الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة:
عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليَّ من نفسي، إنك لأحبك إليَّ من أهلي، وإنك لأحبَّ إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي
"خاتمة":
ونسأل الله من فضله حسن الخاتمة في عافية بلا محنة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار بوجاهة الحبيب المختار، "عن عائشة" رضي الله عنه تعالى عنها "قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم" هو ثوبان أو عبد الله بن زيد الأنصاري، كما يأتي "فقال: يا رسول الله، إنك" والله "لأحب" فاللام جواب قسم مقدَّر "إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من أهلي، وإنك لأحب إليَّ من ولدي".
زاد في رواية: ومالي، ولا يلزم من تقديمه على نفسه تقديمه على من بعده؛ لأن الإنسان قد يسمح بموت نفسه عند حصول المشاق دون ولده، حرصًا على بقاء العقب، وهذا هو الإيمان الكامل المشار إليه بحديث:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين" ودخل في عموم الناس نفسه، ونصَّ عليها في حديث آخر.
كما مَرَّ بسط ذلك في مقصد المحبة، وأنَّ لها علامات كثيرة، منها: أنه لو خُيِّرَ بين فقد غرض من أغراضه وبين رؤيته عليه السلام، لو أمكنته- لكانت أشد عليه من فقد غرضه، فهو كامل الحب، ومن لا فلا.
قال القرطبي: كل من آمن به صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبَّة الراجحة، ولكنَّهم يتفاوتون فيها تفاوتًا ظاهرًا، فمنهم من أخذ بالحظ الأوفى، ومنهم أخذ بالأدنى؛ لاستغراقه في الشهوات وحجبه بالغفلات، لكن الكثير منهم إذا ذكره صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته؛ بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده، ويُلْقِي نفسه في الأمور الصعبة، ومن ذلك من يؤثر زيارة قبره ومواضع آثاره على جميع ما ذكر؛ لما ثبت في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال لتوالي الغفات. انتهى.
"وإني لأكون في البيت" أي: بيتي "فأذكرك" أي: أتذكرك في ذهني وأتصورك، أو أذكر اسمك وصفاتك، فهو من الذََّكر بالكسر أو الضم، "فما أصبر" عن رؤيتك للجزع والقلق الزائدين "حتى آتيك فأنظر إليك" فتطمئنّ نفسي وينشرح صدري، فقوله:"إنك لأحب، أي: أوثر محبتك حبًّا اختيارًا إيثارًا لك على ما يقتضي العقل رجحانه من حبِّك إكرامًا لك، وإن كان حب نفسي وولدي وغيرهما مركوزًا في غريزتي، "وإذا" وفي رواية: "وإني "ذكرت موتي
وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، حتى نزل عليه جبريل عليه السلام بهذه الآية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] رواه أبو نعيم عن عائشة، وقال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: لا أعلم بإسناد هذا
وموتك" أي: مكاني ومكانك بعد الموت، "عرفت" تحقَّقت "أنك إذا دخلت الجنة" بعد الموت "رفعت" إلى الدرجات العلا مع النبيين صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين، "وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك" فيها؛ لأنك في مقام لا يصل إليه غيرك، "فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا حتى نزل جبريل عليه السلام بهذة الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء: 69] بامتثال أمه ونهيه، ويلزمه محبته له أيضًا.
ولم تذكر لتحققها الذكر الرجل لها والعلم بخلوصه فيها {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بنعيم الجنة وعالي مراتبها، ففيه تبشير له بمرافقة أفضل خلق الله وأكرمهم وأرفعهم منزلة، {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} بيان للمنعَم عليهم بما أُخْفِيَ لهم من قرة أعين، {وَحَسُنَ أُولَئِكَ} تعجب، أي: ما أحسنهم {رَفِيقًا} تمييز، ولم يجمع لوقوعه على الواحد وغيره.
قال البيضاوي: قسمهم أربعة أقسام باعتبار منازلهم في العلم والعمل، وهم الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المجاوزون حدَّ الكمال إلى درجة التكميل، ثم صديقون صعدت نفوسهم تارةً إلى مراقي النظر في الحجج والآيات، وأخرى إلى معارج القدس بالرياضة والتصفية حتى اطَّلعوا على ما لم يطلع عليه غيرهم، ثم شهداء بذلوا أنفسهم في إعلاء كلمة الله وإظهار الحق، ثم صالحون صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته، ولك أن تقول: المنعَم عليهم هم العارفون بالله، وهؤلاء إمَّا أن يكونوا بالغين درجة العيان، أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان، والأوَّلون إمَّا أن ينالوا مع العيان القرب؛ بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبًا، وهم الأنبياء أولًا، كمن يرى الشيء من بعد وهم الصديقون، والآخرون إمَّا أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة، وهم العلماء الراسخون الذين هم شهداء الله في الأرض، وإمَّا أن يكون بإمارات وإقناعات تطمئنّ إليها نفوسهم، وهم الصالحون. انتهى.
"رواه أبو نعيم" والطبراني في الصغير "عن عائشة" وابن مردويه عن ابن عباس، "وقال الحافظ أبو عبد الله" محمد بن عبد الواحد بن أحمد السعدي الحنبلي ضياء الدين "المقدسي، الدَّيِّن، الزاهد الورع، الحجة الثقة، صاحب التصانيف المشهورة، سمع ابن الجوزي وخلقًا، وُلِدَ سنة تسع وستين وخمسمائة، ومات سنة ثلاث وأربعين وستمائة، "لا أعلم بإسناد هذا
الحديث بأسًا. كذا نقله ابن القيم في "حادي الأرواح".
وذكره البغوي في "معالم التنزيل" بلفظ: نزلت -يعني: الآية- في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحبِّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم، وقد تغيِّر لونه، يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما غَيِّرَ لونك"؟ فقال: يا رسول الله، ما بي وجع ولا مرض، غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا. فنزلت هذه الآية.
الحديث بأسًا" أي: إن رواته مقبولون لم يجرَّح أحد منهم.
"كذا نقله ابن القيم في حادي الأرواح" إلى ديار الأفراح، "وذكره البغوي" محيي السنة الحسين بن مسعود، أحد الحفاظ، "في معالم التنزيل" اسم تفسيره بلا عزوٍ "بلفظ: نزلت -يعني: الآية- في ثوبان" بفتح المثلثة والموحدة- ابن بجدد -بضم الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى، "مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال في الإصابة: يقال: إنه من العرب، من حكم بن سعد بن حمير، وقيل: من السراة، اشتراه ثم أعتقه، فخدمه إلى أن مات، ثم تحوّل إلى الرملة، ثمَّ إلى حمص، ومات بها سنة أربع وخمسين.
روى ابن السَّكَن عنه أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأهله، فقلت: أنا من أهل البيت، فقال في الثالثة:"نعم، ما لم تقم على باب سدة، أو تأت أميرًا فتسأله"، ولأبي داود عن أبي العالية، عن ثوبان، قال صلى الله عليه وسلم:"من يتكفل إليّ أن لا يسأل الناس أتكفل له بالجنة"، فقال ثوبان: أنا، وكان لا يسأل أحدًا شيئًا، تقدَّم ذكره في الموالي النبوية، "وكان شديد الحب" بضم الحاء- المحبَّة، أما بكسرها فالمحبوب، "لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه" ولذا لازمه حضرًا وسفرًا، "فأتاه ذات يوم وقد تغيِّر لونه".
وعند الثعلبي: تغيِّر وجهه ونحل جسمه، "يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما غيِّرَ لونك؟ " فقال: يا رسول الله، ما بي وجع" أي: مرض مؤلم، "ولا مرض مطلق علة، ويقع الوجع أيضًا على كل مرض، لكن لا يرد هنا ليحصل التغاير، "غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة" أي: حصل لي انقطاع وبعد قلب وعدم استئناس "حتى ألقاك" فتزول وحشتي، "ثم ذكرت الآخرة" أي: فكَّرت في أمرها، "فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين" في أعلى الدرجات، "وإني إن دخلت الجنة" أكون "في منزلة أدنى من منزلتك" فتقل رؤيتي لك؛ بدليل قوله: "وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا. فنزلت هذه الآية".
وكذا ذكره ابن ظفر في "ينبوع الحياة"، لكن قال: إن الرجل هو عبد الله بن زيد الأنصاري، الذي رأى الأذان.
وليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فالمراد كونهم في الجنة؛ بحيث يتمكَّن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية.
قال الولي العراقي: هكذا ذكره الثعلبي في تفسيره بلا إسنادٍ ولا راوٍ، وحكاه الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي.
وروى الطبراني في الصغير عن عائشة، وابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن الشعبي، وابن جرير عن سعيد بن جبير، كل منهم يحكي عن رجل، فذكر مثل قصة ثوبان ونزول الآية فيه. انتهى.
"وكذا ذكره ابن ظفر" بفتح الظاء المعجمة والفاء وراء- واسمه: محمد بن محمد بن ظفر الصقلي، أبو عبد الله الأديب الفاضل، له تصانيف، ولد بصقلية، وسكن حماة، وبها مات سنة خمس وستين وخمسمائة، "في ينبوع الحياة" اسم تفسيره وهو كبير، "لكن قال" عن مقاتل بن سليمان، "أنَّ الرجل هو عبد الله بن زيد" بن عبد ربه "الأنصاري" الخزرجي، "الذي رأى الأذان" في منامه، مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: استُشْهِدَ بأحد، فإن صحَّ فلعل كلًّا منهما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، وقد ورد أن قائل ذلك جمع كثير، فروى ابن أبي حاتم عن مسروق، قال: قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما ينبغي لنا أن نفارقك، فإنك لو مت لرفعت فوقنا ولم نرك، فأنزل الله الآية، وهي وإن كان سببها خاصًّا فهي عامَّة لجميع من أطاع الله ورسوله، ولا ينحصر في تسلية المحبين والتخفيف عنهم، بل يشمل ذلك وغيره، وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فمن فعل ذلك فاز بالدرجا العالية عند الله تعالى، "وليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل في درجة واحدة؛ لأنَّ هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز" اعتقاده؛ لأن الأنبياء لا يساويهم غيرهم بالنصوص والإجماع، "فالمراد" بالمعية "كونهم في الجنة؛ بحيث يتمكَّن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بَعُدَ المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك"؛ إذ لو عجزوا عنه لتحسَّروا، ولا حسرة في الجنة "فهذا هو المراد من هذه المعية" لا المساواة في المنزلة.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس، أن رجلًا قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال:"وما أعددت لها؟ " قال: لا شيء، إلّا أني أحب الله ورسوله، قال:"أنت مع من أحببت"، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم.
"وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس، أن رجلًا" قال الحافظ: هو ذو الخويصرة اليماني، الذي بال في المسجد، وحديثه بذلك مخرَّج عند الدارقطني، ومن زعم أنه أبو موسى أو أبو ذر فقد وَهِمَ، فإنهما وإن اشتركا في معنى الجواب وهو المرء مع مَنْ أحب، فقد اختلف سؤالهما، فإن كلًّا من أبي موسى وأبي ذر إنما سأل عن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم.
هذا. "قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ " زاد في رواية: قائمة -بالرفع- خبر الساعة، فمتى ظرف متعلق به، والنصب حال من الضمير المستكن في متى؛ إذ هو على هذا التقدير خبر الساعة، فهو ظرف مستقر.
وفي رواية لمسلم: متى تقوم الساعة؟ ولما احتمل السؤال التعنّت والخوف من الله، امتحنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث "قال:"وما أعددت لها" هكذا في رواية للشيخين.
وفي رواية لهما أيضًا: ويحك، وما أعددت لها؟ قال الطيبي: سلك مع السائل طريق الأسلوب الحكيم؛ لأنه سأله عن وقت الساعة وأيَّان إرساؤها، فقيل له: فيم أنت من ذكراها، وإنما يهمك أن تهتم بأهبتها، وتعتني بما ينفعك عند إرسائها من العقائد الحقَّة والأعمال الصالحة المرضية، فأجاب حيث "قال: لا شيء".
وفي رواية للبخاري، قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولمسلم: ما أعددت لها من كثير عمل أحمد عليه نفسي، وكثير بمثلثة، "إلّا أني أحب الله ورسوله" يحتمل الاتصال والانقطاع، قاله الكرماني.
وفي رواية في الصحيح أيضًا: ولكني أحب الله ورسوله، "قال:"أنت" وفي رواية: إنك "مع من أحببت" أي: ملحق بهم، وداخل في زمرتهم، لما امتحنه وظهر له من جوابه صدق إيمانه ألحقه بمن ذكر، "قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مع مَنْ أحببت".
وفي رواية في الصحيح أيضًا: فقلنا: ونحن كذلك، قال صلى الله عليه وسلم:"نعم" ففرحنا يومئذ فرحًا شديدًا، وفي أخرى. فلم أر المسلمين فرحوا فرحًا أشد منه، وفي أخرى: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام ما فرحوا به، "قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم" والحديث متواتر.
وفي الحديث الإلهي الذي رواه حذيفة -كما عند الطبراني بسند غريب- أنه تعالى قال: "ما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه" الحديث. وفيه من الزيادة على حديث البخاري: ويكون
قال في الفتح: جمع أبو نعيم الحافظ طرقه في كتاب المحبين مع المحبوبين، فبلغ عدد الصحابة فيه نحو عشرين، ولفظ أكثرهم:"المرء مع مَنْ أحب"، وفي بعضها بلفظ حديث أنس:"أنت مع من أحببت".
"وفي الحديث الإلهي" المنسوب لله تعالى، مما تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، أو بواسطة، احتمالان في جميع الأحاديث الإلهية، وليس لها حكم القرآن، فيمسها المحدِثُ وتبطل الصلاة بقراءتها فيها، وغير ذلك، "الذي رواه حذيفة" بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم "كما عند الطبراني بسند غريب" لفظ الفتح حسن غريب مختصر. انتهى.
فأوله قوله "أنه تعالى قال: "ما تقرَّب إليَّ عبدي" بإضافة التشريف "بمثل أداء ما افترضت عليه" أي: تأديته لا المقابل للقضاء فقط، قال الحافظ: ظاهرة الاختصاص بما ابتدأ الله فرضه، وفي دخول ما أوجبه المكلّف على نفسه نظرًا للتقييد بقوله: "افترضت عليه" لا أن أخذ من جهة المعنى الأعمّ، ويستفاد منه أنَّ أداء الفرض أحبَّ الأعمال إلى الله، قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم، ويقع بتركها المعاقبة، بلاف النقل في الأمرين وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب، فكانت الفرائض أحبَّ إلى الله تعالى وأشد تقربًا، "ولا".
هكذا رواية الطبراني عن حذيفة بلفظ: ولا، وللبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: وما "يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل" من صلاة وصيام وغيرهما "حتى أحبه" بضم أوَّله، أي: أرضى عنه، والتقرُّب طلب القرب.
قال أبو القاسم القشيري: قرب العبد من ربه يقع أولًا بإيمانه ثم بإحسانه، وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه، وفي الآخرة من رضوانه، وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه، وقرب الرب بالعلم والقدرة عامّ للناس، وباللطف والنصرة خاص بالخواص، وبالتأنيس خاص بالأولياء.
وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني والبيهقي: "يتحبَّب إليَّ" بدل يتقرَّب، واستشكل كون النوافل تنتج محبة الله؛ لأنه تعالى جعلها مرتبة على كثرتها، ولا تنتجها الفرائض؛ لأنه جعلها أحب الأشياء إليه، ولم يذكر سبب الأحبية، فلم يرتب المحبة على الفرائض.
وأحيب، بأنَّ المراد النوافل إذا كانت مع الفرائض مشتملة عليها، أو مكملة لها لا مطلقًا، فإنما أنتجت المحبة من حيث الاشتمال والتكميل، وبأن الإتيان بالنوافل بمحض المحبَّة لا لخوف عقاب على الترك، فأنتجت محبة الله لكونها لا في مقابلة شيء، بخلاف الفرائض، ففعلها مانع
من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة".
فلله درها من كرامة بالغة، ونعمة على المحبين سابغة، فالمحب يرقى في درجات الجنات على أهل المقامات؛ بحيث ينظر إليه كما ينظر إلى الكوكب الغابر في أفق السماوات؛ لعلو درجته وقرب منزلته من حبيبه، ومعيته معه، وإن المرء
من العقاب عليها، فهي في مقابلة عوض وإن كانت أفضل.... "الحديث وفيه" أي: حديث حذيفة "من الزيادة على حديث البخاري" عن أبي هريرة الذي قدَّمه المصنف في مقصد المحبَّة مع الكلام عليه بنحو ورقتين، يعني:"فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيته، ولئن استعاذ بي لأعذته" ، "ويكون من أوليائي وأصفيائي" في الدنيا والآخرة، والمراد بولي الله: العالم بالله المواظب على طاعته، المخلص في عبادته، ولذا أشكل قوله: صدر حديث أبي هريرة: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب" بأنه لا يوجد معادٍِ للولي؛ لأن المعاداة إنما تقع من الجانبين، ومن شأن الولي الحلم والصفح عن كل مَنْ يجهل عليه، وأجيب كما في الفتح عن التعصب: كرافضي في بغضه لأبي بكر، ومبتدع في بغضه للسني، فتقع المعاداة من الجانبين، أما من جانب الولي فلله وفي الله تعالى، وأما من جانب الآخر فلما تقدَّم، وقد تطلق المعاداة ويراد بها الوقوع من أحد الجانبين بالفعل، ومن الآخر بالقوة، "ويكون جاري" بإسكان الياء، ويجوز فتحها "مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة" ولم يقل: والصالحين، إمَّا اكتفاءً أو تقصيرًا من الراوي.
وفي بعض النسخ: والصالحين، "فلله درها" بدال مهملة "من كرامة بالغة" إلى الغاية، "ونعمة على المحبين سابغة" بغين معجمة- عامَّة، "فالمحب يرقى في درجات الجنات على أهل المقامات" المراتب التي نالوها بمعرفتهم لله، وإن اختلفت باختلاف مراتبهم وعرفانهم وأعمالهم، فانتقلوا من معرفة إلى كشف، ومنه إلى مشاهدة، ومنها إلى معاينة، ومنها إلى اتصال، ومنه إلى فناء، ومنه إلى بقاء، إلى غير ذلك من المقامات المعلومة لأهلها؛ "بحيث ينظر إليه كما ينظر إلى الكوكب الغابر" بمعجمة وموحدة- أي: الباقي.
قال الأزهري: الغابر من الأضداد، يطلق على الماضي والباقي، والمعروف الكثير أنَّه بمعنى الباقي، وفي المطالع: الغابر البعيد أو الذاهب الماضي -كما في الرواية الأخرى: الغارب، يعني: بتقديم الراء على الموحدة، "في أفق السماوات؛ لعلوِّ درجته وقرب منزلته من حبيبه" كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف فوقهم كما تراءون الكوكب الغابر من الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم،
مع مَنْ أحب، ولكلِّ عملٍ جزاء، وجزاء المحبَّةِ المحبّةُ والوصول والقرب من المحبوب.
رؤيت امرأة مسرفة على نفسها بعد موتها فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لها، فقيل لها: بماذا؟ قالت: بمحبتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشهوتي النظر إليه، نوديت: من اشتهى النظر إلى حبيبنا نستحي أن نذله بعتابنا، بل نجمع بينه وبين من يحبه.
وانظر إلى قوله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29] وإن طوبى اسم شجرة في الجنة، غرسها الله بيده، وتنبت الحلي والحلل، وإن أغصانها لترى من وراء
قال صلى الله عليه وسلم: "بلى. والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
رواه الشيخان، "ومعيته معه، وإن المرء مع مَنْ أحب" في الجنة، بحسن نيته من غير زيادة عمل؛ لأن محبته لهم لطاعتهم، والمحبة من أفعال القلوب، فأثيب على ما اعتقده؛ لأن النية الأصل والعمل تابع لها، وليس من لازم المعية استواء الدرجات، قاله المصنف.
وفي البخاري في الأدب، باب علامة الحب لله، ولأبي ذر: الحب في الله؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، قال الكرماني: يحتمل أن يراد في الترجمة محبة الله للعبد، فهو المحب، أو محبة العبد لله فهو المحب، أو المحبة بين العباد في ذات الله؛ بحيث لا يشوبها شيء من الرياء، والآية مساعدة للأوّلين، واتباع الرسول علامة للأولى؛ لأنها مسببة للاتباع، وللثانية؛ لأنها مسببة. انتهى.
"ولكل عمل جزاء" كما دل عليه الكتاب والسنة، "وجزاء المحبَّة" مبتدأ خبره "المحبةُ والوصول والقرب من المحبوب، رؤيت امرأة مسرفة على نفسها" أي: مخالفة للمطلوب منها من فعل الطاعات واجتناب المناهي "بعد موتها" في المنام، "فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لي" إسرافي، "قيل لها: بماذا؟ قالت: بمحبتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهوتي النظر إليه، نوديت: مَنْ اشتهى النظر إلى حبيبنا نستحي أن نذله" نحقره "بعتابنا، بل نجمع بينه وبين من يحبه، وانظر" نظر تأمُّل وتدبُّر "قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29] مرجع "فإن طوبى" المرادة في الآية عند جماعة من المفسرين: "اسم شجرة في الجنة".
كما رواه ابن جرير عن قرة بن إياس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"طوبى شجرة في الجنة، غرسها الله بيده، ونفخ فيها من روحه" كما في حديث قرة المذكور، ومثله في حديث ابن عباس:"تنبت الحلي".
سور الجنة، وإن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم، وفي دار كل مؤمن منها غصن، فما من جنة من الجنات إلّا وفيها من شجرة طوبى؛ ليكون سر كل نعيم، ونصيب كل ولي من سرّه صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم ملأ الجنة، فلا ولي يتنعَّم في جنته إلّا والرسول متنعِّم بتنعمه؛ لأن الوليّ ما وصل إلى ما وصل إليه من النعيم إلا باتباعه لنبيه صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان سر النبوة قائمًا به في تنعمه، وكذلك إبليس ملأ النار، فلا عذاب لأحد من أهلها إلّا وإبليس -لعنه الله- سر تعذيبه، ومشارك له فيه.
وفي "البحر" لأبي حيان عند تفسير قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] قيل: هي عين في دار رسول الله صلى الله عليه وسلم تفجر إلى
وفي رواية: بالحلي، "والحلل" جمع حلة، "وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة لطولها، زاد في ابن عباس عند ابن مردويه: والثمار متدلية على أفواههم، أي: متدلية على أفواه أهلها، وأعاد الضمير من غير سبق ذكرهم للعلم به؛ نحو:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} .
ولابن مردويه عن ابن عمر، وأبي نعيم والديلمي عن ابن مسعود رفعاه:"طوبى شجرة في الجنة، لا يعلم طولها إلّا الله، فيسير الراكب تحت غصنٍ من أغصانها سبعين خريفًا، ورقها الحلل، يقع عليه كأمثال البخت".
وفي الصحيحين مرفوعًا: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها"، ولأحمد وابن حبان مرفوعًا:"طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها".
"و" حكى بعضهم "أنَّ أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم، وفي دار كل مؤمن منها غصن" سواء كان من أمته أم لا، كما صرَّح به في قوله:"فما من جنة من الجنان إلّا وفيها من شجرة طوبى"، ومعلوم أن الجنان ليست مقصورة على هذه الأمة؛ "ليكون سر كل نعيم، ونصيب كل ولي، من سره عليه السلام، وأنه صلى الله عليه وسلم ملأ الجنة، فلا ولي يتنعّم في جنته إلّا والرسول متنعِّم بتنعمه؛ لأن الولي ما وصل إلى ما وصل إليه من النعيم إلّا باتباعه لنبيه صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان سر النبوة قائمًا به في تنعمه"، وهذا ظاهر في الأمة المحمدية، وفي مؤمني الأمم السابقة أيضًا؛ لأنه قد أخذ على الأنبياء الميثاق أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، ولذا كان نبي الأنبياء، كما مَرَّ مبسوطًا في المقصد الأول.
"وكذا إبليس -لعنه الله- ملأ النار، فلا عذاب لأحد من أهلها إلّا وإبليس -لعنه الله- سر تعذيبه، ومشارك له فيه، وفي البحر" التفسير الكبير "لأبي حيان، عند تفسير قوله تعالى:{عَيْنًا} بدل من كافورًا {يَشْرَبُ بِهَا} أي: منها {عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} يجرونها إجراء سهلًا.
دور الأنبياء والمؤمنين.
وإذا علمت هذا، فاعلم أنَّ أعظم نعيم الجنة وأكمله التمتع بالنظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقرة العين بالقرب من الله ورسوله، مع الفوز بكرامة الرضوان التي هي أكبر من الجنان وما فيها، كما قال الله تعالى:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] .
قيل: هي عين في دار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دور الأنبياء والمؤمنين" كل بحسب مقامه، ثم ذكر المصنف بارقة صوفية لامعه بمعاني أحاديث نبوية، فقال: "وإذا علمت هذا" المذكور الدال على عظم نعيم الجنة، فاعلم أنَّ أعظم نعيم الجنة وأكمله التمتع بالنظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى" كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم، فيقولوا: ألم تبيِّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم" ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] .
رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن صهيب، قال القرطبي: معنى كشف الحجاب: رفع الموانع عن إدراك أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نعوت العظمة والجلال، فالحجاب إنما هو الخلق لا للخالق -تقدَّس وتعالى، وجاء مرفوعًا:"الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه لرحمن" من حديث أبي موسى وكعب بن عجرة وابن عمر وأُبَيّ بن كعب وأنس وأبي هريرة، كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء موقوفًا على الصديق وحذيفة وابن عباس وابن مسعود، وجاء عن جماعة من التابعين كما بسطه في البدور، وقال: قال البيهقي: هذا تفسير قد استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين، ومثله لا يقال إلّا بتوقيف، وقال يحيى بن معين: عندي سبعة عشر حديثًا كلها صحاح، وزاد عليه في البدور اثنين، وساق ألفاظ الجميع عازيًا لمخرجيهم، وقال: إنها بلغت مبلغ التواتر عندنا معاشر أهل الحديث "و" إلى وجه "رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرة العين" يردها وسرورها، "بالقرب من الله ورسوله، مع الفوز" الظفر "بكرامة الرضوان، إضافةً بيانية "التي هي أكبر" أجلّ وأعظم "من الجنان وما فيها، كما قال تعالى:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؛ لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة، والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء.
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: وما أفضل من ذلك، فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا".
ولا ريب أنَّ الأمر أجلَّ مما يخطر ببال أو يدور في خيال، ولا سيما عند فوز المحبين في روضة الأنس وحظيرة القدس بمعية محبوبهم، الذي هو غاية مطلوبهم، فأيّ نعيم وأيّ لذة وأيّ قرة عين وأيّ فوز يداني تلك المعية ولذاتها، وقرة العين بها، وهل فوق نعيم قرة العين بمعية الله ورسوله نعيم، فلا شيء والله أجلَّ ولا أكمل ولا أجمل ولا أجلى ولا أحلى ولا أعلى ولا أغلى من حضرة يجمتع فيها المحبّ بأحبابه في مشهد مشاهد الإكرام؛ حيث يتجلَّى لهم حبيبهم ومعبودهم الإله الحق جل جلاله خلف حجاب واحد في اسمه الجميل اللطيف، فينفقه عليهم نور يسري في ذواتهم، فيبهتون من جمال الله، وتشرق ذواتهم بنور ذلك الجمال الأقدس، بحضرة الرسول الأرأس، ويقول لهم الحق جل جلاله: سلام عليكم عبادي، ومرحبًا بكم أهل ودادي، أنتم المؤمنون الآمنون، لا خوف عليكم
وللطبراني، وصحَّحه الضياء عن جابر، رفعه:"إذا دخل أهل الجنة قال الله: يا عبادي، هل تسألوني شيئًا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا، ما خير مما أعطيتنا؟ قال: رضواني أكبر" ، "ولا ريب أن الأمر أجلَّ مما يخطر ببالٍ، أو أو يدور في خيال" كما قال صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، ثم قرأ هذه الآية:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] .
رواه الشيخان، ولا سيما عند فوز المحبين في روضة الأنس وحظيرة القدس" الجنة، "بمعية محبوبهم الي هو غاية مطلوبهم، فأيّ نعيم وأيّ لذة وأيّ قرة عين وأيّ فوز يداني" يقارب "تلك المعية ولذاتها، وقرب العين بها" والاستفهام بمعنى النفي، أي: لا يقاربها شيء، "وهل فوق نعيم قرة العين بمعية الله ورسوله نعيم، فلا شيء والله أكمل ولا أجمل" يجيم:ولا أجلى" بالجيم "ولا أحلى" بالحاء أشدَّ حلاوة ولا أعلى" بعين مهملة أشد علوًّا، أي: رفعة "ولا أغلى" بمعجمة- أزيد مما يقوم بالبال، من غلا السعر إذا زاد وارتفع، " من حضرةٍ يجتمع فيها المحبّ بأحبابه" في مشهد مشاهد الإكرام؛ حيث يتجلَّى" يظهر "لهم حبيبهم ومعبودهم الإله الحق جل جلاله خلف حجاب واحد" بالنسبة إليهم، "في اسمه الجميل اللطيف، فينفقه" بفتح أوله وسكون النون وفتح الفاء وكسر الهاء وبالقاف، أي: يتسع ويفيض "عليهم نور يسري في ذواتهم فيبهتون" بفتح الياء وضم الهاء وفتحها مبنيًّا للفاعل، أي: يتحيّرون "من جمال الله، وتشرق ذواتهم بنور ذاك الجمال الأقدس" الأطهر، "بحضرة الرسول الأرأس" أعظم الناس وأشدّهم سيادة، "ويقول لهم الحق جل جلاله: "سلام عليكم عبادي".
روى ابن ماجه وغيره مرفوعًا: "بينا أهل الجنة في نعيمهم؛ إذ سطع لهم نور فرفعوا
اليوم ولا أنتم تحزنون، أنتم أوليائي وجيراني وأحبابي، إني أنا الله الجواد الغني، وهذه داري قد أسكنتموها، وجنتي قد أبحتكموها، وهذه يدي مبسوطة ممتدة عليكم، وأنا ربكم أنظر إليكم، لا أصرف نظري عنكم، أنا لكم جليس وأنيس، فارفعوا إليّ حوائجكم، فيقولون: ربنا حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم، والرضى عنا، فيقول لهم جل جلاله: هذا وجهي فانظروا إليه، وأبشروا فإني عنكم راضٍ، ثم يرفع الحجاب ويتجلَّى لهم، فيخرون سجَّدًا، فيقول لهم: ارفعوا رءوسكم، فليس هذا موضع سجود يا عبادي، ما دعوتكم إلّا لتتمتعوا بمشاهدتي، يا عبادي قد رضيت عنكم، فلا أسخط عليكم أبدًا.
رءوسهم، فإذا بالرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم وإشرافه سبحانه" إطلاعه منزهًا عن المكان والحلول، "ومرحبًا بكم أهل ودادي، أنتم المؤمنون الآمنون، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون" كما قال تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] الذين آمنوا وكان يتقون، "أنتم أوليائي وجيراني وأحبابي، إني أنا الله الجوّاد الغني، وهذه داري" بإضافة التشريف "قد أسكنتموها، وجنتي قد أبحتكموها، وهذه يدي مبسوطة" ممتدة "عليكم، وأنا ربكم أنظر إليكم" نظر رحمة ولطف، "لا أصرف نظري عنكم، أنا لكم جليس وأنيس، فارفعوا إليّ حوائجكم، فيقولون: ربنا حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم، والرضا عنَّا" أي: دوامه "فيقول لهم جل جلاله: هذا وجهي انظروا إليه وأبشروا" بهمزة قطع، "فإني عنكم راضٍ، ثم يرفع الحجاب" بالنسبة إليهم، "ويتجلَّى لهم فيخرون سجدًا، فيقول لهم: ارفعوا رءوسكم، فليس هذا موضع سجود".
وعند ابن المبارك والآجرى عن جابر موقوفًا ومرفوعًا: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأنعم عليهم بالكرامة، جاءتهم خيول من ياقوت أحمر، لا تبول ولا تروث، لها أجنحة، فيقعدون عليها، ثم يأتون الجبّار، فإذا تجلّى لهم خروا سجدًا، فيقول الجبار: يا أهل الجنة، ارفعوا رءوسكم، فقد رضيت عنكم رضًا لا سخط بعده، يا أهل الجنة ارفعوا رءوسكم، فإن هذه ليست بدار عمل، إنما هي دار مقامة ودار نعيم، فيرفعون رءوسهم"، "يا عبادي ما دعوتكم إلّا لتتمتعوا" أي: تنتفعوا وتتلذذوا "بمشاهدتي، يا عبادي قد رضيت عنكم، فلا أسخط عليكم أبدًا".
وفي حديث حذيفة عند البزار، رفعه: "إن الله إذا صيِّرَ أهل الجنَّة إلى الجنة، وليس ثَمَّ ليل
فما أحلاها من كلمة، وما ألذَّها من بشرى، فعندها يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنَّا الحزن، وأحَلَّنا دار المقامة من فضله، لا يمسنا نصب ولا يمسنا فيها لغوب، إنَّ ربنا لغفور شكور،
ولا نهار، قد علم الله مقدار تلك الساعات، فإذا كان يوم الجمعة في وقت الجمعة التي يخرج أهل الجمعة إلى جمعتهم، نادى منادٍ: يا أهل الجمعة، أخرجوا إلى دار المزيد، فيخرجون في كثبان المسك"، قال حذيفة: والله لهو أشد بياضًا من دقيقكم هذا، "فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور، وغلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت، فإذا قعدوا وأخذوا مجالسهم، بعث الله عليهم ريحًا تثير عليهم المسك الأبيض فتدخله في ثيابهم، وتخرجه من جيوبهم، فيقول الله: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، وصدقوا رسلي، فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة، إنا قد رضينا فارض عنَّا، فيقول: لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، فهذا يوم المزيد، فسلوني، فيجتمعون على كلمة واحدة، أرنا وجهك ننظر إليه، فيتجلَّى لهم فيغشاهم من نوره، فلولا أنَّ الله قضى أن لا يموتوا لاحترقوا".
وللبيهقي عن جابر رفعه: "بينا أهل الجنة في منازلهم؛ إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم، فإذا الرب قد أشرف، فقال: يا أهل الجنة سلوني، قالوا: نسألك الرضا عنَّا، قال: رضاي أحلَّكم داري، وأنيلكم كرامتي، هذا أوانها فسلوني، قالوا: نسألك الزيادة، فيؤتون بنجائب من ياقوت، إلى أن قال: حتى ينتهي بهم إلى جنة عدن، وهي قصبة الجنة، فتقول الملائكة: يا ربنا قد جاء القوم، فيقول: مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطائعين، فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فيتمتعون بنور الرحمن، حتى لا يبصر بعضهم بعضًا، ثم يقول: ارجعوهم إلى القصور بالتحف، فيرجعون وقد أبصر بعضهم بعضًا" قال صلى الله عليه وسلم: فذلك قول الله: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت/ 32] الآية، "فما أحلاها من كلمة وما ألذَّها من بشرى، فعندها يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن".
قال ابن عباس: حزن النار، رواه الحاكم وصحَّحه، ولابن أبي حاتم عن ابن عباس: حزن ذنوب سلفت، وله عن الشعبي: طلب الخبز في الدنيا غداء وعشاء، وقيل: الجوع، وقيل: وسوسة إبليس وغيرها، "وأحلَّنَا دار المقامة" أي: الإقامة من فضله، من إنعامه وتفضله؛ إذ لا واجب عليه "لا يمسنا فيها نصب" تعب، "ولا يمسنا فيها لغوب" إعياء من التعب لعدم التكليف فيها، وذكر الثاني التابع للأول للتصريح بنفسه.
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن عبد الله بن أبي أوفى، قال رجل: يا رسول الله، إن النوم مما يقر الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة نوم؟ قال: "لا، النوم شريك الموت، وليس في
وهذا يدل على أن جميع العبادات تزول في الجنة إلّا عبادة الشكر والحمد والتسبيح والتهليل، والذي يدل عليه الحديث الصحيح، إنهم يلهمون ذلك كإلهام النفس، كما في مسلم من حديث جابر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتمخَّطون ولا يبولون، ويكون طعامهم ذلك جشاء ورشحًا
الجنة موت"، قال: فما راحتهم، فأعظم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة"، فنزل:{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} [فاطر: 35] .
وللبزار وللطبراني والبيهقي بسند صحيح عن جابر، قيل: يا رسول الله، أينام أهل الجنة؟ قال:"النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون" ، "إن ربَّنَا لغفور" للذنوب، "شكور" للطاعات، والمصنف لم يقصد التلاوة، بل بَيِّنَ ما يقولونه أولًا من النعم التي أفاضها عليهم، ثم ثناءهم عليه تعالى بأنه غفور شكور، ولكنه خلاف ظاهر القرآن، مع أنه أبلغ لجعله الثناء عليه متوسطًا بين تعداد النعم، على أنَّه ورد في خبر وإن كان معضلًا عند ابن أبي الدنيا وأبي نعيم وابن أبي حاتم مرفوعًا، في حديث طويل في ذكر ما أنعم الله به على أهل الجنة بنحو ورقتين، قال في آخره:"فلما تبئوا منازلهم، قال لهم ربه: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ قالوا: نعم، رضينا فارض عنَّا، قال: برضاي عنكم أحللتكم داري، ونظرتم إلى وجهي، وصافحتكم ملائكتي، فهنيئًا هنيئًا، عطاء غير مجذوذ، ليس فيه تنغيص، فعند ذلك قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنَّا الحزن، إن ربنا لغفور شكور، الذي أحلَّنا دار المقامة من فضله، لا يمسنا فيها نصب ولا يمسّنا فيها لغوب"، فصرح بأنهم يقولون الآيتين على وجههما، "وهذا يدل على أنَّ جميع العبادات تزول في الجنة إلّا عبادة الشكر والحمد، كما هو لفظ الآية: "والتسبيح والتهليل".
روى الأصبهاني في حديث عن عليّ رفعه: "ثم يحلّ بهم كرامة الله، والنظر إلى وجهه، وهو وعد الله أنجزه لهم، فعند ذلك ينظرون إلى وجه رب العالمين فيقولون: سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك" ، والذي يدل عليه الحديث الصحيح أنهم يلهمون ذلك كإلهام النفس" بفتحتين، فيحمل ما دلَّ عليه الأول على أن ذلك عبادة بدون تكليف فلا خلف.
"كما في مسلم من حديث جابر" بن عبد الله "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأكل أهل الجنة فيها ويشربون" ولا يتغوطون كما في مسلم قبل قوله: "ولا يتمخطون ولا يبولون" ، قال في المفهم: لأنَّ هذه فضلات مستقذرة، ولا مستقذر في الجنة، ولما كانت أغذية أهل الجنة في غاية اللطافة والاعتدال لم يكن لها فضلة مستقذرة، بل تستطاب وتستلذّ، وعبَّر عنها بالمسك في قوله: "ويكون طعامهم" أي: خروج طعامهم أي: مطعومهم.
ولفظ مسلم: ولكن طعامهم "ذلك جشاء" بضم الجيم ومعجمة ومد- صوت مع ريح
كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس" يعني: إن تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس، فليس عن تكليف وإلزام، وإنما هو عن تيسير وإلهام، ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا بُدَّ له منه ولا كلفة ولا مشقة في فعله، وكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة. وسر ذلك أن قلوبهم قد تنوّرت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبَّته ومخاللته، فألسنتهم ملازمة لذكره، وقد أخبر الله تعالى عن شأنهم في ذلك بقوله تعالى في كتابه العزيز:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] وقوله تعالى:
يحصل من الفم عند حصول الشبع، "ورشحًا" عرفًا "كرشح المسك".
قال القرطبي: وقد جاء في لفظ آخر: "لا يبولون ولا يتغوَّطون، وإنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك"، يعني: من أبدانهم، "يلهمون التسبيح والتحميد".
وفي رواية لمسلم: التسبيح والتكبير "كما يلهمون النفس"، يعني: إنَّ تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس، فليس عن تكليف وإلزام، وإنما هو عن تيسير وإلهام" لأنها ليست دار تكليف، ووجه التشبيه" كما قال القرطبي في المفهم: "إنَّ تنفس الإنسان لا بُدَّ له منه ولا كلفة ولا مشقة في فعله" بل فيه لذة وراحة، "فكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة، وسِرّ ذلك" أي: حكمته ونكتته "أنَّ قلوبهم قد تنوّرت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم" غطتهم "سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخاللته، فألسنتهم ملازمة لذكره" ومن أحبّ شيئًا أكثر من ذكره، إلى هنا كلام المفهم، قال الأبي: فهو تسبيح "تنعم وتلذذ، "وقد أخبر الله تعالى عن شأنهم في ذلك بقوله تعالى في كتابه العزيز: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] بالجنة.
وقال البيضاوي: بالبعث والثواب، {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة، وإيراثها تمليكها، مختلعة من أعمالهم، أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه.
وروى ابن ماجه والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلّا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله"، فذلك قوله تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 11]{نَتَبَوَّأُ} ننزل {مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} ؛ لأنها كلها لا يختار فيها مكان على مكان ويهدي الله كل أحد لمنزله، فلا يختار سواه، {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الجنة، وقوله تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا} أي: طلبهم لما
{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ، وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
يشتهونه في الجنة أن يقولوا: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمّ} أي: يا الله، فإذا ما طلبوه بين أيديهم، {وَتَحِيَّتُهُمْ} فيما بينهم {فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ} مفسرة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 74] الآية.
وفي البيضاوي: تحيتهم: ما يحيي بعضهم بعضًا، أو تحية الملائكة إياهم، ولعلَّ المعنى: إنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظيم الله وكبرياءه، مجَّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حيَّاهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات، أو الله تعالى، فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام، انتهى.
وفي الحديث المعضل الذي سبقت الإشارة إليه: "بينما هم يومًا في ظلّ شجرة طوبى يتحدثون؛ إذ جاءتهم الملائكة يقودون نجبًا" إلى أن قال: "فأناخوا لهم النجائب"، وقالوا لهم:"إن ربكم يقرئكم السلام، ويريدكم لتنظروا إليه وينظر إليكم، وتكلموه ويكلمم، ويزيدكم من فضله ومن سعته، فيتحوّل كل رجل منكم على راحلته، فينطلقون صفًّا معتدلًا" إلى أن قال: "فلما دفعوا إلى الجبار أسفر لهم عن وجهه الكريم، وتجلَّى لهم في عظمته العظيمة، تحيتهم فيها سلام، قالوا: ربنا أنت السلام ومنك السلام...." الحديث.
"فائدة" وقع في كلام بعض الأئمة أنَّ رؤية الله خاصَّة بمؤمني البشر، وأنَّ الملائكة لا يرونه، واحتج له بقوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فإنه عامّ خص بالآية والأحاديث في المؤمنين، فبقي على عمومه في الملائكة، قال في الحبائك: والأرجح أنهم يرونه، قد نصَّ إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري على أنهم يرونه.
وقال في البدور: وكذا نصَّ عليه البيهقي في كتاب الرؤية، وأخرج عن عبد الله بن عمرو بن العاص:"خلق الله الملائكة لعبادته أصنافًا، وإنَّ منهم ملائكة قيامًا صافِّين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة ركوعًا خشوعًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجودًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلَّى لهم تبارك وتعالى، فإذا نظروا إلى وجهه الكريم، قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك".
ثم أخرجه من وجه آخر بنحوه، عن رجل من الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخره:"فإذا كان يوم القيامة تجلَّى لهم ربهم فينظرون إليه، قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك"، قال في الحبائك: وأما دخول الملائكة الجنة فمِمَّا لا خلاف فيه ولا مرية لأحد، خلافًا لمن وَهِمَ فيه. انتهى.
قال مؤلفه وجامعه أحمد بن الخطيب القسطلاني -عامله الله بما يليق بكرمه: فهذا آخر ما جرى به قلم المدد، من هذه المواهب اللدنية، وسطرته يد الفيض من المنح المحمدية، وذلك وإن كثر لقليل في جنب شرفه الشامخ، ويسير مما أكرمه الله به من فضله الراسخ، ولو تتبعنا ما منحه الله به من مواهبه، وشرف به من مناقبه، لما وسعت بعض بعضه الدفاتر، وكانت دون مرماه الأقلام
"قال جامعه ومؤلفه" وفي نسخ: مؤلفه وجامعه، "أحمد بن" محمد "الخطيب" بن أبي بكر محمد "القسطلاني" بفتح القائف وشد اللام على ما اشتُهِرَ، وُلِدَ كما ذكره شيخه السخاوي في الضوء اللامع بمصر، ثاني عشر ذي القعدة، سنة إحدى وخمسين وثمانمائة، وحفظ عدة كتب، وأخذ عن الشهاب العبادي، والبرهان العجلوني، والفخر المقسي، والشيخ خالد الأزهري النحوي، والسخاوي، وغيرهم، وقرأ البخاري على الشهاوي في خمسة مجالس، وحج مرارًا، وجاور بمكة مرتين.
وروى بها عن جمع جمّ، منهم: النجم بن فهد، وكان يعظ بجامع الغمري وغيره، ولم يكن له في الوعظ نظير. انتهى.
وله تصانيف كشرح البخاري، ثم اختصره في آخر: سماء الإسعاد مختصر الإرشاد، لم يكمل، وشرح صحيح مسلم إلى أثناء الحج، والشاطبية والبردة، وله مسالك الحنفا في الصلاة على المصطفى، ولطائف الإشارات في القرءات الأربع عشرة، وهذه المواهب اللدنية، وقدمت إسنادي إليه بها في أول هذا الشرح، وأعلاه شيخنا دراية.
ورواية عن أحمد بن خليل السبكي، عن إجازة الشريف يوسف الأرميوني، عن المؤلف وشيخنا أبو عبد الله الحافظ البابلي، إجازة عن النور الزيادي، عن أبي الحسن البكري، عن المصنف، ومات يوم الخميس مستهلّ محرم سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة بمنزله بالعينية، وتعذّر الخروج به إلى الصحراء؛ لأنه اليوم الذي دخل فيه السلطان سليم مصر، وكانت وفاته بشيء أصابه من البندق، ودفن على الإمام العيني، وقوله: وجامعه بعد قوله: مؤلفه، إشارة إلى أنه ليس له في تصنيفه إلّا مجرد الجمع من كلامهم، ولا ينافيه قوله: بعد أنه بفيض الله وإنعامه؛ لأن المعنى: أنعم الله عليه بهدايته لأخذه من كلامهم وإطلاعه عليه، "عامله الله بما يليق بكرمه، فهذا آخر ما جرى به قلم المدد من هذه المواهب" جمع موهبة -بكسر الهاء- وهي العطية على جهة التمليك بلا عوض، "اللدنية، وسطرته يد الفيض من المنح" بكسر ففتح- العطايا "المحمدية، وذلك وإن كثر" الواو للحال، "لقليل في جنب شرفه الشامخ" الرفيع، "ويسير مما أكرمه الله به من فضله الراسخ" الثابت، "ولو تتبعنا ما منحه" أعطاه، وخصَّه الله به من مواهبه وشرفه به من
وجفت المحابر، وضاقت عن جمعة الكتب، وعجزت عن حمله النجب.
وعلى تفنن واصفيه بحسنه
…
يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وإلى الله أضرع أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، مخلصًا من شوائب الرياء ودواعي التعظيم، وأن ينفعني به والمسلمين والمسلمات، في المحيا وبعد الممات، سائلًا من وقف عليه من فاضل أنار الله بصيرته، وجبل على الإنصاف سريرته، أن يصلح بحلمه عثاري وزللي، ويسد بسداد فضله خطئي.
بعض بعضه الدفاتر" الكراريس، جمع دفتر، "وكانت دون مرماه الأقلام، وجفت المحابر" جمع محبرة "وضاقت عن جمعه الكتب، وعجزت عن حمله النجب" بنون وجيم وموحدة- كرام الإبل، وأنشد المصنّف قول العارف ابن الفارض:
وعلى تفنن واصفيه بحسنه
…
يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
"وإلى الله تعالى" لا إلى غيره، "أضرع" أخضع وأذل، "أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، مخلصًا" بضم الميم وسكون وسكون الخاء وفتح اللام، أي: مبعدًا، "من شوائب الرياء ودواعي التعظيم" جمع شائبة، والمراد بها هنا: الأسباب التي يحصل بها الرياء، "وأن ينفعني به والمسلمين والمسلمات في المحيا والممات" بالثواب؛ لأنَّ تأليف الكتب من العمل الباقي بعد الموت، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث" فذكر منها: "أو علم ينتفع به"، وقد قال بعضهم: الأقسام السبعة التي التي لا يؤلف عالم عاقل إلّا فيها، هي: إما شيء لم يسبق إليه يخترعه، أو شيء ناقض يتممه، أو شيء مغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره دون أن يخلّ بشيء من معانيه، أو شيء مفرَّق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه. انتهى.
وكل ذلك داخل في قوله: "أو علم ينتفع به" بشرط كون العلم شرعيًّا، "سائلًا من وقف عليه من فاضلٍ أنار الله بصيرته" هي قوة القلب المنور بنور القدس، يرى حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للعين، يرى به صور الأشياء وظاهرها، قاله ابن الكمال، وقال الراغب: البصر الجارحة كلمح البصر والقوة التي فيها، ويقال: لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر، ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة، "وجبل" بفتح الجيم والباء- طبع، "على الإنصاف سريرته، أن يصلح بحلمه عثاري" بعين مكسورة ومثلثة مصدر عثر، إذا انعقل في ثوبه مثلًا، فسقطت رجله عن الاستقامة، والمراد هنا: الزلة، فقوله:"وزلّي" عطف تفسير، "ويسد بسداد" بكسر السين وفتحها "فضله".
قال في المصباح: السداد -بالكسر: ما يسد به القارورة وغيرها، واختلف في سداد من عيش وسداد من عوز لما يرمق به العيش وتسد به الخلة، فقال ابن السكيت والفارابي، وتبعه
وخللي، فالكريم يقيل العثار، ويقبل الاعتذار، خصوصًا عذر مثلي، مع قصر باعه في هذه الصناعة، وكساد سوقه بما لديه من مزجاة البضاعة، وما ابتلي به من شواغل الدنيا الدنية، والعوارض البدنية، وتحمّله من الأثقال التي لو حملها رضوى لتضعضع، أو أنزلت على ثبير لخشع وتصدّع، لكنني أخذت غفلة الظلام الغاسق،
الجوهري -بالفتح والكسر، واقتصر الأكثر على الكسر، منهم: ابن قتيبة وثعلب والأزهري؛ لأنه مستعار من سداد القارورة "خطئي وخللي".
قال العلامة ناصر الدين اللقاني: والمرتضى عندهم في إصلاح ما يقف عليه الناظر في كلام غيره التنبيه على ذلك بالكتابة في حاشية أو غيرها، لا المحو والإثبات من الأصل؛ إذ لعلَّ الصواب ما في الأصل والتخطئة خطأ. انتهى.
ولذا قال شيخنا: ليس المراد أنَّه يغير ما يراه من الخلل، بل المراد أنه إذا رآه وأمكن الجواب عنه أجاب، وإلّا بَيِّنَ فساده، واعتذر بأنَّ الإنسان محلّ السهو والغفلة. انتهى.
وقد قيل بذلك، ولو كان لحنًا أو خطًأ محضًا في الحديث النبوي، لكن الأكثر من العلماء والمحدثين أنه يصلح ويقرأ الصواب، لا سيما في لحنٍ لا يختلف المعنى به وهو الأرجح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقله، ومنهم من صوب إبقاءه مع التضبيب عليه، "فالكريم يقيل" من الإقالة، "العثار" بكسر المهملة "ويقبل" من القبول "الاعتذار، خصوصًا عذر مثلي، مع قصر باعه في هذه الصناعة" الحديثية، "وكساد سوقه" عدم نفاقه ورواجه "بما لديه" أي: بسبب ما عنده "من مزجاة البضاعة" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بضاعة مزجاة.
قال البيضاوي: ردية أو قليلة ترد وتدفع رغبةً عنها، من أزجيته إذا دفعته، وفي المصباح: البضاعة -بالكسر- قطعة من المال تعد للتجارة، ففيه استعارة، شبَّه العلم الذي حصله بمال قليل معَدّ للتجارة فيه وطلب الربح منه، والقليل في يد التاجر بعد حصول الربح منه، فلا اعتراض من كان بصفته، وتعرض للتأليف بأن في عبارته سقطًا أو غيره، قال هذا المصنف تواضعًا واعترافًا بالعجز؛ إذ له اليد الطولى في علوم عديدة ومصنفات كثيرة مستعملة مرغوب فيها، من أجَلِّها المواهب، "وما ابتلي به من شواغل الدنيا الدنية، والعوارض البدنية" من الأمرض، وذلك عذر كبير في حصول الخلل، "وتحمله من الأثقال التي لو حملها رضوى" بفتح الراء وإسكان المعجمة بوزن سكرى- جبل بالمدينة "لتضعضع" خضع وذلَّ وافتقر -كما في القاموس، "أو أنزلت على ثبير" جبل بمكة قرب المزدلفة، "لخشع وتصدَّع" أي: تشقَّقَ، والقصد بهذا التمثيل لشدة ما أصابه، حتى أنه لو حلَّ بهذين الجبلين مع غلظهما وصلابتهما ما أطاقاه.
قال ذلك مبالغة في شدة البلايا التي أصابته، "لكنني أخذت غفلة الظلام الغاسق" أي: الشديد السواد، أي: الغفلة الحاصلة للناس في شدة الظلام المانعة عن سعيهم في مصالحهم
والليل الواسق، فسرقته من أيدي العوائق، والليل يعين السارق، واستفتحت مغالق المعاني بمفاتيح فتح الباري، واستخرجت من مطالب كنوز العلوم نفائس الدراري، حامدًا الله تعالى على ما أنعم وألهم وعلّم ما لم أكن أعلم، مصليًا مسلمًا على رسوله محمد أشرف أنبيائه، وأفضل مبلغ لأنبائه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه
فاشتغلت فيها بتصنيف هذا الكتاب، وخصها لقلة المتاعب والأسباب المعوقة عن المطلوب غالبًا، "والليل الواسق" الجامع للدواب وغيرها، كاللصوص الذين تخشاهم الناس فيهابون الخروج فيه ويلزمون بيوتهم، "فسرقته من أيدي العوائق" التي تعوقه عمَّا يريده من الاشتغال به وجمعه، "والليل يعين السارق" يمنع رؤية الناس له بظلامه، حتى يتمكَّن من السرقة، ولذا فضل العشاق الليل على النهار، وقال الشاعر:
وكم لظلام الليل عندي من يد
…
تخبر أن المانوية تكذب
"واستفتحت مغالق المعاني" أي: طلبت إزالة ما يمنع من إدراك الوصول إلى المعاني، بأن تعلقت بما يزيل اللبس والإشكال عنها، حتى ظهرت له وانكشفت، فعبرت عنها بألفاظ سهلة قريبة المأخذ، واضحة الدلالات، وفي تسمية تلك الإشكالات المغطية للمعاين بالمغالق -جمع مغلاق بالكسر- استعارة تحقيقة، شبَّه الإشكالات المانعة من إدراك ما وراءها بما هو محفوظ فيها، واستعار لها اسمها، "بمفاتيح فتح الباري" أي: بالبحث واتفتيش عمَّا استعمل هذا اللفظ الذي هو عَلَمٌ لهذا الكتاب، وأراد به فتح الباري -جلا وعلا- بإفاضة النعم عليه، واستخراج المعاني الدقيقة من مواضعها، ووضع ما يدل عليها في كتابه.
كذا قال شيخنا، أي: فالمراد: مفاتيح فتح الباري سبحانه وتعالى، على طريق الاستعارة، وفيه التورية بذكر اسم الكتاب؛ لأن الأخذ منه من جملة نعم الله تعالى، "واستخرجت من مطالب كنوز العلوم" أي: الكتب المشتملة على العلوم؛ كاشتمال المطالب على الأموال المكنوزة فيها، "نفائس الدراري" أي: المسائل النفيسة المشبهة للدرر النفيسة المكنوزة، "حامدًا الله تعالى على ما أنعم" أي: على إنعامه، ولم يتعرض للمنعم به إيهامًا لقصور العبارة عن الإحاطة به، ولئلَّا يتوهم اختصاصه بشيء دون شيء، "وألهم وعلم" يتعدَّى لمفعولين نحو:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أولهما محذوف للقرينة، أي: علمني "ما لم أكن أعلم، مصليًا مسلمًا على رسوله محمد أشرف" أفضل أنبيائه "وأفضل مبلغ لأنبائه" بالهمزة المفتوحة- لأخباره تعالى التي أمره بتبليغها، وليس الضمير للمصطفى كما هو بين؛ إذ المعنى: إن الرسل كلهم بلغوا ما أمرهم الله بتبليغه وهو أفضلهم، "وعلى آله وأصحابه وأحبابه وخلفائه" يحتمل أنه خاص على عام، ويحتمل المغايرة
وخلفائه صلاةً لا ينقطع مددها، ولا يفنى أمدها.
والله أسأل أن ينفع به جيلًا بعد جيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وأستودع الله تعالى نفسي وديني وخواتيم عملي، وما أنعم به عليَّ ربي، وهذا الكتاب، وأن
يجعل أحبابه من غير آله وصحبه لجريهم على سننهم، وخلفائه القائمين بنشر أحاديثه وتبليغها للناس كما ورد: الأئمة المقسطين من غير الصحابة، "صلاة لا ينقطع مددها، ولا يفني أمدها" غايتها.
قال مؤلفه -رحمه الله تعالى ورفع درجاته في الجنان: وقد انتهت كتابة هذا النسخة المباركة النافعة -إن شاء الله تعالى، المنقولة من المسوَّدة المرجوع عن كثير منها، مع زيادات جَمَّة مَنَّ الله تعالى بها في خامس عشر شعبان المكرم، سنة تسع وتسعين وثمانمائة، وتَمَّت المسودة في الثاني من شوال سنة ثمان وتسعين وثمانمائة، وكان الابتداء في المسودة المذكورة ثاني يوم من قدومي من مكة المشرَّفة صحبة الحاج في شهر محرم، سنة ثمان وتسعين وثمانمائة"، وفي هذا همة علية جدًّا من المصنف رحمه الله، يبدأ عقب السفر غير مبالٍ بالتعب، ثم يتمّ جزئين في نحو تسعة أشهر، فذكره لهذا من باب التحدث بالنعمة، "واللهَ" بالنصب قدّم على عامله، وهو "أسأل" لإفادة التخصيص عند البيانين، والحصر عند النحويين -كما قاله الزمخشري: في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} ، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي} ، {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} خلافًا لابن الحاجب في أنه للاهتمام، قال: ولا دليل على كونه للحصر، قال بعضهم: دليله الذوق وفهم أئمة التفسير، مع حصوله الاهتمام أيضًا؛ إذ لا ينافي الاختصاص "أن ينفع به جيلًا" بكسر الجيم وسكون التحتية- أمة "بعد جيل" ويجمع على أجيال، وفيه محض الإخلاص بتأليفه، وأنه لم يترقّب عليه منفعة من مخلوق، ولا قصد به التوسل إلى القرب منهم؛ كعادة كثير من المؤلفين، وسلك سنن الأئمة في الدعاء بالانتفاع بتأليفه؛ لتحصل الثمرة به عاجلًا بالانتفاع به في الدنيا، وآجلًا بالثواب الجزيل بفضل الله في الأخرى؛ لئلّا يذهب عناؤه باطلًا، بجميل صنع الله تعالى قبول دعوته، فإن الله تعالى قد نشر ذكره في الآفاق، وجبل قلوب كثير من الخلق على محبته، والاشتغال به، وهي من علامات القبول، وتعجيل بشرى المؤمن، وإلا فكم من تأليف حسن طوى ذكره، ولم يشتغل به، والرجاء منه تعالى أن يتمّ الإنعام بالإحسان الأخروي، "وحسبنا الله" كافينا "ونعم الوكيل" المفوّض إليه الأمر، وأتى بها استعانةً لوقوف في أمر عظيم، هل يقبل تأليفه وينتفع به، وقد دلّت الآية على استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة.
وروى ابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل" قاله في الإكليل، "وأستودع الله تعالى نفسي وديني وخواتيم عملي وما
ينفعني به والمسلمين، وأن يردني وأحبابي إلى الحرمين الشريفين على أحسن وجه وأتمه، وأن يرزقني الإقامة بهما في عافية بلا محنة، وأن يطيل عمري في طاعته، ويلبسني أثواب عافيته، ويجمع لي وللمسلمين بين خيري الدنيا والآخرة، ويصرف عني سوءهما، ويجعل وفاتي ببلد رسوله، ويمنحنا من المدد المحمدي بما منحه
أنعم به عليَّ ربي" أي: أَكِلُ ذلك كله إلى الله، وأتبرأ من حفظه، وأتخلى من حرسه، وأتوكل عليه، فإنه تعالى الوافي الحفيظ، إذا استودع شيئًا حفظه، وفيه إلماح إلى أنه مسافر من الدنيا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول للمسافر: "استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم على شرطهما، "بهذا" التأليف، "وأن ينفعني به والمسلمين" ذكر السؤال بالنفع ثلاث مرات؛ لأن الله يحب الملحين في الدعاء، وأقلّ الإلحاح ثلاث مرات، "وأن يردَّني وأحبابي إلى الحرمين الشريفين على أحسن وجه وأتمه، وأن يرزقني الإقامة بهما في عافية بلا محنة" بلية واختيار، "وأن يطيل عمري في طاعته"؛ لأنها خير الزاد، موجبة للسعادة الأبدية.
روى الحاكم عن جابر، قال صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبركم بخياركم"، قالوا: بلى، قال:"خياركم أطولكم أعمارًا وأحسنكم أعمالًا".
وروى أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح، والحاكم، وقال: على شرطهما، عن أبي بكرة رفعه:"خير الناس من طال عمره وحَسُنَ عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله" ، "ويلبسني أثواب عافيته" لأقوى بها على طاعته.
روى أحمد والترمذي عن العباس أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "يا عباس، يا عم رسول الله، سل الله العافية في الدنيا والآخرة".
ولأحمد والترمذي عن الصديق: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوّل على المنبر، فقال:"سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية".
وللنسائي وابن ماجه عن أنس رفعه: "سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، فإذا أعطيت المعافاة في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت" ، "ويجمع لي والمسلمين بين خيري الدنيا والآخرة، ويصرف عني سوءهما" وعن المسلمين، ففيه اكتفاء، "ويجعل وفاتي ببلد رسوله" ولم يقع ذلك، بل مات بمصر كما مَرَّ، ولكن الرجاء من كرم الله وجوده أن يعوضه عن هذه الدعوة.
وقد روى أحمد وصحَّحه الحاكم عن أبي سعيد، رفعه:"ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يعجل له دعوته، وإمَّا أن يدخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السوء مثلها".
عباده الصالحين مع رضوانه، ويمتِّعنا بلذة النظر إلى وجهه الكريم، من غير عذاب يسبق، فإنه سبحانه إذا استودع شيئًا حفظه، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وللحاكم عن جابر مرفوعًا في حديث طويل: "فلا يدعو المؤمن بدعوة إلّا استجيب له، إمَّا أن تعجل له في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة"، فيقول المؤمن في ذلك المقام: يا ليته لم يكن عجّل له شيء من دعائه، وتعجيلها في الدنيا شامل لعين المسئول، ولبدله بدليل قوله في الحديث قبله:"وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها".
ولذا قال الحافظ: إن الإجابة تتنوّع، فتارة بعين المطلوب فورًا، وتارة يتأخّر لحكمة فيه، وتارة يغير عين المطلوب؛ حيث لا مصلحة فيه، وفي الواقع مصلحة ناجزة، أو أصلح منها، "ويمنحنا من المدد المحمدي بما منحه" أعطاه "عباده الصالحين، مع رضوانه، ويمتعنا بلذة النظر إلى وجهه الكريم من غير عذاب يسبق، فإنه سبحانه إذا استودع شيئًا حفظه".
روى أحمد عن ابن عمر، رفعه:"إن لقمان الحكيم قال: إن الله إذا استودع شيئًا حفظه" والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم" هذا، وقد مَنَّ الله سبحانه وتفضَّل على عبده مع عجزه وضعفه بإتمام هذا الشرح المبارك -إن شاء الله تعالى- في مدة طويلة جدًّا، آخرها يوم الاثنين المبارك بين الظهر والعصر، ثالث عشر جمادى الثانية سنة سبع عشرة بعد مائة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل صلاة وتحية، والله أسأل من فضله متوسلًا إليه بأشرف رسله أن يجعله لوجهه خالصًا، وأن يظلني في ظل عرشه؛ إذ الظل أضحى في القيامة قالصًا، وأن ينفع به إلى المعاد، وأن يثيبني والمسلمين به في يوم التناد، وأن ينفع به نفعًا جمًّا، ويفتح به قلوبًا غلفًا، وأعينًا وآذانًا صمًّا، وأعوذ بالله من حاسدٍ يدفع بالصدر، فهذا لله لا لزيد ولا لعمرو قد سار بنعمة الله قبل كمال نصفه سير الشمس في المشارق والمغارب، وتقطَّعت أوراقه قبل إكماله بكثرة من له كتاب، وكتب منه نسخ لا تحصى من خطى، ومن فروعه، فرحم الله تعالى من نظر إليه بعين الإنصاف، والتمس مخرجًا لما يراه من زلل وإتلاف، فإني لجدير بأن أنشد قول القائل:
حمدت الله حين هدى فؤادي
…
لما أبديت مع عجزي وضعفي
فمن لي بالخطأ فأرد عنه
…
ومن لي بالقبول ولو بحرف
وأعوذ برب الفلق من شر ما خلق، إلى تمام السورتين، فما أجدني بإنشاد قول من قال من أهل الكمال:
إني لأرحم حاسدي لفرط ما
…
ضاقت صدورهم من الأوعار
قال مؤلفه رحمه الله: وقد انتهت كتابة النسخة المنقول منها النسخة المباركة النافعة -إن شاء الله تعالى- في خامس عشر شعبان المكرم، سنة تسع وتسعين وثمانمائة، وكان الابتداء في المسوّدة المذكورة ثاني يوم قدومي من مكة المشرفة،
نظروا صنيع الله بي فعيونهم
…
في جنة وقلوبهم في نار
لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي
…
فكأنما علقتها بمنار
لكن من يكن الله تعالى هو المعين له، وتوكله عليه، لا يضره حسد الحاسدين، ولا كيد المبغضين، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، أسألك أن تجعله لك خالصًا، ومن أسباب الفوز والرضا لك ولرسولك، وأن تريني وجهك ووجه حبيبك في القيامة، وأن ترزقني العافية في الدّارين، والمعافاة والسلامة ما شاء الله، لا قوة إلّا بالله، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأميّ، وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزَّة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمن، آمين. تم.
الحمد لمنزل القرآن الكريم، وأفضل الصلاة وأتمَّ التسليم على ذي الخلق العظيم، ومن هو بالمؤمنين رءوف رحيم، وبعد: حمدًا لله على آلائه، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه، فقد تَمَّ بعون منزل السبع المثاني، طبع الشرح الرقيق المباني، المحرر الأساليب والمعاني، المنسوب للإمام المسدد والهمام الجهبذي الممجد، صاحب التآليف الرائقة، والتصانيف الفائقة، المشهور فضله عند القاصي والداني، شمس الملة والدين، سيدي محمد الزرقاني، على المواهب اللدنية للإمام القسطلاني -قدس الله روحهما ونوّر بالرضوان ضريحهما.
وهذا الكتاب البديع الرائق السهل المنيع الفائق، قد جمع من تاريخ المصطفى وسيرته، ونسبه الشريف وسنته، وأخلاقه وأسمائه وهديه، وطريقته وطبه، وخصائصه وبلاغته وفصاحته، وبعوثه وسراياه وغزواته، وعباداته وإرهاصاته ومعجزاته، وسائر أحواله الشريفة، وما يتعلق بحضرته السنية المنيفة، ما لا يكاد يحويه بهذا النمط مؤلف، ولا يستوعبه على هذا الوجه مصنّف، فيا له من كتاب حلت بتكرير الطبع مشاربه، وبزغت في سماء الفضل شموسه وكواكبه، وقد حليت طرره، ووشيت غرره بالكتاب المسمَّى زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام الحافظ النقاد، الذي حظي من مواهب العرفان ما له في العالم استيعاد، العلامة الهمام، شيخ الإسلام: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيم الجوزية، وكان طبعه الباهر الجليل، وإفراغه في هذا القالب الجميل، بالمطبعة العامرة الأزهرية، الكائن محلها بجوار الرياض الأزهرية، إدارة حضرة مصطفى بك شاكر وأخيه" لا زالت الأيام مضيئة بشموس علاهم، والليالي منيرة ببدور حلاهم، وذلك في شهر صفر الخير سنة 1329 على صحابها أفضل الصلاة وأزكى التحية. أمين.
صحبة الحاج في شهر محرم سنة ثمان وتسعين وثمانمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. آمين.
بعونه تعالى تَمَّ الكتاب.