المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع العاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٩

[الزرقاني، محمد بن عبد الباقي]

الفصل: ‌النوع العاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه

‌المجلد التاسع

‌تابع: المقصد السادس: ما ورد في آي التنزيل من عظم قدره ورفع ذكره

‌النوع العاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه

بسم الله الرحمن الرحيم

النوع العاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه عليه الصالة والسلام متشابهات

قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] .

اعلم أنه قد اتفق العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم ما ضل لحظة واحدة قط، وهل هو جائز عقلًا على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- قبل النبوة.

قالت المعتزلة: هو غير جائز عقلًا لما فيه من التنفير.

وعند أصحابنا: أنه جائز في العقول، ثم يكرم الله من أراده بالنبوة، إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع لنبي، قال الله تعالى: {مَا ضَلَّ

"النوع العاشر":

"في إزالة الشبهات" جمع شبهة، وهي ما يرى دليلًا، وليست بدليل، لفساد القيا أو لغير ذلك "عن آيات وردت في حقه عليه الصلاة والسلام، متشابهات" محتملات، لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر، إلا بالفحص والنظر، أو دل القاطع على أن ظاهرها غير مراد، ولم يدل على المراد، وتطلق المتشابهات أيضًا على ما استأثر الله بعلمه، وليس بمراد هنا.

قال الله تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] أي: منها هذه الآية، لأن القواطع دلت على أن ظاهرها ليس بمراد، وأفاد هذا بنقل الإجماع، بقوله:"اعلم أنه قد اتفق العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم ما ضل لحظة واحدة "قط"؛ بأن ظن بالله ما هو محال عليه، "وهل هو" أي الضلال المفهوم من قوله: ما ضل "جائز عقلًا على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قبل النبوة، قالت: المنزلة هو غير جائز عقلًا لما فيه" أي: تجوزير تلبسهم به وظهوره عليهم "من التنفير" عن اتباعهم بعد الوحي وإجابتهم للإيمان والطاعة، ولا يخفى أن هذه علة باردة، فالتنفير فعل المنفر، وأي فعل في تجويز العقل، فالتجويزات العقلية لا يلزم منها شيء البتة، فالعقل يجوز انقلاب البحر دمًا والحجر ذهبًا، ونحو ذلك قرره شيخنا، "وعند أصحابنا" أهل السنة "أنها جائز في العقول" وهو أبلغ في اتباعهم، لأنه حيث جاز عقلًا، ولم يقع علم أنهم مصطفون عند الله صادقون فيما أخبروا به عنه "ثم يكرم الله من أراده بالنبوة" بالعصمة من ابتدائه إلى منتهاه فحذف صلة يكرم ولذا عدل عن أن يقول ثم يكرمهم "غلا أن الدليل السمعي، قام على أن هذا الجائز لم يقع النبي" من الأنبياء أصلًا قال الله تعالى:{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، "قاله الإمام فخر الدين" الرازي: ويقال عليه الآية

ص: 3

صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] قاله الإمام فخر الدين.

وقال الإمام أبو الفضل اليحصبي في "الشفاء": والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله تعالى وصفاته، والتشكيك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان، بل على إشراق أنوار المعارف، ونفحات ألطاف السعادة،

في حق نبينا، فكيف صح جعلها دليلًا على جميع الأنبياء إذ لا يلزم من نفي ذلك عنه نفيه عنهم، ثم هي إنما سيقت في مقام نفي ما نسبه المشركون إليه، وكان بعد النبوة، والجواب: أما الأول، فالعلة في نفسي الضلال العصمة لإكرام الله تعالى له بالنبوة، وهذه العلة يشاركه فيها جميع الانبياء، فالآية نص فيه وقياس في باقيهم، وأما الثاني، فالأفعال بمنزلة النكرات والنكرة، نعم فكأنه قال: ما صدر منه ضلال لا قبل النبوة ولا بعدها.

"وقال الإمام أبو الفضل" عياض "اليحصبي" العلم الشهير "في الشفاء": وأما عصمتهم من هذا الشيء قبل النبوة، فللناس فيه خلاف، "والصواب" أي: القول الموافق للواقع، وللأدلة الدالة على أن خلافة خطأ من قائله، "أنهم معصومون" محفوظون، مصونون "قبل النبوة من الجهل بالله تعالى" أي: بوجود ذاته "وصفاته" فلا يجهلون شيئًا منها "و" معصومون أيضًا من "التشكيك" لأنفسهم "في شيء من ذلك".

وفي نسخة: أو التشكيك بالعطف بأو الفاصلة، أي: لا يقع في نفسهم شك في الذات ولا في صفة من صفاتها، لأن فطرتهم جبلت على التوحدي والإيمان، وأما قوله:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ، فالمراد به ما لا يعلم بالوحي، كوجوب الصلاة ونحوه من فروع الشريعة، "وقد تعاضدت" أي: تفوت مأخوذ من العصد، وهو ما بين المرفق إلى الكتشف، ولكون عمل الإنسان واعتماده بذلك، قيل: عضدته بمعنى قويته، قاله الراغب.

وقال التلمساني: أي قوي بعضها بعضًا، تفاعل من اثنين لقيام كل واحد من الأخبار مع صاحبه حتى حصلت القوة التامة بذلك "الأخبار والآثار" بمعنى، وقيل: الخبر المرفوع والأثر، قول الصحابي ومن دونه، والمراد بها ما اشتهر من أحوالهم وصفاتهم المأثورة، المعروفة عند كل أحد، "عن الأنبياء" كلهم والمرسلين بأسرهم، وليس المراد أنه نقل عنهم، بل عرف عنهم وفي حقهم، فلم يصب من قدر، وعن غيرهم "بتزيههم" أي تبرئتهم "عن هذه النقيصة" بصاد مهملة أي: الصفة المنقصة لمن اتصف بها "منذ ولدوا" إلى آخر عمرهم، "ونشأتهم" بالجر عطف على تنزيههم، أي: وبنشأتهم، أي: ابتداء خلقهم لا زمن شبابهم، كما توهم "على التوحيد" وهو عدم الشرك "والإيمان" بالله وبكل ما يجب الإيمان به، "بل" للانتقال على سبيل

ص: 4

ولم ينقل احد من أهل الأخبار أن أحدًا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وغشراك قبل ذلك، ومستند هذا الباب النقل.

ثم قال: وقد استبان بما قررناه ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه وسلم عن الجهل بالله وصفاته، أو كونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله جملة بعد النبوة عقلًا وإجماعًا، وقبلها سمعًا ونقلًا، ولا بشيء مما قرره من أمور الشرع وأداه عن ربه من الوحي قطعًا، عقلاً وشرعًا، وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله

الترقي "على إشراق"، أي: شدة ظهور "أنوار المعارف" في أحوالهم وأقوالهم: أي: معرفة ذات الله وصفاته، وكل ما يتعلق به، "ونفحات" جمع نفحة، وهي الروائح الطيبة التي تفوح "ألطاف السعادة" أي: كونهم سعداء الدارين، فشبه ما يلوح منهم من أماراتها برائحة طيب، يعبق، فيملأ الكون، "ولم ينقل أحد من أهل الأخبار" عن أحد غيره "أن أحدًا نبئ" بهمز آخره، أي: صيره الله نبيًا "واصطفى " أي: اصطفاه الله واختاره "ممن عرف بكفر وإشراك" عطف خاص على عام "قبل ذلك، أي: نبوته واصطفائه، و"ومستند" اسم مفعول، أي: ما يستند إليه ويعلم به "هذا الباب" أي: باب معرفة أحوال الأنبياء، "النقل" عن الأخبار والآثار، ويؤيدهخ العقل الدال على أنه تعالى لا يختار من خلقه لنبوته إلا من كان كذلك، فليس المراد الحصر، وقد عقبه عياض بما يدل على موافقة العقل للنقل، "ثم قال" بعد كلام طويل في الأجوبة عن آيات وأحاديث: ليس المراد ظاهرها.

"وقد استبان" أي: تبين: والسين للتأكيد لا الطلب، ولأن ما يثبت من شأنه أن يناقش فيه "بما قررناه" الباء للسببية، فإذا تأملته بأن لك "ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه وسلم عن الجهل بالله وصفاته" بأن ينفي وجود ذاته، أو يتردد فيه، أو ينفي شيئًا من صفاته، أو يعتقد شيئًا منها على خلاف حقيقته، وكذا سائر الأنبياء، "أو" استبان لك عصمته من "كونه" أي: وجوده وخلقه، كسائر الأنبياء "على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك" أي: ذاته وصفاته "كله جملة" فلا يجهل شيئًا من ذلك أصلاً لا سيما "بعد النبوة عقلًا" وشرعًا لقضائه بحيازته جميع الشرف والكمال، لأنه تعالى لا يصطفي غلا من هو كذلك، "وإجماعًا" من كل المسلمين "وقبلها سمعًا ونقلًا" في الأحاديث الصحيحة، والجمع بينهما للتوكيد، والمنصوبات تمييز، "ولا بشيء" عطف على قوله بشيء قبله"، أي: ولا كونه على حالة تنافي العلم بشيء "مما قرره من أمور الشرع" الذي أمر بتبليغه، "وأداه" أوصله وبلغه "عن ربه من الوحي قطعًا" مقطوعًا به، متيقنًا بلا خلاف "عقلًا وشرعًا، لأنه منافٍ لإرساله به وأمره بتبليغه، فكيف يجوز عليه جهل شيء منه، فالأنبياء معصومون من ذلك لدلالة المعجزات على علمهم وصدقهم فيما بلغوه عن الله، وإلا كان افتراء

ص: 5

وأرسله، قصدًا أو غير قصدًا، واستحالة ذلك عليه شرعًا وإجماعًا، ونظرًا وبرهانًا، وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعًا، وتنزيهه عن الكبائر إجماعًا، وعن الصغائر تحقيقًا، وعن استدامة السهو والغفلة، واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته في كل حالاته من رضا وغضب، وجد ومزح، ما يجب لك أن تتلقاه باليمين، وتشد عليه يد ضنين، فإن من يجهل ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو يجوز أو

على الله، وهو باطل عقلًا وشرعًا، "وعصمته" بالجر عطف على عصمته الأولى "عن الكذب" لمنافاة المعجزة له، "وخلف القول" لئلا يتهم في تبليغه "منذ نبأه الله وأرسله" فلم يصدر عنه شيء منه، وهو مستحيل "قصدًا" بأن يقول ما يخالفما أرسل به اختيارًا "أو غير قصدًا، فلا يقع ذلك منه سهوًا ونسيانًا، وإليه ذهب أبو إسحاق الإسفرايني، وجوزه الباقلاني لعدم منافاته للمعجزة، لأنه لا يقر عليه، "واستحالة ذلك" الكذب والخلف "عليه شرعًا وإجماعًا ونظرًا وبرهانًا".

وفي نسخة: أو قبل قولهنظرًا وهي أحسن، لأن المعنى أن استحالة ذلك شرعًا وإجماعًا مما دل عليه النظر، والدليل العقلي "وتنزيهه" أي: تبرئته "عنه قبل النبوة قطعًا" لتواتره، فكان يسمى الأمين، لأنه مأمونن قولًا وفعلًا، "وتنزيهه عن الكبائر إجماعًا" لرفعة قدره عنها، "عن الصغائر تحقيقًا" إثباتًا بالدلائل المفيدة لذلك، فالتحقيق إبات المسألة بدليلها، أو أمرًا محققًا، ولتجويز بعضهم لها لم يقل إجماعًا أو قصدًا بقرينة، قوله:"وعن اساتدامة السهو والغفلة" عطف تفسير لبعد ساحة التبليغ عنها، فإن وقع نبه عليه بسرعة، ولله در القائل:

يا سائلي عن رسول الله كيف سها

والسهو من كل قلب غافل لاهي

قد غاب عن كل شيء سره فسها

عما سوى الله فالتعظيم لله

"و" عن "أستمرار الغلط والنسيان عليه" حفظًا له بإيقاظ قلبه وتنبهه "فيما شرعه للأمة"، لأن استمراره منافٍ لتشريعه له، "وعصمته" بالجر، ويجوز رفعه خبره كائنة "في كل حالاته من رضا وغضب وجد""وبكسر الجيم ضد الهزل"، "ومزح" فإن مزح لا يقول إلا حقًا "ما يجب لك" بدل من قوله ما هو الحق، ويجوز أن ما لتأكيد القلة في الحالات الأربع، ويجب مستأنف، ولفظ الشفاء: فيجب عليك "أن تتلقاه" أي: تأخذه وتعلمه "باليمين" أي: بالقبول واليمن والبركة، لأنه يؤخذ بها ما ينتفع به لسهولة العمل بها عادة، والعرب تقول لها يتمدح به أخذه باليمين، قال الشماخ:

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

"وتشد عليه يد لضنين" البخيل وزنًا، ومعنى من الضنة، وهي شدة البخل، أي تحرص

ص: 6

يتسحيل عليه، ولا يعرف صور أحكامه لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه، ولا ينزهه عما لا يجوز أن ياضف إليه، فيهلك من حيث لا يدري، ويسقط في هوة الدرك الأسفل من النار، إذ ظن الباطل به واعتقاده ما لا يجوز عليه يحل صاحبه دار البوار.

وقداستدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر، بالمصير إلى امتثال

على حفظ ما ذكر من تنزيه قدره عما ذكر، كحرص البخيل على ما في يده لشدة بخله وخوفه من ذهابه، وفيه مع اليمين مراعاة النظير، وفسر بالقوة ولا يناسب هنا، "فإن من يجهل ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم" اعتقاده، "أو يجوز أو يستحيل عليه" أي: يمتنع في حقه شرعًا وعقلًا وعادة، "ولا يعرف صور أحكامه" أي: الحكم المتصور في حقه من وجوب وجواز وحرمه، "لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه"، فيقع فيما لا يجوز اعتقاده، "ولا ينزهه عما لا يجوز أن يضاف" أي: ينسب "إليه" ويوصف به، "فيهلك" أي: يقع في أمر هو سبب هلاكه في الدارين "من حيث لا يدري" لجهله، "ويسقط في هوة""بضم الهاء وشد الواو"، وهو العميق، كالبئر "الدرك""بفتحتين"، وقد تسكن الراء ما ينزل به إلى "الأسفل" من دركات المنازل "من النار" أي: نار جهنم، فالتعريف للعهد، وهي هنا مجاز عن محلها، ويستعمل كثيرًا بهذا المعنى، وهو عبارة عن قابه أشد العقاب في الآخرة بسبب ما ذكره، ولذا علله بقوله:"إذ ظن الباطل به" أي: ما لا يصح في حقه "واعتقاده" على طريق الجزم "ما لا يجوز عليه" شرعًا وعقلًا، "يحل""بضم الياء وكسر الحاء وشد اللام"، وفاعله ضمير ما ذكر من الظن والاعتقاد، أي: يحل "صاحبه" أي: ذلك الاعتقاد "دار البوار""بفتح الموحدة" الهلاك، يعني جهنم، هو من أسمائها، أي: يجعله حالاً فيها، وضبط البرهان يحل، بفتح أوله وضم ثانيه، وصاحبه فاعل، وهو جائز أيضًا، وطلب الرواية في مثل هذا عناء بلا طائل، فنطق عياض باحد الضبطين لا يمنع الثاني، فهو كلام لا حديث يمنع بغير ما روي به.

قال: في الشفاءك ولهذا احتاط على الرجلين اللذين رأياه ليلًا في المسد مع صفيه، فقال لهما: إنها صفية، ثم قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا فتهلكا، ثم قال بعد طول جوز جماعة من السلف ويغرهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين الصغائر على الانبياء، وذهب طائفة إلى الوقف، وذهب المحققون من الفقهاء والمتكلمين إلى عصمتهم منها كالكبائر، ثم بعد كلام قليل ما حكاه المصنف، بقوله:"وقد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى امتثال أفعالهم"، أي: فعل مثلها اقتداء بهم، فلو وقع ذلك منهم، أو جاز فعله الناس، وظنوه شرعًا، فلذا عصموا

ص: 7

أفعالهم واتباع آثارهم وسيرتهم مطلقًا، وجمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب ملك والشافعي وأبي حنيفة من غير التزام قرينة بل مطلقًا عند بعضهم، وإن اختلفوا في حكم ذلك، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم في أفعالهم، غذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده من القربة والإباحة والظر والمعصية، انتهى.

واختلف في تفسير هذه الآية على وجوه كثيرة:

أحدها: أي وجد ضالًا عن معالم النبوةب، وهو مروي عن ابن عباس

منها، لأن ذنب العظيم عظيم، وإن قال:"واتباع آثارهم وسيرتهم مطلقًا" سواء كانت ضرورية أم جبلية، كالقيام والقعود، والأككل والشرب، فإنا نتأسى بهم، وفيه، وإن كان مباحًا أرجح من الظاهر، "وجمهور الفقهاء على ذلك"، أي: اتباع آثارهم مطلقًا إن لم يعلم أنه خصوصية لهم "من أصحاب" أي: كبار مذهب "ملك والشافعي، وأبي حنيفة، من غير التزام" قيام "قرينة" تدل على أنه فعله للتشريع والاقتداء به فيه "بل" يقتصدي بفعله "مطلقًا" من غير التزام قرينة المشروعية "عند بعضهم، وان اختلفوا" بعد القول "في حكم ذلك"، فذهب كثير من الفقهاء والمحدثين وأكثر الشافعية إلى استحباب اتباعه في الأمور الجبلية، كغيرها.

وذهبجماعة إعلى أنه مباح أحسن من غيره، وحكى أبو الفرج، وابن خويز منداد عن ملك، الوجوب، وبه قال أكثر أصحابنا، وأكثر أهل العراق، وابن سريج والاصطخري، وابن خيران، عن الشافعية، هذا ملخص ما حذفه المصنف من الشفاء قبل موته:"إذ ليس كل فعل من أفعاله" كغيره منهم "يتميز مقصده" أي: ما قصده به "من القربة" بأن يكون واجبًا أو مندوبًا، "والإباحة" بأن لا يترتب عليه ثواب، ولا عقاب، أو مدح، أو ذم، "والحظر" بالمشالة، أي: المنع شرعًا، لكونه محرمًا أو مكروهًا، أو خلاف الأولى والمكروه "انتهى" ما نقهل عن عياض.

وقال عقبة: ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعراضا، وما كان ينبغي للمصنف حذف هذا، لأنه من جملة الدليل وما كان يزيد به الكتاب، "واختلف في تفسير هذه الآية على وجوه كثيرة".

"أحدها: أي: وجدك ضالًا عن معالم النبو" أي: مظانها وهي ما أنزل عليه من القرآن وغيره، وما ظهر عليه من الآيات، فالمعالم، جمع معلم مظنة الشيء وما يستدل به عليه، كما في القاموس.

ص: 8

والحسن والضحاك وشهر بن حوشب، ويؤيده قوله تعالى:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] أي ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، قاله السمرقندي وقال بكر القاضي: ولا الإيمان الذي هو الفرائض والأحكام، فقد كان عليه الصلاة والسلام قبل مؤمنًا بتوحيده، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فازداد بالتكاليف إيمانًا، وسيأتي آخر هذا النوع مزيد لذلك إن شاء الله.

الثاني: من معنى قوله تعالى: ضالًا ما روي مرفوعًا مما ذكره الإمام فخر الدين الرازي أنه عليه الصلاة والسلام قال: ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي

وزاد المصنف في معالم الشفاء: لعله إشارة إلى أن النبوة نفسها الأخبار بها كأن قيل له: أنت نبي، أو وجد ما يدل على اتصافه بالنبوة منغير وحي بشرع لا يفيد هداية وإنما يفيدها الآثار الآتية من الشرع التي يعمل بها وإن لم يؤمر بتبليغها قرره شيخنا، "وهو مروي عن ابن عباس، والحسن" البصري "والضحاك، وشهر بن حوشب" وقال به ابن جرير: لأن الضلال لغة العدول عن الاستقامة وضده الهداية، فكل عدول ضلال سواء كان عمدًا أم لا فمعناه غير مهتدٍ لما سبق لك من النبوة فهداك إليها، كقوله:{فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] ويؤيده قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] الآية، أي: ما كنت تري قبل الةوحي أن تقرأ القرآن" أي: لا تعرف قراءته ولا دراسته "ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان" قيل وهذا في غاية البعد، لأنه تقدير بلا قرينة تدل عليه ووجه بأن تعريف الإيمان عهدي والمراد إيمان أمته أي: لا تدري كيف يؤمن قومك، وبأي طريق يدخلون في الإيمان وبعده لا يخفي، "قاله السمرقندي" الإمام أبو الليث الحنفي.

"وقال بكر" بن العلاء "القاضي" القشيري، المالكي:"ولا الإيمان الذي والفرائض والأحكام" الشرعية التي كلف بها علمًا وعملًا "فقد كان عليه الصلاة والسلام قبل" أي: قبل النبوة "مؤمنًا بتوحيده": أي: بأنه منفرد بالألوهية لا شريك له، "ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل فازداد بالتكليف"، أي: بسبب ما كلف به من الفرائض "إيمانًا، وسيأتي آخر هذا النوع مزيد لذلك إن شاء الله" فإنه ذكر هنا للتأكيد.

"الثاني: من معنى قوله تعالى: {ضَالًّا} ما روي مرفوعًا مما ذكره الإمام فخر الدين الرازي، مما يفد أنه على حقيقته، فإنه يقال ضل الرجل الطريق، وضل عنه، زال عنه فلم يهتد إليه، فهو ضال، وذلك "أنه عليه الصلاة والسلام، قال: ضللت" بفتح اللام من باب ضرب لغة

ص: 9

حتى كاد الجوع يقتلني فهداني الله.

الثالث: يقال: ضل الماء في اللبن إذا صار مغمورًا فمعنى الآية، كنت مغمورًا بين الكفار بمكة فقواك الله حتى أظهرت دينه.

الرابع: أن العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة، كأنه تعالى يقول: كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله تعالى ومعرفته إلا أنت، فأنت شجرة فريدة في مفازة الحمد.

الخامس: قد يخاطب السيد والمراد قومه، أي وجد قومك ضالين فهداهم بك وبشرعك.

نجد وهي الفصحى، وبها جاء القرآن في قوله:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50] ، وفي لغة لاهل العالية من باب تعب، أي: تهت وغبت "عن جدي عبد المطلب" واصل الضلالة الغيبة ومنه، قيل للحيوان الضائع: ضالة "وأنا صبي حتى كاد" قارب "الجوع يقتلني فهداني الله" وردني إليه.

وفي سيرة ابن إسحاق زعموا أن أمه السعدية لما قدمت به مكة ضل منها في الناس فأتت جده فأخبرته فقام عند الكعبة، فدعا الله أن يرده فوجدجه ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش، فأتيا به إلى عبد المطلب، فأخذه على عنقه وطاف وعوذه ودعا له، ثم أرسله إلى آمنة.

ويروى أن عبد المطلب تصدق بألف ناقة كوماء وخمسين رطلًا من ذهب وجهز حليمة أفضل الجهاز.

"الثالث: يقال ضل الماء في اللين غذا صار مغمورًا" من تقديم الدليل على المدلول، وإذا كان كذلك، "فمعنى الآية كنت مغمورًا بين الكفار بمكة فقواك الله حتى أظهرت دينه الرابع أن العرب تسمى الشجرة الفريدة في الفلاة" الأرض لا ماء فيها، والجمع فلا مثل حصًا وحصاة وجمع الجمع أفلاء مثل سبب وأسباب "ضالة"، كأنه تعالى يقولك كانت تلك البلاد" مكة وما حولها، "كالمفازة" الموضع المهلك مأخوذ من فوز بالتشديد إذا مات لأنها مظنة الا الموت.

وقيل: ما فازا، إذا نجا وسلم، سميت به تفاؤلًا بالسلامة "ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان باللهتعالى ومعرفته إلا أنت، فأنت شجرة فريدة في مفازة الحمد" ولم يذكر الجوهري وإتباعه هذا وما قبله من معاني ضل، لكن اللغة والسعة "الخامس قد يخاطب السيد والمراد قومه" لاستحالة وصف السيد، بذلك الوصف أو باستعمال اسمه في اسم قومه مجازًا، "أي: وجد قومك ضالين فهداهم بك وبشرعك" عطف تفسير لقوله بك، المعبر به عن ذاته،

ص: 10

السادس: أي محبًا لمعرفتي، وهو مروي عن ابن عطاء، والضال: المحب، كما قال تعالى:{إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] أي محبتك القديمة، ولم يريدوا هنا في الدين، إذ لو قالوا ذلك في نبي الله لكفروا.

السابع: أي وجدك ناسيًا فذكرك، وذلك ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة، فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال: لا أحصي ثناء عليك.

الثامن: أي وجدك بين أهل الضلال فعصمك من ذلك وهداك للإيمان وإلى إرشادهم.

وأسند الهداية غليها مبالغة في مدحه حتى كأن ذاته نور يهتدي به بمجرد رؤيته صلى الله عليه وسلم، وجعله شرعه لظهوره على يديه ومجيئه به.

"السادس": ضالًا، "أي: محبًا لمعرفتي" بفتحتين، الصوفي له لسان في فهم القرآن يختص به، ولما كان هذا خلاف المشهور لغة بينه ابن عطاء نفسه، بقوله: "والضال المحب كما قال تعالى وعن أخوة يوسف خطابًا لأبيهم: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95]، "أي: محبتك القديمة" ليسوف لا تنساه، وهذا منقول عنقتادة وسفين، فلا يضر عدم وجوده ي الصحاح واتباعه، فاللغة واسعة "ولم يريدوا هنا" في هذه الآية ضلالة "في الدين" بأن يعتقدوا خطأه في دينه باعتقاده خلافه، أو إصراره على ما ينافيه "إذ لو قالوا ذلك في نبي الله" يعقوب "لكفروا" بنسبته إلى ما لا يجوز عليه وتحقيره، لكن عدم إرادة ذلك لا يستلزم حمله على المحبة، لجواز أن يريدوا لفي تحيرك عما يوصلك إلى العلم بحال يوسف أو نحو ذلك.

وفي الأنوار: لفي ذهابك عن الصواب قديمًا بالإفراط في محبة يوسف وإكثار ذكره والتوقع للقائه.

"السابع: أي: وجدك ناسيًا فذكرك، وذلك ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة" من الله تعالى: "فهداه الله تعالى إلى كيفية" أي: صفة "الثناء" الذي فضل به الأنبياء "حتى قال: لا أحصي لثناء" أي: لا أستوعب ولا أبلغ الواجب في الثناء "عليك" أنت، كما أثنيت على نفسك.

"الثامن: أي وجدك بين أهل الضلال، فعصمك" عن الانتظام في سلكهم والتبلس بشيء من ضلالهم، كعبادة الأصنام "من ذلك" أي: الضلال وموافقة أهله فيه، "وهداك للإيمان" به ومعرفته، إذ جعله فطرة لك وأودع فيك ما يرشدك له بعقلك السليم، ثم أرشدك له بالوحي،

ص: 11

التاسع: أي وجدك متحيرًا في بيان ما أنزل إاليك، فهداك لبيانه، كقوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وهذا مروي عن الجنيد.

العاشر: عن علي أمير المؤمنين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد، ثم ما هممت بعدهما بشيء حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة الغلام من قريش كان يرعى غنما بأعلى مكة، لو حفظت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما

"وإلى إرشادهم" أفعال من الرشد ضد الغي وهو قريب من الهداية، كما قال الراغب، وأفاد بقوله: فعصمك أنه من قبل الشرع ولم يستفد هذا من الخامس، فبهذا غايره ولا يرد أن قوله فيه فهداهم بشرعك يفيد عصمته لاستحالة أن يهديهم مع موافقتهم، لأن شرعه متأخر، فقد كان بينهم قبله أربعين سنة، ثم هذا التأويل مروي عن السدي وغير واحد، كما قال عياض: فالضلال بمعناه المشهور، وليس متصفًا به، ولكونه بين أهله أطلق عليه مجاز العلاقة المجاورة.

"التاسع: أي: وجدك متحيرًا" واقعًا في الحيرة " في بيان ما أنزل إليك" من القرآن، "فهداك لبيانه" بإظهاره وبيان ما خص من معانيه في حال تبليغه لأمته، "كقوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} القرآن لما فيه من التذكير والمواعظ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] الآية، مما خفي عليهم، فالضلال التحير فيما شق عليه في ابتداء أمره، "وهذا مروي عن الجنيد" أبي القسم بن محمد النهاوندي، شيخ المشايخ، العلم المشهور رحمه الله.

"العاشر: عن علي أمير المؤمنين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما هممت بفتح الميم الأولى بابه نصر، وهو أول العزم "بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون" ضمنه معنى يتمسكون، فعداه "به" أو الباء زائدة في المفعول "غير مرتين، كل ذلك يحول": يحجز ويمنع "الله بيني وبين ما أريد" من ذلك، "ثم ما هممت بعدهما بشيء حتى أكرمني الله برسالته" وبين المرتين، فقال:"قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى غنمًا بأعلى مكة" لبعض قريش: أود "لو حفظت لي غنمي" فلو لتتمني ما لها جواب أو محذوف، أي: لكان ذلك جميلًا منك "حتى أدخل مكة" وصريحه أنه رعاها قبل البعثة. ويؤيده حديث أبي هريرة عند البخاري مرفوعًا: ما بعث الله نبيًا إلا رعي الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟، قال: كنت أرعاها قراريط لأهل مكة.

وفي رواية ابن ماجة: كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط، قال المصنف: كغيره، والحكمة في إلهامهم ذلك قبل النبوة ليحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، انتهى.

ص: 12

يسمر الشباب، فخرجت حتى أتيت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا بالدفوف والمزامير فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته.

فزعم أن رعيهم لها إنما كان بعد البعثة تهور، وتمسكه لذلك بالحديث المذكور أعجب، منشؤه عدم الوقوف على شيء، "فأسمر بها""بضم الميم"، أي: أتحدث.

قال المجد: وسمر سمر، أو سمورًا لم يتم، والسمر محركة الليل وحديثه، وفي خطبته، إذا ذكر المصدر، فالفعل بزنة كتب، "كما يسمر""بفتح أوله وضم الميم" يتحدث "الشباب، فخرجت حتى أتيت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا""بمهملة وزاي وفاء بزنة فلس"، أي: لعبًا من باب التجريد، استعمل العزف في مطلق اللعب من استعمال المطلق في مقيده، فعلق به قوله:"بالدفوف": جمع دف، آلات يضرب بها، وإلا فالعزف اللعب بالدف "بضم الدال وفتحها"، "والمزامير": جمع مزمار "بكسر الميم"، "فجلست أنظر غليهم، فضرب الله على أذني"، أي: بعث عليهما النوم، "فنمت" فلم أسمع شيئًا، "فما أيقظني إلا مس الشمس" أي: حرها، "ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، فضرب الله على أذني، فما أيقظني إلا مس الشمس" فلم أسمع شيئًا، "ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته" فكأنه عبر بضالًا عن هذا الهم مرتني، وأنه هداه بصرفه عن ذلك، بإلقاء النوم عليه، إشارة إلى عنايته به من صغره ومنعه من سماع لغط الجاهلية ولعبهم وغنائهم، وإن لم يكن ذلك حينئذٍ ضلالًا، لأنه صانه من قبل البعثة عما يخالف الشرع.

وقيل: معناه وجدك ضالًا لم يعرفك أحد بالنبوة حتى أظهرك الله، فهدى بك السعداء.

وقيل: وجدك ضالًا بين مكة والمدينة فهداك إلى المدينة وقيل: وجدك قائمًا بأعباء الرسالة وتبليغها، فهدي بك ضالًا.

وعن جعفر بن محمد: وجدك ضالًا عن محبتي لك في الأزل، أي: لا تعرفها، مننت عليك بمعرفتي.

وقيل: ناسيًا فهداك، كقول موسى {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282]، أي: تنسى.

وقرأ الحسن بن علي: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} أي: اهتدى بك، حكاها في الشفاء، ثم قال: لا أعلم أحدًا من المفسرين، قال: فيها ضالًا عن الإيمان، وقد قال ابن عباس: لم يكن له ضلالة معصية انتهى.

ص: 13

وأما قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2-3] .

فقد احتج بها جماعة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين المجوزين للصغائر على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وبظواهر كثيرة من القرآن والحديث، إن التزموا ظواهرها أفضت بهم -كما قال القاضي عياض- إلى تجوزيز الكبائر، وخرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم، فكيف وكل ما احتجوا به منها مما اختلف المفسرون في معناه، وتقابلت الاحتمالات في مقتضاه، وجاءت أقاويل فيها للسلف

وفي الكشاف من قال: إنه كان على أمر قومه أربعين سنة، أن اراد خلوه عن الأمور السمعية فنعم، وإن أراد على كفرهم ودينهم، فمعاذ الله، فإنه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها عن الكبائر والصغائر البتة، فما بالك بالكفر والجهل بالله، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيءء وكفى نقيصة عند الكفار أن يسبق منه كفر انتهى.

"وأما قوله تعالى": قسيم لمقدر أول النوع، أي: منها ما ذكره بقوله: قال الله تعالى: {وَوَضَعْنَا} حططنا {عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ} أثقل: {ظَهْرَكَ} [الانشراح: 2]، "فقد احتج بها جماعة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين" أي: علماء الكلام الباحثين عن العقائد، سموا بذلك لأن مسألة كلام الله من أجل مباحثة، أو لكثرة دور الكلام فيه بين السلف "المجوزين" بلا واو في نسخ، وهي ظاهرة، وفي نسخة بالواو كأكثر الأصوليين "للصغائر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" حيث أبقوها على ظاهرها أن الوزر هو الإثم، "وبظواهر كثيرة من القرآن والحديث" أتى بظواهر إشارة إلى أنها ليست بحجة في الباطن "إن التزموا ظواهرها"، بأن قالوا: بلزوم اعتقاد الظاهر منها "أفضت بهم" أوصلتهم، "كما قال القاضي عياض: إلى تجويز الكبائر" عليهم عمدًا، "وخرق الإجماع" أي: مخالفة ما أجمع عليه الناس من قولهم: خرق المفازة إذا قطعها، فأريد به لازمه وهو المجاوزة "وما لا يقول به مسلم" أي: أفضت بهم إلى رأي: لم يقله أحد من المسلمين، لأن الآيات والأحاديث التي احتجوا بها، كما تشمل الكبيرة من حيث أنه إثم وذنب، وتشمل كل ما أجمع على أنه لا يقع منهم، مع أنهم لا يقولون بجواز وقوع الكبيرة منهم عمدًا، إذ لم يقله إلا الحشوية، ولا عبرة بهم ولا بجواز خرق الإجماع، وأما سهو فأجازه بعضهم، واختلف في أن امتناعه سمعي أو عقلي، كما مر، "فكيف" يسوغ لهم الاحتجاج بتلك الظواهر، "وكل ما احتجوا به منها مما اختلف المفسرون في معناه" فطرقته الاحتمالات فسقطت به الدلالات، "وتقابلت": تخالفت وتعارضت "الاحتمالات في مقتضاه" من تجويز وقوع ما خرج به عن

ص: 14

بخلاف ما التزموه في ذلك. فإذا لم يكن مذهبهم إجماعًا، وكان الخلاف فيما احتجوا به قديمًا، وقامت الدلائل على خطأ قولهم، وصحة غيره، وجب تركه والمصير إلى ما صح، انتهى.

وقد اختلف في هذه الآية:

فقال أهل اللغة: الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أي صوت كصوت المحامل والرحال، وهذا مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقداره.

وقيلك المراد منه تخفيف أعباء البنوة التي يثقل الظهر القيام بأمرها، وحفظ موجباتها، والمحافظة على حقوقها، فسهل الله تعالى ذلك عليه، وحط عنه ثقلها

صلاحيته للحجة "وجاءت أقاويل" جمع اقوال، جمع قول، فهو جمع الجمع، "فيها للسلف بخلاف ما التزموه في ذلك" الذي استدلوا به، "فإذا لم يكن مذهبهم" في تجويزها عليهم "إجماعًا" أي: مجمعًا عليه لكثرة من خالفهم، "وكان الخلاف فيما احتجوا به قديمًا" لا حادثًا بعد انعقاد الإجماع حتى يكون خلافًا لا يعتد به "وقامت الدلائل على خطأ قولهم" بتجويزها عليهم، "وصحة غيره" في عدم الجواز "وجب تركه والمصير إلى ما صح" من عدم التجويز، غذ العبرة بالأدلة لا بكثرة القائلين. انتهى كلام عياض متعة الله برؤيته في الرياض.

"وقد اختلف في هذه الآيبة، فقال أهل اللغة: الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أي: صوت كصوت المحامل والرحال" وكلما حملته ثقيلًا، فإنه ينتقض تحته.

قال عباس بن مرداس:

وأنقض ظهري ما تطوقت منهم

وكنت عليهم مشفقًا متحننا

قال ابن عطية، وصدر بقوله: أي: هزيلًا من الثقل، "وهذا مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقداره" أي: من مقادير ما كلفه، "وقيل: المراد منه تخفيف أعباء" "بالفتح" أثقال "النبوة" جمع عبء "بالكسر" ويفتح الثقل من كل شيء تنزيلًا للمعقول منزلة المحسوسات "التي يثقل الظاهر القيام بأمرها" فهو مجاز عن أتعاب صاحبه، بحيث يصير كالحامل على ظهره ما يثقل عليه، بحيث تناله مشقة عظيمة من ذلك، وفسر القيام بقوله: "وحفظ موجباتها، والمحافظة على حقوقها فسهل الله تعالى ذلك عليه، وحط" تفسير لوضع "عنه ثقلها" بفتح القاف "بأن يسرها عليه حتى تيسرت له" وهذا عزاه عياض

ص: 15

بأن يسرها عليه حتى تيسرت له.

وقيل: الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل، وكان لا يقدر على منعهم غلى أن قواه الله وقال له:{اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] .

وقيل: معناه عصمناك عن الوزر الذي أنقض ظهرك لو كان ذلك الذنب حاصلًا، فسمي العصمة "وضعًا" مجازًا، ومن ذلك ما في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة فضرب الله على أذنه فما أيقظه إلا حر الشمس من الغد.

وقيل: ثقل شغل سرك وحيرتك وطلب شريعتك، حتى شرعنا لك ذلك.

وقيل معناه: خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت وحفظ عليك، ومعنى أنقض أي كان ينقضه، قال القاضي عياض: فيكون المعنى على قول من

للماوردي والسلمي.

"وقيل: الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل" لطريقة إبراهيم"، وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله، وقال له:{اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} في التوحيد، والدعوة برفق ونحو ذلك، فالوزر على هذه الاقوال الثلاثة مجاز بمعنى الثقل.

"وقيل: معناه عصمناك" أي: منعناك وحفظناك "عن" ملابسة "الوزر الذي أنقض ظهرك لو كان ذلك الذبن حاصلًا، فسمي العصمة وضعًا مجازًا".

"ومن ذلك ما في الحديث؛ أنه عليه الصلاة والسلام حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة" ليلة إحدى المرتين السابقتين لقوله هناك غير مرتين، "فضرب الله على أذنه" بالإفراد على إرادة الجنس، "فما أيقظه" نبهه "إلا حر الشمس من الغد".

"وقيل": معناه "ثقل شغل سرك" أي: قلبك أو خواطر قلبك، "وحيرتك": تحيرك في ابتداء أمرك "وطلب شريعتك""بالرفع" أي: طلبك من الله ما يثبت بالوحي، لتعمل به "حتى شرعنا لك ذلك" بوالحي فاطمأن قلبك وذهبت حيرتك حكي معناه القشيري، كما في الشفاء.

"وقيل معناه خففنا عنك ما حملت" أي: كلفت حمل أثقاله من دعوة الخلق تبليغا أمانة الرسالة التي لم تطق حملها الجبال، "بحفظنا لما استحفظت" أي: نحن حفظنا ما أمرناك بحفظه عليك مما عسرك عليك القيام به، وجعلنا لك قوة وصبرًا، صير أثقاله خفيفة، "وحفظ عليك"، أي: منع عن الضياع، فأديته على أتم وجه يمكن أداؤه به، ودفع ما ورد عليه أنه إذا خفقها لم تنقض ظهره، بقوله: تبعًا لعياض، "ومعنى أنقض" ظهره على هذا، "أي: كاد" أي:

ص: 16

جعل ذلك لما قبل النبوة: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمور فعلها قبل نبوته وحرمت عليه جعل بعد النبوة فعدها أوزارًا وثقلت عليه وأشفق منها.

وقيل: إنها ذنوب أمته صارت عليه كالوزر، فأمنه لله من عذابهم في العاجل بقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ووعده الشفاعة في الآجل.

وأما قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] .

فقال ابن عباس: أي أنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان.

قرب "ينقضه" أي: يعيه ويثقله، ولم ينقضه بالفعل، ويجوز إبقاؤه على ظاهره، وأنه أنقضه بالفعل، لكنه خفف عنه، فكأنه لم ينقضه.

"قال القاضي عياض" مبينًا وجه دفع ما ذكره لم تمسكوا به: "فيكون المعنى" لوضعنا عنك إلى آخره "على قول من جعل ذلك" الوضع مصروفًا "لما قبل النبوة، اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم" خبر يكون "بأمور فعلها قبل نبوته"، أي: اعتناءه ببيان الله لحكمها حتى لا يكون عنده هم وغم "وحرمت عليه بعد النبوة" ولم يكن مكلفًا بها قبلها "فعدت أوزارًا" بعدما حرمت باعتبار ما بعد النبوة، "وثقلت عليه، وأشفق" خاف "منها" من المؤاخذة بها لشدة مراقبته وخشيته لله، فمعنى وضعها على هذا، إعلامه بعدم المؤاخذة بها؛ وأنها ليست وزرًا عليه يخافه، لأنه لم يكن مكلفًا بتركها.

"وقيل: إنها ذنوب أمته صارت عليه كالوزر" بجعل المعقول كالمحسوس "فأمنه اله من عذابهم في العاجل بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأفال: 33] ، "ووعده الشفاعة في الآجل"، بنحو قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ، وقيل حططنا عنك ثقل أيام الجاهلية، كاه مكي "واما قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]"فقال ابن عباس: في إزالة الشبهة عن ظاهره المقتضى وقوع ذنوب من عليه بغفرانها، مع أنه لا ذنب، "أي: إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب، أن لو كان" أي: وجد فهي تامة، فهو على طريق الفرض تطمينًا له، فلم يرد أنه وقع ذنب غفر، بل لو فرض وقوعه وقع مغفورًا.

وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أن يقول: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} ، سر بذلك الكفار، فأنزل {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .

ص: 17

وقال بعضهم: أراد غفران ما وقع وما لم يقع، أي أنك مغفور لك.

وقيل: المراد ما كان عن سهو وغفلة وتأويل، حكاه الطبري واختاره القشيري.

وقيل: ما تقدم لأبيك آدم عليه السلام، وما تأخر من ذنوب أمتك، حكاه السمرقندي والسلمي عن ابن عطاه.

"وقال بعضهم: أراد غفران ما وقع" قبل النبوة مما لا يؤاخذ به، لأنه لا شرع يلتزم أحكامه، ولا يصح أن المراد من الصغائر عند مجوزها، لأن السياق في دفع شبهة من جعل هذه الاآية دليلًا على وقوع الصغائر، "وما لم يقع" بفرض وقوعه، "أي: إنك مغفور لك" في الحالين، فغاير كلام ابن عباس، لأنه فرض وتقدير لا غير، وهذا على تجويز الوقوع، لكن إن وقع مغفورًا فهو كغيره من الأنبياء، إن وقع منهم لم يؤاخذوا به قطعًا بخلاف الأمة فتحت المشيئة.

"وقيل: المراد" بما تقدم "ما كان" وقع منه "عن سهو وغفلة"، و"المراد بما تأخر، ما صدر عن "تأويل"، أي: بيان لمعنى يحتمله النص فيحمله عليه باجتهاده، ثم تبين له أن الصواب أو الأولى خلافه، لأن التأويل بيان ما يؤل إليه فيناسب ما تأخر، كما في شرح الشفاء، فلا حاجة لجعل الواو بمعنى، أو "حكاه الطبري" محمد بن جرير، "واختاره القشيري" عبد الكريم بن هوازن، ولعل المراد بغفران الثلاثة مع أن آحاد الأمة لا يؤاخذ بها عدم المؤاخذة باللوم على سبب الغفلة والسهو والنسبة إلى التقصير، بسبب التأويل المبني على شبهة لو فرض وقوعها بخلاف غيره، فمؤاخذ بذلك.

"وقيل: ما تقدم لأبيك آدم عليه السلام، وما تأخر من ذنوب أمتك"، فاللام للتعليل، أي: غفر لآدم لألك لما توسل بك، ولكونك في صلبه، ولأمتك لدعائك، ولأنك رحمة لهم، "حكه السمرقندي والسلمي""بضم ففتح""عن" أحمد "بن عطاء" الأدمي، وحكاه الثعلبي عن عطاء الخراساني.

قال السيوطي: وهو ضعيف، أما أولًا فلأن آدم نبي معصوم لا ينسب إليه ذنب البتة، فهو تأويل يحتاج إلى تأويل، انتهى.

وتأويله، بأن المراد بتقدير أنه ذنب، أو سماه ذنبًا مجازًا وإن كان في الحقيقة ليس بذنب من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، قال: وأما ثانيًا: فلأن نسبة ذنب الغير إلى غير من صدر منه بكاف الخطاب لا يليق، وأما ثالثًان فلأن ذنوب الأمة كلها لم تغفر بل منهم من يغفر له، ومنهم من لا يغفر له، انتهى.

ص: 18

وقيل: المراد أمته.

وقيل: المراد بالذنب ترك الأولى، كما قيل: حسنات الأبرار سيآت المقربين، وترك الأولى ليس بذنب، لأن الأولى وما يقابله مشتركان في إباحة الفعل.

وقال السبكي: قد تأملتها -يعني الآية- مع ما قبلها وما بعدها فوجدتها لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا، وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون هناك ذنب،

والجواب عن الثاني: أن اللام في الآية للتعليل، كما قلنا لا للتعدية، وعن الثالث: بأن من لا يغفر له يخفف عنه بالنسبة لما يؤاخذ به غيره على ذلك الذنب من بقية الأمم، فكأنه غفر له، "وقيل المارد أمته" أي: يغفر الله لأمتك ما صدر ويصدر، فالمراد بخطابه خطاب أمته وغضافة الذنب له لأدنى ملابسة؛ لأنه يسوءه ما يسوءهم وهو الشفيع لهم، قال شيخنا: والمراد بالمغفرة على هذا ما رفع العذاب عنهم مطلقًا بالعفو، فلا يعاقبهم على شيء، أو بتخفيفه عنهم، وذلك في حق من عذب للتطهير مما اقترفه، وقال غيره: المراد أن رحمة الله لهذه الامة أكثر من غيرها.

"وقيل: المراد بالذنب ترك الأولى" وعد ذنبًا لرفعة مقامه ونزاهته، فلا يفعله كما لا يفعل الذنب الحقيقي، نعم إن كان القصد من فعل خلاف الأولى، أو المكروه بيان أنه جائز لا إثم فيه، فعله وجوبًا إن تعين طريقًا للتعليم، فيثاب عليه ثواب الواجب، "كما قيل" قائله سعيد الخراز.

رواه عن ابن عساكر في ترجمته "حسنات الأبرار سيآت المقربين" لأنه كلما ارتقى درجة عدمًا قبلها سيئة، "وترك الأولى ليس بذنب، لأن الأولى وما يقابله مشتركان في إباحة الفعل" وما أبيح ليس بذنب، فأطلق عليه اسمه مجازًا.

وفي التحفة: استغفرك، أطلب منك المغفرة" أي: ستر ما صدر مني من نقص ذنبًا كان أو غير ذنب، فهي لا تستدعي سبق ذنب لافًا لمن زعمه.

قال شيخنا: فلا حاجة إلى الاعتذار عن تسمية خلاف الأولى ذنبًا تعلقت به المغفرة، وفيه نظر لتصريح الآية بلفظ ذنب، فحمله على خلاف الأولى يحتاج للاعتذار، ولفظ استغفرك ليس فيه من ذنبي، فإنما يتأتى ما قال: لو قيل ليغفر لك فقط.

"وقال السبكي" في تفسيره: "قد تأملتها يعني الآية" بذهني "مع ما قبلها" وهو: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، "وما بعدها" وهو:{وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} ، إلى قوله:{نَصْرًا عَزِيزًا} "فوجدتها لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا، وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون هناك ذنب"، حاشى لله، "ولكنه أريد أن يستوعب في الآية جميع أنواع النعم من الله على عباده

ص: 19

ولكنه أريد أن يستوعب في الآية جميع انواع النعم -من الله على عباده- الأخروية، وجميع النعم الأخروية شيآن: سلبية وهي غفران الذنوب، وثبوتية وهي لا تتناهى، أشار إليها بقوله:{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2]، وجميع النعم الدنيوية شيآن: دينية أشار إليها بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2]، ودنيوية وهي قوله:{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] ، فانتظم بذلك تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام أنواع نعم الله تعالى عليه المتفرقة في غيره، ولهذا جعل ذلك غاية للفتح المبين الذي عظمه وفخمه

الأخروية" صفة النعم "وجميع النعم الأخروية" إظهار في مقام الإضمار ليتبين غاية البيان، "شيآن سلبية، وهي غفران الذنوب"، أي: من حيث هي، وإن لم يكن للمخاطب ذنب، لأنه لو لم يذكر غفرانها لكان فيه ترك استيعاب جميع أنواع النعم، "وثبوتية، وهي لا تتناهى، أشار إليها" إلى الثبوتية، بقوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ} ، وجميع النعم الدنيوية شيآن: دينية أشار إليها بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا} طريقًا {ُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] يثبتك عليه، وهو دين الإسلام "ودنيوية" وإن كانت هناك المقصود بها الدين.

هذا أسقطه من السبكي قبل قوله: وهي قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] ، الآية، لا ذل معه، وقدم الأخروية على الدنيوية وقدم في الدنيوية الدينية على غيرها تقديمًا للأهم فالأهم، هكذا في تفسير السبكي قبل قوله:"فانتظم بذلك تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام أنواع نعم الله تعالى عليه، المتفرقة في غيره"، ثم يحتمل رجوع جوابه بآخرة الأمر إلى قول ابن عباس: أن لو كان ضرورة الخطاب والإضافة في الآية، والأظهر أن مراد السبكي أن المعنى منعك من الذنب فلا تواقعه، إذ الغفر الستر والغطاء، وعلىهذا فلا حاجة إلى تقدير أن لو كان.

وقد قال العلامة البرماوي في شرح البخاري: المعنى والله أعلم، أي: حال بينك وبين الذنوب فلا تأتيها، لان الغفر الستر، وهو إما بين العبد والذنب، وإما بين الذنب وبين عقوبته، فاللائق بالأنبياء الأول، وبأممهم الثاني: انتهى.

ونحوه قول بعض المحققين: المغفرة هنا كناية عن العصمة، فمعنى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخرن ليعصمك فيما تقدم من عمرك وفيما أخر منه.

قال السيوطي: وهذا القول في غاية الحسن، وقد عد البلغاء من أساليب البلاغة في القرآ، أنه يكنى عن التخفيفات بلفظ المغفرة والعفو والتوبة، كقوله تعالى عند نسخ قيام الليل:"علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر منه" وعند نسخ تقديم الصدقة بين يدي النجوى {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] ، وعند نسخ تحريم الجماع ليلة الصيام

ص: 20

بإسناد إليه تعالى بنون العظمة، وجعله خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لك.

وقد سبق إلى نحو هذا ابن عطية: وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم، ولم يكن ذنوب ألبتة.

ثم قال: وعلى تقدير الجواز لا شك ولا ارتاب أنه لم يقع منه صلى الله عليه وسلم،

{فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} "ولهذا جعل ذلك أية للفتح المبين" وهو صلح الحديبية، أو مكة، نزلت مرجعة من الحديبية عدة له بفتحها، وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، أو فتح خيبر، أو غير ذلك أقوال: أرجحها عند قوم الأول، وتقدم بسطه في غزوة الحديبية "الذي عظمه وفخمه بإسناده إليه تعالى بنون العظمة" بقوله:{إِنَّا فَتَحْنَا} [الفتح: 1]، "وجعله خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لك" كأنه قيل لا لغيرك، واشار بهذا إلى جواب؛ أن المغفرة ليست سببًا، للفتح إذ السبب ما يلزم من وجوده وجود غيره، والمغفرة التي هي عدم المؤاخذة بالذنب لا تستدعي الفتح، وحاصل الجواب إن اللام علة غائية، أي: أن الفتح لما فيه من مقاساة الأهوال مع الكفار جعل سببًا للمغفرة وإتمامًا للنعمة والنصر العزيز.

وفي البيضاوي: علة للفتح من حيث أنه تسبب عن الجهاد والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة قهرًا ليصير ذلك بالتدريج اختيارًا، وتخليص الضعفة من أيدي الظلمة.

"وقد سبق إلى نحو هذا ابن عطية" لفظ السبكي: وبعد أن وقعت على هذا المعنى، وجدت ابن عطية قد وقع عليه، فقال بعد أن حكي قول سفين الثوري: ما تقدم قبل النبوة وما تأخر، يريد كل شيء لم يعمله، وهذا ضعيف، "وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم"، وهو استيعاب جميع أنواع النغم، "ولم يكن" له "ذنوب البتة" وأجمع العلماء على عصمة الانبياء من الكبائر والصغائر التي هي رذائل، وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل، واختلفوا: هل وقعت من محمد صلى الله عليه وسلم أو لم تقع؟

وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني: ما تقدم من ذنب آدم وحواء، أي: ببركتك، وما تأخر من ذنوب أمتك بدعائك.

وقال بعضهم: ما تقدم قوله يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد"، وما تأخر قوله يوم حنين:"لن نغلب اليوم من قلة"، وهذا كله معترض، هذا كلام ابن عطية برمته.

قال السبكي: وقد وفق فيما قال: فقول المتن، "ثم قال" أي: السبكي لا ابن عطية، كما توهم، فإنه خلاف الواقع إذ ابن عطية ليس فيه كما رأيت قوله:"وعلى تقدير الجواز لا أشك ولا أرتاب أنه لم يقع منه صلى الله عليه وسلم" والذي أوقعه في هذا الوهم، أن السبكي لما نقل قول ابن

ص: 21

وكيف يتخيل خلاف ذلك {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] .

وأما الفعل: فاجماع الصحابة على اتباعه والتأسي به في كل ما يفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو كبير لم يكن عندهم في ذلك توقف ولا بحث، حتى أعماله في السر والخلوة يحرصون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم أو لم يعلم، ومن تأمل أحوال الصحابة معه صلى الله عليه وسلم استحيي من الله أن يخطر بباله خلاف ذلك، انتهى.

وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}

عطية، اختلفوا هل وقع من محمد

إلخ. عقبه بقوله: قلت لا أشك، فظن أن قلت من جملة نقله، وليس كذلك، بل زيادة فصلها بلفظ قلت:"وكيف يتخيل خلاف ذلك" أسقط من قول السبكي وأحواله عليه السلام منقسمة إلى قول وفعل، أما القول، فقال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] أي: هو نفسه {إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] .

"وأما الفعل" قسيم قول السبكي: أما القول، وكأنه أسقط من المصنف سهوًا أو من نساخه، "فإجماع الصحابة على اتباعه والتأسي": الاقتداء "به في كل ما" أي: شيء "يفعله أعماله" مجرور بحتى "في السر والخلوة، يحصرون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم أو لم يعلم" كابن عمر لما سأل بلالا: هل صلى المصطفى لما دخل الكعبة؟ ولما رآه يقضي الحاجة مستقبلًا، فأفتى بذلك وغير ذلك مما وقع له ولغيره، "ومن تأمل أحوال الصحابة معه صلى الله عليه وسلم" وما عرفوه وشاهدوه منه في جميع أحواله من أوله إلى آخره، "استحى من الله أن يخطر""بضم التحتية" من أخطر ليكون من فعله "بباله خلاف ذلك" لا بفتحها من خطر لصدقه بخطوره دون فعله، ومثله لا يؤاخذ به "انتهى" كلام السبكي رادًا به قول الزمخشري: معنى الآية جميع ما فرط منك.

وقال مقاتل: ما كان في الجاهلية، وقال سفيان الثوري: ما عملت في الجاهلية وما لم تعمل، وردهما السبكي بأنه صلى الله عليه وسلم ليست له جاهلية.

وقيل: ما كان قبل النبوة، ورده بأنه معصوم قبلها وبعدها، وقيل: ما تقدم حديث مارية وما تأخر امرأة زيد، قال: وهذا باطل، فمنم اعتقد أن في قصتهما ذنبًا فقد أخطأ، وقيل: غير ذلك مما زيف كله، وللسيوطي في ذلك وريقات، سماها القول المحرر، وأما قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1] .

ص: 22

[الأحزاب: 1] .

فلا مرية أنه صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق، والأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به، إذ لا يصلح أن يقال للجالس اجلس، ولا للساكت اسكت، ولا يجوز عليه أن لا يبلغ، ولا أن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك ولا أن يطيع الكافرين والمنافقين، حاشاه الله من ذلك، وإنما امره الله بتقوى توجب استدامة الحضور.

وأجاب بعضهم عن هذا أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزداد علمه بالله تعالى، ومرتبته، حتى كن حال عليه الصلاة والسلام فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل، فكان له في كل ساعة تقوى تتجدد.

روى جرير عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة، دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن قوله، على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوفه المنافقون واليهود، وإن لم يرجع قتلوه، فأنز الله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} "فلا مرية": لا شك في صرفها عن ظاهرها، وذلك "انه صلى الله عليه وسلم اتقى الخلق" بالنصوص القطعية والإجماع، "والأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به، إذ لا يصلح أن يقال للجالس إجلس، ولا للساكت اسكت"، فأمره بالتقوى، أمر بتحصيل الحاصل، وهو محال، "ولا يجوز عليه أن يبلغ" ما أوحى إليه، "ولا أن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك، ولا أن يطيع الكافرين والمنافقين"، لا عقلًا ولا نقلًا، "حاشاه الله من ذلك"، وهذا كله تصوير للإشكال، "و" الجواب أنه "إنما أمره الله بتقوى توجب استدامة الحضور" في مقام المشاهدة والقرب اللائق بكماله فأمره باستدامة ذلك أمر بما لم يكن حاصلًا، وأجاب عياض بأنه ليس في الآية أنه أطاعهم، والله سبحانه ينهاه عما شاء، ويأمره بما شاء، كما قال تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] وما كان طردهم وما كان من الظالمين، أنتهى.

وهو منع للإشكال من أصله، وأن ابتناءه إنما هو على عرف أمر الخلق وخطابهم، والله تعالى ليس كذلك، فله أن ينهى من لم يقع منه خلافه، ويأمر بما لم يتصور من المأمور خلافه، وهذا جواب حسن، ويأتي في المتن بمعناه.

"وأجاب بعضهم عن هذا" الإشكال "أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزداد علمه بالله تعالى ومرتبته" منزلته العلية، "حتى كان" بالتشديد "حاله عليه الصلاة والسلام فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه" الآن مما تجدد "ترك للأفضل" خبر كان، "فكان له في كل ساعة تقوى

ص: 23

وقيل: المراد دم على التقوى. فإنه يصح أن يقال للجالس: أجلس ههنا إلى أن آتيك، وللساكت: قد أصبت فاسكت تسلم، أي دم على ما أنت عليه.

وقيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، ويدل عليه قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] ولم يقل بما تعمل.

وأما قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8] .

فاعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمره صلى الله عليه وسلم، ونسبته إلى ما نسبوه إليه، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال في أمر الدين والخلق العظيم، أتبعه بما يقوي قلبه ويدعوه إلى التشديد مع قومه، وقوي قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة

تتجدد" فلتورثه زيادة العلم وغيره من الكمالات، فكان معنى اتقِ الله دم على طلب الازدياد من العلوم والكمالات.

"وقيل: المراد دم" واظب "على التقوى، فإنه يصح أن يقال للجالس: إجلس ههنا إلى أن آتيك، وللساكت: قد أصبت فاسكت تسلم، أي: دم على ما أنت عليه".

قال ابن عطية: معناه دم على التقوى، ومتى أمر آخر بشيء وهو ملتبس به، فإنما منا، الدوام في المستقبل على مثل الحال الماضية.

"وقيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء {خَبِيرًا} [النساء: 94] الآية، "ولم يقل بما تعمل" وعلى الأول، فقال ابن عطية: هو تسلية له صلى الله عليه وسلم، أي: لا عليك منهم ولا من إيمانهم، فالله عليم بمن يتبعك، حكيم في هدى من شاء وإضلال من شاء، ثم أمره باتباع ما يوحى إليه، وهو القرآن الحكيم، والاقتصار على ذلك وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ، توعد ما، وقرأ أبو عمرو وحده {تَعْمَلُونَ} "بالتاء"، والتوعد على هذه القراءة للكافرين والمنافقين أبين، وأما قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8] ، قال ابن عطية: يريد قريشًا، لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا وعظمتها لعبدنا إلهك وعظمناه، وودوا أن يداهنهم ويميل إلى قولهم فليميلوا هم أيضًا إلى قوله ودينه، والمداهنة الملاءمة فيما لا يحل، والمداراة الملاينة فيما يحل "فاعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمره صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى ما نسبوه إليه" من الجنون، نافيًا ذلك عنه بالقسم، بقوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1، 2] ، "مع ما أنعم الله به عليه من الكمال" الظاهر لكل أحد "في أمر الدين والخلق العظيم"، بقوله: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 3، 4] ، "ابتعه بما يقوي قلبه ويدعوه إلى

ص: 24

الكفار، فإن هذه اسورة من أوائل ما نزل فقال:{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} والمراد رؤساء الكفار من أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم، فنهاه الله أن يطيعهم، هذا من الله تهييج للتشديد في مخالفتهم.

وأما قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] ، الآية.

فاعلم أن المفسرين اختلفوا فيمن المخاطب بهذا: فقال قوم المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: المخاطب به غيره.

فأما من قال بالأول فاختلفوا على وجوه.

الأول: أن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر والمراد به غيره، كقوله تعالى:

التشديد مع قومه" المكذبين بالدين، "وقوي قلبه بذلك مع قلة العدد" الذين معه من المسلمين "وكثرة الكفار، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل، فقال:{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} الآية، فنهاه وإن كان لم يقع منه طاعة لهم، تقوية لقلبه ليذهب عنه خوفهم المضعف للقلب، فيظهر دين الله بلا خوف.

"والمراد: رؤساء الكفار من أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم" على أن يميلوا إلى دينه، فلم يفعل "فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله تهييج للتشديد في مخالفتهم" لأن النهي عما لم يقع يقوي تصويبه والمداومة على عدمه.

وأما قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} من القصص فرضًا، {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} التوراة {مِنْ قَبْلِكَ} فإنه ثبات عندهم، يخبرك بصدقه، "الآية" إشارة إلى أن الشبهة في تمامها أيضًا وهو:{لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 94، 95] ، "فاعلم أن المفسيرن اختلفوا فيمن المخاطب بهذا، فقال قوم: المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم" ولا ضير فيه، لأنه شرط لم يقع نحو:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، أو على سبيل الفرض، وهذا أحسن.

وقال آخرون: المخاطب به غيره، فأما من قال بالأول، فاختلفوا على وجوه: الأول أن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، والمراد به غيره".

قال بكر بن العلاء: ألا تراه يقول: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ} ، وهو كان المكذب بلفظ اسم المفعول كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فطلقوهن

ص: 25

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، وكقوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وكقوله لعيسى ابن مريم:{قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ومثل هذا معتاد، فإن السلطان إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فأراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه إليهم، بل يوجهه إلى ذلك الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرًا في

لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، الآية، فإن المخاطب بذلك هو، والمراد غيره، لأنه إذا طلق إنما يطلقهن لعدتهن.

وقول البيضاوي: خص النداء وعم الخطاب بالحكم، لأنه إمام أمته، فنداؤه كندائهم، أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم، والمعنى: إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف له منزلة علم وكيف، وفيه {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} فيكون في حقه من تحصيل الحاصل.

ورد شيخنا كلام المصنف لظاهر البيضاوي بأن المراد غيره بخصوصه، فيصدق بما إذا كان المراد هو وغيره، لأنه مع غيره، وغيره بخصوصه لا يليق لما علم، وكقوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، أي: يفسد ويسقط عن الاعتبار، ويبطل من حبطت الدابة إذا أفرطت في المرعى حتى ماتت وانتفخت، وجعل هذه الآية مشبهًا بها، لأنها أظهر في التعليق بالمحال، لأن الخطاب فيها للرسل كلهم، إذ أولها {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} ، وأفرد، لأن المراد كل واحد منهم وهم مبرؤن عن الشرك فالمراد أممهم ممن يجوز عليه الشرك تعريضًا وتهييجًا لحميتهم حتى ينتهوا عنه، وكقول لعيسى ابن مريم:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ، صفة لإلهين أو صلة اتخذوني، ومعنى دون المغايرة تنبيهًا على أن عبادة الله مع عبادة غيره كلا عبادة، فمنعبده مع عبادتهما، كأنما عبدهما ولم يعبده، أو القصور، فإنهم لم يعتقدوا استحقاقهما للاستقلال بالعبادة، وغنما زعموا أنها توصل إلى عبادة الله، وكأنه قيل: اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى عبادة الله، قاله البيضاوي، ففي التنظير بهذه الآية شيء، فإنه لم يخاطب عيسى مريدًا غيره، بل توبيخ الكفرة لا خطابهم خصوصًا، وذلك يوم القيامة، "ومثل هذا معتاد" واقع كثيرًا في القرآن، وكلام العرب، وهو باب واسع يسمونه التعريض والتلويح.

وله نكات ومقاصد جليلة، كحمله على الإذعان والقبول وإطفاء نار الغضب والحمية، "فإن السلطان إذا كان له أمير، وكانت تحت راية ذلك الأمير جمع، فأراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص" بها دون الأمير، "فإنه لا يوجه خطابه إليهم، بل يوجهه إلى ذلك الأمير، ليكون

ص: 26

قلوبهم.

الثاني: قال القراء: علم الله تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم غير شاك، ولكن هذا كما يقول الرجل لولد: إن كنت ابني فبرني، ولعبده: إن كنت عبدي فأطعني.

الثالث: أن يقال لضيق الصدر شاك، يقول: إن ضقت ذرعًا بما تعاني من تعنتهم وأداهم فاصبر واسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك كيف صبر الأنبياء على أذى قومهم، وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر، فالمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة، وأن القرآن مصدق لما فيه، أو تهييج الرسول عليه الصلاة والسلام وزيادة تثبيته، أو يكون على سبيل الفرض والتقدير، لا إمكان

ذلك أقوى تأثيرًا في قلوبهم" فيبادروا بفعل الأمر، "الثاني: قال القراء" لقب ليحيى بن زياد الكوفي، نزيل بغداد، النحوي المشهور، المتوفى سنة سبع ومائتين، لأنه كان يفري الكلام فريًا، "علم الله تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم غير شاكٍ".

قال عياض: احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك له فيما أوحي إليه، وأنه من البشر، فمثل هذا لا يجوز حمله عليه، بل قد قال ابن عباس وغيره: لم يشك صلى الله عليه وسلم ولم يسأل، ونحوه.

عن ابن جبير والحسن، وحكى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أشك ولا أسأل، وعامة المفسرين على هذا، "ولكن هذا كما يقول الرجل لولده، إن كنت ابني فبرني، ولعبده: إن كنت عبدي فأطعني" في التنظير بهذا نظر، فإنما يقول الرجل ذلك لولده وعبده إذا استشعر منهما نوع تقصير في حقه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تقصير عنده في حق الله تعالى، تى يخاطبه بما يوهم لو ما حاشاه من ذلك. وقد يجاب بأن التنظير به من حيث أنه يخاطب به مع عمله أنه لا شك عنده من غير ملاحظة لوم على تقصير، وإن كان هو عليه السلام ينسب التقصير لنفسه، بنحو قوله: لا أحصي ثناء عليك أنت، كما أثنيت على نفسك.

"الثالث: أن يقال لضيق صدرك شاك" فالمعنى أنه "يقول إن ضقت ذرعًا" صدرًا "بما تعاني" تقاسي "من تعنتهم وأداهم، فاصبر واسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك كيف صبر الأنبياء على أذى قومهم" وقد قال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] ، "وكيفل كان عاقبة أمرهم من النصر" على الكافرين، "فالمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة، وأن القرآن مصدق لما" أي: المعاني التي اشتمل عليها ما جاء في الكتب، فضمير "فيه" راجع "لما"، وصح ذلك رعاية للفظ ما، وإن كان مدلولها متعددًا "أو تهييج الرسول عليه الصلاة والسلام" إثارته، "وزيادة تثبيته".

ص: 27

ووقع الشك له، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية:"والله لا أشك ولا أسال".

وأما الوجه الثاني - وهو أن المخاطب غيره صلى الله عليه وسلم فتقريره: أن الناس كانوا في زمانه فرقًا ثلاثة: المصدقون به، والمكذبون له، والمتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: فإن كنت في شك أيها الإنسان مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فاسأل الله أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وهذا مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، و {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] ، و {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر: 8] فإن المراد "بالإنسان" هنا الجنس، لا إنسان

قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن من خالطته شبهة في الدين، ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم، "أو يكون على سبيل الفرض والتقدير" أي: إن فرض وقدر وقوع ذلك منك "لا إمكن وقوع الشك له" لأن هذه الشرطية غير ممكنة، "ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية:"والله لا أشك ولا أسأل" رواه ابن جرير عن قتادة مرسلًا، لكن بدون قسم.

وقيل: المراد قل للشاك إن كنت في شك من ديني، وفي السورة نفسها ما يدل على هذا التأويل قوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} [يونس: 104] .

وقيل: هو تقرير، كقوله:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ، وقد علم سبحانه أنه لم يقل ذلك.

وقيل: معناه ما كنت في شك فاسأل تزدد طمأنينه وعلمًا إلى علمك، ويقينًا إلى يقينك.

وقيل: معناه إن كنت تشك فيما شرفناك وأعطيناك وفصلناك به فسلهم عن صفتك في الكتب، ونشر فضائلك، وقيل: المراد إن كنت في شك من اعتقاد غيرك فيما أنزلناه، حكاه في الشفاء.

"وأما الوجه الثاني: وهو أن المخاطب غيره صلى الله عليه وسلم فتقريره أن الناس كانوا في زمانه فرقًا ثلاثة" فريق منهم "المصدقون به" وفريق منهم "المكذبون له" وفريق منهم "المتوقفون في أمره، الشاكون فيه" صفة كاشفة لمعنى المتوقفون، "فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب، فقال: فإن كنت في شك أيها الإنسان مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأسال أهل الكتاب ليدلوك على صحه نبوته، فليس هو مخاطبًا أصلًا، "وهذا مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، حتى عصيته {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] جاهد في عملك إلى لقاء ربك، وهو الموت، ومثل قوله:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر: 8] الآية، دعانا، وفي نسخة: وإذا مس الإنسان ضر، بالواو،

ص: 28

بعينه، فكذا هنا، ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال:{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 95] .

وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] .

أي في أنهم لا يعلمون ذلك، أويكون المراد: قل لمن امترى يا محمد، لا تكونن من الممترين فليس الخطاب له وأنه صلى الله عليه وسلم يخاطب به غيره، وقيل غير ذلك.

وهي آية قبل هذه في سورة الزمر، جواب شرطها: دعا ربه منيبًا إليه، "فإن المراد بالإنسان هنا" في الآيات الثلاث "الجنس لا إنسان بعينه، فكذا هنا" في {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} خطاب لكل من يصح أن يحبط عمله وأن يشرك لا لمخاطب بعينه، "ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم، حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني، وهم المكذبون، فقال:{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 95] الآية.

وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي القرآن {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} ملتبسًا {بِالْحَقِّ} ونسب العلم لجميعهم لعلهم أحبارهم به، وتمكن باقيهم من ذلك بأدنى تأمل {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] ، الشاكين فيه، أي: من هذا النوع، فهو أبلغ من لا تمتر، وحذف جواب أما - للعلم به من السوابق واللواحق: وهو، فليس المراد أنه صلى الله عليه وسلم شك فليما ذكر أول الآية، وهي {فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} بل المعنى، "أي: في أنهم لا يعلمون ذلك" وصوابه إسقاط لا، فالمعنى لا يستقيم على وجودها.

ولفظ الشفاء: أي: في علمهم بأنك رسول الله، وإن لم يقروا بذلك، وليس المراد به شكه صلى الله عليه وسلم فيما ذكر في أول الآية، وفي الأنوار:{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} في أنهم يعلمون ذلك، أو في أنه منزل بجحود أكثرهم وكفرهم به، فيكون من باب التهييج، كقوله:{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} "أو يكون المراد: قل لمن امترى يا محمد؟ " متعلق بقل قدم عليه متعلقة "لا تكونن من الممترين" في أن القرآن نزل عليك من الله، وأيدك بمعجزاته، "فليس الخطاب له، وإنما المراد "أنه صلى الله عليه وسلم يخاطب به غير" من الكفار.

قال عياض: ويدل على قوله أول الآية {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114] الآية، "وقيل غير ذلك"، فقيل: الخطاب له والمراد غيره، ولاقصد تقرير الكفار بأنه حق، وقيل:

ص: 29

وأما قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] .

فقال القاضي عياض: لا يلتفت إلى قول من قال: لا تكونن ممن يجهل أن الله تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله تعالى، وذلك لا يجوز على الأنبياء، والمقصود وعظمهم أن لا يتشبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين، وليس في الآية دليل على كونه على تلك الصفة التي نهاه الله على الكون عليها، فأمره الله تعالى بالتزام الصبر على إعراض قومه، ولا تحرج عند ذلك فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر. حكاه أبو بكر بن فورك.

وقيل: معنى الخطاب لأمته صلى الله عليه وسلم لا له، أي فلا تكونا من الجاهلين، حكاه أبو

الخطاب لكل أحد على معنى أن الأدلة لما تعاضدت على صحتهن فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه.

وأما قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ} أي: جعل الناس كلهم مجتمعين، متفقين "على الهدى" بهدايتهم للعقائد الحقة واتباع الشريعة اللازمة، فلا يضل أحد منهم عن الطريق المستقيم "فلا تكونن من الجاهلين" [الأنعام: 35] ، فنهيه عن ذلك يوهم أنه لم يحط به وهو منزه عنه، "فقال القاضي عياض: لا يلتفت" بالبناء للمجهول، أي: لا يتوجه التفات نظر "إلى قول من قال" من المفسرين: "لا تكونن ممن يجهل أن الله تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى"، بإسناد الجهل بمشيئة الله إليه، إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله تعالى"، وهي قدرته وعلمه، "وذلك لا يجوز على الأنبياء" لعلمهم الله وصفاته "والمقصود" أي: المعنى المراد "وعظمهم" أي: الأمة، أي: إرشادهم وتنبيهم على "أن لا يشتبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين" أي: لا يتصفوا بصفاتهم من عدم الصبر والحرص على سرعة المراد، كما هو شأن الجهلة، "وليس في الآية دليل على كونه على تلك الصفة التي نهاه الله على الكون عليها" وعليه، فالخطاب له والمراد غيره، "فأمره الله تعالى بالتزام الصبر على إعراض قومه" بقوله:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35] ، المختومة بالنهي، فالمراد بالأمر ما يلزم النهي، وقد أمر بالصبر صريحًا في آيات، كقوله:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] الآية، "ولا تحرج" من الحرج، وهو ضيق الصدر "عند ذلك" أي: عند إعراضهم، عنه هكذا ذبطه شراح الشفاء ويقع محرفًا في نسخ المصنف ولا يرج عن ذلك من الخروج فمشى عليه الشارح، فقال: اي: والتزام عدم خروجه عن ذلك، "فيقارب" حاله "حال الجاهل بشدة التحسر" التأسف والندم بسبب إعراضهم "حكاه أبو بكر بن فورك""بضم الفاء"،

ص: 30

محمد مكي، قال: ومثله في القرآن كثير، وكذلك قوله:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 116] يضلوك عن سبيل الله فالمراد غيره، كما قال تعالى:{إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 149]، وقوله تعالى:{فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وما أشبه ذلك فالمراد غيره، وأن هذه حال من أشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه هذا، هذا والله ينهاه عما شاء ويأمره بما يشاء، كما قال تعالى له:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] وما طردهم عليه السلام وما كان من

العلامة الشهير.

تقم غير مرة.

"وقيل: معنى الخطاب لأمته صلى الله عليه وسلم لا له" فهو تعريض، "أي: فلا تكونوا من الجاهلين" أي: ممن اتصف بصفاتهم، "حكاه أبو محمد" وفي نسخة أبو بكر، وهي خطأ، فكنيته أبو محمد "مكي" "بالميم" ابن أبي طالب، تقدم أيضًا.

قال مكي: "ومثله في القرآن كثيرًا" يخاطب المصطفى، والمراد أمته، "وكذلك قوله:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} وهم الكفار بمافقة ما هم عليه {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} مع أنه علم أنه لا يطيعهم، "فالمراد غيره" وإن كان الخطاب له، فهو تعريض، "كما قال تعالى: خطابًا لغيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 149] فهو يؤيد أن المراد بالخطاب في تلك الآية غيره، لأن القرآن يفسر بعضه، وقوله تعالى:{إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ} بربط {عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] ،وقد علم أنه لا يشاء ذلك، فالمراد غيره.

والتنظير بهذه بناءً على أن المراد الربط المذموم، أما على أن المعنى يربط بالصبر على أذاهم، وبالصبر على قولهم: إفتراه وغيره، وقد فعل، فليست مما الكلام فيه {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقد علم سبحانه انه لا يشرك، فالمراد غيره، "وما أشبه ذلك"، كقوله:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس: 106] ، فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين، وقوله:{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الإسراء: 75] وقوله: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} "فالمراد غيره" تعريضًا وإيقاظًا، "وأن هذه حال من أشرك" بالله لا حاله "والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه هذا" فلابد من تأويله "هذا، والله" سبحانه "ينهاه عما شاء" وإن لم يمكن وقوعه منه، "ويأمره بما شاء" وإن استحال عليه تركه نحو اتق الله أن يعامل نبيه بما يمتنع أن يعامل به غيره "كما قال تعالى له:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} ، أي: يعبدونه {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} .

ص: 31

الظالمين.

وأما قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] .

فليس بمعنى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس: 7]، وإنما المعنى: لمن الغافلين عن قصة يوسف عليه السلام، إذ لم تخطر ببالك، ولم تقرع سمعك قط، فلم تعلمها إلا بوحينا.

وأما قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200] الآية.

فمعناه: يستخفنك بغضب يحملك على ترك الإعراض عنهم.

[الأنعام: 52] ، وما كان "طردهم عليه السلام" عن مجلسه، "وما كان من الظالمين" أي: ممن ظلمهم بطردهم، لأنه لم يقع منه ذلك.

روى ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص، قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة، وأنا وعبد الله بن مسعود وأربعة، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اطردهم، فإن نستحي أن نكون تبعًا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {وَلَا تَطْرُدِ} الآية إلى قوله:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] .

وفي حديث ابن مسعود عند أحمد، وغيره أن الاربعة خباب وصهيب وبلال وعمار، وإنما هم بذلك رجاء إسلام قومه، مع أن ذلك لا يضر أصحابه لعلمه بأحوالهم ورضاهم بما يرضاه.

وأما قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، "فليس بمعنى قوله:{وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا} أي: دلائل وحدانيتنا {غَافِلُونَ} [يونس: 7] ، تاركون النظر فيها، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن هذه الغفلة، "وغنما المعنى لمن الغافلين عن قصة يوسف عليه السلام، إذ لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط، فلم تعلمها إلا بوحينا" والغفلة عن مثل ذلك مما لا يعلم إلا بالنقل لا نقص فيه، وفي التعبير بالغفلة إشارة إلى شدة استعداده للعلم بما لم يعلم، حتى كأنه كان عالمًا به ونسيه.

روى ابن جرير، عن ابن عباس، قال: قالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنز الله {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} .

وروى ابن مردويه، عن ابن مسعود، مثله: وأما قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من الشيطان الرجيم [الأعراف: 200] ، مع عصمته من تسليطه عليه بأذية، أو وسوسة، وإن كانت أن الشرطية لا تقتضي الوقوع، "فمعناه يستخفنك بغضب، يحملك على

ص: 32

والنزغ: أدنى حركة تكون، كما قاله الزجاج.

فأمره الله أنه متى يحرك عليه غضب على عداوة، أو رام الشيطان من إغرائه به وخواطر أدنى وساوسه ما لم يجعل له سبيل إليه أن يستعيد به تعالى منه، فيكفي أمره، ويكون سبب تمام عصمته، إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له، ولم يجعل له قدرة عليه. وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان في صورة الملك ويلبس عليه، لا في أول الرسالة ولا بعدها بل لا يشك النبي أن ما يأتيه من الله

ترك الإعراض عنهم"، فهي راجعة لقوله قبلها {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أي: لا تكافئ السفهاء الذين أغضبوك بمثل أفعالهم وأعرض عنهم فهذه الآية كما قيل جامعة لمكارم الأخلاق.

ولذا قال له جبريل لما سأله عنها: إن الله تعالى أمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، لا من شي تسببه، فالغضب على الجاهل، وجزاؤه بمثل فعله تأديبًا له، لا بعد من نزغ الشيطان والاستعاذة مشروعة عند الغضب، فليست الآية منسوخة بآية القتال، كما قيل:"والنزغ أدنى": أقل "حركة تكون"، توجد "كما قاله الزجاج".

وفي الأنوار: النزغ والنسغ والنخس الغرز، شبه وسوسته الناس إغراء لهم على المعاصي وإزعاجًا بغرز السائق ما يسوقه، وقيل: النزغ في الآية الإفساد، فأصل معناه الطعن، ثم شاع استعماله في كل مفسد، كقوله: من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي، أي: أفسد ما بيني وبينهم، وقيلك معناه يغرينك ويحركنك، والنزغ أدنى الوسوسة، "فأمره الله أنه متى يحرك عليه غضب على عدوه" لسوء ما وقع منه "أو رام الشيطان من إغرائه""بغين معجمة" وراء، أي: إيقاعه "به" كحثه على قتله وقراءته"، بغين وزاي" معجمتين تصحيف، "وخواطر أدنى" أقل "وساوسه": جمع وسواس، "ما لم يجعل له سبيل إليه"، لعصمته مفعول رام "أن يستعيذ به تعالى منه" فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجين، ولا يطيعه ويفعل بنزغه، "فيكفي أمره" بصرفه عنه "ويكون" ذلك "سبب تمام عصمته" لأنها من مجرد الخاطر نهاية الحفظ والمنع، إذ الخطور بالبال لا يصرفها، "إذ لم يسلط" الشيطان "عليه بأكثر من التعرض له" فضلًا عن التمكن منه وإيصال أذيته له "ولم يجعل له قدرة عليه" فيرجع خائبًا خاسرًا، "وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان في صورة الملك" بأن يتمثل بمثاله، ويقول: أنا ملك، أرسلني الله إليك لحفظ الله تعالى له عنه "ويلبس" بزنة يخلط، ومعناه "عليه" أمره لا يقع ذلك "لا في أول الرسالة" أيك أول دعوة الخلق إلى الله "ولا بعدها" الظاهر بعده، أي: بعد الأول.

وأسقط من عياض قوله: والاعتماد في ذلك دليل المعجزة أي: اعتماده في أن ذلك

ص: 33

هو الملك ورسوله حقيقة إما بعلم ضروري يخلقه الله له أو ببرهان يظهر لديه كما قدمته في المقصد الأول عند البعثة، لتتم كلمة ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته.

وأما قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآية.

فأحسن ما قيل فيها ما عليه جمهور المفسرين: أن التمني المراد به هنا: التلاوة وإلقاء الشيطان فيها إشغاله بخواطر وأذكار من أمور الدنيا للتالي حتى

وحي، دليل على أنه معجزة له، أو هو يعتمد على ما ظهر له من المعجزة، كتسليم الحجر والشجر "بلا لا يشك النبي" أي: نبي كان نبينا وسائر الأنبياء "إن ما يأتيه من الله هو الملك ورسوله" إليه "حقيقة" بلا شك "إما بعلم ضروري يخلقه الله له" بديهي لا يحتاج لدليل لعدم تردده فيه "أو ببرهان" دليل قطعي "يظهر لديه" مما يشاهده من الآيات، كنطق الحجر وتسليم الشجر "كما قدمته في المقصد الأول عند" ذكر "البعثة" وكل ذلك "لتتم كلمة ربك" بتبليغ أحكامه ومواعيده "صدقًا" في خبره له ومواعيده "وعدلًا": ما حكم به من الأحكام التي بلغها، وهما تمييزان محولان عن الفاعل، أو حالان:"لا مبدل لكلماته" أي: لا يمكن تغييرها، ولا تنسخ بعدما بلغت غاية لا تبل الزيادة عليها.

ولذا كانت شريعته صلى الله عليه وسلم آخر الشرائع، وهذا تعليل لحفظه من تصور الشيطان بصورة ملك، فيكون ما يلقيه تخليطًا قابلًا، ولذا عقبه بقوله: وأما قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} عطف عام على خاص، فيفيد أن المراد بالإرسال الإيحاء، وفائدة ذكره النبي غير الرسول، لا سيما من لا أتباع له أن كل نبي يجب عليه إعلام غيره بأنه نبي، لئلا يحتقر وحينئذٍ فيتطرق لسماع تلاوته ووعظه فيلقي الشيطان ذلك للتلبيس {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] فظاهره أن الشيطان يخلط عليهم الوحي عند التلاوة، فيخالف ما قبله.

وأجيب عن ذلك بأجوبة "فأحسن ما قيل فيها ما عليه جمهور المفسرين" أي: اكثرهم "أن التمني المراد به هنا التلاوة" كقول حسان:

تمنى كتاب الله أول ليلة

تمنى داود الزبور على رسل

ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]، أي: تلاوة وليس تمنى هنا تفعل من منى قدر، كقوله:

لا تأمنن وإن أمسيت في حرم

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

ص: 34

يدخل عليه الوهم والنسيان فيما تلاه، أو يدخل غير ذلك على أفهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله الله وينسخه ويكشف لبسه ويحكم آياته، قاله القاضي عياض، وقد تقدم في المقصد الأول مزيد ذلك.

قال في الشفاء: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حين نام عن الصلاة يوم الوادي: "إن هذا وادٍ به شيطان" فليس فيه ذكر تسلطه عليه ولا وسوسته له، بل

أي: ما قدره لك المقدر، والتمني أمر يقدره المرء في نفسه، والظاهر تفسير التلاوة هنا بالقراءة لتشمل المواعظ والحكم، والأذكار والدعاء، فإن الشيطان كما يتسلط على قارئ القرآن يتسلط على الذاكر ونحوه وإن كانت القصة إنما كانت عند قراءته لسورة النجم التي هي سبب نزول {وَمَا أَرْسَلْنَا} الآية. كذا قال الشارح: ولا دخل في ذلك للاستظهار مع كون النص التمني، والأمنية المفسر بالتلاوة، فلا يقاس عليه غيره، وتعليله بتسلط الشطيان على الذاكر ونحوه من حيث هو لا ينهض هنا، كما لا يخفى، "و" أن "إلقاء" فنصبه عطفًا على التمني، وخفضه على ضمير به، أي: والمراد بإلقاء "الشيطان فيها" أي: أمنيته، أي: متلوه، "إشغاله" الذي في الشفاء شغله، بزنة ضرب وهي الفصحى.

قال تعالى: {شَغَلَتْنَا} [الفتح: 11] ، لكن في القاموس شغله، كمنعه شغلًا، ويضم وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو ردية، والمصدر مضاف للفاعل، أي: إشغال الشيطان التالي "بخواطر" أمور دنيوية تخطر على قلبه، فتشغله عما تلاه، "وأذكار""بذال معجمة، جمع ذكر، بالكسر والضم"، أحاديث قلبية، فيساوي نسخة، وافكار "بالفاء""من أمور الدنيا" بيان لهما ِ"للتالي" صفة الخواطر، وأذكار، أي: كائنة وعارضة، أو متعلق بأشغال "حتى يدخل" الشيطان "عليه الوهم"، بفهم غير المراد من المتلو "والنسيان" الواو بمعنى، أو "فيما تلاه" بناءً على جواز ذلك على الأنبياء، أما على الأصح من منعه، فيقال: حتى يدخل على إفهام السامعين، "أو يدخل" غير ذلك" الوهم والنسيان "على أفهام السامعين" وبين الغير، بقوله: "من التحريف" لما تلاه عليهم، "وسوء التأويل" الناشئ عن تحريف ما سمعوه، "ما يزيله الله" مفعول إلقاء، "وينسخه" يحوله من الباطل إلى الحق، "ويكشف لبسه": يزيله ويبينه، "ويحكم آياته": يحققها ويظهرها، "قاله القاضي عياض" في الشفاء.

وقد تقدم في المقصد الأول مزيد لذلك" بفرائد نفيسة، "قال في الشفاء" بعد هذا بقليل "وأما قوله عليه الصلاة والسلام حين نام عن الصلاة يوم الوادي"، لما عاد من خيبر أو من الحديبية أو بطريق تبوك روايات.

ص: 35

إن كان بمقتضى ظاهرة فقد بين عليه السلام بأمر ذلك الشيطان بقوله: إن الشيطان أتى بلالًا، فلم يزل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام، فاعلم أن تسلط الشيطان في ذلك الوادي إنما كان على بلال الموكل بكلاءة الفجر، هذا إن جعلنا قوله "إن

وقد اختلف: هل كان النوم مرة أو مرتين، ورجحه عياض وتبعه النووي، ومر هذا مبسوطًا في خيبر وغيرها، "إن هذا واد به شيطان" لفظ الموطأ، ولمسلم: أن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان "فليس فيه" صريحًا "ذكر تسلط عليه" إذ لا يقدر على قرب سرادق حمايته وعصمته "ولا وسوسته له" لعصمته ونزاهته عن مثله، "بل إن كان" ذكر في الحديث مايوهم تسلطه عليه "بمقتضى ظاهره" قبل التأمل فيه، فهو انتقال عن لفظ "صريحًا" المقدر، فكأنه قيل: سلمنا أنه ليس صريحًان فهو ظاهر في ذلك، والشبهة يكتفي إيرادها بمقتضى الظاهر، فدفع ذلك بأنه لا يصح الحمل هنا على مقتضى الظاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك الظاهر ليس بمراد، كما أفاده بقوله:"فقد بين" كشف "عليه السلام أمر ذلك الشيطان" بقوله: فيما رواه ملك عن زيد بن أسلم مرسلًا؛ "إن الشيطان أتى بلالًا" وهو قائم يصلي نفلًا بالسحر، فأضجعه.

وفي حديث أبي قتادة في الصحيحين: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال بعض القوم: يا رسول الله لو عرست بنا، فقال: أخاف أن تناموا عن الصلاة، فقال بلال: أنا أوقظكم، ونام رسول الله وأصحابه.

وفي مسلم: فصلى بلال ما قدر له، ثم استند إلى راحلته وهو مقابل الفجر، فغلبته عيناه.

وفي حديث زيد بن أسلم، ووكل بلالًا أن يوقظهم للصلاة، فرقد بالل ورقدوا "فلم يزل يهديه" بضم التحتية، وسكون الهاء، وكسر الدال مخففة وياء ساكنة.

قال ابن عبد البر: أهل الحديث يرون هذه اللفظة بلا همز، واصلها عند أهل اللغة الهمز، وقال في المطالع: هو بالهمز، أي: يسكنه وينومه من هدأت الصبي غذا وضعت يدك عليه لينام، ورواه المهلب بلا همز على التسهيل، ويقال أيضًا: يهدنه بنون، وروى يهدهده من هدهدت الأم ولدها لينام، أي: حركته "كما يهدي الصبي" الصغير في مهده "حتى نام" بالل، وفي هذا تأنيس لبلال واعتذار عنه، وأنه ليس باختياره، "فأعلم" النبي صلى الله عليه وسلم الناس بهذا القول؛ "أن تسلط الشيطان في ذلك الوادي إنما كان على بلال الموكل بكلاءة" "بكسر الكاف وفتح اللام والمد والهمز" أي: بحراسة "الفجر"، وقد تبدل همزته، كما في النهاية وغيرها، وفي لغة "بفتح الكاف واللا" والقصر، وضمن معنى المراقبة، أي: مراقبة طلوع الفجر ليوقظهم.

وقيل المراد كلاءة صلاة الفجر بتقدير مضافولهوجه وجيه، "هذا" المذكور أن ظاهره تسلط الشيطان، وصرفه إلى بلال "إن جعلنا قوله: إن ذها وادٍ به شيطان تنبيهًا" مفعول له

ص: 36

هذا وادٍ به شيطان"، تنبيهًا على سبب النوم عن الصلاة، وأما إن جعلناه تنبيهًا على سبب الرحيل عن الوادي وعلة لترك الصلاة به، وهو دليل مساق حديث زيد بن أسلم فلا اعتراض به في هذا الباب، لبيانه وارتفاع إشكاله.

قال عياض: وأما قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1-2] ، الآيات، فليس فيها إثبات ذنب له عليه الصلاة والسلام. بل إعام الله تعالى له بأن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكى، وأن الصواب والأولى كان لو كشف له

"على سبب النوم عن الصلاة"، وهو تنويم الموكل بحراسة الوقت.

"وأما أن جعلناه تنبيهًا على سبب الرحيل عن الوادي وعلة لترك الصلاة به" مع أن الأصل في قضاء الفائته بعذر المبادرة بفعلها، وقد أمرهم بالارتحال، "وهو دليل" أي: مدلول، أي: ما يستفاد من "مساق""بفتح الميم"، مصدر بمعنى سياق، كما في النسيم، أو بمعنى سوق، كما في الأنوار.

"حديث زيد بن أسلم" في الموطأ، قال: عرس صلى الله عليه وسلم ليلة بطريق مكة، ووكل بلالًا أن يوقظهم للصلاة، فرقد بلال، ورقدوا حتى استيقظوا، وقد طلعت عليهم الشمس، فاستيقظ القوم وقد فزعوا، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي، وقال: إن هذا وادٍ به شيطان، فركبوا حتى خرجوا من ذلك الواد، ثم أمرهم أن ينزلوا ويتوضئوا، أمر بلالًا أن يؤذن بالصلاة ألأو فيقيم، فصلى بالناس الحديث.

وعلى ما يفيده سيقاه هذا "فلا اعتراض به في هذا الباب" المعقود في أن الشيطان لا تسطل له على الأنبياء "لبيانه" أي: حديث زيد ووضوح دلالته على ما ذكر "وارتفاع إشكاله" أي: زواله أصلًا، حتى استغنى عن الجواب لعدم احتماله ما يخالفه، "قال عياض" بعد هذا بكثير وأما قوله تعالى:{عَبَسَ} كلح وجهه، {وَتَوَلَّى} أعرض عنه {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} الآيات التي أخرها {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} التي استدل بها مجوزوا الصغائر على الأنبياء لما شعر به ظاهرها من وقوع شيء عوتب عليه، "فليس فيها إثبات ذنب له عليه الصلاة والسلام"، ولا تجويزه عليه "بل إعلام الله تعالى له" صلى الله عليه وسلم "بأن ذلك المتصدي" اسم مفعول نائبه "له"، أي: أقبل عليه وتوجه له، واصله مقابلة الشيء كما يقابله الصدى، وهو الصوت الراجح إليه من جبل ونحوه، كما قاله الراغب، وفي التعبير به نكتة، وهي أن كلام هؤلاء لا عبرة به، كما قال المتنبئ: أنا الطائر المحكي وغيري هو الصدى "ممن لا يتزكى" أي: لا يسلم، فيطهر من دنس الشرك، أي: باعتبار ما في نفس الأمر أو قرائن الأحوال الدالة على فرط عناده وبعده عن الحق، ويدل للأول قوله: أعلام الله، وقوله: "وأن الصواب والأولى كان لو كشف له

ص: 37

حال الرجلين لاختار الاقبال على الأعمى وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل وتصديه لذلك الكافر كان طاة لله، وتبليغًا عنه، واستئلافًا له، كما شرعه الله له، لا معصية ولا مخالفة له، وما قصد الله تعالى عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين، وتوهين أمر الكافر عنده، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:

حال الرجلين" ابن أم مكتوم، ومن كان عنده من المشركين، واقتصر على الأقل، وإلا فالكفرة كانوا جماعة، أو المتكلم معه منهم واحد، وحالهما عدم تزكي الكافر وانتفاع الاعمى، "لاختار الإقبال على الأعمى" دون غيره.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أبن أم مكتوم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام، فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وكرر ذلك، ولم يعلم تشاغله بالقوم فكره صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه، فنزلت، وأخرج الترمذي والحاكم، عن عائشة قالت: أنزل {عَبَسَ وَتَوَلَّى} الآية، في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله رجل من عظماء المشركين، فجعل يعرض عنه ويقبل على الآخر، فيقول: أترى بما أقول: بأسًا، فيقول: لا، فنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} .

وروى أبو يعلى مثله عن أنس، وفي ابن عطية، قيل: الجرل الوليد بن المغيرة، وقيل: عتبة وقيل: شيبة، وقيل: العباس، وقيل: أمية، وقيل: أبي بن خلف، وقال ابن عباس: كان في جمع منهم عتبة والعباس، وأبو جهل. انتهى.

وعلى أن العباس فيهم لا ينافي أنه تزكى، لأن المعنى لا يتزكى في وقت الإعراض عن الأعمى، وإنما تزكى العباس بعد بكثير "وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما "بكسر اللام التخفيف، أو فتحها والتشديد"، "فعل" من العبوس والإعراض، "وتصديه لذلك الكافر كان طاعة لله وتبليغًا عنه" فهو فعل حسن وأمر لازم له، "واستئلافًا" استمالة "له" للكافر رجاء إسلامه" كما شرعه الله له" وفرصه بالتبليغ ولين الجانب لمن يدعوه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} "لا معطية ولا مخالفة له"، أي: لما شرعه، وذكر هذا بعد قوله أولًا، فليس فيه إثبات ذنب تنبيهًا على أنه ليس مباحًا فقط، بل طاعة واجبة، "وما قصة الله تعالى عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين وتوهين" بالرفع عطف على أعلام أي: تضعيف "أمر الكافر عنه" وأنه لا قدر له يعتد به، "والإشارة إلى الأعاض عنه، بقوله:{وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس: 7] ، وفي إلقاء الكلام له بدون الخطاب إكرام له صلى الله عليه وسلم عن أن يواجه بالعتب، لا مبالغة في العتب

ص: 38

7] ، أي ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم أن تعرض عمن أسلم بالاشتغال بدعوتهم، إن عليك إلا البلاغ.

وقد كان ابن مكتوم يستحق التأديب والزجر، لأنه -وإن فقد بصره- كان يسمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمامه عليه السلام بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه عليه السلام بعد سماعه إيذاء له عليه السلام وذلك معصية عظيمة. فثبت أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبًا ومعصية وأن الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الواجب المتعين، وقد كان عليه الصلاة والسلام مأذونًا له في تأديب أصحابه، لكن ابن أم مكتوم بسبب عماه

لأن فيه بعض أعراض، كما زعم ابن عطية "أي: ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام، أي: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم" لأنه كان شديد الحرص على إسلام قريش وأسماعهم، لما جبله الله عليه من الرأفة والرحمة، "أن تعرض عمن أسلم بالاشتغال بدعوتهم" إلى الإسلام "أن" ما "عليك إلا البلاغ" وقد فعلت، وأما قوله:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فضميره لابن أم مكتوم.

وقيل للكافر، أي: إذا طمعت في أن يزكى بالإسلام أو يذكر فتنفعه، أي: تفر به الذكرىإلى قبول الحق، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن، ورجح الأول بأن ما في القرآن من يدريك، فهو مما أعلمه الله به وما فيه من إدراك مما لم يعلمه به وأيضًا فالكافر لم يسبق له ذكر صريح.

زاد عياض: وقيل: المراد {عَبَسَ وَتَوَلَّى} الكافر الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قاله أبو تمام، انتهى.

وتعقب بأنه قول في غاية الضعف، بعيد من السياق، مخالف لقول المفسرين، أنه النبي صلى الله عليه سلم وزاد المصنف على الشفاء قوله:"وقد كان ابن أم مكتوم يستحق التأديب والزجر" بحسب ظاهر الحال، إذ في قطع كلامه إيذاء له، "لأنه وإن فقد بصره كان يسمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم شدة اهتمامه عليه السلام بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه عليه السلام بعد سماعه إيذاءً له عليه السلام، وذلك معصية عظيمة" واعتذر عنه بأنه شدة حرصه على طلب ما ينفعه من النبي صلى الله عليه وسلم واشتغاله به صرفه عن معرفة أنه كان مشغولًا بتأليف الكفار، "فثبت أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبًا ومعصية، وأن الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الواجب المتعين" إذ هو مأمور بالإبلاغ والدعوة برفق، "وقد كان عليه الصلاة والسلام مأذونًا له في تأديب

ص: 39

استحق مزيد الرفق به.

وأما قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] الآية.

فروى ابن أبي حاتم عن مسعر عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة، وكذا قال مورق العجلي وغيره.

وقال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون ثم أنزل الذي في سورة النور، فرخص له في أن يأذن لهم إنشاء فقال تعالى:{فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] ، ففوض الأمر إلى رأيه عليه الصلاة والسلام.

أصحابه، لكن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق به" فذكره الله في كتابه بلفظ الأعمى، وأنه جاءه يسعى، أي: يمشي مع عجزه إلى إشارة لذلك، وللصفح عنه، وذكر من فضله أنه يخشى: أي: الله تعالى، وأنه يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى.

وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رآه بعد ذلك، قال: مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي، وبسط له رداءه، واستخلفه على المدينة مرارًا، قال أنس: رأيته يوم القادسية ومعه راية سوداء، وعليه درع، قيل: استشهد بها، وقيل: بل شهدها ورجع، فمات بالمدينة، ولم يسمع له بذكر بعد عمر، ومر بعض شيء من مناقبه في غير موضع رضي الله عنه.

وأما قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، في التخلف عن الغزو الآية، فروى ابن أبي حاتم مسعر" "بكسر الميم وسكون السين، وفتح العين المهملتين"، "عن عون" "بالنون" ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الكوفي، الزاهد، الفقيه، الثقة، المتوفى في حدود الستين عد المائة: "قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا، بدأ بالعفو قبل المعاتبة" الصورية لما يأتي أن الخطاب به يدل على التعظيم، ثم لا ينافيه قوله الآتي: لم يعد هذا أهل العلم معاتبة، لأنهم لما رأوه في غاية الملاطفة ولم يظهر منه لوم لم يعدوه معاتب، لأن شأنها أن تكون على جهه لوم من المعاتب، ولذا قال: لم يعدوه ولم ينسب إليهم، نفي المعاتبة من أصلها.

"وكذا قال مورق""بضم الميم وفتح الواو وكسر الراء الثقيلة وقاف""العجلي" أبو المعتمر البصري، تابعي، ثقة، عابد، مات سنة اثنتين ومائة نسبة إلى عجل بن بكر بن وائل "وغيره".

"وقال قتادة: عاتبه الله تعالى كما تسمعون" في براءة "ثم أنزل الذي في سورة النورن فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء، فقال تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أمرهم، {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] بالانصراف، "ففوض الأمر إلى رأيه عليه الصلاة

ص: 40

وقال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسرى، فعاتبه الله كما تسعمون. وأما قول بعضهم إن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول ذنب لأنه تعالى قال:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} والعفو يستدعي سالفة ذنب، وقول الآخر:{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} استفهام بمعنى الإنكار، فاعلم أنا لا نسلم أن قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يوجب ذنبًا، ولم لا يقال إن ذلك يدل على مبالغة الله تعالى في توقيره وتعظيمه، كما يقول الرجل لغيره، إذا كان عظيمًا عنده: عفا الله عنك، ما صنعت في أمري، ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا عرفت حقي، فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا زيادة التعظيم والتبجيل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال هذا الكلام إلا زيادة التعظيم والتبجيل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال صلى الله عليه وسلم:"عفا الله عنك عن صدقة الخيل والرقيق" ولم تجب عليهم قط، أي لم

والسلام" لكن إنما يتم هذا إن كان التفويض سابقا على الإذن، أما إن كان بعده، كما يشعر به تعبيره بثم، فلا يظهر ذلك.

"وقال عمرو": بفتح العين "ابن ميمون" بن مهران الجزري، ثقة، فاضل، من رواة الجماعة، مات سنة سبع وأربعين ومائة، "اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم، لم يؤمر فيهما بشيء" أي: لم يبين له فيهما شيء، لا يطلب فعل ولا ترك "إذنه للمنافقين" في التخلف عن الغزو، "وأخذه الفداء من الاسرى" ببدر، "فعاتبه الله كما تسمعون" في القرآن.

"وأما قول بعضهم: إن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول ذنب، لأنه تعالى قال: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} والعفو يستدعي سالفة" بلام وفاء، أي: سابقة "ذنب".

هذا قول من يجهل لغة العرب، كما يأتي:"وقول الآخر" ممن يجوز الصغائر عليهم، قوله تعالى:{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} استفهم بمعنى الإنكار، والإنكار يقتضي ذلك "فاعلم أنا لا نسلم أن قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يوجب ذنبًا، إذ لم يتقدم فيه نهى من الله حتى يكون ذنبًا، ولا عده الله عليه معصية، ولفظ عفا لا يقتضي ذلك ولا يستلزمه، "ولم لا يقال أن ذلك يدل على مبالغة الله تعالى في توقيره وتعظيمه" تفسير "كما يقول الرجل لغيره إذا كان عظيمًا عنده عفا الله عنك ما صنعت في أمري" آتيًا بالعفو قبل الاستفهام، حتى لا يبدأ به خطابه تعظيمًا، "ورضي الله عنك، ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا""بفتح الهمزة أداة استفتاح""عرفت حقي فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا زيادة التعظيم والتبجيل" تحاشيًا عن جعل الاستفهام أول كلامه للمعظم، عنده "وليس عفا هنا" في الآية" "بمعنى غفر" أي: ستر، وترك المؤاخذة "بل" بمعنى لم يلزمك شيئًا في الإذن، "كما قال صلى الله عليه وسلم: عفا الله لكم عن صدقه

ص: 41

يلزمكم ذلك.

ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لا يعرف كلام العرب، قال: ومعنى عفا الله عنك أي لم يلزمك ذنبًا.

وأما الجواب عن الثاني فيقال: إما أن يكون صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم ذنب أم لا؟ فإن قلنا: امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} إنكارًا عليه، وإن قلنا إنه صدر عنه ذنب - وحاشاه الله من ذلك- فقوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يدل على حصول العفو، وبعد حصول العفو يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال: إن قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} يدل على كون

الخيل والرقيق، ولم تجب عليهم" زكاة في خيل ورقيق "قط، أي: لم يلزمكم ذلك" فليس معناه إسقاط ما كان واجبًا ولا ترك عقوبة هنا.

وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن علي، مرفوعًا بلفظ: قد عفوت لكم عن زكاة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة.. الحديث بطوله، فنازع بعضهم عياضًا، متبوع المصنف، بأنه لم يقف عليه بلفظ عفا الله لكم، وتعقب بأن عياضًا من الحفاظ، وقف عليه، ومثله لا يقرع له العصا، "ونحوه" أي: ما ذكره "للقشيري" بلفظه من قوله: وليس عفا، وبمعناه من أول قوله: فاعلم، ولفظه عند عياض؛ ومعنى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} ، لم يلزمك ذنبًا.

قال الداودي:

روي أنها تكرمة، وقال مكي: هو استفتاح كلا مثل أصلحك الله وأعزك، وحكى السمرقندي، أن معناه عافاك الله.

قال القشيري: "وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لا يعرف كلام العرب"، فيقف على معانيه الواردة في لغتهم، كعدم اللزوم الوارد في كلام أفصح العرب، وأصل معنى العفو الترك، وعليه تدور معانيه، "ومعنى عفا الله عنك، أي: لم يلزمك ذنبًا، وأما الجواب عن الثاني، فيقال" على طريق المنزل مع الخصم "إما أن يكون صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم ذنب أم لا؟ فإن قلنا: أمتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: لم أذنت لهم إنكارًا عليه" إذ من لم يذنب لا ينكر عليه فعله، "وإذن قلنا أنه صدر عنه ذنب، وحاشاه الله من ذلك" أي: نزهة، فقوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يدل على حصول العفو وبعد حصول الفعو، يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، إذ بعد العفو كأنه لم يقع منه "فثبت أنه على جميع المقادير" أي: التقديرين المذكورين بناءً على أن الجمع ما زاد على الواحد، "يمتنع أن يقال: إن قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} .

ص: 42

الرسول مذنبًا، وهذا جواب شاف كافٍ قاطع، وعند هذا يحمل قوله لم أذنت لهمعلى ترك الاولى والأكمل، بل لم يعد هذا أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك قال نفطويه: ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان مخيرًا، فلما أذن لهم اعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه في الإذن لهم.

يدل على كون الرسول مذنبًا" كما ادعى ذلك البعض.

"وهذا جوا شافٍ" من هذا الداء العضال، وهو نسبة ذنب إلى أفضل الخلق، "كافٍ" في دفع شبهة الخصم، "قاطع" لها أصلًا لما فيه من التنزل معه، "وعند هذا يحمل قوله: لم أذنت لهم على ترك الأولى، والأكمل" فقط لا على الإنكار، "بل لم يعد هذا أهل العلم" أي: أحد منهم "معاتبة" بفعل خلاف الأولى، "ولغطوا من ذهب إلى ذلك" من المفسرين، "فقال نفطويه": "بنون ففاء فطاء مضمومة فواو ساكنة، فياء مفتوحة عند أصحاب الحديث، لأنهم لا يحبون، وبه وعند الأدباء "بفتح الطاء والواو وسكون الياء" وهو لقب لإبراهيم بن محمد الأزدي، النحوي، لدناءة منظرة، مات سنة ثلاث وعشرين وقيل: أربع وعشرين، وثلاثمائة، "ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه" الله "من ذلك" أي: برأه ونزهه وأصل معناه جعله في حشي، أي: جانب "بل كان مخيرًا" في الإذن وتركه، وقد كن له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل فيه شيء، فكيف، وقد قال الله تعالى له:{فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} هكذا في كلام نفطويه، أي: فتعليق الأمر بالمشيئة صريح في أنه مخير "فلما أذن لهم أعلمه الله" بما لم يطلع عليه، "أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا" ولو أمروا بخلاف القعود "لنفاقهم" وهم يدعون بالاستئذان أنه لو لم يأذن ما تخلفوا، فإذا ظهر كذبهم وانكشف مغطاهم لزم شق العصا وما يترتب عليه، فكان ما فعله أولى وأصوب، "و" أعلمه "أنه لا حرج" لا وزر ولا إثم "عليه في الإذن لهم" بقوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} حيث لم يلزمك أن لا تأذن حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، أي: لو صبرت لتبين لك أمرهم، فهو إشارة إلى كمال الرفق به صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يقع منه تقصير يقتضي العتاب، ولا خطأ في الاجتهاد، ولا ارتكاب خلاف الأولى، وما أحلى قول ابن المنير في تفسيره {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43] ، دعامة في الكلام، يقصد بها ملاطفة المخاطب، وهو عادة العرب في التلطف بتقديم الدعاء لاستدعاء الإصغاء أو خير معناه لا عهدة عليك، فهو تخصيص وتمييز، لا أن الإذن ذنب يتعلق به العفو، لأن في تحمله ومسامحته لهم مع أذاهم حملًا للمشقة على نفسه، وإسقاطًا للجظوظ، فهو عتب عليه بلطف لا ملامة فيه، أي: قد بلغت في الامتثال والاحتمال الغاية، وزدت ما أجحف بك في محبة الله وطاعته، والرفق بالبر

ص: 43

وأما قوله تعالى في أسارى بدر {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} إلى قوله: {عَظِيمٌ} [الأنفال: 67-68] .

فروى مسلم من إفراده من حديث عمر بن الخطاب قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون وأسر سبعون، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أباب بكر وعمر وعليًا، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا. فقال صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت

والفاجر، وأين هذا من التخطئة التي بزغ بها الزمخشري، عرق العجمة لإساءة الادب على المصطفى، وأراد بعضهمأن يصلح، فأفسد، فقال: بدأ بالعفو قبل العتب، ولو عكس انقطع نياط قلبه، وكله ذهول عن عتب الحبيب في خيفه على نفسه، وهو تخفيف لا تعنيف، ومدح لا قدح، وهذا كما قيل له إذ جهد وجد في العبادة {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى} ، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} .

"وأما قوله تعالى في أسارى بدر"{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ} "بالتاء والياء"{لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} حطامها بأخذ الفداء {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [الأنفال: 67] أي: ثوابه بالقتل إلى قوله: {عَظِيمٌ} فروى مسلم في إفراده" عن البخاري فهو من الثالثة من مراتب الصحيح "من حديث عمر بن الخطاب، قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون، وأسر سبعون" مثله في حديث البراء عند البخاري، وابن عباس عند مسلم، ووافقهم آخرون، وبه جزم ابن هشام محتجًا له، بقوله: قد أصبتم مثليها لاتفاق علماء التفسير، على أن الخطاب لأهل أحد، وإصابتهم مثليها يوم بدر، وإن اتفق أهل السير على أن القتلى خمسون، يزيدون قليلًا أو ينقصون، وعدهم ابن إسحاق خمسين.

زاد الواقدي: ثلاثة أو أربعة، وابن هشام زيادة على ستين، لأنه لا يلزم من عدم معرفة أسماء من قتل على التعيين، أن يكونوا جميع القتلى "استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر، وعليًا".

وفي رواية أحمد، عن أنس، فقال: إن الله قد مكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس، "فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم، والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة" أي: مقويًا "لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله" للإسلام" فيكونوا لنا عضدًا": ناصرين، فحاصله أنه رأى عدم القتل استبقاء للقرابة، ولرجاء إسلامهم مع أخذ الفدية، مراعاة للجيش ليقووا على الكفار "فقال صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن

ص: 44

والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، فهوي ما هوى أبو بكر ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبكِ للذي عرض على أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة فأنز الله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {عَظِيمٌ} .

الخطاب، قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل": أخيه، شقيقه، "فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه": يعني العباس: "فيضرب عنقه" أي: يقتله "حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة""بفتح الهاء والواو فألففدال مهملة فهاء"، ميل ورجوع "للمشركين".

زاد في راوية: هؤلاء أئمة الكفر وصناديد قريش وأئمتهم وقادتهم، فأضرب أعناقهم، ما أرى أن تكون لك أسرى، فإنما نحن رعايا مؤلفون "فهوى""بكسر الواو"، أحب "ما هوى أبو بكر، ولم يهو ما قلت" لماجبل عليه من الرأفة والرحمة في حال إيذائهم له، فكيف في حال قدرته عليهم، ولم يذكر أيًا عن علي، لأنه لم يظهر له مصلحة حتى يذكرها، أو لأنه لما رأى أن المصطفى هوى قول أبي بكر، رآه أنه الصواب، فسكت عليه، "فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا هو قاعد وأبو بكر الصديق، وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ " لأن عمر ما تغير رأيه "فإن وجدت بكاء" أي: سببًا له، بحيث تطاوعني عيني في نزول الدمفع "بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت"، أي: تشبهت بالباكين موافقة لكما، وإن لم يسل دمع، "فقال النبي صلى الله عليهوسلم: أبك للذي عرض"، أي: أظهر لي، يقال: عرض له أمر إذا ظهر "أدنى" أقرب "من هذه الشجرة لجشرة قريبة منه فأنزل الله تعالى".

وفي حديث ابن مسعود عند أحمد والترمذي: فنزل القرآن بقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {عَظِيمٌ} .

وفي حديث أنس عند أحمد فأنزل الله {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ

ص: 45

وقوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} : أي يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الغسلام ويستولي أهله.

وليس في هذا إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم بل فيه بيان ما خص به وفضل من بين سائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام فكأنه عز وجل قال: ما كان هذا لنبي غيرك كما قال عليه الصلاة والسلام: "أحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي".

وأما قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} فقيل المراد بالخطاب من أراد

عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقالك صلى الله عليه وسلم: إن كان ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب، وقوله:{حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} أيك يكثر القتل ويبالغ فيه، حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله" على البلاد ويل: معنى يثخن: يتمكن في الأرضن وما كان نفي للكون، وجاء بمعنى لا يليق ولا ينبغي أن يأتي به، وبه سر المستدل بالآية على الصغائر وقد رده، بقوله:"وليس في هذا إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه بيان ما خص به" إكرامًا له، "وفضل به من بين سائر" باقي"الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه عز وجل، قال: ما كان هذا؟ " أي: لم يقع "لنبي غيرك، كما قال عليه الصلاة والسلام: أحلت لي الغنائم".

وفي رواية المغانم: "ولم تحل لنبي قبلي"، قيل: ليس في الآية دليل على ما قال المصنف، بخلاف الحديث، ورد بأن الفداء في معنى الغنائم، لأنه مال مأخوذ من الكفرة، فذكرل الحديث إشارة إلى أنه يؤيد هذا التأويل، وفي المسائل الأربعين للرازي، العتاب وقع هنا على ترك الأولى، لأن الأفضل في ذلك الوقت الإثخان وترك الفداء قطعًا للأطماع، ولوا أنه خلاف الأولى، ما فوضه صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وفي حواشيه للقرافي الصواب إنه فوض الاجتهاد في أمر الاسرى له، ففوضه لأصحابه، فرأى عمر القتل، وكان هو المصلحة، وهو من إحدى موافقاته، واجتهاد الصحابة لم يؤد للمصلحة، فخلص عمر ولم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم لبذل جهده في اجتهاده، فله الأجر.

ولذا قال: عرض علي عذابكم دون عذابي، لخروجه عن موجبه ببذل جهده وإلى هذا ذهب فحول العلماء جمعًا بين ظاهر الاية وما يجب لمقامه صلى الله عليه وسلم من العصمة، وأما قوله تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} "فقيل" في الجواب: "المراد بالخطاب من أراد ذلك منهم" أي: الصحابة: "وتجرد": خلص

ص: 46

ذلك منهم وتجرد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا عليه أصحابه.

بل قد روي عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدو.

ثم قال تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} فاختلف المفسرون في معنى هذه الآية:

فقيل معناه: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحدًا إلا بعد النهي لعذبتكم، فهذا ينفي أن يكون أمر الأسرى معصية.

وقيل: لولا إيمانكم بالقرآن وهو الكتاب السابق، فاستوجبتم به الصفح لعوقبتم على الغنائم.

وتمحض "غرضه" بمعجمتين، أي: قصده "لعرض" بمهملة "الدنيا وحده"، أي: منفردًا عن قصد ثواب الآخرة، وهو مؤكد لما قبله، "والاستكثار منها" بأخذ ما يناله، "وليس المراد بهذا" الخطاب "النبي صلى الله عليه وسلم" لشرف نفسه عن النظر لها، "ولا عليه""بكسر العين وإسكان اللام وخفة الياء"، أي: معظم "أصحابه" كأبي بكر، وأن أشار بالفداء، فلرجاء الإسلام والتقوى على الكفار ومراعاة القرابة، كما مر، "بل" إضراب انتقالي.

"قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر، واشتغل الناس بالسلب""بفتحتين" ما يسلب، أي: يؤخذ من القتلى من لباس ونحوه، "وجمع الغنائم عن القتال" متعلق باشتغل "حتى خشي عمر أن يعطف" يرجع "عليهم العدو" كارًا، "ثم قال تعالى:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68]، تقدم على هذه القصة بإحلال الغنائم والاسرى لكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] ، "فاختلف المفسرون" في معنى هذه الأية، فإن أردت بيان معناه "فقيل: معناه" كما نقله الطبري عن محمد بن علي بن الحسين "لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحدًا إلا بعد النهي لعذبتكم" على ما أخذت من الفداء، إذ لو كان منهيًا عنه محرمًا لاستحق بمخالفته العذاب، فامراد بالكتاب حكم الله الذي كتبه وقدهر، "فهذا" التفسير "ينفي": يمنع "أن يكون أمر الأسرى" أي: فداؤهم "معصية لعدم النهي عنه.

"وقيل": المعنى "لولا إيمانكم بالقرآن، وهو الكتاب السابق"، المراد في قوله:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} ، "فاستوجبتم به الصفح": عدم المؤاخذة "لعوقبتم على" أخذ

ص: 47

وقيل: لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعوقبتم.

وهذا كله ينفي الذبن والمعصية، لأن من فعل ما أحل له لم يعص، قال الله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} .

وقيل: بل كان عليه الصلاة والسلام قد خير في ذلك، وقد روي عن علي قال: جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: خير أصحابك في الأسارى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا، وهذا دليل على أنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه.

"الغنائم" وما في حكمها من الفداء.

قال عياض: ويزاد هذا القول تفسيرًا وبيانًا بأن يقال: لولا ما كنتم مؤمنين بالقرآن، وكنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم كما عوقب من تعدى، أي: تجاوز ما نهى عنه، فالكتاب على هذا القرآن وسبقه تقدمه أزلًا، أو لتقدم ما نزل.

"وقيل: لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ" المكتوب فيه جميع ما هو كائن، "إنها" أي: الغنائم "حلال لكم" الانتفاع بها والتصرف فيها، "لعوقبتم"على أخذها، "وهذا كله ينفي الذنب والمعصية، لأن من فعل ما أحل له لم يعص"، فلا دليل فيها على تجويز الصغائر على الأنبياء، وأصرح من ذلك ما قال الله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفعال: 69]، أي: انتفعوا به لا خصوص الأكل وذكره لكثرته وغلبته واستدل به الأكثر على أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة.

"وقيل: بل كان عليه الصلاة والسلام قد خير في ذلك" أخذ الفداء والقتل فلما أخذ قيل كان الأولى خلافه، "و" يدل على أنه خير أنه "قد روى" عن الترمذي والنسائي وابن حبان والحكم، بإسناد صحيح، فما كان ينبغي تعبيره.

يروى: "عن علي، قال: جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر" أي: زمنه، "فقال: خير أصحابك في الأسارى أن شاؤا الفداء"فليفدوا "على أن يقتل منهم في العام المقبل" التالي لهذا العام أي: إن الله قدر عليهم إن أخذوا الفدا يقتل من الصحابة "مثلهم" سبعين، "فقالوا": نختار "الفداء، ويقتل منا" مثلهم رغبة في الشهادة.

وعند ابن سعد من مرسل قتادة، فقالوا: بل نفاديهم فنقوى به عليهم، ويدخل القابل منا الجنة سبعون، ففادوهم، "وهذا دليل على أنههم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه" فلا ذنب

ص: 48

لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجين مما كان الأصلح غيره من الإثخان والقتل فعوتبوا على ذلك وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم، فكلهم غير عصاة ولا مذنبين.

وقال القاضي بكر بن العلاء: أخبر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن تأويله وافق ما كتب له من إحلال الغنائم والفداء، وقد كان قبل هذا فادي في سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي بالحكم بن كيسان وصاحبه، فما

ولا معصية "لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين" وهو الفداء باجتهاده، وهو جائز بحضرته عليه الصلاة والسلام "مما كان، الأصلح" للإسلام "غيره من الأثخان والقتل" الذي هو أعز الوجهين بيان لغيره "فعوتبوا على ذلك" أي: اختيار غير الاصلح "وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم" وهو عمر، "فكلهم غير عصاة ولا مذنبين" لأن كلا منهم اختار ما أدى إليه اجتهاده ظانًا أن الخير فيه.

قال عياض: وإلى نحو هذا أشار الطبري، وقوله صلى الله عليه وسلم: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه إلا عمر، غشارة إلى أن هذا من تصويب رأيه، ورأى من أخذ بمأخذه في إعزاز الدين وإظهار كلمته وإبادة عدوه، وأن هذه القصة لو استوجبت عذابًا لنجا عمر، وعينه، لأنه أول من أشار، بقتلهم ولكن الله لم يقدر عليهم ذلك لحله لهم فيما سبق.

وقال الداودي: الخبر بهذا لم يثبت، ولو ثبت لما جاز أن يظن أنه صلى الله عليه وسلم يحكم بما لا نص فيه ولا دليل من نص، ولا جعل الأمر فيه إليه، وقد نزهه الله عن ذلك، هكذا في الشفاء قبل قوله:"وقال القاضي بكر" بن محمد "بن العلاء" بن محمد البصري، ثم المصري، أحد كبار المالكية والمحدثين، له تصانيف جليلة، تقدمت ترجمته، "أخبر الله تعالى نبيه في هذه الأية أن تأويله وافق ما كتب له من إحلال الغنائم والفداء"، وكيف لا يكون الفداء حلالهم قبل ذلك، "وقد كان صلى الله عليه وسلم قبل هذا"، أي: غزوة بدر "فأدى في سرية عبد الله بن جحش" الأسدي، ابن عمته عليه الصلاة والسلام أميمة، أحد السابقين الأولين، استشهد بأحد "التي قتل فيها" عمرو "بن الحضرمي" بسهم رماه به واقد بن عبد الله، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله في سرية يعترض عبر قريش، فنزلوا بطن نخلة، وقتل ابن الحضرمي، وأسر الحكم وعثمان بن عبد الله "بالحكم بن كيسان" متعلق بفادي لا بقتل، وكان الأولى حذف الباء، وأسره المقداد بن الأسود، فأراد ابن جحش قتله، فقال المقداد: دعه، تقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، واستشهد ببئر معونة، "وصاحبه" عثمان بن عبد الله ذهب حين فدى إلى مكة، فمات بها كافرًا، "فما عتب الله ذلك عليهم"، فلو كان ممنوعًا لعتب" "وذلك قبل بدر

ص: 49

عبت الله ذلك عليهم، وذلك قبل بدر بأزيد من ام، فهذا كله يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى كان على تأويل وبصيرة على ما تقدم قبل ذلك فلم ينكره الله عليه. لكن الله تعالى أراد لعظم أمر بدروكثرة أسرارها -والله أعلم- إظهار نعمته وتأكيد منته بتعريفهم ما كتب في اللوح المحفوظ من حل ذلك لا على وجه عتاب أو إنكار أو تذنيب قاله القاضي عياض رحمه الله تعالى.

وأما قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا،

بأزيد من عام"، هذا سهو، لأن السرية كانت في رجب، وقيل: في جمادى الآخرة، وبدر في رمضان، كلاهما في ثانية الهجرة، فبينهما أقل من ثلاثة أشهر، وقد تعقبوا الشفاء، متبوع المصنف بهذا، ومثله لا يخفى عليهما، ولكن الكمال لله، "فهذا كله يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى كان على تأويل" باجتهاد منه ومن أصحابه، "وبصيرة" جريًا "على ما تقدم قبل"، أي: قبل "ذلك" الفعل "مثله، فلم ينكره الله عليه، لكن الله تعالى أراد" وله ما كان لنبي

إلخ.

"لعظم أمر بدر" بكسرها شوكة المشركين وإرعاب قلوبهم، فلو زادوا بقتل الاسرى كان أقوى، "وكثرة أسرارها"،جمع أسير، "الله أعلم" بما أراد جملة معترضة" "إظهار نعمته" مفعول أراد، أي: ظهورها على المسلمين، "وتأكيد منته" عليهم "بتعريفهم ما كتب في اللوح المحفوظ" على أحد الوجوه السابقة قريبًا في المراد بالكتاب "من حل ذلك" لهم، "لا على وجه عتاب" أي: لوم، بل لبيان النعمة "أو إنكار" عليهم "أو تذنيب" أي: نسبتهم لذنب في فعلهم "قال القاضي عياض رحمه الله تعالى": في الشفاء من أول قوله: وليس في هذا إلزام ذنب إلى هنا وهو وجيه خلافًا لقول بعض شراحه؛ أنه تكلف لا ينبغي ارتكابه، والحق أنه عتاب من الله.

وفي فتح الباري: اختلف السلف في أي الرأيين كان أصوب، فقال بعضهم: كان رأي أبي بكر، لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر، ولما استقر عليه الأمر، ولدخول كثير منهم في الإسلام، إما بنفسه وإما بذريته التي ولدت له بعد الوقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب، كما ثبت ذلك عن الله تعالى في حق من كتب له الرحمة، وأما من رجح الرأي الآخر، فتمسك بما وقع من العتاب على أخذ الفداء، وهو ظاهر، لكن الجواب عنه أنه لا يدفع حجة الرجحان عن الأول، بل ورد للغشارة إلى ذم من آثر شيئًا من الدنيا على الآخرة، ولو قل: "وأما قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} على الحق بالعصمة، {لَقَدْ كِدْتَ} قاربت {تَرْكَنُ} تميل {إِلَيْهِمْ

ص: 50

إذ لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 74] الآية.

فالمعنى: لولا أن ثبتناك لقاربت أن تميل إلى إتباع مرادهم، لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب فضلًا عن أن تركن، وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما هم بإجابتهم مع قوة الداعي إليها، فالعصمة بتوفيق الله وحفظه، ولو قاربت لأذقناك

شَيْئًا} ركونًا {قَلِيلًا} لشدة احتيالهم وإلحاحهم وهوص ريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما ركن ولا قارب، {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ} عذاب {الْحَيَاةِ وَضِعْفَ} عذاب {الْمَمَاتِ} أي: مثلي ما يعذب غيرك في الدينا والآخرة "الآية" ثم لا تجد لك علينًا نصيرًا مانعًا منه.

أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: خرج أمية بن خلف، وأبو جهل، ورجال من قريش، فاتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد تعال، فتمسح بآلهتنا، وندخل معك في دينك، وكان يحب إسلام قومه، فرق لهم، فأنزل الله {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الأعراف: 73] الآية، إلى قوله:{نَصِيرًا} .

قال السيوطي: هذا أصح ما ورد في سبب نزولها، وهو إسناد جيد وله شاهد.

أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، قال: كان صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر، فقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا، فقال صلى الله عليهوسلم: وما علي لو فعلت، والله يعلم مني خلافه، فنزلت "فالمعنى، لولا أن ثبتناك لقاربت": تفسير لكدت "أن تميل إلى اتباع مرادهم" تفسير لتركن من الركون الذي هو أدنى ميل، على ما قال المفتي، وعليه فقوله: شيئًا قليلًا، كالصفة الكاشفة لمعنى تركن، "لكن أدركتك عصمتنا، فمنعت أن تقرب فضلًا عن أن تركن" وببيان المعنى حصل الجواب عن الىي، وإنها من الآيات المادحة للمصطفى، لا أنها من المتشابهات، "وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما هم بإجاباتهم"، أي: قريش لما طلبوه منه، من التمسح بآلهتهم والإلمام بها على الأصح في سبب نزولها، وبه استدل من قال هذه الآيات مكية، ومن قال: إنها مدنية، استدل بما رواه ابن مردويه عن ابن عباس، أن ثقيفًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا فإذا قبضنا ما يهدى لها أحرزناه، ثم أسلمنا، فهم أن يؤجلهم فنزلت وإسناده ضعيف.

وذكر الثعلبي بلا إسناد عن ابن عباس، أنها نزلت في ثقيف، قالوا: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالًا نفختر بها على العرب، لا نعشر، ولا نحضر، ولا نحني في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وإن تمتعنا باللات سنة، وتحرم وادينا كمكة، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك، فقل: إن الله أمرني.

قال الولي العراقي: لم أقف له على إسناد "مع قوة الداعي إليها" لشدة احتيالهم وقوة خدعهم، وكونه في مقام التلطلف بهم والحرص على إيمانهم "فالعصمة بتوفيق الله وحفظه" عن

ص: 51

ضعف الحياة وضعف الممات، أي ضعف ما يعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك، لأن خطأ الخطير أخطر، وقد أعاذه الله تعالى من الركون إلى أعدائه بذرة من قلبه. ومما يعزى للحريري مما يؤيد ذلك قوله:

أنحوي هذا العصر ما هي لفظة

جرت في لسان جرهم وثمود

إذا استعملت في صورة الجحد اثبتت

وإن اثبتت قامت مقام جحود

وفسر الأول وهو النفي المثبت بنحو {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] وقد فعلوا والثاني وهو الثبوت المنفي بنحو قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} قالوا: وهو صلى الله عليه وسلم ثبت قلبه ولم يركن.

مقاربة ذلك، "ولو قاربت لأذقناك ضعف" عذاب "الحياة وضعف" عذاب "الممات" تفسير لقوله:{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ} "أي: ضعف ما يعذب في الدارين" الدنيا والآخرة "بمثل هذا الفعل غيرك، لأن خطأ" أي: ذنب "الخطير" الشريف "أخطر" أعظم من غيره، لأنه لشرفه حقه أن لا يقرب مما يلام عليه، بل يصون نفسه عن الفهوات وإن صغرت، "وقد أعاذه الله تعالى" أي: عصمه "من الركون إلى أعدائه" أي: أعدء الله "بذره من قلبة" أي: بشيء قليل صغير جدًا كالذرةى فضلًا عما فوقها.

"ومما يعزى للحريري مما يؤيد ذلك" أي: إن كاد نا، بمعنى قرب "قوله": ملغزًا:

"

انحوى هذا العصر ما هي لفظة

جرت في لساني جرهم وثمود"

جرهم: بضم الجيم، حي من اليمن، وثمود قوم صالح، وخصهما زيادة في التعمية:

"إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود"

"وفسر الأول، وهو النفي المثبت، بنحو {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] لغلاء ثمن البقرة، "وقد فعلوا" بنص، فذبحوها.

"الثاني: وهو الثبوت المنفي، بنحو قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} ، قال: أي: العلماء كلهم، "وهو صلى الله عليه وسلم ثبت قلبه ولم يركن" بنص قوله: {ثَبَّتْنَاكَ} وأيده بذلك وإن كان ضعيفًا لاشتهاره، كما في شرح الكافية والمغني، وقالا: إن من زعممهم لم يصب، بل حكم كاد حكم سائر الأفعال، فمعناها منفي إذا صحبها حرف نفي، وثابت إذا لم يصحبها، فإذا قيل: كان زيد يبكي، معناه: قارب البكاء، فمقاربة البكاء، ثابتة، وإذا قيل: لم يكد يبكي، فمعناه: لم يقارب البكاء، فمقاربته منفية، ونفسه منتف انتفاء أبعد من انتفائه عند ثبوت المقاربة.

ص: 52

وأما قوله تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44، 45، 46] .

فالمعنى: لو افترى علينا بشيء من عند نفسه لاخذنا منه باليمين وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه، وقد أعاذه الله تعالى من التقول عليه.

فإن قلت: لا مرية أنه يعفي للمحب ولصاحب المحاسن والإحسان العظيم ما لا يعفي لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره، كما قال الشاعر:

وغذا الحبيب أتى بذنب واحد

جاءت محاسنه بألف شفيع

ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الحبيب الأعظم ذو المحاسن والإحسان الأكبر، فما هذه العقوبة المضاعفة والتهديد الشديد الوارد إن وقع منه ما يكره، وكم منه

وأما قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة: 44]، أي: افترى، سمي تقولا، لأنه قول متكلف، والأوال المفتراة أقاويل تحقيرًا لها، كأنها جمع أفعوله من القول، كالأضاحيك {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} بالقوة والقدرة، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] الآية، نياط القلب، وهو عرق متصل به إذا انقطع مات صاحبه، "فالمعنى: لو افترى علينا بشيء من عنده نفسه" كما زعم الكفار بنحو: إن هذا إلا إفك افتراه "لأخذنا": لنلنا "منه" عقابًا "باليمين، وقطعنا نياط قلبه، وأهلكناه، وقد أعاذه الله تعالى من التقول عليه"، أفلا تعقون أنه تنزل من رب العالمين، فالآية من جملة مدحه، إذ فيها القسم على تصديقه بجميع الموجودات، وأنه لا يمكنه الافتراء عليه" فإن قلت: لا مرية" لا شك "أنه يعفي للمحب":اسم مفعول المحبوب أو اسم فاعل، أي: لمن أحب غيره، ولا شك أنه عليه السلام محب لله ومحبوب له، ولصاحب المحاسن والإحسان العظيم ما لا يعفي لغيره، ويسامح مما لا يسامح به غيره، كما قال الشاعر:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد

جاءت محاسنه بألف شفيع

وفي القرآن إشارة إليه {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] ، "ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الحبيب الأعظم" من كل حبيب، "ذو المحاسن والإحسان الأكبر" الفائق على كل محسن، "فما هذه العقوبة المضاعفة" بقوله:{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} إلخ.

"والتهديد الشديد في قوله: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ} إلخ، "الوارد" كل منهما، "إن وقع منه ما يكره" "بكسر الهمزة وسكون النون شرط"، "وكم من راكن إلى أعدائه"أي: الله تعالى

ص: 53

راكن إلى أعدائه ومتقول عليه تعالى من قبل نفسه لم يعبأ به كأرباب البدع ونحوهم؟

فالجواب: أنه لا تنافي بين الأمرين، فإن من كملت عليه نعمة الله، واختصه منها بما لم يختص به غيره، وأعطاه منها ما لم يعط غيره، فحباه بالأنعام وخصه بمزيد القرب والإكرام اقتضت حاله من حفظ مرتبة القرب والولاية والاختصاص أن يراعي مرتبته من أدنى تشويش وقاطع، فلشدة الاعتناء به ومزيد تقريبه واتخاذه لنفسه واصطفائه على غيره تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم ونعمه عليه أكمل وأعم، فالمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذاغفل أو أخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك البعيد أيضًا، فيجتمع في حقه الأمران، وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدم تناقضهما فالواقع شاهد بذلك، فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم، ويؤاخذ بما لا يؤاخذ به غيرهم، وأنت إذا كان لك عبدان أو ولدان أحدهما أحب إليك من الآخر وأقرب إلى قلبك وأعز عليك عاملته بهذين الأمرين،

حقيقة، فضلًا عن مقاربته "ومتقول""بكسر الواو، اسم فاعل كاذب""عليه تعالى من قبل" جهة "نفسه لم يعبأ" لم يبال "به، كاربابالبدع ونحوهم" من الخوارج وغيرهم.

"فالجواب، أنه لا تنافي بين الأمرين، فإن من كملت عليه نعمة الله، واختصه منها بما لم يختص به غيره، وأعطاه منها ما لم يعط غيره، فحباه""بموحده""بالأنعام، وخصه بمزيد القرب" المعنوي "والإكرام" وهذا بمعنى ما قبله، فهو اطناب" "اقتضت حاله من حفظ مرتبة القرب والولاية، والاختصاص أن يراعي مرتبته، فيباعد نفسه "من أدنى": أقل "تشويش وقاطع" عن الله، "فلشدة الاعناء به ومزيد تقيبه، واتخاذه لنفسه، واصطفائه": اختياره "على غيره، تكون حقوقه وليوسيدهعليه أتم، ونعمه عليه أكمل وأعم" من غيره "فالمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذا غفل""بفتح الفاء، كنصر، وفي لغة بكسرها"، "أو أخل بمقتضى مرتبته" منزلته السنية، "نبه بما لم ينب عليه البعيد، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك البعيد أيضًا، فيجتمع في حقه الأمران" عظم مايصدر منه لمنافاته لمرتبته، والمسامحة لمحبته وشدة نصحه لمحبوبه، وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدما تناقضهما، فالواقع" في عرف الآدميين "شاهد بذلك، فإن الملك" السلطان "يسامح خصاته وأولياءه" الموالين له والمعاضدين "بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم، ويؤاخذ بما لم يؤاخذ به غيرهم" ممن دونهم "وأنت كان لك عبدان أو ولدان، أحدهما: أحب إليك من الآخر وأقرب إلى

ص: 54

واجتمع في حقه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبك له وعزته عليك، فإذا نظرت إلى إكمال إحسانك إليه، وإتمام نعمك عليه اقتضت معاملته بما لا يعامل به من دونه من التنبيه وعدم الإهمال. وإذا نظرت إلى محبته لك وطاعته وخدمته وكمال عبوديته ونصحه، وهبت له وسامحته وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره. فالمعاملتان بحسب ما بينك وبينه.

وقد ظهر اعتبار هذا المعنى في الشرع، حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزويج، إذا تعداه الزنا الرجم، وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد، وكذلك ضاعف الحد على الحر الذي قد ملكه نفسه وأتم نعمته عليه ولم يجعله مملوكًا لغيره، وجعل حد العبد المنقوص بالرق - الذي لم يجعل له هذه النعمة- نصف ذلك، فسبحان من بهرت حكمته في خلقه.

فلله سر تحت كل لطيفة فأخو البصائر غائص يتعقل انتهى ملخصًا.

قلبك وأعز عليك، عاملته بهذين الأمرين"، المسامحة والمؤاخذة"، واجتمع في حقه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبك له وعزته عليك، فإذا نظرت إلى إكمال إحسانك إليه وإتمام نعمة عليه، بمعنى حسنه اختلاف اللفظ، "اقتضت" تلك الحالة التي هي النظر لكمال الإحسان "معاملته بما لا يعامل به من دونه به من التنبيه وعدم الإهمال" بيان لما، "وإذا نظرت إلى محبته ولك وطاعته، وخدمته وكمال عبوديته، ونصحه" لك في أمورك "وهبت له وسامحته، وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره، فالمعاملتان بحسب ما بينك وبينه، وقد ظهر اعتبار هذا المعنى" العرفي "في الشرع حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزويج إذا تعداه إلى الزنا الرجم" لأن الذي مع المزني بها مع زوجته "وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد" لأنه معذور بالنسبة للمتزوج، فكفي جلده في عقوبته، "وكذلك ضاعف الحد على الجلد" لأنه معذور بالنسبة للمتزوج، فكفي جلده في عقوبته، "وكذلك ضاعف الحد على الحر الذي قد ملكه نفسه، وأتم نعمته عليه، ولم يجعله مملوكًا لغيره، وجعل حد العبد المنقوص بالرق الذي لم يجعل له هذه النعمة نصف ذلك" كما قال: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب "فسبحان من بهرت""بفتح الموحدة والهاء" غلبت وظهرت "حكمته في خلقه" وما أحسن قول القائل:"فلله سر تحت كل لطيفة" أي: رفق بالعبد لا يعلمه إلا هو سبحانه "فأخو البصائر" الناظر بعين البصيرة "غائص" أي: غارق في المعاني والأفكار التي يتوصل بها إلى معرفة كماله عز وجل "يتعقل"، أي: يستعمل عقله فيما يوصل إليه "اهـ" هذا الجواب.

ص: 55

وأما قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] .

فقيل: معناه ما كنت تدري الإيمان على التفصيل الذي شرع في القرآن.

وقال أبو العالية: هو بمعنى الدعوة إلى الإيمان، لأنه كان قبل الوحي لا يقدر أن يدعو إلى الإيمان بالله تعالى.

وقيل: معناه أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان في المهد وقبل البلوغ، حكاه الماوردي والواحدي والقشيري.

وقيل: إنه من باب حذف المضاف، أي ما كنت تدري أهل الإيمان، أي من الذي يؤمن، أبو طالب، أبو العباس، أو غيرهما.

وقيل: المراد به شرائع الإيمان ومعالمه وهي كلها إيمان، وقد سمى الله

"ملخصًا" حال.

وأما قوله تعالى: ما كنت تدري ما الكتاب" القرآن "ولا الإيمان" مع ما مر أنه صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بالله وصفاته قبل النبوة "فقيل: معناه ما كنت تدري الإيمان على التفصيل الذي شرع في القرآن"، فلا ينافي أنه كان يدريه إجمالًا.

وقال أبو العلية: رفيع ابن مهران التابعي الكبير "هو بمعنى الدعوة إلى الإيمان" فيكون على حذف مضاف، "لأنه كان قبل الوحي لا يقدر أن يدعو" الناس "إلى الإيمان بالله تعالى" فلا ينافي علمه بأنه إله واحد.

وقيل: معناه أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان في المهد وقبل البلوغ" فلا ينافي عرفانه بعد ببصيرته.

حكاه الماوردي: على بن حبيب القاضي أبو الحسن البغدادي البصري، نسب أبوه لعمل الورد أو بيعه، والقياس الوردي صاحب التصانيف الجليلة مات سنة خمسين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة "والواحدي" أبو الحسن علي المفسر تلميذ الثعلبي" و"القشيري" الإمام المشهور صاحب الرسالة.

وقيل: أنه من باب حذف المضاف أي: ما كنت تدري أهل الإيمان أي: من الذي يؤمن أبو طالب" عبد مناف "أو العباس أو غيرهما" فلا ينافي أنه مؤمن بالله وصفاته، وقد يدل له بقية الآية، ولكن جعلناه نورًًا نهدي به من نشاء من عبادنا.

وقيل: المراد به أي: الإيمان "شرائع الإيمان ومعالمه، أي: ما يدل عليه فهو على حذف مضاف أيضًا "وهي كلها إيمان وقد سمى الله الصلاة إيمانًا بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ

ص: 56

الصلاة إيمانًا بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عامًا والمراد الخصوص، كما قاله ابن قتيبة وابن خزيمة.

وقد اشتهر في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يوحد الله ويبغض الأوثان ويحج ويعتمر.

وروى أبو نعيم وابن عساكر عن علي: أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل عبدت وثنًا قط؟ قال: لا، قيل: فهل شربت خمرًا قط؟ قال: لا، وما زلت أعرف أن الذين هم عليه كفر. وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان. وقد ورد أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل كحج البيت والختان والغسل من الجنابة، وكان عليه الصلاة والسلام لا يقرب الأوثان ويعيبها، ولا يعرف شرائع اللهالتي شرعها لعباده

إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 43] الآية، "أي: صلاتكم إلى بيت المقدس" مدة "فيكون اللفظ عامًا" وهو مطلق التصديق، "والمراد الخصوص"، وهو الشرائع والمعالم، "كما قاله ابن قتيبة" عبد الله بن مسلم "وابن خزيمة" محمد إمام الأئمة.

قال بكر القاضي: فكان صلى الله عليه وسلم مؤمنًا بتوحيده، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل فزاد بالتكليف إيمانًا.

قال عياض: وهذا أحسن وجهه، "وقد اشتهر في" كتب الحديث، إنه صلى الله عليه وسلم كان يوحد الله ويبغض الأوثان" كما في قصة بحيرا الراهب لما استحلفه باللات والعزى وهو صبي فقال صلى الهل عليه وسلم: لا تسألني بهما فو الله ما أبغضت شيئًا قط بغضهما، فقال بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما اسألك، فقال: سل عما بدا لك، "ويحج ويعتمر" مخالفًا للمشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج، فكان من توفيق الله له يقف بعرفة، لأنه موقف إبراهيم.

"وروى أبو نعيم، وابن عساكر، عن علي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل عبدت وثنًا قط" صنمًا متخذًا من حجارة أو خشب أو غيرهما.

وقيل: الصنم المتخذ من الجواهر المعدنية التي تذوب والوثن المتخذ من حجدر أو خشب "قال: لا" لم أعبده قط، "قيل: فهل شربت خمرًا قط قال: لا" ما شربته "وما زلت أعرف إن الذي هم عليه" من عبادة الأوثان "كفر، وما كنت أدري ما الكتاب، ولا الإيمان، وقد ورد أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل، كحج البيت والختان والغسل من الجنابة" وقد حلف أبو سفيان بعد وقعة بدر لا يغسل رأسه من جنابة حتى يغزو محمدًا، "وكان عليه الصلاة والسلام لا يقرب" "بفتح الراء وضمها" "الأوثان" أي: لا يدنو منها "ويعيبها"

ص: 57