الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى ابن النجار مرفوعًا: "مقبرتان مضيئتان لأهل السماء كما تضيء الشمس والقمر لأهل الدنيا: بقيع الغرقد ومقبرة بعسقلان"، وعن كعب الأحبار قال: نجدها في التوراة، يعني: مقبرة المدينة كقبة محفوفة بالنخيل، موكّل بها ملائكة، كلما امتلأت أخذوا فكفؤها في الجنة.
وأخرج أبو حاتم من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي البقيع فيحشرون معي، ثم انتظر أهل مكة حتى نحشر بين الحرمين".
"وروى ابن النجار" الإمام الحافظ البارع الورع محمد بن البغدادي، واسع الرواية، له ثلاثة آلاف شيخ، وتصانيف عديدة، ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ومات في شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة "مرفوعًا:"مقبرتان" بضم الباء وفتحها تثنية مقبرة، موضع القبور "مضيئتان لأهل السماء كما تضيء الشمس والقمر لأهل الدنيا" ما تحت السماء، "بقيع" بفتح الموحدة اتفاقًا وقاف، "الغرقد" بغين معجمة- موضع بظاهر المدينة، فيه قبور أهلها، كان به شجر الغرقد، فذهب وبقي اسمه، "ومقبرة عسقلان" بفتح العين والقاف- مدينة من فلسطين، ناحية بالشام.
"وعن كعب الأحبار قال: نجدها في التوراة، يعني: مقبرة المدينة كقبة" محلّ مرتفع "محفوفة بالنخيل" من كل جانب، "موكل بها ملائكة، كلما امتلأت أخذوا فكفؤها في الجنة".
"وأخرج أبو حاتم" محمد بن حبان، "من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أنا أول من تنشق عنه الأرض" للبعث، فلا يتقدم عليه أحد ، "ثم أبو بكر" لكمال صداقته له، "ثم عمر" الفاروق، "ثم آتى" فعل المتكلم "البقيع"، وللترمذي: أهل البقيع، "فيحشرون معي" أي: أجتمع أنا وإياهم.
قال الطيبي: الحشر هنا الجمع كقوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} ، "ثم أنتظر أهل مكة" أي: المسلمين منهم، حتى يأتوا إلي، "حتى نحشر" أي: نجتمع كلنا "بين الحرمين" ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح كا يأتي.
الفصل الثالث: [في أمور الآخرة]
في تفضيله صلى الله عليه وسلم في الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم وعلى
الفصل الثالث: في تفضيله عليه الصلاة والسلام في الآخرة
"بفضائل الأوليات" أي: كونه أوّل كذا، وأوّل كذا "الجامعة لمزايا التكريم" جمع مزية
الدرجات العاليات، وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، المغبوط عليه من الأولين والآخرين، وانفراده بالسؤدد في مجمع جامع الأنبياء والمرسلين، وترقيه في جنة عدن أرقى مدارج السعادة، وتعاليه يوم المزيد في أعلى معالي الحسنى وزيادة.
اعلم أن الله تعالى كما فضّل نبينا صلى الله عليه وسلم في البدء، بأن جعله أول الأنبياء في الخلق، وأوّلهم في الإجابة في عالم الذر، يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، فضَّ له، كما ختم كمال الفضائل في العود، فجعله أوّل من تنشق عنه الأرض، وأوّل شافع، وأول مشفَّع، وأوّل من يؤذن له بالسجود، وأول من ينظر إلى رب العالمين، والخلق محجوبون عن رؤيته إذ ذاك، وأوّل الأنبياء يقضي بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته، وأوّل داخل إلى الجنة، وأمته أوّل الأمم دخولًا إليها.
وزاده من لطائف التحف ونفائس الطرف ما لا يجد ولا يعد:
فعيلة، وهي التمام والفضيلة، يقال: لفلان مزية، أي: فضيلة يمتاز بها عن غيره، "وعلى الدرجات" أي: الفضائل والرتب العلية، "وتحميده" أي: حمد الخلائق له "بالشفاعة" في فصل القضاء، "والمقام المحمود" الذي يقوم فيه للشفاعة، "المغبوط" بغين معجمة- أي: المستحسن حاله "عليه من الأولين والآخرين، وانفراده بالسؤدد" بضم السين فهمزة ساكنة فدال مضمومة- المجد والشرف، "في مجمع" محل جامع الأنبياء والمرسلين، وترقيه" علوه "في جنة عدن" إقامةً، "أرقى" أعلى، "مدارج السعادة وتعاليه" ارتفاعه، فهو بمعنى ترقيه حسنه اختلاف اللفظ، "يوم المزيد" هو يوم المعة في الجنة كما مَرَّ، "أعلى معالي الحسنى" الجنة "وزيادة النظر" إلى الله.
"اعلم أن الله تعالى كما فَضَّل نبينا صلى الله عليه وسلم في البدء" الابتداء "بأن جعله أوّل الأنبياء في الخلق"، كما ورد عنه وقد تقدَّم، "وأولهم في الإجابة في عالم الذر" بنعمان، "يوم" عرفة، يوم أشهدهم على أنفسهم "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" قالوا: بلى، كان أوَّل من قال بلى، نبينا صلى الله عليه وسلم، "فض" بفاء وضاد معجمة- أي: فتح، "له كما ختم كمال الفضائل في العود، فجعله أوّل من تنشق عنه الأرض" أي: أوّل من تعاد فيه الروح يوم القيامة ويظهر، "وأوّل شافع" فلا يتقدَّم عليه ملك ولا نبي، "وأول مشفَّع" بشدة الفاء مفتوحة- مقبول الشفاعة، "وأوَّل من يؤذن له بالسجود" فيسجد تحت العرش للشفاعة، "وأول من ينظر لرب العالمين، والخلق محجوبون عن رؤيته إذ ذاك" حتى يراه قبلهم، "وأوَّل الأنبياء يقضي بين أمته، وأولهم إجازة" أي: قطعًا "على الصراط بأمته، وأوّل داخل إلى الجنة، وأمته أول الأمم دخولًا إليها" بعد دخول جميع الأنبياء، فالأنبياء لهم دخولان: دخول خاصّ قبل جميع الأمم، ودخول عام مع أممهم، "وزاده" عطف على فضله، "من
فمن ذلك أنه يحشر راكبًا، وتخصيصه بالمقام المحمود، ولواء الحمد تحته آدم فمن دونه من الأنبياء، واختصاصه أيضًا بالسجود لله تعالى أمام العرش، وما يفتحه الله عليه في سجوده من التحميد والثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبله، ولا يفتحه على أحد بعده، زيادة في كرامته وقربه، وكلام الله له: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفّع، ولا كرامة فوق هذا إلا النظر إليه تعالى.
ومن ذلك: تكراره في الشفاعة، وسجوده ثانية وثالثة، وتجديد الثناء عليه، والتحميد بما يفتح الله عليه.
ومن ذلك: كلام الله تعالى له في كل سجدة: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، فعل المدل على ربه الكريم عليه، الرفيع عنده، المحب ذلك منه تشريفًا له وتكريمًا وتبجيلًا وتعظيمًا.
لطائف التحف:" جمع تحفة، وزان رطبة، وحكى سكون الحاء، ما أتحفت به غيرك، "ونفائس الطرف" بضم الطاء المهملة وفتح الراء- جمع طرفة وهي ما يستطرف، أي: يستملح، "ما لا يجد ولا يعد" لكثرته جدًّا، "فمن ذلك أنه يحشر راكبًا" على البراق كما مَرَّ في الخصائص، ويأتي قريبًا في حديث: وإلا فقد جاء في تفسير: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} أي: راكبين، ويحتمل أنه يبعث راكبًا من أوّل بخلاف غيره، فيجوز أن ركوبه بعد بعثه وفيه شيء، "وتخصيصه بالمقام المحمود، ولواء الحمد، تحته آدم فمن دونه، واختصاصه أيضًا بالسجود لله تعالى أمام" قدام "العرش، وما" أي: واختصاصه بما "يفتحه الله عليه في سجوده من التحميد والثناء عليه" سبحانه، ما لم يفتحه على أحد قبله، ولا يفتحه على أحد بعده، زيادة في كرامته وقربه، وكلام الله تعالى له" بقوله:"يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع" ما تقول سماع قبول، "وسل تعط" ما سألت، "واشفع تشفع" تقبل شفاعتك، "ولا كرامة فوق هذا إلا النظر إليه تعالى، ومن ذلك" الذي لا يعد ولا يحد، تكراره في الشفاعة، وسجوده ثانية ومرة "ثالثة، وتجديد الثناء عليه" سبحانه، "بما يفتح الله عليه من ذلك" الثناء، "وكلام الله تعالى له في كل سجدة" بقوله:"يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، فعل" بالنصب أو الرفع بتقدير: ذلك فعل "المدل" أي: المقدم "على ربه" المطمئن المسرور بسماع كلامه الكريم عليه، الرفيع عنده، المحب ذلك" الإقدام "منه، تشريفًا له وتكريمًا وتبجيلًا وتعظيمًا".
ومن ذلك: قيامه عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم بأنهم بلغوهم، وإتيانهم إليه يسئولونه الشفاعة؛ ليريحهم من غمّهم وعرقهم وطول وقوفهم، وشفاعته في أقوام قد أمر بهم إلى النار.
ومنها: الحوض، الذي ليس في الموقف أكثر أوان منه، وأن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته.
ومنها: أنه يشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم.
وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة، إلى غير ذلك مما يزيده تعالى به جلالة وتعظيمًا وتبجيلًا وتكريمًا على رءوس الأشهاد من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
فأما تفضيله صلى الله عليه وسلم بأولية انشقاق القبر المقدّس عنه، فروى مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أوّل من
فلذا قدم عليه تعالى الكلام، وفعل معه فعل المدل وهو المرشد، فسأله ما لا يقدم غيره على سؤاله، "ومن ذلك قيامه عن يمين العرش" وهو فرق الجنة، وهي فوق السموات كما يأتي، "ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره، يغبطه" بكسر الباء- يستحسنه، "فيه الأولون والآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم بأنهم بلّغوهم، وإتيانهم إليه يسألونه الشفاعة؛ ليريحهم من غمهم وعرقهم" بعين مهمة، "وطول وقوفهم وشفاعته في أقوام قد أُمِرَ بهم إلى النار، ومنها الحوض الذي ليس في الموقف أكثر أوان،" جمع إناء، "منه، وأن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته، ومنها: أنه يشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم، وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة، إلى غير ذلك مما يزيده تعالى به جلالة وتعظيمًا وتبجيلًا وتكريمًا على رءوس الأشهاد من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
وهذا كله ترجمة على سبيل الإجمال وفصله، فقال:"فأما تفضيله بأولية انشقاق القبر المقدَّس عنه، فروى مسلم" في المناقب، وأبو داود في السنة، "من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصَّه؛ لأنه يوم مجموع له
ينشق عنه القبر وأوّل شافع وأوّل مشفّع".
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي -آدم فمن سواه- إلا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر....." رواه الترمذي.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو
الناس، فتظهر سيادته لكل أحد عيانًا، فلا ينافي أنَّ سيادته ثابتة في الدنيا، فهو نحو قوله:{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11] وأطلق في الوصف بذلك لإفادة العموم لأولي العزم وغيرهم، وتخصيص ولد آدم ليس للاحتراز؛ إذ هو أفضل حتى من خواص الملائكة إجماعًا، "وأنا أوّل من ينشق عنه القبر" أي: يعجل إحياءه مبالغةً في إكرامه، وتخصيصًا بجزيل إنعامه، "وأنا أوّل شافع" للخلائق لا يتقدمه شافع، لا بشر ولا ملك في جميع أقسام الشفاعات، "وأول مشفَّع" بشد الفاء المفتوحة- أي: مقبول الشفاعة، ولم يكتف بشافع؛ لأنه قد يشفع ثانٍ فيشفع قبل الأول.
وأما حديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والحاكم: "يشفع نبيكم رابع أربعة: جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم، لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه"، فقد ضعَّفه البخاري، فلا يعارض حديث مسلم.
"وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر" أي: أقول ذلك شكرًا لا فخرًا، فهو نحو قول سليمان عليه السلام: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي: لا أقوله تكبرًا وتعاظمًا على الناس، وإن كان فيه فخر الدارين، وقيل: لا أفتخر بذلك، بل فخري بمن أعطاني هذه الفضائل، "وبيدي لواء الحمد" ، يأتي بيانه للمصنف "ولا فخر" لا عظمة ولا مباهاة، "وما من نبي يومئذ -آدم فمن سواه" أي: دونه، "إلا تحت لوائي" قال الطيبي: آدم فمن سواه، اعتراض بين النفي والاستثناء، أفاد أن آدم بالرفع بدلًا أو بيانًا من محله، ومن فيه موصولة، وسواه صلته، وصحَّ لأنه ظرف، وآثر الفاء التفصيلية في، فمن لترتيب على منوال الأمثل فالأمثل، "وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض".
وفي رواية: من تنشق الأرض عن جمجمتي، "ولا فخر" حال مؤكّدة، أي: أقول هذا ولا فخر، بل شكرًا وتحدثًا بالنعمة، وإعلامًا للأمَّة؛ لأنه مما يجب تبليغ؛ ليعتقدوا فضله على من سواه.
وبقيه هذا الحديث عند رواته: "وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع ولا فخر"، وكان الأولى للمصنف لمن لا يتركها لإفادة أنه جاء عن صحابي آخر ولزيادة ولا فخر.
"رواه الترمذي" في المناقب: وقال حسن صحيح، وكذا رواه ابن ماجه وأحمد، "وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي
بكر ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين". قال الترمذي: حسن صحيح. ورواه أبو حاتم وقال: حتى نحشر. وتقدَّم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أوّل من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش: فما أدري أكان فيمن صعق". وفي رواية: "فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله". رواه البخاري.
والمراد بالصعق: غشي يلحق من سمع صوتًا أو رأى شيئًا يفزع منه.
بالمد أجيء، "أهل البقيع فيحشرون" ، يجتمعون معي لكرامتهم على ربهم، وشرفهم عنده باستغفار نبيهم لهم وقربهم منه، "ثم أنتظر أهل مكة" المسلمين منهم، حتى يقدموا عليّ تشريفًا لهم بجوار بيت الله، "حتى أحشر بين الحرمين" أي: حتَّى يكون لي ولهم اجتماع بينهما، "قال الترمذي: حسن صحيح" وصحَّحه الحاكم.
"ورواه أبو حاتم" ابن حبان، "وقال" في روايته:"حتى نحشر" أي: نجتمع كلنا، "وتقدَّم" قريبًا، "وعن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يصعق" بفتح العين، "الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق" بكسر العين- ترك تمامه استغناء بذكره في قوله:"وفي رواية: "فأكون أول من يفيق" بضم أوله، "فإذا موسى باطش" آخذ بقوة، "بجانب العرش".
وفي رواية: بقائمة من قوائم العرش، "فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله" فلم يكن ممن صعق، أي: فإن كان أفاق قبلي فهي فضيلة ظاهرة، وإن كان ممن استثنى الله في فضيلة أيضًا.
وفي رواية: أفاق قبلي أم جوزي بصعق الطور، ولا منافاة، فإن المعنى: لا أدري أيّ الثلاثة كان الإفاقة أو الاستثناء أو المحاسبة بصعقة الطور.
"رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري" ومسلم، "والمراد بالصعق غشي" بفتح الغين وسكون الشين المعجمتين فتحتية خفيفة وبكسر الشين وشد الياء "يلحق من سمع صوتًا أو رأى شيئًا يفزع منه" أصل الغشي، مرض معروف يحصل بطول القيام في الحر ونحوه، وهو طرف من الإغماء وهو المراد هنا.
وأمَّا قول الحافظ المراد به هنا الحالة القريبة منه، فأطلقه عليه مجازًا، فإنما قاله في صلاة
ولم يبين في هذه الرواية -من الطريقين- محل الإفاقة، من أي الصعقتين، ووقع في رواية الشعبي عن أبي هريرة في تفسير سورة الزمر: إني أوَّل من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة.
والمراد بقوله: "ممن استثنى الله" قوله تعالى: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] .
الكسوف في قول أسماء بنت أبي بكر: فقمت حتى تجلَّاني الغشي، فنقله هنا من نقل الشيء في غير موضعه، وإنما قال: هنا مثل لفظ المصنف بالحرف.
"ولم يبين في هذه الرواية من الطريقين محل الإفاقة من أيّ الصعقتين" الأولى أم الثانية.
"ووقع في رواية الشعبي" عامر بن شراحيل، "عن أبي هريرة في تفسير سورة الزمر" من البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إني أوَّل من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة" أي: الثانية، ولفظ البخاري: الآخر، قال المصنف: بمد الهمزة.
وبقية هذه الرواية في البخاري: "فإذا أنا بموسى متعلّق بالعرش، فلا أدري" أكذلك كان أم بعد النفخة، زاد الحافظ: ووقع في حديث أبي سعيد: "فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض"، كذا عند البخاري في كتاب الأشخاص بهذا اللفظ، وله في غيره:"فأكون أول من يفيق"، وجزم المزي بأنه الصواب، وأنَّ تلك وهم من راويها، وكونه أوّل من تنشق عنه الأرض صحيح، لكنه في حديث آخر ليس فيه ذكر موسى، نقله عنه ابن القيم في كتاب الروح، ويمكن الجمع بأن النفخة الأولى يعقبها الصعق من جميع الخلق أحيائهم وأمواتهم وهو الفزع، كما قال تعالى:{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] ، ثم تعقب ذلك الفزع للموتى زيادة فيما هم فيه، وللأحياء موتًا، ثم ينفخ الثانية للبعث فيفيقون أجمعون، فمن كان مقبورًا انشقت عنه الأرض فخرج من قبره، ومن ليس مقبورًا ألا يحتاج إلى ذلك، وموسى ممن قبر في الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره".
أخرجه مسلم عن أنس، عقب حديث أبي هريرة، وأبي سعيد المذكورين، ولعله أشار بذلك إلى ما قررته. انتهى.
"والمراد بقوله: ممن استثنى الله قوله تعالى: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] ، وقال الداودي: أي: جعله ثانيًا لي، قال الحافظ: وهو غلط شنيع، وفي البعث لابن أبي الدنيا من مرسل الحسن: "فلا أدري أكان ممن استثنى الله أن
وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون، مع أنَّ الموتى لا إحساس لهم؟ فقيل: المراد: إن الذين يصعقون هم الأحياء، وأمَّا الموتى فهم في الاستثناء في قوله:{إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أي: إلا من سبق له الموت قبل ذلك، فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح القرطبي. ولا يعارضه ما ورد في الحديث:"إن موسى ممن استثنى الله؛ لأن الأنبياء أحياء عند الله".
وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد: صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض.
وتعقبه القرطبي: بأنه صرح صلى الله عليه وسلم بأنه يخرج من قبره، فيلقي موسى وهو متعلق
لا تصيبه النفخة أو بعث قبلي.
وزعم ابن القيم أن قوله: "أكان ممن استثنى الله" وهمٌ من بعض الرواة، والمحفوظ: أو جوزي بصعقة الطور، قال: لأنَّ الله استثنى قومًا من صعقة النفخ، وموسى داخل فيهم، وهذا لا يلتئم على سياق الحديث، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث، فلا يحسن التردد فيها، وأمَّا الصعقة العامَّة فتقع إذا جمعهم الله لفصل القضاء، فيصعق الخلق حينئذ جميعًا إلا من شاء الله.
ويدل على ذلك قوله: "أوّل من يفيق"، فإنه دالّ على أنه ممن صعق، وتردّد في موسى هل صعق، فأفاق قبله أم لم يصعق، قال: ولو كان المراد الصعقة الأولى لزم أن يكون صلى الله عليه وسلم جزم بأنه مات، وتردَّد في موسى هل مات أولًا، والواقع أن موسى كان قد مات، فدلّ على أنها صعقة فزع لا صعقة موت. انتهى.
"وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون، مع أن الموتى لا إحساس لهم، فقيل" في الجواب: "المراد أن الذين يصعقون هم الأحياء، وأمَّا الموتى فهم في الاستثناء" داخلون، "في قوله:{إِلَّا مَنْ شَاءَ} ، أي: إلّا من سبق له الموت قبل ذلك، فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح "مال" القرطبي" الشيخ أبو العباس في المفهم، "ولا يعارضه ما ورد في الحديث: "إن موسى ممن استثنى الله، لأن الأنبياء أحياء عند الله" ، وإن كانوا في صورة الأموات بالنسبة إلى أهل الدنيا، وقد ثبت ذلك للشهداء، ولا شكَّ أن الأنبياء أرفع رتبة من الشهداء، وهم ممن استثنى الله.
أخرجه إسحق بن راهويه وأبو يعلى من طريق زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي هريرة: هكذا في الفتح، ويتلوه قوله:"وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض"، وعلى هذا فلا يشكل هذا الحديث:"أنا أول من ينشق عنه القبر".
"وتعقَّبه القرطبي" في المفهم بأنه صرح صلى الله عليه وسلم بأن يخرج من قبره، فيلقى موسى وهو
بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث. انتهى.
ووقع في رواية أبي سلمة عند ابن مردويه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأقوم فأنقض التراب عن رأسي، فآتي قائمة العرش، فأجد موسى قائمًا عندها، فلا أدري أنفض التراب عن رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله".
واختلف في المستثنى من هو على عشرة أقوال: فقيل: الملائكة، وقيل: الأنبياء، وبه قال البيهقي في تأويل الحديث في تجويزه: أن يكون موسى ممن
متعلق بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث. انتهى".
قال الحافظ: ويردّه، أي: احتمال عياض صريحًا قوله في رواية: "إن الناس يصعقون فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق"، قال: ويؤيده أنه عبَّر بقوله: أفاق؛ لأنه إنما يقال: أفاق من الغشي: بعث من الموت، ولذا عبَّر عن صعقة الطور بالإفاقة؛ لأنها لم تكن موتًا بلا شك، وإذا تقرَّر ذلك ظهر صحة الحمل على أنها غشية تحصل للناس في الموقف، هذا محصّل كلامه وتعقبه انتهى.
وسبق للمصنف في الخصائص الجواب عن التعارض بقوله: الظاهر أنه عليه السلام لم يكن عنده علم ذلك، أي: كونه أوّل من ينشقّ عنه القبر حتى أعلمه الله تعالى فأخبر بذلك. انتهى. فإخباره بذلك يفيد أنه علم بإفاقته قبل موسى، فحينئذ يبقى التردد في أنه ممن استثنى الله أو جوزي بصعقة الطور، "ووقع في رواية أبي سلمة" ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة، "عن ابن مردويه" مرفوعًا:"أنا أوّل من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأقوم فأنفض التراب عن رأسي، فآتي" بالمد فعل المتكلم، أي: أجيء "قائمة العرش، فأجد موسى قائمًا عندها، فلا أدري أنفض التراب عن رأسه قبلي؟ أو كان ممن استثنى الله".
قال الحافظ: يحتمل أن قوله: "أنفض التراب قبلي" تجويز لسبقه في الخروج من القبر، أو هو كناية عن الخروج منه، وعلى كل ففيه فضيلة لموسى. انتهى.
ومعلوم أنه لا يلزم من فضيلته من هذه الجهة أفضليته مطلقًا، وبه صرَّح في المفهم، فقال: وهذه فضيلة عظيمة في حقه، ولكن لا توجب أفضليته على نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمرًا كليًّا. انتهى.
"وقد اختلف في المستثنى من هو على عشرة أقوال" ذكر منها خمسة "فقيل: الملائكة" كلهم على ظاهر هذا القول، وقيل: الأنبياء، وبه قال البيهقي في تأويل الحديث" المذكور، "في تجويزه بأن يكون موسى ممن استثنى الله"، فإذا جوز ذلك في موسى فبقية
استثنى الله، قال: وجههه عندي أنهم أحياء كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتًا في جميع معانيه إلّا في ذهاب الاستشعار.
وقيل الشهداء: واختاره الحليمي، قال: وهو مروي عن ابن عباس، فإن الله تعالى يقول:{أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وضعَّف غيره من الأقوال.
وقال أبو العباس القرطبي صاحب "المفهم": الصحيح أنه لم يأتي في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل.
وتعقَّبه تلميذه في "التذكرة" فقال: قد ورد في حديث أبي هريرة بأنهم الشهداء وهو صحيح، وعن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن هذه
الأنبياء كذلك بجامع النبوة، "قال" البيهقي:"ووجهه عندي أنهم" ردَّت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا فهم "أحياء" عند ربهم؛ "كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتًا في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار"، فإن كان موسى ممن استثنى الله، فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة، ويحاسب بصعقة يوم الطور، هذا بقية قول البيهقي.
قال السيوطي: وبهذا يتضح ترجيح أن المستثنى في الآية الملائكة الأربعة وحملة العرش الثمانية، بناءً على أن المراد بالصعق فيها الموت، وموسى عليه السلام بناءً على أنه الغشية، وكون الأمرين مرادين معًا، وكون الاستثناء على الأمرين، ولا يصح استثناء الشهداء من الغشية؛ لأنه إذا حصلت الغشية للأنبياء حتى سيد المرسلين فالشهداء أَوْلَى، انتهى.
"وقيل: الشهداء واختاره الحليمي، قال: وهو مروي عن ابن عباس، فإن الله تعالى يقول: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وضعَّف الحليمي "غيره من الأقوال" بأن الاستثناء إنما وقع في كان السماوات والأرض، وحملة العرش ليسوا إلى آخر ما يأتي في قول المصنف قريبًا، وتعقَّب بأن.... إلخ.
"وقال أبو العباس" أحمد بن عمر بن إبراهيم، الإمام المحدث العلامة، "صاحب المفهم" في شرح مسلم، مات سنة ست وخمسين وستمائة:"الصحيح أنه لم يأت في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل، وتعقبه تلميذه" أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج، مات سنة إحدى وسبعين وستمائة، "في التذكرة" بأمور الآخرة، "فقال: قد ورد في حديث أبي هريرة مرفوعًا تفسيره بأنهم الشهداء وهو الصحيح" لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، "و" أخرج أبو يعلى والحاكم والبيهقيّ "عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية" نقل
الآية: من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله. وصححه الحاكم.
وقيل: هم حملة العرش وجبريل وميكائيل وملك الموت، ثم يموتون، وآخرهم "موتًا" ملك الموت، وقيل هم الحور العين والولدان في الجنة.
بالمعنى، ولفظ أبي يعلى: ومن عطف عليه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سألت جبريل عن هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] الآية "من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا، قال" جبريل:"هم شهداء الله"، يتقلّدون أسيافهم حول عرشه.
هذا بقية الحديث الذي "صحَّحه الحاكم، وقيل: هم حملة العرش" الثمانية "وجبريل وميكائيل" زاد في رواية: "وإسرافيل، "وملك الموت" قال السيوطي: ولا تنافي بين هذا وبين الشهداء؛ لإمكان الجمع بأنَّ الجميع من المستثنى، "ثم يموتون، وآخرهم" موتًا "ملك الموت" كما أخرجه البيهقي عن أنس رفعه:"كان ممن استثنى الله ثلاثة: جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول الله وهو أعلم: يا ملك الموت، من بقي؟ فيقول: بقي وجهك الباقي الكريم الدائم، وعبدك جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول: توف نفس ميكائيل، ثم يقول -وهو أعلم: يا ملك الموت، من بقي؟ فيقول: وجهك الباقي الكريم وعبدك جبريل وملك الموت، فيقول: توف جبريل، ثم يقول وهو أعلم: يا ملك الموت، من بقي؟ فيقول: بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك ملك الموت، وهو ميت، فيقول: مت، ثم ينادي: أنا بدأت الخلق ثم أعيده، فأين الجبَّارون المتكبون، فلا يجيبه أحد، فيقول: هو الله الواحد القهار". وورد أيضًا آخرهم موتًا جبريل.
أخرج الفريابي عن أنس أنهم قالوا: يا رسول الله، من الذين استثنى الله، قال:"جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل وحملة العرش، فإذا قبض الله أرواح الخلائق قال لملك الموت: من بقي؟ فيقول: سبحانك ربي وتعاليت، يا ذا الجلال والإكرام، بقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، فيقول: خذ نفس إسرافيل، فيقول: يا ملك الموت، من بقي؟ فيقول: بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول: خذ نفس ميكائيل، فيقع كالطود العظيم، فيقول: يا ملك الموت، من بقي، فيقول: بقي وجهك الدائم وجبريل الميت الفاني، قال: لا بد من موته، فيقع ساجدًا يخفق بجناحيه"، قال صلى الله عليه وسلم:"إن فضل خلقه على ميكائيل كالطود العظيم" ولا يمكن الجمع بينهما، فيترجّح الأول بأن في حديث أبي هريرة عند ابن جرير وأبي الشيخ وغيرهم مرفوعًا في حديث طويل:"إن آخرهم موتًا ملك الموت".
"وقيل: هم الحور العين والولدان في الجنة" وخزنة الجنة والنار وما فيها من الحيات
وتعقَّب: بأن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات والأرض؛ لأن العرش فوق السماوات كلها، وبأنَّ جبريل وميكائيل وملك الموت من الصافين المسبحين؛ ولأن الحور العين والولدان في الجنة، وهي فوق السماوات ودون العرش، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء، فلا شَكّ أنها بمعزل عمَّا خلقه الله للفناء. ثم إنه وردت الأخبار بأنّ الله تعالى يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل ثم يحييهم. وأمَّا أهل الجنة فلم يأتي عنهم خبر، والأظهر أنها دار خلود، فالذي يدخلها لا يموت فيها أبدًا، مع كونه قابلًا للموت، فالذي خلق فيها أَوْلَى أن لا يموت فيها أبدًا.
فإن قلت: قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} [القصص: 88] يدل على أن
والعقارب "وتعقَّب" أي: ردَّ هذا الحليمي وضعَّفه "بأن" الاستثناء في الآية وقع من سكان السماوات والأض، أنَّ "حملة العرش ليسوا بسكان السماوات والأرض؛ لأن العرش" وحملته "فوق السماوات كلها"، فهذا ينابذ تفسيره بأنهم حملته، "وبأن جبريل وميكائيل" وإسرائيل، "وملك الموت من الصافين أقدامهم في الصلاة وأداء الطاعة ومنازل الخدمة المسبحين المنزهين الله عمَّا لا يليق به، قال اليضاوي: ولعلَّ الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة، وهذا في المعارف، وعبارة الحليمي: من الصافِّين حول العرش، انتهى.
يعني: فهذا يضعِّف تفسيره بالأربعة وما قبله تضعيف للتفسير بحملة العرش، "وضعَّف القول الخامس لأن الحور العين والولدان في الجنة، وهي فوق السماوات ودون العرش، فلم تدخل في الآية "وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء، فلا شَكَّ أنها بمعزل" أي: بجانب بعيد عمّا خلقه الله للفناء وعبارة الحليمي والجنة والنار عالمنا بانفرادهما خلقًا للبقاء، فهما بعزل عمَّا خلق للفناء فلم يدخل أهلهما في الآية "ثم وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل" وإسرافيل وجبريل، "ثم يحييهم".
"وأمَّا أهل الجنَّة فلم يأت عنهم خبر" بمثل ذلك، فلا يقال أنهم مثل أولئك؛ إذ لا دخل هنا للقياس "والأظهر أنها دار خلود، فالذي يدخلها لا يموت فيها أبدًا" وكذلك النار، كما قال تعالى:{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] "مع كونه قابلًا للموت، فالذي خلق فيها أَوْلَى أن لا يموت فيها أبدًا.
قال الحليمي: وأيضًا فإنَّ الموت لقهر المكلفين ونقلهم من دار إلى دار، ولا تكليف على أهل الجنة فأعفوا من الموت أيضًا، "فإن قلت: قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ،
الجنة نفسها تفنى ثم تعاد ليوم الجزاء، ويموت الحور العين ثم يحيون.
أجيب: بأنَّه يحتمل أن يكون معنى قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إنه قابل للهلاك، فيهلك إن أراد الله به ذلك، إلا هو سبحانه فإنه قديم، والقديم لا يمكن أن يفنى، انتهى ملخصًا من تذكرة القرطبي.
ويؤيد القول بعد موت الحور العين قولهنّ: نحن الخالدات فلا نموت، كما في الحديث.
ولا يقال: المراد من قولهن: الخلود الكائن بعد القيامة؛ لأنه لا خصوصية فيه، والأوصاف المشتركة لا يتباهى بها، والله أعلم.
وفي كتاب العظمة لأبي الشيخ بن حبان من طريق وهب بن منبه من قوله: قال: خلق الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة، ثم قال للعرش: خذ
يدل على أن الجنة نفسها تفنى" وكذا النار، "ثم تعاد ليوم الجزاء، ويموت الحور العين ثم يحيون" وبه قال بعضهم توفية بظاهر الآية.
"أجيب بأنه يحتمل أن يكون معنى قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: قابل للهلاك، فيهلك إن أراد الله به ذلك، إلا هو سبحانه، فإنه قديم، والقديم لا يمكن أن يفنى. انتهى ملخصًا من تذكرة القرطبي"
"ويؤيد القول بعدم موت الحور العين قولهن" فيما يغنين به لأزواجهنّ في الجنة: "نحن الخالدات فلا نموت" أبدًا "كما في الحديث، ولا يقال: المراد من قولهن" ذلك "الخلود الكائن بعد القيامة" فلا ينافي موتهنَّ قبلها؛ لأنه لا خصوصية فيه" لهنّ؛ إذ كل من دخل الجنة كذلك، "والأوصاف المشتركة لا يتباهى بها والله أعلم" لكن يحتمل أن قولهنَّ ذلك من باب التحدث بالنعمة، "وفي كتاب العظمة لأبي الشيخ بن حبان" بفتح المهملة والتحتية الثقيلة، واسمه: عبد الله "من طريق وهب بن منبه" بشد الموحدة المكسورة "من قوله" أي: كلامه الذي لم يروه عن صاحب ولا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه من الإسرائيليات، ولم يفهم هذا من تعسف، فجعل قول المصنف من قوله بيانًا لما مقدرة في قوله: وفي كتاب، أي: وما في كتاب، وأنه عطف على قوله سابقًا قولهن من قوله، ويؤيد القول بعدم موت الحور، كذا قال مع أنه لا تأييد في هذا أصلًا لذلك؛ إذ لا ذكر فيه للحور، قال وهب: "خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة" بزاي وجيمين واحدة- الزجاج -مثلث الزاي- معروف كما في القاموس، وتلك اللؤلؤة
الصور فتعلق به، ثم قال: كن فكان إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة، فذكر الحديث وفيه: ثم تجمع الأروح كلها في الصور، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه فتدخل كل روح في جسدها، وعلى هذا، فالنفخ يقع في الصور أولًا؛ ليصل النفخ بالروح إلى الصور وهي الأجساد،
الموصوفة بشدة البياض على صورة قرن، فلا يخالف ما رواه أبو داود والترمذي، وحسنه وصححه الحاكم وابن حبان عن عمرو، أن أعرابيًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور، فقال: قرن ينفخ فيه، وإلى ذلك يشير قول ابن مسعود: الصور كهيئة القرن ينفخ فيه.
أخرجه مسدد بسند صحيح عن موقوفًا: "ثم قال للعرش: خذ الصور فتعلّق به"، أي: أخذه، "ثم قال" تعالى:"كن فكان" أي: وجد، أي: خلق، "إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور" من العرش فأخذه، ولأحمد والطبراني بسند جيد عن زيد بن أرقم رفعه، كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وأحنى جبهته وأصغى السمع متى يؤمر، فسمع ذلك الصحابة فشقَّ عليهم فقال صلى الله عليه وسلم:"قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل"، وصحَّح الحاكم عن أبي هريرة رفعه:"إن طرف صاحب الصور منذ وكِّل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأنَّ عينيه كوكبان دريان"، "وبه ثقب" بمثلثة وقاف وموحدة: جمع ثقب وهو الخرق، "بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة" أي: مولودة كما في النهاية، فالعطف مغاير، أي: ما من شأنها أن تولد، وإلّا فهناك نفوس تخلق من الطين ومن العفونات، فذكر الحديث.
فقال: لا يخرج روحان من ثقب واحد، وفي وسط الصور كوة كاسدارة السماء والأرض، وإسرافيل واضع فمه على تلك الكوة، ثم قال له الرب تعالى: قد وكَّلتك بالصور، فأنت للنفخة وللصيحة، فدخل إسرافيل في مقدم العرش، فأدخل رجله اليمنى تحت العرش وقدم اليسرى ولم يغض طرفه منذ خلقه الله ينتظر ما يؤمر به، فقال: والبحر المسجور أوَّله في علم الله، وآخره في إرادة الله، فيه ماء ثخين شبه ماء الرجل، تسير الموجة خلف الموجة سبعين عامًا لا تلحقها، يمطر الله منه على الخلق أربعين يومًا بين الراجفة والرادفة، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل، ويجمل أرواح المؤمنين من الجنان، وأرواح الكفار من النار، فتجعل في الصور، "وفيه: ثم تجتمع الأرواح كلها في الصور، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه" أي: الصور "فتدخل كل روح في جسدها".
وبقية هذا الأثر: ثم يأمر الله جبريل أن يدخل يده تحت الأرض فيحركها حتى تنشق وينفضهم على الارض فإذا هم قيام ينظرون، وعلى هذا فالنفخ يقع في الصور أولًا ليصل النفخ" أي: أثره، "بالروح أي: الأرواح فتذهب "إلى الصور" بفتح الواو، "وهي الأجساد" جمع
فإضافة النفخ إلى الصور الذي هو القرن حقيقة، وإلى الصور التي هي الأجساد مجاز.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر، رفعه:"ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، ثم يرسل الله مطرًا كأنه الطل، فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون".
و"الليت" بكسر اللام وبالمثناة التحتية ثم الفوقية: صفحة العنق، وهما ليتان.
وأصغى: أمال.
وأخرج البيهقي بسند قوي، عن ابن مسعود موقوفًا: "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه -والصور قرن- فلا يبقى الله خلق في السماوات
صور "فإضافة النفخ إلى الصور" بضم فسكون الذي هو القرن حقيقة، وإلى الصور التي هي الأجساد مجاز".
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو" بن العاص "رفعه" أي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجال في أمتي" فذكر الحديث إلى أن قال: "ثم ينفخ في الصور لا يسمعه أحد إلّا أصغى ليتا" بكسر فسكون، أي: أمال صفحة عنقه، "ورفع ليتا" أي: أنه يميلها ويرفعها، وأسقط بعد هذا في مسلم: فأوّل من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس، وقوله: يلوط، أي: يطين ويصلح ثم يرسل الله مطرًا كأنه الطل" المطر الخفيف، "فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى" النفخة الثانية، "فإذا هم" أي: جمع الموتى "قيام ينظرون" ينتظرون ما يفعل بهم، "والليت بكسر اللام وبالمثناة التحتية" الساكنة، ثم "الفوقية صفحة العنق وهما ليتان" من الجانبين، "وأصغى: أمال" صفحة عنقه مجازًا لأن حقيقته الاستماع.
"وأخرج البيهقي" في البعث وشيخه الحاكم وصحَّحه "بسند قوي عن ابن مسعود" في حديث طويل "موقوفًا" عليه، وما في نسخ مرفوعًا خطأ، فقد صرَّح في مجمع الزوائد بأنه موقوف، وأوَّله عند البيهقي وغيره عن ابن مسعود أنه ذكر عنده الدجال، فقال:"تفترق الناس ثلاث فرق" فذكر الحديث إلى أن قال: "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه" قال القرطبي: قال علماؤنا: الأمم مجمعون على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل، وفي الأحاديث ما يدل على أن معه ملكًا آخر، فلعلَّ له قرنًا آخر ينفخ فيه. انتهى.
والأرض إلا مات، إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون". وأخرج ابن المبارك في الرقاق من مرسل الحسن: بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حي، والأخرى يحيى الله بها كل ميت، ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس، وهو ضعيف.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا، وأنا
وما ترجاه صرح به عند ابن ماجه والبزار عن أبي سعيد مرفوعا: "إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران"، وفي حديث عائشة عند الطبراني بسند حسن رفعته:"وملك الصور جاث على ركبته وقد نصب الأخرى، فالتقم الصور فحنى ظهره، وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضمّ جناحيه أن ينفخ في الصور".
قال الحافظ: هذا يدل على أن النافخ غير إسرافيل، فيحمل على أنه ينفخ النفخة الأولى إذا رأى إسرافيل ضم جناحيه، ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية وهي نفخة البعث، "والصور قرن" من لؤلؤة بيضاء على ما مر "فلا يبقي الله خلق في السماوات والأرض" ممن كان حيًّا حين النفخ، "إلا مات، إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون" أبهمه.
وقال الحليمي: اتفقت الروايات على أن بينهما أربعين سنة، وفي جامع ابن وهب: أربعين جمعة، وسنده منقطع.
"وأخرج ابن المبارك في" كتاب "الرقاق" بكسر الراء- جمع رقيق، أي الأمور التي ترقق القلب وتلينه، من مرسل الحسن البصري: بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حي، والأخرى يحيي الله بها كل ميت، ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس" موقوفًا "وهو ضعيف" أي: إسناده في الصحيحين عن أبي هريرة رفعه: "ما بين النفختين أربعون"، قالوا: يا أبا هريرة أربعون يومًا، قال أبيت، قالوا: شهرًا قال: أبيت، قالوا: عامًا، قال: أبيت، قيل: معناه: امتنعت عن بيان ذلك، وعلى ذلك فعنده علم من ذلك سمعه منه صلى الله عليه وسلم، وقيل: معناه: امتنعت أن أسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وعلى هذا لم يكن عنده علم، قال القرطبي: والأول أظهر، وإنما لم يبينه لأنه لا ضرورة إليه، وقد ورد من طريق آخر أن بين النفختين أربعين عامًا. انتهى.
أي: عن ابي هريرة مرفوعًا، في حديث عند أبي داود في كتاب البعث، لكن قال الحافظ: قد ورد من طرق أنَّ أبا هريرة صرَّح بأنه ليس عنده علم بالتعيين، وعند ابن مردويه بسند جيد، أنَّ أبا هريرة لما قال أربعون، قالوا: ماذا؟ قال: هكذا سمعت.
"وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا" من قبورهم وهو بمعنى قوله: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" وهذا من كمال عناية ربه به؛ حيث منحه هذا السبق
قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا شفيعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، يطوف عليّ ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور" رواه الدارمي، وقال الترمذي: حديث غريب.
ولم يقل: وأنا إمامهم؛ لأن دار الآخرة ليست دار تكليف.
وفيه مناسبة لسبقه بالنبوة، "وأنا قائدهم إذا وفدوا" قدموا على ربهم ركبانًا على نجائب من نور من مراكب الآخرة، والوافد الراكب، قاله ابن كثير وغيره، لكنه هنا مجرد عن بعض معناه مستعمل في مطلق القدم؛ لأن الذين يحشرون ركبانًا إنما هم المتقون، فأمَّا العصاة فمشاة كما في أحاديث، وهو صلى الله عليه وسلم قائد لجميع المؤمنين الطائعين والعصاة، "وأنا خطيبهم" أي: المتكلم عنهم "إذا انصتوا".
قال بعض شراح الترمذي: هذه خطبة الشفاعة، وقيل: قبلها، "وأنا شفيعهم إذا حبسوا" منعوا عن الجنة، "وأنا مبشرهم" بقبول شفاعتي لهم عند ربي ليريحهم "إذا أيسوا" من الناس، وفي رواية: أبلسوا، من الإبلاس وهو الانكسار والحزن، "الكرامة" التي يكرم الله عباده يومئذ، "والمفاتيح يومئذ" أي: يوم القيامة ظرف له وللكرامة، والخبر قوله: كائنان، "بيدي" تصرفي وقدرتي، "ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي" ودخل آدم بالأوّل؛ لأن في ولده من هو أكرم منه كإبراهيم وموسى، "يطوف عليّ" بشد الياء "ألف خادم كأنهم بيض مكنون" شبههم ببيض النعام المصون من الغبار، ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة، فإنه أحسن ألوان الأبدان، "أو لؤلؤ منثور" من سلكه أو من صدفه، وهو أحسن منه في غير ذلك شبههم به لحسنهم وانتشارهم في الخدمة، وهذا قاله تحدثًا بنعمة ربه كما أمره.
قال القرطبي: ولأنه مما أمر بتبليغه لوجوب اعتقاده وأنَّه حق في نفسه، وليرغب في الدخول في دينه، ويتمسك به من دخل فيه، ولتعظم محبته في قلوب متبعيه، فتكثر أعمالهم، وتطيب أحوالهم، فيحصل لهم شرف الدنيا والآخرة؛ لأن شرف المتبوع متعد لشرف التابع، فإن قيل: هذا راجع للاعتقاد، فكيف يحصل القطع به من أخبار الآحاد، قلنا: من سمع شيئًا من هذه الأمور منه صلى الله عليه وسلم مشافهةً حصل له العلم به كالصحابة، ومن لم يشافهه حصل له العلم به من طريق التواتر المعنوي لكثرة أخبار الآحاد به.
"رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ، "وقال" تلميذه "الترمذي" بعد روايته له مختصرًا: ولذا لم يعزه له المصنف "حديث غريب"، وفيه الحسن بن يزيد الكوفي، قال أبو حاتم: ليّن، "ولم يقل: وأنا إمامهم" بدل قوله: وأنا قائدهم؛ "لأن دار الآخرة ليست دار تكليف"، وهو إخبار عن حاله فيها.
وفي حديث رواه صاحب كتاب "حادي الأرواح". أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث يوم القيامة وبلال بين يديه ينادي بالأذان.
وفي كتاب "ذخائر العقبى" للطبري، مما عزاه لتخريج الحافظ السلفي، من حديث أبي هريرة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تبعث الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة على ناقتيَّ العضباء والقصواء، وأحشر أنا على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة".
"وفي حديث رواه صاحب كتاب حادي الأرواح" إلى ديار الأفراح، وهو العلامة ابن القيم، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث يوم القيامة وبلال" بن رباح، أحد السابقين الأولين، "بين يديه ينادي بالأذان" كما كان ينادي به في الدنيا، "وفي كتاب ذخائر العقبى" في مناقب ذوي القربى للطبري، الحافظ محبّ الدين المكي، "مما عزاه" نسبة "لتخريج الحافظ" العلامة الناقد، الديّن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني "السلفي" بكسر المهملة وفتح اللام وبالفاء- نسبة إلى سلفة، لقب لجده أحمد، ومعناه: الغليظ الشفة، له تصانيف.
وروى عنه الحفَّاظ ومات سنة ست وسبعين وخمسمائة، "من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تبعث الأنبياء عل الدواب" إبل من الجنة، وعند الحاكم والبيهقي وغيرهما عن على أنه قرأ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِين} [مريم: 85] فقال: "والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ولا يساقون سوقًا، ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة، لم تنظر الخلائق إلى مثلها، عليها جلال الذهب، وأزمَّتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يقرعوا باب الجنة" ، "ويحشر صالح" في قوة الاستثناء كأنه قال: إلّا صالحًا فيحشر "على ناقته" التي عقرها مكذبوا، "ويحشر إبنا فاطمة" الحسن والحسين "على ناقتيَّ" بشد الياء مثنى، "العضباء" بمهملة فمعجمة فموحدة ومد، "والقصواء" بالمد، وهذا حجة للقول بأنهما ناقتان، ورد للقول بأنهما واحدة، وللقول الآخر أنهما مع الجدعاء أسماء لناقة واحدة، ومَرَّ بسط ذلك في الدواب، "وأحشر أنا على البراق" بضم الموحدة- دابة فوق الحمار ودون البغل كما مَرَّ بيانه في المعراج، المخصوص بنبينا صلى الله عليه وسلم، ومَرَّ الخلاف: هل ركب البراق غيره من الأنبياء في الدنيا أم لا، فقول المصباح: تركبه الرسل عند المعراج إلى السماء، صوابه الرسول بالإفراد لاختصاص المعراج به اتفاقًا، ثم بعد ذلك كونه عرج على البراق قول ضعيف، والصحيح أنه ربطه ببيت المقدس وعرج على المعراج، "خطوها" بالتأنيث على معنى البراق وهو دابة "عند أقصى طرفها" منتهى بصرها، "ويحشر بلال" المؤذّن "على ناقة من نوق الجنة" المخلوقة من نور.
وأخرجه الطبراني والحاكم بلفظ: "يحشر الأنبياء على الدواب، وأبعث على البراق، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة فينادي بالأذان محضًا وبالشهادة حقًّا، حتى إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين".
وعند ابن زنجويه في "فضائل الأعمال" عن كثير بن مرة الحضرمي، قال:
"وأخرجه" أي حديث أبي هريرة المذكور "الطبراني والحاكم بلفظ: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحشر الأنبياء" يوم القيامة "على الدواب" ليوافوا المحشر، ويبعث صالح على ناقته، هذا أسقطه المصنف من لفظ عزاه لهما، "وأبعث على البراق" إكرامًا له بركوبه مركوبًا لا يشبهه ما يركبه غيره، وأسقط من لفظ من عزاه لهما، ويبعث إبناي الحسن والحسين على ناقتين من نوق الجنة، وبعده قوله:"ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادي بالأذان محضًا" خالصًا من معارضة المنكرين في الدنيا لكشف الغطاء وظهور الحق عيانًا؛ لأنه لا ينكره أحد ذلك اليوم، "وبالشهادة حقًّا" أي: ثابتًا لا يقبل التغيير ولا التبديل، ولا معارضة بين الروايتين فيما يركبه الحسنان؛ لجواز ركوبهما الأمرين العضباء والقصواء، ثم يركبان ناقتين من الجنة أو عكسه، زيادة في إكرامهما وتعظيمهما؛ إذ لو قصر ركوبهما على ناقتيّ جدهما لنقصا عن غيرهما الراكبين من نوق الجنة، "حتى إذا قال" بلال:"أشهد أن محمدًا رسول الله" هكذا الرواية عند الطبراني والحاكم، فلا عبرة بما في نسخ سقيمة من زيادة: أشهد أن لا إله إلا الله، "شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين" ، "فقبلت ممن قلبت، وردت على من ردت".
هذا بقية الحديث. عند من عزاه لهما فلم يوفّ بقوله بلفظ، بل حذف منه جملًا كما علم.
"وعند ابن زنجويه" بزاي مفتوحة فنون ساكنة فجيم مضمومة فواو ساكنة عند المحدثين؛ لأنهم لا يحبون، وبه وهو لقب لمخلد والد حميد -بضم المهملة- ابن مخلد بن قتيبة بن عبد الله الأزدي، أبي أحمد النسائي الحافظ الثقة الثبت، روى عن أبي عاصم النبيل، وعليّ بن المديني، ومحمد بن يوسف الفريابي، وعنه أبو داود والنسائي وغيرهما، مات سنة ثمان، وقيل: سبع وأربعين ومائتين، وقيل: سنة إحدى وخمسين ومائتين، "في فضائل الأعمال" أحد تصانيفه، "عن كثير بن مرة الحضرمي" نزيل حمص، له إدراك، أرسل حديثًا فذكره عبدان المروزي وابن أبي خيثمة في الصحابة، وذكره غيرهما في التابعين، ووثَّقه ابن سعد والعجلي والنسائي وغيرهم، وأدرك سبعين بدريًّا.
وروى له أصحاب السنن والبخاري في جزء القراء خلف الإمام، وذكره فيمن مات في
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبعث ناقة ثمود لصالح فيركبها من عند قبره حتى توافي به المحشر، وأنا على البراق، اختصصت به من دون الأنبياء يومئذ، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة، ينادي على ظهرها بالأذان حقًّا، فإذا سمعت الأنبياء وأممها: أشهد أن محمدًا رسول الله، قالوا: ونحن نشهد على ذلك".
وذكر الشيخ زين الدين المراغي، مما عزاه لابن النجار في تاريخ المدينة عن كعب الأحبار، والقرطبي في "التذكرة"، وابن أبي الدنيا عن كعب، أنه دخل على عائشة رضي الله عنها، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كعب: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفًا من الملائكة حتى يحفون بالقبر، ويضربون بأجنحتهم، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك يحفون بالقبر
العشر الثاني من الهجرة، قاله في الإصابة ملخصًا "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبعث ناقة ثمود" يوم القيامة "لصالح، فيركبها من عند قبره حتى توافي" أي تأتي "به المحشر، وأنا على البراق اختصصت" بالبناء للمفعول، أي: خصَّني الله به من دون الأنبياء يومئذ، فإنهم يركبون على الدوابّ كما مَرَّ، "ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادي على ظهرها بالأذان حقًّا" ثابتًا، "فإذا سمعت الأنبياء وأممها أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، قالوا: ونحن نشهد على ذلك"، وجزم الحليمي والغزالي بأن الذين يحشرون ركبانًا يركبون من قبورهم، وقال الإسماعيلي: يمشون من قبورهم إلى الموقف، ويركبون من ثَمَّ جمعًا بينه وبين حديث الصحيحين:"يحشر الناس حفاة مشاة"، قال البيهقي: والأوّل أَوْلَى، ثم لا يعارض هذا ما ورد مرسلًَا أنَّ المؤمن يركب عمله، والكافر يركبه عمله؛ لأن بعضهم يركب الدواب وبعضهم الأعمال أو يركبونها فوق الدواب.
"وذكر الشيخ زين الدين المراغي" بميم مفتوحة وغين معجمة- من مراغة الصيد بمصر، "مما عزاه لابن النجار" محمد بن محمد الحافظ، في تاريخ المدينة" المسمَّى بالدرر الثمينة "عن كعب الأحبار، والقرطبي في التذكرة، وابن أبي الدنيا" وأبو الشيخ ابن المبارك، كلهم "عن كعب" بن مانع، المعروف بكعب الأحبار "أنه دخل على عائشة رضي الله عنها فذكروا رسول الله" أي: ما يتعلق به مما خصّ به من الكرامات "صلى الله عليه وسلم، فقال كعب: ما من فجر يطلع إلّا نزل سبعون ألفًا من الملائكة حتى يحفّون" أي: يطوفون. كذا في النسخ بالنون، "بالقبر" النبوي "يضربون بأجنحتهم، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم"، لفظ رواية المذكورين: "يضربون قبر النبي صلى الله عليه وسلم بأجنحتهم ويحفون به ويستعفرون له ويصلون عليه، حتى إذا أمسوا عرجوا، وهبط سبعون ألفًا بالليل، وسبعون ألفًا بالنهار، حتى إذا انشقت عنه الأرض، خرج في سبعين ألفًا
يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، سبعون ألفًا بالليل وسبعون ألفًا بالنهار، حتى إذا انشقَّت عنه الأرض خرج في سبعين ألفًا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه وسلم.
وفي "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي، من حديث ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمينه على أبي بكر، وشماله على عمر، فقال:"هكذا نبعث يوم القيامة".
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري" رواه الترمذي، وفي رواية جامع الأصول عنه:"أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى"، وفي رواية كعب:"حلة خضراء".
من الملائكة يوقرونه" يعظمونه، "صلى الله عليه وسلم" إكرامًا. لم ينقل عن غيره، ولعلَّ كعبًا علم هذا من الكتب القديمة لأنه حبرها.
"وفي نوادر الأصول للحكيم" محمد بن علي "الترمذي" من طبقة البخاري، "من حديث ابن عمر" قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمينه على أبي بكر، وشماله على عمر، فقال:"هكذا نبعث يوم القيامة" ، ولعل ذلك عقب خروجهم من القبر، ركوب المصطفى البراق وركوبهما الناقتين.
وعند ابن أبي عاصم عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وأبو بكر عن يمينه آخذًا بيده، وعمر عن يساره آخذًا بيده، وهو متكيء عليهما، فقال:"هكذا نبعث يوم القيامة" ولا خلف، فإنه خرج من بيته ودخل المسجد.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض فأكسى" بالبناء للمفعول "حلة من حلل الجنة" تكرمة له؛ حيث أتى من لباسها قبل دخولها؛ كدأب الملوك مع خواصّها، وشاركه في ذلك إبراهيم مجازاةً على تجرده حين ألقي في النار، "ثم أقوم عن يمين العرش" فوق كرسي يؤتى له به كما يأتي، "ليس أحد من الخلائق" جمع خليقة، فيمشل الثقلين والملائكة، "يقوم ذلك المقام غيري" خصيصة شرَّفني الله بها، وأخذ أعم العام وهذا هو الفضل المطلق، والمراد بالمقام يمين العرش، فلا يعارض ما ورد أن إبراهيم يقوم على يسار العرش.
"رواه الترمذي" وقال: حسن صحيح غريب، "في رواية جامع الأصول، عنه" أي: الترمذي: "أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى" إلى آخر الحديث.
وفي رواية كعب" بن مالك الأنصاري السلمي مرفوعًا في حديث بلفظ: "ويكسوني ربي
وفي البخاري، من حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم:"تحشرون حفاة عراة غرلًا، كما بدأنا أول خلق نعيده، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم".
وأخرجه البيهقي، وزاد:"وأول من يكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حلة من الجنة، ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر"، وفيه: أنه يجلس على الكرسي عن يمين العرش.
حلة خضراء" رواه الطبراني فبيّن لونها، "وفي البخاري" في مواضع، ومسلم والترمذي، ويأتي للمصنف قريبًا، عزوه للشيخين "من حديث ابن عباس، عنه صلى الله عليه وسلم" أنه قال:"إنكم تحشرون" عند الخروج من القبور حال كونكم "حفاة" بضم الحاء وخفة الفاء- جمع حافٍ، أي: بلا خف ولا نعل، "عراة" لا ثياب عليهم، "غرلًا" بضم الغين المعجمة وإسكان الراء- يعني: غير مختونين، والغرلة ما يقطعه الخاتن وهي القلقة، قال في البدور: ترد إليه الجلدة التي قطعت بالختان، وكذلك يرد إليه كل جزء فارقه في الحياة كالشعر والظفر ليذوق الثواب وأليم العذاب انتهى.
ونحوه قول ابن عبد البر: يحشر الآدمي عاريًا، ولكل من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قطع منه شيء يرد إليه حتى الأقلف، وقال أبو الوفاء بن عقيل: "حشفة الأقلف موقاة بالقلفة، فتكون أرق، فلما زالوا تلك القطعة في الدنيا أعادها الله تعالى ليذيقها من حلاوة فضله، ثم قرأ:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} ، أي: نوجده بعينه بعد إعدامه مرة أخرى، أو تركيب أجزائه بعد تفريقها من غير إعدام، والأول أوجه؛ لأنه تعالى شبّه الإعادة بالابتداء، والابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة، بل عن الوجود بعد العدم، فوجب أن تكون الإعادة كذلك، وأورد الطيبي أن سياق الآية في إثبات الحشر والنشر؛ لأن المعنى: نوجدكم من العدم كما أوجدناكم أولًا من العدم، فكيف يستشهد بها للمعنى المذكور، أي: من كونهم غرلًا، وأجاب بأن سياق الآية وعبارتها يدل على إثبات الحشر وإشارتها على المعنى المراد من الحديث، فهو من باب الإدماج، انتهى.
"وإن أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم"؛ لأنه جُرِّدَ حين ألقي في النار، أو لأنه أوّل من لبس السراويل.
وأخرجه البيهقي" في البعث "وزاد: "وأول من يكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حُلَّة من الجنة" فبيِّن ما يكساه، "ويؤتى بكرسي فيطرح" أي: يجعل "ويوضع عن يمين العرش، ثم يؤتى" بحاء "بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم" أي: لا يصلح "لها البشر" ، فاستعمل القيام في لازم معناه اللغوي، وهو الاستقلال بالأمر دون غيره، وذلك اللازم عدم صلاحية غيره لتلك الحلة
ولا يلزم من تخصيص إبراهيم عليه السلام بأنه أوّل من يكسى أن يكون أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم، على أنه يحتمل أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم خرج من قبره في ثيابه التي مات فيها، والحلة التي يكساها يومئذ حلة الكرامة، بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم في الكسورة بالنسبة لبقية الخلق.
وأجاب الحليمي بأنه يكسى إبراهيم أولًا، ثم يكسى نبينا -عليهما الصلاة والسلام- على ظاهر الخبر، لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فيجبر بنفاستها ما فات من الأولية.
وفي حديث أبي سعيد عند أبي داود وصححه ابن حبان، أنه لما حضره الموت، دعا بثياب جدد فلبسها وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها".
"وفيه" أي: في بقية حديث البيهقي المذكور "أنه" صلى الله عليه وسلم "يجلس على الكرسي عن يمين العرش" فمعنى قوله في الحديث السابق: "ثم أقوم على يمين العرش"، أي: أثبت جالسًا على الكرسي، بدليل هذه الرواية، "ولا يلزم من تخصيص إبراهيم عليه السلام بأنه أوَّل من يكسى أن يكون أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم"؛ لأن المفضول قد يمتاز بشيء يخص به، ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة، وقول صاحب المفهم: يجوز أن يراد بالخلائق ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا يدخل في عموم خطابه، تعقّبه تلميذه في التذكرة بحديث علي عند ابن المبارك في الزهد: أوَّل من يكسى يوم القيامة خليل الله قبطيتين، ثم يكسى محمد صلى الله عليه وسلم حلة حبرة عن يمين العرش. انتهى.
"على أنَّه يحتمل أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم خرج من قبره في ثيابه التي مات" أي: دفن "فيها، والحلة التي يكساها يومئذ حلة الكرامة، بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم في الكسوة بالنسبة لبقية الخلق"، وعلى هذا الاحتمال يكون ذلك خصوية أخرى للمصطفى؛ حيث تبلى ثياب الخلائق وثيابه لا تبلى حتى يكسى الحلة.
"وأجاب الحليمي بأنه يكسى إبراهيم أولًا، ثم يكسى نبينا عليهما السلام، على ظاهر الخبر، لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فيجبر بنفاستها ما فات من الأولية" فكأنه كُسِيَ مع الخليل.
هذا بقية كلام الحليمي، "وفي حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود وصححه ابن حبان "والحاكم "أنه لما حضره الموت" أي: أسبابه، وفي رواية: لما احتضر، دعا بثياب جدد فلبسها، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها".
وعند الحارث بن أبي أسامة وأحمد بن منيع: فإنهم يبعثون في أكفانهم ويتزاورون في أكفانهم.
ويجمع بينه وبين ما في البخاري بأنَّ بعضهم يحشر عاريًا وبعضهم كاسيًا، أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى الأنبياء، وأوّل من يكسى إبراهيم عليه السلام، أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة، ثم يكون أوّل من يكسى إبراهيم.
وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء، فيكون أبو سعيد سمعه في الشهداء، فحمله على العموم.
"وعند الحارث بن أبي أسامة وأحمد بن منيع" بفتح الميم وكسر النون- ابن عبد الرحمن البغوي، نزيل بغداد، حافظة ثقة، يروي عنه مسلم والأربعة وغيرهم، مات سنة أربع وأربعين ومائتين، وله أربع وثمانون سنة، وكذا عند الخطيب، الثلاثة عن جابر رفعه:"إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه" ، "فإنهم يبعثون" من قبورهم "في أكفانهم" التي يكفنون فيها، "ويتزاورون" يزور بعضهم بعضًا في القبور "في أكفانهم" إكرامًا للمؤمنين، بتأنيس بعضهم ببعض، كما كان حالهم في الدنيا، وإن كانت الأحياء لا تشاهد ذلك، فأحوال البرزخ لا يقاس عليها، وحديث جابر هذا إسناده صالح، كما نقله الحافظ في اللسان عن العقيلي.
ورواه هو والخطيب وسموية من حديث أنس مثله، ويجمع كما قال البيهقي وغيره "بينه" أي: ما ذكر من هذه الأحاديث المصرّحة بأنهم يحشرون كاسين، "وبين ما في البخاري" ومسلم:"إنكم تحشرون حفاة عراة" ، "بأن بعضهم يحشر عاريًا وبعضهم كاسيًا" بثيابه، "أو يحشرون كلهم عراة ثم تكسى الأنبياء، وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام"؛ لأنه جُرِّدَ لما ألقي في النار، أو لأنَّه أول من لبس السراويل، أو لشدة خوفه من الله، فعجلت له الكسوة أمانًا له ليطمئن قلبه.
واختاره الحليمي، وروى ابن مندة مرفوعًا:"أوَّل من يكسى إبراهيم، فيقول الله: اكسوا خليلي ليعلم الناس فضله عليهم" ، "أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها، ثم تتناثر" تتساقط عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة، ثم يكون أوّل من يكسى إبراهيم عليه السلام، وحمل بعضهم حديث أبي سعيد، أنَّ الميت يبعث في ثيابه التي مات فيها "على الشهداء، فيكون أبو سعيد سمعه في الشهداء" الذين أمر أن يدفنوا بثيابهم التي قتلوا فيها وبها الدم، "فحمله" أبو سعيد "على العموم" في الشهداء وغيرهم، وهذا نقله القرطبي وفيه بعد.
وأمَّا ما رواه الطبري في "الرياض النضرة"، وعزاه للإمام أحمد في المناقب عن محدوج بن زيد الهذلي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أما علمت يا علي أنَّه أوّل من يدعى به يوم القيامة بي، فأقوم عن يمين العرش في ظله، فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على إثر بعض، فيقومون سماطين عن يمين العرش، ويكسون حللًا خضرًا من حلل الجنة، ألا وإنَّ أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشر، فأوّل من يدعى بي، فيدفع لك لوائي وهو لواء الحمد، فتسير به بين السماطين، آدم وجميع خلق الله تعالى يستظلون بظل لوائي يوم القيامة، وطوله مسيرة ألف سنة وستمائة سنة، وسنانه ياقوتة حمراء، قبضته فضة بيضاء، زجه درة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور، ذؤابة في المشرق، وذؤابة في المغرب، والثالث في وسط الدنيا، مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأوّل:
قال البيهقي: وبعضهم حمله على العمل الصالح لقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} "وأمّا ما رواه الطبري" الحافظ محب الدين "في الرياض النضرة" في فضائل العشرة، "وعزاه للإمام أحمد في المناقب عن محدوج" بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة فدال مهملة فواو فجيم- ابن زيد الهذلي" ذكره في الإصابة في القسم الأول، وقال: قال أبو نعيم: مختلف في صحبته، "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أما علمت يا علي أنَّه" أي: الحال والشأن، "أوَّل من يدعى به يوم القيامة بي" يعني: نفسه صلى الله عليه وسلم، "فأقوم عن يمين العرش في ظله"، أي: العرش، "فاكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على إثر بعض فيقومون سماطين" بكسر السين بزنة كتابين، أي: جانبين، "عن يمين العرش ويكسون حللًا خضرًا من حلل الجنة"، هذا منابذ لما صحَّ:"لا يقوم ذلك المقام أحد غيري"، يعني: الذي عن يمين العرش، "ألا" بالفتح والتخفيف، "وإنَّ أمتى أوَّل الأمم يحاسبون يوم القيامة ثم أبشر" يا علي -بهمزة قطع- نحو: أبشروا بالجنة، "فأول من يدعى بك" أي: من الأمة، "بعد الأنبياء فيدفع لك لوائي وهو لواء الحمد" بكسر اللام والمد، "فتسير به بين السماطين آدم وجميع ما خلق الله تعالى يستظلون بظلّ لوائي يوم القيامة، وطوله مسيرة ألف سنة وستمائة سنة، وسنانه ياقوتة خضراء" وفي نسخة: حمراء، ولعلّ المراد بالسنان هنا: ما يجعل في رأس اللواء، "قبضته المحل الذي" يقبض منه، أي: يمسك، "فضة بيضاء، زجّه" بضم الزاي وبالجيم، "درة خضراء، له ثلاث ذوائب" بذال معجمة "من نور، ذؤابة في المشرق، وذؤابة في المغرب، والثالثة في وسط الدنيا، مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأول: بسم الله الرحمن الرحيم، الثاني: الحمد لله رب العالمين، الثالث: لا إله إلا الله
بسم الله الرحمن الرحيم، الثاني: الحمد لله رب العالمين، الثالث: لا إله إلا الله الله محمد رسول الله، طول كل سطر ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة، فتسير باللواء والحسن عن يمينك والحسين عن يسارك، حتى تقف بيني وبين إبراهيم عليه السلام في ظل العرش، ثم تكسى حلة من الجنة"، والسماطان من الناس والنخل: الجانبان".
ورواه ابن سبع في الخصائص بلفظ: قال: سأل عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لواء الحمد ما صفته؟ قال: "طوله مسيرة"..... الحديث.
فقال الحافظ قطب الدين الحليمي -كما نقله عنه المحب بن الهائم: إنه موضوع بَيِّن الوضع. قال: والله أعلم بحقيقة لواء الحمد.
محمد رسول الله، طول كل سطر ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة" فنقص كل سطر عن طول ستمائة سنة؛ لأنه قدم أن طوله ألف وستمائة، "فتسير" يا علي "باللواء، والحسن عن يمينك، والحسين عن شمالك، حتى تقف بيني وبين إبراهيم عليه السلام في ظل العرش، ثم تكسى" يا علي "حلة من الجنة" والسماطان من الناس والنخل الجانبان".
ورواه ابن سبع -بفتح السين وسكون الموحدة وضمها- أبو الربيع، "في" كتاب "الخصائص بلفظ: قال: سأل عبد الله بن سلام" الصحابي المبشّر بالجنة "رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لواء الحمد ما صفته، فقال:"طوله مسيرة" ألف سنة، فذكر الحديث المذكور، فقال الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبدا لنور الحلبي، ثم المصري، مفيد الديار المصرية وشيخها، وكان حبرًا عالمًا متواضعًا، حسن السمت غزير المعرفة، متقنًا، بلغ شيوخه الألف، ولد في رجب سنة أربع وستين وستمائة، ومات في رجب سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، وله تصنيف عديدة، "كما نقله عنه المحب بن الهائم أنه موضوع بَيِّن" أي: ظاهر "الوضع"، ولا يقدح ذلك في جلالة من خرَّجه أحمد بن حنبل؛ لأن المحدثين إذا أبرزوا الحديث بسنده برئوا من عهدته، "قال" القطب: والله أعلم بحقيقة لواء الحمد، فيه إيماء إلى أنه حقيقي لا معنوي، وفيه قولان نقلهما الطيبي وغيره، أحدهما: إنه معنوي؛ لأن حقيقة اللواء الراية، والمراد: انفراده بالحمد يوم القيامة، وشهرته على رءوس الخلائق بالحمد، وقيل: حقيقي ورجّح، وعليه التوربشتي؛ حيث قال: لا مقام من مقامات عباد الله الصالحين أرفع وأعلى من مقام الحمد، ودونه تنتهي جميع المقامات، ولما كان صلى الله عليه وسلم أحمد الخلق في الدارين، أعطي لواء الحمد؛ ليأوي إلى لوائه الأولون والآخرون، وأضاف اللواء إلى الحمد الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأنه منصبه في الموقف وهو المقام المحمود المختَصّ به اهـ.
وفي حديث أبي سعيد -عند الترمذي بسند حسن- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي، آدم فمن سواه، إلّا تحت لوائي" الحديث.
واللواء: الراية، وفي عرفهم لا يمسكها إلا صاحب الجيش ورئيسه، ويحتمل أن تكون بيد غيره بإذنه، وتكون تابعة له ومتحركة بحركته، تميل معه حيثما مال، لا أن يمسكها بيده؛ إذ هذة الحالة أشرف.
وفي استعمال العرب عند الحروب، إنما يمسكها صاحبها، ولا يمنعه ذلك من القتال بها، بل يقاتل بها ممسكًا لها أشد القتال، ولذا لا يليق بإمساكها كل أحد، بل مثل علي رضي الله عنه، كما قال:"لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".
وإنما أضاف "اللواء" إلى "الحمد" الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأن
وفي حديث أبي سعيد" سعد بن مالك الخدري "عند الترمذي بسند حسن" قال الترمذي: حسن صحيح، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيام ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه، إلّا تحت لوائي"
…
الحديث" قدم المصنف تتمته قريبًا، وهو: "وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر"، ومَرَّ أن باقيه: "وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع" ولا فخر، "واللواء" بالكسر والمد: الراية، وفي عرفهم" أي: العرب، "لا يمسكها" يحملها "إلّا صاحب الجيش ورئيسه" عظيمه الشريف القدر.
ويحتمل أن تكون مراده، وقد تجعل بيد غيره بإذنه، وتكون تابعة له ومتحركة بحركته، تميل معه حيثما مال، لا أنه يمسكه بيده؛ إذ هذه الحالة أشرف" من كَوْن يمسكها، أي: يحملها بيده، وفي استعمال العرب عند الحروب: إنما يمسكها صاحبها، ولا يمنعه ذلك من القتال بها، بل يقاتل بها" حال كونها ممسكًا لها أشد القتال" معمول يقاتل ولذا لا يليق بإمسكها كل أحد، بل البطل الشجاع الصنديد مثل علي رضي الله عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر: "لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" ، أراد وجود حقيقة المحبَّة، وإلّا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة، وفيه تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فكأنَّه أشار إلى أن عليًّا تام الاتباع له صلى الله عليه وسلم حتى وصفة بصفة محبة الله، ولذا كانت محبته علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق، كما في مسلم وغيره، مرفوعًا: وقدم الجملة الأولى على الثانية إشارةً إلى أن محبَّة الله ورسوله لعلي جزاءً له على محبته لهما، "وإنما أضاف اللواء إلى الحمد الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأن
ذلك هو منصبه في ذلك الموقف دون غيره من الأنبياء.
وقد اختلف في هيئة حشر الناس.
ففي البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس على ثلاث طرائق، راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم
ذلك هو منصبه في ذلك الموقف دون غيره من الأنبياء" والمقام المحمود المخصوص به، واللواء في عرصات القيامة، مقامات لأهل الخير والشر، ينصب في كل مقام، لكلّ متبوع لواء يعرف به قدره، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به عند استه".
رواه أحمد والطيالسي عن أنس بإسناد حسن، وأعلى تلك المقامات مقام الحمد، فأعطي لأحمد الخلائق حمدًا أعظم الألوية، وهو لواء الحمد ليأوي إليه الأولون والآخرون، فهو لواء حقيقي، وعند الله علم حقيقته، ولا وجه لصرفه إلى المجاز، وإن أفتى به السيوطي؛ لأنه لا يعدل عن الحقيقة ما وجد إليها سبيل كما نصّ على ذلك ابن عبد البر وغيره في حديث أكل الشيطان.
"وقد اختلف في هيئة حشر الناس" أتى بلفظ هيئة، إشارةً إلى أنه لا خلاف في الحشر، إنما الخلاف في صفته، ففي البخاري من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس على ثلاث" ولمسلم: "ثلاث طرائق" جمع طريق، يذكر ويؤنث، قال المصنف: أي: فرق، "راغبين راهبين" يغيرا في الفرع كأصله، وقال في الفتح: وراهبين بالواو، وفي مسلم: بغير واو، وعلى الروايتين فهي الطريقة الأولى والفرقة الثانية، "واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة" يعتقبون "على بعير".
قال المصنف: بإثبات الواو في الأربعة في فرع اليونينية كهي، وقال الحافظ ابن حجر بالواو في الأول فقط، وفي رواية مسلم والإسماعيلي: بالواو في الجميع، ولم يذكر الخمسة والستة إلى العشرة إيجازًا واكتفاءً بما ذكر من الأعداء، مع أنَّ الاعتقاب ليس مجزومًا به، ولا مانع أن يجعل الله في البعير ما يقوى به على حمل العشرة، قال: ولم يذكر أن واحدًا على بعير، إشارةً إلى أنه يكون لمن فوقهم كالأنبياء، قال: ويحتمل أن يمشوا وقتًا ثم يركبوا، أو يكونوا ركبانًا، فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا، وأما الكفار فإنهم مشاة على وجوههم. انتهى.
وقال البيهقي: قوله: راغبين، إشارة إلى الأبرار، وراهبين: إشارة إلى المخلطين الذين هم بين الرجاء والخوف، والذين تحشرهم النار الكفار، وذكر الحليمي مثله وزاد: إن الأبرار وهم المتقون يؤتون بنجائب من الجنة، وأما البعير الذي يحمل عليه المخلطون فيحتمل أنه من إبل الجنة، وأنه
حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا" رواه الشيخان.
وقد مال الحليمي إلى أنَّ هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالي، وقيل: إنهم يخرجون من القبور بالوصف المذكور في حديث ابن عباس عند الشيخين: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم محشورون حفاة عراة غرلًا"، ثم قرأ:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} " ثم يفترق حالهم من
من الإبل التي تحيا وتحشر يوم القيامة، وهذا أشبه؛ لأنهم بين الرجاء والخوف، فلم يلق أن يردوا موقف الحساب على نجائب الجنة، قال: ويشبه أيضًا تخصيص هؤلاء بمن تغفر لهم ذنوبهم عند الحساب ولا يعذبون، أمَّا المعذَّبون بذنوبهم فيكونون مشاة على أقدام نقلة في البدور، "وتحشر بقيتهم النار" لعجزهم عن تحصيل ما يركبونه، وهم الفرقة الثالثة، والمراد بالنار هنا: نار الدنيا لا نار الآخرة، فلمسلم في حديث ذكر فيه الآيات الكائنة قبل قيام الساعة كطلوع الشمس من مغربها، ففيه: وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس، وفي رواية له: تطرد الناس إلى حشرهم، قال المصنف: وقيل: المراد نار الفتنة، وليس المراد نار الآخرة، قال الطيبي: لأنه جعل النار هي الحاشرة، ولو أريد نار الآخرة لقال إلى النار، ولقوله:"تقيل" من القيلولة "معهم حيث قالوا، وتبيت" من البيتوتة "معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا" فإنها جملة مستأنفة بيان للكلام السابق، فإن الضمير في تقيل راجع إلى النار الحاشرة، وهو من الاستعارة، فيدل على أنها ليست النار الحقيقية، بل نار الفتنة كما قال تعالى:{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه} [المائدة: 64] انتهى. ولا يمتنع إطلاق النار على الحقيقة، وهي التي تخرج من قعر عدن، وعلى المجازية وهي الفتنة؛ إذ لا تنافي بينهما.
"رواه الشيخان" باعتبار أصله، وإن اختلفا في بعض ألفاظه، ولذا نسبه أولًا للبخاري، فلو قال أولًا: فعن أبي هريرة، ثم قال هنا: رواه الشيخان، واللفظ للبخاري لكان أحسن.
"وقد مال الحليمي إلى أنَّ هذا الحشر" المذكور في حديث أبي هريرة، "يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالي وقيل" وإليه أشار الخطابي، "أنهم يخرجون في القبور بالوصف المذكور في حديث ابن عباس عند الشيخين" الذي قصر المصنف آنفًا في عزوه للبخاري وحده، "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" وفي رواية عن ابن عباس: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال:"إنكم تحشرون" بضم الفوقية- مبني للمفعول، وفي رواية: محشورون -بفتح الميم- اسم مفعول، وفي رواية عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، يقول:"إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلًا" بضم المعجمة وإسكان الراء- جمع أغرل، أي: أقلف، زاد في رواية للشيخين: مشاة، "ثم قرأ:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
ثم إلى الموقف، كما في حديث أبي هريرة:"ويحشر الكافر على وجهه"، قال رجل: يا رسول الله، كيف يحشر على وجهه؟ قال:"أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة" أخرجه الشيخان.
الإعادة والبعث، ونصب وعدًا على المصدر المؤكّد لمضمون الجملة المتقدمة، فناصبه مضمر، أي: وعدناه ذلك وعدًا.
ورواه الشيخان أيضًا عن عائشة بزيادة: فقلت: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض، فقال:"يا عائشة، الأمر يومئذ أشد من ذلك"، وللطبراني والبيهقي عن سودة بنت زمعة، قلت: يا رسول الله، واسوأتاه، ينظر بعضنا إلى بعض، قال:"شغل الناس عن ذلك، لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه"، وللطبراني بسند صحيح عن أم سلمة: فقلت: يا رسول الله، واسوأتاه، ينظر بعضنا إلى بعض، فقال:"شغل الناس"، قلت: فما شغلهم؟ قال: "نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل" ، "ثم يفترق حالهم من ثَم"، أي: من عند القبور، "إلى الموقف كما" قال "في حديث أبي هريرة" المذكور:"يحشر الناس على ثلاث طرائق"..... إلخ.
فلا خلف بينه وبين حديث ابن عباس: "ويحشر الكافر على وجهه" كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِم} [الإسراء: 97]، وقال:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّم} [الفرقان: 34]"قال رجل" قال الحافظ: لم أعرف اسمه، "يا رسول الله، كيف يحشر الكافر" ماشيًا "على وجهه" وحكمه ذلك المعاقبة على عدم سجوده لله في الدنيا وكفره، فمشى على وجهه إظهارًا لهوانه في ذلك المحشر العظيم جزاءً وفاقًا، والسؤال للاستفهام عمَّا سمعه السائل في القرآن، فلا حاجة لقول المصنف هذا السؤال مسبوق بمثل قوله:"يحشر بعض الناس يوم القيامة على وجوههم، "قال" صلى الله عليه وسلم: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر" بالرفع خبر الذي، واسم ليس ضمير الشأن.
وروي بالنصب خبر ليس، "على أن يمشيه" بضم التحتية وسكون الميم "على وجهه يوم القيامة" ولأحمد عن أبي هريرة أنهم قالوا:"يا رسول الله، كيف يمشون على وجوههم، قال: "إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك"، قال الحافظ: ظاهر الحديث أن المشي حقيقة، فلذلك استغربوه حتى سألوا عن كيفيته، وزعم بعض المفسرين أنه مَثَل، وأنه كقوله تعالى:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} [الملك: 22] قال مجاهد: هذا مثل المؤمن والكافر، قلت: لا يلزم من تفسير مجاهد لهذه الآية بهذا أن يفسر به الآية الآخرى، فالجواب الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر في تقرير المشي على حقيقته أهـ.
"رواه الشيخان" البخاري في تفسير سورة الفرقان وفي الرفاق، ومسلم في التوبة عن أنس
وفي حديث أبي ذر عند النسائي مرفوعًا: "إن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج، فوجًا راكبين طاعمين كاسين، وفوجًا تسحبهم الملائكة على وجوههم، وفوجًا يمشون ويسعون".
"وفي حديث أبي ذر عند النسائي" وأحمد والحاكم والبيهقي "مرفوعا" قال: حدثني الصادق المصدق صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الناس يحشرون" أسقط من الحديث يوم القيامة "على ثلاثة أفواج، فوجًا" كذا في النسخ بالنصب، والذي في شرحه للبخاري والبدور السافرة فوج بالخفض بدل من ثلاثة المجرور بعلى، وهي ثابتة في الحديث، وفي أصل نسخ المواهب، ولما رآها الجهال فوجًا بالنصب تجاسروا وضربوا على لفظ على، مع أنه لو روي بالنصب لكان بتقدير: أعنى، ولا داعية لشطب على، "راكبين طاعمين كاسين" وهم الأبرار، "وفوجا" بالخفض على الصواب، وإن كان في النسخ "فوجًا"، "تسحبهم الملائكة على وجوههم" وهم الكفار "وفوجًا" صوابه وفوج، "يمشون ويسعون" وهم المؤمنون العاصون.
والرواية كما في شرحه للبخاري والبدور بتقديم قوله: وفوج يمشون، على قوله: وفوج تسحبهم..... إلخ.
قال المصنف في بقية الحديث أنهم سألوا عن السبب في مشي المذكورين، فقال صلى الله عليه وسلم: يلقي الله الآفة على الظهر حتى لا تبقى ذات ظهر، حتى إن الرجل ليعطي الحديقة المعجبة بالشارف ذات الفتب، أي: يشتري الناقة المسنة لأجل كونها تحمله على القتب بالبستان الكريم؛ لهوان العقار الذي عزم على الرحيل عنه، وعزة الظهر الذي وصله إلى مقصوده، وهذا لائق بأحوال الدنيا، لكن استشكل قوله فيه يوم القيامة، وأجيب بأنه مئول على أنَّ المراد به: أنَّ يوم القيامة يعقب ذلك، فيكون من مجاز المجاورة، ويتعيّن ذلك لما وقع فيه أن الظهر يقل.... إلخ.
فإنه ظاهر جدًّا في أنه من أحوال الدنيا لا بعد البعث، ومن أين للذين يبعثون حفاة عراة حدائق يدفعونها في الشوارف، ومال الحليمي وغيره إلى أنَّ هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالي والتوربشتي، وقرره بما يطول ذكره. انتهى كلام المصنف، وعلى ما جزموا به يئول في قوله:"يلقي الله الآفة" ، بأن المراد يعدمها يوم القيامة فلا يجدون ظهرًا، وأما قوله:"حتى أن الرجل".......... إلخ.
فمعناه يود لو كانت له حديقة فيعطي.... إلخ على نحو قوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} [المعارج: 11] ، وغير ذلك، وليس التجوز في هذا بأبعد من التجوز في صرف يوم القيامة عن ظاهره، فإن بين النفختين أربعين سنة، ولا يذهبون إلى الحشر قبل النفخة الأولى، بل إذا وقعت مات كل حي مكانه، ثم إذا نفخ فيه الثانية قاموا من قبورهم ذاهبين إلى محل الحشر، وأي
وفي حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد" رواه الشيخان.
مجاز يصح في قوله: "وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم"، فإن الملائكة لا تفعل ذلك في الدنيا بالكفار.
"وفي حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "يحشر" بضم التحتية مبنيًّا للمفعول "الناس" أي: يحشرهم الله تعالى، "يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء" بفتح المهملة وإسكان الفاء والمد- ليس بياضها بالناصع، قاله الخطابي، وقال عياض: تضرب إلى حمرة قليلًا، ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها، وقال ابن فارس: عفراء خالصة البياض، والداودي: شديدة البياض، قاله الحافظ، والأوّل المعتَمَد، "كقرصة" أي: خبز النقي -بفتح النون وكسر القاف- أي: الدقيق النقي من القشر والنخال، قاله الخطابي، "ليس فيها علم لأحد" بفتحتين لفظ مسلم، وفي البخاري: معلم بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة وهما بمعنى واحد، وهو ما يستدل به على الطريق، وقال عياض: ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتَدَى بها في الطرقات؛ كالجبل والصخرة البارزة، وفيه تعريض بأنَّ أرض الدنيا ذهبت وانقطعت العلاقة منها، وقال الداودي: المراد أنَّه لا يجوز أحد منها شيئًا إلّا ما أدرك منها، أي: من المشي عليها والأكل منها كما في الصحيحين عن أبي سعيد مرفوعًا: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلًا لأهل الجنة" الحديث.
قال الداودي: النزل هنا ما يعجل للضيف قبل الطعام، أي: إنه يأكل منها في الوقف من يصير إلى الجنة لا أنهم يأكلون حين يدخلونها، وكذا قال ابن برجان: يأكل المؤمن من بين رجليه ويشرب من الحوض.
قال الحافظ: يستفاد منه أنَّ المؤمنين لا يعاقبون بالجوع في طول الموقف، بل يقلب الله بقدرته طبع الأرض حتى يأكلوا منها من تحت أقدامهم ما شاء الله بغير علاج ولا كلفة، ويؤيد أن هذا مراد الحديث.
ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال: تكون الأرض خبزة بيضاء، يأكل المؤمن من تحت قدميه، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير، والبيهقي عن ابن مسعود في قوله تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] قال: تبدل الأرض أرضًا كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة. ورجاله ورجال الصحيح، وهو موقوف، ورواه البيهقي من وجه آخر مرفوعًا وقال: الموقوف أصحّ، ولابن جرير عن أنس مرفوعًا. يبدل الله الأرض بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطايا، والحكمة في ذلك، كما قال ابن أبي حمزة: إن
وفي حديث عقبة بن عامر -عند الحاكم- رفعه: "تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ فاه" وأشار بيده ألجمها فاه، "ومنهم من يغطيه عرفه" وضرب بيده على رأسه.
وله شاهد عند مسلم، من حديث المقداد بن الأسود، وليس بتمامه، وفيه:"تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق".
وهذا ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم، ويتفاوتون في حصوله
ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق، فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرًا عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته؛ ولأنَّ الحكم فيه إنما يكون لله وحده، فناسب أن يكون المحل خالصًا له وحده.
"رواه الشيخان" البخاري في الرقاق، ومسلم في التوبة، "وفي حديث عقبة بن عامر عند الحاكم رفعه:"تدنو" تقرب "الشمس من الأرض يوم القيامة، فيعرق" بفتح الراء، "الناس، فمنهم من يبلغ" عرقه "نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه" بفتح الميم وكسر الكاف- مجتمع رأس العضد والكتف، "ومنهم من يبلغ فاه، وأشار بيده ألجمها فاه" تفسير لما أشار به، أي: إنه جعل يده في فمه كما يجعل اللجام في الفم، إشارةً إلى أن العرق يصل إلى فمه، "ومنهم من يغطيه عرقه" وضرب بيده" أي: جعلها "على رأسه، وله شاهد عند مسلم من حديث المقداد بن الأسود، وليس بتمامه، وفيه" وهو أوّله من طريق سليم بن عامر، قال: حدثني المقداد بن الأسود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تدنو" أي: تقرب "الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل" قال سليم بن عامر: فوالله، ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض أم الميل الذي تكحَّل به العين، هكذا في مسلم، قال القرطبي: الميل مشترك بينهما، ولهذا أشكل الأمر على سليم، والأولى به هنا مسافة الأرض؛ لأنها إذا كان بينها وبين الرءوس مقدار المرود فهي متصلة بالرءوس لقلة مقدار المرود. انتهى.
قال: "فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق" ، "فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا".
قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه، هذا بقية حديث مسلم بلفظه، وبه تعلم ما زاد عليه في حديث عقبة، "وهذا ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم" كلهم إلا
فيهم.
فإن قلت: الشمس محلها السماء، وقد قال الله تعالى:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] والألف واللام في السماء للجنس، بدليل {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فما طريق الجمع؟
فالجواب: يجوز أن تقام بنفسها دانية من الناس في المحشر ليقوى هوله وكربه، عافانا الله من كل مكروه.
وقال ابن أبي جمرة: ظاهر الحديث يقتضي تعميم الناس بذلك، ولكن دلّت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم الكفار، ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم.
الأنبياء والشهداء، ومن شاء الله كما يأتي، "ويتفاوتون في حصوله فيهم".
وأورد القرطبي في المفهم أنّ العرق للزحام ودنوّ الشمس وحرّ الأنفاس وحرّ النار التي تحدق بالمحشر، فترشح رطوبة بدن كل أحد، فيلزم أن يسبح الجميع فيه سبحًا واحدًا ولا يتفاضلون في القدر، وأجاب بأنه يزول هذا الاستبعاد بأن يخلق الله تعالى في الأرض التي تحت واحد ارتفاعًا بقدر عمله، فيرتفع العرق بقدر ذلك وجواب ثانٍ، وهو أن يحشر الناس جماعات متفرقة، فيحشر من بلغ كعبية في جهة، ومن بلغ حقويه في جهة، هكذا. انتهى.
"فإن قلت: الشمس محلها السماء، وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ} " اسم ملك "للكتب" صحيفة ابن آدم عند موته، واللام زائدة، أو السجل الصحيفة والكتاب بمعنى المكتوب، واللام بمعنى على، وفي قراءة: للكتب، جمعًا، وقيل: السجّل اسم كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم، "والألف واللام في السماء للجنس" فيشمل السبع، "بدليل:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} مجموعات، "بيمينه" بقدرته "فما طريق الجمع، فالجواب، يجوز أن تقام" أي: توجد الشمس "بنفسها" بلا سماء تكون فيها، "دانية من الناس في المحشر؛ ليقوى هوله وكربه، عافانا الله من كل مكروه".
"وقال ابن أبي جمرة" بجيم وراء، "ظاهر الحديث يقتضي تعميم الناس بذلك" أي: العرق، "ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله" من غيرهم، كالذين في ظلّ العرش، "فأشدهم الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم"، والمسلمون منهم قليل بالنسبة إلى الكفار، هذا باقي قول ابن أبي جمرة.
وأخرج أبو يعلى، وصحَّحه ابن حبان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قال: "مقداره نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون على المؤمنين كتدلي الشمس إلى أن تغرب" ، وأخرج أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد.
وللبيهقي في البعث عن أبي هريرة: "يحشر الناس قيامًا، أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء، فليجمهم العرق من شدة الكرب".
وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وسلم:"يعرف الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم".
وآخرج أبو يعلى وصحَّحه ابن حبان عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى:{يَوْمَ} بدل من محل ليوم عظيم، فناصبه مبعوثون {يَقُومُ النَّاسُ} من قبورهم {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الخلائق؛ لأجل أمره وحسابه وجزائه، "قال:"مقداره" أي: مدته، "قدر نصف يوم من خمسين ألف سنة" حقيقة على ظاهره، أو لشدته على الكفار، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات، "فيهون على المؤمنين؛ كتدلي الشمس" للغروب، "إلى أن تغرب" كناية عن قصره جدًّا.
"وأخرج أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد الخدري، وروى البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] ، قال: "هذا في الدنيا، تعرج الملائكة في يوم مقداره ألف سنة" ، وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ، قال: "هذا يوم القيامة جعله الله على الكافر مقدار خمسين ألف سنة، لو قدرتموه لكان خمسين ألف سنة من أيامكم".
"وللبيهقي في البعث عن أبي هريرة: "يحشر الناس قيامًا أربعين سنة شاخصة" رافعة، "أبصارهم إلى السماء" أي: إلى جهة العلو، "فيلجمهم العرق من شدة الكرب" الذي غشَّاهم.
"وفي البخاري" في الرقاق، ومسلم في صفة النار، "من حديث أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم قال: "يعرق" بفتح الراء "الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم" يجري سائحًا "في" وجه "الأرض" ، ثم يغوص فيها "سبعين ذراعًا" بالذراع المتعارف أو الملكي، وللإسماعيلي: سبعين باعًا، "ويلجمهم" بضم التحتية وسكون اللام وكسر الجيم- من ألجمه الماء إذا بلغ فاه، "العرق حتى يبلغ أذانهم" ظاهره استواؤهم في وصول العرق إلى الآذان، وهو مشكل بالنظر إلى العادة أنَّ الواقفين في ماء على أرض مستوية يتفاوتون في ذلك بالنظر إلى طول بعضهم وقصر بعضهم.
وعند البيهقي من حديث ابن مسعود: "إذا حشر الناس قاموا أربعين عامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم، والشمس على رءوسهم حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر".
وفي حديث أبي سعيد، عند أحمد، أنه يخفف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة "فريضة" مكتوبة، وسنده حسن.
وللطبراني من حديث ابن عمر: "ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار".
وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنَّ الذي يلجمه العرق الكافر، أخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عنه قال: "يشتد كرب الناس ذلك اليوم
وأجيب بأنه إشارة إلى غاية ما يصل، ولا ينفي أن يصل إلى دون ذلك كما مَرَّ في حديثي عقبة والمقداد، "وعند البيهقي من حديث ابن مسعود:"إذا حشر الناس قاموا أربعين عامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء" أي: جهة العلو، "لا يكلمهم" شخوص أبصارهم، بمعنى: لا يتركون الشخوص هذه المدة "والشمس على رءوسهم"، أي: قريبة منها، بدليل الحديث السابق:"تدنو الشمس" ، "حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر" إمَّا أن يحمل هذا على البعض فلا يخالف حديثي عقبة والمقداد، وإمَّا أنه يجوز أن أصل العرق يقع لجميع الناس كرشحه في الدنيا، ولو على ما مَرَّ بحسب الأعمال.
"وفي حديث أبي سعيد عند أحمد أنه يخفف الوقوف" أي: هوله "عن المؤمن حتى يكون كصلاة مكتوبة" ثلاثية أو رباعية أو ثنائية، "وسنده حسن" وهو بشرى عظيمة، ولفظه عند أحمد وأبي يعلى وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد، قال: سئل صلى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ما أطول هذا اليوم؟ فقال:"والذي نفسي بيده، أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا".
"وللطبراني من حديث ابن عمر" بن الخطاب: "ويكون ذلك اليوم على المؤمن أقصر من ساعة من نهار"، وللحاكم والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفً:"يوم القيامة على المؤمنين كمقدار ما بين الظهر والعصر" وطريق الجمع بين الأحاديث أن ذلك يختلف باختلاف المؤمنين، "وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص" أنَّ الذي يلجمه العرق الكافر".
"أخرجه البيهقي في البعث بسند حسن، عنه قال" ذكر لفظه بعد أن ساق معناه، فقال:"يشتد كرب الناس ذلك اليوم حتى يلجم" من ألجم "الكافر" بالنصب "العرق"، قيل له: فأين
حتى يلجم الكافر العرق"، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال: "على كرسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام".
وبسند قوي عن أبي موسى قال: "الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظلهم".
وأخرج ابن المبارك في "الزهد"، وابن أبي شيبة في "المصنف" واللفظ له، بسند جيد عن سلمان قال:"تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الرأس حتى تكون قاب قوسين، فيعرقون حتى يرشّح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل"، زاد ابن المبارك في روايته، "ولا يضر حرها يومئذ مؤمنًا ولا مؤمنة".
قال القرطبي: المراد من يكون كامل الإيمان، كما يدل عليه حديث المقداد وغيره: أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم.
وفي رواية عند أبي يعلى، وصححها ابن حبان:"إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار"
وهو كالصريح في أن ذلك كله في الموقف.
المؤمنون، قال: على كراسي" بشد الياء، وقد تخفف جمع كرسي -بضم الكاف أشهر من كسرها "من ذهب، ويظلل عليهم الغمام" فلا يجدون حرًّا فلا يعرقون، وهذا البعض المؤمنون.
"و" عند البيهقي أيضًا "بسند قوي عن أبي موسى" الأشعري "قال: الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة وأعمالهم تظلهم، وأخرج عبد الله بن المبارك" المروزي "في" كتاب الزهد له، "وابن أبي شيبة في المصنَّف، واللفظ له بسند جيد عن سليمان" الفارسي، "قال: تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين وتدنو" تقرب، "من جماجم الناس" بمقدار ميل حتى تكون قاب قوسين، فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع" يعلو "حتى يغرغر الرجل".
"زاد ابن المبارك في روايته: ولا يضر حرها يومئذ مؤمنًا ولا مؤمنة، قال القرطبي: المراد من يكون كامل الإيمان كما يدل عليه حديث المقداد وغيره" كعقبة، "أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم".
"وفي رواية عند أبي يعلى وصحَّحها ابن حبان" وغيره: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب، أرحني ولو إلى النار" من شدة كربه، "وهو كالصريح في أنّ ذلك
ومن تأمَّل الحالة المذكورة، عرف عظيم الهول فيها، وذلك أنَّ النار تحفّ بأرض الموقف، وتدنو الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض، وماذا يرونه من العرق، مع أن كل أحد لا يجد إلا قدر موضع قدميه، فكيف يكون حال هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فيه.
إن هذا لما يبهر العقول، ويدل على عظيم القدرة، ويقتضي بالإيمان بأمور الآخرة، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يعترض على ذلك بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول.
فتأمل -رحمك الله- شدة هذا الازدحام والانضمام والاتساق والالتصاق، واجتماع الإنس والجان، ومن يجمع معهم من سائر أصناف الحيوان، وانضغاطهم وتدافعهم واختلاطهم، وقرب الشمس منهم، وما يزاد في حرها، ويضاعف في وهجها، ولا ظلّ إلا ظل عرش ربك بما قدمته، مع ما انضاف إلى ذلك من حر البأس، لتزاحم الناس واحتراق القلوب، لما غشيها من الكروب.
كله في الموقف، ومن تأمَّل الحالة المذكورة عرف عظم الهول" المخافة من الأمر، لا يدري ما هجم عليه منه كما في القاموس، وفي ذلك الشدة الزائدة "فيها، وذلك أنّ الناس تحف" تحيط "بأرض الموقف، وتدنو الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض، وماذا يرونه من العرق، مع أنّ كل أحد لا يجد إلا قدر موضع قدميه، فكيف يكون حال هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فيه، إن هذا لما" أي: من الأشياء التي، وفي نسخ لما بفتح اللام وخفة الميم، "يبهر" بفتح الهاء- يغلب "العقول، ويدل على عظيم القدرة ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة، وأن ليس للعقل فيه مجال" مدخل، "ولا يعترض على ذلك بعقل ولا قياس" لعدم الجامع، "ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول، فتأمّل رحمك الله شدة هذا الازدحام" الضيق والانضمام" الاجتماع، "والاتساق" الانتظام، "والالتصاق" بالصاد وبالزاي وبالسين لغات معناها الاجتماع بالجنب، والألفاظ الأربعة متغايرة بالاعتبار أو متساوية، "واجتماع الإنس والجانّ ومن يجمع معهم من سائر أصناف الحيوان وانضغاطهم" بضاد وغير معجمتين، أي: انعصارهم وتدافعهم واختلاطهم، وقرب الشمس منهم، وما يزاد في حرها "ويضاعف" يزاد "في وهجها" توقدها وحرها، "ولا ظل إلا ظل عرش ربك بما قدمته" من عمل تجازى عليه بالظل، "مع ما انضاف" انضمَّ "إلى ذلك من حر البأس" بموحدة الشدة، "لتزاحم الناس واحتراق القلوب لما غشيها من الكروب، ولا ريب أن هذا موجب لحصول العطش في ذلك اليوم وكثرة
ولا ريب أن هذا موجب لحصول العطش في ذلك اليوم، وكثرة الالتهاب، والماء ثَمَّ أعز موجود، وأعظم مفقود، فلا منهل مورود إلا حوض صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وسلم، وزاده فضلًا وشرفًا لديه، ولا مشرب لأمته سواه، ولا تبرد أكبادهم إلا به، فالشربة منه كما ورد تروي الظمأ، وتشفي من الصدى، وتذهب بكل داء فلا يظمأ شاربها، ولا يسقم بعدها أبدًا.
وفي حديث أنس عند البزار: من شرب منه -أي: من الحوض- شربة لم يظمأ أبدًا، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدًا، وزاد في حديث أبي أمامة عند أحمد وابن حبان، ولم يسود وجهه أبدًا.
وفي حديث ثوبان عند الترمذي وصحّحه الحاكم: أكثر الناس عليه ورودًا فقراء المهاجرين.
الالتهاب والماء، ثم" بالفتح والتشديد هناك "أعز موجود وأعظم مفقود، فلا منهل مورود إلا حوض صاحب المقام المحمود" مقام الشفاعة، ويأتي للمصنف "صلى الله عليه وسلم، وزاده فضلًا وشرفًا لديه، ولا مشرب لأمته سواه، ولا يبرد أكبادهم إلا إياه".
كذا في نسخ، وهي المناسبة للسجع لا نسخة إلا به "فالشربة منه تروي الظمأ" العطش، "وتشفي من الصدى" العطش، فحسنه اختلاف اللفظ، "وتذهب بكل داء فلا يظمأ شاربها ولا يشكو"، وفي نسخة: ولا يسقم "بعدها أبدًا" فهي ريّ وشفاء.
"ففي حديث أنس عند البزار"، والطبراني في الأوسط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حوضي من كذا إلى كذا، فيه من الآنية عدد النجوم، أطيب ريحًا من المسك، وأحلى من العسل، وأبيض من اللبن من شرب منه"، أي: من الحوض "شربة لما يظمأ أبدًا، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدًا".
"وزاد في حديث أبي أمامة عند أحمد وابن حبان"، والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي أن يزيد بن الأخنس، قال: يا رسول الله ما سعة حوضك؟ قال: "ما بين عدن إلى عمَّان، وأن فيه مثعبين من ذهب وفضة"، قال: فماء حوضك؟ قال: "أشد بياضا من اللبن، وأحلى مذاقة من العسل، وأطيب رائحة من المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، ولم يسوّد وجهه أبدًا"، والمثعب: بفتح الميم والعين المهملة بينهما مثلثة ساكنة وآخره موحدة- مسيل الماء.
"وفي حديث ثوبان عند الترمذي وصححه الحاكم: "أكثر الناس عليه ورودًا فقراء المهاجرين" ، وجاء بلفظ: أوّل عند مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان: سمعت
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عند الشيخين: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، ورائحته أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء،
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حوضي من عدن إلى عمّان، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأكاويبه عدد النجوم، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، أول الناس ورودًا عليه فقراء المهاجرين"، فقال عمر بن الخطاب: من هم يا رسول الله؟ قال: "هم الشعث رءوسًا، الدنس ثيابًا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد"، يعني: أبواب السلاطين.
ووقع في حديث النواس بن سمعان عند ابن ابي الدنيا: أوّل من يرد عليه من يسقى كل عطشان ولا خلف، فهذا بتقدير من أي، من أوّل من يرد عليه؟ من كان في الدنيا يسقي كل عطشان، أو المراد: الأول بعد فقراء المهاجرين.
"وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند الشيخين" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن" قال المازري: مقتضى كلام النحاة أن يقال: أشد بياضًا ولا يقال أبيض، ومنهم من أجازه في الشعر، ومنهم من أجازه بقلة، ويشهد له هذا الحديث وغيره، قال الحافظ: ويحتمل أه من تصرف الرواة، ففي مسلم عن أبي ذر، وأحمد عن ابن مسعود، وابن أبي عاصم عن أبي أمامة، كلهم بلفظ:"أشد بياضًا من اللبن" انتهى.
وقال المصنف: فيه حجة للكوفيين على إجازة أفعل التفضيل من اللون، وقال البصريون: لا يصاغ منه ولا من الثلاثي، فقيل: لأنَّ اللون الأصل أن أفعاله زائدة على ثلاثة، وقيل: لأنه خلق ثابت في العادة، وإنما يتعجب مما يقبل الزيادة والنقصان، فجرت لذلك مجرى الأجسام الثابتة على حال واحدة، قالوا: وإنما يتوصّل إلى التفضيل، وفيما زاد على الثلاثي بأفعل مصوغًا من فعل، دالّ على مطلق الرجحان والزيادة نحو: أكبر وأزيد وأرجح وأشد، قال الجوهري: تقول: هذا أشد بياضًا من كذا، ولا تقل أبيض منه، وأهل الكوفة يقولونه ويحتجون بقول الراجز:
جارية في درعها الفضفاض
…
أبيض من أخت بني أباض
قال المبرد: ليس البيت الشاذ بحجة على الأصل المجمع عليه، وأما قول طرفة:
إذا الرجال شتوا واشتدّ أكلهم
…
فأنت أبيضهم سربال طباخ
فيحتمل أن لا يكون بمعنى أفعل الذي تصحبه من للمفاضلة، وإنما هو بمنزلة قولك: هو أحسنهم وجهًا وأكرمهم أبًا، تريد حسنهم وجهًا وكريمهم أبًا، فكأنه قال: فأنت مبيضهم سربالًا، فلمَّا أضافه انتصب ما بعده على التمييز، وجعل ابن مالك قوله: أبيض من الشاذ، وقال النووي: هو لغة قليلة الاستعمال انتهى.
قال الأبي: ليس في الحديث ولا الأبيات صيغة تعجب، وإنما فيها صيغة أفعل، لكنهما
من شرب منه شربة لا يظمأ أبدًا".
قال القرطبي في "التذكرة": ذهب صاحب "القوت" وغيره، إلى أنَّ الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح أنَّ للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين، أحدهما في الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمَّى كوثرًا.
وتعقبه شيخ الحفاظ ابن حجر: بأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثرًا لكونه يمد منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبي أنّ الحوض يكون قبل الصراط؛ لأن الناس يردون من الموقف عطاشًا، فيرد المؤمنون الحوض، ويتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا، فترفع لهم
أخوان، فما جاز بناء أحدهما منه جاز بناء الآخر معه، وما امتنع امتنع، "وريحه أطيب" ريحًا، ً"من المسك، وكيزانه كنجوم" السماء" في الإشراق والكثرة، ففي حديث أنس في الصحيحين: "فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء"، ولأحمد عن أنس: "أكثر من عدد نجوم السماء"، قال عياض: كناية عن الكثرة كما قيل، فيقول: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} ، وحديث: "لا يضع العصا عن عاتقه"، ومنه قولهم: كلمته في هذا ألف مرة، وهو من المبالغة المعروفة لغة ولا يعد كذبا، َ لكن شرط إباحته أن يكون المكنَّى عنه بذلك كثيرًا في نفسه لا قليلًا، وتعقبه النووي بأن المختار والصواب حمله على ظاهره، لا سيما وقد أقسم، ولا مانع شرعي ولا عقلي ولا نقلي يمنع منه، وردَّه الأبي بنه يمنع منه أنّ ما يعم نجوم السماء من المساحة أكثر من مساحة الحوض، "من شرب منها" أي: الكيزان، وللكشميهني منه، أي: الحوض، "لم يظمأ أبدًا" فشربه بعد ذلك في الجنة إنما هو تنعم وتلذذ لا للظمأ.
"قال القرطبي في التذكرة: ذهب صاحب القوت" أي: كتاب قوت القلوب، وهو أبو طالب المكي "وغيره، إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، أي: المخالفة، وهو أنه قبل الصراط، والصحيح أنّ للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين، أحدهما في الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمىّّ كوثرًا، وتعقبه الشيخ ابن حجر" الحافظ أحمد العسقلاني "بأن الكوثر نهر لا حوض" داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض الذي في الموقف، ويطلق على الحوض كوثر" بالرفع نائب فاعل يطلق، وفي نسخة: بالنصب بتضمين يطلق، معنى: يسمَّى كوثرًا؛ "لكونه يمد منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبي أنَّ الحوض يكون قبل الصراط" لا أنهما حوضان؛ "لأن الناس يردون من الموقف عطاشًا، فيرد المؤمنون الحوض ويتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا فترفع لهم جهنم كأنها سراب" شعاع
جهنم كأنها سراب، فيقال: ألا تردون، فيظنونها ماء فيتساقطون فيها".
وفي حديث أبي ذر مما رواه مسلم: "إن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة" ، وهو حجة على القرطبي لا له؛ لأن الصراط جسر جهنم، وهو بين الموقف والجنة، والمؤمنون يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة؛ ليصب فيه الماء من النهر الذي داخلها.
وقال القاضي عياض: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شرب منه لم يظمأ بعدها أبدًا". يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار؛ لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذب بالنار، ولكن يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيها بالظمأ بل بغيره.
يرى عند اشتداد الحر نصف النهار يشبه الماء "فيقال: "ألا تردون، فيظنونها ماء فيتساقطون فيها".
"وفي حديث ابي ذر مما رواه مسلم: "إن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة" وهو حجة على القرطبي" في اختياره الهول بأنه قبل الصراط، "لا له؛ لأن الصراط جسر جهنم، وهو بين الموقف والجنة، والمؤمنون يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه" أي: قبل الصراط؛ لحات النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض" وهذا بناء على العادة، وأحوال القيامة لا تبنى عليها، فلا مانع أن ماء الكوثر يمر على الهواء حتى يصل إلى الحوض، ولا تحول النار بينهما، ونظيره في الدنيا ما قيل: إن بين السماء والأرض بحرًا ومع ذلك فليس بحائل من رؤية السماء ولا نجومها.
"وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيها الماء من النهر الذي" هو، أو يكون "داخلها"، وهو الكوثر، "وقال القاضي عياض: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شرب منه" شربة "لم يظمأ بعدها أبدًا" يدل على أنَّ الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار؛ لأن ظاهر حال من لم يظمأ أن لا يعذب بالنار"، وظاهر هذا ترجيح أن الحوض بعد الصراط.
وقد قال الحافظ: رجَّحه عياض، قال: وأمَّا ما أورد عليه من حديث أنَّ جماعة يدفعون عن الحوض، فجوابه أنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه، ويردون فيدفعون في النار قبل أن يخصلوا من بقية الصراط "ولكن يحتمل" على القول بأنه قبل الصراط "إن من قدر عليه التعذيب ومنهم أن لا يعذب فيها" أي: النار "بالظمأ، بل بغيره" والله على كل شيء قدير "و" جاء
وعن أنس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال:"أنا فاعل إن شاء الله" قلت: فأين أطلبك؟ قال: "أول ما تطلبني على الصراط" قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: "فاطلبني عند الميزان" قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: "فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطيء هذه الثلاثة مواطن"، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب.
وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: "ثم أوتى بكسوتي فألبسها، فأقوم عن يمين العرش مقامًا لا يقومه أحد، فيغبطني به الأولون والآخرون" قال: "ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض" الحديث.
وقد بيِّن في حديث ابن عمرو بن العاص، عند البخاري، أن الحوض مسيرة شهر، وزاد في رواية مسلم من هذا الوجه:"زواياه سواء، طوله كعرضه". وهذه الزيادة
"عن أنس" ما يدل على أن الحوض بعد الصراط، فإنه "قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال:"أنا فاعل" أي: شافع لك، "إن شاء الله"، قلت: فأين أطلبك؟، قال:"أول ما تطلبني على الصراط"، قلت: فإن لم ألقك على الصراط، قال:"فاطلبني عند الميزان"، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان، قال:"فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ" بضم الهمزة وكسر الطاء، أي: لا أتجاوز، "هذه الثلاث مواطن" إلى غيرها، فظاهر هذا الحديث أن الحوض بعد الصراط، وصنيع البخاري في إيراده لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة بعد نصب الصراط مشعر بذلك.
قال السيوطي: ويحتمل الجمع بأن يقع الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم، ويتأخر بعده لآخرين بحسب ما ليهم من الذنوب، حتى يذهبوا منها على الصراط، ولعل هذا أقوى، قال: ثم رأيت في الزهد، للإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة، قال: كأني أنظر إلينا صادرين عن الحوض للحساب، فيلقى الرجل الرجل، فيقول: أشربت يا فلان؟ فيقول: لا واعطشاه.
"رواه الترمذي وقال: حسن غريب" من جهة تفرّد روايه في جامع الحسن.
"وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: "ثم أوتى بكسوتي فألبسها، فأقوم عن يمين العرش مقامًا لا يقومه أحد" غيري، "فيغبطني به الأولون والآخرون" وهذا عند القيام من القبر، وذكره لقوله: "قال: "ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض" الحديث. فإنه دالّ على أن الحوض يمد من الكوثر "وقد بيِّن في حديث" عبد الله بن عمرو بن العاص عند البخاري"، ومسلم كما قدمه قريبًا: "إن الحوض مسيرة شهر".
كما قاله في فتح الباري: تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث في تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول.
وفي حديث أبي سعيد عند ابن ماجه رفعه: إنّ لي حوضًا ما بين الكعبة وبيت المقدس.
وفي حديث أبي برزة عند الطبراني وابن حبان في صحيحه: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء، مسيرة شهر، عرضه كطوله".
وفي حديث أنس عند الشيخين: "كما بين صنعاء والمدينة".
وزاد مسلم من هذا الوجه "أي: الطريق الذي أخرجه منه البخاري: "وزواياه" أي: أركانه، "سواء" فهو مربع مستدير الأضلاع؛ لأن تساوي الزوايا يدل على تساوي الأضلاع.
قال بعضهم: وفيه دلالة على معرفته صلى الله عليه وسلم بسائر العلوم؛ لأن هذا من علم الهندسة والتكسير والحساب، وهو كقوله في الآخر:"طول وعرضه سواء"، قاله عياض: قيل: كون زواياه سواء لا يدل على تساوي الأضلاع، لولا قوله:"طوله كعرضه"، وعلى ذلك: فمسيرة الشهر لكل من طول وعرضه، قال الأبي: "وهذه الزيادة كما قاله في فتح الباري تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث التالية في تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول، فمسافة شهر مثلًا محمولة على طوله وأنقص منه على عرضه.
وفي حديث أبي سعيد عند ابن ماجه رفعه: "إن لي حوضًا" طوله "ما بين الكعبة وبيت المقدس"، وفي حديث أبي برزة" بفتح الموحدة والزاي بينهما راء ساكنة، واسمه: نضلة -بفتح النون وسكون المعجمة- ابن عبيد -بضم العين، "عند الطبراني وابن حبان في صحيحه" والحاكم وصحَّحه والبيهقي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء" بفتح المهملتين بينهما نون ساكنة، ممدود "مسيرة شهر، عرضه كطوله" فصرَّح بتساويهما، فلا يصح ذلك الجمع.
"وفي حديث أنس عند الشيخين" أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن"، هكذا لفظ حديث أنس عند الشيخين: وليس فيهما عنه "كما بين صنعاء والمدينة" وأيلة -بفتح الهمزة واللام بينهما تحتية ساكنة ثم هاء تانيث- مدينة كانت عامرة بطرف بحر القلزم من طرف الشام، وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر، فتكون من شمالهم، ويمر بها الحاج من غزة وغيرها فتكون أمامهم، وإليها نسبت العقبة المشهورة عند أهل مصر، قال الحافظ: وبين أيلة والمدينة النبوية نحو شهر، يسير الأثقال إن اقتصروا كل يوم على
وفي حديث عتبة بن عبد السلمي عند ابن حبان في صحيحه: "كما بين صنعاء إلى بصرى".
وفي حديث أبي عند الطبراني: "ما بين عدن وعمان" بضم المهملة وتخفيف الميم، وقال ابن الأثير في النهاية في حديث الحوض: عرض من مقامي إلى عمان -هي بفتح العين وتشديد الميم- مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء، فأمَّا بالضم والتخفيف فهو صقع عند البحرين، انتهى.
مرحلةٌ وإلا فدون ذلك.
وفي حديث عتبة" بضم المهملة وإسكان الفوقية "ابن عبد" بلا إضافة، "السلمي -بضم السين- عند ابن حبان في صحيحه، والبيهقي قال: قام أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما حوضك الذي تحدث عنه، فقال: هو كـ "بما بين صنعاء إلى بصرى" بضم الموحدة وسكون المهملة- بلد معروف بطرف الشام من جهة الحجاز.
"وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني" مرفوعًا: كـ "ما بين عدن" بفتح المهملتين ونون- بلد باليمن "وعمان" بضم المهملة وتخفيف الميم" بلد على ساحل البحر من جهة البحرين.
"وقال ابن الأثير في النهاية في حديث الحوض: عرضه من مقامي" محل إقامتي المدينة "إلى عمان، هي بفتح العين وتشديد الميم- مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء" بفتح الموحدة وسكون اللام فقاف وبالمد- بلدة معروفة من فلسطين، يقول فيها القائل:
في وجهه خالان لولاهما
…
ما بت مفتونًا بعمان
"فأمَّا بالضم والتخفيف فهو صقع" بضم المهملة وإسكان القاف، أي: ناحية عند البحرين" بلفظ تثنية بحر اسم لموضع "انتهى".
وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا: "أمامكم حوضي كما بين جربا وأذرح" بفتح الجيم والموحدة بينهما راء ساكنة والقصر.
قال عياض: جاءت في البخاري ممدودة، وقال الشريف اليونيني: رأيته في أصل مقروء من رواية الحافظ أبي ذر والأصيلي بالقصر، وصوَّبه النووي، وقال المد: خطأ، لكن يؤيده قول أبي عبيد البكري تأنيث أجرب وأذرح -بفتح الهمزة وسكون المعجمة وضم الراء وحاء مهملة- عند الجمهور، وللعذري في مسلم بالجيم، قال عياض: وهم قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاث ليال، قاله ابن الأثير، وغلطه الصلاح العلائي، بل بينهما غلوة سهم، وهما معروفتان بين القدس.
وهذه المسافات كلها متقاربة، وظنَّ بعضهم أنه وقع اضطراب في ذلك، وليس كذلك.
وأجاب النووي عن ذلك، بأنَّه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة، فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة.
وحاصله يشير إلى أنه أخيرًا أولًا بالمسافة اليسيرة، ثم أعلم بالمسافة الطويلة، فأخبر بما كان الله تفضل عليه باتساعه شيئًا بعد شيء، فيكون الاعتماد على أطوالها مسافة.
فإن قلت: هل لكل نبي من الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وسلم حوض هناك يقوم عليه
والكرك، ولا يصحّ التقدير بالثلاث لمخالفة الروايات، لا سيما وقد قال الحافظ الضياء المقدسي: إن في سياق لفظها غلطًا لاختصار وقع من بعض الرواة، ثم ساقه بسند حسن عن أبي هريرة مرفوعًا، فقال فيه:"عرضه مثل ما بينكم وبين جربا وأذرح".
قال الضياء: فظهر بهذا أنه وقع في حديث ابن عمر حذف تقديره: كما بين مقامي وبين جربا وأذرح، فسقط مقامي وبين.
قال العلائي: ثبت المقدر المحذوف عند الدارقطني وغيره بلفظ: ما بين المدينة وجربا وأذرح "وهذه المسافات كلها متقاربة" ترجع إلى شهر أو تزيد عليه قليلًا أو تنقص قليلًا، "وظن بعضهم أنه وقع اضطراب في ذلك، وليس كذلك"؛ إذ ليس ذلك في حديث واحد حتى يكون اضطرابًا، وإنما هو في أحاديث مختلفة عن غير واحد، من الصحابة سمعوه في مواطن، فروى كل واحد منهم ما سمع، واختلاف عبارته صلى الله عليه وسلم إنما هو بحسب ما سنح له من العبارة تقريبًا للإفهام، فذكر ما بين كل بلدين من البعد لا على التقدير المحقق لما بينهما بل إعلام وكناية عن السعة، قاله عياض: وهو جواب حسن.
"وأجاب النووي عن ذلك" بجواب آخر، وكلاهما حسن "بأنه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة، فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح. فلا معارضة" لأنَّ الأقل داخل في الأكثر، "وحاصله يشير إلى أنه أخبر " بالبناء والمفعول، "أولًا بالمسافة اليسيرة، ثم أعلم" بالبناء للمفعول أيضًا، أي: أخبره وأعلمه الله "بالمسافة الطويلة، فأخبر" صلى الله عليه وسلم "بما كان تفضّل الله عليه باتساعه شيئًا بعد شيء، فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة".
قال المصنف: ومنهم من حمله على السير المسرع والبطيء، لكن في حمله على أقلها وهو الثلاث نظر؛ إذ هو عسر جدًّا، لا سيما مع ما سبق والله الموفق.
"فإن قلت: هل لكل نبي من الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وسلم حوض هناك" في الموقف "يقوم
كنبينا؟
فالجواب: إنه اشتهر اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بالحوض، قال القرطبي في "المفهم" مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به، أنه تعالى قد خصّ نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرّح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي؛ إذ روى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما بقية ذلك كما صحَّ نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرَّا، واجتمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف. انتهى.
لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة رفعه: "إن لكل نبي حوضًا" وأشار
عليه كنبينا؟ فالجواب أنه اشتهر اختصاص نبينا عليه السلام بالحوض".
"قال القرطبي في المفهم: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به، أن الله تعالى قد خص نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرَّح باسمه وصفته وشرابه، في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي".
قال الأبي: ظاهره أنَّ الإيمان به من قواعد العقائد التي يجب تقريرها لمن أسلم، ولم يذكر ذلك الموثوق بهم في تقريره ذلك لمن أسلم؛ "إذ روى ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم في الصحيحين ما يزيد على العشرين، ففي البخاري تسعة عشر، وفي مسلم: سبعة عشر، لكنهما اتفقا على أكثرها، فلذا كان ما فيهما يزيد على عشرين، "وفي غيرهما بقية ذلك" الزائد على ثلاثين، وقد أوصلهم الحافظ إلى ست وخمسين، والسيوطي في البدور إلى ثمان وخمسين ذاكرًا لفظ كل واحد.
"كما صحَّ نقله، واشتهرت رواته" وأحاديثهم بعضها في مطلق ذكر الحوض، وبعضها في صفته، وبعضها فيمن يرد عليه، وبعضها فيمن يدفع عنه، وبلغني أن بعض المتأخّرين أوصلها إلى ثمانين صحابيًّا، قاله الحائط "ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم، ومن بعدهم أضعاف أضعافهم، وهلمَّ جرَّا" إشارة إلى أن تواتره من أوله إلى آخره، "واجتمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف. انتهى".
لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة" بن جندب "رفعه: "إن لكل نبي حوضًا" على قدر رتبته وأمته، والمتبادر أنه حوض حقيقي، وجوز الطيبي حمله على المجاز، ويراد به العلم
إلى أنه اختلف في وصله وإرساله، وأنَّ المرسل أصح، والمرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضًا، وهو قائم على حوضه بيده عصًا، يدعو من عرف من أمته، ألّا وإنهم يتباهون أيهم أكثر تبعًا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا".
وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن سمرة موصولًا مرفوعًا مثله، وفي سنده لين.
والهدى ونحوه. انتهى وفيه نظر.
وقال الحكيم الترمذي: الحياض يوم القيامة للرسل، لكلٍّ على قدره وقدر تبعه، وهو شيء يلطف الله به عباده، فإنهم تخلصوا من مرارة الموت، وطالت مدتهم في اللحد، ورأوا الهول العظيم، وغوث الله للموحّدين مترادف، أغاثهم يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} فأثبت أسماءهم بالولاية، ونقلهم في الأصلاب حتى آواهم إلى آخر قالب، ثم أنزلهم إلى الدنيا، فرباهم وهداهم وكلأهم، وختم لهم بما ابتلاهم به من الموت المر، وحبسهم مع البلاء الطويل، ثم أنشرهم إلى موقف عظيم، فمن غوثه أن جعل الرسول الذي أجابه فرطًا قد هيأ لهم مشربًا يروي منه فلا يظمأ بعدها أبدًا. انتهى.
وبقية هذا الحديث في الترمذي: "وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة""وأشار" الترمذي "إلى أنه اختلف" أي: اختلفت رواته "في وصله وإرساله، وأن المرسل" أي: رواية من أرسله "أصح" من رواية من وصله، "والمرسل".
"أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن" البصري "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضًا وهو قائم على حوضه" ظاهره حتى صالح، وقال البكري المعروف بابن الواسطي: إلّا صالحًا، فإن حوضه ضرع ناقته.
قال القرطبي: ولم أقف على ما يدل عليه أو يشهد له، "بيده عصا يدعو من عرف من أمته" ظاهره أن المراد بالأنبياء الرسل الذين لهم شرائع وأمم، وبه صرَّح الحكيم كما علم ويحتمل عمومه، وإن لم يكن رسولًا على ظاهر قوله: نبي، ويكون الدعاء والتباهي للرسل، ولا مانع من ذلك، "ألا" بالفتح والتخفيف "وأنَّهم يتباهون أيهم أكثر تبعًا، ألا وإني لأرجو" ورجاؤه محقق الوقوع، "أن أكون أكثرهم تبعًا".
وفي رواية الترمذي: واردة كما مَرَّ، أي: أمة واردة على الحوض، ولابن أبي عاصم عن أبي أمامة مرفوعًا:"إن الأنبياء مكاثرون يوم القيامة فلا تخزوني، فإني جالس لكم على الحوض".
"وأخرجه الطبراني من وجه" أي: طريق "آخر عن سمرة موصولًا مرفوعًا مثله، وفي سنده لين" أي: ضعف محتمل "وأخرجه ابن أبي الدنيا من حديث أبي سعيد رفعه: "كل نبي
وأخرج ابن أبي الدنيا أيضا من حديث أبي سعيد رفعه: "وكل نبي يدعو أمته، ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العصبة، ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة"، وفي إسناده لين.
فإن ثبت، فالمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم الكوثر الذي يصبّ من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} انتهى ملخصًا من فتح الباري.
و"الفئام" كما في الصحاح، الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، والعامّة تقول "فيام" بلا همز.
وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة رفعه، قال:"ترد عليَّ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل عن إبله" قالوا: يا رسول الله، تعرفنا؟ قال:"نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون عليَّ غرًّا محجَّلين من آثار الوضوء".
يدعو أمته، ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام" بكسر الفاء والهمز، "ومنهم من يأتيه العصبة" أي أقاربه، "ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة" وفي إسناده لين، فإن ثبت" أي: كان حسنًا أو صحيحًا في نفس الأمر، فالمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم الكوثر الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} [الكوثر: 1] انتهى لخصًا من فتح الباري"، ويختص أيضًا بأنَّ حوضه أعرض الحياض كما في الخصائص، والفئام بالفاء كما في الصحاح: الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، والعامة تقول: فيام -بلا همز".
"وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة رفعه، قال: "ترد عليّ أمتي الحوض وأنا أذود" بمعجمة ثم مهملة- أطرد الناس عنه، "كما يذود الرجل عن إبله" وفي رواية: "وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه" ، "قالوا: يا رسول الله، تعرفنا؟ " يومئذ -بتقدير همزة الاستفهام، قال: "نعم، لكم سيما" بكسر فسكون، أي: علامة، "ليست لأحد من الأمم غيركم، تردون الحوض عليّ غرًّا" بضم المعجمة والتشديد جمع أغر، أي: ذي غرة بياض في جبهة الفرس فوق درهم، ثم استعملت في الجمال وطيب الذكر، شبه به نورهم في الآخرة، "محجَّلين" من التحجيل، بياض في قوائم الفرس أو في ثلاث منها أو في غيره، قلَّ أو كثر، بعد ما يجاوز
قالوا: والحكمة في الذود المذكور، أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، كما تقدَّم "إن لكل نبيّ حوضًا" فيكون هذا من جملة إنصافه صلى الله عليه وسلم، ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلًا عليهم بالماء، ويحتمل أن يكون بطرد من لا يستحق الشرب من الحوض. والله أعلم.
وفي حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لحوضي أربعة أركان، الأوّل بيد أبي بكر الصديق، والثاني بيد عمر الفاروق، والثالث بيد عثمان ذي النورين، الرابع بيد علي بن أبي طالب، فمن كان محبًّا لأبي بكر مبغضًا لعمر لا يسقيه أبو بكر، ومن كان محبًّا لعلي مبغضًا لعثمان لا يسقيه علي". رواه أبو سعد في "شرف النبوة" والغيلاني، والله أعلم.
الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين، من آثار الوضوء، ويجوز فتحها، وظاهره: إن هذه السيما إنما تكون لمن توضأ بالفعل، أمَّا من لم يتوضأ فلا يحصلان له، كما جزم به شيخ الإسلام على البخاري خلافًا للزناتي وتقدَّم الرد عليه في الخصائص، "قالوا: والحكمة في الذود أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، كما تقدَّم "إن لكل نبي حوضًا" وهذا ظاهر فيمن بلغتهم دعوته وعملوا بشرعه، أما أهل الفترات فعلم حالهم في الشرب عند الله، "فيكون هذا من جملة إنصافه عليه السلام ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلًا عليهم" بالماء، حاشاه من ذلك، "ويحتمل أن يكون يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض، والله أعلم" بحقيقة ذلك.
"وفي حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لحوضي أربعة أركان: الأوَّل بيد أبي بكر الصديق، والثاني بيد عمر الفاروق، والثالث بيد عثمان ذي النورين" بنتي النبي صلى الله عليه وسلم "والرابع بيد علي بن أبي طالب، فمن كان محبًّا لأبي بكر مبغضًا لعمر لا يسقيه أبو بك" بسبب بغضه لعمر، ولا يلتفت إلى كونه محبًّا له، "ومن كان محبًّا لعلي مبغضًا لعثمان لا يسقيه علي" وكذا عكسه.
"رواه أبو سعد" بسكون العين- النيسابوري" "في" كتاب "شرف النبوة، والغيلاني" بغين معجمة- أبو طالب بن غيلان، ولا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "علي بن أبي طالب صاحب حوضي يوم القيامة".
أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة وجابر، وأخرج ابن أبي عاصم في السنة عن الحسن بن علي أنه قال لمعاوية: أنت الساب لعلي، أما والله لتردنّ عليه الحوض، وما أراك ترد
وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم بالشفاعة والمقام المحمود، فقد قال تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} اتفق المفسرون، على أن كلمة "عسى" من الله واجب، قال أهل المعاني: لأنَّ لفظة "عسى" تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانًا في شيء ثم أحرمه كان عارًا، والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدًا في شيء ثم لا يعطيه ذلك.
وقد اختلف في تفسير المقام المحمود على أقوال:
أحدها: إنه الشفاعة. قال الواحدي: أجمع المفسِّرون على أنه مقام الشفاعة كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي".
وقال الإمام ابن الخطيب: اللفظ مشعر بذلك؛ لأن الإنسان إنما يصير محمودًا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقامًا أنعم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم، فحمدوه على ذلك الإنعام،
فتجده مشمِّر الإزار على ساقٍ يذود عنه، لا يأتي المنافقون، ذود غريبة الإبل، قول الصادق المصدوق، وقد خاب من افترى نقلهما في البدور، "وأمَّا تفضيله صلى الله عليه وسلم بالشفاعة والمقام المحمود" عطف مغاير؛ لأنه محل يقوم فيه للشفاعة يحتوي عليها، فلا ينافي المشهور أنه الشفاعة؛ لأن المضاف غير المضاف إليه، فهو يقوم مقامًا محمودًا للشفاعة، "فقد قال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [السراء: 79]"اتفق المفسرون على أن كلمة عسى" وسائر صيغ الترجي الواقعة "من الله" تعالى، أمر "واجب" ثابت محقق الوقوع، وأن مدلولها من الترجي ليس مرادًا في حقه تعالى.
"قال أهل المعاني: لأن لفظه عسى تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانًا في شيء ثم أحرمه كان عارًا" عرفًا يلام عليه، "والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدًا في شيء ثم لا يعطيه ذلك" كيف وقد قال تعالى:{وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3]، وقال صلى الله عليه وسلم:"الأجود الله"، "وقد اختلف في تفسير المقام المحمود على أقوال: أحدها أنه الشفاعة، قال الواحدي" أبو الحسن علي، تلميذ الثعالبي: "أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم في تفسير "هذه الآية:"هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي"، وقال الإمام" فخر الدين الرازي "ابن الخطيب:" بالري بلدة كان أبوه خطيبها بها: "اللفظ مشعر بذلك؛ لأن الإنسان إنما يصير محمودًا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقامًا أنعم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم، فحمدوه على ذلك الإنعام" وهو الشفاعة
وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليمهم الشرع؛ لأن ذلك كان حاصلًا في الحال. وقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} يدل على أنه يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل، ومن المعلوم أن حمد الإنسان على سعيه في التخلص عن العقاب أعظم من سعيه في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها؛ لأن احتياج الإنسان في دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة إلى تحصيلها.
وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة.
ولما ثبت أنَّ لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارًا قويًّا، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى كما في البخاري من حديث ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال: "هو الشفاعة". وفيه أيضًا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًى، كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا
فيهم، "وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليمهم الشرع؛ لأن ذلك كان حاصلًا في الحال" أي: وقت نزول الآية عليه في الدنيا، "وقوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} يدل على أنه يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل"؛ لأن مدلولها الوعد بأمر مستقبل، "ومن المعلوم أن حمد الإنسان على سعيه في التخلص عن العقاب أعظم من سعيه في زيادة من الثواب، ولا حاجة به إليها" الواو للحال، وفي نسخة بلا واو، على أنَّ الجملة صفة، والنسختان بمعنًى؛ لأن الحال وصف في المعنى؛ "لأن احتياج الإنسان في دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة إلى تحصيلها، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} هو الشفاعة في إسقاط العذاب على ما هو مذهب أهل السنة، و" جب أيضًا ذلك "لما" أي: لأجل ما ثبت أن لفظ الآية مشعر بذلك إشعارًا قويًّا" من جهة أنها وعد بشيء يحصل في المستقبل كما قدَّمه، "ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى" أي: إثباته "كما في البخاري من حديث ابن عمر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود، فقال:"هو الشفاعة".
"وفيه" أي: البخاري أيضًا "عنه" أي: ابن عمر "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًى" بضم الجيم وفتح المثلثة المخففة منونًا مقصورًا، قال الحافظ: جمع
فلان اشفع لنا، حتى تنتهي الشفاعة إلي، فذلك المقام المحمود".
فإذا ثبت هذا، فيجب حمل اللفظ عليه، قال: ومما يؤكد هذا، الدعاء المشهور: وابعثه مقامًا محمودًا يغبطه فيه الأولون والآخرون.
ونصب قوله "مقامًا" على الظرفية، أي: وابعثه يوم القيامة فأقمه مقامًا محمودًا، أو على أنه مفعول به، وضمَّن معنى "ابعثه" معنى "أقمه"، ويجوز أن يكون حالًا بعد حال، أي: ابعثه ذا مقام. قال الطيبي: وإنما نكره لأنه أفخم وأجزل، أي: مقامًا محمودًا بكل لسان. وقول النووي: "إن الرواية ثبتت بالتنكير، وأنه كأنه
جثوة، كخطوة وخطى، وحكى ابن الأثير، أنه روي -بكسر المثلثة وشد التحتية- جمع جاثٍ، وهو الذي يجلس على ركبتيه.
وقال ابن الجوزي عن ابن الخشاب: إنما هو جثا -بفتح المثلثة وتشديدها- جمع جاثّ مثل غاز وغزا، أي: جماعات، "كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع لنا".
زاد الحافظ أبو ذر: يا فلان، اشفع لنا، "حتى تنتهي الشفاعة إلي" لفظ البخاري: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، زاد في رواية معلقة عنده في الزكاة: فيشفع ليقضي بين الخلق، "فذلك المقام المحمود"، لفظ البخاري:"فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود" فهذا ثابت من لفظ الحديث، فلا يكون جوابًا لما في قول الرازي ولما ثبت كما زعم، وإنما هي لما بالكسر والتخفيف كما قدمه، "فإذا ثبت هذا وجب حمل اللفظ عليه، قال" ابن الخطيب: ومما يؤكد وفي نسخة: يؤيد ومعناهما واحد "هذا" القول أن المراد الشفاعة "الدعاء المشهور" في الحديث المرفوع: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعث مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة" "يغبطه فيه الأولون والآخرون تقدَّم أن المراد يستحسنه تجريدًا للغبطة عن بعض معناها؛ لأنها تمني مثل ما للغير من غير زواله عنه، وليس أحد يتمنى ذلك يومئذ؛ لعلمهم أنه خاص به.
"ونصب قوله: مقامًا على الظرفية، أي" وهو "وابعثه يوم القيامة فأقمه مقامًا محمودًا، أو على أنه مفعول به، وضمّن" بالبناء للمفعول أو الفاعل "معنى ابعثه معنى أقمه" والأولى أنه مفعول مطلق "ويجوز أن يكون حالا بعد حال، أي: ابعثه ذا مقام" عظيم.
"قال الطيبي: وإنما نكره لأنه أفخم وأجزل" أي: أعظم كأنه قيل: مقامًا، وأي مقام "أي مقامًا محمودًا بكل لسان" تكل عن أوصافه ألسنة الحامدين، ويشرف على جميع العالمين.
وقول النووي: إن الرواية في الحديث المعبر عنه أولًا بالدعاء المشهور: وابعثه مقامًا
حكاية للفظ القرآن" متعقب بأنه جاء في هذه الرواية بعينها بالتعريف عند النسائي
قال ابن الجوزي: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة" وادعى الإمام فخر الدين الاتفاق عليه.
القول الثاني: قال حذيفة: يجمع الله الناس في صعيد واحد، فلا تكلم نفس، فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول:"لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهتدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت" قال: فهذا هو المراد من قوله
محمودًا "ثبت بالتنكير، وأنه كانه حكاية للفظ القرآن، متعقّب بأنه جاء في هذه الرواية بعينها بالتعريف عند النسائي" بلفظ: المقام المحمود، فالحديث يروى بالوجهين.
قال ابن الجوزي: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة" العظمى في فصل القضاء، "وادعى الإمام فخر الدين" الرازي "الاتفاق عليه"، ولعله أراد اتفاق المفسرين كما تقدَّم عن الواحدي: أجمع عليه المفسرون، "والثاني: قال حذيفة" بن اليمان: "يجمع الله الناس في صعيد واحد فلا تكلم" بحذف إحدى التاءين، والأصل: فلا تتكلم نفس" بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة إلا بإذن الله، كقوله:{لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [النبأ: 38] وهذا في موقف، وقوله تعالى:{يَنْطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] ، في موقف آخر، أو المأذونون فيه هي الجوابات الحقة، والممنوع منه هي الأعذار الباطلة.
قاله البيضاوي: "فأوّل مدعوّ محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: "لبيك" إجابة لك بعد إجابة، "وسعديك" مساعدة بعد مساعدة، وهما من المصادر التي لا تستعمل إلا مضافة مثناة، "والخير في يديك، والشر ليس إليك" أي: لا يضاف إليك مخاطبة ونسبة تأدبًا؛ لأنه وإن كان بقضائه وقدره وخلقه لكن لا يحبه ولا يرضاه، بخلاف الخير فإنه بتقديره وإرادته ورضاه ومحبته جميعًا، فبالنظر إلى جانب المحبة والرضا يضاف إليه الخير، كما قال: بيدك الخير، وبالنظر إلى القدرة والخلق والإرادة يضاف إليه كلاهما كما قال سبحانه {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه} والمهدي كذا في نسخ صحيحة، وفي بعضها المهتدي بزيادة تاء والمذكور في الفتح المهدي بلا تاء من هديت، "وعبدك بين يديك".
وفي رواية النسائي: "عبدك وابن عبدك، وبك متمسك، وإليك راجع، ولا ملجأ" باللام، "ولا منجا منك" لأحد "إلا إليك".
تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} رواه الطبراني وقال ابن منده: حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رجالة.
قال الرازي: والقول الأول أَوْلَى؛ لأن سعيه في الشفاعة يفيد إقدام الناس على حمده، فيصير محمودًا، وأمَّا ما ذكر من الدعاء فلا يفيد إلّا الثواب، أمَّا الحمد فلا.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يحمده على هذا القول؟ فالجواب: لأنَّ الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الإنعام فقط، فإن ورد لفظ "الحمد" في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز.
القول الثالث: مقام تحمد عاقبته، قال الإمام الدين، وهذا أيضًا ضعيف للوجه الذي ذكرنا.
القول الرابع، قيل: هو إجلاسه صلى الله عليه وسلم على العرش، وقيل: على الكرسى، روي
هكذا الرواية بالجمع بينهما كما في الفتح، فسقطت الثانية من قلم المصنف أو نساخه، "تباركت" تعاظمت، "وتعاليت" عمَّا يتوهمه الأوهام ويتصوره العقول، "سبحانك رب البيت" أي: يا رب البيت، قال حذيفة: فهذا هو المراد من قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] الآية.
"رواه الطبراني"، والنسائي بإسناد صحيح، وصحَّحه الحاكم كما في الفتح، فالعزو للنسائي أَوْلَى؛ إذ ليس في رواية الطبراني زيادة عليه سوى قوله:"سبحانك رب البيت"، قال الحافظ: ولا منافاة بينه وبين حديث ابن عمر؛ لأنَّ هذا الكلام كأنَّه مقدمة للشفاعة، "قال ابن منده: حديث مجمع على صحيح إسناده وثقة رجاله، قال الرازي: والقول الأوّل" إنه الشفاعة، "أَوْلَى؛ لأن سعيه في الشفاعة يفيد إقدام الناس على حمده فيصير محمودًا، وأمَّا ما ذكر من الدعاء فلا يفيد إلّا الثواب، أمَّا الحمد فلا" لكن لما كان مقدمة للشفاعة كما ترجاه الحافظ صار كأنه سعى فيها.
"فإن قيل: لم يجوز أن يقال: إنه تعالى يحمده على هذا القول" فيبطل قولك، أمَّا الحمد فلا "فالجواب، أن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الإنعام فقط" والله تعالى المنعم، "فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز"، وقولي: أمَّا الحمد فلا مبنى على الحقيقة القول الثالث مقام تحمد عاقبته، قال الإمام فخر الدين: وهذا أيضًا ضعيف للوجه الذي ذكرناه، يعني: قوله؛ لأن سعيه في الشفاعة.... إلخ.
"القول الرابع قيل: هو إجلاسه عليه السلام على العرش" حملًا للمقام على أنه مصدر
عن ابن مسعود أنه قال: يقعد الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم على العرش، وعن مجاهد أنه قال: يجلسه معه على العرش.
قال الواحدي: وهذا قول رذل موحش فظيع، ونصّ الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير، ويدل عليه وجوه.
الأول: إن البعث ضد الإجلاس، يقال: بعثت البارك والقاعد فانبعث، ويقال: بعث الله الميت، أي: أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد وهو فاسد.
والثاني: يوجب أنه تعالى لو كان جالسًا على العرش بحيث يجلس عنده محمد صلى الله عليه وسلم لكان محدودًا متناهيًا، ومن كان كذلك فهو محدث تعالى الله علوًّا كبيرًا.
والثالث: إنه تعالى قال: {مَقَامًا مَحْمُودًا} ولم يقل: مقعدًا، والمقام موضع
ميمي لا اسم مكان، "وقيل: على الكرسي" بناءً على أنه غير العرش وهو الصحيح.
"وروي" عند الثعلبي "عن ابن مسعود أنه قال: يقعد" بضم أوله "الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم على العرش"، وهذا له حكم الرفع؛ إذ لا دخل للرأي فيه، وابن مسعود ليس ممن يأخذ عن أهل الكتاب.
"وعن مجاهد أنه قال: يجلسه" الله "معه على العرش"، أخرجه عنه عبد بن حميد وغيره، قال الواحدي: وهذا قول رذل" بذال معجمة، أي: رديء موحش منفر فظيع متجاوز الحد في القبح، ونص الكتاب أي: قوله {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} "ينادي بفساد هذا التفسير، ويدل عليه" على فساده "وجوه".
الأول: إنَّ البعث ضد الإجلاس، يقال: بعثت البارك والقاعد فانبعث، ويقال: بعث الله الميّت، أي: أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد وهو فاسد" على هذا، إن كان مقصورًا على ما زعمه، وإلّا فقد قال الفارابي: بعثه إذا أهبه وبعث به وجهه، وقال الجوهري: بعثه وابتعثه بمعنًى، أي: أرسله، فالمعنى على هذا: عسى أن يرسلك مقامًا تجلس فيه على الكرسي أو العرش على هذا القول.
والثاني: يوجب أنه تعالى لو كان جالسًا على العرش؛ بحيث يجلس عنده محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكان محدودًا متناهيًا، ومن كان كذلك فهو محدث تعالى الله علوًّا كبيرًا" ويأتي رد هذا.
والثالث: إنه تعالى قال: {مَقَامًا مًحْمُودًا} ولم يقل: مقعدًا، والمقام موضع القيام
القيام، لا موضع القعود.
الرابع: إذا قيل: السلطان بعث فلانا، فهم منه أنه أرسله إلى قومٍ لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه، فثبت أن هذا القول ساقط، لا يميل إليه إلا قليل العقل عديم الدين، انتهى.
وتعقّب القول الثاني، بأنه تعالى يجلس على العرش كما أخبر -جل وعلا- عن نفسه المقدَّسة بلا كيف، وليس إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم على العرش موجبًا له صفة الربوبية، أو مخرجًا عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله، وتشريف له على خلقه، وأما قوله:"معه" فهو بمنزلة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فكل هذا ونحوه عائد على الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان.
وقال شيخ الإسلام أبو الفضل السعقلاني: قول مجاهد "يجلسه معه على
لا موضع القعود" وأجيب بأنه يصح على أنَّ المقام مصدر ميمي لا اسم مكان.
"والرابع: إذا قيل: السلطان بعث فلانًا، فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه"، وهذا مردود بأن هذا عادة يجوز تخلفها، على أن أحوال الآخرة لا تقاس على أحوال الدنيا، "فثبت أن هذا القول ساقط لا يميل إليه إلّا قليل" أي: ناقص العقل عديم الدِّين، فاقده أصلًا، وهذا مجازفة في الكلام لا تليق بطالب فضلًا عن عالم، بعد ثبوت القول عن تابعي جليل، ووجد مثله عن صحابيين ابن عباس وابن مسعود كما يأتي.
"انتهى" كلام الواحدي" وتعقّب القول" أي: الوجه الثاني من الأوجه الأربعة التي رَدّ بها القول الرابع بأنه تعالى يلس على العرش، كما أخبر -جل وعلا- عن نفسه المقدَّسة" بقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] بلا كيف، وليس إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم على العرش موجبًا له صفة الربوبية، بل كإجلاس الملك على سريره من يعظمه، ولا يوجب له صفة الملك أو مخرجًا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله، وتشريف له على خلقه، وأمَّا قوله معه فهو بمنزلة قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} أي: الملائكة، وقوله:{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] .
فالعندية فيهما للتشريف، فكذلك المعية فيما نحن فيه، "فكل هذا ونحوه عائد على الرتبة والمنزلة والحظوة -بضم الحاء وكسرها، والدرجة الرفيعة لا إلى المكان" حتى يلزم منه التناهي وأنه محدود.
"وقال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلاني: قول مجاهد: يجلسه معه على العرش ليس
العرش" ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عطية: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به قال: وبالغ الواحدي في رد هذا القول: ونقل النقاش عن أبي داود صاحب السنن أنه قال: من أنكر هذا القول فهو متهم، وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبيّ، وعن ابن عباس عند أبي الشيخ قال: إن محمدًا يوم القيامة يجلس على كرسي الرب بين يدي الرب، فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك يحمل ما جاء عن مجاهد وغيره، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبَّر عنها بالوسيلة. كذا قاله بعضهم، ويحتمل أن يكون الإجلاس علامة الإذن في الشفاعة.
بمدفوع لا من جهة النقل"؛ لأنه لم ينفرد به، "ولا من جهة النظر"، وأشار للثاني بقوله: "وقال ابن عطية هو كذلك إذا حمل على ما يليق به" من أنها معية تشريف، قال: وبالغ الواحدي في رد هذا القول" بما قدمه المصنّف آنفًا.
وأشار للأوّل بقوله: "ونقل النقاش" المفسر "عن أبي داود صاحب السنن" سليمان بن الأشعث احترازًا على الطيالسي أبي داود، وسليمان بن داود صاحب المسند، "أنه قال: من أنكر هذا القول فهو متهم" بعدم المعرفة؛ حيث أنكر شيئًا ثابتًا بمجرَّد ما قام في عقله، "و" لم ينفرد به مجاهد، فإنه "قد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبي" ويقال له أيضًا: الثعالبي، وهو شيخ الواحدي.
"وعن ابن عباس عند أبي الشيخ: قال: إن محمدًا يوم القيامة يجلس على كرسي الرب بين يدي الرب" وهذا له حكم الرفع؛ لأنه جاء عن صحابي، ولا دخل للرأي فيه، فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك يحمل ما جاء عن مجاهد وغيره" كما مَرَّ، ولا فساد فيه ولا قبح، ويحتمل أن يكون المقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس على الكرسي والعرش "هي" أنت؛ لمراعاة الخبر وهو "المنزلة المعبَّر عنها بالوسيلة".
كذا قاله بعضهم: ويحتمل أن يكون الإجلاس علامة الإذن في الشفاعة" وعلى ذلك، فلا ينافي المشهور، وقيل: المقام المحمود أخذه بحلقة باب لجنة، وقيل: إعطاؤه لواء الحمد.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال أنَّه بلغه أنَّ المقام المحمود الذي ذكر الله أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل، يغبطه لمقامه ذلك أهل الجمع ورجاله ثقات.
لكنَّه مرسل، وعنده أيضًا عن علي بن الحسين بن علي: أخبرني رجل من أهل العلم أن
واختلف في "فاعل" الحمد في قوله تعالى: {مَحْمُودًا} فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم، أي: إنه يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده في الليل، والأوَّل أرجح لما ثبت في حديث ابن عمر بلفظ: مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم"، ويجوز أن يحمل على أعمّ من ذلك، أي: مقامًا يحمده القائمة فيه وكل من عرفه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا أبو حيان، وأيّده بأنه نكرة، فدلَّ على أنه ليس المراد مقامًا مخصوصًا. انتهى.
فإن قلت: إذا قلنا بالمشهور: إن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، فأيّ شفاعة هي؟
فالجواب: إن الشفاعة التي وردت في الأحاديث، في المقام المحمود نوعان: النوع الأول: العامَّة في فصل القضاء، والثاني: في الشفاعة في إخراج المذنبين من النار، لكن الذي يتجه: ردّ هذه الأقوال كلها إلى الشفاعة العظمى
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تمد الأرض مد الأديم....." الحديث.
وفيه: "ثم يؤذن لي في الشفاعة فأقول: أي رب، عبادك عبدوك في أطرف الأرض"، قال: فذلك المقام المحمود، رجاله ثقات، وهو صحيح إن كان الرجل صحابيًّا كما في الفتح.
واختلف في فاعل الحمد في قوله تعالى: {مَحْمُودًا} ، فالأكثر أنَّ المراد به أهل المواقف" يحمدون، "وقيل" فاعله النبي صلى الله عليه وسلم، أي: إنه يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجّده في الليل" المأمور به أوّل الأية، والأوّل، أي: أهل الموقف "أرجح، لما ثبت في حديث ابن عمر: مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم" فهذا نص صريح، "ويجوز" مع ذلك أن يحمل على أعمّ من ذلك، أي: يحمده القائم فيه" صلى الله عليه وسلم يحمد كل من عرفه، وهم أهل الجمع، وهو مطلق في كل ما يجلبه" بجيم وموحدة، أي: يسببه "الحمد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا" الحمل على الأعمّ أبو حيان، وأيده بأنه نكرة، فدل على أنه ليس المراد مقامًا مخصوصً.... أهـ.
"فإن قلت: إذا قلنا بالمشهور أنَّ المراد بالمقام المحمود والشفاعة، فأي شفاعة هي؟ " لأنَّ له صلى الله عليه وسلم عدة شفاعات تأتي، "فالجواب: إن الشفاعة التي وردت في الأحاديث في المقام المحمود نوعان: النوع الأول: العامَّة في فصل القضاء" بين الخلائق، "و" النوع الثاني: في الشفاعة في إخراج المذنبين من النار، لكن الذي يتَّجه ردّ" أي: ترجع هذا الأقوال".
العامة، فإنَّ إعطائه لواء الحمد، وثناءه على ربه، وكلامه بين يديه، وجلوسه على كرسيه، كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق.
وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك، وقد أنكر بعض المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين، وتمسَّكوا بقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 8] .
وأجاب أهل السنة بأنَّ هذه الآيات في الكفّار، قال القاضي عياض: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا، ووجوبها سمعًا؛ لصريح قوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وكقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} المفسّر بها عند الأكثرين، كما قدمنا.
المذكورفي المقام المحمود، "كلها إلى لشفاعة العظمى العامّة" في فصل القضاء، "فإن إعطاءه لواء الحمد وثناءه على ربه، وكلامه بين يديه، وجلوسه على كرسيه" أو عرشه، "كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق".
وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك" فلا تراد استقلالًا، "وقد أنكر بعض المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين، فأمَّا الشفاعة في فصل القضاء فلم يكذب بها أحد من المعتزلة ولا غيرهم، قاله الفاكهاني، وتمسكوا بقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] من الملائكة والأنبياء والصالحين، والمعنى: لا شفاعة لهم، وقوله تعالى:{مَا لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {مِنْ حَمِيمٍ} محب، {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} الآية" لا مفهوم للوصف؛ إذ لا شفيع لهم أصلًا، فما لنا من شافعين، أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء، أي: لو شفعوا فرضًا لم يقبلوا.
وأجاب أهل السنة بأن هذه الآيات في الكفار"، فلا حجة فيها، "قال القاضي عياض: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا"؛ إذ ليست بمحال فيها، "ووجوبها" ثبوتها "سمعًا لصريح قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} أحدًا {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أن يشفع له {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} بأن يقول: لا إله إله الله ووجه صراحته أن الاستثناء من النفي إثبات، وقوله تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ} أي: الملائكة، إلا لمن ارتضى الله سبحانه أن يشفعوا له، وكقوله: عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا المفسَّر بها" أي: بالشفاعة العظمى عند
وقد جاءت الأحاديث التي بلغ مجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وعن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أريت ما تلقى أمتي من بعدي، وسفك بعضهم دماء بعض، وسبق لهم من الله ما سبق للأمم قبلهم، فسألت الله أن يوليني فيهم شفاعة يوم القيامة ففعل".
وفي حديث أبي هريرة: "لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وفي رواية أنس: "فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي" ، وهذا من مزيد شفقته علينا، وحسن تصرفه؛ حيث جعل دعوته المجابة في أهمّ أوقات حاجاتنا، فجزاه الله عنَّا أفضل الجزاء.
وعن أبي هريرة قلت: يا رسول الله، ماذا ورد عليك في الشفاعة؟ فقال: شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصًا يصدق لسانه قلبه.
الأكثرين كما قدَّمته" وليس النزاع فيها، إنما هو في الشفاعة للمذنبين، ففي الاستبدال بالآية عنده شيء، "وقد جاءت الأحاديث التي بلغ مجموعها التواتر بصحة"، أي: وقوع "الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين"، فلا معنى لإنكارها لحصول القطع بها، وأخرج الحاكم والبيهقي وصحَّحاه "عن أم حبيبة" أم المؤمنين "قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أريت" بضم الهمزة وكسر الراء- أي: أراني الله تعالى "ما تلقى أمتي من بعدي" بعد وفاتي، "وسفك بعضهم دماء بعض" أسقط من لفظه: فأحزنني، "وسبق لهم من الله" في علمه "ما سبق".
وفي رواية: وسبق لهم ذلك من الله كما سبق، "للأمم قبلهم، فسألت الله أن يوليني فيهم شفاعة يوم القيامة، ففعل" ذلك.
"وفي حديث أبي هريرة: "لكلّ نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ" أدَّخر "دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" تقدَّم شرحه في آخر المقصد التاسع.
"وفي رواية أنس" عد مسلم: "فجعلت دعوتي شفاعةً لأمتي" ، وهذا من مزيد شفقته علينا، وحسن تصرفه؛ حيث جعل دعوته المجابة" على سبيل القطع، "في أهم أوقات حاجاتنا، فجزاه الله عنَّا أفضل الجزاء".
"وعن أبي هريرة: قلت: يا رسول الله، ماذا ورد عليك" من الوحي، ومنه الإلهام من الله، "في" شأن "الشفاعة، قال: "شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله، "مخلصًا يصدق لسانه" بالرفع فاعل، "قلبه" مفعول، أي: يخبر لسانه عن صدق قلبه، فليس كالمنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويجوز عكسه.
وعن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه، إلى ما بلغتم، ألا تنظرون إلى مَنْ يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه،
"وعن أبي زرعة" بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، قيل: اسمه هرم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" آدم وجميع ولده، أي: أنا الفائق المفزوع إليه في الشدائد، وخص "يوم القيامة" لارتفاع دعوى السؤدد فيها لغيره، كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} خص السؤال به لأنه يوم تنقطع فيه الدعاوي، ولأنه يستلزم سيادته ف الدنيا بطريق الأولوية، ونهيه عن التفضيل على طريق التواضع، "هل تدرون ممن ذلك".
وفي رواية: ذلك بألف بدل اللام "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد" أرض واسعة مستوية، "فيبصرهم الناظر" أي: يحيط بهم بصر الناظر؛ بحيث لا يخفى عليه منهم شيء؛ لاستواء الأرض وعدم الحجاب.
وفي رواية: وينفذهم البصر -بتحتية مفتوحة وذال معجمة- على الأصح، أي: تحيط بهم أبصار الناظرين من الخلق لاستواء الصعيد، وهذا أوجه من قول أبي عبيد: بصر الرحمن؛ لأن الله أحاط بالناس أولًا وآخرًا في الصعيد المستوي وغيره، "ويسمعهم الداعي" بضم الياء من الإسماع، أي: إذا دعاهم سمعوه، "وتدنو الشمس" من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين، ويزاد في حرها عشر سنين كما مَرَّ، "فيبلغ الناس" بالنصب، أي: يصل إليهم، "من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون" فاعل يبلغ، "فيقول الناس:"ألا" بفتح الهمزة وخفة اللام "ترون إلى ما أنتم فيه" من الغم والكرب، "إلى ما بلغكم" بدل من قوله: إلى ما أنتم فيه.
وفي رواية مسلم: "ألا ترون ما قد بلغكم"، أي: وصل إليكم، ويقع في أكثر نسخ المواهب: بلغتم بمثناة بدل الكاف، ولا وجود لها في الصحيحين، ولا في أحدهما، "ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم" حتى يريحكم من مكانكم هذا، "فيقول بعض الناس" هم رؤساء الأمم كما في الفتح، وقال ابن برجان: رؤساء أتباع الرسل لبعض: "أبوكم آدم" وفي رواية: ائتوا آدم، وللبخاري:"عليكم بآدم"، "فيأتونه فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر" وشأن الأب الحنان والشفقة، "خلقك الله بيده" بقدرته بغير واسطة، "ونفخ فيك من روحه" بأن أمر الروح أن
وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فقال: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا
تدخل في جسدك وتجري مجرى نفسك.
قال الكرماني: الإضافة إلى الله لتعظيم المضاف وتشريفه، "وأمر الملائكة فسجدوا لك" كلهم، "وأسكنك الجنة"، وفي رواية للبخاري:"وأسكنك جنته، وعلمك أسماء كل شيء" وذكروا هذا إشارة إلى أن من حوى هذه الفضائل أهلٌ للشفاعة، ولذا قدموها على قولهم:"ألا" بأداة العرض، "تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه" من الغمِّ والكرب، "وما بلغنا" بفتح الغين على الصحيح المعروف، ويدل له قوله قبل:"ألا ترون إلى ما قد بلغكم"، ولو كان بإسكان الغين لقال بلغتم، قاله النووي.
وفي رواية للشيخين: "ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا"، "فقال: إن ربي غضب" بكسر الضاد "اليوم غضبًا لم يغضب" بفتح الضاد فيهما "قبله مثله ولا يغضب".
كذا رواها الحموي والمستملي في البخاري بلفظ لا، ورواه غيرهما فيه، وكذا رواه مسلم بلفظ:"ولن يغضب" بلن "بعده مثله" وكل من لن، ولا يفيد النفي في المستقبل، والمراد من الغضب كما قال الكرماني لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب، وقال النووي: المراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه وما شاهده أهل الجمع من الأهوال التي لم تكن ولا يكون مثلها، "وأنه" بالواو ودونها روايتان "نهاني عن الشجرة" أي: عن الأكل منها، فعصيته وأكلت منها، "نفسي نفسي نفسي" ذكرها ثلاثًا.
وفي رواية للشيخين أيضًا: مرتين، أي: نفسي هي التي تستحق أن يشفع لها؛ إذ المبتدأ والخبر إذا اتحدا فالمراد بعض لوازمه؛ إذ قوله: نفسي مبتدأ والخبر محذوف، وفي حديث أنس عند سعيد بن منصور:"إني أخطأت وأنا في الفردوس، فإن يغفر لي اليوم حسبي".
وكذا عنده في بقية الأنبياء بعده، ومن البديهي أن المصنف لم يذكر ذلك؛ لأنه إنما ساق حديث أبي هريرة في الصحيحين، وليس فيه ذلك، لا للإشعار بأنه ليس ذنبًا يستغفر منه، وإنما قالوه تعظيمًا لله، وأنه لا ينبغي أن يوجد من مثلهم خلاف الأولى، فضلًا عن الذنب، فإن هذا وإن كان ظاهرًا في نفسه لكن لو كان كذلك لترك المصنف الحديث بالمرة؛ إذ ليس بأشد من قوله:"نهاني فعصيته".
وفي رواية أنس في الصحيح فيقول: "لست لها"، وفي لفظ:"لست هناكم"، وفي حديث حذيفة:"لست بصاحب ذاك"، فالمعنى: إن هذا المقام ليس لي بل لغيري، "اذهبوا إلى غيري" زاد
إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا عليه السلام فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل بعث إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة، دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسي نفسي
في حديث سليمان: فيقولون: "إلى من تأمرنا"، فيقول:"ائتوا عبدًا شاكرًا" ، "اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل بعث إلى" قومه من "أهل الأرض، وقد سماك الله" في كتابه "عبدًا شكورًا" أي: كثير الشكر حامدًا في جميع أحواله، "ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا" بفتح الغين، "ألا تشفع لنا إلى ربك" حتى يريحنا من مكاننا، "فيقول" نوح:"إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب".
وفي رواية: "ولن يغضب بعده مثله"، أي: إنه ظهر من انتقاه من العصاة وأليم عقابه ما لم يكن قبل، ولا يوجد بعد، "وأنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي" هي التي أغرق بها أهل الأرض، يعني: إن له دعوة واحدة محققة الإجابة، وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض، فيخشى أن يطلب فلا يجاب.
وفي حديث أنس عند الشيخين: "ويذكر خطيئته التي أصاب بها سؤاله ربه بغير علم" ، فجمع بينهما بأنه اعتذر بأمرين، أحدهما: أنه استوفى دعوته المستجابة، وثانيهما: سؤاله ربه بغير علم، حيث قال:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك، "نفسي نفسي نفسي" ثلاث مرات، أي: هي التي تستحق أن يشفع لها.
وفي رواية: مرتين، "اذهبوا إلى غيري" زاد في رواية سلمان: فيقولون إلى من تأمرنا، فيقول:"اذهبوا إلى إبراهيم" زاد في حديث أنس: خليل الرحمن، "فيأتون إبراهيم فيقولون" يا إبراهيم "أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض" لا ينفي وصف الخلة الثابت للمصطفى على وجهٍ أعلى من إبراهيم، "اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، فيقول لهم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات" بفتحات "فذكرها" لفظ البخاري، فذكرهنَّ أبو حيان في الحديث، أي: ذكرهنّ يحيى بن سعيد التيمي، تيم الرباب الراوي عن أبي زرعة، وانتصرهن من بعده في مسلم من طريق عمارة بن
نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى عليه السلام، فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضَّلك برسالته وبكلامه على الناس، ألا ترى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى عليه السلام فيقولون: يا عيسى: أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلَّمت الناس في المهد، ألا
القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة، قال: وذكر قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله لآلهتهم: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم.
وفي حديث أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم: "ما منها كذبة إلّا ما حلَّ بها عن دين الله" وما حلّ -بمهملة- جادل، وذكر أن الثالثة قوله لأمر: إنه حين أتى على الملك أخبريه أني أخوك، "نفسي نفسي نفسي" ثلاثًا.
وفي رواية: مرتين، "اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى" بيان لقوله: غيري، "فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضلك الله برسالاته" بالجمع عند مسلم، أمَّا البخاري فبالإفراد كما قال المصنف، "وبكلامه على الناس" عام مخصوص بغير المصطفى، فإن كلامه له ثابت على وجه أكمل من موسى كما مَرَّ في المعراج، ولا يلزم منه أن يشتق له من اسمه الكليم كموسى؛ إذ هو وصف غلب على موسى كالمحبَّة للمصطفى، "ألا ترى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك".
كذا في النسخ، والذي في الصحيحين:"اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه"، زاد مسلم:"ألا ترى ما قد بلغنا، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسًا لم أؤمر" بضم الهمزة وسكون الواو بقتلها يريد القبطي المذكور في آية القصص، وإنما استعظمه واعتذر به؛ لأنه لم يؤمر بقتل الكفار، أو لأنه كان مؤمنًا فيهم، فلم يكن له اغتياله ولا يقدح في عصمته لكونه خطأ، وعدَّه من عمل الشيطان في الآية، وسمَّاه ظلمًا، واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم، وإن لم تكن ذنبًا.
وفي حديث أنس عند سعيد بن منصور: إني قتلت نفسًا بغير نفس، وأن يغفر لي اليوم، حسبي "نفسي نفسي نفسي" ثلاثًا، وفي رواية: مرتين "اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم" أي: أوصلها إليها وجعلها فيها، "وروح" صدر منه لا يتوسّط ما يجري مجرى الأصل والمادة له، "وكلمت الناس
ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فأنطلق فآتي تحت
في المهد" مصدر سُمِّيَ به ما يمهد للصبي من مضجعه، "ألا ترى إلى ما نحن فيه" من الكرب، "اشفع لنا إلى ربك" لفظ الشيخين: "اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه".
زاد مسلم: "ألا ترى ما قد بلغنا"، "فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا" وفي حديث ابن عباس: إني اتخذت إلها من دون الله، وفي حديث أنس عند سعيد ابن منصور نحوه.
وزاد: وأن يغفر لي اليوم، حسبي، "نفسي نفسي نفسي" ثلاثًا، ولمسلم مرتين في الكل، "اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد"، زاد في رواية أنس عند الشيخين: فيقول: "لست هناكم، ولكن ائتوا محمدًا عبدًا غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر"، "فيأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر" يعني: إنه غير مؤاخذ بذنب لو وقع.
قال الحافظ: يستفاد من قول عيسى في نبينا هذا، ومن قول موسى: إني قتلت نفسًا وأن يغفر لي اليوم، حسبي، مع أن الله قد غفر له بنص القرآن، التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم يقع منه شيء أصلًا، فإن موسى مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك، ورأى في نفسه تقصير عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، ومن ثَمَّ احتجَّ عيسى بأنه صاحب الشفاعة؛ لأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، بمعنى: إن الله أخبر أن لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه، قال: وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح الباري فله الحمد.
وقال القاضي عياض: يحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم معينًا، وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك إليه إظهارًا لشرفه في ذلك المقام العظيم، وإنما خص الخمسة بالمجيء إليهم دون باقي الأنبياء؛ لأنهم مشاهير الرسل وأصحاب شرائع عمل بها مددًا طويلة مع أن آدم والد الجميع، ونوح الأب الثاني، وإبراهيم مجمع على الثناء عليه عند جميع أهل الأديان، وهو أبو الأنبياء، بعده موسى أكثر الأنبياء أتباعًا بعد المصطفى وعيسى؛ لأنه ليس بينه وبينه نبي، ولأنه من أمته صلى الله عليه وسلم، ولم يلهموا المجيء إليه من أول وهلة لإظهار فضله
العرش، فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما
وشرفه.
قال الحافظ: ولا شكَّ أن في السائلين يومئذ من سمع هذا الحديث في الدنيا، وعرف أن ذلك خاص به، ومع ذلك فلا يستحضره؛ إذ ذاك أحد منهم، وكأنَّ الله أنساهم ذلك للحكمة المذكورة، "ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك" الذي في الصحيحين تقديم هذه الجملة على التي قبلها، وزاد مسلم:"ألا ترى إلى ما قد بلغنا" ، "فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي".
وفي حديث أنس: "فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين حتى استأذن على ربي، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني" والمستأذن له جبريل، ففي رواية أبي بكر الصديق عند أبي عوانة:"فيأتي جبريل ربه فيقول: ائذن له وبشره بالجنة، فينطلق به جبريل فيخر ساجدًا قدر جمعة"، وسئل الجلال البلقيني عن حكم سجوده صلى الله عليه وسلم من حيث الوضوء، فأجاب بأنه باقٍ على طهارة غسل الميت؛ لأنه حي لا يموت في قبره، ولا ناقض لطهارته، ويحتمل أن يجاب بأن الآخرة ليست دار تكليف، فلا يتوقّف السجود على وضوء. قاله في البدور، ويحتمل أنه توضأ من حوضه، "ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي".
وفي بعض طرق الحديث عند البخاري: "فيلهمني الله محامد لا أقدر عليها الآن، فأحمده بتلك المحامد"، قال المصنّف وغيره: وقد ورد ما لعله يفسر به بعض تلك المحامد لا جميعها، ففي النسائي وغيره من حديث حذيفة رفعة:"يجمع الله الناس في صعيد واحد، فيقال: يا محمد، فأقول: لبيك وسعديك....." الحديث السابق قريبًا " ثم يقال: "يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه" بسكون الهاء للسكت، "واشفع تشفع" بشد الفاء المفتوحة، أي: تقبل شفاعتك، "فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب" مرتين، وهذه الشفاعة بعد العامَّة لجميع الأمم في فصل القضاء، ففي السياق حذف كما يأتي إيضاحه، وفي مسند البزار: "فأقول: يا رب، عجّل على الخلق الحساب" ، "فيقال: يا محمد، أدخل" بكسر الخاء أمر من الإدخال.
وفي رواية مسلم: "أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة" ، وهم سبعون ألفًا، أوَّل من يدخلها، "وهم" أيضًا "شركاء الناس فيما سوى ذلك"
سوى ذلك من الأبواب". الحديث رواه البخاري ومسلم.
قال في فتح الباري: وقد استشكل قولهم لنوح: "أنت أول الرسل من أهل الأرض" فإن آدم نبي مرسل، وكذا شيث وإدريس، وهم قبل نوح.
ومحصل الأجوبة عن ذلك: إن الأوَّلية مقيدة بقوله: "أهل الأرض"؛ لأنَّ آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، أو أنَّ الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلًا، وإلى هذا جنح ابن بطال في حق آدم. وتعقَّبه القاضي عياض ما صحَّحه ابن حبان من حديث أبي ذر، فإنه كالصريح في أنه كان مرسلًا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال. وأمَّا إدريس فذهبت طائفة إلى أنه
من الأبواب" يعني: لا يلجئون إلى الدخول من الأيمن، بل إن شاءوا الدخول من غيره دخلوا وإن خصوا بالباب الأيمن دون غيرهم.
قال القرطبي: وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف، فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته، شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم.
"الحديث" تمامه، ثم قال:"والذي نفسي بيده، إن بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى".
"رواه البخاري" في مواضع "ومسلم" في الإيمان، وروياه أيضًا من حديث أنس، وفيه تكرار السجود أربع مرات، وجاء من حديث صحابة أخر مطولًا ومختصرًا، ساقها في البدور بألفاظها.
"قال في فتح الباري: وقد استشكل قولهم لنوح: أنت أوّل الرسل من أهل الأرض بأن آدم نبي مرسل، وكذا شيث" ابنه، "وإدريس، وهم قبل نوح"، إلّا أنَّ في كون إدريس قبله خلافًا "فمحصّل الأجوبة عن ذلك أنَّ الأولية مقيدة بقوله: أهل الأرض؛ لأن آدم ومن ذكر معه" شيث وإدريس "لم يرسلوا إلى أهل الأرض" وإنما أرسلوا إلى بعض أهلها، ويلزم على ذلك عموم رسالة نوح.
وأجيب بأنه بصدد أن يبعث في زمنه غيره بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم، وبغير ذلك مما سبق، "أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلًا، وإلى هذا جنح" مال "ابن بطّال في حق آدم، وتعقّبه القاضي عياض بما صحَّحه ابن حبان من حديث أبي ذر، فإنه كالصريح في أنه كان مرسلًا" ولفظه قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم، أي: الأنبياء؟ قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير"، قلت: من كان أولهم؟ قال: "آدم" وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث -بكسر المعجمة وإسكان الياء ومثلثة- وذلك من علامات الإرسال".
كان من بني إسرائيل.
ومن الأجوبة أنَّ رسالة آدم كانت إلى بنيه، وهم موحِّدون، ليعلمهم شريعته، ونوح رسالته كانت إلى قوم كفَّار يدعوهم إلى التوحيد.
وذكر الغزالي في كتاب "كشف علوم الآخرة" أنَّ بين إتيان أهل الموقف آدم، وإتيانهم نوحًا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي، إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف لذلك على أصل، قال: ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها، فلا يغتر بشيء منها.
ووقع في رواية حذيفة: إن الخليل عليه السلام قال: "لست بصاحب ذاك،
"وأمَّا إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان من بني إسرائيل" يعقوب، وهو بعد نوح بزمان طويل، "ومن الأجوبة: إن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهو موحِّدون؛ ليعلمهم شريعته،" فهي كالتربية للأولاد، "ونوح رسالته كانت إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد" وينذرهم بالهلاك إن لم يوحدوا، "وذكر الغزالي في كتاب كشف علوم الآخرة أنَّ بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحًا ألف سنة".
"وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف لذلك على أصل، قال: ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها فلا يغتر بشيء منها" وتعقبه العيني بأنَّ جلالة قدر الغزالي تنافي ما ذكره، وعدم وقوفه على أصلٍ لذلك لا يستلزم نفي وقوف غيره لذلك على أصل، فإنه لم يحظ علمًا بكل ما ورد حتى يدَّعي هذه الدعوى، وأجاب الحافظ في انتقاض الاعتراض بأنَّ جلالة الغزالي لا تنافي أنه يحسن الظن ببعض الكتب، فينقل منها، ويكون ذلك المنقول غير ثابت، كما وقع له ذلك في الإحياء في نقله من قوت القلوب، كما نبَّه على ذلك غير واحد من الحفَّاظ، وقد اعترف الغزالي بأن بضاعته في الحديث مزجاة، قال: ولم أدَّع أني أحطت علمًا وإنما نفيت اطلاعي وإطلاقي في الثاني محمول على تقييدي في الأول.
والحديث لا يثبت بالاحتمال، فلو كان المعترض اطَّلع على شيء يخالف قولي لأبرزه وتبجح به. انتهى.
ووقع في رواية حذيفة" وأبي هريرة معًا "أنَّ الخليل عليه السلام قال:" ولفظ مسلم عن أبي هريرة وحذيفة، قالا: قال صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلّا خطيئة أبيكم
إنما كنت خليلًا من وراء وراء" بفتح الهمزة، "فيهما" بلا تنوين، ويجوز البناء فيها على الضمِّ للقطع عن الإضافة نحو:{مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} واختاره أبو البقاء، قال الأخفش: يقال: لقيته من وراء وراء -بالضم، وقال:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن
…
لقاؤك إلّا من وراء وراء
ويجوز فيهما النصب والتنوين جوازًا جيدًا، قاله أبو عبد الله الأبي.
ومعناه: لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب، وقيل: مراده: إنَّ الفضل الذي أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر "وراء" إشارة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال: أنا من وراء موسى، الذي هو من وراء محمد، وسبق مزيد
آدم، لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلًا من وراء وراء" بفتح الهمزة فيهما بلا تنوين على المشهور، لتضمنهما معنى الحرف، فالتقدير من وراء، من وراء، فركِّبا تركيب خمسة عشر، وأكدا كشذر مذر وبين بين، قاله القرطبي. "يجوز البناء على الضم" فيهما "للقطع عن الإضافة، نحو" قوله تعالى:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ، واختاره أبو البقاء" قائلًا: لأنَّ تقديره من وراء، أو من وراء شيء آخر، "قال الأخفش: يقال: لقيته من وراء بالضم" فيهما، "وقال" الشاعر:
إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن
…
لقاؤك إلّا من وراء وراء
"ويجوز فيهما النصب والتنوين جوازًا جيدًا، قاله أبو عبد الله الأبي" في شرح مسلم، قال القرطبي في المفهم: ووجدت في أصل شيخنا أيوب الفهري، وكان في اعتنائه بهذا الكتاب -أي: مسلم- الغاية من وراء وراء بتكرير من وفتح الهمزتين، وليس بمعنى بنائه في الأول لظهور من المضمرة في الأول، وإنما وجهه أن يكون وراء قطعت عن الإضافة إلى معين، فصارت كأنَّها اسم علم وهي مؤنثة، فاجتمع فيها التعريف والتأنيث فمنعت الصرف، قال: ووجدت بخط معتبر، قال الفراء: تقول العرب: فلان يكلمني من وراء وراء -بالنصب على الظرف، "ومعناه" كما قال النووي:"لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب، وقيل: مراده" كما نقله النووي عن صاحب التحرير، قال: هذه كلمة تقال على وجه التواضع، وكأنه أشار إلى "أن الفضل الذي أعطيته كان بسفارة" بكسر السين، أي: بواسطة "جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلَّمه الله بلا واسطة" إشارةً إلى قوله في الحديث: "اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليمًا" ، "وكرَّر وراء إشارة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حصلت له الرؤية لله سبحانه والسماع " لكلامه تعالى "بلا واسطة"، فكأنه قال: أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد، وسبق مزيد لذلك في الخصائص"
لذلك في الخصائص.
وأمَّا ما ذكره من الكذبات الثلاث، فقال البيضاوي: الحق أنها إنما كانت من معارض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استقصارًا لنفسه عن الشفاعة؛ لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة، كان أعظم خوفًا.
وأما قوله في عيسى: "إنه لم يذكر ذنبًا" فوقع في حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي: "إني اتخذت إلهًَا من دون الله".
وفي حديث النضر بن أنس عن أبيه قال: حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لقائم
في أوائلها، "وأمَّا ما ذكره من الكذبات الثلاث، فقال البيضاوي: الحق إنها إنما كانت من معاريض الكلام" التي قال صلى الله عليه وسلم: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب".
رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن عدي وابن السني والبيهقي، جمع معراض كمفتاح، من التعريض وهو خلاف التصريح، وعرَّفه المتقدمون بأنه ذكر لفظ محتمل يفهم منه السامع خلاف ما يريده المتكلم، "لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق": خاف منها استقصارًا لنفسه عن الشفاعة؛ لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة كان أعظم خوفًا" وقال في المفهم: الكلمات الثلاث ليست بكذب حقيقة، ولا في شيء منها ما يوجب عتبًا، لكن هول المقام حمله على الخوف منها، فأمَّا الأولى، فقال المفسرون: كانت في حال الصغر والطفولية، فلما اتضح له الأمر قال: إني وجهت وجهي. الآية، وهذا لا يليق، فالأنبياء معصومون، ولم يحفظ عن نبي أنه تلبَّث بخبائث قومه، ولو كان لغيرهم به أممهم، وقيل: هو استفهام إنكار، والهمزة محذوفة، وقيل: قاله على سبيل الاحتجاج على قومه، والتنبيه لهم على أنَّ ما يتغير لا يصلح للربوبية، وأما الثانية: فإنما قالها توطئة منه للاستدلال على أنها ليست آلة، وقطعًا لدعواهم أنها تضر وتنفع، ولذا عقبه بقوله: فاسألوهم، وأجابوه بقولهم: لقد علمت.... الآية. فقال حينئذ: أتعبدون.............. الآية.
وأما الثالثة: فإنما قالها تعريضًا بأنه سيسقم في المستقبل، واسم الفاعل يكون بمعنى المستقبل، ويحتمل أن يريد أني سقيم الحجة في الخروج معكم، وأما قوله: إنها أختي، فإنما عني أنها أخته في الإسلام، كما نص عليه بقوله: أنت أختي في الإسلام.
وأما قوله عن عيسى: "إنه لم يذكر ذنبًا"، فوقع في حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي:"إني اتُّخِذت" بالبناء للمفعول "إلهًا من دون الله" ، وفي حديث أنس نحوه، وزاد:"وأن يغفر لي اليوم حسبي"، فسماه ذنبًا وليس بذنب؛ إذ لا صنع له فيه البتة.
"وفي حديث النضر" بضاد معجمة "ابن أنس" بن مالك الأنصاري البصري، ثقة، من رجال
انتظر أمتي عند الصراط، إذ جاء عيسى فقال: يا محمد، هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث شاء لعظم ما هم فيه".
فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وأنَّ هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار في النار، وأنَّ عيسى هو الذي يخاطب نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنَّ جميع الأنبياء يسألونه في ذلك.
وفي حديث سلمان عند ابن أبي شيبة: "يأتون محمدًا فيقولون: يا نبي الله، أنت فتح الله بك وختم بك، وغفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، وجئت في هذا اليوم، وترى ما نحن فيه، فقم فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: أنا صاحبكم، فيجوس الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة".
فإن قلت: ما الحكمة في انتقاله صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى الجنة.
أجيب: بأنَّ أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مقام مخافة وإشفاق، ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام.
الجميع، مات سنة بضع ومائة "عن أبيه قال: حدَّثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لقائم أنتظر أمتي عند الصراط؛ إذ جاء عيسى فقال: يا محمد، هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو الله" اللام لام السؤال، وفي نسخ: لتدعو بالواو، فاللام للتعليل، "أن يفرق جمع الأمم إلى حيث شاء لعظم ما هم فيه" من الغم والكرب، "فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ" وهو عند الصراط، "وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقوف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط وقوع الكفار في النار، وأنَّ عيسى هو الذي يخاطب نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنَّ جميع الأنبياء يسألون في ذلك، وفي حديث سلمان" الفارسي عند ان أبي شيبة: "يأتون محمدًا فيقولون: يا نبي الله، أنت فتح الله بك" كل خير، "وختم" بك النبيين "وغفر لك ما تقدَّم وما تأخر، وجئت في هذا اليوم وترى ما نحن فيه" من شدة الهول "فقم فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: أنا صاحبكم" المعين للشفاعة.
وفي رواية: "أنا لها أنا لها" ، "فيجوس" بالجيم، وقيل: بالحاء، وهما بمعنى، أي: يتخلل "الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة"، فإن قلت: ما الحكمة في انتقاله صلى الله عليه وسلم من مكانه إلى الجنة، أجيب بأنَّ أرض الموقف لما كانت مكان عرض وحساب، كانت مكان مخافة وإشفاق" عطف مساوٍ، ومقام الشافع يناسب أن يكون في مقام إكرام" لعلو مقامه.
وفي حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي يعلى رفعه: "فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني".
وفي حديث أبي بكر الصديق: "فينطلق إليه جبريل، فيخر ساجدًا قدر جمعة، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك".
وفي رواية النضر بن أنس: "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل: ارفع رأسك".
وعلى هذا، فالمعنى: يقول لي على لسان جبريل، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم يلهم التحميد قبل سجوده وبعده وفيه، ويكون في كل مكان ما يليق به، فإنه ورد في رواية:"فأقوم بين يديه فيلهمني بمحامد لا أقدر عليها، ثم أخر ساجدًا"، وفي رواية البخاري:"فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني".
وفي رواية أبي هريرة، عند الشيخين: "فآتى تحت العرش فأقع ساجدًا لربي
وفي حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي يعلى" قال: "يعرفني الله نفسه يوم القيامة، فأسجد له سجدة يرضى" يزيد رضاه "بها عني، ثم أمتدحه" أثني عليه "بمدحة" يلهمنيها، "يرضى بها عني" ، ثم يؤذن لي بالكلام.... الحديث.
"وفي حديث أبي بكر الصديق" عند أبي عوانة: فيأتي جبريل ربه فيقول: ائذن له وبشره بالجنة، "فينطلق إليه جبريل فيخر ساجدًا" إذ رأى ربه كما في حديث أنس:"قدر جمعة" من جمع الدنيا، "فيقال: يا محمد، ارفع رأسك" ، وفي رواية النضر بن أنس عن أبيه: "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد، فقل له: ارفع رأسك" على هذا، فالمعنى: يقول على لسان جبريل، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم يلهم التحميد قبل سجوده وبعده وفيه" أي: في سجوده، ويكون في كل مكان من الثلاثة ما يليق به، فإنه ورد في رواية" للشيخين عن أنس:"فأوتي فأقول: أنا لها، فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي" ، "فأقوم بين يديه"، أي: الله سبحانه وتعالى، "فيلهمني بمحامد لا أقدر عليها" أي: الآن في الدنيا، لكن لفظ مسلم:"لا أقدر عليها إلّا أن يلهمنيها الله"، ولفظ البخاري:"فيلهمني الله محامد أحمده بها لا تحضرني الآن" ، "ثم آخر ساجدًا" فصرَّح بأنه يحمده قبل سجوده.
وفي رواية البخاري من حديث أنس أيضًا: "فأرفع رأسي فأحمد ربي" بتحميد يعلمني "وفي رواية: "يعلمنيه" ولأحمد بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي، ولا يحمده أحد بعدي، فصرَّح في هذه الرواية بأنه يحمد بعد الرفع من السجود.
وفي رواية أبي هريرة عند الشيخين الماضية قريبًا: "فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا
ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك". الحديث.
وفي رواية البخاري من حديث قتادة عن أنس: "ثم أشفع، فيحد لي حدًّا، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة".
قال الطيبي: أي يبين لي كل طور من أطوار الشفاعة حدًّا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول: شفعتك فيمن أخلَّ بالجماعة، ثم فيمن أخلَّ بالصلاة، ثم فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنا، وهكذا على هذا الأسلوب، والذي يدل عليه سياق الأخبار أنَّ المراد به تفصيل مراتب المخرَجَين في الأعمال الصالحة، كما وقع عند أحمد عن يحيى القطَّان عن سعيد بن أبي عروبة.
لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي" ولا يحمده به أحد بعدي كما رأيت؛ لأنه لا يفتحه عليه فهو من خصائصه، "ثم يقال: يا محمد، إرفع رأسك...." الحديث. فصرَّح بأنه يحمده في السجود، وطريق الجمع ما رأيت أنه يلهمه في المواضع الثلاث.
"وفي رواية البخاري من حديث قتادة عن أنس عقب قوله: "فأحمد ربي بتحميد يعلمني، ثم أشفع فيحِدّ" بفتح التحتية وضم الحاء المهملة، أي: يبين "لي حدًّا، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة" ، "ثم أعود فأقع ساجدًا مثله في الثالثة أو الرابعة حتى أقول: يا رب ما بقي إلّا من حبسه القرآن"، هذا بقية الحديث في البخاري.
وأخرجه مسلم أيضًا، وفي رواية لهما من وجه آخر عن أنس: بالجزم بتكرار الشفاعة أربع مرات.
"قال الطيبي:" في معنى يحِدّ "أي: يبين لي كل طور" أي: في كل طور "من أطوار الشفاعة" الأربع، "حدًّا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول: شفَّعتك فيمن أخلّ بالجماعة" في الحد الأول، "ثم فيمن أخلَّ بالصلاة" في الثاني، "ثم فيمن شرب الخمر" في الثالث، "ثم فيمن زنى" في الرابع، "وهكذا على هذا الأسلوب" يعني: أربعة أنواع من المعاصي يعين له في كل طور واحد منها لا يتعدّاه إلى غيره، وهذا أيضًا لقوله: مثل أن يقول، وإشارةً إلى أنه لا يتعين، وإنما هو تقريب للفهم.
ولكن تعقَّبه الحافظ، بأنَّ "الذين يدل عليه سياق الأخبار، أنَّ المراد به تفصيل" بصاد مهملة، أي: تبيين "مراتب المخرجين في الأعمال الصالحة، كما وقع عند أحمد عن" شيخه "يحيى" بن سعيد "القطان، عن سعيد بن أبي عروبة" مهران، عن قتادة في هذا الحديث بعينه.
وفي رواية ثابت عند أحمد فأقول: "أي رب، أمتي أمتي، فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة"، وفي حديث سلمان:"فيشفع في كل مَنْ كان في قلبه مثقال حبة من حنطة، ثم شعيرة، ثم حبه خردل، فذلك المقام المحمود".
وفي رواية أبي سعيد عند مسلم: "ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير". قال القاضي عياض: قيل معنى الخير: اليقين بالإيمان، وأمَّا قوله في رواية أنس عند البخاري:"فأخرجهم من النار" فقال الداودي: كأنَّ راوي هذا الحديث ركب شيئًا على غير أصله، وذلك أنه في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني: وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار. ثم تقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج. وهو إشكال قوي.
وقد أجاب عنه النووي، ومن قبله القاضي عياض: بأنه قد وقع في حديث
"وفي رواية ثابت" عن أنس "عند أحمد: "فأقول: أي رب، أمتي أمتي" مرتين، "فيقول: أخرج مَنْ كان في قلبه مثقال شعيرة" من عمل صالح.
"وفي حديث سلمان" الفارسي: "فيشفع فيمَنْ كان في قلبه حبة" أي: مثال حبة "من حنطة، ثم شعيرة، ثم" حبة من "خردل، فذلك المقام المحمود".
"وفي رواية أبي سعيد" الخدري "عند مسلم" في حديث طويل: "ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير" فأدخلوه الجنة برحمتي، والأمر للمؤمنين الذين خلصوا من الصراط ناجين، وطلبوا الشفاعة في العصاة، كما في سياق الحديث في مسلم.
"قال القاضي عياض: قيل معنى الخير: اليقين بالإيمان، وأما قوله في رواية أنس عند البخاري" ومسلم: "فأخرجهم من النار" وأدخلهم الجنة.
"فقال الداودي" أحمد بن نصر في شرح البخاري: "كأنَّ راوي هذا الحديث ركَّب شيئًا على غير أصله" أي: أدخل حديثًا في حديث، "وذلك أن في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني: وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط، وسقوط من يسقط في تلك الحالة" وهي المرور على الصراط في النار، ثم تقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج" كما ثبت ذلك كله في أحاديث أخر، "وهو إشكال قويّ، وقد أجاب عنه النووي ومن قبله القاضي عياض" كلاهما في شرح مسلم، "بأنه قد وقع في حديث حذيفة وأبي هريرة" معًا عند
حذيفة وأبي هريرة: "فيأتون محمدًا فيقوم، فيؤذن له في الشفاعة، وترسل معه الأمانة والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا"، أي: يقفان في ناحيتي الصراط. قال القاضي عياض: فبهذا ينفصل الكلام، لأنَّ الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي لإراحة الناس من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج. انتهى.
والمعنى في قيام الأمانة والرحم أنها لعظم شأنهما، ومخافة ما يلزم العباد من رعاية حقها، يوقفان للأمين والخائن، وللواصل والقاطع، فيحاجَّان عن المحق، ويشهدان على المبطل.
وقد وقع في حديث أبي هريرة بعد ذكر الجمع في الموقف، الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكأنَّ الأمر باتباع لكل أمة ما كانت تعبد هو أول
مسلم عقب ما قدمته، فيأتون موسى فيقول:"لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك" ، "فيأتون محمدًا" الحبيب، صاحب القرب الأعظم، الخليل لا من وراء وراء، بل مع الكشف والعيان، "فيقوم فيؤذن له في الشفاعة، وترسل معه الأمانة والرحم" يصوَّران بصفة شخصين على الصفة التي يريدها الله تعالى، "فيقومان جنبتي الصراط" بفتح الجيم والنون والموحدة ويجوز سكون النون، وأنكر ابن جني فتحها، "يمينًا وشمالًا".
"قال القاضي عياض: فبهذا ينفصل الكلام" قال الأبي: يعني أنَّ الراوي أسقط ذلك من هذا الطريق؛ "لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة للناس من كرب الموقف، ثم تجيء" بعدها الشفاعة في الإخراج" من النار "انتهى".
قال الأبي: ويحتمل أن يكون شفع في الأمرين، واكتفى في حديث أنس بشفاعة الإخراج؛ لأنها تستلزم الأخرى؛ لأن الإخراج فرع وقوع الحساب فيه. انتهى.
ويؤيده رواية البزار، فأقول:"يا رب عجّل على الخلق الحساب" ، "والمعنى في قيام الأمانة والرحم أنهما لعظم شأنهما ومخافة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يوقفان للأمين والخائن، وللواصل والقاطع، فيحاجان عن المحقِّ، ويشهدان على المبطل".
وفي شرح مسلم للمصنف: ليطالبا من يريد الجواز على الصراط، فمن وفَّى بحقهما عاوناه على الجواز وإلّا تركاه، ثم عاد المصنف لذكر بقية كلام عياض، وهو "وقد وقع في حديث أبي هريرة"، وفي الصحيحين مطولًا بعد ذكر الجمع في الموقف الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط
فصل القضاء، والإراحة من كرب الموقف، وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتَّب معانيها. انتهى.
فظهر أنه صلى الله عليه وسلم أوَّل من يشفع ليُقْضَى بين الخلق، وأنَّ الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادى لتتبع كل أمة ما كان تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين، فيسقطون في النار أيضًا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة
والمرور عليه، فكأنَّ" بالتشديد اختصار لقول عياض، فيحتمل أنَّ "الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء، والإراحة من كرب الموقف"، والشفاعة الأخرى: هي الشفاعة في المؤمنين على الصراط، وهي له صلى الله عليه وسلم لا لغيره، ثم بعدها شفاعة الإخراج، هذا حذفه من كلام عياض، ويتلوه: وبهذا تجتمع متون الأحاديث، وتترتَّب معانيها. انتهى" كلام عياض.
قال الحافظ: فكأنَّ بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأمَّا قول الطيبي جوابًا عن ذلك: لعلَّ المؤمنين صاروا فرقتين، فرقة سيق بهم إلى النار من غير توقف، وفرقة حبسوا في المحشر واستشفعوا به صلى الله عليه وسلم، فخلصهم مما هم فيه وأدخلهم الجنة، ثم شرع في شفاعة الداخلين في النار زمرًا بعد زمر، كما دلَّ عليه قوله:"فيُحِدّ لي حدًّا.... " إلخ.
فاختصر الكلام، أو يراد بالنار لحبس والكربة، وما كانوا فيه من الشدة ودنوّ الشمس إلى رءوسهم، وحرها وسفعها، حتى ألجمهم العرق، وبالخروج الخلاص منها، فهو احتمال بعيد إلّا أن يقال: إنه يقع إخراجان، وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه، والمراد به: الخلاص من كرب الموقف، والثاني: بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور، فيتجه، "فظهر أنه صلى الله عليه وسلم أول من يشفع ليُقْضَى بين الخلق، وأنَّ الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك" أي: بعد الشفاعة في فصل القضاء، "وأنَّ العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادَى لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود" فلا يستطيعه المنافقون، "عند كشف الساق"، هو عبارة عن شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء، يقال: كشفت الحرب عن ساق إذا اشتدَّ الأمر فيها، وقيل: غير ذلك، "ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليها، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون:" يقعون "في النار أيضًا، ويمرّ المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط
للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة.
وقد قال النووي ومن قبله القاضي عياض: الشفاعات خمس:
الأولى: في الإراحة من هَوْل الموقف.
الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب.
الثالثة في إدخال قوم حوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذَّبوا.
الرابعة: في إخراج من أدخل النار من العصاة.
الخامسة: في رفع الدرجات. انتهى.
فأما الأولى: وهي التي لإراحة الناس من هول الموقف، فيدل عليها حديث أبي هريرة وغيره المتقدم، وحديث أنس عند البخاري، ولفظه: قال صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم
الأمر فيها، وقيل غير ذلك، "ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون" يقعون "في النار أيضًا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط، ويوقف بعض من نجا عند القنطرة" التي بعد الجواز على الصراط بين الجنة والنار "للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة" برحمة الله.
"وقد قال النووي ومن قلبه القاضي عياض: الشفاعات خمس: الأولى: في الإراحة من هول الموقف" كربه وشدته، "الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، الثالثة: في" منع "إدخال قوم حوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذبوا" أي: أن لا يدخلوا النار كما عبَّر به عياض والنووي وتبعهما في الأنموذج، "الرابعة: في إخراج من أدخل النار من العصاة" قبل استيفاء ما يستحقه من المكث فيها، "الخامسة: في رفع الدرجات" في الجنة. "انتهى".
قال النووي: والختص به صلى الله عليه وسلم الأولى والثانية، وتجوز الثالثة والخامسة، وردَّه بعضهم بما صرَّحوا به أنَّ الخصائص لا تثبت بالاحتمال، "فأمَّا الأولى وهي التي لإراحة الناس من هول الموقف، فيدل عليها حيث أبي هريرة وغيره المتقدم، وحديث أنس عند البخاري" ومسلم، "ولفظه: قال صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون" من الضجر والجزع مما هم فيه، "لو استشفعنا إلى ربنا".
وفي رواية للشيخين: "على ربنا" بعلى بدل إلى، ووجهت بأنه ضمّن على معنى الاستعانة؛ لأن الاستشفاع طلب الشفاعة، وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى؛ ليستعين به على ما يرومه، "حتى يريحنا" بحاء مهملة من الإراحة، أي: يخلصنا من مكاننا هذا وأهواله، ولو هي المتضمنة للتمني والطلب، فلا تحتاج إلى جواب، أو جوابها محذوف، نحو: لكان خيرًا مما نحن فيه، "فيأتون
فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربك، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا نوحًا"، وذكر إتيانهم الأنبياء واحدًا واحدًا، إلى أن قال: "فيأتوني، فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجدًا، فيدعني في السجود ما شاء الله، ثم يقال لي: ارفع رأسك، سل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفَّع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني" الحديث.
وأما الثانية: وهي إدخال قوم الجنة بغير حساب، فيدل عليهما ما في آخر حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم الذي قدَّمته، "فأرفع رأسي فأقول: يا رب
آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ" بقدرته، وهو تنبيه على أنَّ خلقه ليس كخلق بنيه من تقلبهم في الأرحام وغير ذلك من الوسائط، وإلّا فكل شيء بقدرته تعالى، "ونفخ فيك من روحه" إضافة خلق وتشريف، زاد في رواية: "وأسكنك جنته، وعلمك أسماء كل شيء" ووضع شيء موضع أشياء، أي: المسميات؛ كقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] أي: أسماء المسميات، "وأمر الملائكة فسجدوا لك" سجود خضوع لا سجود عبادة، "فاشفع لنا عند ربنا" حتى يريحنا من مكاننا هذا "فيقول: "لست هناكم" بضم الهاء وخفة النون، أي: لست في المكانة والمنزلة التي تحسبونني، يريد به مقام الشفاعة، قاله تواضعًا وإكبارًا لما سألوه، أو إشارة إلى أنَّ هذا المقام ليس لي بل لغيري، ويؤيده قوله في حديث حذيفة:"لست بصاحب ذاك، ويذكر خطيئته" التي أصابها اعتذارًا عن التقاعد عن الشفاعة، "ائتوا نوحًا".
"وذكر إتيانهم الأنبياء" الأربعة "واحدًا واحدًا" بنحو ما سبق في حديث أبي هريرة، "إلى أن قال:"فيأتوني" بإشارة عيسى.
زاد في رواية الشيخين: "فأقول: أنا لها أنا لها، فأستأذن على ربي"، زاد في رواية للبخاري وغيره: في داره، فيؤذن، أي: في دخولها، وهي الجنة، أضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف، "فإذا رأيته" تعالى "وقعت" حال كوني "ساجدًا، فيدعني في السجود ما شاء الله" زاد مسلم: أن يدعني، وللطبراني في حديث عبادة:"فإذا رأيته خررت له ساجدًا شكرًا له"، "ثم يقال لي: ارفع رأسك" على لسان جبريل كما مَرَّ، "سل تعطه" بهاء السكت، ويحتمل أنها ضمير، أي: سل ما شئت تعط سؤالك، "وقل يسمع" بتحتية، أي: قولك، "واشفع تشفع" تقبل شفاعتك، "فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمني".
وفي رواية مسلم: يعلمنيه..... "الحديث" ذكر في بقيته: "ثم أشفع، فيُحِدُّ لي" إلى آخر ما مَرَّ، "وأمَّا الثانية: وهي إدخال قوم الجنة بغير حساب، فيدل عليها ما في آخر حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم الذي قدمته" وهو قوله: "فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي، يا رب
أمتي، يا رب أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة" قال أبو حامد: والسبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب، لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفًا، وإنما هي براءة مكتوبة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه براءة فلان ابن فلان، قد غفر له وسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدًا، فما مَرَّ عليه شيء أسَرَّ من ذلك المقام.
وأما الثالثة: وهي إدخال قوم حوسبوا أن لا يعذبوا، فيدل على ذلك قوله في حديث حذيفة عند مسلم:"ونبيكم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم". وأما الرابعة: وهي في إخراج من أدخل النار من العصاة، فدلائلها كثيرة، وقد روى البخاري عن عمران بن حصين مرفوعًا:"يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخلون الجنة ويسمَّون الجهنميين".
أمتي، فيقال: يا محمد أدخِلْ" بكسر الخاء "من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة" وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب.
"قال أبو حامد" الغزالي: "والسبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفًا" أي: أوراقًا مكتوبًا فيها أعمالهم، "وإنما هي" أي: صورة الصحف "براءة مكتوبة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه براءة فلان بن فلان، قد غفر له، وسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدًا، فما مَرَّ عليه شيء أسرَّ من ذلك المقام" ويحتاج إلى ثبوت ذلك، "وأما الثالثة: وهي إدخال قوم حوسبوا" واستحقوا العذاب "أن لا يعذبوا" تقدَّم أن لفظ عياض وتابعه: أن لا يدخلون النار، "فيدل على ذلك قوله" صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة" وأبي هريرة، جميعًا "عند مسلم:"ونبيكم" قائم "على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم" مرتين كما في مسلم، كلفظ قائم، فإسقاطه، وذكر سلّم مرة واحدة مع العزو لمسلم لا يليق، ولعل وجه دلالته أنَّ قوله ذلك على الصراط يستدعي طلب منع تعذيبهم بعد استحقاقهم للعذاب، أي: رب سلمهم من الوقوع في النار.
"وأمَّا الرابعة: وهي في إخراج من أدخل النار من العصاة، فدلائلها كثيرة، وقد روى البخاري" وأبو داود والترمذي وابن ماجه "عن عمران بن حصين مرفوعًا" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخلون الجنة ويسمّون" بفتح الميم المشددة "الجهنميين"، وللبخاري عن أنس مرفوعًا:"يخرج من النار قوم بعدما احترقوا، فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين"، زاد في حديث أبي سعيد عند الطبراني: "من أجل سواد في
وأمَّا الخامسة: وهي في رفع الدرجات، فقال النووي "في الروضة": إنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر لذلك مستندًا، فالله أعلم.
وقد ذكر القاضي عياض شفاعة سادسة، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب، لما ثبت في الصحيح أنَّ العباس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل نفعه ذلك؟ قال:"نعم، وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح" ، وفي الصحيح أيضًا من طريق أبي سعيد، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه".
وجوههم، فيقولون: يا ربنا أذهب عنَّا هذا الاسم، فيأمرهم فيغتسلون من نهر في الجنة، فيذهب ذلك الاسم عنهم.
"وأمَّا الخامسة: وهي في رفع الدرجات، فقال النووي في الروضة: إنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر لذلك مستندًا" أي: دليلًا، فالله أعلم" بذلك.
"وقد ذكر القاضي عياض شفاعة سادسة، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب" عنه؛ "لما ثبت في الصحيح" للبخاري ومسلم، "أنَّ العباس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك -بضم الحاء المهملة من الحياطة وهي المراعاة- وفي رواية: يحفظك، "وينصرك" يعينك على ما تريد فعله، "ويغضب لك" أي: لأجلك، إشارةً إلى ما كان يرد به عنه من القول والفعل، "فهل نفعه ذلك؟ قال:"نعم، وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح" بضادين معجمتين مفتوحتين وحاءين مهملتين أولاهما ساكنة، وأصله الماء الذي يبلغ الكعب، ويقال أيضًا لما قرب من الماء وهو ضد الغمر، والمعنى: إنه خفف عنه العذاب كما في الفح وغيره، وصريح هذا الحديث: إنه خفف عنه عذاب القبر في الدنيا، ويوم القيامة يكون في ضحضاح أيضًا كما في الحديث الآخر، وهو "وفي الصحيح" للبخاري ومسلم "أيضًا من طريق أبي سعيد" الخدري، أنه صلى الله عليه وسلم قال" وذكر عنده عمه أبو طالب "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي" بفتح أوله وسكون المعجمة وكسر اللام "منه دماغه".
وفي رواية أم دماغه، أي: رأسه، من تسمية الشيء بما يقاربه ويجاروه، وصرح العلماء بأن الرجاء من الله ومن نبيه للوقوع، بل قال في النور عن بعض شيوخه، إذا وردت عن الله ورسله وأوليائه معناها التحقيق، ولا يشكل هذا بقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ؛ لأنه خص
وزاد بعضهم سابعة: وهي الشفاعة لأهل المدينة، لحديث سعد، رفعه:"لا يثبت أحد على لأوائها إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة".
وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن متعلقها لا يخرج عن واحد من الخمس الأول، وبأنه لو عدَّ مثل ذلك لعد حديث عبد الملك بن عباد: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أول من أشفع له أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف". رواه البزار، وأخرى: لمن زار قبره الشريف، وأخرى: لمن أجاب المؤذن ثم صلى عليه صلى الله عليه وسلم،
من عموم الآية لصحة الحديث.
قاله البيهقي: ولذا عدّ في الخصائص النبوية، أو لأنَّ المنفعة الإخراج من النار، وفي الحديث بالتخفيف قاله القرطبي، وقيل غير ذلك كما مَرَّ في وفاة أبي طالب مع شرح الحديثين مبسوطًا.
"وزاد بعضهم سابعة: وهي الشفاعة لأهل المدينة لحديث سعد" بسكون العين ابن أبي وقاص، وحديث أبي سعيد سعد بن مالك الخدري "رفعه:"لا يثبت" المتقدم- لا يصبر "أحد على لأوائها" شدتها وجوعها، "إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة" تقدَّم مشروحًا في فضل المدينة.
"وتعقَّبه الحافظ ابن حجر بأن متعلقها بفتح اللام المشددة، أي: الشفاعة "لا يخرج عن واحد من الخمس الأُوَل" فليست بزائدة، وبأنه لو عُدَّ مثل ذلك لعُدَّ حديث عبد الملك بن عباد" بن جعفر المخزومي.
ذكره ابن شاهين وغيره في الصحابة، وقال في البخاري في تاريخه: سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حبان في التابعين، وقال: من زعم أن له صحبة فقد وهم، قال الحافظ: فماذا يصنع بقوله: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أول م أشفع له أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف" رواه البزار" في مسنده، وابن شاهين، وأخرجه الزبير بن بكار من طريق أخرى عن محمد بن عباد بن جعفر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، فإن كان عبد الملك أخا محمد حكمنا بأن قوله: سمعت وهم من بعض رواته؛ لأن والدهما عبادًا لا صحبة له. انتهى.
وكان هذا من إرخاء العنان لابن حبان، وإلّا فمعلوم تقديم رواية الوصل على الإرسال، وتقديم من أثبت الصحبة، لا سيما البخاري على من نفاها بلا دليل؛ إذ المثبت تمسك بقوله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرى: لمن زار قبره الشريف" للحديث السابق: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" ، "وأخرى: لمن أجاب المؤذّن ثم صلى عليه صلى الله عليه وسلم، ثم سأل له الوسيلة، قال:"فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّت عليه الشفاعة" كما في مسلم وغيره، وتقدَّم في مقصد المحبة، وأخرى في
وأخرى في التجاوز عن تقصير الصلحاء. لكن قال الحافظ ابن حجر: إنها مندرجة في الخامسة.
وزاد القرطبي: إنه أوَّل شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، [ويدل له ما رواه.....] .
وزاد في فتح الباري أخرى: فيمَنْ استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، لما أخرجه الطبراني، عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يرحمه الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون بشفاعته صلى الله عليه وسلم.
وأرجح الأقوال في أصحاب الأعراف أنَّهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
التجاوز عن تقصير الصلحاء، لكن قال الحافظ ابن حجر" العسقلاني:"إنها مندرجة" أي: داخلة "في الخامسة" التي هي رفع الدرجات، فليست بزائدة، "وزاد القرطبي: إنه أوَّل شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، ويدل عليه ما رواه".
وزاد في فتح الباري أخرى: فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، لما رواه الطبراني عن ابن عباس" عن النبي صلى الله عليه وسلم:"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي""قال" ابن عباس عقبه، موقوفًا عليه، "السابق بالخيرات"، وهو الذي يضمّ إلى العمل بالكتاب التعليم والإرشاد إلى العمل به "يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد" الذي يعمل بالكتاب في غالب الأوقات يرحمه الله، والظالم لنفسه" بالتقصير بالعمل به، "وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعته صلى الله عليه وسلم، وأرجح الأقوال" الاثنى عشر "في أصحاب الأعراف" سور بين الجنة والنار، وقيل: جبل أحد يوضع هناك كما في التذكرة "أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم".
وأخرج ابن مردويه وأبو الشيخ عن جابر: سئل صلى الله عليه وسلم عَمَّن استوت حسناته وسيئاته فقال: "أولئك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون"، وأخرج البيهقي عن حذيفة رفعه:"يجمع الناس يوم القيامة، فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، ويؤمر بأهل النار إلى النار، ثم يقال لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قاوا: ننتظر أمرك، فيقال لهم: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم، فادخلوا بمغفرتي ورحمتي"، فهذا نص المصطفى، ولذا رجَّحه القرطبي وقال: القول الثاني: قوم صالحون فقهاء علماء، والثالث: الشهداء، والرابع، فضلاء المؤمنين، والشهداء فرغوا من شغل أنفسهم وتفرَّغوا لمطالعة أحوال الناس، والخامس: قوم خرجوا للجهاد عصاة بغير إذن آبائهم، فتعادل عقوقهم واستشهادهم، وردَّ به حديث السادس:
وشفاعة أخرى وهي شفاعته فيمن قال: "لا إله إلا الله" ولم يعمل خيرًا قط، لرواية الحسن عن أنس: "فأقول: يا رب، ائذن لي في الشفاعة فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزَّتي وكبريائي وعظمتي لأخرجنَّ من النار من قال: لا إله
عدول يوم القيامة الذين يشهدون على الناس وهم من كل أمة، السابع: فئة من الأنبياء، الثامن: قوم لهم صغائر لهم تكفَّر عنهم بالآلام، والمصائب في الدنيا، ولا كبائر لهم، فوقفوا لينالهم بالحبس غم يقابل صغائرهم، التاسع: أصحاب الذنوب العظام من أهل القبلة، العاشر: أولاد الزنا، الحادي عشر: ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار، الثاني عشر: هم العباس وحمزة وعلي وجعفر. انتهى كلام القرطبي.
قال السيوطي: القول الخامس والثامن يمكن اجتماعهما مع الأوّل، لأنَّ المدار في كل على تساوي الحسنات والسيئات، فتجتمع الأحاديث كلها ويقطع بترجيحه، "وشفاعة أخرى: وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم فيمن قال: لا إله إلا الله" محمد رسول الله؛ لأنها علم عليهما شرعًا، "ولم يعمل خير قط لحديث الحسن" البصري "عن أنس" بن مالك في الصحيحين: "ثم أرجع إلى ربي في الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر ساجدًا، فيقال: ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي في الشفاعة فيمن قال: لا إله إلا الله".
قال الحميدي: يعني: من قالها من أمته، وقال أبو طالب عقيل بن أبي طالب: يحتمل ذلك، ويحتمل من قالها من كل أمة، ويؤيده طلبه الإذن في الشفاعة؛ لأنه أذن له في الشفاعة في أمته؛ لأنه إنما يقدم عليها بإذنه، قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 55]، وحالات المشفوع فيه أربع: من عنده مثقال برة، ومن عنده مثقال ذرة، ومن عنده أدنى ذرة، والرابعة: من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله مرة واحدة صدقًا من قلبه، ثم غفل عن استصحابها. قال الحميدي: لأنه إن قالها مرتين، فالثانية خير زائد على الإيمان يرجع إلى أحد المقادير الأول، "قال: ليس ذلك لك" وإنما أفعله تعظيمًا لاسمي، وإجلالًا لتوحيدي، ولا يقال: أطلق تعالى في السؤال ووعده الإعطاء، ووعده تعالى صدق؛ لأنه إنما وعد ما يمكن إعطاؤه، وهذا غير ممكن؛ لأنه مما استأثر الله به، وإنما سأله المصطفى ظنًّا أن إعطاءه ممكن؛ لأنه وإن علمه في الدنيا فيجوز أن ينساه في الآخرة لجواز النسيان عليه، ولا سيما ذلك اليوم، وقد يتعيِّن هذا؛ لأنه لا يجوز أن نبيًّا يسأل ما يعلم أنه لا يمكن، قاله أبو عبد الله الأبي، "ولكن وعزَّتي" غلبتي على الجبارين وقهري لهم، "وكبريائي" عبارة عن كمال يقتضي ترفعًا على الغير، ولذا حرَّم في حق المخلوق ووجب لله؛ لأن له الكمال المطلق، وأصله من كِبَر السن أو كبر الجرم، "وعظمتي" بمعنى الكبرياء، لكنها لا تقضي تعظمًا على الغير كما يقتضيه الكبرياء؛ ولأنها تستعمل
إلا الله".
فالوارد على الخمسة أربعة، وما عداها لا يرد، كما لا ترد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين وغير ذلك؛ لكونه من جملة أحوال الدنيا. انتهى.
فإن قلت: فأي شفاعة ادَّخرها صلى الله عليه وسلم لأمته؟ أمَّا الأولى: فلا تختص بهم، بل هي لإراحة الجمع كلهم، وهي المقام المحمود كما تقدَّم، وكذلك باقي الشفاعات، الظاهر أنه يشاركهم فيها بقية الأمم.
فالجواب: إنه يحتمل أنَّ المراد الشفاعة العظمي التي للإراحة من هول الموقف، وهي وإن كانت غير مختصة بهذه الأمَّة، لكن هم الأصل فيها، وغيرهم تبع لهم، ولهذا كان اللفظ المنقول عنه صلى الله عليه وسلم فيها أنه قال:"يا رب أمتي أمتي"
فيما لا يستعمل فيه التعاظم، فيقال: كبير السن ولا يقال عظيمه.
زاد في رواية مسلم: "وجبريائي" بكسر الجيم لموازاة كبريائي، كما قالوا: الغدايا والعشايا، والأصل: وجبروتي، وهو العظمة والسلطان والقهر، "لأخرجنَّ" بفضلي بغير شفاعة "من النار من قال: لا إله إلا الله" من كل أمة، والظاهر أنَّه لا يأتي هنا احتمال التخصيص بالمحمدية، "فالوارد" أي: الزائد لا أنه يعترض بها "على الخمسة أربعة" هي الشفاعة في أبي طالب، وزائر القبر الشريف، ومجيب المؤذن، ومن استوت حسناته وسيئاته، ولم يعد زيادة القرطبي أنه أوّل شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، كأنه لأنها ليست بذاتها شفاعة، وإنما خص بأوليتها، "وما عداها لا يرد كما لا ترد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين" اللذين مَرَّ عليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوتهما، فقال: "يعذبان وما يعذبان في كبير"، ثم قال: "بلى، كان أحدهما لا يستبرئ من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة"، ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، وقال: "لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا" كما في الصحيحين، "وغير ذلك، لكونه من جملة أحوال الدنيا. انتهى" كلام الحافظ.
"فإن قلت: فأي شفاعة ادَّخرها صلى الله عليه وسلم لأمته، أمَّا الأولى: فلا تختص بهم، بل هي لإراحة الجمع" أي: جمع الخلق كلهم من هول الموقف، وهي المقام المحمود كما تقدَّم، وكذلك باقي الشفاعات، الظاهر أنه يشاركهم" أي: أمته، "فيها بقية الأمم، فالجواب أنه يحتمل أنَّ المراد الشفاعة العظمى التي للإراحة من هول الموقف، وهي وإن كانت غير مختصَّة بهذه الأمة، لكن هم الأصل فيها وغيرهم تبع لهم" فيها، "ولهذا كان اللفظ المنقول عنه صلى الله عليه وسلم فيها" في الشفاعة العامة "أنه قال:"يا رب أمتي أمتي" بناءً على إبقائه على ظاهره،
فدعا لهم، فأجيب، وكان غيرهم تبعًا لهم في ذلك، ويحتمل أن تكون الشفاعة الثانية، وهي التي في إدخال قوم الجنة بغير حساب، هي المختصة بهذه الأمة، فإنَّ الحديث الوارد فيها:"يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب" الحديث. ولم ينقل ذلك في بقية الأمم، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الشفاعة المشتركة بين الشفاعات الخمس. وكون غير هذه الأمة يشاركونهم فيها أو في بعضها، لا ينافي أن يكون صلى الله عليه وسلم أخَّرَ دعوته شفاعة لأمته، فلعله لا يشفع لغيرهم من الأمم، بل يشفع لهم أنبياؤهم، ويحتمل أن تكون الشفاعة لغيرهم تبعًا كما تقدَّم مثله في الشفاعة العظمى، والله أعلم بالشفاعة التي ادَّخرها لأمته.
وأنه لا تقصير فيه من الراوي ولا وهم، "فدعا لهم فأجيب، وكان غيرهم تبعًا لهم في ذلك، وهذا يصلح جوابًا عن إشكال الداودي السابق.
ويحتمل أن تكون الشفاعة الثانية، وهي التي في إدخال قوم الجنة بغير حساب هي المختصة بهذه الأمة، فإن الحديث الصحيح الوارد فيها:"يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب...." الحديث في الصحيحين عن ابن عباس مطولًا، وللترمذي وحسَّنه عن أبي أمامة رفعه:"وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم وا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفًا، وثلاث حثيات من حثيات ربي"، ولأحمد وأبي يعلى عن الصديق رفعه:"فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفًا"، وللطبراني والبيهقي عن عمرو بن حزم الأنصاري رفعه:"فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا، قلت: رب وتبلغ أمتي هذا؟ قال: أكمل لك العدد من الأعراب"، ولأحمد والبزار والطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر رفعه:"إن ربي أعطاني سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر: فهلّا استزدته؟ قال: "قد استزدته، فأعطاني ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر: فهلّا استزدته؟ قال: "قد استزدته، فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفًا"، قال عمر: فهلّا استزدته؟ قال: "قد استزدته، فأعطاني، هكذا وفرج بين يديه وبسط باعيه وحثا"، وللطبراني بسند جيد رفعه:"إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالًا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب"، وظاهر أن لا تعارض؛ لأنه أخبر سبعين ألفًا قبل الاستزادة، فلمَّا حصلت أخبر بها، ولم ينقل ذلك" أي: مثله "في بقية الأمم" فيقوى احتمال أنها الشفاعة التي ادَّخرها لأمته.
ويحتمل أن يكون المراد مطلق الشفاعة المشتركة بين الشفاعات الخمس، وكون غير هذه الأمة يشاركونهم فيها" كلها، "أو في بعضها لا ينافي أن يكون عليه السلام أخَّر دعوته شفاعةً لأمته، فلعله لا يشفع لغيرهم من الأمم، بل يشفع لهم أنبياؤهم.
ويحتمل أن تكون الشفاعة لغيرهم تبعًا كما تقدَّم مثله في الشفاعة العظمى والله أعلم
وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما في الأرض من شجرة ومدرة" رواه أحمد.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن آخر الأمم وأوّل من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها، فنحن الآخرون الأوّلون" رواه ابن ماجه.
وفي حديث ابن عباس عند أبي داود الطيالسي مرفوعًا: "فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى منادٍ: أين محمد وأمته، فأقوم وتتبعني أمتي غرًّا محجَّلين من أثر الطهور"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فنحن الآخرون الأوّلون، وأول من يحاسب، وتفرج لنا الأمم عن طريقنا وتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها" ، وقد صحَّ أن أوَّل ما يقضى بين الناس في الدماء. رواه البخاري.
بالشفاعة التي ادَّخرها لأمته.
وعن بريدة -بضم الموحدة مصغر، "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إني لأرجو" ورجاؤه محقق الوقوع، "أن أشفع يوم القيامة" شفاعات كثيرة "عدد ما على الأرض" أو التقدير: في جمع عددهم كعدد ما على الأرض، والأول أولى لاقتضائه كثرة الشفاعات.
وفي رواية الطبراني والبيهقي: لأكثر مما على وجه الأرض "من شجرة ومدرة" بفتحتين- التراب المتلبد واحده مدر -بزنة قصب وقصبة، وقد جاء أيضًا بالجمع من شجر ومدر.
"رواه أحمد" والطبراني في الأوسط، والبيهقي، "وعن ابن عباس، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن آخر الأمم" في الوجود في الدنيا، "وأول من يحاسب" يوم القيامة، "يقال: أين الأمة الأمية" نسبة إلى نبيها، فلا ينافي أن كثيرًا من الأمَّة يكتب، "ونبيها، فنحن الآخرون" في الوجود، الأولون في الحساب وغيره.
"رواه ابن ماجه، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود" سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي مرفوعًا: "فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى منادٍ" للتشريف: "أين محمد وأمته، فأقوم وتتبعني أمتي غرًّا محجَّلين من أثر الطهور" بضم الطاء وفتحها.
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنحن الآخرون الأولون، وأول من يحاسب وتفرج" بفتح التاء وكسر الراء توسع "لنا الأمم عن طريقنا، وتقول الأمم: كادت" قاربت، "هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها" لما لهم من الشمائل الحسنة والنور الظاهر.
"وقد صحَّ أن أول ما يقضى" بضم أوله "بين الناس" يوم القيامة في الدماء التي جرت بينهم في الدنيا تعظيمًا لأمرها، فإن البداءة تكون بالأهم فالأهم، وهي حقيقة بذلك، فإن الذنوب
وللنسائي مرفوعًا: "أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء".
وفي البخاري عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة"، يريد قصته في مبارته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش، قال أبو ذر: وفيهم نزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما عمل فيه، وعن ماله
تعظم بحسب عظم المفسدة الواقعة بها، أو بحسب فوات المعصية المتعلقة بعدمها، وهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد.
قال بعض المحققين: ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر أعظم منه "رواه البخاري" في الرقاق والديات، ومسلم في الحدود عن ابن مسعود، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أول ما يقضى بين الناس في الدماء"، ولبعض رواة البخاري: بالدماء -بموحدة بدل في- ولما احتمل اللفظ من حيث هو أنَّ الأولية خاصَّة بما يقع الحكم فيه بين الناس، وأنها أولية مطلقًا، وجاء ما يؤيد الأول، أتبعه به فقال:"وللنسائي" عن ابن مسعود مرفوعًا: "أول ما يحاسب عليه العبد" الإنسان حرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى "الصلاة"؛ لأنها أمَّ العبادات وأول الواجبات بعد الإيمان، "وأول ما يقضى بين الناس في الدماء"؛ لأنها أكبر الكبائر بعد الكفر ولا تناقض؛ لأن هذا في حق الخلق، والصلاة في حق الحق.
قال الحافظ العراقي: وظاهر الأخبار أنَّ لذي يقع أولًا المحاسبة على حق الله، "وفي البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أنا أوّل من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة، يريد" على "قصته في مبارزته" بإضافة المصدر للفاعل، "هو وصاحباه حمزة وعبيدة بن الحارث المطلبي، الثلاثة بالنصب مفعول مبارزة من كفار قريش، وهم شيبة بن ربيعة، وأخوه عتبة -بضم المهملة وإسكان الفوقية- وابنه الوليد بن عتبة، ومرت قصتهم في بدر، وتصحف اسم عتبة في عبارة بعتيبة، فحيرت من رآها.
"قال أبو ذر: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ومَرَّ أن الثلاثة الكفار قتلوا، وأن عبيدة الصحابي استشهد.
وعن أبي هريرة" الذي في الترمذي، عن أبي برزة الأسلمي "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد" عن الموضع الذي هو واقف فيه، "يوم القيامة، حتى يسأل عن أربع: عن
من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وفي البخاري من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نوقش الحساب عذّب".
وروى البزار عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم
عمره فيما أفناه" طاعة أم عصيان، "وعن علمه فيما عمل به" هل أخلص فيه لله تعالى أم لا، كذا في النسخ، والذي في الترمذي: "علمه ما عمل فيه" ، وله من رواية ابن مسعود: "وماذا عمل فيما علم" ، "وعن ماله من أين اكتسبه" من حلال أو حرام أو شبهة، "وفيما أنفقه" أفي وجوه الطاعات أو ضدها، "وعن جسمه فيما أبلاه" أي: أفناه.
وفي رواية ابن مسعود: "وعن شبابة فيما أبلاه"، "رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح" لكن عن أبي برزة الأسلمي لا عن أبي هريرة.
ورواه أيضًا عن ابن مسعود مرفوعًا بلفظ: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم"، وعدها تارة أربعًا وأخرى خمسًا بالاعتبار؛ لأن السؤال عن المال كسبًا وإنفاقًا يعد مرة أو مرتين.
وفي البخاري في العلم والرقاق ومسل "من حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مبتدأ موصول "نوقش" بضم أوله وكسر القاف صلة الموصول "الحساب" نصب على المفعولية، أي: من ناقشه الله، أي: استقصى حسابه، "عُذِّب" بضم أوله مبني للمفعول خبر المبتدأ، قال عياض: له معنيان، أحدهما: إن نفس مناقشة الحساب وعرض الذنوب والتوقيف على قبيح ما سلف والتوبيخ تعذيب، والثاني: إنه يفضي إلى استحقاق العذاب؛ إذ لا حسنة للعبد إلّا من عند الله لإقداره عليها وتفضيله عليه بها وهدايته لها؛ ولأن الخالص لوجهه قليل، ويؤيد هذا الثاني قوله في الرواية الأخرى: هلك.
وقال النووي: التأويل الثاني هوالصحيح؛ لأن التقصير غالب على الناس، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك،. وبقية الحديث، قالت: أي عائشة، قلت: أليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، قال:"ذلك العرض".
"وروى البزار عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج" أي: يؤتى "لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين، ديوان فيه العمل الصالح" الذي عمله في الدنيا، "وديوان فيه ذنوبه،
من الله تعالى عليه، فيقول الله تعالى لأصغر نعمة -أحسبه قال: من ديوان النعم: خذي بثمنك من عمله الصالح، فتستوعب عمله الصالح، وتقول: وعزتك ما استوفيت، وتبقى الذنوب والنعم، وقد ذهب العمل الصالح، فإذا أراد الله أن يرحم عبدًا، قال: يا عبدي، قد ضاعفت لك حسناتك، وتجاوزت عن سيئاتك -أحسبه قال: ووهبت لك نعمي".
وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليختصمنَّ كل شيء يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا".
وعن أنس: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس؛ إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه،
وديوان فيه النعم من الله عليه، فيقول الله لأصغر نعمه -أحسبه" أي: أظنه "قال: من ديوان النعم" يعني أنه تحقق أنه قال لأصغر نعمه دون قوله من ديوان النعم، فلم يتحققه، وإنما ظنّه "خذي بثمنك من عمله الصالح، فتستوعب" تلك النعمة "عمله الصالح" كله، "وتقول: وعزتك ما استوفيت" ثمني، "وتبقى الذنوب والنعم".
"وقد ذهب العمل الصالح" جملة حالية، "فإذا أراد الله أن يرحم عبدًا قال: يا عبدي، قد ضاعفت لك حسناتك" الحسنة بعشرة، إلى أكثر مما شاء الله، "وتجاوزت عن سيئاتك، أحسبه" أظنه "قال: ووهبت لك نعمي" وللطبراني عن واثلة رفعه: "يبعث الله يوم القيامة عبدًا لا ذنب ل، فيقول الله، بأي الأمرين أحبّ إليك، أن أجزيك بعملك أو بنعمتي عليك، قال: رب أنت تعلم أنِّي لم أعصك، قال: خذوا عبدي بنعمة من نعمي، فما تبقى له حسنة إلّا استغرقتها تلك النعمة، فيقول: رب بنعمتك ورحمتك".
"وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليختصمنَّ كل شيء" من الأشياء التي وقع فيها ما يوجب الخصومة "يوم القيامة، حتى الشاتان فيما" أي: في أي شيء "انتطحتا" عدلًا من الحكم العدل، ثم تكون البهائم كلها ترابًا، ولأحمد عن أبي هريرة قال:"يحشر الخلق كلهم يوم القيامة: البهائم والدواب والطير، فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كونا ترابًا، فذلك حين يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا" ولأحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني، قال: حدِّثت أنَّ البهائم إذا رأت بني آدم قد تصدعوا من بين يدي الله صنفين، صنفًا إلى الجنة وصنفًا إلى النار، تناديهم البهائم: يا بني آدم، الحمد لله الذي لم يجعلنا اليوم مثلكم، لا جنة نرجوا ولا عقابًا نخاف".
وعن أنس: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس؛ إذ رأيناه ضحك حتى بدت" ظهرت "ثناياه
فقال له عمر: ما أضحك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، قال:"رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب، خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله: ما تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء، قال: يا رب، فليتحمل من أوزاري" وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال:"إن ذلك ليوم عظيم، يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر، فقال: يا رب، أرى مدائن من ذهب وفضة مكلَّلة باللؤلؤ، لأي نبي هذا، أو لأي صديق هذا، أو لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن يعطي الثمن، فقال: يا رب، ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب، فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى، فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله يصلح بين المسلمين يوم القيامة " رواه
فقال له عمر" بن الخطاب: "ما أضحكك يا رسول الله" أفديك "بأبي أنت وأمي، قال:"أضحكني رجلان" أي: خبر رجلين "من أمتي، جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب، خذ لي مظلمتي" بفتح الميم وكسر اللام "من أخي" في الدين، "فقال الله" للطالب "ما تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء، قال: يا رب، فليحمل من أوزاري" وفاضت" سالت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء" شفقة ورأفة ورحمة على المؤمنين، ثم قال:"إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس" إلى "أن يحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله" للطالب "ارفع بصرك" إلى جهة العلوّ، فنظر "فقال: يا رب، أرى" أبصر "مدائن من ذهب وفضة مكلَّلة باللؤلؤ" وفي نسخة: باللآليء -بالجمع، "لأيّ نبي هذا، أو لأيّ صديق هذا، أو لأيّ شهيد هذا، قال: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب، ومن يملك ذلك؟ الثمن قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ " أي بأي شيء أملكه يا رب، "قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب، فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى: فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة" معك، فعفا بفضله عنهما جميعًا وأرضى الخصم عن مظلمته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم" أي: الحال الذي يقع به الاجتماع، يتلاقى خل الشيء، "فإن الله يصلح بين المسلمين" ، وفي لفظ: المؤمنين "يوم القيامة" أي: يوفِّق بينهم بإلهام المظلوم العفو عن ظالمه، وتعويضه عن ذلك بأحسن الجزاء.
وللطبراني بسند حسن عن أنس رفعه: "إذا التقى الخلائق يوم القيامة نادى منادٍِ: يا أهل الجمع، تداركوا المظالم بينكم، وثوابكم عليَّ" وله أيضًا عن أم هانيء رفعته: "إن الله يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، ثم ينادي منادٍ من تحت العرش: يا أهل التوحيد
الحاكم والبيهقي في البعث، كلاهما عن عبَّاد بن أبي شيبة الحبطي، عن سعيد بن أنس عنه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. كذا قال.
وقد نقل: لو أنَّ رجلًا له ثواب سبعين نبيًّا، وله خصم بنصف دانق، لم يدخل الجنَّة حتى يرْضى خصمه. وقيل: يؤخذ بدانق سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم. ذكره القشيري في التحبير.
ثم بعد انقضاء الحساب يكون وزن الأعمال؛ لأنَّ الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاء بحسبها.
إن الله عز وجل قد عفا عنكم، فيقوم الناس، فيتعلّق بعضهم ببعض في ظلامات، فينادي منادٍ: يا أهل التوحيد، ليعفو بعضكم عن بعض وعليَّ الثواب".
قال الغزالي: هذا محمول على من تاب من الظلم ولم يعد إليه، وهم الأوَّابون في قوله تعالى:{فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 35] .
قال القرطبي: وهذا تأويل حسن، قال: أو يكون فيمن له خبيئة، من عمل صالحًا يغفر الله له به، ويرضي خصماءه، ولو كان عامًّا في جميع الناس ما دخل أحد النار.
"رواه الحاكم والبيهقي في البعث، كلاهما" وكذا رواه أبو يعلى وسعيد بن منصور، كلهم "عن عبَّاد بن أبي شيبة الحبطي" بفتح المهملة والموحَّدة، نسبة إلى الحبطات، بطن من تميم "عن سعيد بن أنس، عنه" أي: عن أبيه أنس بن مالك، "وقال الحاكم: صحيح الإسناد، كذا قال: "تبرأ منه لقول الذهبي: عباد ضعفوه، وشيخه سعيد لا يعرف، فأنى له الصحة. انتهى.
ونزاعه إنما هو في الصحة، وإلّا فله شواهد ترفعه إلى درجة الحسن، منها حديث أنس، وإسناده حسن، وحديث أم هانيء السابقان.
"وقد نقل: لو أنَّ رجلًا له ثواب سبعين نبيًّا، وله خصم بنصف دانق، لم يدخل الجنة حتى يرضى خصمه" هذا إن صحَّ لا يعارض ذلك؛ لأنَّ الله إذا أراد أرضى خصمه عنه وجازاه، فصدق أنه أرضى خصمه، فليس فيه تقوية لتضعيف الحديث، كما أومأ له المصنف، "وقيل: يؤخذ بدانق سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم، ذكره القشيري" أبو القاسم "في التحبير".
وهذا أيضًا لا يعارض؛ لأنها إذا أخذت وقد عفا الله أدخله الجنة برحمته، وقوله:"ثم بعد انقضاء الحساب يكون وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها" نقله في
وقد ذكر الله تعالى الميزان في كتابه بلفظ الجمع، وجاءت السنة بلفظ الإفراد والجمع، فقيل: إن صورة الإفراد محمولة على أنَّ المراد الجنس، جمعًا بين الكلامين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون تعددها بتعدد الأعمال، فيكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله، ذهبت طائفة إلى أنها ميزان واحد يوزن بها للجميع، وإنما ورد في الآية بصيغة الجمع للتفخيم، وليس المراد حقيقة العدد، وهو نظير قوله:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}
التذكرة عن العلماء، وقال: أفاد بهذا تقديم الحساب على الميزان، وأن المراد بالحساب السؤال، ولهذا لا ميزان لمن يدخل الجنة بغير حساب ولا للكفار، وإنما للميزان للمخلصين من المؤمنين.
قال السيوطي: ومن ثَمَّ بُدِئَ بإلقاء الكفار في النار، قال: ولم يتعرَّض القرطبي للميزان والصراط أيهما قبل، لكن صنيعه وصنيع البيهقي يدلان على أن الميزان قبل؛ لأنهما ذكرا أبواب الميزان قبل الصراط، ووقع في كلام القرطبي نقلًا عن بعضهم استطرادًا ما يقتضي أنَّ الحساب قبل الصراط، وفي أثر أيفع الكلاعي ما يقتضي أنَّ الحساب على قناطر الصراط. انتهى.
"وقد ذكر الله تعالى الميزان في كتابه بلفظ الجمع": {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُه} [المؤمنون: 102] وأما قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَان} ، فالمراد: النهي عن عدم تحرير الوزن في معاملات الدنيا، والأمر بإقامة العدل فيما بينهم، "وجاءت السنة بلفظ الإفراد"؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"خلق الله كفتي الميزان مثل السماء والأرض".
رواه ابن مردويه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وضعت فيه السماوات والأرض لوسعت"....... الحديث.
رواه الحاكم "والجمع" كقوله صلى الله عليه وسلم: "توضع الموازين"، وكحديث حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل، رواه ابن جرير، "فقيل" في وجه الجمع بينهما:"إن صورة الإفراد محمولة على أنَّ المراد الجنس" الصادق بالمتعدد "جمعًا بين الكلامين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون تعددها بتعدد الأعمال، فيكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، كما قال الشاعر:
ملك تقوم الحادثات لأجله
…
فلكل حادثة لها ميزان
"وذهبت طائفة" وهم الأكثرون "إلى أنها ميزان واحد يوزن بها للجميع، وإنما ورد في الآية بصيغة الجمع للتفخيم، وليس المراد حقيقة العدد" أي: الجمع الذي أقلّه ثلاثة، "وهو نظير قوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] والمراد رسول واحد،" وهو نوح
[الشعراء: 105] والمراد رسول واحد، وهذا هو المعتمد، وعليه الأكثرون.
واختلف في كيفية وضع الميزان، والذي جاء في أكثر الأخبار، أنَّ الجنة توضع عن يمين العرش، والنار عن يسار العرش، ثم يؤتى بالميزان، فينصب بين يدي الله تعالى، فتوضع كفة الحسنات مقابل الجنة، وكفة السيئات مقابل النار. ذكره الحكيم الترمذي في "نواد الأصول".
واختلف أيضًا في الموزون نفسه، فقال بعضهم: توزن الأعمال نفسها، وهي وإن كانت أعراضًا إلّا أنها تجسَّم يوم القيامة فتوزن، وقال بعضهم: الموزون صحائف الأعمال، ويدل له حديث البطاقة المشهرة، وقد رواه الترمذي، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، يرفعه بلفظ: "إن الله يستخلص رجلًا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًا، كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟
عليه السلام، "وهذا هو المعتمد وعليه الأكثرون" وقيل: الجمع باعتبار العباد وأنواع الموزونات.
"واختلف في كيفية وضع الميزان: والذي جاء في أكثر الأخبار أن الجنة توضع عن يمين العرش، والنار عن يسار العرش، ثم يؤتَى بالميزان" مذكّر، وأصله الواو، لجمعه على موازين "فينصب بين يدي الله تعالى، فتوضع كفة الحسنات مقابل الجنة، وكفة السيئات مقابل النار" بتثليث كاف كفة، كما ذكره صاحب القاموس في كتابه المثلثات.
"ذكره الحكيم الترمذي" محمد بن علي "في نوادر الأصول" اسم كتاب له، "واختلف أيضًا في الموزون نفسه، فقال بعضهم: توزن الأعمال نفسها، وهي وإن كانت أعراضًا" والعرض لا يقوم بنفسه ولا يوصف بخفة ولا ثقل، "إلّا أنها تجسَّم يوم القيامة فتوزن" كما جاء عن ابن عباس، ولا يلزم من ذلك محال لذاته، وإن عجزت عقولنا عن إدراكه، فنكل علمه إلى الله ولا نشتغل بكيفيته، "وقيل: الموزون صحائف الأعمال" وصحَّحه ابن عبد البر والقرطبي، "ويدل له حديث البطاقة المشهور".
"وقد رواه الترمذي" وقال: حسن غريب، وابن ماجه وابن حبان والحاكم.
وصححه البيهقي "من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، يرفعه بلفظ: "إن الله يستخلص رجلًا" وفي رواية ابن ماجه: "يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًا" مائة إلًا واحدًا، "كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا، أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك
فيقول: لا، يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء".
فإن قلت: إن من شأن الميزان أن يوضع في كفته شيء وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، والذي يقابل شهادة التوحيد الكفر، ويستحيل أن يأتي عبد واحد بالكفر والإيمان معًا حتى يوضع الإيمان في كفة والكفر في أخرى.
أجاب الترمذي الحكيم: بأنه ليس المراد وضع شهادة التوحيد في كفة الميزان، وإنما المراد وضع الحسنة المترتبة على النطق بهذه الكلمة مع سائر
عذر" في فعل ذلك؟ "فيقول: لا يارب" لفظ الحديث عند المذكورين، فيقول: "أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا يارب" ، "فيقول: بلى. إن لك عندنا حسنة" فهذا جواب لقوله: أو حسنة، الساقط من قلم المصنف أو كتابه، "وأنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة" رقعة صغيرة مكتوبًا "فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت" خفت "السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء"؛ إذ لا شيء يعدله، وقيل: يوزن العبد مع عمله، ويؤيده حديث أحمد بسند حسن عن ابن عمرو بن العاص، مرفوعًا: "توضع الموزاين يوم القيامة، فيؤتى الرجل فيوضع في كفة، ويوضع ما أحصي عليه، فيتمايل به الميزان، فيبعث به إلى النار، فإذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن: لا تعجلوا لا تعجلوا، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها: لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان" "فإن قلت: إن من شأن الميزان أن يوضع في كفته شيء، وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، والذي يقابل شهادة التوحيد الكفر، ويستحيل أن يأتي عبد واحد بالكفر والإيمان معًا، حتى يوضع الإيمان في كفة، والكفر في كفة" إن الضدان لا يجتمعان، قلت: "أجاب الترمذي الحكيم بأنه ليس المراد وضع شهادة التوحيد في كفة الميزان" حتى يجتمع الضدان "وإنما المراد وضع الحسنة المترتبة على النطق بهذه الكلمة مع سائر الحسنات، ويدل لما قاله قوله: "بلى إن
الحسنات، ويدل لما قاله قوله:"بلى إن لك عندنا حسنة" ، ولم يقل لك عندنا إيمانًا. وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن لا إله إلا الله، أمِنَ الحسنات هي؟ فقال:"من أعظم الحسنات" أخرجه البيهقي وغيره. ويجوز -كما قاله القرطبي في التذكرة: أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا، كما في حديث معاذ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".
وفي "التحبير" للقشيري: قيل لبعضهم في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: وزنت حسناتي فرجحت السيئات على الحسنات، فسقطت صرة في كفة الحسنات فرجحت، فحلت الصرة فإذا فيها، كفّ تراب ألقيته في قبر مسلم.
لك عندنا حسنة" ولم يقل: لك عندنا إيمانًا، وقد سئل عليه السلام عن لا إله إلّا الله، أَمِنَ الحسنات هي، فقال: "من أعظم الحسنات".
"أخرجه البيهقي وغيره" قال القرطبي: وتوزن أعمال الجن كما توزن أعمال الإنس، "ويجوز كما قاله القرطبي في التذكرة: أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا كما في حديث معاذ" بن جبل عند أحمد وأبي داود والحاكم، وصحَّحه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه" في الدنيا، قال أبو البقاء: آخر بالرفع اسم كان، و "لا إله إلا الله" في موضع نصب خبر، ويجوز عكسه. انتهى.
فإن قيل: أهل الكتاب ينطقون بكلمة التوحيد، فلم لم يذكر قرينتها، أجاب الطيبي بأن قرينتها صدورها عن صدر الرسالة، قال الكشاف في:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} لما علم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول لاشتمال كلمة الشهادة عليهما مزدوجين، كأنهما واحد غير منفك، أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله الإيمان برسوله، "دخل الجنة" ، وذهب حرصه ورغبته وسكنت أخلاقه السيئة وذلَّ وانقاد لربه، فاستوى ظاهره بباطنه، فغفر له بهذه الشهادة لصدقها، وقائلها في الصحة قلبه مشحون بالشهوات والمنى، ونفسه شرهة بطرة ميتة على الدنيا عشقًا وحرصًا، فلا يستوجب المغفرة بها إلّا بعد رياضة نفسه وموت شهواته، وصفاته عن التخليط.
"وفي التحبير للقشيري، قيل لبعضهم في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: وزنت حسناتي" وسيئاتي، "فرجحت السيئات على الحسنات، فسقطت صرة في كفة الحسنات، فرجحت" الحسنات، "فحلت الصرة، فإذا فيها كفّ تراب ألقيته في قبر مسلم" بحسن نية
وفي الخبر: إذا خفَّت حسنات المؤمن، أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاقة كالأنملة، فيلقيها في كفة الميزان التي فيها الحسنات، فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي، ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك، فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك محمد، وهذه صلاتك علي، وقد وفَّيتك إياها أحوج ما تكون إليها. ذكره القشيري في تفسيره.
وذكر الغزالي أنه يؤتى برجل يوم القيامة، فما يجد حسنة يرجح بها ميزانه، وقد اعتدلت بالسوية، فيقول الله له -رحمة منه: اذهب في الناس فالتمس من
وانكسار، وعلم بأني صائر إلى ذلك، وأن لذات الدنيا التي حصلت لي لا شيء.
"وفي الخبر: إذا خفَّت حسنات المؤمن، أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم" من حجزته "بطاقة" بيضاء "كالأنملة، فيليقها في كفة الميزان التي فيها حسناته، فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبد" بعد أن يؤمر به إلى الجنة، "للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي، ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك، فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك محمد، وهذه صلاتك عليّ، وقد وفَّيتك إياها أحوج ما تكون إليها. ذكره القشيري في تفسيره".
وأخرجه ابن أبي الدنيا مطولًا عن عبد الله بن عمر، وقال: إن لآدم من الله عز وجل موقفًا في فسح من العرش، عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق، ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى الجنة والنار، فبينما آدم على ذلك؛ إذ نظر إلى رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينطلق به إلى النار، فينادي آدم: يا أحمد، يا أحمد، فيقول: لبيك يا أبا البشر، فيقول: هذا رجل من أمتك منطلق به إلى النار، فأشد لمئزر وأسرع في أثر الملائكة وأقول:"يا رسل ربي قفوا، فيقولون: نحن الغلاظ الشداد لا نعصي الله ما أمرنا، ونفعل ما نؤمر"، فإذا أيس صلى الله عليه وسلم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه، فيقول:"رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي"، فيأتي النداء من عند العرش: أطيعوا محمدًا وردّوا هذا العبد إلى المقام، "فأخرج من حجزتي بطاقة بيضاء كالأنملة، فألقيها في كفة الميزان اليمنى، وأنا أقول: بسم الله، فترجح الحسنات على السيئات، فينادي: سعد وسعد جده، وثقلت موازينه، انطلقوا به إلى الجنة، فيقول: يا رسل ربي، قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه، فيقول: بأبي أنت وأمي، ما أحسن وجهك، وأحسن خلقك، من أنت؟ فقد أقلتني عثرتي ورحمت عبرتي؟ فأقول: أنا نبيك محمد، وهذه صلاتك التي كنت تصلي عليّ وافتك أحوج ما تكون إليها".
"وذكر الغزالي أنه يؤتى برجل يوم القيامة، فما يجد حسنة ترجح بها ميزانه وقد اعتدلت بالسوية" لتساوي حسناتهه وسيئاته، "فيقول الله تعالى له -رحمة منه: اذهب في الناس
يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة، فما يجد أحدًا يكلمه في ذلك الأمر إلّا قال له: أنا أحوج لذلك منك فييأس، فيقول له رجل: لقد لقيت الله، فما وجدت في صحيفتي إلّا حسنة واحدة، وما أظنّها تغني عني شيئًا، خذها هبة مني، فينطلق بها فرحًا مسرورًا، فيقول الله له: ما بالك؟ وهو أعلم، فيقول: يا رب، اتفق لي من أمري كيت وكيت، قال: فينادي الله تعالى بصاحبه الذي وهب له الحسنة فيقول له تعالى: كرمي أوسع من كرمك، خذ بيد أخيك وانطلقا إلى الجنة.
وكذا تستوي كفتا الميزان لرجل، فيقول الله تعالى له: لست من أهل الجنة ولا من أهل النار، فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان، فيها مكتوب "أفّ" فترجح على الحسنات؛ لأنها كلمة عقوق، فيؤمر به إلى النار، قال: فيطلب الرجل أن يُرَدَّ إلى الله تعالى، فيقول الله تعالى: ردوه، فيقول له: أيها العبد العاق، لأي شيء تطلب الرد إليّ؟ فيقول: إلهي، إني سائر إلى النار وكنت عاقًّا لأبي، وهو سائر إلى النار مثلي، فضعّف عليَّ عذابه وأنقذه منها، قال: فيضحك الله تعالى، ويقول: عققته في الدنيا وبررته في الآخرة، خذ بيد أبيك وانطلقا إلى الجنة.
فالتمس من يعطيك حسنة أدخلك -بضم اللام- صفة لحسنة "بها الجنة، فما يجد أحدًا يكلمه في ذلك الأمر إلّا قال له: أنا أحوج لذلك منك، فييأس فيقول له رجل: لقد لقيت الله، فما وجدت في صحيفتي إلّا حسنة واحدة، وما أظنها تغني عني شيئًا، خذها هبة مني، فينطلق بها فرحًا مسرورًا، فيقول الله: ما بالك؟ " شأنك وحالك، "وهو أعلم، فيقول: يا رب، اتفق لي من أمري كيت وكيت" أي: كذا وكذا -بفتح التاء الفوقية فيهما وقد تكسر- وهي هاء في الأصل، فصارت تاء في الوصل، "قال: فينادي الله تعالى بصاحبه الذي وهبه الحسنة، فيقول له تعالى: كرمي أوسع من كرمك، خذ بيد أخيك وانطلقا إلى الجنة، وكذا تستوي كفتا الميزان لرجل، فيقول الله تعالى له: لست من أهل الجنة ولا من أهل النار، فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان، فيها مكتوب أف، فترجح على الحسنات؛ لأنها كلمة عقوق، فيؤمر به إلى النار".
"قال: فيطلب الرجل أن يردَّ إلى الله تعالى، فيقول الله تعالى: ردوه، فيقول له: أيها العبد العاق، لأي شيء تطلب الرد إليّ؟ فيقول: إلهي، إني سائر إلى النار، وكنت عاقًّا لأبي، وهو سائر إلى النار مثلي، فضعِّف عليَّ عذابه" أي: أبيه.
وفي نسخة: عذابي، "وأنقذه منها، قال: فيضحك الله تعالى" يرضى عنهما جميعًا، "ويقول: عققته في الدنيا وبررته" بكسر الراء الأولى وإسكان الثانية بزنة علمته "في الآخرة،
وقد روى حذيفة أنَّ صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام، وهو الدين يزن الأعمال يوم القيامة. رواه ابن جرير في تفسيره.
واختلف أيضًا في كيفية الرجحان والنقص، فقال بعضهم:
الراجح أنَّ الموزون في الآخرة يصعد، عكس ما في الدنيا، واستشهد في ذلك بقوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] الآية. قال الزركشي: وهو غريب مصادم لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7] .
وهل توزن الأعمال كلها أو خواتيمها؟ حكي عن وهب بن منبه أنه قال: يوزن من الأعمال خواتيمها، واستدلَّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بخواتيمها".
خذ بيد أبيك وانطلقا إلى الجنة" برحمة الله تعالى.
"وقد روى حذيفة بن اليمان أنَّ صاحب الميزان يوم القيامة، أي: الذي يتولَّى أمره "جبريل عليه السلام، وهو الذي يزن الأعمال يوم القيامة.
"رواه ابن جرير في تفسيره" وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره، وهو موقوف له حكم الرفع، وللبيهقي عن أنس رفعه:"ملك الموت موكَّل بالميزان"، وللطبراني الصغير عن أبي هريرة رفعه:"يقول الله: يا آدم، قد جعلتك حكمًا بيني وبين ذريتك، قم عند الميزان، فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم، فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة، حتَّى تعلم أنِّي لا أدخل منهم النار إلّا ظالمًا".
"واختلف أيضًا في كيفية الرجحان والنقص، فقال بعضهم: الراجح أنَّ من الموزون في الآخرة يصعد" إلى العلوّ "عكس ما في الدنيا، واستشهد بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} "الآية".
"قال الزركشي: وهو غريب مصادم" مدافع أي: مدفوع لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} في الجنة، أي: ذات رضًا بأن يرضاها، أي: مرضية له، فإن القرآن وارد بلغة العرب، والتعبير بثقلت، وفي مقابله بخفَّت، إنما يفهم منه أنها كميزان الدنيا، وأمَّا قوله:{وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فمعناه يقبله.
"وهل توزن الأعمال كلها أو خواتيمها" حكي عن وهب بن منبه أنه قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها"، وإذا أراد بعبد خيرًا ختم له بخير عمله، وإذا أراد به شرًّا خُتِمَ له بشر عمله، هذا من جملة المروي عن وهب. واستدلَّ بقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بخواتيمها" وظاهر الأحاديث والآثار أنها
وذكر الحافظ أبو نعيم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قضى لأخيه المؤمن حاجة كنت واقفًا عند ميزانه، فإن رجحت وإلّا شفعت له".
وقال بعض أهل العلم، فيما حكاه القرطبي في "التذكرة": ولن يجوز أحد على الصراط حتى يسأل على سبع قناطر، فأمَّا القنطرة الأولى: فيسأل عن الإيمان بالله، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها مخلصًا جاز، ثم يسأل في القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان، فإن جاء به تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الرابعة عن الزكاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الخامسة عن الحجِّ والعمرة، فإن جاء بهما تأمَّين جاز، ثم يسأل في السادسة عن الغسل والوضوء، فإن جاء بهما تامَّين جاز، ثم يسأل في السابعة، وليس في القناطر أصعب منها، فيسأل عن ظلامات الناس.
توزن كلها، ومن أصرحها ما رواه أحمد في الزهد، عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي، فقال: من هذا؟ قال: فلان، قال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلّا البكاء، فإن الله يطفيء بالدمعة بحورًا من نيران جهنم، وللبيهقي مرفوعًا:"ما من شيء إلّا له مقدار وميزان إلّا الدمعة، فإنه يطفأ بها بحار من النار".
"وذكر" أي: روى الحافظ أبو نعيم عن نافع عن ابن عمر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قضى لأخيه" في الدين "المؤمن حاجة" أي حاجة كانت، "كنت واقفًا عند ميزانه، فإن رجحت وإلّا شفعت له" فترجح ميزانه فينجو من النار.
"وقال بعض أهل العلم فيما حكاه القرطبي في التذكرة: ولن يجوز أحد" من هذه الأمة وغيرها "على الصراط، حتى يسأل على سبع قناطر، فأمَّا القنطرة الأولى: فيسأل عن الإيمان بالله، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها مخلصًا" عن الشك والشرك، "جاز" على الصراط، وإلّا وقع في النار، "ثم يسأل في القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان فإن جاء به تامًّا جاز، ثم يسأل في القنطرة الرابعة عن الزكاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الخامسة عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما تامَّين جاز، ثم يسأل في السادسة.
وفي نسخة: ثم إلى القنطرة السادسة، فيسأل عن الغسل والوضوء، فإن جاء بهما تأمَّين جاز، ثم يسأل في السابعة، وليس في القناطر أصعب منها" لعل المراد بعد الأولى التي هي الإيمان، فيسأله عن ظلامات الناس".
وفي حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أوّل من يجوز عليه، ولا يتكلّم يومئذ إلّا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلّم سلّم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلّا الله تعالى، فتخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم
وفي حديث أبي هريرة" أثناء حديث طويل عنه صلى الله عليه وسلم: "ويضرب" بضم أوله وفتح ثالثه، أي: يمد "الصراط بين ظهراني جهنم" أي: بين أجزاء ظهرها، كأنها محيطة به.
قال القرطبي: الصراط لغة: الطريق، وعرفًا: جسر يضرب على ظهر جهنم، تمرّ الناس عليه إلى الجنة، فينجو المؤمنون على كيفيات تأتي، ويسقط المنافقون.
وفي رواية للبخاري: "ويضرب جسر جهنم"، أي: الصراط، "فأكون أنا وأمتي أوّل من يجيز" بضم التحتية وكسر الجيم بعدها تحتية فزاي معجمة، أي: من يمضي عليه ويقطعه، يقال: جاز الوادي وأجازه لغتان بمعنى قطعه وخلفه، وقال الأصمعي: جازه: مشى فيه، وأجازه: قطعه، قاله النووي وغيره، وقال القرطبي: يحتمل أنَّ الهمزة للتعددية؛ لأنه لما كان هو وأمته أول من يجوز عليه، لزم تأخير غيرهم حتى يجوزوا، فإذا جازوا كأنه أجاز بقية الناس.
وفي رواية للبخاري: "فأكون أنا أوّل من يجوز بأمته"، وله أيضًا:"أول من يجيزها"، أي: جهنم، أي: يجوز عليها، "ولا يتكلم يومئذ" أي: حين الإجازة "إلا الرسل" لشدة الهول؛ لأن في غيره: {تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} ويسأل الناس بعضهم بعضًا ويتلاومون، ويخاصم التابع المتبوعين، "ودعاء الرسل"
وفي رواية: "ولا يتكلم إلَّا الأنبياء، ودعوى الرسل"، "يومئذ: اللهمَّ سلِّم سلِّم" مرتين من كمال شفقتهم، "وفي جهنم كلاليب" جمع كلوب -بفتح الكاف وضم اللام الشديدة- حديدة مقطوفة الرأس. وفي رواية: وبه، أي: الصراط "كلاليب مثل شوك السعدان" بفتح السين والدال بينهما عين ساكنة مهملات جمع سعدانة، نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه، قالوا: مرعى ولا كالسعدان، والتشبيه به لسرعة اختطافها، وكثرة الانتشاب فيها مع الحرز والتصوف تمثيلًا بما عرفوه في الدنيا وألفوه بالمباشرة.
زاد في رواية للشيخين: هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال:"فإنها مثل شوك السعدان""غير أنه" أي: الشأن.
وفي رواية: إنها، أي: الشوكة "لا يعلم قدر"، ولمسلم:"لا يعلم ما قدر"، قال القرطبي: قيدناه عن بعض مشايخنا بضم الراء على أن ما استفهامية، وقدر مبتدأ وبنصبها على أن ما زائدة.
من يخردل ثم ينجو" الحديث رواه البخاري.
وفي حديث حذيفة وأبي هريرة عند مسلم: ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول: "رب سلّم سلّم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يأتي الرجل فلا يستطيع
وقدر مفعول يعلم "عظمها" بكسر العين وفتح المعجمة.
وقال ابن التين: ضبطناه بضم العين وسكون الظاء والأول أشبه؛ لأنه لا يعلم قدر كبرها "إلّا الله تعالى" وفي الاستثناء إشارة إلى أنَّ التشبيه لم يقع في مقداره، "فتخطف" بكسر الطاء أفصح من فتحها، كما قاله ثعلب وتبعه النووي وغيره، "الناس بأعمالهم" بسبب أعمالهم القبيحة.
وفي رواية السدي: "وبحافَّتيه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس، فمنهم من يوبق بعمله" وفي رواية: الموبق -وهما بموحدة بمعنى الهلاك، ولبعض رواة مسلم: الموثق -بمثلثة من الوثاق، ولبعض رواة البخاري ومسلم: المؤمن -بكسر الميم بعدها نون- بقي بعمله -بفتح التحتية وكسر القاف من الوقاية، أي: يستره عمله، وصوّب في المطالع: المؤمن، وقال: وفي يقي على هذا الوجه ضبطان بموحدة والثاني بتحتية، ولبعض رواة مسلم: يعني بمهملة ساكنة ونون مكسورة بدل بقي وهو تصحيف، كما قاله الحافظ:"ومنهم من يخردل" بلفظ المضارع.
وفي رواية: المخردل اسم مفعول وهما بخاء معجمة وراء ودال مهملة ولام، أي: يقطع بالكلاليب، فيهوي في النار، ويحتمل أنَّه من الخردل، أي: جعلت أعضاؤه كالخردل، وقيل معناه: إنها تقطعهم عن لحوقهم بمن نجا، وقيل: المخردل المصروع، ورجَّحه ابن التين بأنَّه أنسب بسياق الخبر، ولبعض رواة البخاري: بجيم بدل الخاء، ووهاه عياض، والجردلة -بجيم- الإشراف على السقوط، والدال مهملة للجميع، وحكي إعجمامها، ورجَّح ابن قرقول الخاء المعجمة والدال المهملة، ولمسلم: ومنهم المجازى -بضم الميم وخفة الجيم وزاي مفتوحتين بينهما ألف- من المجازاة، أي: بأعماله، "ثم ينجو".
وفي رواية: ثم ينجَّى -بضم التحتية وفتح النون والجيم المشددة
…
"الحديث" بطوله "رواه البخاري" في مواضع، مدارها على الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي، كلاهما عن أبي هريرة.
وكذا رواه مسلم في الإيمان من طرق، لكنه أحال طريق شعيب عن الزهري على رواية ذكرها قبلها، ولذا لم يعزه المصنف لهما؛ لأنه ساقط رواية شعيب ومسلم لم يسق لفظها "وإن ساق إسنادها.
"وفي حديث حذيفة وأبي هريرة عند مسلم: "ونبيكم" صلى الله عليه وسلم "قائم على الصراط يقول: "رب سلِّم سلم" بكسر اللام المشددة فيهما، "حتى تعجز" بكسر الجيم "أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلّا زحفًا" بزاي وجاء مهملة ساكنة ففاء- مشي الرجل الضعيف
"السير إلّا زحفًا، قال: وفي حافظتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناجٍ ومكردَس في النار".
وهذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث "حفَّت النار بالشهوات" فالشهوات موضوعة على جوانبها، فمن اقتحم الشهوة سقط في النار. قاله ابن العربي.
ويؤخذ من قوله: "فمخدوش" إلخ، أنَّ المارِّين على الصراط ثلاثة أصناف: ناج بلا خدش، وهالك من أول وهلة، ومتوسط بينهما مصاب ثم ينجو.
قال: "وفي حافتيّ" بخفة الفاء جانبي "الصراط كلاليب" وهي المسمَّاة في بعض الروايات خطاطيف "معلقة، مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش" بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة فدال مهملة فواو ساكنة فشين معجمة، وخدش الجلد قشره بعود ونحوه، "ناجٍ" بنون وجيم من النار، "ومكردس في النار" بضم الميم وفتح الكاف وسكون الراء وفتح الدال المهملة فسين مهملة المكسور الظهر من الكردوس وهو فقار الظهر، ويحتمل أنّه بمعنى المكدوس.
يقال: كردس الرجل، قاله المصنف على مسلم، وفي حديث أبي سعيد في الصحيحين:"فناجٍ مسلم، ومخدوش، ومكدوس في جهنم، حتى يمر أحدهم فيسحب سحبًا"، قال الحافظ: اختلف في ضبط مكدوس، ففي مسلم بمهملة، أي: الراكب بعضه على بعض، وقيل: بمعنى مكردس.
ورواه بعضهم ومعناه: السوق الشديد، والمراد أنه يلقى في قعر جهنم. انتهى.
وبقية حديث مسلم: والذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعين خريفًا، "وهذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث و" هو "حفت" وفي رواية: حجبت "النار بالشهوات" فالشهوات موضوعة على جوانبها، فمن اقتحم الشهوة سقط في النار"؛ لأنها خطاطيفها، "قاله ابن العربي" أبو بكر "ويؤخذ من قوله: فمخدوش إلى آخره، أنَّ المارين على الصراط ثلاثة أصناف: ناجٍ بلا خدش" هذا لا يؤخذ منه كما هو ظاهر، وإنما يؤخذ من حديث أبي سعيد من قوله: "فناج مسلّم" بشد اللام، أي: لا يصيبه مكروه أصلًا. نعم يؤخذ مما تركه من حديث أبي هريرة وحذيفة وهو: "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرحال تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط...." إلخ.
"وهالك من أوله وهلة" من قوله: "ومكردس في النار"، "ومتوسط بينهما مصاب ثم ينجو" يؤخذ من قوله:"مخدوش ناج"، ومن حديث أبي هريرة الذي قبله من قوله: "ومنهم من يخردل، ثم
وفي حديث المغيرة عند الترمذي: "شعار المؤمنين على الصراط: ربِّ سلّم سلّم". ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به، بل تنطق به الرسل، يدعون للمؤمنين بالسلامة، فيسمَّى ذلك شعارًا لهم.
وفي حديث ابن مسعود: فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم، يسعى بين أيديهم، الحديث، وفيه: فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الفرس، ومنهم من يمر كشد الرجل، حتى يمر الرجل الذي يعطى نوره على ظهر
ينجو"، على أن هذا كله إنما أخذه ابن أبي جمرة من حديث أبي سعيد، كما ذكره المصنف في شرح البخاري، فقال: ويؤخذ منه كما في بهجة النفوس أنَّ المارّين على الصراط ثلاثة أصناف، فذكرها.
"وفي حديث المغيرة" بن شعبة "عند الترمذي" عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"شعار المؤمنين على الصراط رب سلّم رب سلم" ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين" أي: علامتهم التي يعرفون بها "أن ينطقوا به"، فلا يخالف قوله: "ولا يتكلم يومئذ إلّا الرسل" ، "بل تنطق به الرسل يدعون للمؤمنين بالسلامة، فيسمَّى ذلك شعارًا لهم" باعتبار دعاء الرسل لهم به، وللطبراني عن ابن عمر ورفعه: "شعار أمتي إذا حملوا على الصراط: يا الله، لا إله إلا أنت" ولعلهم يتكلمون به في نفوسهم.
"وفي حديث ابن مسعود" في قوله تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: 12]، قال:"يمرون على الصراط، فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين أيديهم...." الحديث، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويطفأ أخرى "وفيه:"فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين" بسكون الراء، أي: تحريكها، "ومنهم من يمر كالبرق" ، وهو ما يلمع من السحاب، قيل: أي: شيء كمَرِّ البرق، قال صلى الله عليه وسلم:"ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين" كما في مسلم، "ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب" سقوطه، "ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الفرس" عدوه وجريه، "ومنهم من يمر كشد الرجل" بالجيم على الصحيح المعروف المشهور، أي: سرعة جريه، ولبعض الرواة بحاء مهملة مفردة مفرد رحال، أي: كشد ذي الرحل.
قال عياض: وهما متقاربان في المعنى، وشدهما عدوهما البالغ وجريهما، "حتى يمر الرجل
قدميه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه، تجرّ يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها وقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحدًا؛ إذ نجاني منها بعد أن رأيتها". الحديث. رواه ابن أبي الدنيا والطبراني.
وروى مسلم: قال أبو سعيد: بلغني أنَّ الصراط أحدّ من السيف وأرقّ من الشعرة. وفي رواية ابن منده من هذا الوجه، قال سعيد بن أبي هلال، ووصله البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مجزومًا به، وفي سنده لين.
الذي يعطى نوره على ظهر قدميه، يحبو" يمشي "على وجهه ويديه ورجليه، تجر يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص" من النار "فإذا خلص وقف عليها، وقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحدًا؛ إذ نجاني منها بعد أن رأيتها...." الحديث.
"رواه ابن أبي الدنيا والطبراني" موقوفًا لفظًا مرفوعًا حكمًا؛ إذ لا دخل للرأي فيه، وروى مسلم: قال أبو سعيد الخدري: "بلغني أنَّ الصراط" لفظ مسلم: الجسر، فذكره المصنّف بالمعنى، "أحدّ من السيف، وأرقّ" بالراء "من الشعرة" بالإفراد، قاله المصنف، وذكر الحافظ البرهان الحلبي أنَّ الصراط شعرة من شعرة جفون ملك خازن النار، لكنه لم يذكر له مستندًا ولا من خرجه، فالله تعالى أعلم.
"وفي رواية ابن منده من هذا الوجه، قال سعيد بن أبي هلال" الليثي مولاهم المدني، ثم المصري، راوي أصل الحديث عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: فجعل قائل: "بلغني" سعيد بن أبي هلال أبا سعيد، "ووصله البيهقي عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مجزومًا به" بلفظ: على جهنم جسر مجسور أرقّ من الشعر وأحدّ من السيف.... الحديث.
ولابن منيع عن أبي هريرة رفعه: "الصراط كحدِّ السيف دحض مزلة ذا حسك وكلاليب"، وللطبراني والبيهقي بسند صحيح عن ابن مسعود، قال:"يوضع الصراط على سواء جهنم مثل حَدِّ السيف المرهف".
"ولابن المبارك" والبيهقي وابن أبي الدنيا "من مرسل عبيد بن عمير" أحد كبار التابعين،
ولابن المبارك من مرسل عبيد بن عمير: إن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب، والذي نفسي بيده، إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر. وأخرجه ابن أبي الدنيا من هذا الوجه، وفيه: والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلّم سلّم.
وعن الفضيل بن عياض: بلغنا أنَّ الصراط مسيرة خمس عشرة ألف سنة، خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى، أرق من الشعرة، وأحدّ من السيف، على متن جهنم، لا يجوز عليه إلّا ضامر مهزول من خشية الله. ذكره ابن عساكر في ترجمته، قال في فتح الباري: وهذا معضل لا يثبت.
قال: وعن سعيد بن أبي هلال: بلغنا أنَّ الصراط أرق من الشعرة على بعض الناس، ولبض الناس مثل الوادي الواسع. أخرجه ابن المبارك، وهو مرسل أو معضل.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الصراط مثل السيف" نقل بالمعنى، ولفظه:"الصراط على جهنم مثل حرف السيف" ، "وبجنبتيه" بفتح الجيم والنون ويجوز سكونها بعدها موحدة تثنية جنبة، أي: ناحيتيه "كلاليب".
زاد في رواية البيهقي وابن أبي الدنيا: وحسك يركبه الناس فيختطفون، "والذي نفسي بيده، إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد" بالفتح والتشديد بزنة تنور- حديدة معطوفة الرأس يعلق عليها اللحم ويرسل في التنور، "أكثر من ربيعة ومضر".
وأخرجه ابن أبي الدنيا" والبيهقي "من هذا الوجه وفيه: "والملائكة على جنبتيه" تثنية جنبة "يقولون: رب سلّم سلّم، والملائكة يخطفون بكلاليب"، هذا بقية الحديث.
"وعن الفضيل بن عياض: بلغنا أنَّ الصراط مسيرة خمسة عشر ألف سنة، خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى، أرق من الشعرة، وأحدّ من السيف، على متن" أي: ظهر "جهنم، لا يجوز عليه إلّا ضامر مهزول من خشية الله" تعالى، "ذكره" أي: رواه "ابن عساكر في ترجمته" أي: الفضيل "قال في فتح الباري" وهذا معضل لا يثبت، وعن سعيد" بكسر العين ابن أبي هلال: بلغنا أن الصراط أرقّ من الشعرة على بعض الناس، ولبعض الناس مثل الوادي الواسع".
"أخرجه ابن المبارك" وابن أبي الدنيا" "وهو مرسل أمعضل" سقط منه اثنان فأكثر، ولأبي نعيم عن سهل بن عبد الله التستري، قال: من دقَّ الصراط عليه في الدنيا عرض عليه في
وقد ذهب بعضهم إلى أن المراد من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] الجواز على الصراط؛ لأنه ممدود على النار.
وروى ابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط.
وقيل الورود: الدخول.
وعن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال
الآخرة، ومن عرض عليه الصراط في الدنيا دقّ عليه في الآخرة، ومعناه: إن من عرف الصراط وأنَّ مآله إليه، وقف عند أوامر الله، جوزي باتساعه له ومروره عليه بلا ضرر، وعكسه بعكسه.
"وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ المراد من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] "الجواز على الصراط" ورجَّحه النووي؛ "لأنه ممدود على النار".
"وروى ابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط، وكذا قال الحسن البصري عند البيهقي بلفظ: الورود المرور عليها من غير أن يدخلها.
وكذا قاله خالد بن معدان وعكرمة عند البيهقي وغيره، وللطبراني وابن عدي عن يعلى بن منبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي"، وقيل: الورود الدخول" ورجَّحه القرطبي.
وأخرجه الحاكم عن ابن مسعود والبيهقي عن ابن عباس، وقاله جماعة، قال في فتح الباري: وهذان القولان أصحّ ما ورد ولا تنافي بينهما؛ لأن من عبَّر بالدخول تجوّز به عن المرور؛ لأن المارَّ عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوالهم باختلاف أعمالهم، فأعلاهم من يمر كلح البرق كما بَيِّنَ في حديث الشفاعة، ويؤيده صحة هذا التأويل ما في مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل النار أحد شهد الحديبية"، فقالت حفصة:"أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فقال: "أليس الله يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] وفي هذا ضعف القول بأن الورود مختص بالكفار، والقول بأن معناه: الدنو منها، والقول بأنه الإشراف عليها، وقيل: معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمَّى، وهذا ليس ببعيد، ولا ينافيه بقية الأحاديث. انتهى.
"وعن أبي سمية" بضم السين- مصغَّر، تابعي مقبول، ذكره في التقريب في الكنى ولم يذكر له اسمًا، "قال: اختلفنا في الورود" في الآية، "فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن" وروي ذلك عند ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس، أنه قال: وإن منكم إلّا واردها، فقال: يعني الكفار، وقال: لا يردها
بعضنا: ندخلها جميعًا، ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال جابر: يردونها جميعًا، فقلت: إنا اختلفنا في ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعًا، فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتًا، إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الورود والدخول لا يبقى بَرٌّ ولا فاجر إلّا دخلها، فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار أو قال: لجهنم ضجيجًا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيًّا" رواه أحمد والبيهقي بإسناد حسن.
وأخرج ابن الجوزي -كما ذكره القرطبي في التذكرة- رفعه: "الزالون عن الصراط كثير، وأكثر من يزل عنه النساء" قال: "وإذا صار الناس على طرفي الصراط نادى ملك من تحت العرش: يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط، وليقف كل عاصٍ منكم وظالم". فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها، وأشد حرها، يتقدَّم فيها من كان في الدنيا ضعيفًا مهينًا، ويتأخَّر عنها من كان فيها عظيمًا.
مؤمن "وقال بعضنا: ندخلها جميعًا، ثم ينجي الله الذين اتقوا" الشرك والكفر منها، "فلقيت جابر بن عبد الله، فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال جابر: يردونها جميعًا" المؤمن والكافر، "فقلت: إنا اختلفنا في ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: ندخلها جميعًا" أعاد عليه السؤال ليعلم دليله؛ لأنه أجابه أولًا بدون دليل، فلمَّا فهم منه طلب الدليل؛ لأنه القاطع للنزاع، ذكره "فأهوى بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتًا، إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الورود الدخول، لا يبقي بر" متق، "ولا فاجر إلّا دخلها، فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم" نار الدنيا "حتى إن للنار، أو قال: لجهنم" شكَّ الراوي "ضجيجا" صياحًا قويًّا "من بردهم" الذي قام بهم وضجيجها حقيقي لا أنه من مجاز الحذف، أي: أهلها؛ لأنهم يودون بردها عليهم، وتقدَّم في الحديث:"تقول النار للمؤمن جز" والأصل الحقيقة، ولا داعية للتأويل، لا سيما المفسد للمعنى كما هنا، "ثم ينجي الله الذين اتقوا" الكفر بالإيمان "ويدر الظالمين" يترك الكافرين "فيها جثيًّا".
"رواه أحمد" والحاكم والبيهقي بإسناد حسن" وصححه الحاكم.
"وأخرج ابن الجوزي كما ذكره القرطبي في التذكرة، رفعه: "الزالون عن الصراط كثير، وأكثر من يزل عنه النساء" قال:"وإذا صار الناس على طرفي الصراط نادى مالك من تحت العرش: يا فطرة" خلقة "الملك" بكسر اللام "الجبار، جوزوا على الصراط، وليقف كل عاصٍ منكم وظالم" كافر، "فيا لها من ساعة ما أعظم" أكبر "خوفها وأشد حرها، يتقدَّم فيها من كان في الدنيا ضعيفًا مهينًا" بفتح فكسر، "ويتأخَّر عنها من كان فيها عظيمًا مكينًا" مرتفع
مكينًا، ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك في الجواز على الصراط على قدر أعمالهم، فإذا عصف الصراط بأمة محمد صلى الله عليه وسلم نادوا: وا محمداه وا محمداه، فيبادر صلى الله عليه وسلم من شدة إشفاقه عليهم، وجبريل آخذ بحجزته، فينادي صلى الله عليه وسلم رافعًا صوته:"رب أمتي أمتي، لا أسألك اليوم نفسي ولا فاطمة ابنتي"، والملائكة قيام عن يمين الصراط ويساره ينادون: رب سلم، وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال، والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال، والزبانية يتلقونهم بالسلاسل والأغلال، وينادونهم: أما نهيتهم عن كسب الأوزار، أما أنذرتم كل الإنذار، أما جاءكم النبي المختار. ذكره ابن الجوزي في كتابه "روضة المشتاق".
وقد جاء في حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحسن الصدقة في الدنيا مَرَّ على الصراط" رواه أبو نعيم.
وفي الحديث: "من يكن المسجد بيته، ضَمِنَ الله له بالروح والرحمة والجواز
القدر، "ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك في الجواز على الصراط على قدر أعمالهم، فإذا عصف الصراط" اشتدَّ وصعب أمره، "بأمة محمد صلى الله عليه وسلم نادوا: وا محمداه وا محمداه" مرتين، فيبادر عليه الصلاة والسلام من شدة إشفاقه" خوفه "عليهم، وجبريل آخذ بحجزته" بضم المهملة وإسكان الجيم- معقد الإزار، فينادي صلى الله عليه وسلم رافعًا صوته:"رب أمتي أمتي" مرتين، "لا أسأل اليوم نفسي ولا فاطمة ابنتي" والملائكة قيام عن يمين الصراط ويساره ينادون: رب سلِّم سلِّم" مرتين، "وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال" جمع وجل -بجيم- الخوف، والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال، والزبانية" سموا بذلك من الزبن وهو الدفع؛ لدفعهم أهل النار فيها يتلقونهم بالسلاسل" ويسحبونهم بها، "والأغلال" في أعناقهم، تشتد فيها السلاسل، وينادونهم للتوبيخ: "اما نهيتم عن كسب الأوزار" الآثام، "أما أنذرتم كل الإنذار" البالغ البيّن، "أما جاءكم النبي المختار".
ذكره ابن الجوزي في كتابه روضة المشتاق" أحد تصانيفه الكثيرة جدًّا "وقد جاء في حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحسن الصدقة" بأن حصلها من حِلٍّ وتصدَّق بها على مستحق في الدنيا، "جاز على الصراط" حال كونه مدلًا كما "رواه أبو نعيم" في الحلية، والأصبهاني في الترغيب، فسقط مدلًا من المصنف أو نساخه، قال الأصبهاني: أي: آمنًا غير خائف، والإدلال الانبساط والوثوق بما يأتي ويفعل.
"وفي الحديث" المرفوع: "من يكن المسجد بيته" بحيث يلزمه ويعظمه، ورفع المسجد ونصب بيته أَوْلَى من عكسه؛ لأن الغرض الحكم عن المسجد بأنه اتخذ بيتًا "ضمن".
على الصراط إلى الجنة.
وروى القرطبي عن ابن المبارك عن عبد الله بن سلام: إذا كان يوم القيامة، جمع الله الأنبياء نبيًّا نبيًّا، وأمَّة أمَّة، ويضرب الجسر على جهنم، وينادى: أين أحمد وأمته، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبعه أمته برها وفاجرها، حتى إذا كان على الصراط طمس الله أبصار أعدائه، فيتهافتون في النار يمينًا وشمالًا، ويمضي النبي صلى الله عليه وسلم والصالحون معه، فتتلقاهم الملائكة، فيدلونهم على الطريق: على يمينك على شمالك، حتى ينتهي إلى ربه، فيوضع له كرسيٍّ عن يمين العرش، ثم يتبعه عيسى عليه السلام على مثل سبيله، وتتبعه أمته برها وفاجرها، حتى إذا كانوا على الصراط طمس الله أبصار
أي: تكفَّل "الله له بالروح" بالفتح- الراحة، "والرحمة، والجواز على الصراط إلى الجنة".
وهذا الحديث رواه سعيد بن منصور والطبراني والبزار وحسَّنه عن أبي الدرداء: "المساجد بيوت المتقين، وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والراحة، والجواز على الصراط إلى رضوان الله...." الحديث.
وللطبراني وابن حبان عن عائشة، وابن عساكر عن ابن عمر، رفعاه:"من كان وصله لأخيه المسلم إلي ذي سلطان في تبليغ بر، أو تيسير عسير، أعانه الله على إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام" وفي الباب أحاديث وآثار في البدور.
"وروى القرطبي عن ابن المبارك" بسنده "عن عبد الله بن سلام" بالتخفيف- الإسرائيلي المبشر بالجنة، وقد رواه الحاكم وصحَّحه عنه، قال:"إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبيًّا نبيًّا " جمع الأمم "أمة أمة" ولفظ الحاكم: "يبعث الله الخليفة أمَّة أمَّة ونبيًّا نبيًّا، حتى يكون أحمد وأمته آخر الأمم مركزًا"، "ويضرب" وللحاكم: ثم يضرب "الجسر" بفتح الجيم وتكسر- "على جهنم، وينادى" بالبناء للمفعول، وللحاكم: ثم ينادي مناد: "أين أحمد وأمته، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتبعه أمته برها وفاجرها، حتى إذا كان على الصراط طمس الله" بفتح الميم، أي: محا "أبصار" أي: نور أبصار "أعدائه فيتهافتون" يتساقطون
أعدائهم فيتهافتون في النار يمينًا وشمالًا. الحديث.
واعلم أنَّ في الآخرة صراطين: أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم إلّا من دخل الجنة بغير حساب، أو يلتقطه عنق من النار، فإذا خلص من خلص من الصراط الأكبر حبسوا على صراط آخر لهم، ولا يرجع إلى النار أحد من هؤلاء إن شاء الله؛ لأنهم قد عبروا الصراط الأوَّل المضروب على متن جهنم، وقد روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي
في النار يمينًا وشمالًا".
"الحديث" بقيته: وينجو النبي والصالحون، ثم تتبعهم الأنبياء، حتى يكون آخرهم نوح. قال الذهبي: غريب موقوف. انتهى، فيحتمل أن ابن سلام نقله من الكتب القديمة؛ لأنه حبرها، ويحتمل أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، "واعلم أنَّ في الآخرة صراطين" كما ذكره القرطبي، "أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم" ثقيلهم وخفيفهم "إلّا من دخل الجنة بغير حساب، أو يلتقطه عنق" بضم العين والنون- أي: طائفة، وجانب "من النار، فإذا خلص من خلص من الصراط الأكبر" قال في التذكرة: ولا يخلص منه إلّا المؤمنون الذين علم الله منهم أنَّ القصاص لا يستنفد حسناتهم، "حبسوا على صراط آخر لهم، ولا يرجع إلى النار أحد من هؤلاء إن شاء الله، لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم" الذي يسقط فيها من أوبقه ذنبه وأربى على الحساب بالقصاص جرمه -كما في كلام القرطبي.
وقد روى البخاري" في المظالم والرقاق "من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسو الله صلى الله عليه وسلم زاد الإسماعيلي في هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] الآية "يخلص" بفتح التحتية وضم اللام، أي: ينجو: "المؤمنون من" السقوط في "النار" بعدما يجوزون الصراط، "فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار" قيل: إنها صراط آخر، وقيل: إنها من تتمة الصراط، وإنها طرفه الذي يلي الجنة، قال الحافظ: لعل أصحاب الأعراف منهم على القول الراجح، "فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا" بضم التحتية وسكون القاف ثم فوقية مفتوحة.
كذا في الفرع بضم التحتية وضبطه الحافظ وتبعه العيني بفتحها، فاللام زائدة، أو الفاعل محذوف وهو الله تعالى، أو من أقامه في ذلك، وللبخاري في المظالم: "فيقتص بعضهم من
نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا".
وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم بأنه أوَّل من يقرع باب الجنة وأوَّل من يدخلها، ففي صحيح مسلم، من حديث المختار بن فلفل، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس تبعًا يوم القيامة، وأنا أوّل من يقرع باب الجنة".
بعض"، وفي رواية: فيقص -بضم التحتية وفتح القاف وبدون تاء- مبنيًّا للمفعول، قاله المصنف، "حتى إذا هذبوا" بضم الهاء وكسر المعجمة المشدَّدة فموحدة من التهذيب، "ونقوا" بضم النون والقاف المشددة من التنقية.
قال الجوهري: التهذيب كالتنقية، ورجل مهذَّب أي: مطهر الأخلاق. فعلى هذا قوله: ونقوا، تفسير لهذبوا، والمراد التخليص من التبعات، فإذا خلصوا منها، "أذن" بضم الهمزة وكسر المعجمة "لهم في دخول الجنة" وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ كما في الحديث، أي: حقد كامن في قلوبهم، بل ألقى الله فيها التواد والتحاب، "فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم" فتح اللام للتأكيد، وأحد مبتدأ خبره قوله:"أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله" الذي "كان في الدنيا".
قال الطيبي: هدى لا يتعدَّى بالباء بل باللام وإلى، فالوجه أن يضمَّن معنى اللصوق، أي: ألصق بمنزله هاديًا إليه، وفي معناه قوله: يهديهم ربهم بإيمانهم، أي: يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، فجعل تجري من تحتهم الأنهار بيانًا له وتفسيرًا؛ لأن التمسُّك بسبب السعادة كالوصول إليها. انتهى، وما سبق عن عبد الله بن سلام، أن الملائكة تدلهم على طريق الجنة يمينًا وشمالًا، فهو محمول على من لم يحبس بالقنطرة، أو على الجميع، وأن الملائكة تقول لهم ذلك قبل دخول الجنة، فمن دخلها عرف منزله؛ لأن منازلهم كانت تعرض عليهم غدوًّا وعشيًّا، والله أعلم.
"وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم بأنه أوَّل من يقرع" يدق ويطرق "باب الجنة، وأول من يدخلها، ففي صحيح" أي: فدليله، أو فيدل عليه ما في "مسلم" في كتاب الإيمان، من حديث المختار بن فلفل -بضم الفاءين وإسكان اللام الأولى- مولى عمرو بن حريث، صدوق، له أوهام "عن أنس" هذا هو الصواب، ويقع في نسخ "عن ابن عباس" وهو خطأ، فالذي في مسلم عن أنس بن مالك "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس" كذا في النسخ، والذي في مسلم: الأنبياء "تبعًا" بفتح الفوقية والموحدة- جمع تابع، "يوم القيامة" لبقاء شريعته ودوامها إلى يوم القيامة، وخصَّه لأنه يوم ظهور ذلك لأهل الجمع، ويوضحه خبر مسلم أيضًا:"إن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ما معه مصدق غير واحد ولا يعارضه، وأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا" إمَّا لأنَّ رجاءه محقق الوقوع
وفيه أيضًا من حديث أنس، قال صلى الله عليه وسلم:"آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك". ورواه الطبراني وزاد فيه: قال: "فيقوم الخازن ويقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم
أو قاله قبل أن يكشف له عن أمته، ويراهم، فلمَّا حقق الله رجاءه ورآهم جزم به، "وأنا أوّل من يقرع باب الجنة" أي: يطرقه للاستفتاح، فيكون أوّل داخل، "وفيه" أي: مسلم في الإيمان أيضًا من حديث ثابت البناني، عن "أنس" بن مالك قال: قال صلى الله عليه وسلم: "آتي" بمد الهمزة "باب الجنة يوم القيامة" بعد الحشر والحساب، وعبَّر بآتي دون أجيء؛ للإشارة إلى أنَّ مجيئه على تمهّل وأمان بلا تعب؛ لأن الإتيان كما قال الراغب: مجيء بسهولة، والمجيء أعم، "فأستفتح" بسين الطلب، إيماءً إلى تحقق وقوع مدخولها، أي: أطلب فتحه بالقرع، كما في الأحاديث لا بالصوت، وفاء التعقيب إشارة إلى أنه أذن له من الله بلا واسطة خازن ولا غيره؛ بحيث صار الخازن مأموره منتظرًا قدومه، "فيقول الخازن" الحافظ المؤتَمَن على ما استحفظه، وأل عهدية، والمعهود رضوان، وخص مع كثرة الخزنة لأنَّه أعظمهم، وعظيم الرسل إنما يتلقاه عظيم الخزنة، "من أنت" أجابه بالاستفهام، وأكَّده بالخطاب تلذذًا بمناجاته، وإلّا فأبواب الجنة شفافة كما في خبر، وهو العلم الذي لا يشتبه، والتمييز الذي لا يلتبس، وقد رآه رضوان قبل ذلك وعرفه أتمَّ معرفة، ولذا اكتفى بقوله:"فأقول محمد" وإن كان المسمَّى به كثيرًا، ولا ينافي كون أبواب الجنة شفافة خبر أبي يعلى عن أنس، رفعه:"أقرع باب الجنة فيفتح لي باب من ذهب وحلقة من فضة"، لأن ما في الدنيا لا يشبه ما في الجنة إلّا في مجرد الاسم، كما في حديث، فلا مانع من كونه ذهبًا شفافًا، ولم يقل أنا؛ لإبهامه، مع إشعاره بتعظيم النفس، وهو سيد المتواضعين.
قال ابن الجوزي: أنا لا تخلو عن نوع تكبر، كأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى ذكر اسمي، ولا نسي لسمو مقامي، وذهب بعض الصوفية والعلماء إلى كراهة إخبار الرجل عن نفسه بأنا تمسُّكًا بظاهر الخبر حتى قالوا: إنها كلمة لم تزل مشئومة على قائلها، كقول إبليس:{أَنَا خَيْرٌ} ، وفرعون:{أَنَا رَبُّكُمْ} ، قال بعض المحققين: وليس كما قالوا، بل الشؤم لما صحبه من دعوى الخير والربوبية، وقد ناقضهم نصوص كثيرة، {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} ، {أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أنا سيد ولد آدم، أنا أثر الأنبياء تبعًا، وغير ذلك، وقد قال النووي: لا بأس أن يقول: أنا الشيخ فلان، أو القاضي فلان، إذا لم يحصل التمييز إلّا به، وخلا عن الخيلاء والكبر" فيقول:"بك" بسببك متعلق بقوله: "أمرت" بالبناء للمفعول، والفاعل الله، قدمت للتخصيص، ويجوز أن تكون صلة للفعل، وأن قوله:"لا أفتح" بدل من الضمير المجرور، أي: أمرت الفتح، "لأحد قبلك" والرواية في مسلم: لا أفتح بدون أن قبلها -كما ذكره المصنف هنا خلافًا لما وقع له في الخصائص
لأحد بعدك".
فقيامه له صلى الله عليه وسلم خاصة، فيه إظهار لمزيته ومرتبته، وأنه لا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون في خدمته، وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وروى سهيل بن أبي صالح عن زياد المهري، عن أنس بن مالك قال: قال
والسيوطي في جامعيه من زيادة أن.
وقد تعقَّب بأنَّ الذي في نسخ مسلم الصحيحة المقروءة بدون أن، وأحد في سياق النفي للعموم، فيفيد استغراق جميع الأفراد، أي: لا من الأنبياء ولا من غيرهم، وفيه أنَّ طلب الفتح إنما هو للخازن، وإلّا لما كان هو المجيب، ولم يطلبه منها بلا واسطة، مع أنه جاء عن الحسن وقتادة وغيرهما أنَّ أبوابها يرى ظاهرها من باطنها وعكسه، وأنها تتكلم وتكلم، وتعقل ما يقال لها: انفتحي انغلقي؛ لأن الظاهر كما قال بعضهم: إنها مأمورة بعدم الاستقلال بالفتح والغلق، وأنها لا تستطيع ذلك إلّا بأمر عريفها المالك لأمرها بإذن ربها، وإنما يطالب بما يراد من القوم عرفاؤهم، ولا تعارض بين الحديث وبين قوله تعالى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} ، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] ووجه الرازي وغيره: بأنه يوجب السرور والفرح؛ حيث نظروها مفتَّحة من بعد، وفيه الخلاص من ذل الوقوف للاستفتاح؛ لأن أبوابها تفتح أولًا بعد الاستفتاح من جمع، ويكون مقدمًا بالنسبة إلى البعض، كما يقتضيه خير أنَّ الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام، والظاهر أنها لا تغلق بعد فتحها للفقراء، هذا أحسن الأجوبة الستة -كما قال بعض المحققين، ونوقش في باقيها.
"ورواه الطبراني وزاد فيه، قال: "فيقوم الخازن" رضوان "فيقول: لا أفتح لأحد قبلك" كما أمرت، ولا يعارضه خبر الديلمي وأبي نعيم: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فيفتحها الله عز وجل لي"؛ لأنه تعالى هو الفاتح الحقيقي، وتولي رضوان ذلك إنما هو بأمره تعالى وإقداره وتمكينه، "ولا أقوم لأحد بعدك" فقيامه له صلى الله عليه وسلم خاصَّةً فيه إظهار لمزيته ومرتبته، وأنه لا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون في خدمته" أي: رضوان، "وهو كالملك" الحاكم عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم" حتى مشي وفتح له الباب، وحكمة اتخاذ الخدمة للجنة مع أنَّها إنما تكون عرفًا لما خيف ضياعه أو تلفه أو نقصه، فيفوت كله أو بعضه أو وصفه على صاحبه، ولا يمكن ذلك في الجنة هي مراعاة الداخلين إكرامًا لهم، فتقدم الخزنة لكل منهم ما أعد له من النعيم "وروى سهيل" بضم السين- مصغر "ابن أبي صالح" ذكوان السمّان أبو يزيد المدني، صدوق تغير حفظه بأخرة.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر". وهو في مسند الفردوس، لكن من حديث ابن عباس.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه إلّا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر"، قال:"فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم" فذكر الحديث إلى أن قال: "فيأتوني، فأنطلق معهم"، قال ابن
روى عنه مالك ونحوه قبل التغير، وروى له الستة إلّا أنَّ البخاري إنما روى له حديثًا واحدًا مقرونًا بيحيى بن سعيد، وعلق له في مواضع، مات في خلافة المنصور، "عن زياد المهري" بفتح الميم وإسكان الهاء- نسبة إلى مهرة، قبيلة من قضاعة "عن أنس بن مالك قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر" بذلك، بل بمن أعطانيه "وهو في مسند الفردوس" للديلمي، "لكن من حديث ابن عباس" وقد رواه أحمد والترمذي عن أنس رفعه: "أنا أول من يأخذ بحلقة الباب فأقعقعها" ففي هذا كله: "أنا أول من يدخل الجنة" استشكل بالسبعين ألفًا الداخلين بغير حساب، إنهم يدخلون قبله، وبحديث رؤياه صلى الله عليه وسلم بلالًا سبقه في دخولها، وحديث المرأة التي تبادره في دخولها، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "أول من يقرع باب الجنة عبد أدَّى حق الله وحق مواليه". رواه البيهقي، وبإدريس: فإنه أدخل الجنة بعد موته، وهو فيها كما ورد، وأجيب بأن دخوله صلى الله عليه وسلم يتعدد، فالدخول الأوّل لا يتقدمه ولا يشاركه فيه أحد، ويتخلل بينه وبين ما بعده دخول غيره، وقد روى ابن منده في حديث، أنه كرر الدخول أربع مرات، وأمَّا إدريس فلا يرد؛ لأن المراد الدخول التام يوم القيامة، وإدريس يحضر الموقف للسؤال عن التبليغ، هذا أظهر الأجوبة، ويأتي بعضها.
"وعن أبي سعيد" الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم" وفي أولاده من هو أفضل منه، وذلك يستلزم سيادته على آدم يوم القيامة، "ولا فخر" لا عظمة، "وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي آدم" بالرفع- بدل من محل نبي المجرور لفظًا بمن الزائدة، "فمن سواه إلّا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر" تقدَّم شرح هذا كله، قال:"فيفزع الناس ثلاث فزعات" من زفرات جهنم.
روى أبو نعيم عن كعب، قال: "إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فنزلت الملائكة فصاروا صفًّا، فيقول الله لجبريل: أئت بجهنم فيأتي بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها افئدة الخلائق،
جدعان: قال أنس: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقها، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد، فيفتحون لي، ويرحبون بي، فيقولون: مرحبًا، فآخِرّ ساجدًا، فيلهمني الله من الثناء والحمد، فيقال: ارفع رأسك". الحديث. رواه الترمذي وقال: حسن.
وفي حديث سلمان: "فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب، فيقرع الباب فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح".
ثم زفرت زفرة ثانية، فلا يبقى ملك مقرَّب ولا نبي مرسَل إلّا جثا لركبتيه، ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهب العقول" الحديث، "فيأتون آدم" فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء الخمسة، "إلى أن قال: "فيأتوني فأنطلق معهم".
"قال ابن جدعان" بضم الجيم وسكون الدال وعين مهملتين- عليّ بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي، نزل البصرة وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان، ينسب أبوه إلى جده الأعلى، ضعيف، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل: قبلها -كما في التقريب.
"قال أنس" بن مالك: " كأني انظر" حال تحديثي بذلك "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" إشارة إلى تحقق ما أخبر به، واستحضاره ونفي الشك عنه "قال:" أي قائلًا: "فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقها" أي: أدق عليها فتصوت، إلى هنا ما رواه عن أنس -كما أفاده السيوطي، ثم عاد إلى حديث أبي سعيد "فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد" بالبناء للمفعول فيهما للعلم به، "فيفتحون لي" لا يعارضه ما مر أن الذي يفتح رضوان، الجواز أنه لما يقوم للفتح تبعه جنده؛ لأنهم في خدمته، وهو كالملك عليهم، "ويرحبون بي فيقولون" كلهم "مرحبًا" زيادة في تعظيم المصطفى؛ إذ رحبوا به أجمعون، "فأخِرّ ساجدًا فيلهمني الله من الثناء والحمد" ما لا أقدر عليه الآن، "فيقال: ارفع رأسك...." الحديث" تمامه: "وسل تعط، واشفع تشفع، وقل يسمع لقولك" وهو المقام المحمود الذي قال الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] .
"رواه الترمذي وقال حسن"، ورواه ابن خزيمة أيضًا، "وفي حديث سلمان الفارسي:"فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب" يخالفه ما لأبي يعلى عن أنس، رفعه:"أقرع باب الجنة، فيفتح لي باب من ذهب وحلقة من فضة" ويمكن الجمع بأنَّ كونها من فضة حكم على المجموع، فلا ينافي أن حلقة منها ذهب، أو أنها لمجاورتها للذهب سمَّاها اسمه مجازًا، "فيقرع" يدق صلى الله عليه وسلم "الباب، فيقال" أي: يقول الخازن "من هذا؟ فيقول" عليه السلام "محمد، فيفتح الباب".
وفي حديث الصور: إن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول، فيقصدون آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد صلى الله عليه وسلم، كما فعلوا عند العرصات، عند استشفاعهم إلى الله عز وجل في فصل القضاء؛ ليظهر شرف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر البشر كلهم في المواطن كلها.
وروى أبو هريرة مرفوعًا: "أنا أول من يفتح له باب الجنة، إلّا أن امرأة تبادرني فأقول لها: مالك؟ أو ما أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى" رواه أبو
"وفي حديث الصور" إضافةً لأدنى ملابسة لذكره فيه، وهو حديث طويل نحو أربع ورقات، عن أبي هريرة مرفوعًا، وهو أول حديث في البدور وعزاه لجماعة، وقال: اختلف في تصحيحه وتضعيفه، فصحَّحه ابن العربي والقرطبي ومغلطاي، وضعَّفه البيهقي وعبد الحق، وصوبهما الحافظ ابن حجر، "إن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول" ولفظه:"فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة، فيقولون: من أحق من أبيكم آدم" ، "فيقصدون آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، وكلٌّ يقول: ما أنا بصاحب ذلك وذكر ذنبًا"، "إلّا عيسى فيقول: ما أنا بصاحبكم، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم" ، "ثم محمدًا" قال "صلى الله عليه وسلم: "فيأتوني، فأنطلق فآتي الجنة، فآخذ بحلقة الباب، ثم استفتح فيفتح لي، فأحيي ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدًا، فيأذن الله لي في حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول: ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي، قال الله وهو أعلم: ما شأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول: قد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة"، "كما فعلوا عند العرصات عند استشفاعهم إلى الله عز وجل في فصل القضاء" وهي مذكورة قبل ذلك في نفس هذا الحديث بلفظ:"فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه، فيأبى ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، فيأتون الأنبياء نبيًّا نبيًّا، كلما جاءوا نبيًّا يأبى عليهم حتى يأتوني، فأنطلق معهم حتى الفحص قدام العرش، فأخِرّ ساجدًا، حتى يبعث الله ملكًا فيأخذ بعضدي، فيقول لي: يا محمد فأقول: نعم يا رب، فيقول: ما شأنك؟ وهو أعلم، فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك، فاقض بينهم، فيقول: قد شفعتك، آتيكم فأقضي بينكم" ، "ليظهر شرف نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر البشر كلهم في المواطن كلها".
وروى أبو هريرة مرفوعًا أي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أوّل من يفتح له باب الجنة" أي: لا يتقدم على أحد في فتحه "إلّا أن امرأة تبادرني" تسابقني، "فأقول لها: ما لك؟ أو ما أنت" شكَّ الراوي، وعبَّر بما لأنه سؤال عن الصفة، أي: ما الصفة التي أوجبت لك أن تبادريني.
يعلى، ورواته لا بأس بهم، قال المنذري: إسناده حسن إن شاء الله.
وقوله: "تبادرني" أي: لتدخل معي أو لتدخل في أثري، ويشهد له حديث:"أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وقال بأصبعيه السبابة والوسطى. رواه البخاري من حديث سهل بن سعد. قال ابن بطال، حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي -صلي الله عليه وسلم- في الجنة، ولا منزلة في الجنة أفضل من ذلك، انتهى. ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حالة دخوله الجنة كما في الحديث قبله.
وفي نسخة: أو من أنت، "فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى" لي، وفي البدور: على أيتامي، لكنه قال: رواه أبو يعلى والأصفهاني، فلعله لفظه، ولفظ أبي يعلى ما للمصنف ولا خلف بينهما كما أشرت إليه.
وفي الفتح عازيًا لأبي يعلى وحده: أنا امرأة تأيمت، "ورواته لا بأس بهم" كما قال الحافظ، "وقال المنذري: إسناده حسن إن شاء الله، وقوله:"تبادرني"، أي: لتدخل معي أو تدخل في أثري، ثم إن كانت امرأة واحدة فلعلّها قامت بأيتامها على صفة لم تتفق لغيرها، فلا يرد أن كثيرًا من النساء كذلك، وإن كان المراد جنس امرأة قعدت على يتاماها وهو مقتضى سياق المنذري في الترغيب لهذا الحديث، وقضية الحديث التالي فلا إشكال، "ويشهد له حديث:"أنا وكافل اليتيم" أي: القيم بأمره ومصالحه هبة من ماله، أو من مال اليتيم.
زاد في رواية الموطأ: له أو لغيره، وللبزار عن أبي هريرة رفعه:"من كفل يتيمًا ذا قرابة أو لا قرابة له في الجنة هكذا" وقال: "أي: أشار بإصبعيه" بالتثنية السبابة والوسطى وفرج بينهما.
"رواه البخاري من حديث سهل بن سعد" أي: فرق بينهما منشورتين مفرجًا بينهما، أي: إن الكافل معه صلى الله عليه وسلم في الجنة، إلّا أن درجته لا تبلغ درجته، بل تقاربها، وظاهره أن المشير هو المصطفى، وفي الموطأ رواية يحيى بن بكير، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بالسبابة والوسطى وفي أكثر الموطآت: وأشار بإصبعيه بإبهام المشير وفي مسلم: وأشار مالك بالسبابة والوسطى.
"قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الجنة أفضل من ذلك. انتهى".
"ويحتمل أن يكون المراد: قرب المنزلة حاله دخوله الجنة -كما في الحديث قبله" كما قاله الحافظ وزاد: ويحتمل أن المراد مجموع الأمرين سرعة الدخول وعلوّ المنزلة.
وقد روى أبو داود عن عوف بن مالك رفعه: "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة، امرأة ذات منصب وجمال حَبسَت نفسها على يتاماها حتى ماتوا أو بانوا" فهذا فيه قيد،
ووجه التشبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلًا لهم ومرشدًا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل ولا دنياه، ويعلمه ويحسن أدبه.
وعن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، قال: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم وهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبًا، إنَّ الله اتخذ من خلقه خليلًا، اتخذ الله إبراهيم خليلًا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه تكليمًا، وقال آخر: فعيسى روح الله، وقال آخر: وآدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلّم وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن الله اتخذ إبراهيم خليلًا وهو كذلك، وموسى كلمه الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا
وللطبراني الصغير عن جابر، قلت: يا رسول الله، مم اضرب منه يتمي؟ قال:"ما كانت ضاربًا منه ولدك غير واقٍ مالك بماله"، وزاد في رواية مالك:"حتى يستغني عنه" فيستفاد منه أن للكفالة المذكورة أمدًا. انتهى.
"ووجه التشبيه" كما نقله الحافظ عن شيخه العراقي في شرح الترمذي، بين النبي والكافل أنَّ النبي من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلًا لهم ومرشدًا لهم ومعلمًا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل" إضراب انتقالي، "ولا دنياه، ويعلمه ويحسن أدبه" فناسب علوّ منزلته بقرب النبي صلى الله عليه وسلم.
"وعن ابن عباس قال: جلس" قع "ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، قال" ابن عباس: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم وهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبًا إنَّ الله اتخذ من خلقه خليلًا" مع أنه لا نسبة بين الخالق والمخلوق، "اتخذ الله إبراهيم خليلًا"، "وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه تكليمًا، وقال آخر: فعيسى روح الله، وقال آخر: فآدم اصطفاه الله، فخرج صلى الله عليه وسلم، فسلَّم وقال:"قد سمعت كلامكم وعجبكم، إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلًا وهو كذلك" فإنه تعالى قال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 185]"وموسى كليم الله وهو كذلك" قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]"وعيسى روح الله وهو كذلك" في القرآن، "وآدم اصطفاه الله وهو كذلك"{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} ، "ألا" بالفتح والتخفيف، أي: تنبهوا لما تعلموه مما حباني به زيادة عليهم
حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي، فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر" رواه الترمذي.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أوّل الناس خروجًا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الحمد بيدي، ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد
"وأنا حبيب الله ولا فخر" ولم يقل: وإني خليل الله، مع قوله في حديث آخر:"إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا"؛ لأنه في مقام بيان ما زاد به عليهم، "وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأوّل مشفَّع" بشد الفاء مفتوحة، أي: مقبول الشفاعة، وذكره لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني قبل الأول، وفيه: أن غيره يشفع ويشفع، وكونه أولًا فيهما بين علوّ منزلته وتقدم هذا، "ولا فخر، وأنا أوّل من يحرك حلق الجنة" بفتح اللام- جمع حلْقة بسكونها لى غير قياس، وفي لغة بفتحها، فالجمع قياسي، "فيفتح الله لي" لا يعارضه ما مَرَّ أنَّ الفاتح رضوان؛ لأن الفاتح الحقيقي هو الله تعالى، وتولّي رضوان ذلك إنما هو بأمره وإقداره وتمكينه، ونظيره:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 39]{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} "فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين" أي: يدخلون عقبه بسرعة فكأنهم دخلوا معه، ولأبي داود عن أبي هريرة رفعه:"إن أبا بكر أوّل من يدخل الجنة"، ولأبي نعيم عن أبي هريرة مرفوعًا:"أنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وأول من يدخل عليَّ الجنة ابنتي فاطمة"، أي: من النساء، وأبو بكر من الرجال، فلا خلف، "ولا فخر" أي: لا أفتخر بذلك، بل بمن أعطانيه، أو أقول ذلك شكرًا لا فخرًا، وهو ادعاء العظمة والمباهاة، "وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر".
"وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجًا" من القبر "إذا بعثوا" وهذا بمعنى قوله: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض" ، "وأنا خطيبهم" المتكلم عنهم "إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا" على ربهم، "وشافعهم إذا حبسوا" منعوا عن دخول الجنة، "وأنا مبشرهم" بقبول شفاعتي لهم عند ربهم ليريحهم "إذا أيسوا" من الناس، "لواء الحمد بيدي، ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي" يعني: أشفع فيمن شئت، فكأنَّ المفاتيح بيدي افتح بها لمن شئت وأدخله، وأمنع من شئت، ويحتمل أنها بيده حقيقة على ظاهره، وإن كانت لا تغلق بعد أن تفتح على ما
آدم على ربي ولا فخر، ويطوف عليَّ ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون" رواه الترمذي والبيهقي واللفظ له.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أوّل من يدخل الجنة" رواه مسلم.
وعنه أيضًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولًا الجنة".
فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرض، وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى فصل القضاء، وأسبقهم إلى الجواز على الصراط، وأسبقهم إلى دخول الجنة، وهي أكثر أهل الجنة.
استظهر زيادة في كرامته في اليوم المشهود، "وأنا أكرم ولد آدم على ربي" ودخل آدم بالأولى؛ لأن في ولده من هو أكرم منه كإبراهيم وموسى، "ولا فخر" لا عظمة ولا مباهاة، "ويطوف عليَّ ألف خادم كأنهم" في الحسن واللطافة "اللؤلؤ المكنون" المصون في الصدف؛ لأنه فيها أحسن منه في غيرها.
وفي رواية الدارمي: "كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور" رواه الترمذي والبيهقي واللفظ له، ورواه الدارمي بنحوه، وقدَّم المصنف لفظه، قال الترمذي: حديث غريب، وهذه الألف من جملة ما أعد له، فقد روى ابن أبي الدنيا عن أنس، رفعه:"إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم".
وعنده أيضًا عن أبي هريرة قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلةً وليس فيهم دنيء لمن يغدو ويروح عليه خمسة عشر ألف خادم، ليس منهم خادم إلّا معه طرفة ليست مع صاحبه".
"وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون" زمانًا "الأولون" أي: السابقون "يوم القيامة" في كل شيء، "ونحن أوّل من يدخل الجنة" قبل الأمم "رواه مسلم، وعنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، نحن أوّل الناس دخولًا الجنة" هذا مثل ما قبله، غايته أنه عبَّر بالناس بدل من "فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف"؛ لأنهم يكونون على تل يومئذ كما مَرَّ في الخصائص، وفي لفظ: على كوم عالٍ وهما بمعنى، ويحتمل أن يؤخذ من قول هنا الأولون بمعنى السابقين؛ لأن العلوَّ سبق أيضًا "وأسبقهم إلى ظلّ العرش، وأسبقهم إلى فصل القضاء، وأسبقهم إلى الجواز على الصراط، وأسبقهم إلى دخول الجنة" ولمسلم من حديث حذيفة: "نحن
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث أبي هريرة: لما نزلت الآية {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39-40] قال صلى الله عليه وسلم: "أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة"، قال الطبراني: تفرَّد برفعه ابن المبارك عن الثوري.
وفي حديث بهز بن حكيم، رفعه:"أهل الجنة عشرون ومائة صف، أنتم منها ثمانون".
وعن عمر بن الخطاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجنة حُرِّمَت على
الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق" "وهي" أي: هذه الأمة "أكثر أهل الجنة".
"روى عبد الله ابن الإمام أحمد" بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الرحمن البغدادي الحافظ، ابن الحافظ روى عن أبيه وابن معين وخلق، وعنه النسائي والطبراني وجماعة، قال الخطيب: كان ثقة ثبتًا فهمًا، ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين، ومات سنة تسعين ومائتين، من حديث أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية: {ثلة} جماعة {مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39، 40] قيل: الأولى من الأمم الماضية، والثانية من هذه الأمة، لكن ورد بسند حسن عن أبي بكر، رفعه: أنهما جميعًا من هذه الأمة، فالأولى الصحابة، والثانية ممن بعدهم، لكن يؤيد الأول أنه "قال صلى الله عليه وسلم" مخاطبًا للحاضرين، ومن بعدهم إلى آخر الدنيا من أمة الإجابة:"أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة" يحتمل أنَّه فهم أولًا أنهم ثلث نظرًا لكثرة الأولين، ثم عدل عنه إلى النصف نظرًا إلى أن أصل التساوي في مثل هذا لقوله:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} ، ثم أوحى إليه في الحال ولو بالإلهام أنهم ثلثان، فأخبر به، هذا ما ظهر لي والله أعلم.
"قال الطبراني: تفرَّد برفعه ابن المبارك" عبد الله "عن الثوري" سفيان بن سعيد "وفي حديث بهز" بفتح الموحدة وإسكان الهاء وزاي منقوطة "ابن حكيم" بفتح فكسر، ابن معاوية القشيري، صدوق، لم يلق أحدًا من الصحابة، مات في بضع وخمسين ومائة "رفعه:"أهل الجنة عشرون ومائة صف، أنتم منها ثمانون" صفًّا، فهم ثلثا أهل الجنة، وهذا رواه أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحَّحه على شرطهما، عن بريدة بن الحصيب، قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم".
"وروى الطبراني في الأوسط وابن النجار والدارقطني "عن عمر بن الخطاب، أن
الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحُرِّمَت على الأمم حتى تدخلها أمتي". قال الدارقطني: غريب عن الزهري.
فإن قلت: فما تقول في الحديث الذي صححه الترمذي من حديث بريدة بن الحصيب قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بلالًا فقال:"يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة، فما دخلت الجنة قط إلّا سمعت خشخشتك أمامي"، الحديث.
أجاب عنه ابن القيم: بأنَّ تقدم بلال بين يديه صلى الله عليه وسلم، إنما هو لأنَّه كان يدعو إلى الله أولًا بالأذان، ويتقدَّم أذانه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيتقدَّم دخوله بين يديه كالحاجب والخادم، قال: وقد روي في حديثٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم يبعث يوم القيامة
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجنة حُرِّمَت" أي: منعت "على الأنبياء كلهم" المراد بهم ما يشمل المرسلين، "حتى أدخلها، وحُرِّمَت على الأمم حتى تدخلها أمتي" أي: إن المطيع الذي لم يعذب من أمته يدخلها قبل الطائع الذي لم يعذَّب من أمة غيره، وداخل النار من أمته يدخل الجنة قبل داخل النار من أمة غيره، فجملة أمته وتمام دخولها الجنة سابق على دخول أمة غيره، فلا يرد ما قد يتوهم أنه لا يدخل أحد من سابق الأمم الطائعين إلّا بعد خروج العاصين من الأمة المحمدية من النار، ولذا لم يؤكد بكل في الأمم بخلاف الأنبياء، وأخذ من الحديث: إن هذه الأمة يخفَّف عن عصاتها ويخرجون قبل عصاة غيرها.
"قال الدارقطني: غريب عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب، "فإن قلت:" إذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أوَّل داخل على الإطلاق، "فما تقول في الحديث" أي: فما الجمع بينه وبين الحدي "الذي" رواه أحمد و"صححه الترمذي" وابن حبان والحاكم "من حديث بريدة" بموحدة- مصغَّر "ابن الحصيب" بمهملتين- مصغَّر، الأسلمي، "قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالًا، فقال:"يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة، فما دخلت الجنة قط إلّا سمعت خشخشتك" بخاءين وشينين معجمات، أي: صوتك "أمامي" بالفتح- قدَّامي، "إني دخلت البارحة الجنة، فسمعت خشخشتك أمامي" الحديث بقيته، المقصود منه هنا قوله:"إني دخلت البارحة......" إلخ.
وباقيه رؤيته قصرًا من ذهب لعمر، "أجاب عنه ابن القيم، بأن تقدم بلال بين يديه صلى الله عليه وسلم إنما هو لأنه كان يدعو إلى الله أولًا بالأذان، ويتقدَّم أذانه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وبلال بين يديه" ينادي "بالأذان، فتقدمه بين يديه كرامة له -صلى الله عليه وسلم
وبلال بين يديه "ينادي" بالأذان، فتقدمه بين يديه كرامة له صلى الله عليه وسلم، وإظهارًا لشرفه وفضيلته لا سبقًا من بلال له.
وروى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي"، فقال أبو بكر: يا رسول الله، وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه، فقال صلى الله عليه وسلم:"أما إنك يا أبا بكر أوّل من يدخل الجنة من أمتي".
وقد دلَّ هذا الحديث على أنَّ لهذه الأمة بابًا مختصًا يدخلون منه الجنة دون سائر الأمم.
فإن قلت: من أي أبواب الجنة يدخل النبي صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: إنه قد ذكر الترمذي الحكيم أبواب الجنة، كما نقله عنه القرطبي
واظهارًا لشرفه وفضيلته، لا سبقًا من بلال له".
وتعقَّب هذا بأنه لا يلائم السياق؛ إذ لو كان كحاجبه لما قال له: "بم سبقتني"، فقال له بلال: ما أذَّنت قط، إلّا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلّا توضأت وصليت ركعتين، فقال صلى الله عليه وسلم:"بهذا" كما في رواية في الجامع الكبير، فالأولى في الجواب أنها رؤيا منام، ولا يرد بأن رؤيا الأنبياء حق؛ لأن معناه ليست من الشيطان، فمثل له بلال ماشيًا أمامه، إشارة إلى أنه استوجب الدخول لسبقه إلى الإسلام، وتعذيبه في الله، وأن ذلك صار أمرًا محققًا، وأَوْلَى منه ما سبق أن الدخول النبوي يتعدَّد أربع مرات.
"وروى" الحافظ أبو بكر عبد الله بن محمد "بن أبي شيبة"، واسمه: إبراهيم الواسطي الكوفي، صاحب تصانيف، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين -كما في التقريب وغيره، وتقدَّم مرارًا "من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل، فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي" فقا أبو بكر" الصديق:"يا رسول الله، وددت" بكسر الدال الأُولَى "أني كنت معك حتى أنظر إليه، قال صلى الله عليه وسلم: "أما" بالفتح والتخفيف "إنك" بكسر الهمزة "يا أبا بكر، أوَّل من يدخل الجنة من أمتي" من الرجال، وفاطمة أول من يدخل من النساء -كما ورد أيضًا، فلا خلف، وما ورد من الأولية في غيرهما، فالمراد بعدهما، "فقد دلَّ هذا الحديث" وقد رواه أحمد وصحَّحَه الحاكم "على أنَّ لهذه الأمة بابًا مختصًا يدخلون منه الجنة دون سائر الأمم" تشريفًا لهم.
"فإن قلت: من أي أبواب الجنة يدخل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: إنه قد ذكر الترمذي
في التذكرة، فذكر باب محمد صلى الله عليه وسلم قال: وهو باب الرحمة، وهو باب التوبة. فإن قلت: كم عدة أبواب الجنة؟
فاعلم أنَّ في حديث أبي هريرة عند الشيخين مرفوعًا: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب
الحكيم أبواب الجنة -كما نقله عنه القرطبي في التذكرة، فذكر باب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وهو باب الرحمة، وهو باب التوبة" مناسب لكونه أرسل رحمة للعالمين، ولكونه يحب توبة أمته عليه السلام.
فإن قلت: كم عدة أبواب الجنة؟ فاعلم أنَّ في حديث أبي هريرة عند الشيخين مرفوعًا: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين" أي: شيئين من نوع واحد من أنواع المال، وقد جاء تفسيره مرفوعًا: بعيرين شاتين حمارين درهمين، وفي رواية: فرسين نعلين، زاد في بعض طرق الحديث من ماله، "في سبيل الله" أي: في طلب ثوابه أعمَّ من الجهاد وغيره من العبادات. وقيل: المراد شيئين ولو اختلف نوعهما؛ كدينار ودرهم، ودرهم وثوب، وخف ولجام، أي: لأنَّ الزوج يطلق على الواحد المقترن بغيره، كما يطلق على الاثنين، وجوَّز التوربشتي أن يزيد الإنفاق مرة بعد أخرى.
قال الطيبي: وهو الوجه: إذا حملت التثنية على التكرير؛ لأن القصد من الإنفاق التثبيت من الأنفس بإنفاق كرائم الأموال، والمواظبة على ذلك -كما قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [سورة البقرة: 265] أي: ليتثبتوا ببذل المال الذي هو شقيق الروح، وبذله أشق شيء على النفس من سائر العبادات الشاقات، "دعي" وفي رواية: نودي "من أبواب الجنة، يا عبد الله، هذا خير" قال الحافظ: أي: فاضل لا بمعنى أفضل، وإن أوهمه اللفظ، ففائدته: رغبة السامع في طلب الدخول من ذلك الباب.
وفي لفظ للبخاري: "دعاه خزنة الجنة، كل خزنة باب"، أي: خزنة كل باب، أي:"فُلُ هلمَّ" بضم اللام لغة في فلان، وبه ثبتت الرواية، وقيل: ترخيمه، فاللام مفتوحة، "فمن كان من أهل الصلاة" أي: كانت أغلب أعماله وأكثرها، "دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد"، "ومن كان من أهل الصدقة" المكثرين منها "دعي من باب الصدقة". لا يتكرر مع قوله: أولًا: "من أنفق زوجين"؛ لأن الإنفاق ولو قلَّ من الخيرات العظيمة، وذلك حاصل من كل أبواب الجنة، وهذا استدعاء خاص، "ومن كان من أهل الصيام" المكثرين منه "دعي من
الريان".
وروى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعًا: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، إلّا فتحت له من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" بزيادة "من".
قال القرطبي: وهو يدل على أنَّ أبواب الجنة أكثر من ثمانية، قال: وانتهى عددها إلى الثلاثة عشر بابًا، كذا قال:
باب الريان" مشتق من الريّ، خُصَّ بذلك لما في الصوم من الصبر على ألم العطش في الهواجر.
قال الحافظ: ومعنى الحديث: إن كل عامل يدعى من باب ذلك العمل، ولأحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي هريرة:"لكل عامل باب من أبواب الجنة يدعى منه بذلك العمل"، فذكر أربعة أبواب وهي ثمانية، وبقي الحج فله باب بلا شك، وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، رواه أحمد عن الحسن مرسلًا:"إن لله بابًا في الجنة لا يدخله إلّا من عفا عن مظلمة"، والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه ولا عذاب، والثامن لعلَّه باب الذكر، ففي الترمذي ما يوميء إليه، ويحتمل أنه باب العلم، ويحتمل أنَّ الأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الجنة الثمانية الأصلية؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عددًا من ثمانية، والمراد ما يتطوّع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها؛ لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات بخلاف التطوعات، فقلَّ من يجتمع له العمل بجميع أنواعه، وإليه الإشارة بقوله في بقية الحديث، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من يدعى من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها، قال:"نعم، وأرجو أن تكون منهم"، ولابن حبان، فقال:"أجل، وأنت هو يا أبا بكر".
"وروى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء" بإتيان فرائضه وسننه وآدابه، "ثم قال" في مسلم: ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، إلّا فُتِحَت له من أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء" بزيادة من في رواية الترمذي وليست في رواية مسلم.
"قال القرطبي: وهو يدل على أنَّ أبواب الجنة أكثر من ثمانية"؛ لأن الثمانية بالرفع نائب فاعل فتحت، وجملة من أبواب الجنة حال، ومن للتبعيض، أي: فتحت له الثمانية حالة كونها بعض أبواب الجنة، فلا يرد عليه منع إفادة من للزيادة؛ لأن غايته إفادة أنه فتحت له بعض الأبواب الموصوفة بأنها ثمانية، وقد يكون هذا أقرب ليوافق رواية مسلم بدون من، وهو حديث واحد، ويحتمل أنَّ مِنْ ليست للتبعيض، بل للبيان لرواية مسلم، "قال: وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابًا، كذا قال: "تبرأ منه لاحتياجه إلى توقيف؛ ولأن دليله محتمل.
فإن قلت: أيُّ الجنان يسكنها النبي صلى الله عليه وسلم؟
فاعلم -منحني الله وإياك التمتع بذاته القدسية في الحضرة الفردوسية- أنَّ الله تعالى قد اتخذ من الجنان دارًا اصطفاها لنفسه، وخصَّها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده، فهي سيدة الجنان، والله يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة جبريل، ومن البشر محمدًا صلى الله عليه وسلم، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .
وفي الطبراني من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله تعالى في آخر ثلاث ساعات بقين من الليل، فينظر في الساعة الأولى منهنَّ في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم ينظر في الساعة الثانية في جنة عدن وهي مسكنه الذي يسكن، لا يكون معه فيها أحد إلّا
فإن قلت: أيّ الجنان يسكنها النبي صلى الله عليه وسلم، فاعلم -منحني" أعطاني "الله وإياك التمتع بذاته" رؤيته تعالى التي لا نعيم يدانيها "القدسية" الطاهرة عمَّا لا يليق بها من صفات المحدثات، ليس كمثله شيء، وفي إطلاق الذات على الله مقال، "في الحضرة الفردوسية" أعلى الجنة، "أنَّ الله تعالى قد اتّخذ من الجنان دارًا اصطفاها" اختارها "لنفسه" أي: ليسكنها خُلَّص أوليائه، ويتجلَّى لهم فيها؛ إذ هو سبحانه لا يحويه مكان "وخصَّها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده" بقدرته من غير واسطة، والإضافة للتشريف، وإلّا فكل شيء بقدرته، "فهي سيدة" أي: أفضل "الجنان، والله يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة جبريل" بناءً على أنه أفضلهم، على ما روي عن كعب الأحبار، وقال صاحب الحبائك: الأحاديث متعارضة في أنّه الأفضل أو إسرافيل، وحديث أفضل الملائكة جبريل ضعيف "ومن البشر محمدًا صلى الله عليه وسلم"، بل هو أفضل الخلق إجماعًا {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ما يشاء.
"وفي الطبراني من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله تعالى" هو مصروف عن ظاهره إجماعًا، واختلف: هل يخاض في تأويله أو لا، وهو أسلم بدليل اتفاقهم على أن التأويل المعيّن لا يجب، كما قاله البيهقي: "في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل" أي: في الثلاث الساعات الآخرة، فلا ينافي قوله الآتي: "ثم يهبط آخر ساعة...." إلخ.
ولا قوله: "فينظر في الساعة الأولى منهنَّ في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره، فيمحو الله" منه "ما يشاء ويثبت" بالتخفيف والتشديد- فيه "ما يشاء" من الأحكام وغيرها، على ما يشاء من تغيير الأحوال وتصريف الأسباب، لا بمعنى تغيير حكم استقر بأمر بدا له، "ثم ينظر في الساعة الثانية" من الثلاثة نظر عطف ورحمة وإبداء نعمة "في جنة عدن، وهي مسكنه الذي
الأنبياء والشهداء والصالحون والصديقون، وفيها ما لم يره أحد، ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له، ألا سائل يسألني فأعطيه، ألا داعٍ يدعوني فأستجيب له، حتى يطلع الفجر".
وفي حديثٍ أنه صلى الله عليه وسلم أري جنة عدن، ومنازل المرسلين منها، وأُرِيَ منازله فوق منازلهم.
وروى أبو الشيخ عن شمر بن عطية قال: خلق الله جنة الفردوس بيده، فهو يفتحها كل يوم خمس مرات فيقول: ازدادي طيبًا لأوليائي، ازدادي حسنًا لأوليائي.
فتأمّل هذه العناية، كيف جعل الجنة التي غرسها بيده لمن خلقه بيده،
يسكن" من المتشابه أيضًا.
قال ابن فورك: معناه: إنها دار كرامته ومثوبته، وهي إضافة تشريف وتخصيص، كقولنا: الكعبة بيت الله، لا أنه يسكنها سكون حلول -تعالى عن ذلك، قال: وقوله: "لا يكون معه فيها أحد، إلّا الأنبياء والشهداء والصالحون والصديقون" أي: فإنهم فيها بالحلول والسكنى حقيقة، وهو تعالى معهم بالنصرة والكرامة. انتهى.
"وفيها ما لم يره أحد، ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل" إلى السماء الدنيا -كما في بعض طرق هذا الحديث.
"فيقول: ألَا مستغفر يستغفرني فأغفر له" ذنوبه، "ألا سائل يسألني فأعطيه" مسئوله، "ألا داعٍ يدعوني فأستجيب له" دعاءه، أي: أجيبه، فليست السين للطلب، والأفعال الثلاثة بالنصب جواب الطلب، وبالرفع استئناف، وبهما قرئ:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} ، واقتصر على الثلاثة؛ لأن المطلوب إمَّا رفع المضار أو جلب السار، وذلك إمَّا ديني أو دنيوي، فالاستغفار إشارة إلى الأوّل، والدعاء إشارة إلى الثاني، والسؤال إشارة إلى الثالث، "حتى يطلع الفجر" وفي بعض الروايات: الشمس، وهي شاذة.
"وفي حديث أنه" صلى الله عليه وسلم "أري جنة عدن ومنازل المرسلين منها، وأري منازله فوق منازلهم" ورفع بعضهم درجات.
"وروى أبو الشيخ عن شمر" بكسر المعجمة وإسكان الميم "ابن عطية" الأسدي الكوفي، صدوق، لم يلق أحدًا من الصحابة "قال: خلق الله جنة الفردوس" أعلى الجنة ووسطها كما في حديث مرفوع "بيده، فهو يفتحها كل يوم خمس مرات" لعلّها عند أوقات الصلوات الخمس، "فيقول: ازدادي طيبًا لأوليائي، ازدادي حسنًا لأوليائي. فتأمّل هذه العناية" بكسر العين- كيف جعل الجنة التي غرسها بيده لمن خلقه بيده، ولأفضل بريته: خليقته.
ولأفضل بريته اعتناءً وتشريفًا، وإظهارًا لفضل ما خلقه بيده وشرفه، وتمييزه بذلك عن غيره.
وروى الدارمي عن عبد الله بن الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله ثلاثة أشياء بيده، خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزَّتي وجلالي، لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث" وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن تُكُلِّمَ فيه.
وروى الدارمي أيضًا، عن عبد الله بن عمر قال:"خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش والقلم وعدن وآدم عليه السلام، ثم قال لسائر الخلق: كن فكان".
اعتناءً وتشريفًا وإظهارًا لفضل ما خلقه بيده وشرفه، وتمييزه بذلك عن غيره".
"وروى الدارمي" وابن أبي الدنيا "عن عبد الله" بن عبد الله بن الحارث" بن نوفل -كما في رواية ابن منده، فنسبه إلى جَدِّه، وذكره في التقريب فيمن وافق اسمه اسم أبيه، ونوفل ابن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، تابعي ثقة، مات سنة تسع وتسعين، فالحديث مرسل "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله ثلاثة أشياء بيده" أي: بصفة خاصة وعناية تامة، فإن الإنسان لا يضع يده في أمر إلّا إذا كان له به عناية شديدة، فأطلق اللازم وهو اليد، وأراد الملزوم وهو العناية مجازًا؛ لأن اليد بمعنى الجارحة محال على الله تعالى، "خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزَّتي وجلالي، لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث" بفتح المهملة وشد التحتية ومثلثة.
زاد في رواية ابن أبي الدنيا، قالوا: يا رسول الله، وما الديوث؟ قال:"الذي يقر السوء في أهله" وفيه أبو معشر نجيح -بفتح النون وكسر الجيم وسكون التحتية وحاء مهملة- ابن عبد الرحمن" السندي -بكر المهملة وإسكان النون- مولى بني هاشم، مشهور بكنيته "تكلِّمَ فيه" بالضعف، وأنه أسن واختلط، مات سنة سبعين ومائة، لكن له شواهد عن أنس مرفوعًا "إن الله بنى الفردوس بيده، وحظرها على كل مشرك وكل مدمن خمر".
رواه البيهقي، وعنده أيضًا عن كعب:"إن الله خلق الجنة بيده، وكتب التوراة بيده، وخلق آدم بيده" ومن شواهده قوله: "وروى الدارمي أيضًا" وأبو الشيخ في العظمة "عن عبد الله بن عمر، قال: "خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش والقلم والعلم وعدن وآدم، ثم قال لسائر الخلق كن فكان" وهذا موقوف له حكم الرفع، والطبراني عن ابن عباس رفعه: "خلق الله جنة عدن بيده، ودلَّى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون،
وعنده أيضًا عن ميسرة قال: إن الله لم يمس شيئًا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده.
فجنة عدن أعلى الجنان وسيدتها، وهي قصبة الجنة، وفيها الكثيب الذي تقع فيه الرؤية، وعليه تدور ثمانية أسوار، بين كل سورين جنة، فالتي تلي جنة عدن من الجنان جنة الفردوس، وأصله البستان، وهي أوسط الجنان التي دون جنة عدن وأفضلها، ثم جنة الخلد، ثم جنة النعيم، ثم جنة المأوى، وهي التي يأوي إليها جبريل وميكائيل والملائكة. وعن مقاتل: تأوي إليها أرواح الشهداء، ثم دار السلام؛ لأنها دار السلامة من كل مكروه، ثم دار المقامة.
واعلم أن للجنة أسماء عديدة، وكلها باعتبار صفاتها، ومسمَّاها واحد باعتبار ذاتها،
فقال: وعزَّتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل" ، "وعنده أيضًا عن ميسرة قال: إنَّ الله لم يمس شيئًا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده، فجنة عدن أعلى الجنان" وبذلك سميت في قوله تعالى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [الزمر: 71] وسيدتها" أي: أفضلها "وهي قصبة الجنة" أي: وسطها، "وفيها الكثيب" بمثلثة "الذي تقع فيه الرؤية" لله تعالى، "وعليها تدور ثمانية أسوار، بين كل سورين جنة، فـ" الجنة "التي تلي جنة عدن من الجنان جنة الفردوس" {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107] وأصله" لغةً "البستان" يذكَّر ويؤنَّث.
قال ابن الأنباري: فيه كروم، قال الفراء، هو عربي مشتق من الفردسة وهي السعة، وقيل: منقول من الرومية إلى العربية، "وهي أوسط الجنان التي دون جنة عدن وأفضلها" في جزمه، أنَّ جنة عدن أفضل من جنة الفردوس، نظر؛ لأنه خلاف ما في الصحيحين مرفوعًا:"إنَّ في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة"، والمراد بوسط الجنة: خيارها وأفضلها، "ثم جنة الخلد {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْد} [فصلت: 8] ثم جنة النعيم {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] ثم جنة المأوي {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] ، وهي التي يأوي إليها جبريل وميكائيل والملائكة".
"وعن مقاتل: تأوي إليها أرواح الشهداء، ثم دار السلام"{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127] لأنها دار السلامة من كل مكروه، ثم دار المقامة" بضم الميم- {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35] فهذه سبع جنان مذكورة في القرآن كما علم "واعلم أنَّ للجنة أسماء عديدة" منها هذه السبع، ودار الله، ودار
فهي مترادفة من هذا الوجه، ومختلفة باعتبار صفاتها، فاسم الجنَّة هو الاسم العام المتناول لتلك الذوات وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والسرور وقرة العين، وهذه اللفظة مشتَقَّة من الستر، ومنه سمي البستان جنة؛ لأنه يستر داخله بالأشجار، والجنان كثيرة جدًّا، كما قال صلى الله عليه وسلم لأم حارثة لما قُتِلَ ببدر، وقد قالت: يا رسول الله، ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء عليه، فقال:"يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى" وقال تعالى: {لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]
الإقامة، والمقامة الأمين، ومقعد صدق، وقدم صدق، والحيوان، وغير ذلك، "وكلها باعتبار صفاتها ومسمَّاها واحد باعتبار ذاتها، كأسماء الله، وأسماء رسوله -كما في حادي الأرواح، فهي مترادفة من هذا الوجه، ومختلفة باعتبار صفاتها، فاسم الجنة هو الاسم العام المتناول لتلك الذوات، وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والسرور وقرة العين" فرحها "وهذه اللفظة" أي: الجنة "مشتَقَّة من الجن، أي: الستر، ومنه سُمِّيَ البستان جنة؛ لأنه يستر داخله بالأشجار، والجنان كثيرة جدًّا كما قال صلى الله عليه وسلم لأم حارثة" بن سراقة الأنصاري، واسم أمه: الربيع بنت النضر، عَمَّة أنس بن مالك "لما قتل يوم بدر" رماه ابن العرقة بسهم وهو يشرب من الحوض فقتله.
"وقد قالت: يا رسول الله، ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء عليه" ومقول القول: "يا أم حارثة: إنها جنان" أي: درجات في الجنة، "وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى" وهذا الحديث رواه البخاري في الجهاد، عن أنس بلفظ المصنف، وضمير إنها مبهم يفسره ما بعده، كقولهم: هي العرب تقول ما تشاء، والمراد بذلك التفخيم والتعظيم.
ورواه في المغازي: والرقاق عن أنس بلفظ: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن يكن الأخرى ترى ما أصنع، فقال:"ويحك، أوهبلت، أوجنة واحدة، إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس الأعلى" وقال تعالى: {لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} قيامه بين يديه للحساب بترك معصيته
روى الحافظ أبو الغنائم الترسي في كتابه أنس العاقل وتذكرة الغافل، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا وصيفة له فأبطأت عليه، فقال لها:"لولا خوف الله يوم القيامة لأوجعتك بهذا السواك"، وروي فيه أيضًا عن مجاهد في الآية، قال:"هو الذي يهمّ بالمعصية، فيذكر الله فيدعها""جنتان" جنة للخائف الأنسي، والأخرى للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، والمعنى: لكل
فذكرهما ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] أي: فهذه أربع، وقال صلى الله عليه وسلم:"جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما" رواه الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري.
وقد قسَّم بعضهم الجنان بالنسبة إلى الداخلين فيها ثلاثة.
اختصاص إلهيّ، وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، ومن أهلها أهل الفترات، ومن لم تصل إليه دعوة رسول.
خائفين منكما، أو لكلّ واحد جنة لعقيدته، والأخرى لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها، وأخرى يتفضل بها عليه، وروحانية وجسمانية "فذكرهما ثم قال: ومن دونهما" أي: الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين "جنتان" لمن دونهم من أصحاب اليمين.
كذا في البيضاوي: "فهذه أربع"، وفي كل جنة درجات ومنازل وأبواب، وكلها تتصف بالمأوى والخلد وعدن والسلام، ولذا اختار الحليمي أنَّ الجنان أربع لهذه الآية، والحديث وهو:"وقال عليه السلام: "جنتان" مبتدأ "من فضة" خبر قوله: "آنيتهما وما فيهما" عطف عليه، وحذف متعلق من فضة، أي: آنيتهما كائنة من فضة، والجملة خبر جنتان، "وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما" بإعراب سابقه.
وللبيهقي عن أبي موسى رفعه: "جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين"، وله ولأحمد والطيالسي، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما" رواه الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جنتان من فضة" فذكره بتقديم الفضة كما سقته، ويقع في كثير من نسخ المصنف بتقديم الذهب، وهو خلاف ما في الصحيحين.
وإن كان رواته في غيرهما، وبقية الحديث عند الشيخين وغيرهما:"وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن"، وقوله:"في جنة عدن" ظرف للقوم، أو نصب حالًا منهم.
قال البيهقي: رداء الكبرياء استعارة لصفة الكبرياء والعظماء؛ لأنه بكبريائه لا يراه أحد من خلقه إلّا بإذنه، ويؤيده أنَّ الكبرياء ليس من جنس الثياب المحسوسة، "وقد قسَّم بعضهم الجنان بالنسبة إلى الداخلين فيها ثلاثة: جنة اختصاص إلهيّ" أي: خصَّ الله بها هؤلاء الذين لا عمل لهم، وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، ومن أهلها" أيضًا "أهل الفترات" جمع فترة، بين الرسل، "ومن لم تصل إليه دعوة رسول، والجنة الثانية: جنة ميراث ينالها كل
والجنة الثانية: جنة ميراث، ينالها كل من دخل الجنة من المؤمنين، وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها.
والجنة الثالثة: جنة الأعمال، وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر، وسواء كان الفاضل دون المفضول أو لم يكن، غير أنَّ فضله في هذا المقام لهذه الحالة، فما من عمل من الأعمال إلّا وله جنة. ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضي أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم:"يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة" الحديث. فعلم أنها كانت جنة مخصوصة، فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم إلّا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص، يناله من دخلها، وقد يجمع الواحد من الناس في الزمان الواحد أعمالًا من العبادات، فيؤجر في الزمان الواحد من وجوه كثيرة، فيفضل غيره ممن ليس كذلك.
فقد تبيِّن أن نيل المنازل والدرجات في الجنات بالأعمال، وأمَّا الدخول فلا يكون إلّا برحمة الله تعالى، كما في البخاري ومسلم من حديث عائشة، أن
من دخل الجنة من المؤمنين، وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها" لو آمنوا وماتوا عليه، "والجنة الثالثة جنة الأعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر، وسواء كان الفضل دون المفضول، أو لم يكن، غير أنَّ فضله في هذا المقام بهذه الحالة، ولا يلزم منه الفضل المطلق، "فما من عمل من الأعمال إلّا وله جنة، ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضي أحوالهم".
"قال صلى الله عليه وسلم: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة...." الحديث السابق قريبًا، "فعلم أنها" أي: الجنة التي سبقه بلال إليها "كانت جنة مخصوصة"، فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير" زيادة إطناب؛ إذ هو لا ينفك عن أحدهما، "ولا ترك محرم" داخل في الفريضة "إلّا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها".
"وقد يجمع الواحد من الناس في الزمان الواحد أعمالًا من العبادات، فيؤجر في الزمان الواحد من وجوه كثيرة، فيفضل غيره ممن ليس كذلك" مثاله: معتكف صائم صلى الضحى مثلًا وتصدَّق بدينار أو رغيف ناوله لمن يجنبه، أو أشار إليه بأخذه وهو يصلي.
:فقد تبيِّن أن نيل المنازل والدرجات في الجنان بالأعمال، وأمَّا الدخول فلا يكون
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لن يدخل الجنة أحد بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلّا أن يتغمدني الله برحمته" أي: يلبسنيها ويسترني بها، مأخوذ من غمد السيف وهو غلافه.
وعند الإمام أحمد بإسناد حسن، من حديث أبي سعيد الخدري:"لن يدخل الجنة أحد إلّا برحمة الله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلّا أن يتغمدني الله برحمته"، وقال: بيده فوق رأسه، يعني: إن الجنة إنما تدخل برحمة الله وليس عمل العبد سببًا مستقلًّا بدخولها، وإن كان سببًا، ولهذا أثبت الله دخولها بالأعمال في قوله تعالى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزحرف: 72] ونفى صلى الله عليه وسلم دخولها بالأعمال في قوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" ولا تنافي بين الأمرين، لما ذكره سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون: النجاة من النار
إلّا برحمة الله تعالى" التي وسعت كل شيء في الدنيا، وخصّ بها في الآخرة المتقين الكفر بالإيمان.
"كما في البخاري ومسلم من حديث عائشة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لن يدخل أحد الجنة بعمله" لما كان أجره صلى الله عليه وسلم في الطاعة أعظم، وعمله في العبادة أقوم "قالوا: ولا أنت يا رسول الله" لا تدخلها بعملك مع عظم قدرك، "قال: "ولا أنا، إلّا أن يتغمدني" بغين معجمة "الله برحمته" استثناء منقطع، ويحتمل اتصاله من قبيل قوله تعالى:{إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] أي: يلبسنيها ويسترني بها" تفسير لتغمدني، "مأخوذ من غمد السيف" بكسر المعجمة وسكون الميم- وهو غلافه -بمعجمة وفاء- قرابه.
وعند الإمام أحمد بإسناد حسن من حديث أبي سعيد" الخدري مرفوعًا: "لن يدخل الجنة أحد إلّا برحمة الله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: "ولا أنا، إلّا أن يتغمدني" يسترني "الله برحمته" وقال بيده" أي: وضعها "فوق رأسه" كأنَّه إشارة إلى أنَّه يتغمده ويستره كله، وفيه: إن العامل لا يتَّكِلُ على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات؛ لأنه إنما عمل بتوفيق الله، وإنما ترك المعصية بعصمة الله، فكل ذلك بفضله ورحمته، "يعني: إن الجنة إنما تدخل برحمة الله، وليس عمل العبد سببًا مستقلًّا بدخولها، وإن كان سببًا" في الجملة، "ولهذا أثبت الله دخولها بالأعمال في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] ونفى صلى الله عليه وسلم دخولها بالأعمال في قوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" ولا تنافي بين الأمرين الإثبات والنفي، "لما ذكر سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمة الله، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، وهذا قالوه:{إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}
بعفو الله، ودخول الجنة برحمة الله، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدل له حديث أبي هريرة:"إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم" رواه الترمذي.
قال ابن بطال: مجمل الآية على أنَّ الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، ومحل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها، ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى:{سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فصرَّح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال. وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول.
ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مفسرًا للآية على وجه آخر، والتقدير: ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمة الله، وكذا أصل دخول الجنة برحمته؛ حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو
جمعًا بين الآية والحديث، وأيده في البدور بما رواه هنا، وفي الزهد عن ابن مسعود، قال: تجوزون الصراط بعفو الله، وتدخلون الجنة برحمة الله، وتقتسمون المنازل بأعمالكم.
"ويدل له" أي: لهذا الذي قالوه "حديث أبي هريرة" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة إذا دخلوها" برحمة الله "نزلوا فيها" المنازل "بفضل" أي: زيادة "أعمالهم".
"رواه الترمذي" وابن ماجه في مبدأ حديث طويل، "قال ابن بطال: مجمل الآية على أنَّ الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة" في العلوِّ "بحسب تفاوت الأعمال، ومحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها" فلا تعارض بينهما، "ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى" في سورة النحل: يقولون {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فصرَّح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون" ففيه تقدير مضاف بدليل الحديث، "وليس المراد بذلك أصل الدخول" فلا تعارض بينهما، "ثم قال" ابن بطال:"ويجوز أن يكون الحديث مفسرًا للآية على وجه آخر"؛ إذ ما قبله تفسير لها أيضًا؛ إذ لولاه ما جاز تقدير المضاف، "والتقدير: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم" على طريقة الاكتفاء أو حذف الصفة؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمة الله، وكذا أصل دخول الجنة برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك" المذكور، ولا يخلو شيء من مجازاته
شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضَّل الله عليهم ابتداءً بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم.
وأشار إلى نحوه القاضي عياض فقال: وإنَّ من رحمة الله توفيقه للعمل، وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحق العامل بعمله، وإنِّما هو بفضل الله ورحمته.
وقال غيره: لا تنافي بين ما في الآية والحديث؛ لأن "الباء" التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلًّا بحصوله، و"الباء" التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلًا للآخر، نحو: اشتريت منه بكذا، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنَّه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة؛ لأن العمل بمجرده -ولو تناهي- لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا يكون عوضًا لها؛ لأنه لو وقع على الوجه الذي يحبه الله، لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بها،
لعباده من رحمته وفضله"؛ إذ لولا توفيقه لهم للأعمال وبيانها لهم ما عملوها، كما أفاده بقوله: "وقد تفضل الله عليهم ابتداء بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم" الأحكام الشرعية: واجباتها ومندوباتها المسببة لرفع المنازل.
"وأشار إلى نحوه القاضي عياض، فقال: وإن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل الله ورحمته، وقال غيره: لا تنافي بين ما في الآية والحديث؛ لأن الباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلًّا بحصوله" بل مع رحمة الله وتوفيقه للعمل وقبوله، لا بمجرده "والباء التي نفت الدخول هي باء المعارضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلًا للآخر، نحو: اشتريت منه بكذا" تمثيل لباء المعارضة، "فأخبر" صلى الله عليه وسلم "أنَّ دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله بعبده ما أدخله الجنة؛ لأن العمل بمجرده ولو تناهى" بلغ النهاية، أي: الغاية "لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا يكون عوضًا لها" فكأنه قيل: لن يدخل أحد الجنة عوضًا عن عمله؛ "لأنه لو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي" لا يقابل "نعمة واحدة" من نعم الله تعالى، "فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بها؛ لأن نفس الشكر على النعمة نعمة تستدعي
فلذلك لو عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا من أعمالهم، كما في حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي داود وابن ماجه.
وهذا فصل الخطاب مع الجبرية النفاة للحكمة، والتعليل القائلين بأنَّ القيام للعبادة ليس إلّا لمجرد الأمر، من غير أن يكون سببًا للسعادة في معاش ولا معاد، ولا لنجاة المتعقدين أنَّ النار ليست سببًا للإحراق، وأنَّ الماء ليس سببًا للإرواء والتبريد.
والقدرية الذين ينفون نوعًا من الحكمة والتعليل، والقائلين بأنَّ العبادات شرعت أثمانًا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وإنما هي بمنزلة استيفاء الأجير أجرته، محتجِّين بأن الله تعالى يجعلها عوضًا عن العمل، كما في قوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وبقوله صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن ربه تعالى: "يا عبادي،
شكرًا وهكذا إلى غير نهاية، "فلذلك لو عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا من أعمالهم كما في حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي داود وابن ماجه" وصحَّحه ابن حبان، كلهم عن أُبَيّ وحذيفة وابن مسعود موقوفًا، وزيد بن ثابت مرفوعًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو أنَّ الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار".
ورواه أحمد أيضًا "وهذا فصل الخطاب مع الجبرية النفاة" جمع نافٍ كرام ورماة وقاض وقضاة، "للحكمة والتعليل" وأنَّ العبد المجبور على جميع ما فعل القائلين بأنَّ القيام بالعبادة ليس إلّا لمجرد الأمر" من الله بها من غير أن يكون سببًا للسعادة في معاش" للدنيا، "ولا معاد" للأخرى، "ولا" سببًا "لنجاة المعتقدين" أنَّ النار ليست سببًا للإحراق، وأنَّ الماء ليس سببًا للإرواء" للظمأ "والتبريد" للحر إذا صب على الجسد مثلا بلا شرب "و" فصل النزاع أيضًا "مع القدرية الذين ينفون نوعًا من الحكمة والتعليل، والقائلين بأن العبادات شرعت اثمانًا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وأنهما" أي: الثواب والنعيم.
وفي نسخة: وإنها بالإفراد، أي: العبادات، وفي أخرى: وإنما هي، أي: العبادات "بمنزلة استيفاء الأجير أجرته، محتَجِّين بأنَّ الله تعالى يجعلها عوضًا" عن العمل كما "في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وبقوله عليه السلام حاكيًا عن ربه تعالى: "يا
إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها".
وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل الأعمال ارتباطًا بالجزاء البتة، والقدرية جعلت ذلك بمحض الأعمال وثمنًا لها، والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذي فطر الله عليه عباده، وجاءت به رسله، ونزلت به كتبه، وهو: أنَّ الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب، مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأنَّ الأعمال الصالحة من توفيق الله تعالى ومنته، وصدقته على عبده أن أعانه عليها ووفقه لها، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحببها إليه وزينها في قلبه، وكرّه إليه أضدادها، ومع هذا فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرًا له تعالى إن قبلها سبحانه، ولهذا نفى صلى الله عليه وسلم دخول الجنة بالعمل ردًّا على القدرية القائلين بأن الجزاء بمحض الأعمال وثمنًا لها، وأثبت سبحانه وتعالى دخول الجنة بالعمل ردًّا على الجبرية
عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها" أضبطها لكم بعلمي وملائكتي؛ ليكونوا شهداء بين الخالق وخلقه، وقد يضم لذلك شهادة الأعضاء زيادة في العدل، {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} "ثم أوفيكم إياها" وهذا قطعة من آخر حديث طويل في مسلم وغيره، "وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشدَّ التقابل، وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطًا" تعلقًا "بالجزاء البتة، والقدرية جعلت ذلك كله بمحض الأعمال وثمنًا لها، والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذي فطر" خلق "الله عليه عباده" وطبعهم عليه، "وجاءت به رسله، ونزلت به كتبه، وهو أنَّ الأعمال أسباب موصَّلة إلى الثواب والعقاب، مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله تعالى ومنته، وصدقته علي عبده أن أعانه عليها ووفقه لها، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحببها إليه وزيِّنَها" حسَّنها "في قلبه" كما قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] وكرَّه إليه أضدادها {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7] ومع هذا، فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرًا له تعالى" لأجل "إنْ قَبِلَها سبحانه"؛ إذ لو شاء لم يقبلها، "ولهذا نفى عليه السلام دخول الجنة بالعمل ردًّا على القدرية القائلين بأنَّ الجزء بمحض الأعمال وثمنًا لها" بناء على أصلهم الفاسد أنَّ العبد يخلق أفعال نفسه.
قال زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أصحاب الجنة، ولا كما قال أصحاب النار، ولا كما قال أخوهم إبليس.
الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطًا بالجزاء، فتبيِّنَ أنه لا تنافي بينهما؛ إذ توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد، فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمنًا وعوضًا لها، ردًّا على القدرية، والمثبت الدخول بسبب العمل ردًّا على الجبرية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: يحمل الحديث على أنَّ العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولًا، وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا: فمعنى قوله {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر مع هذا أنْ تكون "الباء" للمصاحبة، أو للإلصاق، أو للمقابلة، ولا يلزم من
قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} ، وقال أصحاب الجنة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَن هَدَانَا اللَّهُ} ، وقال أصحاب النار:{وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وقال إبليس:{رب بما أغويتني} .
أخرجه الزبير بن بكار "وأثبت سبحانه وتعالى دخول الجنة بالعمل ردًّا على الجبرية الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطًا بالجزاء" على أصلهم الفاسد، أنَّ العبد مجبور على الفعل، لا ينسب إليه منه شيء، فلا يثاب على طاعة، ولا يعاقب على معصية، وهذا هدم للشريعة، وإبطال للآيات والأحاديث الكثيرة، وقد تشبشوا بنحو قوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وتقدَّم الرد عليهم في غزوة بدر، "فتبيِّن أنَّه لا تنافي بينهما؛ إذ توارد النفي" في الحديث، والإثبات في الآيتين، ليس على معنى واحد حتى يحصل التنافي، فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمنًا وعوضًا لها ردًّا على القدرية، والمثبت الدخول بسبب العمل مع رحمة الله وفضله وتوفيقه إليه وقبوله، لا بمجرده ردًّا على الجبرية، والله يهدي من يشاء هدايته إلى صراط مستقيم، دين الإسلام.
وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: يحمل الحديث على أنَّ العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولًا، وإذا كانت كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تعملونه من العمل المقبول. ولا يضر مع هذا التقدير أن تكون الباء للمصاحبة" أي: مصاحبين لأعمالكم، "أو للإلصاق، أو للمقابلة" أي: المعارضة، ولا يلزم من
ذلك أن تكون سببية.
قال: ثم رأيت النووي جزم بأنَّ ظاهر الآيات أنَّ دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث: أنَّ التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها، وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل، وهو من رحمة الله تعالى. انتهى.
وروى الدارقطني عن أبي أمامة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نعم الرجل أنا لشرار أمتي"، فقالوا:"فكيف؟ أنت لخيارها، فقال: "أمَّا خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم، وأما شرار أمتي فيدخلون الجنة بشفاعتي" ذكره عبد الحق في العاقبة.
وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم في الجنة بالكوثر -وهو على وزن فَوْعَل من الكثرة- سُمِّيَ به هذا النهر العظيم لكثرة مائه وآنيته، وعظيم قدره وخيره.
ذلك أن تكون سببية" فلا يخالف الحديث.
"قال" الحافظ: "ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أنَّ دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث أنَّ التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل" كما في الآية، "وهو من رحمة الله تعالى. انتهى" كلام النووي، وعليه فالباء سببية في الآية والحديث.
"وروى الدارقطني" والطبراني وأبو نعيم "عن أبي أمامة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "نِعْمَ" بكسر فسكون- كلمة مدح، "الرجل أنا لشرار أمتي"، قالوا: فكيف؟ أنت لخيارها، قال: "أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم" فظاهره أنَّ الباء للسببية، فيحمل على ما مَرَّ، "وأمَّا شرار أمتي فيدخلون الجنة بشفاعتي"، ذكره عبد الحق" وللترمذي والحاكم والبيهقي عن جابر رفعه: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
ورواه البيهقي من حديث أنس بزيادة: "ولأهل العظائم وأهل الدماء"، وأخرجه أيضًا عن كعب بن عجرة، ومن مرسل طاوس بدون الزيادة، وقال: هذا مرسل حسن يشهد لكون هذه اللفظة شائعة فيما بين التابعين، وللطبراني عن ابن عمر مرفوعًا:"إني ادَّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"، وله عن أم سلمة رفعته:"اعملي ولا تَتَّكِلي، فإن شفاعتي للهالكين من أمتي".
"وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم بالكوثر وهي وزن فَوْعل" مأخوذ "من الكثر" كنوفل من النفل "سُمِّيَ به هذا النهر العظيم لكثرة مائه وآنيته، وعظم قدره وخيره" والعرب تسمي كل كبير
فقد نقل المفسرون في تفسير "الكوثر" أقوالًا تزيد على العشرة، ذكرت كثيرًا منها في المقصد السادس من هذا الكتاب، وأَوْلَاها قول ابن عباس: إنه الخير الكثير لعمومه، لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا معدل عنه.
فقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من طريق محمد بن فضيل، وعلى بن مسهر، كلاهما عن المختار بن فلفل، عن أنس -واللفظ لمسلم- قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد، إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسمًا، قلنا:
القدر والعظم كوثرًا، "فقد نقل المفسرون في تفسير الكوثر أقوالًا تزيد على العشرة" أي: تفوق بمثلها على العشرة، "ذكرت كثيرًا منها في المقصد السادس من هذا الكتاب" وقال: المشهور المستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة، أو أولاده أو الخير الكثير، أو النبوة أو علماء أمته، أو الإسلام، أو كثرة الأتباع أو العلم أو الخلق الحسن، أو جميع نعم الله عليه، هذه العشرة هي التي ذكرها المصنف، ثم ذكرت هناك بقيتها: وهي الحوض الذي في القيامة، أو الشفاعة، أو المعجزات الكثيرة، أو المعرفة، أي: العلوم الخمس التي خُصَّت بها أمته، أو كثرة الأمة، ومغايرته لكثرة الأتباع بحملهم على أصحابه لكثرتهم جدًّا على اتباع غيره من الرسل، فهذه العشرة تمام العشرين، وفي الفتح: وقيل: نور القلب، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: القرآن. انتهى.
فأمَّا نور القلب فهو المعرفة، وأمَّا الفقه في الدين فهو العلم، "وأولادها" لو لم يفسره صلى الله عليه وسلم بخلاف قول ابن عباس" عند البخاري وغيره "أنه الخير الكثير لعمومه الشامل" لكل ما قيل، لكن ثبت تخصيصه بالنهر " الذي في الجنة من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا معدل عنه فقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من طريق محمد بن فضيل" مصغَّر- الضبي الكوفي، من رجال الجميع، وعليّ بن مسهر" بضم الميم وسكون المهملة وكسر الهاء- القرشي، الكوفي، من رجال الكل أيضًا "كلاهما عن المختار بن فلفل" بفاءين مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة، من رجال مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، "عن أنس واللفظ لمسلم، قال" أنس: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا" أي: بيننا، وأظهر زائدة، وبين إنما تضاف لمتعدد، فيقدر بين كون أوقاته بيننا "في المسجد؛ إذ أغفى إغفاءة" أي: نام نومة خفيفة، قال الأبي: ويحتمل أن يراد بها إعراضه عمَّا كان فيه من حديث. انتهى.
هكذا في النسخ الصحيحة وهو الذي في مسلم، وفي بعضها: غفا بدون ألف، فيكون قوله: إغفاءة مصدرًا غير مقيس؛ إذ قياسه غفوًا "ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك؟ " زاد
ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "أنزلت عليّ آنفًا سورة"، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ثم قال: "أتدرون ما الكوثر"، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:"إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل". الحديث.
لكن فيه إطلاق الكوثر على الحوض، وقد جاء صريحًا في حديث عند
في رواية: أضحك الله سنَّك "يا رسول الله".
قال الأبي: عبَّروا بالضحك عن التبسُّم منه؛ لوضوح التبسم منه صلى الله عليه وسلم، فعبروا عنه بالضحك "قال: أنزلت عليّ آنفًا" بفتح الهمزة ممدودة ومقصورة، وبهما قرئ في السبع، وكسر النون وبالفاء، أي: قريبًا "سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم".
قال الأبي: لا دلالة فيه على أنها آية منها، ولا من كل سورة، وإنما هو في المعنى؛ كقول الشاطبي: ولا بد منها في ابتداء سورة. انتهى، يعني: أن يستحب ابتداء القراء بها في غير الصلاة اتفاقًا: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أكَّد مع ضمير العظمة إشارة إلى عظمة المعطي والمعطى والمعطى له، وتشويقًا إليه، ونفيًا للشبهة فيه، وعبَّر بلفظ الماضي دلالة على أن الإعطاء حصل في الزمان الماضي؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"كنت نبيًّا وآدم بين الروح والجسد" رواه أحمد وغيره، ولا شكَّ أن من كان في ماضي الزمان عزيزًا، مرعي الجانب، أشرف ممن يصير كذلك {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} أمر بالصلاة مطلقًا، أو التهجد بالليل، وكان الظاهر: فاشكر، فعدل عنه؛ لأن مثل هذه النعمة العظيمة ينبغي أن يكون شكرها العبادة، وأعظمها الصلاة، فأمر بأعظم العبادات بالنفس وبالمال بقوله:{وَانْحَرْ} البدن؛ لأنَّ النحر يختص بها، وفي غيرها يقال: ذبح، وإن جاز نحر البقر، وخص الشكر بالمال بها؛ لأنها كرائم أموال العرب {إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مبغضك {هُوَ الْأَبْتَرُ} منقطع العقب، وقيل: المنقطع عن كل خير، قال في الإتقان: والأشبه أن القرآن كله نزل يقظة، وفهم فاهمون من هذا الحديث أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وأجاب الرافعي بأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزَّلة في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذي نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم وفسَّره لهم، أو الإغفاءة ليست نومًا، بل هي البرحاء التي كانت تعتريه عند الوحي، قلت: والأخير أصح من الأوّل، أي: وجيهه؛ لأن قوله: "أنزلت عليَّ آنفًا" يدفع كونها أنزلت قبل ذلك، ثم قال:"أتدرون ما الكوثر"، قلنا: الله ورسوله أعلم" فيه حسن أدبهم رضي الله عنهم، "قال: "إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل...." الحديث تمامه: "في الجنة، عليه خير كثير، وهو حوضي، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلع العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقال: ما تدري ما أحدث بعدك" ، "لكن
البخاري أنَّ الكوثر هو النهر الذي يصب في الحوض. وعند أحمد: "ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض" وعند مسلم: "ويغت فيه" -يعني: الحوض- ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب والآخر من ورق".
وقوله: "يغت" بالغين المعجمة، أي: يصب.
وفي البخاري من حديث قتادة عن أنس قال: لما عُرِجَ بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: "أتيت على نهر حافَّتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر".
فيه" أي: في قوله في بقية الحديث: "وهو حوضي
…
" إلخ.
"إطلاق الكوثر على الحوض" باعتبار أنه ممدود منه، فكأنه قيل: هو مادة حوضي، فلا تنافي بينه وبين قوله:"نهر في الجنة""و" يؤيد ذلك أنه "قد جاء صريحًا في حديث البخاري أنَّ الكوثر هو النهر الذي يصب في الحوض، وعند أحمد: "ويفتح نهر الكوثر" الذي في الجنة "إلى الحوض" الذي فيه الموقف.
"وعند مسلم" من حديث أبي ذر: "يغت" بمعجمة وفوقية "فيه" يعني: الحوض "ميزابان يمدَّانه" بفتح التحتية وضمها من مَدَّ وأَمَدَّ.
زاد "من الجنة: أحدهما من ذهب، والآخر من ورق" فضة، "وقوله: يغت بالغين" المعجمة مضمومة ومكسورة، كما قال النووي وغيره: "أي: يصب" وفي النهاية: أي: يدفقان فيه الماء دفقًا دائمًا متتابعًا.
وفي البخاري" في التفسير، ورواه مسلم أيضًا، كلاهما "من حديث قتادة عن أنس، قال: لما عُِرجَ بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، قال:"أتيت على نهر حافَّتاه" بحاء مهملة وخفة الفاء- جانباه، لأنه ليس أخدودًا، أي: شقًّا مستطيلًا في الأرض يجري فيه الماء حتى يكون له حافتان، ولكنه سائل على وجه أرض الجنة، فما جاوز ما انتهى إليه سيلانه هو جانبه.
روى أبو نعيم وابن مردويه وصحَّحه الضياء عن أنس، رفعه:"لعلكم تظنون أنَّ أنهار الجنة أخدود في الأرض، لا والله، إنها لسائحة على وجه الأرض" ، "قباب" بكسر القاف وخفة الموحدة جمع قبة، والترمذي:"حافَّتاه فيهما لؤلؤ مثل القباب"، فالمراد في جانبيه مثل قباب "اللؤلؤ المجوف" بفتح الواو مشددة صفة اللؤلؤ.
قال المصنف: ولأبي ذر: مجوفًا، أي: بالنصب حالًا من اللؤلؤ، وفي رواية للبخاري وغيره: قباب الدر المجوف، وأعربه المصنف وغيره صفة للدر، "فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر" زاد البخاري في الرقاق: "الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر" بذال معجمة، أي:
ورواه ابن جرير عن شريك بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال: لما أُسْرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلم مضى به جبريل، فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فذهب يشم ترابه، فإذا هو مسك، قال: يا جبريل، ما هذا النهر؟ قال: هذا الكوثر الذي الذي خبَّأ لك ربك.
وروى أحمد عن أنس: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال:"نهر في الجنة أعطانيه ربي، لهو أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل".
وعن أبي عبيدة عن عائشة قال: سألتها عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قالت: نهر أعطيه نبيكم في الجنة، شاطئاه عليه در مجوّف، آنيته كعدد النجوم" رواه البخاري.
وقوله: "شاطئاه" أي: حافَّتاه.
شديد الرائحة الطيبة، ولأبي نعيم وغيره عن أنس، قلت: يا رسول الله، ما الأذفر؟ قال:"الذي لا خلط معه، وطينه بنون على المعتمد"، ففي رواية البيهقي: ترابه مسك.
ورواه ابن جرير عن شريك بن أبي نمر" بفتح النون وكسر الميم "قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم" أي: لما عُرِجَ به -كما عبَّر في البخاري في التي قبلها- ليلة الإسراء ودخل الجنة، "مضي به جبريل" فيها، "فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد" جوهر معروف، ويقال: هو الزمرد، "فذهب يشم" بكسر الشين وضمها لغة "ترابه، فإذا هو مسك، "قال: يا جبريل ما هذا النهر؟ قال: هذا الكوثر الذي خبَّأ" -بالهمز- "لك ربك" أي ستره وادخره.
"وروى أحمد عن أنس، أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال: "نهر في الجنة أعطانيه ربي" والله "لهو أشدّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل" أي: ماؤه كما عبَّر به في الرواية الآتية.
"وعن أبي عبيدة" عامر بن عبد الله بن مسعود "عن عائشة قال" أبو عبيدة: "سألتها" أي: عائشة "عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، أي: ما المراد بالكوثر "قالت" هو نهر أعطيه نبيكم" صلى الله عليه وسلم "في الجنة، شاطئاه" أي: جانباه، "عليه" أي: على الشاطئ "در مجوف" بفتح الواو مشددة- صفة لدر، خبره الجار والمجرور، والجملة خبر المبتدأ الأول الذي هو شاطئاه، قاله المصنف:"آنيته كعدد النجوم".
"رواه البخاري" في التفسير، والنسائي، "وقوله: شاطئاه، أي: حافَّتاه، وقوله: در مجوف.
وقوله: در مجوف" أي: القباب التي على جوانبه.
ورواه النسائي بلفظ قالت: نهر في بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها، حافَّتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت.
و"بطنان" بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون.
و"وسط" بفتح المهملة، المراد به أعلاها، أي: أرفعها قدرًا، أو المراد به: أعدلها.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة، حافَّتاه من الذهب، والماء يجري على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل" رواه أحمد وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال: هو نهر في الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل،
أي: القباب التي على جوانبه" بدليل روايته أنس آنفًا: حافَّتاه قباب اللؤلؤ "ورواه النسائي بلفظ: قالت عائشة: هو "نهر في بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها، حافَّتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه" المعبَّر عنه في الرواية السابقة: بطينه، "المسك، وحصباؤه" بالمد، أي: حصاه: جمع حصبة بزنة قصبة "اللؤلؤ والياقوت" وبطنان -بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون فألف فنون "ووسط بفتح المهملة، والمراد به: أعلاها، أي: أرفعها قدرًا، أو المراد به أعدلها" من حيث الفضل بكثرة الخدم والآلات.
"وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر" صيغة مبالغة في المفرط كثرة، "نهر في الجنة، حافَّتاه من الذهب" لا يناقض ما قبله: حافتاه اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، لجواز أنها مبنية بذهب مرصعة بذلك، ويؤيده قوله:"والماء يجري على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل".
"رواه أحمد والترمذي "وابن ماجه، وقال الترمذي بعد أن رواه:"حسن صحيح" الذي في الجامع معزوًّا للثلاثة عن ابن عمر، لفظه:"الكوثر نهر في الجنة، حافَّتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، ترتبه أطيب ريحًا من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضًا من الثلج".
"وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، قال: هو نهر في الجنة" كأنَّه بلغه ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع عن تفسيره بالخير الكثير الثابت في البخاري عنه؛ لأنه قال أولًا بناء على مدلول اللغة، فلمَّا بلغه خبر الصادق المصدوق بتخصيصه بنهر الجنة رجع عنه؛ إذ
شاطئاه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خصَّ الله به نبيه قبل الأنبياء. رواه ابن أبي الدنيا موقوفًا.
وعن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: "نهر أعطانيه الله" -يعني: في الجنة- "أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق البخت، أو أعناق الجزر"، قال عمر: إنها لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكلتها أنعم منها". رواه الترمذي، وقال: حسن.
و"الجزر" بضم الجيم والزاي، جمع جزور وهو البعير.
قال الحافظ ابن كثير: قد تواترت -يعني: أحاديث الكوثر- من طرقٍ تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث، وكذلك أحاديث الحوض، قال: وهكذا روى
النصَّ مقدَّم على الاستنباط "عمقه سبعون ألف فرسخ" عورض بما رواه ابن أبي الدنيا عنه -أي: ابن عباس- أنَّه سُئِلَ ما أنهار الجنة، أفي أخدود؟ قال: لا، ولكنها تجري على أرضها، لا تفيض ههنا ولا ههنا، وأجيب بأن المراد أنها ليست في أخدود كالجداول ومجاري الأنهار التي الأرض، بل سائحة على وجه أرض الجنة مع عظمها وارتفاعها، فلا ينافي ما ذكر في عمقها، "ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، شاطئاه" أي: حافَّتاه "اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خص الله به نبيه قبل الأنبياء".
رواه ابن أبي الدنيا موقوفًا" على ابن عباس، وله حكم الرفع إن صحَّ؛ إذ لا مجال للرأي فيه، "وعن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: "نهر أعطانيه الله"، -يعني: في الجنة- "أشد بياضًا من اللبن" أي: ماؤه، "وأحلى من العسل، فيه طير".
وفي رواية: ترده طير "أعناقها كأعناق البخت" نوع من الإبل، الواحد بختي، مثل روم ورومي، "أو أعناق الجزر" شك الراوي، ويحتمل أنَّ أو للتنويع، أي: بعضها كأعناق البخت وبعضها كأعناق الجزر، "قال عمر بن الخطاب: إنها لناعمة" حيث شبهت أعناقها بذلك، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكلتها" جمع آكل "أنعم منها"، رواه الترمذي وقال: حسن" وصحَّحه الحاكم.
وروى البيهقي عن حذيفة رفعه: أنَّ في الجنة طيرًا أمثال البخاتي، قال: أبو بكر: إنها الناعمة يا رسول الله، قال:"أنعم منها من يأكل منها، وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر"، "والجزر: بضم الجيم والزاي جمع جزور وهو البعير" كقوله:
لا يبعدون قومي اللذين هم
…
سم العداة وآفة الجزر
"قال الحافظ ابن كثير: قد تواتر -يعني: حديث الكوثر- من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث" الذين لهم الاطلاع على الطرق، "وكذلك أحاديث الحوض، قال:
عن أنس وأبي العالية ومجاهد وغير واحد من السلف: إن الكوثر نهر في الجنة.
وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم في الجنة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والفضيلة، فروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سمعتنم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنَّ مَنْ صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة".
وهكذا روي عن أنس وأبي العالية" رفيعه بن مهران "ومجاهد، وغير واحد من السلف، أنَّ الكوثر نهر في الجنة"، وهو المشهور المستفيض.
وأما تفضيله صلى الله عليه وسلم في الجنَّة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والفضيلة، فروى مسلم" في الصلاة "من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص" الصحابي بن الصحابي، "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا" قولًا "مثل ما يقول" أي: مثل قوله بدون صفته، فلا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن؛ لأن قصده الإعلام، وقصد السامع الذِّكْر، فيكفي السر أو الجهر بلا رفع صوت، نعم، لا يكفي إجراؤه على قلبه بلا لفظ؛ لظاهر الأمر بالقول، ولا يطلب بقيام وغير ذلك مما يطلب من المؤذّن، ويستثنى من مثلية القول الحيعلتان، فيبدلهما بلا حول ولا قوة إلا بالله كما في الصحيحين، "ثم صلوا عليَّ، فإنه مَنْ صلى عليَّ صلاة" واحدة "صلى الله عليه بها عشرًا" أي: عشر صلوات، أي: رحمة، وضاعف أجره بشهادة "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" ، وفائدة ذكره وإن كانت كل حسنة كذلك أنَّه تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلّا ذكره، فكذلك جعل ذِكْرَ نبيه ذكر من ذكره، ولم يكتف بذلك، بل زاد كما في حديث أنس عند أحمد، وصحَّحه ابن حبان والحاكم "وحُطَّ عنه عشر خطيئات، ورفع له عشر درجات" قيل: إنما هذا لمن فعل ذلك محبَّة وأداءً لحقه صلى الله عليه وسلم من التعظيم والإجلال، لا لمن قصد به الثواب أو قبول دعائه، قال عياض: وفيه نظر.
وقال الحافظ: هو تحكم غير مرضي، ولو أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه، "ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة" عظيمة "في الجنة، لا تنبغي" لا تكون "إلّا لعبد" واحد عظيم، فالتنوين والتنكير للتعظيم "من عباد الله" الأشراف المقربين، فالإضافة لاختصاصهم بالشرف والقرب من سيدهم، "وأرجو أن أكون أنا" تأكيد للضمير المستتر في أكون، "هو" خبر وضع بدل إياه، ويحتمل أن لا يكون تأكيدًا، بل مبتدأ وخبر، والجملة خبر أكون، ويجوز أن هو وضع موضع اسم الإشارة، أي: أكون أنا ذلك، قاله الأبي، "فمن سأل الله لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة" أي: وجبت له شفاعة تناسبه زيادة على شفاعته في جميع أمته، كشفاعته لأهل
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الوسيلة عَلَمٌ على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش.
وقال غيره: الوسيلة "فعيلة" من وسل إليه إذا تقرَّب، يقال: توسَّلت أي: تقرَّبت، وتطلق على المنزلة العليّة، كما قال في هذا الحديث، فإنها منزلة في الجنة، على أنه يمكن ردَّها إلى الأول، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فيكون كالقربة التي يتوسّل بها، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية، وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله تعالى، وهي أعلى درجة في الجنة، وأمر أمته أن يسألوها له؛ لينالوا بهذا الدعاء الزلفى وزيادة الإيمان، وأيضًا: فإن الله تعالى قدَّرها له بأسباب، منها: دعاء أمته له بها بما نالوه على يده من الهدى والإيمان.
المدينة، وفي بعض أصول مسلم له بدل عليه، وقيل: معنى حلَّت غشيته ونزلت به، نقله عياض عن المهلّب وقال: الصواب: وحلت من حلَّ يَحِلُّ -بالكسر- إذا وجب، وأما حَلَّ يَحُلُّ -بالضم، فمعناه نزل، زاد الحافظ: ولا يجوز أن يكون حَلَّت من الحِلِّ؛ لأنها لم تكن قبل ذلك محرَّمَة، قال المصنف في مقصد المحبَّة، وذكره بلفظ الرجاء: وإن كان محقق الوقوع أدبًا وإرشادًا وتذكيرًا بالخوف وتفويضًا إلى الله تعالى بحسب مشيئته، وليكون الطالب للشيء بين الخوف والرجاء. انتهى.
وقال القرطبي: هذا الرجاء قبل علمه أنه صاحب المقام المحمود، ومع ذلك فإن الله يزيده بدعاء أمته له رفعة كما يزيدهم بصلاتهم عليه.
"قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الوسيلة عَلَمٌ على أعلى" أرفع وأفضل "منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش".
"وقال غيره: الوسيلة فعيلة من وَسَلَ" من باب وعد، "إليه، إذا تقرَّب، يقال: توسَّلت إذا تقربت، وتطلق" الوسيلة أيضًا "على المنزلة العلية، كما قال في هذا الحديث، فإنها منزلة في الجنة" علية "على أنه يمكن ردها إلى الأوّل، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله" القرب المعنوي، "فيكون كالقربة التي يتوسّل بها" أي: يتقرب، "ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية، وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله تعالى، وهي أعلى درجة في الجنة" ليس فوقها درجة "وأمر" صلى الله عليه وسلم "أمته أن يسألوها له" مع أنها محققة الوقوع له، "لينالوا بهذا الدعاء الزلفى" القرب، "وزيادة الإيمان" بالله ورسوله، "وأيضًا فإن الله تعالى قدَّرها له بأسباب، منها: دعاء أمته له بها بما نالوه
وأما الفضيلة فهي المرتبة الزائدة على سائر الخلق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرًا للوسيلة.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة درجة عند الله عز وجل، ليس فوقها درجة، فسلوا الله لي الوسيلة". رواه أحمد في المسند، وذكره ابن أبي الدنيا، وقال:"الوسيلة درجة ليس في الجنة أعلى منها، فسلوا الله أن يؤتينها على رءوس الخلائق".
وروى ابن مردويه عن عليٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله فسلوا لي
على يده من الهدى والإيمان"، فهي من الشكر على ذلك، "وأما الفضيلة فهي المرتبة الزائدة على" مراتب "سائر الخلائق"؛ لأن الفضل الزيادة، "ويحتمل" بعد ذلك "أن تكون منزلة أخرى، "يحتمل أن تكون "تفسيرًا للوسيلة".
روى البخاري وأحمد والأربعة عن جابر مرفوعًا: "من قال حين يسمع النداء: اللهمَّ رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة".
قال السخاوي: وزيادة، والدرجة الرفيعة لم أرها في شيء من الروايات، ولا في نسخ الشفاء إلّا في نسخة علم عليهاكاتبها بما يشير إلى الشكِّ فيها، وقد عقد لها في الشفاء فصلًا في مكان آخر، ولم يذكر فيه حديثًا صريحًا، وهو دليل لغلطها، قاله المصنف في مقصد المحبة. فعجيب نقله عن غيره، ولكن آفة العلم النسيان.
وعن أبي سعيد" بكسر العين سعيد بسكونها- ابن مالك ابن سنان "الخدري، "الصحابي ابن الصحابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة درجة" منزلة رفيعة "عند الله عز وجل، ليس فوقها درجة" بل هي أعلى الدرجات كما يأتي، وهو مفاد النفي عرفًا وإن صدق لغة بالتساوي، "فسلوا الله لي الوسيلة".
"رواه أحمد في المسند، وذكره" أي: رواه "ابن أبي الدنيا، وقال" في سياقه: "الوسيلة درجة ليس في الجنة أعلى منها، فسلوا الله أن يؤتينها على رءوس الخلائق" فصرَّح بأنها أعلى الدرجات، فعلم أنه المراد في قوله:"ليس فوقها درجة" ووجه تخصيص الدعاء له صلى الله عليه وسلم بالوسيلة والفضيلة بعد الأذان أنَّه لما كان دعاء إلى الصلاة، وهي مقرَّبة إلى الله تعالى ومعراج المؤمنين، ومما امتنَّ به علينا بإرشاده وهدايته صلى الله عليه وسلم ناسب أن يجازى على ذلك بالدعاء له بالتقرب إلى الله ورفعة المنزلة، فإن الجزاء من جنس العمل.
"وروى ابن مردويه" بفتح الميم وقد تكسر "عن عليٍّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم
الوسيلة"، قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك؟ قال: "علي وفاطمة والحسن والحسين"، لكن قال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه حديث غريب منكر من هذا الوجه.
وعند ابن أبي حاتم من حديث عليٍّ أيضًا: أنَّه قال على منبر الكوفة: أيها الناس، إنَّ في الجنة لؤلؤتين، إحداهما بيضاء، والأخرى صفراء، فأمَّا البيضاء فإنها إلى بطنان العرش، والمقام المحمود من الؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسِرَّتها وسكانها من عرق واحد، واسمها الوسيلة، هي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والصفراء فيها مثل ذلك، هي لإبراهيم عليه السلام وأهل بيته. وهي أثر غريب كما نبَّه عليه الحافظ بن كثير أيضًا.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}
الله فسلوا لي الوسيلة" أعلى منازل الجنة "قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك؟ " فيها، على سبيل التبعية لك؛ إذ هي لا تكون إلّا لواحد "قال: عليّ وفاطمة والحسن والحسين، لكن قال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه حديث غريب منكر" أي: ضعيف "من هذا الوجه" الذي أخرجه منه ابن مردويه.
وعند ابن أبي حاتم" الحافظ ابن الحافظ عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي، من حديث عليٍّ أيضًا أنه قال على منبر الكوفة: أيها الناس، إن في الجنة لؤلؤتين، إحداهما بيضاء، والأخرى صفراء، فأمَّا البيضاء فإنها إلى بطنان العرش" بضم الموحدة وإسكان الطاء المهملة ونونين بينهما ألف، أي: إلى جهة أعلاه، أي: إنها أقرب إلى أعلاه من غيرها، "والمقام المحمود " مبتدأ خبره "من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق" أي: أصل "واحد، واسمها الوسيلة، هي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، و" اللؤلؤة قسيم قوله: فأمَّا البيضاء بتقدير، وأمَّا اللؤلؤ "الصفراء" على نحو قوله تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] بعد قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] في أحد الوجهين "فيها مثل ذلك، هي لإبراهيم عليه السلام وأهل بيته" وهذا حكمه الرفع؛ إذ لا يقال إلّا عن توقيف "و" لكن هي أثر غريب كما نبه عليه الحافظ ابن كثير أيضًا".
"وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قال: أعطاه الله تعالى في الجنة ألف قصر" من لؤلؤ أبيض، ترابها المسك، كما في المقصد السادس عن ابن
[الضحى: 5] قال: أعطاه في الجنة ألف قصر، وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والدم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريقه، ومثل هذا لا يقال إلّا عن توقيف، فهو في حكم المرفوع.
عباس "وفي كل قصر" من الألف "ما ينبغي" ما يليق "له من الأزواج والخدم".
رواه ابن جرير محمد الطبري "وابن أبي حاتم من طريقه، ومثل هذا" من الإخبار عن الغيب "لا يقال إلّا عن توقيف" من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في حكم المرفوع" وإن كان موقوفًا لفظًا، وهكذا كل ما جاء عن صحابي إن أمكن كونه رأيًا، فليس له حكم الرفع، وإلّا فله حكمه، وليس المراد حصر ما أعطاه فيما ذكر؛ لأن الآية دلَّت على أنه يعطيه كل ما يرضيه مما لا يعلم حقيقته إلا الله.
وقد روى الديلمي في الفردوس عن عليٍّ قال: لما نزلت قال صلى الله عليه وسلم: "إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار".
ولأبي نعيم في الحلية عن عليٍّ في الآية قال: ليس في القرآن آية أربى منها، ولا يرضى صلى الله عليه وسلم أن يدخل أحد من أمته النار. وقوله:"ولا يرضي" موقوف لفظًا مرفوع حكمًا، ولا يشكل بما صح أن بعض بعض العصاة من أمته يدخل النار، وأنه تعالى يحد له صلى الله عليه وسلم حدًّا يشفع فيهم، فلا يدع أحدًا منهم، ولا يزيد على من أذن له في الشفاعة فيه، كما مَرَّ قريبًا، ولا شَكَّ أنه يرضى بما يرضى ربه؛ لأنه لا يبعد أن تعذيب العصاة غير مرضي لله، فلا يرضى به رسوله، فإذا لم يرض به لعدم رضا ربه شفعه فيهم، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، أو لا يرضى دخولهم على وجه الخلود، وإنما قال: أن يدخل دون أن يخلد قصد الإرادة نفي الرضا بالخلود عن نهج المبالغة والاستدلال، أو لا يرضى دخولهم النار دخولًا يشدد عليهم العذاب فيه، بل يكون خفيفًا لا تسود وجوهم ولا تزرق أعينهم كما وردت به الأحاديث، فهو تعذيب كتأديب الحشمة، بل قال صلى الله عليه وسلم:"إنما حر جنهم على أمتي كحر الحمام".
أخرجه الطبراني برجال ثقاتٍ من حديث الصديق، وللدارقطني عن ابن عباس رفعه:"إن حظَّ أمتي من النار طول بلائها تحت التراب" وقيل، غير ذلك في توجيه الحديث.
وإن كان ضعيفًا لتعدد طرقه كما سبق في المقصد السادس، وأنه لا وجه لقول المصنف هناك تبعًا لابن القيم: إنه افتراء لمخالفة حديث الشفاعة؛ لأنه إبطال للروايات بأوهام الشبهات، ولأنَّ تعليل الحديث بالافتراء ودعوى الكذب لا يكون بمخالفة ظاهر القرآن فضلًا عن الحديث، وإنما يكون من جهة الإسناد كما صرَّح به الحافظ ابن ظاهر وغيره، وللبزار والطبراني وأبي نعيم بسند حسن، كما قال المنذري عن على: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشفع لأمتي حتى يناديني ربي تبارك وتعالى: أرضيت يا محمد، فأقول: أي رب رضيت".