكم فالدهر يجري لكم وفقا
فكم نعمة لله فيها عليكم
…
فشكرًا ونعم الله بالشكر تُسْتَبْقى
أمنتم من الدجال فيها فحولها
…
ملائكة يحمون من دونها الطرقا
كذاك من الطاعون أنتم بمأمن
…
فوجه الليالي لا يزال لكم طلقا
بكسر الطاء وسكون اللام، أي: خالصًا، أو بفتح الطاء وسكون اللام مخففًا من كسرها، أي: فرحًا مسرورًا، ووصفه بذلك تجوزًا.
فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم
…
وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا
حياة وموتًا تحت رحماه أنتم
…
وحشرًا فستر الجاه فوقكم ملقى
فيا راحلًا عنها لدنيا تريدها
…
أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى
أتخرج عن حوز النبي وحرزه
…
إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا
لئن سرت تبغي من كريم إعانة
…
فأكرم من خير البرية ما تلقى
هو الرزق مقسوم فليس بزائد
…
ولو سرت حتى كدت تخرق الأفقا
فكم قاعد قد وسع الله رزقه
…
ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا
فعش في حمى خير الأنام ومت به
…
إذا كنت في الدارين تطلب أتٍ ترقا
إذا قمت فيما بين قبر ومنبر
…
بطيبة فاعرف أن منزلك الأرقى
لقد أسعد الرحمن جار محمد
…
ومن جار في ترحاله فهو الأشقى
وقد روى الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها" ورواه الطبراني في الكبير من حديث سبيعة الأسلمية.
وفي البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل
لقد أسعد الرحمن جار محمد
…
ومن جار في ترحاله فهو الأشقى
ومعنى الأبيات ظاهر فلا حاجة للتطويل بالتعلق بالألفاظ.
"وقد روى الترمذي" وقال حسن صحيح، "وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من استطاع" أي: قدر "منكم أن يموت بالمدينة" أي: يقيم بها حتى يموت بها، "فليمت بها" أي: فليقم بها حتى يموت، فهو حضّ على لزوم الإقامة بها ليتأتَّى له أن يموت بها، إطلاقًا للمسبب على سببه كما في:{وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، "فإني أشفع لمن يموت بها" أي: أخصه بشفاعة غير العامَّة زيادة في إكرامه، وأخذ منه ندب الإقامة بها مع رعاية حرمتها وحرمة ساكنها.
وقال ابن الحاج: حثَّه على محاولة ذلك بالاستطاعة التي هي بذل المجهود في ذلك، فيه زيادة اعتناء بها، ففيه دليل على تمييزها على مكة في الفضل؛ لإفراده إياها بالذكر هنا، قال السمهودي: وفيه بشرى للساكن بها بالموت على الإسلام لاختصاص الشفاعة بالمسلمين، وكفى بها مزية، فكل من مات بها مبشَّر بذلك.
"ورواه الطبراني في الكبير من حديث" ابن عمر "عن سبيعة" بنت الحرث "الأسلمية" زوج سعد بن خولة، لها حديث في عدة المتوفَّى عنها زوجها، وكذا أخرجه ابن منده في ترجمتها، وقال العقيلي: هي غيرها.
وقال ابن عبد البر: لا يصح ذلك عندي، وانتصر ابن فتحون للعقيلي، فقال: ذكر الثعالبي أن سبيعة بنت الحرث أوّل امرأة أسلمت بعد صلح الحديبية أثر العقد، وطينة الكتاب لم تجف، فنزلت آية الامتحان فامتحنها النبي صلى الله عليه وسلم، ورَدَّ على زوجها مهر مثلها، وتزوّجها عمر، قال ابن فتحون: فابن عمر إنما يروي عن امرأة أبيه.
قال: ويؤيد ذلك أن هبة الله في الناسخ والمنسوخ، ذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الحديبية لحقت به سبيعة بنت الحرث امرأة من قريش، فبان أنها غير الأسلمية، ذكره في الإصابة.
"وفي البخاري من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل" لا نافية
المدينة المسيح الدجال ولا الطاعون".
وفيه: عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب ملكان".
قال في فتح الباري: وقد استكمل عدم دخول الطاعون المدينة مع كونها شهادة، وكيف قرن بالدجال، ومدحت المدينة بعدم دخولهما.
وأجيب: بأن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه، وينشأ عنه لكونه سببه، فإذا استحضر ما تقدّم في المقصد الثامن من أنه طعن الجن، حَسُنَ مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفَّار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله
"المدينة المسيح" بحاء مهملة وإعجامها تصحيف كما قال غير واحد، "الدجال" من الدجل، وهو الكذب والخلط؛ لأنه كذاب خلاط، "ولا الطاعون، وفيه" أي: البخاري في الحج، من أفراده عن أبي بكرة نفيع بن الحرث بن كلدة الثقفي "رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل المدينة رعب" بضم الراء- فزع وخوف، "المسيح الدجال" إخبار من الصادق بأمن أهلها منه، ولا يعارض هذا حديث أنس في الصحيحين: "ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرِج الله كل كافر ومنافق" كما قدَّمته؛ لأن المراد بالرعب ما يحصل من الفزع من ذكره، والخوف من عتوه وتجبره، لا الرجفة التي تقع بالزلزلة بإخراج من ليس بمخلص، "لها" أي: المدينة "يومئذ" أي: يوم نزوله بعض السباخ التي بالمدينة -كما في حديث أنس عند الشيخين، أي: "ينزل خارج المدينة على أرض سبخة"، وأضيف لها لقربها منها، "سبعة أبواب، على كل باب ملكان" يحرسانها منه -لعنه الله.
"قال في فتح الباري: "وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كونها شهادة" كما صحَّ في الحديث، "وكيف قرن بالدجال" ولا يقرن الخبيث بالطيب، "ومدحت المدينة بعدم دخولهما" الدجال والطاعون.
"وأجيب بأن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أنَّ ذلك يترتب عليه وينشأ عنه؛ لكونه سببه، فإذا استحضر ما تقدَّم في المقصد الثامن" معلوم أن هذا ليس في الفتح، ولكن زاده المصنف لإفادة تقدّمه من أنه طعن الجن، حَسُنَ مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله فيها لا يتمكن من طعن أحد منهم"، أي: أهلها وهذا شرف
فيها لا يتمكن من طعن أحد منها.
وقد أجاب القرطبي في المفهم عن ذلك فقال: المعنى: لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها، كطاعون عمواس والجارف.
وهذا الذي قاله يقتضي أنه دخلها في الجملة، وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة في "المعارف"، وتبعه جمع منهم الشيخ محي الدين النووي في الأذكار": بأنَّ الطاعون لم يدخل المدينة أصلًا، ولا مكة أيضًا، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة الطاعون في العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة، لم يذكر أحد أنه وقع الطاعون بها أصلًا.
وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم عوَّضهم عن الطاعون بالحمَّى؛ لأن الطاعون يأتي
عظيم وأنت خبير بأن الإشكال إنما هو منع الطاعون منها مع أنه شهادة، وذكر قرن الدجال به تقوية للإشكال، لا أنه من جملته حتى يحتاج للجواب، ويقال: إنه تركه لظهوره أن صونها منه شرف لها لما في دخوله من الفتنة والفساد.
وقد أجاب القرطبي في المفهم" شرح مسلم "عن ذلك فقال: المعنى: لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيره كطاعون عمواس" بفتح العين والميم- قرية بين الرملة وبيت المقدس، نسب إليها لكونه بدأ فيها، وقيل: لأنه عَمَّ الناس وتواسوا فيه سنة ثمان وستين، سُمِّي بذلك لكثرة من مات فيه، والموت يسمى جارفًا لاجترافه الناس، والسيل جارفًا لاجترافه ما على وجه الأرض وكسح ما عليها، "وهذا الذي قاله يقتضي أنه دخلها في الجملة وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة في المعارف، وتبعه جمع منهم الشيخ محيى الدين النووي في الأذكار، بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلًا ولا مكة أيضًا".
"لكن نقل جماعة أنه دخل مكة الطاعون في العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة"، ولا يرد هذا على النووي؛ لأنه أخبر عمَّا سمعه وأدركه بالاستقراء إلى زمنه؛ لأنه مات قبل ذلك بزمن طويل سنة ست وسبعين وستمائة.
لكن في تاريخ مكة لعمر بن شبة برجال الصحيح عن أبي هريرة رفعه: "المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منهما ملك، فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون"، وحينئذ فالذي نقل أن الطاعون دخل مكة في التاريخ المذكور ليس كما ظن، أو يقال: لا يدخلها مثل ما وقع في غيرها كالجارف "بخلاف المدينة، فلم يذكر أحد أنه وقع الطاعون بها أصلًا".
"وأجاب بعضهم بأنه عليه الصلاة والسلام عوَّضهم عن" الثواب الحاصل لهم بسبب
مرة بعد مرة، والحمَّى تتكرر في كل حين، فيتعادلان في الأجر، ويتمّ المراد من عدم دخول الطاعون المدينة.
قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي جواب آخر، بعد استحضار الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب -بمهملتين آخره موحدة، بوزن عظيم- رفعه:"أتاني جبريل بالحمَّى والطاعون، فأمسكت الحمَّى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام"، وهو أن الحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا ومددًا، وكانت المدينة وبئة، كما في حديث عائشة، ثم خُيِّر صلى الله عليه وسلم في أمرين
"الطاعون بالحمى" وهي شهادة؛ "لأن الطاعون يأتي مرة بعد مرة" ويتخلّل بينهما زمن طويل عادة "والحمَّى تتكرر في كل حين، فيتعادلان في الأجر"؛ لأن كلًّا شهادة.
وقد روى الديلمي عن أنس مرفوعا: "الحمى شهادة" وسنده ضعيف، لكن له شاهد يقويه "ويتم المراد من عدم دخول الطاعون المدينة" لفظاعته، وإن كان شهادة.
"قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار" الحديث "الذي خرَّجه أحمد" والحارث بن أبي أسامة، والطبراني والحاكم أبو أحمد، وابن سعد "من رواية أبي عسيب -بمهملتين آخره موحدة بوزن عظيم- مولى النبي صلى الله عليه وسلم، مشهور بكنيته، قيل: اسمه أحمر، وقيل: سفينة مولى أم سلمة، والمرجَّح أنه غيره -كما في الإصابة "رفعه: "أتاني جبريل بالحمَّى والطاعون" بأن صورهما له بهيئة الأجسام المشخَّصة، وأراه إياهما كما جزم به بعضهم، ولا مانع من ذلك؛ لأن الأعراض والمعاني قد يجسَّمان، ويحتمل أن يريد أخبرني بهما، "فأمسكت" أي: حبست "الحمى بالمدينة"؛ لأنها لا تقتل غالبًا، بل قد تنفع كما بينه ابن القيم، وأرسلت الطاعون إلى الشام"؛ لأنها أخصب الأرض، والخصب مظنة الأشر والبطر، وبقية هذا الحديث: "فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكافرين" وهو" أي: الجواب "إن الحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا" أي: بالنسبة للعدد، "ومددًا" لقلة المناصرين لهم، "وكانت المدينة وبئة كما في حديث عائشة، في الصحيح: قدمن المدينة وهي أوبأ أرض الله تعالى، أي: أكثر وباءً وأشدّ من غيرها، والمراد: الحمَّى، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "وانقل حماها إلى الجحفة" وليس المراد الطاعون.
قال المصنف في مقصد الطب الدليل على أنَّ الطاعون يغاير الوباء، أنَّ الطاعون لم يدخل المدينة النبوية قط، وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وقال بلال: أخرجونا إلى أرض الوباء، "ثم خُيِّر صلى الله عليه وسلم في أمرين يحصل بكلٍّ منهما الأجر الجزيل، فاختار الحمَّى حينئذ"
يحصل بكلٍّ منهما الأجر الجزيل، فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبًا بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفَّار، وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمَّى بالمدينة تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمَّى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصحّ بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون، ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمَّى التي هي حظّ المؤمن من النار، ثم استمرَّ ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها؛ لتحقق إجابة دعوته، وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره في هذه المدَّة المتطاولة، فكان منع دخول الطاعون من خصائصها، ولوازم دعائه صلى الله عليه وسلم لها بالصحة، وقال بعضهم: هذا من المعجزات المحمدية؛ لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون
أي: حين خُيِّر "لقلة الموت بها غالبًا بخلاف الطاعون" لكثرة الموت غالبًا به، "ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار، وأذن له في القتال" بآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39]"كانت قضية استمرار" إضافة بيانية، أي: هي استمرار "الحمَّى بالمدينة، تضعيف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمَّى من المدينة إلى الجحفة" بضم الجيم وسكون المهملة؛ لأنها كانت حينئذ دار شرك؛ ليشتغوا بها من إعانة الكفار، فلم تزل من يومئذ أكثر البلاد حمَّى، لا يشرب أحد من مائها إلا حُمَّ، "فعادت المدينة أصحَّ بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك" أوبأ أرض الله، "ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون" وهذا قد يوهم أنه كان بها الطاعون، وليس بمراد كما علم، "ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمَّى التي هي حظّ" أي: نصيب "المؤمن من النار" كما في الحديث، تقدَّم شرحه في الطب، "ثم استمرَّ ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها؛ لتحقق إجابة دعوته" قال الشريف السمهودي: والموجودة الآن من الحمَّى بالمدينة ليس حمَّى الوباء، بل رحمة ربنا ودعوة نبينا للتكفير.
وفي الحديث: "أصح المدينة ما بين حرة بني قريظة والعريض" وهو يؤذن ببقاء شيء منها بها، وأن الذي نقل عنها أصلًا ورأسًا، وشدتها وباؤها وكثرتها، بحيث لا يعد الباقي بالنسبة إليه شيئًا، قال: ويحتمل أنها رفعت بالكلية، ثم أعيدت خفيفة لئلَّا يفوت ثوابها، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر:"وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره في هذه المدة المتطاولة، وكان منع دخول الطاعون من خصائصها" أي: المدينة، "ولوزام دعائه صلى الله عليه وسلم لها
عن بلد، بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة، انتهى ملخصًا والله أعلم.
ومن خصائص المدينة أن غبارها شفاء من الجذام والبرص، بل من كل داء،
بالصحة" بقوله: "وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة" ، "وقال بعضهم: هذا من المعجزات المحمدية؛ لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد، بل عن قرية" صغيرة، "وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة....أهـ." كلام الفتح "ملخصًا" بمعنى: إنه ترك منه ما لم يتعلّق غرضه به، لا التلخيص العرفي "والله أعلم".
ومن خصائص المدينة، أنَّ غبارها شفاء من الجذام والبرص"، وهذا لا يمكن تعليله، ولا يعرف وجهه من جهة العقل ولا الطب، فإن توقف فيه متشرع، قلنا: الله ورسوله أعلم.
ولا ينتفع به من أنكره أو شكَّ فيه أو فعله مجربًا، قال ابن جماعة: لما حج ابن المرحل المقدسي سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، ورجع إلى المدينة سمع شيخًا من المحدثين يقول: كان في جسد بعض الناس بياض، فكان يخرج إلى البقيع عريانًا في السحر ويعود، فبرأ بذلك الغبار، فكأنَّ ابن المرحل حصل في نفسه شيء، فنظر في يده فوجد فيها بياضًا قدر درهم، فأقبل على الله بالتضرّع والدعاء، وخرج إلى البقيع، وأخذ من رمل الروضة، فدلّك به ذلك البياض، فذهب "بل من كل داء" إذا استعمل على وجه التداوي بمقدار خاص وزمن خاص، ونحو ذلك كسائر الأدوية، فلا يرد أن كثير مما بها يمرضون مع أنهم لا يخلون من مسّ غبارها، ويؤيد ذلك ما عند ابن النجار وغيره من طريق ابن زبالة، أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني الحارث، فإذا هم مرضى فقال:"ما لكم"، قالوا: أصابتنا الحمَّى، قال:"فأين أنتم من صعيب"، قالوا ما نصنع به؟ قال:"تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ثم يتفل عليه أحدكم ويقول: بسم الله، تراب أرضنا بريق بعضنا، شفاء لمريضنا بإذن ربنا" ففعلوا فتركتهم الحمَّى، قال بعض رواته: وصعيب وادي بطحان، وفيه حفرة من أخذ الناس، قال ابن النجار: رأيت الحفرة والناس يأخذون منها، وذكروا أنهم جرَّبوه فوجدوه صحيحًا وأخذت منه أيضًا.
قال السمهودي: وهي موجودة الآن، يعرفها الخلف عن السلف، وينقلون ترابها للتداوي، وذكر المجد أن جماعة من العلماء جرَّبوه للحمَّى فوجدوه صحيحًا.
قال: وأنا سقيته غلامًا لي واظبته الحمَّى ستة أشهر، فانقطعت عنه من يومه. وذكر في موضع آخر كالمطرزي أن ترابه يجعل في المال ويغتسل به من الحمَّى، قلت: فينبغي أن يفعل أولًا ما ورد ثم يجمع بين الشرب والغسل أ. هـ.
كما رواه رزين العبدري في جامعه من حديث سعد، زاد في حديث ابن عمر: عجوتها شفاء من السم، ونقل البغوي عن ابن عباس في قوله تعالى:{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أنها المدينة.
وذكر ابن النجار تعليقًا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف، وافتتحت المدينة بالقرآن.
وروى الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به، عن أبي هريرة يرفعه:"المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومثوى الحلال والحرام".
وبالجملة، فكل المدينة: ترابها وطرقها وفجاجها ودورها وما حولها قد
"وذكره رزين" بن معاوية "العبدري في جامعه من حديث سعد" وروى ابن النجار وأبو نعيم والديلمي عن ثابت بن قيس بن شماس مرفوعًا: "غبار المدينة شفاء من الجذام" وروى ابن زبالة عن صيفي ابن عامر، رفعه:"والذي نفسي بيده، إن تربتها لمؤمنة، وإنها شفاء من الجذام"، أي: مؤمنة حقيقة بأن جعل فيها إدراكًا وقوة تصديق، أو مجازًا لانتشار الإيمان منها.
"وزاد في حديث ابن عمر: عجوتها شفاء من السم" العجوة اسم لنوع خاص من تمر المدينة، وتقدَّم في الطب.
ونقل البغوي عن ابن عباس" في تفسير قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 41] أنها المدينة وقد عدَّ ذلك في أسمائها، وهي نحو مائة.
"وذكر ابن النجار تعليقًا" أي: بلا إسناد، عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف" إمَّا بالفعل أو بالرعب الحاصل لهم، وافتتحت المدينة بالقرآن" من قبل هجرته إليها لما جاءه أصحاب العقبات الثلاث وأسلموا كما مَرَّ مفصلًا.
"وروى الطبراني في الأوسط بإسنادٍ لا بأس به" نحوه قول الحافظ نور الدين الهيثمي، فيه عيسى بن مينا قالون، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات، لكن قال تلميذه الحافظ في تخريج أحاديث المختصر: فرد به قالون، وهو صدوق، عن عبد الله بن نافع، وفيه لين، عن ابن المثنَّى، واسمه: سليمان بن يزيد الخزاعى، ضعيف، والحديث غريب جدًّا سندًا ومتنًا، "عن أبي هريرة يرفعه:"المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومتبوأ" وفي نسخة: ومثوى "الحلال والحرام" أي: محل بيانهما، "وبالجملة: فكل المدينة ترابها وطرقها وفجاجها" أي: طرقها الواسعة، فعطفها على ما قبلها خاص على عام، "ودورها" عطف جزء على كل، "وما حولها قد
شملته بركته صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يتبرَّكون بدخوله منازلهم، ويدعونه إليها، وإلى الصلاة في بيوتهم، ولذلك امتنع مالك من ركوب دابّة في المدينة، وقال: لا أطأ بحافر دابّة في عراص كان صلى الله عليه وسلم يمشي فيها بقدميه صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يأتي قباء للصلاة فيه والزيارة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يزوره راكبًا وماشيًا، رواه مسلم، وفي رواية له:"يأتي" بدل "يزور" فيصلي فيه ركعتين.
شملته بركته صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يتبرَّكون بدخولهم منازلهم، ويدعونه إليها" لما شاهدوه من بركته العامّة لكل مكان حلّ فيه، ولكل من نظر إليه نظر رحمة، وإلى الصلاة في بيوتهم؛ كعتبان بن مالك؛ ليتخذ مكان مصلاه مسجدًا، ولذلك، أي: التبرك بما عمَّته بركته، وللتأدب، امتنع مالك رحمه الله من ركوب دابَّة في المدينة، وقال: لا أطأ بحافر دابة" للفرس ونحوها، كالخف للبعير، والقدم للإنسان، "في عراص" جمع عرصة، أرض لا بناء فيها، والمراد هنا: مطلق الأرض أو معناها الحقيقي: "كان صلى الله عليه وسلم يمشي فيها بقدميه"، وفي الشفاء عن مالك: وقال: استحي من الله أن أطأ تربة مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة.
وروي عنه أنه وهب للشافعي كراعًا كثيرًا كان عنده، فقال له الشافعي: أمسك منها دابة، فأجابه بمثل هذا الجواب، وينبغي" للزائر أن يأتي مسجد قباء -بضم القاف يمد ويقصر ويذكر ويؤنث ويصرف ويمنع- موضع قرب المدينة، وهو محل بني عمرو بن عوف من الأنصار، نزل إليه صلى الله عليه وسلم أوّل ما هاجر، وصلَّى فيه ثلاث ليالٍ بمحل المسجد، ثم وضع أساسه بيده، وتَمَّمَ بناءه بنو عمرو، وهو الذي أسس على التقوى عند الأكثرين.
وفي مسلم أنه المسجد النبوي ولا خلف، فكلّ أسس على التقوى، ومَرَّ بيان ذلك في الهجرة، وللطبراني برجال ثقات عن الشموس بنت النعمان، قالت: نظرت إليه صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره، أي: يميله، وأنظر إلى التراب على بطنه وسرته، فيأتي الرجل فيقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أكفيك، فيقول:"لا خذ مثله" حتى أسسه، "فقد كان صلى الله عليه وسلم يزوره راكبًا" تارةً، وماشيًا آخرى، بحسب ما تيسَّر، والواو بمعنى أو.
"رواه مسلم" والبخاري في مواضع وغيرهما، كلهم عن ابن عمر، وكأنه قصر العزو لمسلم لانفراده بلفظ: يزور؛ لأن الذي في البخاري وغيره: يأتي، لكن لا يكفي هذا في الاعتذار؛ لأن المعنى واحد، ولأنَّه يوهم ناقص العلم أنه من إفراد مسلم".
وفي رواية له يأتي بدل يزور، وهي التي في أكثر الروايات، وقوله: فيصلي فيه ركعتين، زيادة انفرد بها مسلم عن البخاري.
وعنده أيضًا: أنَّ ابن عمر كان يأتيه كل سبت ويقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت.
وعند الترمذي وابن ماجه والبيهقي في حديث أسيد بن ظهير الأنصاري، يرفعه:"صلاة في مسجد قباء كعمرة"، قال الترمذي: حسن غريب. وقال المنذري:
قال ابن عبد البر: اختلف في سبب إتيانه، فقيل: لزيارة الأنصار، وقيل: للتفرّج في بساتينه، وقيل: للصلاة في مسجده، وهو الأشبه، قال: ولا يعارضه حديث: "لا تعمل المطيّ إلا لثلاثة مساجد"؛ لأن معناه عند العلماء للنذر، فإذا نذر أحد الثلاثة لزمه، أمَّا إتيان مسجد قباء أو غيره تطوعًا بلا نذر فيجوز.
وقال الباجي: ليس إتيان مسجد قباء من المدينة من إعمال المطي؛ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطي، ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعه أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي، "وعنده" أي: مسلم "أيضًا" وكذا البخاري " أنَّ ابن عمر كان يأتيه كل سبت" خصَّه لأجل مواصلته لأهل قباء، وتفقده لحال من تأخّره منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة، قاله الحافظ وغيره.
وقال الزين العراقي: ومن حكمته أنه كان يوم السبت يتفرّغ لنفسه، ويشتغل بقية الجمعة من أوّل الأحد بمصالح الأمة..... أهـ.
ومن حكمته أيضًا إرغام اليهود وإظهار مخالفتهم في ملازمة بيوتهم، "وعند الترمذي وابن ماجه والبيهقي" وشيخه الحاكم "من حديث أسيد" بضم الهمزة وفتح المهملة، "ابن ظهير" بضم الظاء المعجمة المشالة وفتح الهاء- ابن رافع بن عدي بن زيد "الأنصاري" الحارثي، له ولأبيه صحبة.
قال ابن عبد البر: مات في خلافة مروان، "يرفعه:"صلاة" وفي رواية: الصلاة بأل للجنس، فيشمل الفرض والنفل أو للعهد، فيختص بالفرض، "في مسجد قباء كعمرة" في الفضل، قال الحافظ: فيه فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه، كن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص، قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحبّ إلي من أن آتي بيت المقدس مرَّتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل "وقال الترمذي: حسن غريب".
قال الحافظ الزين العراقي: رواته كلهم ثقات، وقول ابن العربي: إنه ضعيف غير جيد، "وقال
لا نعرف لأسيد حديثًا صحيحًا غير هذا.
ورواه أحمد وابن ماجه من حديث سهل بن حنيف بلفظ: "من تطهَّر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة" وصححه الحاكم.
وينبغي أيضًا بعد زيارته صلى الله عليه وسلم أن يقصد المزارات التي بالمدينة الشريفة، والآثار المباركة، والمساجد التي صلّى فيها صلى الله عليه وسلم التماسًا لبركته، ويخرج إلى البقيع لزيارة من فيه، فإن أكثر الصحابة ممن توفي في المدينة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته مدفون في البقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين.
وروي عن مالك أنه قال: من مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف، وكذلك أمهات المؤمنين سوى خديجة فإنها بمكة، وميمونة فإنها بسرف. وقد كان صلى الله عليه وسلم يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين" رواه
المنذري: لا نعرف لأسيد حديثًا صحيحًا غير هذا" نفى معرفته بذلك، جزم الترمذي فقال: لا يصح لأسيد بن ظهير غيره، قال في الإصابة: أخرج له ابن شاهين حديثًا آخر، لكن فيه اختلاف على راويه.
"ورواه أحمد وابن ماجه من حديث سهل بن حنيف" الأنصاري البدري، مرفوعًا "بلفظ:"من تطهر" توضأ "في بيته"، وفي رواية النسائي:"من توضأ فأحسن الوضوء" ، "ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة" ركعتين فأكثر، "كان" الإتيان المشتمل على الصلاة، "له كأجر عمرة".
وفي رواية النسائي: كان له عدل عمرة، "وصحَّحه الحاكم"، ورواه الحافظ قاسم بن أصبغ عنه، مرفوعًا بلفظ:"من تطهر في بيته، ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء، لا يخرجه إلا الصلاة فيه، كان بمنزلة عمرة".
"وينبغي أيضًا بعد زيارته صلى الله عليه وسلم أن يقصد المزارات" جمع مزار، محل الزيارة، أي: الأماكن التي اشتهرت "بالمدينة الشريفة، والآثار المباركة" التي علم مشيه فيها، "والمساجد التي صلى فيها عليه الصلاة والسلام التماسًا لبركته، ويخرج إلى البقيع" بالموحدة "لزيارة مَنْ فيه، فإن أكثر الصحابة ممن توفي بالمدينة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، مدفون بالبقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين".
"وروي عن مالك أنه قال: من مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف، وكذلك" مات بها "أمهات المؤمنين سوى خديجة، فإنها بمكة" وقبرها معلوم، "وميمونة، فإنها بسرف -بفتح المهملة وكسر الراء وبالفاء- قرب مكة، "وقد كان صلى الله عليه وسلم يخرج آخر الليل إلى البقيع" الصغير؛ لأنه المراد عند الإطلاق "فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" بنصب دار على النداء،
مسلم.
قال ابن الحاج في "المدخل": وقد فرق علماؤنا بين الآفاقي والمقيم في التنفل بالطواف والصلاة، فقالوا: الطواف في حق الآفاقي أفضل له، والتنفل في حق المقيم أفضل، قال: وما نحن بسبيله من باب أولى، فمن كان مقيمًا خرج إلى زيارة أهل البقيع، ومن كان مسافرًا فليغتنم مشاهدته صلى الله عليه وسلم.
وحكي عن العارف ابن أبي جمرة، أنَّه لما دخل المسجد النبوي لم يجلس إلّا الجلوس في الصلاة، وأنه لم يزل واقفًا بين يديه -صلوات الله وسلامه عليه، وكان قد خطر له أن يذهب إلى البقيع فقال: إلى أين أذهب، هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين. انتهى.
وقيل: على الاختصاص، قيل: ويجوز جره على البدل من الضمير في عليكم، قال الخطابي: وفيه أن اسم الدار يقع على المقبرة وهو الصحيح.
"رواه مسلم" في الجنائز عن عائشة، قالت: كان صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها منه، يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" قال المصنف: ظاهره أنَّه كان يأتي البقيع في كل ليلة من التسع التي هي نوبة عائشة، ويحتمل أنه كان يأتي كل ليلة، وإنما أخبرت عمَّا علمت من ليلتها.
وهذا كان في آخر عمره صلى الله عليه وسلم بعدما أمره الله تعالى، لا كل ليلة في جميع مدة هجرته إلى المدينة، وفي قوله: آخر الليل تأكدًا لزيارة في هذا الوقت؛ لأنه مظنَّة لقبول الدعاء حسبما دلَّ عليه حديث النزول أهـ.
"قال ابن الحاج في المدخل: وقد فرق علماؤنا" المالكية "بين الآفاقي والمقيم في التنفل بالطواف والصلاة فقالوا: الطواف في حق الآفاقي أفضل له، والتنفل في حق المقيم أفضل، قال: وما نحن بسبيله من باب أَوْلى، فمن كان مقيمًا" بالمدينة المنورة "خرج" استحبابًا "إلى زيارة أهل البقيع، ومن كان مسافرًا فليغتنم مشاهدته عليه الصلاة والسلام" ولا يخرج.
"وحكى" ابن الحاج "عن العارف ابن أبي جمرة أنه لما دخل المسجد النبوي لم يجس إلا الجلوس في الصلاة، وأنه لم يزل واقفًا بين يديه -صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان خطر له أن يذهب إلى البقيع" ثم عَنَّ له الترك، "فقال: إلى أين أذهب، هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين. انتهى".