الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: في وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته صلى الله عليه وسلم
اعلم أن المحبة -كما قال صاحب "المدارج" هي المنزلةالتي يتنافس فيها المتنافسون، وإليها يشخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقو، وعليها تفاني المحبون، وبروح نسيمها بروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح
غير هذا، ويقال: رهطه الأدنون، ويقال: أقرباؤه، فهذا الأخير صريح في أنه عطف مساوٍ، والقولان: قبله خاص على عام "وحكم الصلاة والتسليم عليه زاده الله فضلًا وشرفًا لديه" أي: عنده والجمع بينهما أطناب، أو الأول لطلب زيادة العلوم والمعارف الباطنة، والثاني: لطلب الأخلاق الكريمة الظاهرة، أو الأول ضد النقص، والثاني: علو المجد وهوميل إلى ترادفهما، وسؤال الزيادة لا يشعر بسبق نقص لقبول الكامل زيادة الترقي في غايات الكمال، فاندفع زعم جمع امتناع الدعاء له عقب نحو ختم القرآن، باللهم اجعل ذلك زيادة في شرفه على أن جميع أعمال أمته يتضاعف له نظيرها، لأنه السبب فيها أضعافًا مضاعفة لا تحصى، فهي زيادة شرفه، وأن يسأل له ذلك، فسؤاله تصريح بالمعلوم، كما في التحفة "وفيه ثلاثة فصول":
الأول: في وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته صلى الله عليه وسلم، اعلم أن المحبة" اللام عوض عن المضاف إليه، أي: محبة المصطفى، وبدأ ببيانها لأن الحكم على الشيء فرع تصوره، فاعتقادوجوبها إنما يكون بعد تصورها، "كما قال صاحب المدارج" أي: مدارج السالكين اسم لشرح ابن القيم على كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري، من ولد أبي أيوب الصحابي، المؤلف، الواعظستين سنة للناس، الميت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة "هي المنزلة": الرتبة العلية "التي يتنافس فيها المتنافسون" أي: يتسابقون إليها ويتزاحمون عليها؛ بأن يطلبها كل واحد، وأدًا أنه يبلغ فيها مرتبة لا يبلغها غيره.
وفي القاموس: نافس فيه رغب على وجه المباراة في الكرم، كتنافس "وإليها يشخص العاملون" أي: يرفعون أبصارهم مجتهدين في تحصيلها، والمراد أنهم يجتهدون في الأعمال ويخلصون فيها، لينالوا بها تلك المرتبة السنية، وعبر عن ذلك بشخوص المبصر لما جرت به العادة إن منطلب غائبًا عنه وانتظره كثر تلفته ونظره إلى الجهة التي يأتي منها، "وإلى علمها أي: معرفتها "شمر السابقون" اجتهدوا في معرفتها والوصول إليها "وعليها تفاني"
وقوة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيه، وتوصلهم إلى منازل لم
"بفاء ونون""المحبون" أي: تغالبوا في فنائهم فيها، فكل يريد أن يغلب غيره فيها، بأن تزيد محبته على محبة غيره، "وبروح نسميها "بفتح الراء"،بمعنى الراء"، بمعنى الراحة، كأنهش به المحبة من حيثاللذة وانبساط النفس بها طيبة هابة، تحيا بها النفوس، واثبت لها النسيم تخييلًا، والروح بمعنى الراحة تشريحًا "بروح" بالتثقيل "العابدون" أي: وصل إليهم رائحة منها اطمأنت بها نفوسهم واستلذوا بها وارتاحوا، "فهي قوت القلوب" أي: هي للقلوب كالقوت من حيث أنها تحيا بها، وتتقوى، كما يقوي البدن بالقوت، وهو مكا يقوم به من الطعام جمعه أقوات "وغذاء" "بكسر الغين وذال معجمتين" "الأرواح": جمع روح، بالضم يذكر ويؤنث، تشبيه بليغ كسابقه، أو كل منهما استعارة نحو زيد أسد، وأضاف القوت للقلوب، لأنها من البدن، وهو ينتفع بما يؤكل، والغذاء للأرواح، لأنها لا تنتفع بما يؤكل وإنما تنتفع بالأذكار ونحوها.
"وقرة""بضم القاف""العيون" أي: سرورها بالمحبة وسكونها عن الالتفات إلى غيرها، "وهي الحياة، التي من حرمها فهو جملة الأموات" لأنه لا يجد لذتها كالأموات، ولا عائدتها، "والنور الذي من فقده، ففي بحار الظلمات" أي: فهو كالمنغمر فيها، بحيث لا يهتدي إلى شيء ينفعه، "والشفاء" بالمد.
قال ابن الجوزي في كتابه نزهة البيان: الشفاء ملائم للنفس، يزيل عنها الأذى، ويستعمل في القرآن على ثلاثة أوجه: الفرح، كقوله:{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} أي: بسرهم والعاقبة كقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] الآية، والبيان، كقوله:{وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]، "الذي من عدمه" "بكسر الدال" فقده "حلت بقلبه جميع الأسقام": الأمراض الطويلة "واللذة التي من لم يظفر": يفز "بها، فعيشه كله هموم" أحزان جمع هم، "والآم" جمع ألم، "وهي روح الإيمان" تشبيه بليغ، أي: له كالروح للأبدان، "و" روح "الأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت" تلك الأربعة "منها، فهي كالجسد الذي لا روح فيهِ" فهو بيان لوجه الشبه في الأربع، ويحتمل أنه بيان لقوله، وهي روح الحياة، إلى هنا "تحمل أثقال" أحمال "السائرين إلى بلد لم يكونوا إلا بشق الأنفس": بجهدها "بالغيه" واصلين إليه على غيرها. وأخر بالغيه لرعاية السجع، "وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها
يكونوا بدونها أبدًا وأصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق إلى مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها، وهي مطايا القوم التي سراهم في ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معيةمحبوبهم أوفر نصيب، وقد قدر الله يوم قدر مقادير الخلق بمشيئة وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة، لقد سبق القوم المحبين السعادة وهم على ظهور الفرش
أبدًا واصليها"، جملة مفسرة لما قبلها "وتبؤوهم": تسكنهم "من مقاعد الصدق": مجالس الحق التي لا لغو فيها ولا تأثيم "إلى مقامات" منازل رفيعة في الجنة "لم يكونوا لولا هي داخليها" وفيها تلميح لمعنى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} والتقوى بالإيمان لا تكون إلا مع محبة الرسول، "وهي مطايا القوم": جمع مطية، فعيلة بمعنى مفعولة البعير ذكرًا أو أنثى، سمي بذلك، لأنه يركب مطاه، أي: ظهره، والمطا بزنة عصا الظهر "التي سراهم" "بضم السين جمع سرية بوزن مدية ومدى".
قال أبو زيد: ويكون السري أول الليل وأوسطه وآخره "في ظهورها دائمًا إلى الحبيب"، وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيهًا لها بالأجسام واتساعًا ومنه {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] المعنى إذا يمضي، وقال البغوي: إذا سار وذهب، وقال جرير:
سرت الهموم فبتن غير نيام
…
وأخو الهموم يروم كل مرام
"وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى" التي كانوا بها في صلب آدم، وهي الجنة "من قريب" بدون عذاب قبل دخولها للمحبة، وقال شيخنا: الأولى، أي: التي قدر أزلا حصولها لهم، بكن بأعمال يصلون بها إليها، فهي سابقة أزلًا على وجود أصحابه، ثم بعد ظهورهم في الخارج وفقهم الله ببركة المحبة إلى فعل تلك الاعمال، فوصلوا إليها في زمن قليل لا يحصل عادة في مثله ما قدر عليه من العمل، بل ولا ما يقاربه وهو تكلف مستغنى عنه، "تالله لقد ذهب أهلها" المحبة "بشرف الدينا والآخرة" وعلله بقوله:"إذ لهم من معية محبوبهم" المشار لها بقوله: "أنت مع من أحببت""أوفر نصيب" لشمولها للدارين وإن لم يدركه في الدنيا أو كان بينهما مسافة بعيدة كما تقدم بسطه في المتن، "وقد قدر الله يوم مقادير الخلق" قبل خلق السماوات والأرض، وبخمسين ألف سنة "بمشيئته وحكمته البالغة" التامة "أن المرء مع من أحب" كما أخبر المحبوب صلى عليه علام الغيوب، "فيها لها""بفتح اللام""من نعمة على المحبين سابغة""بغين معجمة" طويلة متسعة، ثم يحتمل أنه مستغاث به، وأنه مستغاث له، لأن اللام الداخلة على المستغاث له يجب فتحها إن كان ضميرًا كان هنا، فإن كان اسمًا ظاهرًا وجب كسرها، والداخلة على المستغاث به يجب فتحها مطلقًا، "لقد سبق القوم المحبين"
نائمون، ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون.
من لي بمثل سيرك المذلل
…
تمشي رويدًا وتجي في الأول
أجابوا مؤذن الشوق إذ نادى بهم حي على الفلاح في الجنة، وبذلوا أنفسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضى والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، ولقد حمدوا على الوصول مسراهم، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح.
وقد اختلفوا في تعريف المحبة، وعباراتهم وإن كثرت فليست في الحقيقة
مفعول "السعادة" فاعل، سبق فهيأت لهم أنواع النعيم.
وفي نسخة: لقد سبق القوم السعاة: جمع ساع، أي: الماشين بسرعة، فالقوم فاعل، "وهم على ظهور الفش": بضمتين جمع فراش، فعال بمعنى مفعول "نائمون" والجملة حالية، "ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون" أي أنهم، فازوا بالسعادة والتقرب إلى الله بحب المصطفى وإن لم يكن لهم كثير عمل، فأشبهوا من حيث قلة العمل من وقف في سيرة بحبس دابته مثلًا، ومع ذلك حصل ما تمناه، وأنشد لغيره:
من لي بمثل سيرك المذلل
…
تمشي رويدًا وتجي في الأول
أي: من يتكفل لي بسير مثل سيرك السهل "أجابوا: مؤذن الشوق" أي: المعلم به والداعي له "إذ نادى بهم حي على الفلاح" أي: هلم إلى الفوز والنجاة، أو البقاء في الجنة، أي: أقبلوا إلى سبب الفلاح والبقاء "في الجنة وبذلوا أنفسهم": أعطوها "في طلب الوصول إلى محبوبهم"، وجرد البذل عن بعض معناه، فاستعمله في مطلق الإعطاء، فلذا قال:"وكان بذلهم بالرضا والسماح" مراعاة للسجع، أو دفعًا لتوهم أنه مجرد الإعطاء وإلا فهو لغة الإعطاء بسماحة وطيب نفس، "ووصلوا إليه السير بالإدلاج"، بالكسر بزنة الإكرام، أي: بسير الليل كله "والغدو" أي: الذهاب وقت الغدوة وهي ما بين الفجر والشمس أو منه، إلى الزوال "والرواح" من الزوال إلى الغروب والمعنى واصلوا سيرهم إليه ليلًا ونهارًا "ولقد حمدوا على الوصول مسراهم" عند وصولهم إلى محبوبهم، حيث ترتب على سيرهم ما قصدوه بلا تعب ومشقة. "وإنما يحمد القوم السري عند الصباح" لوصولهم إلى منازلهم المترتب على سراهم "وقد اختلفوا في تعريف المحبة" بعبارات كثيرة مختلفة، "وعباراتهم وإن كثرت" الواو للحال، لأن الواقع أنها كثيرة فين نفسها، فلا يصح أنها غائية، أو هي غائية بالنظر للواقف عليها، لا في نفس الأمر، أي: سواء كانت قليلة أو كثيرة للواقف عليها، وإن كثرت في الواقع، "فليست في
ترجع إلى اختلاف مقال، وإنما هي اختلاف أحوال، وأكثرها يرجع إلى ثمراتها، دون حقيقتها.
وقد قال بعض المحققين: حقيقة المحبة عند أهل المعرفة، من المعلومات التي لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانًا لا يمكن التعبير عنه.
وهكذا يقول صاحب مدارج السالكين - تبعًا لغيره: والمحبة لا تحد بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة.
وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها
الحقيقة ترجع إلى اختلاف مقال" في معناها، بحجيث يعتقد كل واحد في معناها غير ما اعتقده الآخر، ومقال مصدر، قال: وإنما هي" عبارات منشؤها "اختلاف أحوال" قامت بالمحبين، فكل عبر بما يليق بالمعنى الذي قام به:
عباراتنا شتى وحسنك واحد
…
وكل إلى ذاك الجمال يشير
"وأكثرها" أي: العبارات "يرجع إلى" بيان "ثمراتها" وهي ما يترتب على المحبة من الفوائد، سماها ثمرات، لمشابهتها لها في الانتفاع بها وترتبها عليها "دون حقيقتها" لاتحادها.
"وقد قال بعض المحققين: حقيقة المحبة عند أهل المعرفة من المعلومات" لهم، "التي لا تحد، وإنما يعرفها من قامت به وجدانًا لا يمكن التعبير عنه" كلذة المجامع يمكن التعبير عن حقيقتها بعبارة، "وهكذا يقول صاحب مدارج السالكين" ابن القيم "تبعًا لغيره: والمحبة لا تحد بحد أوضح منها" أي: لا تعرف بحد يفيد أكثر مما يفيده لفظ المحبة، لأنها علقة تقوم بالمحب يدركها من نفسه، ولا يمكن أن يوصل خصوص ما قام به إلى غيره، بحيث يكشف له حقيقة ما عنده، وغايته أن يخب بأنه يحب كذا محبة قوية، لا يمكنه التخلف عنه، وليس هذا عين ما قام به، وقريب من هذا قولهم: الحسن يدرك ولا يوصف، أي: لا يبين بعبارة تحقق معناه عند المخاطب "فالحدود لا تزيدها إلا خفاء" لعدم بيانها حقيقة الماهية، "وجفاء" "بالجيم والمد" ويقصر، أي: بعدًا مأخوذ من جفاء السرج عن الفرس: رفعه كإجفاه، "فحدها وجودها" وذلك الوجود لا يمكن بيان حقيقته للغير، "ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة" فلا معنى لحدها بأخفى منها، "وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها" بكسر الجيم عطف تفسير "وعلاماتها" الدالة عليها "وشواهدها" التي تشهد بقيامها بالمحب، "وثمراتها" فوائدها "وأحكامها" التيتبنى عليها، "فحدودها": جمع حدو هو التعريف بذاتيات
وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه السنة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب الإدراك والمقام الحال.
وقد وضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة: "الحاء" التي هي من أقصى الحلق، و"الباء" الشفهية التي هي نهايته، فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه.
وأعطوا "الحب" حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة حركة مسماة وقوتها، وأعطوا "الحب" وهو المحبوب حركة الكسر لخفتها من
المعرفة، كتعريف الإنسان بالحيوان الناطق، "ورسومهم": جمع رسم، وهو التعريف بخاصة من خواصه، كتعريفه بالضاحك، والمراد بهما هنا شيء واحد، وهو التعريف بالأثر "دارت على هذه السنة""بنون"،أي: الطريقة، وبفوقية، أي: الستة المذكورة، فهي ألفاظ متقاربة، "وتنوعة بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب الإدراك" أي: وصول كل إلى المعنى الذي تصوره من لفظ المحبة، "والمقام" المكان المورد فيه الكحلام الذي يريد التعبير به، "والحال" زممن إيارد ذلك الكلام، فالفرق بينهما اعتباري، وحقيقته صفة الشيء تذكر وتؤنث، فيقال: حال حسنة وحسن، "وقد وضعوا لمعناها" أي: لمعنى المحبة، وهو الحب، وجعل الحب معنى لها لاشتماله على زيادة، وإلا فالحب والمحبة لغة معناهما واحد، وهو الوداد "حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة" أحدهما:"الحاء التي هي من أقصى الحلق، و" الثاني "الباء الشفهية التي هي نهايته" أي: نهاية الصوت وفي نسخة نهاية بلا ضمير، أي: للمخارج "فللحاء الابتداء" لأنها مبدأ الصوت المشتمل على الحروف، وإن كان مخرجها أقصى الحلق، "وللباء الانتهاء" والحاصل، كما قال شيخنا: أنهم جعلوا آخر الحلق مما يلي الصدر أقصى باعتبار وضع الإنسان، لأن كل شيء لها نهايتان، فأيتهما فرضتها أوله كان مقابله آخره، هذا فيما وضع على الامتداد، كالبساط وأما ما وضع على الانتصاب، فأعلاه أوله واسفله آخر، ولذا كان أول المخارج الشفتين، وأولهما مما يلي البشرة التي هي ظاهر الجلد، وآخرها الحلق، وأوله مما يلي اللسان، وآخره بما يلي الصدر، والصوت لما كان مبدؤه من الئة يخرج منها، ثم يمر على الحلق، جعل أول المخارج بهذا الاعتبار، وأقصى الحلق وآخرها الشفتين.
"وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منمه" بأن يرى المحب من المحبوب ما يدعو غلىميله إليه، فيتعلق به، بحيث لا يصير عنده سواه، "وانتهاءها إليه"، إذ هو غاية المطلوب، "وأعطوا الحب" الذي هو المصدر "حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها""عطف مساو""مطابقة""مفعول لأجله"، أي: لمطابقته "لشدة حركة مسماه وقوتها،
الضمة، وخفة المحبوب وذكره على قلوبهم وألسنتهم.
فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني، تطلعك على قدر هذه اللغة، وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات.
وهذه بعض رسوم وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها وشواهدها، والكلام على ما يحتاج إلى الكلام عليه منها.
فمنها: موافقة الحبيب في المشهد والمغيب، وهذا موجبها ومقتضاها.
ومنها: محوب المحب لصفاته وإثبات المحب لذاته، وهذا من الفناة في المحبة، وهي أن تمحى صفات المحب وتفنى في صفات محبوبه وذاته، وهذا يستدعي بيانًا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه وأخذه منه.
ومنها: استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من محبوبك، وهو لأبي
وأعطوا الحب وهو المحبوب حركة الكسر لخفتها من الضمة، وخفة المحبوب و" خفة "ذكره على قلوبهم وألسنتهم فتأمل هذا اللطف والمطابقة، والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني تطلعك على قدر" أي: شرف "هذه اللغة" العربية وتميزها على غيرها "وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات، وهذه بعض رسول وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها"، علاماتها التي بها يهتدي إليها "وشواهدها" أي: ما يشهد بها ويدل عليها، حتى كأنها شهدت به وأثبتته، "والكلام على ما يحتاج إلى الكلام عليه منها، فمنها موافقة الحبيب في المشهد والمغيب"، أي: في حالتي شهوده، أي: حضوره ومغيبة، "وهذا موجبها" "بفتح الجيم" "ومقتضاها" مساوٍ له في المعنى: أي: أنهما أثر المحبة، ومسبب عنها، "ومنها محو المحب لصفاته" بحيث لا يبقى له صفة، "وإثبات المحب لذاته" بدون صفة، فالمحو في أصل اطصلاحهم رفع أوصاف العادة.
قال ابن عطاء: يمحو أوصافهم، ويثبت أسرارهم، ويقابل المحو الإثبات، وهو إقامة أحكام العادة، "وهذا من الفناء في المحبة، وهو أن تمحى صفات المحب وتفنى": تزول وتضمحل "في صفات محبوبه وذاته، وهذا يستدعي بيانًا أتم من هذا، لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه" أي: الفناء "وأخذه" أي: أخذ الوارد الفناء "منه"، ويسمونه فناء الفناء، وهو الفناء عن شهود هذا الفناء، بحيث يفنى عن كل ما سوى محبوبه، وحينئذٍ يدرك ذلك بالوجدان لا بالعبارة "ومنها استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من محبوبك" كما قيل:
قليل منك يكفيني ولكن
…
قليلك لا يقال له قليل
يزيد، وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها وشواهدها. والمحب الصادق لو بذل لمحبوبة جميع ما يقدر عليه لاستقله ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه.
ومنها: استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك، وهو قريب من الأول لكنه مخصوص بما من المحب.
ومنها: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة، وهو لسهل بن عبد الله، وهو أيضًا حكم المحبة وموجبها.
ومنها أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء، وهو لسيدنا ابي عبد الله القرشي، وهو أيضًا من موجبات المحبة وأحكامها، والمراد أن تهب
"وهو لأبي يزيد" بياء قبل الزاي، اسمه طيفور، بطاء مهملة وتحتية وفاء، ابن عيسى البسطامي، نادرة زمانه حالاً وأنفاسًا وورعًا وعلمًا وزهدًا وتقي، مات سنة إحدى وستين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة، "وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها""بفتح الجيم""وشواهدها" الدالة عليها، "والمحب الصادق لو بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله": اعتقده قليلًا، "ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه" عدة، واعتقده كثيرًا عظيمًا، "ومنها استكثارًا لقليل من جنايتك واستقلال الكثير من طاعتك، وهو قريب من الأول" أي: ما قبله فهو أول نسي وإلا فهو ثالث "لكنه مخصوص بما من المحب "في الحالين، بخلاف ما قبله فمنه ومن المحبوب، فافترقا، "ومنها معانقة الطاعة" أي: التزام المحب طاعة محبوبه، بحيث يفعل كل ما أمره به، أو فهم أنه يريرده وإن لم يأمره، "ومباينة المخالفة" بأن لا يخالفه في شيء أراده منه، ولا يفعل شيئًا نهاه عنه، وهذا المعنى لازم لالتزام الطاعة، فذكره أيضًا "وهو لسهل بن عبد الله" التستري الولي الذي لم يسمح الدهر بمثله، له كرامات وتصانيف، مات سنة ثلاث وثمانين ومائتين عن ثلاث وثمانين سنة "وهو إيضاحكم المحبة، وموجبها" لا حد لها حقيقي، "ومنها أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منه شيء" وعليه أنشد:
تملك بعض حبك كل قلبي
…
فإن ترد الزيادة هات قلبًا
"وهو لسيدنا أبي عبد الله" محمد بن أحمد بن إبراهيم "القرشي" من أعيان مشايخ المغرب ومصر، لقي نحو ستمائة شيخ، وجد واجتهد وأخذ عنه كثيرون، منهم البوني، وله كرامات كثيرة، مات ببيت المقدس سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وقيل غير ذلك، ودفن به، ثم دفن بجانبه ابن رسلان، وجربت استجاب الدعاء بين قبريهما، "وهو أيضًا من موجبات المحبة،
إرادتك وعزماتك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبسًا في مرضاته ومحابه، ولا تأخذ منها لنفسك إلا ما أعطاكه، فتأخذ منه له.
ومنها: أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب، وكمال المحبة يقتضي ذلك، فإنه ما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة.
ومنها: أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك، وهو للشبلي، ومراده: احتقارك لنفسك واستصغارها أن يكون مثلك يحبه.
ومنها: غض طرف المحب عما سوى المحبوب غيره، وعن المحبوب هيبة، وهذا يحتاج إلى إيضاح، أما الأول فظاهر، وأما الثاني: فإن غض طرف القلب
وأحكامها" لا تعريف لها، "والمراد: أن تهب إرادتك وعزماتك" بفتح الزاي جمع عزمة، وهي الاجتهاد في الشيء والمحافظة عليه، "وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه"، والوقت عندهم عبارة عن حال في زمان الحال، لا تعلق فيه بالماضي ولا الاستقبال، فيقال: فلان وقته كذا، أي: حاله كذا، ولذا قالوا: الوقت ما أنت فيه، إن كنت بالدنيا فوقتك بالدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن، فعنوا بذلك أن وقت الإنسان هو حاله الغالبة عليه، و"تجعلها"، أي: المذكورات "حبسًا"، بضمتين وتسكن الباء لغة، وقفًا "في مرضاته"، أي: مقصورة على رضاه لا تتعداه إلى غيره، "ومحابه" ما يحبه هو، "ولا تأخذ منها لنفسك إلا ما أعطاكه فتأخذه منه له" لأنه لم يبق لك منك شيء فأخذك ما أعطاك إنما هو له "ومنها أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب" حتى نفسك، وذلك عندما ينسى أوصاف نفسه في ذكر محاسن حبه، كما قيل:
شاهدته وذهلت عني وغيره
…
مني عليه فذا المثنى مفرد
"وكمال المحبة يقتضي ذلك، فإنه ما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره، فالمحبة مدخولة"، أي: مشوبة بغيرها، ومتى كانت كذلك لم تكن حقيقية.
"ومنها أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك، وهو للشبلي" أبي بكر دلف بن جحدر، وقيل: اسمه جعفر بن يونس، وقيل: غير ذلك صحب الجنيد والنساج وطبقتهما، وصار أوحد وقته علمًا وحالًا، وتفقه على مذهب مالك، وكتب حديثًا كثيرًا، ثم شغلته العبادة عن الراية، مات سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة عن سبع وثمانين سنة، ودفن بمقبرة الخيزران ببغداد، "ومراده احتقارك لنفسك، واستصغارها أن يكون مثلك يحبه" لجلالته، فيغار عليه من أن ينسب له الشيء الحقير "ومنها: غض طرف المحب عما سوى المحبوب غيره"، مفعول له، "وعن المحبوب هيبة"، أي: لأجل الغيرة والهيبة "وهذا يحتاج إلى إيضاح، أما الأول فظاهر، وأما
عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل، ولكن عند استيلاء سلطان المحبة يقع مثل هذا، وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم.
ومنها: ميلك إلى الشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا ثم علمك بتقصيرك في حبه، قال الجنيد: سمعت الحارث المحاسبي يقول ذلك.
ومنها: سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشد بعضهم:
فأسكر القوم دورًا لكأس بينهم
…
لكن سكري نشأ من رؤية الساقي
ومنها: سفر القلب في طلب المحبوب، ولهج لسانه يذكره على الدوام، أما سفر القلب في طلبه فهو الشوق إلى لقائه، وأما لهج اللسان بذكره فلا ريب أن
الثاني، فإن غض طرف القلب عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل"، إذ أصل معنى المحبة ميل القلب، فكيف يصرفه عنه "ولكن عند استيلاء سلطان المحبة يقع مثل هذا" بدون اختيار، كأنه لا يدري ما هو عليه، "وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم" للمحبوب "ومنها ميلك إلى الشيء" الذي تحبه "بكليتك" بجملتك "ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه" وهذا بمعنى ما سبق عن القرشي، لكن غرض المصنف بيان العبارات، وإن رجع بعضها إلى بعض.
قال الجنيد: أبو القاسم بن محمد البغدادي شيخ الطريقة، العلم الشهير:"سمعت الحرث" بن أسد البصري، "المحاسبي" قيل: له ذلك لكثرة محاسبته لنفسه، أو لأنه كان له حصى يعدها ويحسبها حال الذكر، أو لغير ذلك صحب الشافعي، وقيل: بل عاصره وكان عابدًا، زاهدًا، راسخًا في الأصول والفقه والحديث والتصوف والكلام، صنف نحو مائتي مؤلف، ومات ببغداد سنة ثلاث وأربعين ومائتين، "يقول ذلك" المذكور في معنى المحبة "ومنها" المحبة "سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه" لأنه عند الطائفة عبارة عن غيبة بوارد قوي، والغيبة عدم الإحساس، وذلك إذا كوشف بنعت الجمال، وطرب وهام قلبه، "ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة" للمحبوب "لا يوصف" بل يحل عن الوصف "وأنشد بعضهم"
"فأسكر القوم دورًا لكأس بينهم
…
لكن سكري نشأ من رؤية الساقي"
فالصادق المحبة لا يتوقف سكره على كأس ولا غيرها بل بمجرد رؤية الحب يسكر سكرًا يجل عن الوصف، "ومنها سفر القلب" أي: توجهه "في طلب المحبوب، ولهج لسانه يذكره على الدوام" بحيث لا يفتر عنه، "أما سفر القلب في طلبه، فهو الشوق إلى لقائه"،
من أحب شيئًا أكثر من ذكره.
ومنها: الميل إلى ما يوافق الإنسان، كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة وغير ذلك من الملاذ التي لا يخلو كل طبع سليم عن الميل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه كحب الصورة الجميلة بإدراكه بحاسته، أو يكون حبه لذلك لموافقته له من جهة إحسانه إليه وإنعامه عليه، فقد جبلت القلوب على حب
فكل حبيب يحب لقاء حبيبه، وما أحسن قوله:
وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني
…
وعفراء يوم الحشر نلتقيان
وأحلى قول الآخر:
إن كان يحلو لديك ظلمي
…
فزد من الهجر في عذابي
عسى يطيل الوقوف بيني
…
وبينك الله في الحساب
"وأما لهج اللسان بذكره؛ فلا ريب أن من أحب شيئًا أكثر من ذكره"، وهو لفظ حديث، رواه أبو نعيم، ثم الديلمي من طريق مقاتل بن حيان، عند داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من أحب شيئًا أكثر من ذكره"، "ومنها": المحبة: "الميل إلى ما يوافق الإنسان" المحب، وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه منه أمرًا محبوبًا "كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة وغير ذلك" كالأطعمة والأشربة اللذيذة والروائح الطيبة والملابس الفاخرة "من الملاذ التي لا يخلو كل طبع سليم" من غلظ الطبع وفساد الحواس، كالمريض يحد الحلو مر الفساد ذوقه، فلا يرد نقضًا "عن الميل إليها لموافقتها له" طبعا "أو لاستلذاذه" أي: وجود لذته، وهو إدراك الملائم من حيث هو ملائم، والألم ضده، والمراد بالملائم للشيء كماله اللائق به، كالتكيف بالحلاوة للذائق ونحوه، من المحسوسات، وكتعقل الأشياء على ما هي عليه بالقوة العاقلة، وقيد الحيثية لا الشيء قد يكون ملائمًا من وجه دون آخر، فاللذة حسية، وإليها أشار بقوله:"كحب الصورة الجميلة" وعقيلة، وبينها بقوله:"بإدراكه بحاسته" بعد الوصول إليه لا قبله بمجرد تخيله بحاسة عقله وقلبه معاني لطيفة شريفة، كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف، كما في الشفاء، وفيه تسمح على رأي الحكماء؛ لأن المدرك عندهم القوى الباطنة في الدماغ لا العقل المدرك للكليات، لكن لما يثبتها أهل الشرع تسمح فيها، "أو يكون حبه لذلك لموافقته له" أي: لملائمته وموافقة طبعه "من جهة إحسانه" إنعامه وبذله وجوده "إليه".
وفي نسخة له، أي: لأجل ذلك، فقوله:"وإنعامه عليه" عطف تفسير، "فقد جبلت" خلقت وطبعت "القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها" كما رواه أبو نعيم
من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، وإذا كان الإنسان يحب منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفًا فانيًا منقطعًا أو استنفذه من مهلكة أو مضرة لا تدوم، فما بالك بمن منحه منحًا لا تبيد ولا تزول ووقاه من العذاب الأليم ما لا يفنى ولا يحول.
في كتاب الحلية، وأبو الشيخ وغيرهما كانب حبان في "روضة العقلاء" والخطيب في "تاريخ بغداد" وأخرين عن ابن مسعود، موقوفًا.
وأخرجه ابن عدي والبيهقي وابن الجوزي، عنه مرفوعًا، قال السخاوي: وهو باطل موقوفًا ومرفوعًا وقول ابن عدي والبيهقي، الموقوف معروف فيه تأمل ففي سندهما: من أبهم بالكذب والوضع بسياق أجل الأعمش عن مثله، وهو أنه لما ولي الحسن بن عمارة مظالم الكوفة، فقال الأعمش: ظالم ولي مظالم، فبلغ الحسن فبعث إليه بأثواب ونفقة، فقال الأعمش: مثل هذا ولي علينا يرحم صغيرها ويجود على فقيرنا ويوقر كبيرنا فقال له رجل: ما هذا قولك بالأمس، فقال: حدثني خيثمة عن ابن مسعود، فذكره موقوفًا، وأخرجه القضاعي، مرفوعًا من جهة ابن عائشة عن محمد بن عبد الرحمن القرشي، قال: كنت عند الأعمش، فقيل: إن الحسن ولي المظالم، فقال الأعمش: يا عجبًا من ظالم ولي المظالم، ما للحائك بن الحائك والمظالم، فأتيت الحسن، فأخبرته، فقال: عليَّ بمنديل وأثواب، فوجه بها إليه، فبكرت إلى الأعمش من الغاد، فأجربت ذكره، فقال: بخ بخ، هذا الحسن بن عمارة ولي العمل وما زانه، فقلت: بالأمس تقول ما قلت واليوم تقول هذا، فقال: دع عنك هذا.
حدثني خيثمة عن ابن مسعود مرفوعًا به، فقد كان رحمه الله زاهدًا، ناسكًا، تاركًا للدنيا، حتى وصفه القائل بقول: ما رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر عنده منهم مع فقره وحاجته، وقال آخر: أنه فقير، صبور، مجانب للسلطان، ورع، عالم بالقرآن، انتهى.
وفي تذكرة ابن عبد الهادي، قال مهنأ: سألت أحمد ويحيى عن هذا الحديث، فقالا: ليس له أصل وهو موضوع، "وإذا كان الإنسان يحب منحه" أي: أعطاه "في دنياه" أي: حياته في الدنيا "مرة أو مرتين معروفًا"، أي: شيئًا حسنًا، "فانيًا، منقطعًا" أي: زائلًا في زمن قليل، "أو استنقذه"، نحاه "من مهلكة" أمر مهلك، "أو مضرة""بفتح الميم والضاد" أمر يضره ويؤذيه "لا تدوم" مدة ذلك "فما بالك بمن منحه منحا لا تبيد" بكسر الموحدة وإسكان التحتية لا تذهب وتنفذ "ولا تزول" عطف تفسير من نعيم الخلد في الجنة، "ووقاه" بالتشديد والتخفيف صانه "من العذاب الأليم"، عذاب النار "ما لا يفنى ولا يحول" عنه إلى غيره، فهذا أحق أن يحب من كل شيء يحب حتى من نفسه وماله وأهله، "وإذا كان المحب يحب غيره على" أي: لأجل "ما فيه من صورة جميلة وسيرة حميدة" كملك وقاضٍ وإن كان بعيد الدار
وإذا كان المحب يحب غيره على ما فيه صورة جميلة وسيرة حميدة، فكيف بهذا النبي الكريم والرسول العظيم الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم، المانح لنا جوامع المكارم والفضل العميم، فقد أخرجنا الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وخلصنا به من نار الجهل إلى جنات المعارف والإيقان، فهو السبب لبقاء مهجنا البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، فأي إحسان أجل قدرًا وأعظم خطرًا من إحسانه إلينا، فلا منة -وحياته- لأحد بعد الله كما له علينا، ولا فضل لبشر كفضله لدينا.
فكيف ننهض ببعض شكره، أو نقوم من واجب حقه بمعشار عشرة، فقد منحنا الله به منح الدنيا والآخرة، وأسبغ علينا نعمة باطنة وظاهرة، فاستحق صلى الله عليه وسلم أن يكون حظه من محبتنا له أوفى وأزكى من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين، بل لو كان في كل منبت شعرة منا محبة تامة له صلوات
عنه ولم يره، "فكيف بهذا النبي الكريم والرسول العظيم"، الذي لا أكرم ولا أعظم منه، "الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم، المانح" المعطي "لنا جوامع المكارم والفضل العميم، فقد أخرجنا الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان"، بالإضافة البيانية فيهما أو من إضافة الأعم إلى الأخص، "وخلصنا به من نار الجهل إلى جنات المعارف والإيقان، فهو السبب لبقاء مهجنا" بضم ففتح "البقاء الأبدي" الدائم "في النعيم السرمدي" المتواصل الذي لا ينقطع، "فأي: إحسان أجل قدرًا" رتبة "وأعظم خطرًا" بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة، أي: قدرًا أو شرفًا غاير بينهما تفننًا "من إحسانه إلينا" معاشر المؤمنين، وخصهم لأنهم هم المنتفعون به وإن كان إحسانه عامًا، وأي: للتعظيم والتفخيم، كما يقال: عندي رل، أي: رجل كامل الرجولية، "فلا منة وحياته" قسمي "لأحد بعد الله كما له علينا ولا فضل لبشر" ولا لملك "كفضله لدينا" عندنا وقيد بالبشر؛ لأنه المشاهد فضله، "فكيف ننهض" نقوم بسرعة "ببعض شكره" على ما أولانا، "أو" كيف "نقوم من واجب حقه بمعشار عشرة، فقد منحنا الله به منح الدنيا والآخرة وأسبغ: أوسع وأتم "علينا" بسببه "نعمة" أي: الله "باطنة"وهي المعرفة وغيرها، "وظاهرة" حسن الصورة وتسوية الأعضاء، فاستحق صلى الله عليه وسلم أن يكون حظه" نصيبه "من محبتنا له أوفى" أتم "وأزكى" أطهر "من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين"، عطف على خاص وهو كثير، "بل" انتقال "لو كان في كل منبت" محل نبات "شعرة منا محبة تامة له صلوات الله وسلامه عليه لكان ذلك بعض ما يستحقه
الله وسلامه عليه لكان ذلك بعض ما يستحق علينا.
وقد روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده". رواه البخاري.
وقدم الوالد للأكثرية؛ لأن كل أحد له والد، من غير عكس، وفي رواية النسائي تقديم الولد على الوالد وذلك لمزيد الشفقة، وزاد في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أسن والناس أجمعين، وفي صحيح ابن خزيمة: من أهله وماله بدل
علينا".
"وقد روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن" إيمانًا كاملًا "أحدكم" خطاب للحاضرين عام فيهم وفي غيرهم، بقياسهم عليهم بطريق المساواة بجامع العلة، أو تنزيلًا لهم منزلة المخاطبين، وتوجيه الكلام لجملتهم مجازًا من باب الاستعارة التمثيلية، ويؤيد عمومه رواية مسلم لا يؤمن الرجل.
وفي رواية الأصيلي: لا يؤمن أحد وزعم أن في مسلم: لا يؤمن عبد وابن حبان: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان غلط، فإنما فيهما ذلك في حديث: حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. "حتى أكون أحب" أفعل بمعنى مفعول، وهو مع كثرته على خلاف القياس، وفصل بينه وبين معموله بقوله:"إليه" لأن الممتنع الفصل بأجنبي.
قاله الحافظ وقال المصنف: لأنه يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره "من والده" أي: أبيه، قال الحافظ: وهل تدخل الأم في لفظ والده، إن أريد به من له الولد، فيعم، أو اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفي عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذكر على سبيل التمثيل والمراد، إلا عزة، كأنه قال: أحب إليه من أعزته "وولده" ذكرًا أو أنثى.
"رواه البخاري" من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لا يؤمن، ذكره، وهو عن أبي هريرة من أفراد البخاري، ورواه هو ومسلم من حديث أنس، "وقدم الوالد للأكثرية؛ لأن كل أحد له والد من غير عكس" أو نظرًا إلى جانب التعظيم، أو لسبقه بالزمان، قاله المصنف.
"وفي رواية النسائي": لحديث أنس: "تقدم الولد على الوالد، وذلك لمزيد الشفقة"، ونطق صلى الله عليه وسلم عند كل من أبي هريرة، وأنس بما رواه عنه، فلا خلف، وليس أحدهما بالمعنى لاختلاف المخرج، وأفاد الحافظ أن الروايات لم تختلف في حديث أبي هريرة "وزاد في رواية عبد العزيز بن صهيب"، بضم المهملة وفتح الحاء وسكون التحتية وموحدة، البناني بضم الموحدة نسبة إلى بنانة: بطن من قريش التابعي، كأبيه "عن أنس" عند البخاري ومسلم: "لا يؤمن
والده وولده وذكر الوالد والولد أدخل في المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه. ولذا لم يذكر "النفس" في حديث أبي هريرة، وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص.
قال الخطابي: والمراد بالمحبة هنا، حب الاختيار لا حب الطبع.
وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس والأمَّارة والمطمئنة، فإن من رجح
أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده" "والناس أجمعين" دخل في عمومه النفس على الظاهر، وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وقد نص على النفس في حديث عبد الله بن هشام، كما يأتي انتهى. ووجه بعده أن اللفظ عام، وما ذكر ليس من المخصصات، وحينئذٍ فلا يخرج.
"وفي صحيح" محمد "بن خزيمة" المعروف بإمام الأئمة، من طريق عبد العزيز بن صهيب، عن أنس مرفوعًا:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله" بدل والده وولده.
وكذا لمسلم من طريق ابن علية، والإسماعيلي من طريق عبد الوارث بن سعيد، كلاهما عن عبد العزيز، عن أنس، بلفظ: لا يؤمن الرجل، قال الحافظ: وهو أشمل من جهة، وأحدكم أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيلي: لا يؤمن أحد، "وذكر الوالد والولد أدخل في المعنى" أي: أنسب المعنى الذي الكلام فيه، "لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس في حديث أبي هريرة" بل قال: من والده وولده فقط، "وذكر الناس بعد الوالد والولد" في حديث أنس عند الشيخين، كما علم "من عطف العام على الخاص"، وهو كثير، كما في الفتح، فمحبة الوالد محبة إجلال ومحبة الولد رحمة وشفقة، والناس محبة إحسان، وقد ينتهي المحب في المحبة إلى أن يؤثر هوى المحبوب على هوى نفسه فضلا عن ولده، بل يحب أعداء نفسه لمشابهتهم محبوبه قال:
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
…
إذ صار حظي منك حظي منهم
"قال الخطابي: والمراد بالمحبة هنا حب الاختيار"، الذي يقتضي العقل إيثاره وإن خالف الطبع، كمحبة المريض الدواء "لا حب الطبع" الذي لا يدخل تحت اختيار، فإنه لا يؤاخذ به لعدم دخوله تحت استطاعته.
"وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الإمارة"، المائلة بطبعها إلى الشهوات، وتهيم بها، وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات، "والمطمئنة" بذكر الله، فإن النفس تترقى في الأسباب والمسببات إلى الواجب لذاته، فتستقر دون معرفته، وتستغنى به عن غيره، أو
جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحًا، ومن رجح جانب الأمَّارة كان حبه بالعكس.
وفي كلام القاضي عياض: إن ذلك شرط في صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال، وتعقبه صاحب المفهم: بأن ذلك ليس مرادًا، هنا لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزمًا للمحبة؛ إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته. قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه، وإلى ذلك يومئ قول عمر بن الخطاب في الحديث الذي رواه البخاري في "الإيمان والنذور" من حديث عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبي: لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي، فقال
إلى الحق، بحث لا يريبها شك، والآمنة لا يستفزها خوف ولا حزن، قاله البيضاوي:"فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحًا" حتى على نفسه، "ومن رجح جانب الأمارة كان حبه بالعكس"، أي: مرجوحًا "وفي كلام القاضي عياض" إشارة إلى "أن ذلك شرط في صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال"، باعتقاد عظمته وجلاله صلى الله عليه وسلم، وحمله على ذلك يلزم منه التنقيص عند ضد التعظيم، وهوكفر، فلذا قال: شرط في صحة الإيمان "وتعقبه صاحب المفهم" أبو العباس أحمد بن محمد القرطبي، مرت ترجمته في شرح مسلم، "بأن ذلك ليس مرادًا هنا؛ لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزمًا للمحبة؛ إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته" بأن لا يحبه ولا يبغضه، أو يعظمه مع بغضه، يعني: فكما لا يلزم من الأعظمية المحبة، لا يلزم من ضدها البغضاء.
قال شيخنا: هو كذلك عقلا، وأما بحسب العرف، فالعادة قاضية؛ بأن من اعتقد عظمة إنسان أحبه، "قال" صاحب المفهم:"فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه" فقط، لا أنه كافر، "وإلى ذلك يومئ قول عمر بن الخطاب في الحديث الذي رواه البخاري في" كتاب "الإيمان والنذور" من صحيحه "من حديث عبد الله بن هشام" بن زهرة بن عثمان التيمي، صحابي، صغير، مات في خلافة معاوية، وأبوه صحابي، "أن عمر بن الخطاب، قال للنبي: لأنت يا رسول الله"، لفظه عن عبد الله بن هشام، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، والله لأنت "أحب إليَّ""بشد الياء واللام"، لتأكيد القسم "من كل شيء" في الدنيا وغيرها، "إلا" من "نفسي التي بين جنبي""بشد الياء" مثنى؛ لأن بين لا تضاف إلا لمتعدد، وهذا كناية عن السر الذي قامت به الحياة، وأضافه إلى
النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إليَّ من نفسي التي بين جنبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"، فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعًا.
وفي رواية فقال صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" قال بعض الزهاد: تقدير الكلام، لا تصدق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه الهلاك.
وأما وقوف عمر في أول أمره، واستثناؤه نفسه؛ فلأن حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام منه حب الاختيار؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه. وعلى هذا
الجنبين، لجرى العادة بسلب الحياة، بسلب ما بينهما وهو القلب، وما يتعلق به من سائر الأعضاء الرئيسة، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه"، فقال عمر": مؤكدًا بالقسم تحقيقًا لخلوص طويته في قوله: "والذي أنزل عليك الكتاب" أوحى إليك القرآن "لأنت أحب من نفسي التي بين جنبي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن" عرفت، فنطقت بكمال الإيمان، فهو متعلق بمقدر، وهو مبني على الفتح، وأل فيه لازمه، وهو الزمان الحاضر، وصرح بقوله: "يا عمر" إشارة إلى وصوله لرتبة عليه، تخصه بالنسبة لبض من عداه، أي: لا تكفيك الرتبة الأولى، ولا يليق بعلو همتك الاقتصار عليها، "فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعًا"، بدليل قوله أحب إليّ من كل شيء.
"وفي رواية: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "لا" يكمل إيمانك، "والذي نفسي بيده" أي: بقدرته، أو هو من المتشابه المفوض علمه لله، وهو أسلم وأقسم تأكيدًا، وفيه جواز الحلف على الأمر المبهم للتوكيد، وإن لم يكن هناك محلف "حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر".
هذا بقية هذه الرواية في البخاري: "قال بعض الزهاد: تقدير الكلام" في قوله: لا حتى أكون، "لا تصدق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه الهلاك" بالجهاد أو إماتة النفس، "وأما وقوف عمر في أول أمره واستثناؤه نفسه، فلأن حب الإنسان نفسه طبع" لا يسلم منه إلا من ملك نفسه: جاهدها، "وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب" المؤدية إلى ذلك، "وإنما أراد عليه الصلاة والسلام منه حب الاختيار؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع"، أي:
فجواب عمر كان أولًا بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة، فأخبره بما اقتضاه الاختيار، فلذلك حصل الجواب بقوله:"الآن يا عمر" أي الآن عرفت فنطقت بما يجب.
وإذا كان هذا شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله في محبتنا له ووجوب تقديمها على أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، فما الظن بمحبة الله تعالى ووجوب تقديمها على محبة ما سواه، ومحبة الله تعالى تختص عن محبة غيره قدرها وصفتها، وإفراده سبحانه وتعالى بها، فإن الواجب له من ذلك أن يكون أحب إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه، فيكون إلهه الحق، ومعبوده أحب إليه من ذلك كله، والشيء قد يحب من وجه
لا طريق إلى تحويلها عما تهواه، "وتغييرها عما جبلت عليه" لأنه لا يدخل تحت الاستطاعة فليس مكلفًا به، ولا مؤاخذًا بعدمه، "وعلى هذا، فجواب عمر كان أولًا بحسب الطبع" الذي جبل عليه الإنسان من ترجيح نفسه وتقديمها، "ثم تأمل، فعرف بالاستدلال؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة، فأخبره بما اقتضاه الاختيار"، الناشئ من التفكر "فلذلك حصل الجواب، بقوله" صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"، أي: الآن عرفت فنطقت بما يجب"، وحال عمر أنه لا يفعل غير ما وجب عليه؛ لأنه منهي عنه؛ إذ الأمر بالشئ الموجب له نهى عن ضده، "وإذا كان هذا شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله في محبتنا له ووجوب تقديمها على أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، فما الظن" استفهام تعظيم، أي: ظن تظنه، أي: لا تظن إلا أعظم ظن، "بمحبة الله تعالى وجوب تقديمها على محبة ما سواه".
وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي"، أخرجه الترمذي والحاكم، وصححاه عن ابن عباس:
"ومحبة الله تعالى تختص عن محبة غيره في قدرها وصفتها"، وفي "إفراده سبحانه وتعالى بها، فإن الواجب له من ذلك أن يكون أحب إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه، فيكون إلهه الحق، ومعبوده أحب إليه من ذلك كله"، ولا انفكاك لأحد عن الاحتياج إليه، "والشيء قد يحب من وجه دون وجه"، كحب العالم لعلمه، وكراهته لبخله مثلًا، "وقد يحب لغيره وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله
دون وجه، وقد يحب لغيره وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى حده، ولا تصلح الألوهية إلا له. والتأله هو المحبة والطاعة والخضوع.
ومن علامات الحب المذكور لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض الإنسان على نفسه أنه لو خير بين فقد غرض من أغراضه وفقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد غرض من أغراضه فقد أصتف بالأحبية المذكورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لا فلا.
تعالى وحده".
قال ابن عطاء: الله ما من وقت ولحظة إلا وهو مورد عليك فيهما نعمًا، يجب حبه وشكره عليه دائمًا فمتى فات حق وقت لا يمكن قضاؤه أبدًا؛ إذ ما من وقت إلا وله عليك فيه حق جديد، وهو الشكر، وأمر أكيد وهو الاستغفار والتجريد {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} الآية، "ولا تصلح الألوهية"، أي: العبادة "إلا له والتأله"، أي: التعبد "هو المحبة والطاعة والخضوع"، والغرض من هذه الجملة بعدما تقدم التنبيه على استحقاقه الكمال المطلق، فلا يشاركه أحد في شيء من صفاته إلا في مجرد الاسم إن اتفاق ذلك، ولما كان هذا نتيجة الأسباب المحصلة لمحبة الله تعالى، كما قال بعد أن هذا ثمرة المعرفة، عطفة بالواو في قوله: ولا تصلح، ولم يقل إذا المقتضية للعلة لما قبله، غائية أو غير غائية؛ لأن ذلك يقتضي سبق معرفة العلة الغائية، أو غيرها على الأسباب المحصلة، "ومن علامات الحب المذكور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يعرض" "بفتح الياء وكسر الراء"، أي: يظهر ويبرز "الإنسان على نفسه أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، أن لو كانت ممكنة"، أي: سهلة في نفسها، بحيث يتمكن منها إذا أرادها، فليس المراد بالإمكان ما قابل الاستحالة "فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد غرض من أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لا" يكن ذلك أشد، "فلا" يتصف بالأحبية المذكورة.
وهذا ذكره الحافظ، وزاد: وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته والذب في شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيها باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان، إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيره فإذا حقق الأمر فيه، فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالًا ومآلًا، فإذا تأمل النفع الحاصل من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بالمباشرة
قال القرطبي: كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من يأخذ بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقًا في الشهوات محجوبًا بالغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤية بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة ويجد رجحان ذلك من نفسه وجدانًا لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر في قلوبهم، من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال لتوالي الغفلات، انتهى.
ملخصًا فكل مسلم في قلبه محبة الله ورسوله، لا يدخل الإسلام إلا بها، ولكن الناس متفاوتون في محبته صلى الله عليه وسلم بحسب استحضار ما وصل إليهم من جهته
وأما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه.
"قال القرطبي" أبو العباس في المفهم: "كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون" فيها بحسب الاستحضار والغفلة "فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقًا في الشهوات، محجوبًا بالغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته"، والشوق انجذاب النفس في الغيبة، فهو أخص من المحبة؛ لأنها تكون في الحضور والغيبة، "بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده، ويبذل نفسه": يعطيها بسهولة ويلقيها "في الأمور الخطيرة""بمعجمة فمهملة" الشاقة الصعبة، "ويجد رجحان ذلك من نفسه وجدانًا لا تردد فيه" ولا شك، "وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره و" يؤثر "رؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكره، فيذهب إلى ذلك بدون مراعاة المذكور "لما وقر": ثبت "في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال لتوالي الغفلات، انتهى" كلام القرطبي "ملخصًا، فكل مسلم" كائن وثابت "في قلبه محبة الله ورسوله" إذ "لا يدخل الإسلام إلا بها، ولكن الناس متفاوتون في محبته صلى الله عليه وسلم، بحسب استحضار ما وصل إليهم من جهته، من وجوه النفع الشامل لخير الدارين"، وهو أعظم من جميع وجوه الانتفاعات،
من وجوه النفع الشامل لخير الدارين والغفلة عن ذلك، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم.
وقد روى ابن إسحاق -كما حكاه في الشفاء- أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا هو بحمد الله كما تحبين، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، تعني: صغيرة.
ورواه البيهقي في دلائله، وذكر صاحب البيان بلفظ: لما قيل يوم أحد قتل
"و" بحسب "الغفلة عن ذلك" الاستحضار "ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم" من غيرهم والله الموفق.
هذا وقد نقل المصنف بعد نحو كراس كلام سهل الذي نقله الشارح هنا عن الشفاء.
"وقد روى ابن إسحاق" محمد إمام المغازي في السيرة، "كما حكاه في الشفاء: أن امرأة من الأنصار" لم تسم، ولفظ ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد "قتل أبوها وأخوها وزوجها" شهداء "يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت" لما نعوا لها "ما فعل رسول الله" هكذا في أكثر النسخ، وهو اموجود في الشفاء وابن إسحاق رسول بلا باء، وليس المراد السؤال عن فعله حقيقة، وإنما المراد السؤال عن سلامته وحياته، وعبرت بذلك تأدبًا؛ لأن الفعل يستلزم الحياة، فأريد لازمة، وفي بعض نسخ المصنف برسول الله صلى الله عليه وسلم بالباء "قالوا" فعل "خيرًا" والمراد أنه بخبر، ولذا قالوا: "هو بحمد الله كما تحبين" أي: سالم منصور مظفر، "قالت: أرونيه"، بالجمع، وهو ما رأيته في ابن إسحاق، وفي نسخة: أرنيه بالإفراد خطابًا لمن سألته "حتى أنظر إليه" فإن الخبر ليس كالعيان، قال في الراوية: فأشير لها إليه، "فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك"، أي: بعد سلامتك ورؤيتك "جلل" "بفتح الجيم واللام"، "تعني صغيرة" وفي النهاية وغيرها، أي: هين حقير، والمعنى متقارب، وفي سيرة ابن هشام: الجلل من القليل والكثير، وهو هنا من القليل، كقوله امرئ القيس:
لقتل بني أسد ربهم
…
إلا كل شيء سواه جلل
ومن الكثير قول الحارث بن وعلة، قال:
ولئن عفوت لأعفون جللا
…
ولئن سطوت لأوهنن عظمى
"ورواه البيهقي في دلائله" النبوية من طريق ابن إسحاق، "وذكر صاحب البيان بلفظ: لما قيل يوم أحد قتل محمد عليه الصلاة والسلام، وكثرت الصوارخ"، الصائحون
محمد عليه الصلاة والسلام وكثرت الصوارخ بالمدينة، خرجت امرأة من الأنصار، فاستقبلت بأخيها وابيها وابنها وزوجها قتلى، لا تدري بأيهم استقبلت، وكلما مرت بواحد منهم صريعًا قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك قالت: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك، حتى ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من عطب. وكذا رواه ابن أبي الدنيا بنحوه مختصرًا.
وقال عمرو بن العاص: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال علي بن أبي طالب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أموالنا، وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.
ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة -بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة
"بالمدينة" من هول هذا الخبر "خرجت امرأة من الأنصار، فاستقبلت" ضمنه معنى اشتغلت، فعداه بالباء في قوله:"بأخيها وأبيها وزوجها"، فزاد ابنها على الرواية السابقة:"قتلى لا تدري بأيهم استقبلت، وكلما مرت بواحد منهم صريعًا، قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وأبنك، قالت: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم"، أي: ما لذي قام به "فيقولون: أمامك حتى ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم جعلت تقول" أفديك "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي"، لا أكترث ولا أهتم "إذ سلمت" أنت من القتل "من عطب" "بكسر الطاء" أي: هلك.
"وكذا رواه ابن أبي الدنيا" عبد الله بن محمد الحافظ، الشهير "بنحوه مختصر، وقال عمرو بن العاص" بالياء وحذفها "ما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، حتى لو قيل لي صفه ما استطعت أن أصفه.
أخرجه مسلم في حديث طويل "وقال علي بن أبي طالب" وقد سئل كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أموالنا، وأولادنا، وآبائنا وأمهاتنا""بضم الهمزة وكسرها، مع فتح الميم، وكسرها جمع أمهة"، لغة في أم، لكنها تختص ببني آدم، قال: أمهتي خندف واليأس أبي، ويقال في البهائم: أمات "و" أحب "من الماء البارد على الظمأ" بقصره أفصح من مده، أي: شدة العطش، خصه لأنه حال محبة الماء وشدة الرغبة فيه، وأعاد الجار؛ لأنه نوع آخر مما يحب، ولشدة نفعه، "و" روى البيهقي عن عروة، قال: "لما
وتشديد النون- من الحرم ليقتلوه قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكه وإني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا من الناس يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا.
وروي -مما ذكره القاضي عياض- أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، وإني لأذكرك فما أصبر حتى أجيء
أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة" بن معاوية بن عبدي بن معاوية بن عامر بن بياضة الأنصاري، البياضي، شهد بدرًا وأحدًا "بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة وتشديد النون" وقد تسكن المثلثة وتخفف النون وهاء تأنيث، اسم والده من قولهم دثن الطائر إذا طار حول وكره، ولم يسقط عليه أو من دثن إذا اتخذ عشا، وكان قد أسر يوم الرجيع مع خبيب بن عدي، فاشترى صفوان بن أمية زيد أو غيره خبيبًا، وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث؛ فحبسا بمكة حتى خرجت الأشهر الحرم، فخرجوا بهما "من الحرم" تعظيمًا له؛ لأنهم كانوا لا يقتلون فيه، واجتمع هو وخبيب في الطريق فتواصوا بالصبر والثبات على ما يلحقها من المكاره "ليقتلوه" بالتنعيم.
"قال له أبو سفيان بن حرب" وهو يومئذٍ مشرك: "أنشدك" بفتح الهمزة وضم الشين: أسألك "بالله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك فقال زيد": مؤكد بالقسم "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه" مقيم "تصيبه شوكة"، أي: أقل شيء من الأذى فضلًا عما قلتم، "وإني جالس في أهلي" سالم من الأذى، "فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا من النس"، ما نافية لا تعجبية، وإن كان مراده التعجب من شدة حبهم له "يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا"، مفعول المصدر، وهو حب، ثم قتله نسطاس مولى صفوان، وأسلما بعد رضي الله عنهما.
وفي رواية: أنهم ناشدوا بذلك خبيبًا فقال: والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، ولا خلف، فقد يكونون قالوه لخبيب، وقاله أبو سفيان لزيد، ومر بسط القصة في المغزي.
"وروى" عند الطبراني في الصغير عن عائشة، وابن مردويه عن ابن عباس "مما ذكره القاضي عياض أن رجلًا" ثوبان أو عبد الله بن زيد على ما يأتي "أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لأنت" "اللام في جواب قسم مقدر" "أحب إليّ من أهلي ومالي، وإني لأذكرك"، أي: أتذكرك في ذهني وأتصورك، أو أذكر اسمك وصفاتك فهو من الذكر "بالكسر أو الضم" "فما أصبر" أي: لا أستطيع الصبر عنك، أي: عن رؤيتك لشدة حبي لك، "حتى أجيء فأنظر
فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتها لا أراك، فانزل الله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] فدعا به فقرأها عليه.
قال: وفي حديث آخر: كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه لا يطوف، فقال:"ما بالك"؟ قال: بأبي أنت وأمي، أتمتع من النظر إليك، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله، فأنزل الله الآية.
إليك" فيطمئن قلبي، وتقر عيني برؤيتك "وإني ذكرت موتي وموتك" أي: مكاني ومكانك بعد الموت، "فعرفت": تحققت "إنك إذا دخلت الجنة" بعد الموت "رفعت" إلى الدرجات العلا "مع النبيين" صلوات الله عليهم أجمعين، "وإن دخلتها" أنا "بضم التاء" "لا أراك" بعد الدخول؛ لأنك في مقام لا يصل إليه غيرك، وعبر في جانبه صلى الله عليه وسلم بإذا لتحقق دخوله الجنة، ورفعته فيها وفي جانبه هو؛ بأن لعدم جزمه في نفسه بذلك، "فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} " بامتثال أمره ونهيه، ويلزمه محبته له أيضا، ولم تذكر لتحققها لذكر الرجل لها والعلم بخلوصه فيها، "{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} " بنعيم الجنة وعالي مراتبها، ففيه تبشير له بمرافقة أكرم خلق الله وأقربهم، وأرفعهم منزلة "{مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} " بيان للمنعم عليهم بما أخفي لهم من قرة أعين "{وَحَسُنَ أُولَئِكَ} " تعجب أي: ما أحسنهم "{رَفِيقًا} " [النساء: 69] ، تمييز، ولم يجمع لوقوعه على الواحد وغيره، أو لإرادة كل واحد منهم "فدعا به" طلب حضوره "فقرأها عليه" جوابًا له وتبشيرًا، والمراد بالمعية والمرافقة كونه في الجنة يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم متى شاء، لا التسوية في المنزلة.
"قال": عياض: "وفي حديث آخر كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم" أي: ملازمًا لمجلسه "ينظر إليه" أي: يديم النظر إلى وجهه الوجيه "لا يطرف""بفتح الياء وسكون الطاء وكسر الراء المهملتين وفاء" أي: لا يصرف طرفه عن النظر إليه، أو لا يطبق أحد جفنيه على الآخر، ويغض بصره، وظاهر قول بعضهم، أي: لا يغض بصره مطرقًا راميًا ببصره إلى الأرض، أنه من أطرق "بضم أوله وقاف"، وهو صحيح أيضًا.
قال بعضهم: لكني لا أعرف هل هو رواية أو تحرف عليه أو تسامح في تفسيره: "فقال" له صلى الله عليه وسلم: "ما بالك؟ " أي: ما شأنك حتى تحد النظر وتديمه كالمبهوت، "قال": أفديك "بأبي أنت وأمي، أتمتع من النظر"، لفظ الشفاء: بالنظر "إليك" أي: أتلذذ بإدامة نظري في وجهك ما دام ممكنًا في الدنيا لأنتفع به وأتزوده منه، "فإذا كان" وجد "يوم القيامة رفعك الله" إلى
وذكره البغوي في تفسيره بلفظ: نزلت -أي الآية- في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما غير لونك"؟ فقال يا رسول الله، ما بي من مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين، وأني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية، وكذا ذكره الواحدي في "أسباب النزول"، وعزاه الكلبي عن ثوبان.
وقال قتادة: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يكون الحال في الجنة وأنت في الدرجات العلا ونحن أسفل منك فكيف نراك؟ فأنزل الله الآية.
الدرجات العالية في الجنة، "بتفضيله" لك على جميع خلقه، والباء للسببية "فأنزل الله الآية" المذكورة، "وذكر البغوي" محبي السنة الحسين بن مسعود، أحد الحفاظ "في تفسيره" بلا عزو، "بلفظ: نزلت، أي: الآية في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" اشتراه وأعتقه، فلازمه حضرًا وسفرًا، وخدمه حتى مات، فتحول إلى الرملة، ثم حمص، فمات بها سنة أربع وخمسين، "وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه"، وعند الثعلبي: تغير وجهه، ونحل جسمه "يعرف الحزن في وجهه"، "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض" مطلق علة، "ولا وجع" أي: مرض مؤلم، ويقع أيضًا على كل مرض، ولا يراد هنا للمغايرة، "غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة" أي: حصل لي انقطاع بعد قلب عن الود وعدم استئناس، "حتى ألقاك" فتزول وحشتي، ثم ذكرت الآخرة" أي: فكرت في أمرها "فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين" في أعلى الدرجات، "وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك" فتقل رؤيتي لك، بدليل قوله:"وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية" المذكورة.
"وكذا ذكره الواحدي في" كتاب "أسباب النزول، وعزاه الكلبي" محمد بن السائب، "عن ثوبان" الصحابي، المذكور، وذكره شيخه الثعلبي في تفسيره بلا إسناد، ولا راوٍ، "وقال قتادة" كما أسنده ابن جرير.
"قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يكون الحال في الجنة، وأنت في الدرجات العلا، ونحن أسفل منك فكيف نراك، فأنزل الله الآية" المذكورة "وذكره ابن ظفر" محمد
وذكره ابن ظفر في "ينبوع الحياة" بلفظ: إن عامر الشعبي قال: إن رجلًا من الأنصار أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من نفسي ومالي وولدي وأهلي، ولولا أني آتيك فأراك لرأيت أن أموت أو قال أن سوف أموت، وبكى الأنصاري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أبكاك"؟ قال: بكيت أن ذكرت أنك تموت ونموت، وترفع مع النبيين، ونكون نحن إن دخلنا الجنة دونك، فلم يحر النبي صلى الله عليه وسلم إليه، بمعنى أي: لم يرجع إليه يقول، فأنزل الله الآية.
قال: وذكر مقاتل بن سليمان مثل هذا، وقال: هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي رأى الأذان. وذكر أيضًا: أن عبد الله بن زيد هذا كان يعمل في جنة له فأتاه ابنه فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي فقال: اللهم أذهب بصري تى لا أرى بعد حبيبي محمدًا أحدًا، فكف بصره.
"في ينبوع الحياة" اسم تفسيره، وأسنده البيهقي "بلفظ: أن عامر" بالنصب، وإن رسم بصورة الرفع بلا ألف على لغة ربيعة، أو حذفت الألف للتخفيف، كقوله: ولا أذكر الله إلا قليلًا، ولا يختص ذلك بالضرورة خلافًا، فالزاعمة، وفي نسخة: بالألف، ولعلها اصطلاح، وإلا فالنسخ القديمة بدونها، وكذا في نسخة الشيخ الجارحي، تلميذ المصنف، وعليها خط المؤلف "الشعبي"، التابعي، فهو مرسل، "قال: إن رجلًا من الأنصار"، فهو غير ثوبان؛ لأنه ليس من الأنصار، ويأتي أنه ابن زيد "أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: والله لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من نفسي ومالي وولدي وأهلي، ولولا أني آتيك فأراك لرأيت أن أموت، أو قال: أن سوف أموت" شك من الراوي "وبكى الانصاري فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبكاك"؟ قال: بكيت" لأجل "أن ذكرت أنك تموت" "بالتاء" أنت، "ونموت" "بالنون أوله نحن"، "وترفع" أنت "مع النبيين، ونكون نحن إذا دخلنا الجنة دونك" فتتعذر، أو تقل رؤيتنا لك، "فلم يحر" "بفتح التحتية وضم الحاء المهملة وبالراء" من حار إذا رجع "وبضم الياء وكسر الحاء" من أحار.
الجواب رده "النبي صلى الله عليه وسلم إليه، بمعنى" ومقتضى قوله: "أي: لم يرجع إليه" أنه بالضبط الأول؛ إذ هو تفسير ليحر، "يقول": تفسير لقوله، بمعنى:"فأنزل الله الآية، قال" ابن ظفر "وذكر مقاتل بن سليمان مثل هذا، وقال: هو" أي: الرجل الأنصاري، "عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري"، الخزرجي "الذي رأى الأذان" مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: استشهد بأحد، "وذكر" ابن ظفر "أيضًا، أن عبد الله بن زيد هذا كان يعمل في جنة" بستان "له فأتاه ابنه، فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، فقال: اللهم أذهب بصري حتى لا أرى بعد حبيبي محمد
واعلم أنه لا يجتمع في القلب حبان، فإن المحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب، فليختر المرء لنفسه أحدى المحبتين فإنهما لا يجتمعان في القلب، والإنسان عند محبوبه كائنًا ما كان كما قيل:
أنت القتيل بأي من أحببته
…
فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
ولبعض الحكماء: كما أن الغمد لا يتسع لعضبين فكذلك القلب لا يتسع لمحبتين، ولذلك لازم إقبالك على من تهواه إعراضك عن كل شيء سواه، فمن
أحدًا، فكف بصره" عمي.
وفي الحديث: إن منكم معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، وفي تفسير القرطبي؛ أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ الآية على الرجل، دعا الله أن يعميه حتى لا يرى أحدًا غيره في الدنيا، فعمي مكانه، وتقدم مزيد لهذا النوع السابع من المقصد السادس، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد في المقصد العاشر.
"واعلم أنه لا يجتمع في القلب حبان، فإن المحبة الصادقة"، أي: الخالصة التي لا يشوبها رياء ولا مداهنة، ويعرف بالقرائن والأحوال، وصفها بذلك تنزيلًا لدلالتها على صدق صاحبها منزلتها، ووصف غير العاقل بالصدق، وهو الإخبار بما يطابق الواقع، كثير في كلامهم، ومنه صدق القتال إذا قوي واشتد، "تقتضي توحيد المحبوب" أي: جعله واحدًا، بحيث لا تتعلق محبته بغيره، فإذا تعلق قلب إنسان بمحبة شخصين لم تكن محبته لواحد منهما صادقة، فإن أراد صدقها، "فليختر المر لنفسه إحدى المحبتين" المتعلقتين بالشخصين، بالاقتصار على محبة واحد منهما، "فإنهما لا يجتمعان في القلب والإنسان عند محبوبه"، منقاد إليه، مسلم له جميع أموره، فيصير معه كعبد عامل بمقتضى العبودية من انقياده إلى سيده ظاهرًا وباطنًا وحرصه على طاعته وفعل مراده، وإن لم يأمره "كائنًا ما كان، كما قيل" قائله ابن الفارض: "أنت القتيل، بأي من أحببته"، لاستيلاء الحب عليك، فنقني في حبه بالانقياد له، فتصير كالميت الذي لا قدرة له على فعل شيء، فكأن المحبوب أزال شعور المحب لاستفراغه في هواه، "فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي"، أي: من تعده صافيًا في الدين، بحيث يحملك على ملازمة الطاعة سرا وإعلانا، وليس المراد من نختار؛ لأنه يصير في غاية الركة، كأنه قال: اختر من تختار، "ولبعض الحكماء: كما أن الغمد" "بكسر الغين المعجمة" "لا يتسع لعضبين": "بفتح المهملة وإسكان المعجمة" تثنية عضب، وهو السيف القاطع تسمية بالمصدر، فهو أخص من مطلق السيف، "فكذلك القلب لا يتسع لمحبتين، ولذلك لازم إقبالك على من تهواه إعراضك عن كل شيء سواه، فمن داهن في المحبة" أي: أظهر خلاف ما يبطن "أو
داهن في المحبة أو داجى، فقد عرض لمدى الغيرة أوداجًا، فمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام -بل تقديمه في الحب على الأنفس والآباء والأبناء- لا يتم الإيمان إلا بها؛ إذ محبته من محبة الله تعالى.
وقد حكي عن أبي سعيد الخراز -مما ذكره القشيري في رسالته- أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله أعذرني فإن محبة الله شغلتني عن محبتك، فقال لي: يا مبارك من أحب الله فقد أحبني.
داجى"، بأن دارى، والمراد بها الأخذ للشيء والتوصل إليه بحيلة، "فقد عرض لمدى" "بضم الميم" جمع مدية السكين "الغيرة أوداجًا": جمع ودج، أي: العروق المكتنفة ثغرة البحر يمينًا وشمالًا، والمعنى: من لم يخلص المحبة عرض نفسه لأسباب الهلاك، الناشئة من غيرته على حبه لعدم وصوله لمراده منه، فيصاب بأسباب قاتلة كالمدى في شدة تأثيرها في البدن، "فمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، بل تقديمه في الحب على الأنفس والآباء والأبناء لا يتم الإيمان إلا بها". أي: لا يوجد ولا يكمل، فاستعمله بمعنى الوجود فيما قبل الإضراب، وبمعنى الكمال فيما بعده، "إذ محبته من محبة الله تعالى"، الواجبة لذاته، كما مر.
"وقد حكي عن أبي سعيد" إبراهيم، وقيل: أحمد بن عيسى البغدادي، "الخراز": بالخاء المعجمة وشد الراء فألف فزاي منقوطة، نسبة إلى خرز جلود القرب، ونحوها من أئمة القوم وجلة المشايخ، قيل: وهو أول من تكلم في علمي الفناء والبقاء، وقيل: فيه قمر الصوفية صحب السري، وذا النون المصري، وبشر الحافي وغيرهم.
قال الجنيد: لو طالبنا الله بحقيقة ما عليه أبو سعيد لهلكنا أقام كذا وكذا، سنة ما فاته ذكر الله بين الخرزتين.
مات سنة سبع وسبعين، وقيل: سنة ست وثمانين ومائتي، ومرت ترجمته أيضًا، "مما ذكره القشيري" أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن، الإمام العلامة، المفسر، المحدث، الولي، الذي ما رأى الراءون مثله، مر بعض ترجمته "في رسالته أنه" أي: أبا سعيد "قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله أعذرني""بكسر الهمزة، وسكون العين، وكسر الذال المعجمة، وهمزته وهمزة وصل من عذر، كضرب، وبفتح الهمزة، وكسر الذال، وهمزته همزة قطع من أعذروهما، لغتان سوى بينهما المجد، ولم نر ضم الهمزة وكسر الذال، وهمزته همزة قطع من أعذروهما، لغتان سوى بينهما المجد، ولم نر ضم الهمزة والذال، والمعنى، أقبل عذري، فلا تؤاخذني بتقصيري، وارفع اللوم عني، "فإن محبة الله شغلتني عن محبتك، فقال لي: يا مبارك": اسم مفعول من البركة، وهي الزيادة والتنمية، هذا أصله لغة، ثم استعمل عرفًا في قليل الفطنة، فيحتمل أنه المراد هنا دفعًا لتوهمه، أن محبة الله تنافي محبته، ويعد المشتغل بها مقصرًا
وقيل إن ذلك وقع لامرأة من الأنصار معه صلى الله عليه وسلم يقظة، ولابن أبي المجد سيدي إبراهيم الدسوقي.
ألا يا محب المصطفى زد صبابة
…
وضمخ لسان الذكر منك بطيبه
ولا تعبان بالمبطلين فإنما
…
علامة حب الله حب حبيبه
وكذلك كل حب في الله، كما في الصحيحين، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب
في حبه عليه الصلاة والسلام، مع أنها عينها، كما قال:"من أحب الله فقد أحبني"؛ لأني الداعي إلى الله، الموصل إليه.
"وقيل: إن ذلك وقع لامرأة من الأنصار معه صلى الله عليه وسلم يقظة"، فإن ثبت فلا منافاة، كما لا يخفى، "ولابن أبي المجد" العارف بالله تعالى، "سيدي إبراهيم الدسوقي"، الشريف، الحسينيد، وقد ذكر نسبه في اللواقح، فقال إبراهيم بن أبي المجد بن قرش بن محمد بن أبي النجاء بن زين العابدين بن عبد الخالق بن محمد بن أبي الطيب بن عبد الله الكاتم بن عبد الخالق بن أبي القاسم بن جعفر الزكي بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي الزاهد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، تفقه على مذهب الشافعي، ثم اقتفى آثار الصوفية وجلس في مرتبة الشيخوخة، وحمل الراية البيضاء، وعاش ثلاثًا وأربعين سنة، ولم يغفل قط عن امجاهدة للنفس والهوى والشيطان، حتى مات سنة ست وسبعين وستمائة، "ألا يا محب المصطفى زد صبابة""بفتح الصاد" شوقًا، أو رقته وحرارته، أو رقة هوى "وضمخ""بمعجمتين بينهما ميم" الطخ "لسان الذكر" لله تعالى الذي تستعمله "منك بطيبه"، بإثناء عليه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم "ولا تعبان" أي: لا تهتم ولا تبال "بالمبطلين"، الزاعمين أن ذلك يشغل عن الله تعالى "فإنما علامة حب الله حب حبيبه" وزعمهم باطل، كيف، وقد قال: أحبوني لحب الله "وكذلك كل حب في الله، ولله كما في الصحيحين".
البخاري في الإيمان والأدب، ومسلم في الإيمان، عن أبي قلابة "عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث" مبتدأ، خبره جملة "من كن" أي: حصلن "فيه"، فهي تامة "وجد"، أي: أصاب، ولذا اكتفى بمفعول واحد، أعني "حلاوة الإيمان"، وجاز الابتداء بالنكرة؛ لأن التنوين عوض عن المضاف إليه، أي: ثلاث خصال، أو لأنه صفة موصوف محذوف، وهو مبتدأ حقيقة، أي: خصال ثلاث، أو لأن الجملة الشرطية صفته، والخبر "أن يكون الله ورسوله أحب"،
إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"، فعلق ذوق الإيمان بالرضا بالله ربًَّا، وعلق وجدان حلاوته بما هو موقوف عليه، ولا يتم إلا به، وهوكونه سبحانه أحب الأشياء إلى
بالنصب خبر يكون "إليه مما سواهما" ولم يثن أحب ليطابق خبر كان اسمها؛ لأن أفعل التفضيل إذا وصل بمن، فهو مفرد مذكر دائمًا، ولا تجوز المطابقة لمن هوله "وأن يحب المرء" حال كونه "لا يحبه إلا الله تعالى"، وللنسائي من رواية طلق بن حبيب عن أنس، وأن يحب في الله ويبغض في الله.
قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء، نقله الحافظ "وأن يكره أن يعود" أي: العود "في الكفر كما يكره أن يقذف""بضم أوله وفتح ثالثه، أي: مثل كراهة القذف "في النار".
زاد البخاري من وجه آخر بعد أن أنقذه الله منه، قال الحافظ: والإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء، بأن يولد على الإسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، وعلى الأول، فيحمل قوله يعود على معنى الصيرورة، بخلاف الثاني، فالعود فيه على ظاهره.
وفي رواية قتادة، عن أنس، عند مسلم والبخاري في الأدب: وحتى أن يقذف في النار أحب إليه ن أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، وهي أبلغ من هذه الرواية؛ لأنه سوى فيها بين الأمرين، وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الأخرى، فإن قيل لِمَ عدي العود بقي ولم يعده بالي، فالجواب أنه ضمنه معنى الاستقرار، كأنه قال: يستقر فيه، ومثله قوله تعالى:{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89] انتهى.
وزعم العيني أنه تعسف، وإنما "في" هنا بمعنى "إلى" كقوله تعالى:{أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88]، أي: لتصيرن إلى ملتنا، ومنعه شيخنا في قراءة البخاري بأنه لا تعسف، فكل من الطريقين مسلوك، وذلك لأن الفعل إذا عدي بحرف لا يتعدى به، جاز تأويل الفعل بما يتعدى به، كتأويل يؤمنون بالغيب بيعترفون، وتأويل الحرف مع بقاء الفعل على حقيقته، كالمثال الذي ذكره، بل قال بعضهم: التأويل في الفعل أولى "فعلق ذوق الإيمان بالرضا بالله ربا"، بقوله صلى الله عليه وسلم:"ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا"، الحديث الآتي قريبًا، وطعم الإيمان، بمعنى حلاوة الإيمان؛ لأن الثلاثة لا توجد إلا ممن صح إيمانه وانشرح صدره، قال عياض، "وعلق" في هذا الحديث "وجدان حلاوته بما هو موقوف عليه، ولا يتم إلا به، وهو كونه سبحانه أحب الأشياء
العبد هو ورسوله، فمن رضي الله ربًّا رضيه الله له عبدًا.
ومعنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في الدين، ويؤثر ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول، قاله النووي.
وقال غيره: معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق والده وولده وجميع الناس؛ لأن الهدى من الضلالة، والخلاص من النار، إنما كان بالله على لسان رسوله.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "حلاوة الإيمان" استعارة تخييلية، فإنه شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قضية المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مرًّا،
إلى العبد هو" تعالى "ورسوله" عليه السلام "فمن رضي بالله ربا رضيه الله له عبدًا"، بمعنى أثابه جزيل الثواب، "ومعنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في الدين"، فاستعمال الحلاوة فيه مجاز مرسل من ذكر الملزوم وإرادة اللازم "ويؤثر" لفظ الفتح، وإيثار "ذلك على أعراض الدنيا ومحبة العبد لله تحصل"، أي: تتحقق وتوجد "بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول، قاله النووي": بمعنى أن فعل الطاعة علامة على محبة العبد، فليس عين المحبة، بل هو مسبب عنها، كما أشار إليه البيضاوي، في إن كنتم تحبون الله.
"وقال غيره: معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق والده وولده وجميع الناس؛ لأن الهدى من الضلالة والخلاص من النار إنما كان بالله على لسان رسوله"، فكأن حمله على معنى الحديث قبله:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
"وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "حلاوة الإيمان" كما قال الحافظ "استعارة تخييلية، فإنه شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه"، ولا يتعين هذا فيجوز أنه شبه اللذة الحاصلة من التلبس بالإيمان بحلاوة الحلو، واستعار له اسمه، فتكون استعارة تصريحية، ويجوز أنه مجاز مرسل أطلق الحلاوة وأراد لازمها عند تناولها، وهو اللذة"، وفيه تلميح إلى قضية المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي"، الذي غلب خلط الصفراء على مزاجه، "يجد طعم العسل مرًّا" لفساد مزاجه.
والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما، نقص ذوقه بقدر ذلك.
وقال العارف ابن أبي جمرة واختلف في الحلاوة المذكورة هل هي محسوسة أو معنوية، فحملها قوم على المعنى وهم الفقهاء ومن شابههم، وحملها
"والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما" قليلًا "نقص ذوقه بقدر ذلك".
زاد الحافظ: فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوى به استدلال البخاري على الزيادة والنقص أي: للإيمان، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة إنما عبر بالحلاوة؛ لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله:{مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الإمر واجتناب النهي، وزهرتها ما يهم به المؤمن من الخير، وثمرتها عمل الطاعات، وحلاوة الثمرة جني الشجرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها. انتهى.
وقال البيضاوي: المراد بالحب العقلي، الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تمرن على الاتمار بأمره، بحيث يصير هواه تبعًا له، ويتلذذ به تلذاذًا عقليًّا؛ إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة؛ لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة، وإنما جعل هذه الثلاثة عنوانًا لكمال الإيمان لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينًا، يخيل إليه الموعود، كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود في الكفر إلقاء في النار، انتهى ملخصًا.
وشاهد هذا الحديث من القرآن قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] ، ثم هدد على ذلك، وتواعد بقوله:{فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فإن فيه إشارة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فالأول من الأول، والثاني من الثاني. انتهى كله من فتح الباري.
"وقال العارف ابن أبي جمرة": بجيم وراء، "واختلف في الحلاوة المذكورة" في قوله حلاوة الإيمان "هل هي محسوسة أو معنوية، فحملها قوم على المعنى"، بمعنى: أن من وجدت
قوم على المسحوس وأبقوا اللفظ على ظاهره من غيره أن يتأولوه وهم أهل الصفة، أو قال أهل الصوفة. قال: والصواب معهم في ذلك والله أعلم؛ لأن ما ذهبوا إليه أبقوا به لفظ الحديث على ظاهره من غير تأويل.
قال: ويشهد إلى ما ذهبوا إليه أحوال الصحابة والسلف الصالح وأهل
فيه جزم بالإيمان وانقاد إلى أحكامه، "وهم الفقهاء ومن شابههم" من أهل المعقولات "وحملها قوم على المحسوس، وأبقوا اللفظ على ظاهره من غير أن يتأولوه، وهم أهل الصفة""بضم الصاد وشد الفاء" السادة الصوفية، سموا بذلك لجريهم على نحو ما كان عليه أهل الصفة، وهي ظلة في مؤخر المسجد النبوي، يأوي إليها المساكين من الانقطاع إلى الله وعبادته، والإعراض عن الدنيا، "أو قال أهل الصوفة" للبسهم الصوف تقشفًا وإعراضًا عما تنعم به الأغنياء.
"قال" ابن أبي جمرة: "والصواب معهنم في ذلك والله أعلم؛ لأن ما ذهبوا إليه أبقوا به لفظ الحديث على ظاهره من غير تأويل"، والأصل أنه لا يعدل عن الحقيقة، ما وجد إليها سبيل، والمتبادر من هذا أنها أمر يدرك حلاوته بالفم، كما يدرك حلاوة السكر والعسل ونحوهما، وهذا شيء لا يدركه إلا من وصل إلى ذلك المقام، فلا يليق اعاء أنه غير مراد، بل المراد ما يأتي أنه أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه، كذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة؛ لأن الآتي كلام ابن القيم حملا له على المعنى؛ إذ هو لم يذكر القول بأنها محسوسة فلا يرد إليه، وكذا ما نقلناه آنفًا من نفس كلام ابن أبي جمرة، المصرح بأن التعبير بإطلاق الحلاوة إنما هو على وجه التشبيه، أي: يجد في قلبه حلاوة تشبه الحلاوة المأكولة بالفم، إنما هو تقرير للقول بأنها معنوية، وما لنا وللتكلم فيما لا نعرفه ولا يمكننا تخيله:
وإذا لم تر الهلال فسلم
…
لأناس رأوه بالأبصار
"قال: ويشهد إلى ما ذهبوا إليه أحوال الصحابة والسلف الصالح" كالتابعين "وأهل المعاملات" وهي منازل عشرة ينزلها السائرون إلى الحق عز اسمه، وهي الرعاية والمراقبة والحرمة والإخلاص، والتهذيب والاستقامة، التوكل والتفويض، والثقة والتسليم، سميت بالمعاملات؛ لأن العبد لا يصلح له معاملة الحق إلا بأن يتحقق بهذه المقامات، فالمعاملة عندهم عبارة عن توجه النفس الإنساني إلى باطنها، الذي هو الروح الروحاني والسر الرباني، واستمدادها منهما ما يزيل الحجب عنها، ليحصل لها قبول المدد في المقابلة إزالة كل حجاب، وهذا إنما يصح لعبد يملك ناصية الزهد، ثم الورع، ثم الحزن، فمن ملك ناصية هذه الثلاثة استحق أن يصير من أهل المعاملات، وأهم ما عليه أن يتحقق بأعم مقاماتها وأهمه، وهو الإخلاص؛ إذ لا تصبح المعاملة بدونه، ثم المراقبة، ثم التفويض، قاله في الأعلام بإشارات أهل الإلهام، "فإنهم
المعاملات، فإنهم حكوا عنهم أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة.
فمن ذلك: حديث بلال حين صنع به ما صنع في الرمضاء إكراهًا على الكفر، وهو يقول أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان. وكذلك أيضًا عند موته، أهله يقولون: واحرباه، وهو يقول: واطرباه، غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وهي حلاوة الإيمان.
ومنها حديث الصحابي الذي سُرق فرسه بليل وهو في الصلاة، فرأى السارق حين أخذه فلم يقطع لذلك صلاته، فقيل له في ذلك فقال: ما كنت فيه ألذ من
حكوا عنهم؛ أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة، فمن ذلك حديث بلال"، بن رباح، أحد السابقين الأولين "حين صنع به ما صنع في الرمضاء": "بفتح الراء وسكون الميم وضاد معجمة والمد" أرض اشتد وقع الشمس فيها، سواء كان فيها رمل أو حصى أو غيرهما.
روي أنهم كانوا يلصقون ظهره برمضاء البطحاء في الحر، ولأحمد عن أبي ذران بلالاً، هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة "إكراهًا على الكفر، وهو يقول أحد أحد"، مرفوع منون، كذا أحفظه، وكذا في أصلنا من ابن ماجه خبر مبتدأ محذوف، أي: الله أحد، كأنه يشير إلى أنه لا يشرك بالله شيئًا، ويحتمل أنه غير منون، أي: يا أحد، قاله في النور "فمزج": خلط "مرارة العذاب": مشقته وألمه "بحلاوة الإيمان، وكذلك أيضًا" وقع له ذلك "عنه موته أهله، يقولون": أي زوجته، كما في الشفاء والمصنف في المقصد الأول، ولفظه: وهذا كما وقع له عند موته، كانت امرأته تقول:"واحرباه": روي بفتح الحاء والراء المهملتين، والموحدة من الحرب بفتحتين، وهو كما في النهاية نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له، فكأنها لتفجعا نهبت وسلبت.
وروي بفتح الحاء والزاي، وبضم الحاء وسكون الزاي، وروى واحوباه، بحاء مفتوحة وواو ساكنة فموحدة من الحوب الإثم، والمراد ألمها بشدة جزعها وقلقها في المصيبة، فهي تتفجع على نفسها، أو من الحوبة بمعنى رقة القلب، وهو تكلف، "وهو يقول: واطرباه": أي: فرحاه، والواو للندبة، والألف والهاء مزيدة في آخره، كأنه يستغيث بطربه، ويدعوه في سكرات الموت لما تيقنه من الثواب وملاقاة الأحباب، كما أشار إليه بقوله: "غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه": أصحابه، والمراد بغدا الزمان المستقبل بعد الموت، "فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، وهي حلاوة الإيمان"، أي: من جملة حلاوته "ومنها حديث الصحابي الذي سرق فرسه بليل، وهو في الصلاة، فرأى السارق حين أخذه، فلم يقطع لذلك صلاته، فقيل له في ذلك"، أي: ليم على
ذلك، ولا ذاك إلا للحلاوة التي وجدها محسوسة في وقته ذلك.
ومنها حديث الصحابيين اللذين جعلهما صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه من قبل العدو، وقد أقبل فرآهما، فكبل الجاسوس القوس ورمى الصحابي فأصابه، فبقي على صلاته ولم يقطعها، ثم رماه ثانية فأصابه فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثة فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه وقال: لولا أني خفت على المسلمين ما قطعت صلاتي. وما ذاك إلا لشدة ما وجد فيها من الحلاوة حتى أذهبت عنه ما يجد من ألم السلاح.
قال: ومثل ذلك حكى عن كثير من أهل المعاملات، انتهى.
وحديث هذين الصحابيين ذكره البخاري في صحيحه في باب "من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" بلفظ: ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة "ذات الرقاع" فرُمي رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته. وقد
عدم اتباع السارق وتخليصها منه، "فقال: ما كنت فيه ألذ من ذلك ولا ذاك إلا للحلاوة التي وجدها محسوسة في وقته ذلك" إذ لو كانت معقولة معنوية ما قدمها على ضياع فرسه "ومنها حديث الصحابيين اللذين جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه من قبل العدو"، أي: من جهته "وقد أقبل" العدو "فرآهما فكبل" "باللام بزنة ضرب والتشديد مبالغة" "الجاسوس القوس" أي: أوتره، عبر عنه بالتكبيل مجازًا تشبيهًا لابتار القوس بوضع القيد في رجل الأسير، لمبالغته في إبتاره، ليتمكن من قوة الرمي، وفي نسخة: فكبد بالدال، أي: جعل النشاب في وسط القوس، "ورمى الصحابي فأصابه، فبقي على صلاته ولم يقطعها، ثم رماه ثانية فأصابه، فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثة فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه".
"وقال: لولا إني خفت على المسلمين ما قطعت صلاتي"، أي: ما اختصرتها؛ لأنه لم يقطعها بالفعل "وما ذاك": أي: عدم قطعها واعتذاره "إلا لشدة ما وجده فيها من الحلاوة حتى أذهبت عنه ما يجد من ألم السلاح".
"قال: ومثل ذلك حكي عن كثير من أهل المعاملات انتهى". كلام ابن أبي جمرة.
"وحديث هذين الصحابيين ذكره البخاري في صحيح في باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" من كتاب الوضوء "بلفظ: ويذكر عن جابر" بن عبد الله الصحابي ابن الصحابي؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع، فرُمي""بضم الراء مبنيًّا للمفعول""رجل" هو عباد بن بشر "بسهم، فنزفه الدم""بفتح الزاي والفاء" أي: خرج منه دم كثير حتى يضعف.
وصله ابن إسحاق في المغازي قال: حدثني صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن أبيه مطولًا، وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه ابن خزمية وابن حبان والحاكم، كلهم من طريق ابن إسحاق، قال في فتح الباري، وشيخه "صدقة" ثقة،
قاله الجوهري، وفي أفعال ابن طريف يقال: نزفه الدم وأنزفه.
إذا سال منه كثيرًا حتى يضعفه، فهو نزيف ومنزوف "فركع وسجد، ومضى في صلاته" فلم يقطعها.
قال الحافظ: أراد البخاري بهذا الحديث الرد على الحنفية في أن الدم السائل ينقض الوضوء، فإن قيل: كيف مضى في صلاته مع وجود الدم في بدنه أو ثوبه، واجتناب النجاسة فيها واجب، أجاب الخطابي: باحتمال أن الدم جرى من الجرح على سبيل الدفق، بحيث لم يصب شيئًا من ظاهر بدنه وثيابه وفيه بعد، ويحتمل أن الدم أصاب الثوب، فقط فنزعه عنه، ولم يسل على جسمه إلا قدر يسير معفو عنه، ثم الحجة قائمة به على أن خروج الدم لا ينقض، ولو لم يظهر الجواب عن كون الدم أصابه.
"وقد وصله ابن إسحاق في المغازي" في غزوة ذات الرقاع، "قال: حدثني صدقة بن يسار" الجزري، نزيل مكة، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة "عن عقيل بن جابر" بن عبد الله الأنصاري، المدني، مقبول "عن أبيه" جابر الصحابي "مطولًا" قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، فأصبنا امرأة رجل من المشركين، فلما قفل صلى الله عليه وسلم، أتى زوجها وكان غائبًا، فحلف لا ينتهي حتى يصيب في أصحاب محمد دمًا، فخرج يتبع أثره صلى الله عليه وسلم فنزل منزلًا، فقال: "من رجل يكلؤنا ليلتنا"؟، فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقالا: نحن يا رسول الله، قال: "فكونا في فم الشعب"، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، فقال الأنصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيك، أوله أم آخره، قال: بل أكفني أوله، فنام المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل، عرف أنه ربيئة القوم، فرمى بسهم فوضعه فيه، فنزعه ووضعه، وثبت قائمًا ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه ووضعه وثبت قائمًا ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس فقد أثبت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أنه قد نذرا به، فهرب، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحانه الله ألا أهببتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفدها، فلما تابع عليَّ الرمي ركعت، فآذنتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنقدها.
"وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، كلهم من طريق ابن إسحاق"، محمد إمام المغازي، "قال في فتح الباري: وشيخه صدقة ثقة".
وعقيل -بفتح العين- لكني لا أعرف راويًا عنه غير صدقة، ولهذا لم يحزم به البخاري، أو لكونه اختصره، أو للاختلاف في ابن إسحاق وأخرجه البيهقي في الدلائل من وجه آخر، وسمي أحدهما: عباد بن بشر الأنصاري، والآخر عمار بن ياسر من المهاجرين، والسورة الكهف.
وإنما قال: "أحب إليه مما سواهما" ولم يقل "ممن" ليعم من يعقل ومن لا يعقل.
وفي قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية، وأما قوله للذي خطب فقال:"ومن يعصهما""بئس الخطيب أنت".
روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وعقيل "بفتح العين" وكسر القاف"، وإن كان مقبول الرواية، "لكني لا أعرف راويًا عنه غير صدقة"، فيكون مجهول العين، وهو مردود عند الأكثر، "ولهذا لم يجزم به البخاري" بل أتى بصيغة التمريض، بقوله: يذكر على عادته فيما لم يصح عنده "أو لكونه اختصره"، وهو مسوغ للتمريض، "أو للاختلاف في ابن إسحاق"، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه.
"وأخرجه البيهقي في الدلائل" النبوية "من وجه آخر وسمي أحدهما": أي: الرجلين المبهمين في رواية ابن إسحاق، "عباد بن بشر الأنصاري"، وهو الذي رُمي بالسهام، "و" سمي الرجل "الآخر عمار بن ياسر من المهاجرين" وسمي "السورة" التي كان يقرؤها عباد في صلاته "الكهف" فحصل بهذه الطريق تقوية، رواية ابن إسحاق، مع بيان المبهم في روايته من الرجلين والسورة، "وإنما قال:"أحب إليه مما سواهما"، ولم يقل ممن، ليعم من يعقل ومن لا يعقل" لأن ما موضوعة لهما بخلاف من، فموضوعة للعاقل.
قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال البيضاوي: لما استعمل ما للعقلاء، كما استعمل من لغيرهم كان استعماله حيث اجتمعا أولى من إطلاق من تغليبًا للعقلاء "وفي قوله:"أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"، دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية"، أي: يجوز جمع الله ورسوله في ضمير واحد، "وأما قوله صلى الله عليه وسلم للذي خطب"، قال الحافظ برهان الدين في المقتفى: لا أعرفه، وقال بعض الحفاظ: إنه ثبات بن قيس، وقال الطوفي: هو عدي بن حاتم.
روى مسلم وأبو داود عن عدي بن حاتم، أن خطيبًا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم "فقال": من يطع الله ورسوله فقد رشد، "ومن يعصهما" فقد غوى، فقال صلى الله عليه وسلم:"بئس الخطيب أنت"، قل:"ومن يعص الله ورسوله فقد غوى"، ورشد بفتح الشين المعجمة وكسرها، كما قال المصنف على مسلم.
فليس من هذا؛ لأن المراد في الخطب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قاله في موضع آخر، قال:"ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه".
وقيل: إنه من الخصائص، فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمتنع منه؛ لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاق التسوية بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، وإلى هذا مال ابن عبد السلام. ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين هذا الحديث وقصة الخطيب، أن تثنية
"فليس من هذا؛ لأن المراد في الخطب الإيضاح" واجتناب الرمز، ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، لتفهم كما في الصحيح، "وأما هنا، فالمراد الإيجاز": الاختصار "في اللفظ ليحفظ" إذ القليل يسهل حفظه وهذا صوبه النووي قائلًا: وهذا هو الفرق بين الحديثين، حديث من يعصهما كان في خطبة، وحديث مما سواهما كان في تعليم حكم، فتقليل اللفظ فيه أولى؛ لأنه أقرب إلى الحفظ "ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قاله في موضع آخر، قال": كما رواه أبو داود عن ابن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فقال في خطبته:"من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه"، واعترض بأن هذا الحديث إنما ورد أيضًا في خطبة النكاح، وأجيب بأن المقصود في خطبة النكاح أيضًا الإيجاز، فلا نقض، وثَمَّ أجوبة أخرى، منها دعوى الترجيح، فيكون خبر المنع أولى،؛ لأنه عام، والآخر يحتمل الخصوصية، ولأنه ناقل، والآخر مبني على الأصل، ولأنه قول، والآخر فعل ورد بأن احتمال التخصيص في القول أيضًا حاصل، بل ليس فيه صيغة عموم أصلًا.
هكذا في الفتح قبل قوله: "وقيل: إنه من الخصائص فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه ولم ولا يمتنع منه؛ لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاق التسوية" بينهما؛ لأنه لفظ واحد متصل، لا سيما إذا لوحظ العدول عن العطف، الدال على التفاوت والتبعية، ولذا قال له: قل ومن يعص الله ورسوله "بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك"، لأنه يعطي مقام الربوبية حقه، "وإلى هذا مال ابن عبد السلام" الشيخ عز الدين.
زاد الحافظ: ومنها دعوى التفرقة بوجه آخر، هو أن كلامه صلى الله عليه وسلم هنا جملة واحدة، فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مقام المضمر، وكلام الذي خطب جملتان، فالأولى إقامة الظاهر فيهما.
"ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين هذا الحديث وقصة الخطيب أن تثنية الضمير هنا
الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله مثلًا ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك، ويشير إلى قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فأوقع متابعته مكتنفة بين قطري محبة العباد لله، ومحبة الله للعباد. وأما الأمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية؛ إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فأعاد أطيعوا في الرسول، ولم يعده في أولي الأمر؛ لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة كاستقلال الرسول، انتهى ملخصًا من كلام البيضاوي والطيبي، كما حكاه في فتح الباري.
وفي الصحيح: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد
للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغيه" متروكة، لا اعتداد به "إذ لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله مثلًا ولا يحب رسوله، لا ينفعه ذلك"، كعكسه، "ويشير إليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فأوقع متابعته مكتنفة" "بفتح النون" اسم مفعول من اكتنفه القوم أحاطوا به "بين قطري" تثنية قطر، أي: جانبي "محبة العباد لله، ومحبة الله للعباد"، والإضافة بيانية، يعني؛ أنه جعل المتابعة محاطًا بها طرفان، أحدهما: محبة الله، والآخر محبة رسوله، وعليه فبين هنا بمعنى الباء؛ لأن بين ظرف لا يظهر معناها إلا بإضافتها لمتعدد "وأما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية" "بفتح الغين المعجمة" اسم من غوى غيًا من باب ضرب انهمك في الجهل، وهو خلاف الرشد "إذ العطف في تقدير التكرير"، والاستقلال لقيام الواو مقام تكرار العامل، أو تقديره معها، "والأصل استقلال في كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، فأعاد أطيعوا في الرسول، ولم يعده في أولي الأمر؛ لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة كاستقلال الرسول، انتهى ملخصًا من كلام البيضاوي والطيبي"، كلاهما في شرح المصابيح، "كما حكاه في فتح الباري" وزاد وهنا أجوبة أخرى فيها نظر، منها: أن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، ومنها: أن له أن يجمع بخلاف غيره، انتهى.
"وفي الصحيح" لمسلم من إفراده، عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
رسولًا نبيًّا.
قال في المدارج: فأخبر أن للإيمان طمعًا، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب. وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان وحصوله للقلب ومباشرته له بالذوق تارة وبالطعم أخرى، ويوجد الحلاوة تارة، كما
يقول: "ذاق طعم الإيمان"، قال عياض: أي: عرف الله سبحانه واستحلى الإيمان "من رضي بالله ربًّا" فالرضا دليل على هذه المعرفة، قال لأبي: لأنه تسبب عنها، ووجود السبب يدل على وجود المسبب، ثم الرضا يكون بمعنى القناعة وبمعنى الإيثار، وهو المراد؛ لأن الأول مشترك بين جميع الناس؛ إذ من لم يقنع بالله ربًّا ليس من الإسلام في شيء، واستحلاء الإيمان من صفة الخواص، فإنما يدل عليها ما هو من صفتهم، فالمعنى عرف الله، واستحلاء الإيمان به من أثره، فإن قيل: هذان هما الغاية، فلو أريد ألم يعبر عنهما بالذوق، وهو مبدأ الفعل؛ إذ لا يعبر عن غاية الشيء بمبدئه، قلت: الذوق إنما هو مبدأ الفعل إذ استعمل في المحسوسات، كذوق الطعام، أما إذا استعمل في المعاني، كما هنا، فإنما هو كناية عن كمال الإدراك، والرضا بالله يستلزم الرضا عنه، انتهى.
وقال الراغب: الذوق، وجود الطعم في الفم، وأصله فيما يقل تناوله، فإذا كثر، يقال له الأكل، واستعمل في القرآن بمعنى الإصابة، أما في لرحمة نحو {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} ، وأما في العذاب، نحو {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56] ، وقال غيره: ضرب الذوق مثلًا لما ينالونه من الخير عند المصطفى "وبالإسلام دينًا" بأن لم يسع في غير طريقه.
قال الطيبي: لا يخلو أما أن يراد به الانقياد، كما في حديث جبريل، أو مجموع ما يعبر بالدين عنه، كخبر بني الإسلام على خمس، ويؤيد الثاني اقترانه بالدين؛ لأنه جامع باتفاق، وعلى التقديرين هو عطف عام على خاص.
وكذا قوله: "وبمحمد رسولا" بأن لم يسلك إلا ما يوافق شرعه، ومن كان هذا نعته فقد وصلت حلاوة الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمه، شبه الأمر الحاصل الوجداني من الرضا بالأمور المذكورة بمطعوم يلتذ به، ثم ذكر المشبه به، وأراد المشبه، ورشح بقوله: ذاق، فإن قيل الرضا بالثالث مستلزم للأولين، فلم ذكرهما، قلنا للتصريح، بأن الرضا بكل منها مقصود "ونبيًّا"، كذا في النسخ عطف لازم على ملزوم؛ لأن الرسالة مستلزمة للنبوة، ولكن ليس في مسلم ونبيًَّا، ولم يتكلم شارحاه النووي والأبي على أنها راوية، وقد نسبه السيوطي لأحمد ومسلم والترمذي بدون ونبيًّا، فكأنها دخلت على المصنف من حديث آخر.
"قال في المدارج" لابن القيم "فأخبر أن للإيمان طعمًا، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب"، أي: بإدراكه لذة الإيمان وسهولة ما بني عليه من فعل الطاعات
قال "ذاق". وقال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان"، ولما نهاهم عن الوصال قالوا: إنك تواصل قال: "إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى"، وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم، وسيأتي تحقيق الكلام في هذا إن شاء الله تعالى في الصوم، من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام.
والمقصود أن ذوق حلاوة الإيمان أمر يجده القلب تكون نسبته إليه كذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة، كما قال عليه الصلاة والسلام:"حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
وللإيمان طعام وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد، ولا تزول الشبه والشكوك إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحالة، فيباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة، فيذوق طعمه
واجتناب المعاصي، فعبر بالذوق عن الإدراك، وبالطعم عن السهولة، واطمئنان النفس بما يقتضيه الإيمان مجازًا.
"وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان، وحصوله للقلب، ومباشرته له بالذوق" متعلق بعبر "تارة بالطعم أخرى، ويوجد""بفتح السكون" مصدر "الحلاوة تارة، كما قال: ذاق" طعم الإيمان "وقال" في الحديث الذي قبله: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" ولذا قال الطيبي: مجاز قوله ذاق طعم الإيمان مجاز قوله: وجد حلاوة الإيمان، وكذلك موقعه كموقعه؛ لأن من أحب أحدًا يتحرى ماضيه ويؤثر رضاه على رضا نفسه "لما نهاهم عن الوصال" في الصوم "قالوا": مستفهمين "أنك تواصل، قال: "إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى" بما يغذيني به ربي من معارفه، وما يفيض على قلبي من لذة مناجاته، وقرة عيني بقربه، ونعيمه بحبه والشوق إليه، المغني ذلك عن غذاء الأجسام مدة:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
…
عن الشراب ويليها عن الزاد
"وقد غلظ" أي: قوي "حجاب من ظن أن هذا" الذي يطعمه ويسقاه حين الوصال "طعام وشراب حسي للفم"، يؤتى له من الجنة؛ لأنه لم يدرك الأمور على حقيقتها، فعبر عن ذلك بالغلظ والحجاب مجازًا، "وسيأتي تحقيق الكلام في هذا إن شاء الله تعالى في الصوم من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام"، وأن الجمهور على أنه مجاز عن لازم الطعام والشراب، وهو القوة، كأنه قال: أعطى قوة الطاعم الشارب، "والمقصود" هنا "أن ذوق حلاوة الإيمان أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه كذوق حلاوة الطعام إلى الفم"، فهو على التشبيه، أي: وجد في فعله حلاوة تشبه الحلاوة والمأكولة، "وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة، كما قال عليه الصلاة والسلام" لامرأة رفاعة: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، وللإيمان طعم
ويجد حلاوته.
وقال العارف الكبير تاج الدين بن عطاء الله: فيه يعني في هذا الحديث إشارة إلى أن القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى تتنعم بملذوذات المعاني كما تتنعم بملذوذات الأطعمة، وإنما ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا لأنه لما رضي بالله ربًّا استسلم له وانقاد لحكمه، وألقى قياده إليه، فوجد لذاذة العيش وراحة التفويض، ولما رضي بالله ربًّا كان له الرضا من الله، وإذا كان له الرضا من الله أوجده الله حلاوة ذلك ليعلم ما من به عليه، وليعلم إحسانه عليه، ولما
وحلاوة يتعلق بها ذوق ووجد" أي: إدراك، "ولا تزول الشبه والشكوك إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحال، فيباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة، فيذوق طعمه ويجد حلاوته" المعنوية، المشابهة للحسية.
"وقال العارف الكبير تاج الدين" أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الكريم "بن عطاء الله"، نسبة إلى جده الأعلى لشهرته به الجذامي، الإسكندراني، الإمام، المتكلم على طريقة الشاذلي، الجامع لأنواع العلوم من تفسير وحديث ونحو وأصول وفقه، على مذهب مالك، وصحب في التصوف الشيخ أبا العباس المرسي، وكان أعجوبه زمانه فيه، وأخذ عنه التقي السبكي، واختصر تهذيب المدونة للبرادعي في الفقه، وألف التنوير والحكم وغير ذلك، ومات بالمدرسة المنصورية في القاهرة في ثالث جمادى الآخرة، سنة تسع وسبعمائة ودفن بالقرافة ذكره السيوطي وابن فرحون، في طبقات المالكية وغيرهما. ولا نزاع في أنه مالكي وذكر ابن السبكي له في طبقات الشافعية، لقوله: أراه كان شافعيًّا وليس كما ظن "فيه، يعني في هذا الحديث إشارة إلى أن القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى"، إضافة أعم إلى أخص، أو بيانية "تتنعم بملذوذات المعاني، كما تتنعم بملذوذات الأطعمة" تشبيه بمطلق اللذاة، فلا ينافي أن لذتهم أقوى قال إبراهيم بن أدهم: والله إنا لفي لذة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف.
وقال الجنيد: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.
وقال عتبة الغلام: كابدت الصالة عشرين سنة، ثم استمتعت بها بقية عمري، "وإنما ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا؛ لأنه ما رضي بالله ربًّا" أعاده مظهرًا تلذذًا بذكره:
أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره
…
هو المسك ما كررته يتضوع
"استسلم له وانقاد لحكمه"، عطف تفسير، "وألقى قياده" "بكسر القاف" "إليه" أي: أطاعه وأذعن له، فهي ألفاظ متقاربة "فوجد لذاذة""بالفتح بزنة سلامة مصرد لذيذ لذاذًا ولذاذة بالفتح""العيش وراحة التفويض، ولما رضي بالله ربًّا كان له الرضا من الله" جزاء من جنس
سبقت لهذا العبد العناية خرجت له العطايا من خزائن المنن، فلما واصلته أمداد الله وأنواره عوفي قلبه من الأمراض والأسقام، فكان سليم الإدراك، فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته لصحة إدراكه وسلامة ذوقه. وقوله صلى الله عليه وسلم:"وبالإسلام دينًا" لأنه إذا رضي بالإسلام دينًا فقد رضي مما رضي به المولى، ولازم من رضي بمحمد نبيًّا أن يكون له وليًّا، وأن يتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه زهدًا في الدنيا وخروجًا عنها، وصفحًا عن الجناة وعفوًا عمن أساء إليه، إلى غير ذلك من تحقيق المتابعة قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًّا وبغضًا، فمن رضي بالله استسلم له، وانقاد ومن رضي بالإسلام عمل له، ومن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم تابعه، ولا يكون واحد منها إلا بكلها؛ إذ محال أن يرضى بالله ربًّا ولا يرضى بالإسلام دينًا، أو يرضى بالإسلام دينًا ولا يرضى بمحمد نبيًّا، وتلازم ذلك بين لا خفاء فيه، انتهى ملخصًا.
واعلم أن محبة الله تعالى على قسمين: فرض وندب.
فالفرض: المحبة التي تبعث على امتثال الأوامر والانتهاء عن المعاصي،
العمل، "وإذا كان له الرضا من الله أوجده الله حلاوة ذلك، ليعلم ما من""بشد النون": أنعم "به عليه، وليعلم إحسان الله عليه"، فيزداد شكره، فيزيد ثوابه، "ولما سبقت لهذا العبد العناية" الحفظ "خرجت له العطايا من خزائن المنن"، جمع منه "فلما واصلته أمداد الله": زياداته "وأنواره عوفي قلبه من الأمراض والأسقام": الأمراض المهلكة، "فكان سليم الإدراك، فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته، لصحة إدراكه وسلامة ذوقه"، مما يغير طعمه عليه، "وقوله صلى الله عليه وسلم:"وبالإسلام دينًا" لأنه إذا رضي بالإسلام دينًا فقد رضي مما رضي به المولى" تبارك وتعالى، كما قال: ورضيتت لكم الإسلام دينًا "ولازم من رضي بمحمد نبيًّا أن يكونه له وليًّا"، مواليًا، "وأن يتأدب بآدابه، ويتخلق بأخلاقه زهدًا في الدنيا وخروجًا عنها، وصفحًا عن الجناة"، بضم الجيم جمع جان، أي: المذنبين ذنبًا يؤاخذ به، "وعفوًا عمن أساء إليه، إلى غير ذلك من تحقيق المتابعة قولًا وفعلًا وأخذًا وتركًا وحبًّا وبغضًا، فمن رضي بالله استسلم له وانقاد، ومن رضي بالإسلام عمل له، ومن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم" رسولًا "تابعه" متابعة تامة، "ولا يكون" لا يوجد "واحد منها إلا بكلها إذ محال أن يرضى بالله ربًّا ولا يرضى بالإسلام دينًا أو يرضى بالإسلام دينًا ولا يرضى بمحمد نبيًّا، وتلازم ذلك بين لا فخاء فيه. انتهى ملخصًا" كلام ابن عطاء الله.
"واعلم أن محبة الله تعالى"، كما نقله في فتح الباري عن بعضهم "على قسمين فرض
والرضى بما يقدره، فمن قوع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في محبة الله، حيث قدم هوى نفسه، والتقصير يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء فيقدم على المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يسرع إلى الإقلاع مع الندم.
والندب: أن يواظب على النوافل ويجتنب الوقوع في الشبهات، والمتصف بذلك عموم الأوقات والأحوال نادر.
وفي البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى
وندب، فالفرض المحبة التي تبعث على امتثال الأوامر" المفيدة للفرضية، وأطلقها؛ لأن إطلاقها على غير الواجب مجاز، كما حققه المحلى لا مشترك، "والانتهاء عن المعاصي والرضى بما يقدره" أي: بقدره أن حمل على التقدير الأزلي، أو يقدره حالًا ومآلًا أن حمل على التعلق التنجيزي والصلوحي، "فمن وقع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب"، عبر عن الأمرين المتقدمين بواحد، وأن تحته فردين إشارة إلى تلازمهما، وإن اختلفا بحسب المفهوم، وما صدقهما؛ إذ الأول هو الفعل الذي طلبه الشارع طلبًا حازمًا، والثاني الفعل الذي نهى عنه نهيًا جازمًا، "فلتقصيره في محبة الله حيث قدم هوى نفسه" حيثية تعليل، فهو تعليل للتعليل، فإن قيل: يلزم عليه تعليل الشيء بنفسه؛ لأن المعنى: أن الوقوع في المعصية سببه فعلها، الذي هو اتباع هوى نفسه، فالجواب أنه دفع ذلك بقوله: "والتقصير يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها"، ووجه الدفع أن التقصير الذي هو سبب العصيان ليس ناشئًا عن اتباع هوى نفسه، الذي هو المعصية فقط؛ إذ هواها لا يختص بالمعصية، فيحمل على أمر مباح ليصح مغايرة السبب للمسبب "فيورث" ذلك الاسترسال والاستكثار "الغفلة" عما يحمله على امتثال الأمر واجتناب النهي، لغفلته عن الرغبة في الثواب والخوف من العقاب، "المقتضية للتوسع في الرجاء" لرحمة الله، كأن يقوم في نفسه أنه وإن أكثر من الشبهات لا يناله مكروه، "فيقدم" بذلك، أي: يجترئ "على المعصية" ويرجو المغفرة.
زاد في الفتح: "أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يسرع إلى الإقلاع مع الندم" وإليه يشير حديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن""والندب أن يواظب على النوافل ويجتنب الوقوع في الشبهات"، وهي ما ليس بواضح الحل والحرمة، مما تنازعته الأدلة وتجاذبته المعاني والأسباب، فبعضها يعضده دليل الحرام، وبعضها يعضده دليل الحلال، "والمتصف بذلك عموم الأوقات والأحوال نادر".
زاد المحافظ: وكذا محبة الرسول على قسمين كما تقدم، ويزاد أن لا يتلقى شيئًا من
أنه قال: "ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه -وفي رواية: بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه- ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته".
المأمورات والمنهيات إلا من مشكلته، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضين ويتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والتواضع وغيرها، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك انتهى.
"وفي البخاري" في الرقائق "من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال" لفظه: حدثني محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي" وللكشميهني عبد "بحذف الياء""بمثل أداء ما افترضته عليه" عينًا أو كفاية، وظاهره اختصاصه بما ابتدأ الله فرضه، وفي دخول ما أوجبه المكلف على نفسه نظر للتقييد، بقوله: افترضت إلا أن يوجه من جهة المعنى الأعم، قاله الحافظ.
"وفي رواية "بشيء أحب"، بالفتح صفة لشيء، فهو مفتوح في موضع جر، وبالرفع بتقدير هو أحب "إليَّ من أداء ما افترضت عليه" أي: تأديته لا المقابل للقضاء فقط، بل المراد فعل ما افترض عليه، "ولا يزال" بلفظ المضارع، وللحموي والمستملي، وما زال "عبدي" بإضافة التشريف "يتقرب إلي بالنوافل" مع الفرائض، كالصلاة والصيام "حتى أحبه"، بضم أوله، أي: أرضى عنه، "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها" "بضم الطاء وكسرها" روايتان: وبهما قرئ أم لهم أيد يبطشون بها، أي: تأخذ بقوة، "ورجله التي يمشي بها".
زاد في حديث عائشة عند أحمد والبيهقي في الزهد، "وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به".
وفي حديث أنس عند أبي يعلى وغيره: "ومن أحببته كنت له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيدًا"، وقوله:"فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي".
ليست هذه الجمل في رواية البخاري: "ولئن سألني"، زاد في حديث عائشة عبدي "لأعطيننه" ما سأل مما يعود بنفع عليه، كصحة وتوفيق إلى طاعه، "ولئن استعاذني"، قال
ويستفاد من قوله: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما
المصنف: بالنون بعد الذال المعجمة في الفرع كأصله، وبالموحدة في غيرهما "لأعيذنه" مما يخاف.
وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني والبيهقي في الزهد: وإذا استنصرني نصرته.
وفي حديث حذيفة عند الطبراني: ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة، وفيه: أن العبد ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبًا لله تعالى، لا ينقطع عن الطلب من الله لما فيه من الخضوع وإظهار العبودية، "وما ترددت عن" بمعنى في أو ضمن تردد معنى تأخر؛ لأنه لازمه "شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن"، تشبيه بليغ بحذف الأداة، ولم يقل نفس عبدي للاستغناء بوصف الإيمان، أي: ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس المؤمن، حتى يسهل عليه ويميل قلبه مشوقًا إليه، لانخراطه في سلك المقربين، والتبوء في عليين، أو إزالة كراهة الموت مما يبتلى به من نحو مرض وفقر، فأخذه المؤمن عن حب الحياة شيئًا فشيئًا بهذه الأسباب يشبه فعل المتردد، فعبر به مجازًا؛ لأن حقيقة التردد التحير، بأن يظهر له ما يقتضي الفعل وما يقتضي الترك، فينشأ من ذلك الحيرة لمريد الفعل لتعارض مقتضاهما عنده، والله منزه عن ذلك، كما يأتي "يكره الموت" لصعوبته وشدته ومرارته وشدة ائتلاف روحه لجسده وتعلقها به، ولعدم معرفته بما هو صائر إليه بعده "وأنا أكره مساءته" بفتح الميم والمهملة بعدها همزة ففوقية، أي: أن أفعل به ما يحزنه، والجملة في موضع التعليل للتردد، وهو استئناف بياني، كأنه جواب سؤال.
قال الذهبي في الميزان حديث غريب جدًّا: لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد القطواني لغرابة لفظه، ولأنها مما تفرد به شريك، وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولأخرجه من عند البخاري، ولا أظنه في مسند أحمد.
قال الحافظ: ليس في مسند أحمد جزمًا، وإطلاق أنه لم يرو إلا بهذا الإسناد مردود، وشريك شيخ شيخ خالد، فيه مقال أيضًا، لكن للحديث طرق يدل مجموعها على أن له أصلًا، فرواه أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا، والبيهقي في الزهد من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة، عن عائشة، وذكر ابن حبان وابن عدي أن عبد الواحد تفرد به.
وقد قال البخاري: إنه منكر الحديث، لكن أخرجه الطبراني من طريق يعقوب بن مجاهد، عن عروة وقال: لم يروه عن عروة إلا يعقوب وعبد الواحد.
وأخرجه الإسماعيلي من حديث علي والطبراني والبيهقي، عن أبي أمامه بسند ضعيف،
افترضته عليه" أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى.
وعلى هذا فقد استشكل كون النوافل تنتج المحبة ولا تنتجها الفرائض؟
وأجيب: بأن المراد من النوافل إذا كانت مع الفرائض، مشتملة عليها ومكملة لها ويؤيده: أن في رواية أبي أمامة "ابن آدم، إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضته عليك"، أو يجاب: بأن الإتيان بالنوافل لمحض المحبة لا لخوف
وأبو يعلى والبزار والطبراني عن أنس، وفي سنده ضعف، والطبراني عن حذيفة مختصرًا، وسنده حسن غريب، وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية، عن معاذ بن جبل مختصرًا، وسنده ضعيف، وأحمد في الزاهد، وأبو نعيم في الحلية، عن وهب بن منبه مقطوعًا انتهى.
وهو أصل عظيم في السلوك إلى الله تعالى والوصول إلى معرفته ومحبته؛ لأن المفترض إما باطن وهو الإيمان، وظاهر وهو الإسلام، أو مركب منهما وهو الإحسان، المتضمن مقامات السالكين، كالإخلاص والزهد، والتوكل والمراقبة، فقد جمع هذا الحديث الشريعة والحقيقة، "ويستفاد من قوله: وما تقرب إلي عبدي بشيء" من الطاعات "أحب إليَّ من أداء ما افترضته عليه، أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى"، أي: فعلها لا مقابل القضاء، كما مر، فالمراد اللغوي، فشمل النذر أخذًا للافتراض بالمعنى الأعم؛ لأن من نذر شيئًا فرض الله عليه الوفاء به، فلا ينافي قوله مما افترضته، ومر أن الحافظ نظر فيه، وأشار إلى الجواب بنحو هذا، "وعلى هذا" المستفاد "فقد استشكل كون النوافل تنتج المحبة" لأنه تعالى جعلها مرتبة على كثرة النوافل، "ولا تنتجها الفرائض" لأنه سبحانه جعلها أحب الأشياء إليه، ولم يذكر سبب الأحبية، فلم تترتب المحبة على أداء الفرائض.
"وأجيب بأن المراد من النوافل إذا كانت مع الفرائض، مشتملة عليها ومكملة لها"، لا مطلقًا فإنما انتجت المحبة من حيث الاشتمال والتكميل.
"ويؤيده أن في رواية أبي أمامة" الباهلي، عند الطبراني، والبيهقي مرفوعًا:"ابن""بفتح الهمزة وكسرها""آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضته عليك"، فلا يعتد بالنوافل بدون الفرائض.
قال ابن أبي جمرة: إنما سميت نافلة؛ لأنها تأتي زائدة على الفريضة، فلو لم تؤد الفريضة لا تحصل، ومن أداها، ثم زاد النفل وأدامه، محضت منه إرادة التقرب، وقد جرت العادة، بأن التقرب يكون غالبًا بغير ما وجب على المتقرب، كهديه وتحفة، بخلاف ما يجب عليه، أو يقتضي ما لزمه، ومما يحقق ذلك أن جملة ما شرع له النفل جبره الفرض، فالمراد من التقرب بالنفل، أن يقع ممن أدى الفرض، لا ممن أخل به.
العقاب على الترك، بخلاف الفرائض.
وقال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض، وداوم على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى إياه.
وقد استشكل أيضًا: كيف يكون الباري جل وعلا "سمع العبد وبصره" إلخ.
وأجيب بأجوبة:
منها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت كسمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح.
قال بعض الأكابر: من شغله الفرض عن النفل، فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض، فهو مغرور، انتهى.
"أو يجاب، بأن الإتيان بالنوافل لمحض المحبة، لا لخوف العقاب على الترك"فاستحق محبة الله، لكونه لا في مقابلة شيء، "بخلاف الفرائض"، ففعلها مانع من العقاب على تركها، فهو في مقابلة عوض، وإن كانت أفضل.
"وقال الفاكهاني" عمر بن علي بن سالم اللخمي، المالكي، الشهير بتاج الدين الفاكهاني الفقهي، الفاضل، المتفنن في الحديث والفقه والأصول، والعربية والأدب، والدين المتين، والصلاح العظيم، والتخلق بأخلاق الأولياء، وصحب منهم جماعة، وحج غير مرة، وولد بالإسكندرية سنة أربع، وقيل: سنة ست وخمسين وستمائة، ومات بها سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وله مصنفات عديدة.
"معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض، ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما"، وبين الفاكهاني نفسه ذلك الغير، فقال في شرح الأربعين: من صلاة في الليل، أو في النهار، لا سيما التوابع للمفروضات، أو صيام أو صدقة، أو حج تطوع، أو جهاد غير متعين، أو إصلاح بين اثنين، أو جبر خاطر يتيم، أو إغاثة مسلم أو تيسير على معسر أو فعل خير من حيث الجملة "أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى إياه" أي: أوصله لها، فالباء زائدة للتوكيد.
"وقد استشكل أيضًا كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره
…
إلخ". يعني: ويده ورجله، مع أن السمع عرض؛ إذ هو قوة منبثة في مقعر الصماخ، والله تعالى ذات، والذات لا تقوم في العرض، بل العكس مع استحالة حلوله الحق تعالى في غيره، فتضمن السؤال أمرين، كما لا يخفى.
"وأجيب بأجوبة، منها: أنه ورد على سبيل التمثيل والمعنى: كنت كسمعه وبصره
ومنها: أن المعنى أن كليته مشغولة بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به.
ومنها: أن المعنى، كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه.
ومنها: انه على حذف مضاف، أي حافظ سمعه الذي يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصره كذلك إلخ. قاله الفاكهاني.
قال: ويحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله: وهو: أن يكون بمعنى مسموعه؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل: فلان أملي، بمعنى: مأمولي، والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يتلذذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا ينظر
في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي، ويؤثر خدمتي، كما يحب هذه الجوارح"، فهو من التشبيه البيلغ، كزيد أسد.
"ومنها أن المعنى أن كليته"، أي: جملته لا الكلية المنطقية، التي هي الحكم على جميع الأفراد المقابلة للكلي، وهو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وللكل وهو ما كان ذا أجزاء "مشغولة بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به"، ولا يبطش إلا لمرضاتي، ولا يمشي إلا فيما يقربه إلى.
"ومنها: أن المعنى كنت له في النصرة""بضم النون" الإعانة والتقوية" "كسمعه وبصره، ويده ورجله في المعاونة"، بيان للنصرة "على عدوه"، وهذا أيضًا على جهة التمثيل، لكنه من جهة أخرى، فغاير الأول.
"ومنها: أنه على حذف مضاف، أي: حافظ سمعه الذي يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصهر كذلك"، أي: فلا يبصر إلا لحلال، "إلخ"، يعني: وحافظ يده وحافظ رجله كذلك، والدليل على المضاف الاستحالة، "قاله" أي: هذا الجواب الرابع "الفاكهاني" في شرح الأربعين، ولم يذكر فيه سواه، وسوى ما نقله بقوله.
"قال" الفاكهاني: "ويحتمل" في الحديث "معنى"، فهو فاعل، أو يحتمل الحديث معنى، فهو نصب المفعولية، والأول أظهر، والخطب سهل "آخر، أدق من الذي قبله، وهو أن يكون" سمعه "بمعنى مسموعة؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل فلان أملي بمعنى مأمولي"، فأمل مصدر أمل يأمل، من باب طلب، واسم مفعوله مأمول، واسم فاعله آمل، وعبارة الفاكهاني: قالوا: أنت رجائي بمعنى مرجوي "والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري"، سماع تلذذ، "ولا يتلذذ إلا
إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيمال فيه رضاي، ورجله كذلك.
وقال غيره: اتفق العلماء -ممن يعتد بقوله- على أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية:"فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي"، قال: والاتحادية زعموا أنه على حقيقته، وأن الحق عين العبد، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
وقال الخطابي: عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء، والنجح في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة.
وعن أبي عثمان الحيرى -أحد أئمة الطريق- قال: معناه كنت أسرع إلى
بتلاوة كتابي، ولا يأنس إلا بمناجاتي" في الصلاة وغيرها "ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي"، كمدها بالصدقة ونحوها، وعبر هنا بالمد إشارة إلى أن المراد مطلق حركة يده، لا حقيقة المد، وفي الحديث بالبطش لشرفه، وهو الأخذ بقوة "ورجله كذلك"، لا يسعى بها إلا فيما فيه رضاي.
"وقال غيره"، وهو الطوافي:"اتفق العلماء ممن يعتد بقوله" بأفراد الضمير على لفظ من، وهو أكثر، كقوله: ومنهم من يؤمن به "على أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد"، مصدر مضاف لمفعوله، أي: عن نصرة الله عبده، "وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها"، أي: أن أفعاله لا توجد إلا بإرادته وأقداره عليها، لا أنه بمنزلة الآلة الحقيقية.
"ولهذا وقع في رواية: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، قال" ذلك الغير، "والاتحادية" نسبة إلى الاتحاد، وهو تصيير الذاتين ذاتًا واحدة، وهو محال لأنه إن كانت عين كل واحدة منهما موجودة في حال الاتحاد، فهما اثنتنان لا واحدة، وإن عدمت واحدة، فليس ذلك باتحاد، بل عدم إحداهما، وإن عدمتا كان عدم الاتحاد أظهر، "زعموا أنه على حقيقته، وأن الحق عين العبد"، محتجين بمجيء جبريل في صورة دحية، "تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا"، وللشيخ قطب الدين القسطلاني كتاب بديع في الرد عليهم.
"وقال الخطابي: عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح""بضم النون" الظفر بالقصد "في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان" أي: تصرفاته في أعماله "كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة".
قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع وعينه في النظر، ويده في اللمس ورجله في المشي، كذا أسنده عنه البيهقي في "الزهد".
وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه، من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى تصفى من الكدورات، أنه يصير في معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة، حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، الموحد لنفسه، والمحب، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدمًا صرفًا.
وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة، لقوله في بقية الحديث ولئن سألني، زاد في رواية عبد الواحد عبدي، انتهى ملخصًا.
"وعن أبي عثمان" سعيد بن إسماعيل النيسابوري "الحيرى" بحاء مكسورة وراء مهملتين، بينهما تحتية ساكنة"، نسبة إلى الحيرة، محلة بنيسابور غير المدينة المعروفة بالكوفة، وأصله من الري، وصحب قديمًا يحيى بن معاذ الرازي، وشاه بن شجاع الكرماني، ثم رحل إلى نيسابور قاصدًا أبا حفص الحداد، فأخذ عنه طريقته، وزوجه ابنته "أحد أئمة الطريق".
قال أبو نعيم: كان بالحلم منتطقًا، وللمريدين نصيحًا مشفقًا، وقال الخطيب، كان مجاب الدعوة وكان يقول: من أمر السنة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى عليها نطق بالبدعة، وإن تطيعوه تهتدوا مات بنيسابور سنة ثمان وتسعين ومائتين، وقيل: غير ذلك "قال: معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع، وعينه في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي، كذا أسنده" أي: رواه "عنه البيهقي في" كتاب "الزهد، وحمله بعض أهل الزيغ": الضلال والميل عن الحق إلى الباطل "على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبارة الظاهرة والباطنة حتى تصفى من الكدورات أنه" تأكيد لقوله: إن العبد أعاده لطول الفصل وهو وراد في الفصيح، كقوله تعالى:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35]، والخبر قوله:"يصير في معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة، حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، الموحد"، "بالحاء المهملة""لنفسه المحب، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدمًا صرفًا"، وهذا ضلال مبين، "وعلى الأوجه" السبعة السابقة "كلها، فلا متمسك فيه للاتحادية، ولا القائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث: ولئن سألني، زاد في رواية عبد الواحد"، بن ميمون عن عروة، عن عائشة "عبدي"، فإن كلا من سألني، وعبدي نص في
وقال العلامة ابن القيم:
تضمن هذا الحديث الشريف الإلهي -الذي حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه والمراد به- حصر أسباب محبته في أمرين، أداء الفرائض، والتقرب إليه بالنوافل، وأن المحب لا يزال يكثر في النوافل حتى يصير محبوبًا لله، فإذا صار محبوبًا لله أوجبت محبة الله له محبة أخرى منه لله فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبة ألبثة، فصار ذكر محبوبة وحبه ومثله الأعلى مالكًا لزمام قلبه، مستوليًا على روحه استيلاء المحبوب على محبة الصادق في
نفي الاتحاد والوحدة المطلقة "انتهى ملخصًا".
"وقال العلامة بن القيم" شمس الدين محمد بن أبي بكر: "تضمن هذا الحديث الشريف الإلهي" المنسوب إلى الإله تعالى مما تلقاه المصطفى عنه بلا واسطة أو بها "الذي حرام" أي: ممنوع، فالحرمة لغة المنع ومنه، وحرام على قرية "على غليظ الطبع"، شديده في التباعد عن الحق وعدم الانقياد له، "كثيف القلب"، المراد هنا معنى ما قبله، فهو مساوٍ له، حسنه اختلاف اللفظ، فحرام خبر مقدم، والمبتدأ "فهم معناه و" فهم "المراد به"، فهو بالجر عطف على معناه، وإن اتحدا معنى، كسابقه لاختلاف اللفظ، وقوله "حصر" بالنصب مفعول تضمن "أسباب محبته" تعالى لعبده، فالمصدر مضاف لفاعله "في أمرين، أداء الفرائض والتقرب إليه بالنوافل"، بدل من أمرين ولا يقرأ قوله، والمراد بالرفع مبتدأ خبره حصر، ويعترض عليه، بأن الظاهر حذفه؛ لأن حصر مفعول تضمن؛ إذ لا ملجئ لذلك، فالكلام صحيح بجر المراد، وهو الظاهر أو المتعين "و" تضمن أيضًا "أن المحب لا يزال يكثر في النوافل حتى يصير محبوبًا لله"، فالسبب الثاني هو المحقق لصيرورة العبد محبوبًا لله، بحيث يكون سمعه
…
إلخ.
"فإذا صار محبوبًا لله أوجبت"، أثبتت "محبة الله له محبة أخرى منه"، أي: العبد "لله فوق المحبة الأولى"، الحاصلة منه قبل "فشغلت هذه المحبة" الثانية "قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه"، وهو الله عز وجل "وملكت" أي: قصرت تلك المحبة "عليه"، أي: على المحبوب "روحه"، أي: لمحب، بحيث لا تجاوزه للتعلق لغيره، "ولم" الأولى، فلم "بالفاء""يبق فيه سعة لغيره محبوبه البتة، فصار ذكر محبوبه وحبه""بضم الحاء والرفع""ومثله""بفتحتين"، وصفه "الأعلى" العجيب الشأن، كالقدرة العامة والحكمة التامة، "مالكًا لزمام قلبه" خبر، أي: صار ما ذكر مانعًا لقلبه من التلفت إلى غيره، ففيه استعارة بالكناية،
محبته التي قد اجتمعت قوى محبته كلها له، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه وإن أبصر أبصر بمحبوبه، وإن مشى مشى به، فهو في قلبه ونفسه، وأنيسه وصاحبه.
والباء -هنا- باء المصاحبة، وهي مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك بمجرد الأخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حالية لا علمية محضة.
قال: ولما حصلت الموافقة من العبد لربه في محابه، حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه فقال:"ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" أي
وتخييلية، شبه القلب بالبعير الممنوع من استرساله مع هواه استعارة بالكناية، وإثبات الزمام له تخييل، "مستوليًا على روحه استيلاء المحبوب على محبه، الصادق في محبته، التي قد اجتمعت قوى محبته كلها له"، فسمع محبه وبصره وغيرهما. من بقية المعاني صارت حافظة للمحب مانعة من لحوق ضرر به مقوية له على مطلوبه من زيادة القرب ودوامه، فكأنها مختصة به، لا تتجاوزه إلى غيره، "ولا ريب"، شك "أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه، وإن أبصر أبصر بمحبوبه، وإن مشى مشى به، فهو في قلبه ونفسه وأنيسه وصاحبه"، ويقرب من هذا جواب العارف والأستاذ علي بن وفي؛ بأن معنى كنت سمعه
…
إلخ أن ذلك الكون الشهودي مرتب على ذلك الشرط، الذي هو حصول المحبة، فمن حيث الترتب الشهودي جاز الحدوث، المشار إليه بقوله: كنت سمعه، لا من حيث التقدير الوجودي، وقال في الفتوحات لابن العربي: المراد به انكشاف أمر لمن تقرب إليه تعالى بالنوافل، لا أنه لم يكن الحق تعالى سمعه قبل التقرب، ثم كان تعالى عن ذلك وعن العوارض الطارئة، وهذه من غرر المسائل الإلهية، نقلهما في اليواقيت والجواهر، "والباء هنا" في قوله: فبي يسمع
…
إلخ "باء المصاحبة، وهي مصاحبة لا نظير لها"؛ لأن الأصل في الصحبة إطلاقها على من حصل له رؤية ومجالسة، ووراء ذلك شروط للأصوليين، وتطلق مجازًا على من تمذهب بمذهب إمام، كأصحاب الشافعي، ولا يصح حملها هنا على شيء من ذلك، "ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها"؛ لأنها لا نظير لها، تصور به في الخارج، فإنما يدركها من قامت به، كالملاحة تدرك ولا توصف، بعبارة تحصل حقيقتها وصورتها للمخاطب، "فالمسألة: حالية" أي: حال من أحوال النفس، يدركها من قامت به "لا علمية محضة" أي: ليست متعلقًا للعلم، بحيث يصورها بما يميزها من غيرها خارجا.
"قال" ابن القيم: "ولما حصلت الموافقة من العبد لربه في محابه" جمع حب، كمحاسن جمع حسن على غير قياس، "حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه،
كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري، والتقرب إلي بمحابي، فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما سألني أن أفعله به، وفيما يستعيذني أن يناله. وقوي أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه وتعالى في إماتة عبده لأنه يكره الموت، والرب تعالى يكره ما يكره عبده، ويكره مساءته فمن هذه الجهة يقتضي أن لا يميته ولكن مصلحته في إماتته، فإنه ما أماته إلا ليحييه، ولا أمرضه إلا ليصحه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة في صلب أبيه آدم إلا ليعيده إليها على أحسن أحواله، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا
فقال: "ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"، أي: كما وافقني في مرادي، بامتثال أوامري والتقرب إلي بمحابي، فأنا أوافقه في رغبته" فيما عندي، "ورهبته": خوفه مني "فيما سألني أن أفعله به" عائد لرغبته"، "وفيما يستعيذني أن يناله"، عائد لرهبته، ففي وعده المحقق، المؤكد بالقسم
إيذان بأن من تقرب إليه بما مر لا يرد دعاءه وأن الكمل يطلب منهم الدعاء.
وقال الشيخ أكمل الدين في شرح المشارق، أقوى ما قاله الشراح بحسب الظاهر في هذا الحديث: كنت سمعه، فلا يسمع ما لم يأذن الشرع بسماعه، ولا يبصر ما لم يأذن في النظر إليه، ولا يبطش إلا ما أذن ببطشه، ولا يسعى إلا فيما أذن بالسعي إليه، وبحسب الباطن: لا يزال العبد يتقرب إلى الله بأنواع الطاعات وأصناف الرياضات، ويترقى من مقام إلى أعلى منه حتى يحبه الله، فيجعل سلطان حبه غالبًا عليه حتى يسلب منه الاهتمام بكل شيء غير تقربه إليه، فيصير منخلعًا عن الشهوات، ذاهلًا عن اللذات، مستغرقًا بملاحظة جناب قدسه، بحيث ما لاحظ شيئًا إلا لاحظ ربه، ولا التفت إلى شيء إلا رأى ربه، وهذا آخر درجات السالكين، وأول درجات الواصلين، فيكون بهذا الاعتبار سمعه وبصره، وهذا نفس محجوب، والذائق يقول: العبد يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يكون الرب، صفات عبده المذكورة لتحصل له المناسبة الصفتية بين المحب والمحبوب، فإنها لا بد منها ولذا جعل السبب فيه أداء النوافل، فإن الله فاعل مختار، ليس عليه إيجاب لأحد النوافل ليست بإيجاب، فكان ذلك مناسبة أخرى بين المحب والمحبوب، وهذا يسمى قرب النوافل، وثمة قرب الفرائض، وهو أعظم من قرب النوافل، انتهى.
"وقوي أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه وتعالى في إماتة عبده؛ لأنه يكره الموت، والرب تعالى يكره ما يكره عبده، ويكره مساءته فمن هذه الجهة يقتضي أن لا يميته، ولكن مصلحته في إماتته"، فتفصل بفعل المصلحة، "فإنه ما أماته إلا ليحييه" الحياة الأبدية، "ولا أمرضه إلا ليصحه""بضم التحتية وكسر الصاد"، أي: يزيل
سواه انتهى.
وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير سائغ، ولكن له تأويلان.
أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه، أو فاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع عنه مكروهًا، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرًا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله؛ لأن الله قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه.
والثاني: أن يكون معناه: ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في قبض نفس عبدي المؤمن، كما في قصة موسى عليه السلام، وما كان من
مرضه، يصونه من أهوال الآخرة وآلامها، أو ليزيل عنه المكروهات الدنيوية ويثيبه وهذا أظهر، "ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة في صلب أبيه آدم إلا ليعيده إليها على أحسن أحواله، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه انتهى". كلام ابن القيم.
"وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز"؛ إذ لا يكون إلا ممن لا يعلم العاقبة فيتعارض عنده مقتضى الفعل والترك، فيتحير في أيهما أولى ليفعله، والله لا يخفى عليه شيء، فيستحيل التردد منه، "والبداء""بفتح الموحدة والدال المهملة والمد" ظهور مصلحة كانت خفيت "عليه في الأمور غير سائغ" لأنه محال أن يظهر له شيء كان عنه غائبًا، "ولكن له"، أي: الحديث "تأويلان".
"أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه، وفاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع": يزيل "عنه مكروهها، فيكون ذلك من فعله، كتردد من يريد أمرًا، ثم يبدو له فيه، فيتركه ويعرض عنه"، فليس من التردد الحقيقي في شيء "ولا بد له من لقائه"، أي: الموت، "إذا بلغ الكتاب": المكتوب من العمر "أجله"{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} [الأعراف: 34]، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11] "لأن الله قد كتب الفناء على خلقه"{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] ، "واستأثر بالبقاء لنفسه"، فكل شيء هالك إلا وجهه.
"والثاني: أن يكون معناه: ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله، كترديدي إياهم في
لطمه عين ملك الموت، وتردده إليه مرة بعد أخرى.
قال: وحقيقة المعنى -على الوجهين- عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه.
وقال الكلاباذي ما حاصله: إنه غير عن صفة الفعل بصفة الذات، يعني باعتبار متعلقها، أي عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبة للموت، فيقبض على ذلك.
قال: وقد يحدث الله تعالى في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق
قبض نفس عبدي المؤمن"، فأطلق التردد، وأراد لازمه، وهو الترديد، وأضاف تعالى ذلك لنفسه؛ لأن ترددهم عن أمره "كما في قصة موسى عليه السلام" في الصحيحين، عن أبي هريرة، مرفوعًا في أحاديث الأنبياء: "أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع، فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: ثم ماذا؟، قال: الموت، قال: فالآن" الحديث "وما كان من لطمه عين ملك الموت" ففقأها، كما في رواية مسلم؛ وكأن موسى ظنه آدميًّا، تسور عليه منزله بغير إذنه، ليوقع به مكروهًا، ويحتمل أنه علم أنه ملك الموت، ودافعه عن نفسه باللطمة المذكورة، والأول أولى، ويؤيده أنه جاء إلى قبضه، ولم يخيره، وقد علم موسى أنه لا يقبض حتى يخير، ولهذا لما خيره، قال: الآن. وعند أحمد، كان ملك الموت يأتي الناس عيانًا. "وتردده إليه مرة بعد أخرى" أي: ثانية بعد الأولى.
"قال" الخطابي: "وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه" ألفاظ متقاربة "وقال الكلاباذي": "بفتح الكاف والموحدة فألف فذال معجمة" نسبة إلى كلاباذ محلة كبيرة ببخارى، الحافظ، الإمام أبو نصر أحمد بن محمد بن السين بن الحسن بن علي بن رستم البخاري، سمع الهيثم بن كليب الشاشي ومعه جعفر المستغفري.
قال الحاكم: كان من الحفاظ حسن المعرفة والفهم، متقنًا، ثبتًا، لم يخلف مثله بما وراء النهر، وحدث ببغداد في حياة الدارقطني، وكان يثني عليه، ومات في جمادى الآخرة، سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، عن خمس وثمانين سنة، "ما حاصله أنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات، يعني باعتبار متعلقها، أي: عن الترديد، بالتردد وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب""بفتحتين وبضمتين وبضمة" أي: داء وبلاء "إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته للموت فيقبض على ذلك" فسماه ترددًا مجازًا.
إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت، فضلًا عن إزالة الكراهة عنه، انتهى.
وبالجملة: فلا حياة للقلب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله، ولا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبته، ففي القلب طاقة لا يسدها إلا محبة الله ورسوله ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم وآلام وحسرات.
قال صاحب المدارج: ولن يصل العبد إلى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية حتى يعرف الله تعالى ويهتدي إليه بطريق توصله إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة، فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكليته، ويزهد في
"قال: وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده، والشوق إليه، والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت فضلًا عن إزالة الكراهة عنه انتهى".
وقال الجنيد: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته، وليس المعنى أني أكره له الموت؛ لأن الموت يورده إلى رحمه الله ومعرفته.
وقال غيره: لما كانت مفارقة الروح للجسد لا تحصل إلا بألم عظيم جدًّا، والله تعالى يكره أذى المؤمن، أطلق على ذلك الكراهة ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة؛ لأنها تؤدي إلى أرذل العمر وتنكيس الخلق والرد إلى أسفل سافلين، وفي ذلك دلالة على شرف الأولياء ورفعة منزلتهم حتى لو تأتى أنه تعالى لا يذيقه الموت الذي حتمه على عبادة لفعل، ولهذا المعنى ورد لفظ التردد، كما أن العبد إذا كان له أر لا بد له أن يفعله بحبيبه، لكنه يؤلمه فإن نظر إلى ألمه كف عن الفعل، وإن نظر إلى أنه لا بد له منه لمنفعته، أقدم عليه، فعبر عن هذه الحالة في قلبه بالتردد، فخاطب الله الخلق بذلك على حسب ما يعرفونه ودلهم على شرف الولي عنده، "وبالجملة فلا حياة" لذيذة محمودة "للقلب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله، ولا عيش" محمود "إلا عيش المحبين، الذين قرت أعينهم بحبيبهم، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبته، ففي القلب طاقة"، أي: اشتياق وتلهف واحتراق على عدم وصوله إلى مطلوبه، شبه ذلك بطاقة مفتوحة يدخل منها ما يؤلم المحب في جسده، وأنه "لا يسدها" أي: يمنع عنه ذلك الاحتراق والتلهف "إلا محبة الله ورسوله، ومن لم يظفر بذلك، فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات"، فهي حياة كلا حياة.
"قال صاحب المدارج" ابن القيم: "ولن يصل العبد إلى هذه المنزلة": المرتبة "العلية والمرتبة السنية"، مساوٍ حسنة اختلاف اللفظ، "حتى يعرف الله تعالى، ويهتدي إليه بطريق توصله إليه"، وهي اتباع الكتاب والسنة، "ويحرق ظلمات الطبع بأشعة"، أي: أنوار "البصيرة"
التعلقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة، ثم يقوم حارسًا على قلبه فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله، ولا بخطرة فضول لا تنفعه، فيصفو لذلك قلبه بذكر ربه ومحبته والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره ربه كما قال.
وأخرج من بين البيوت لعلني
…
أحدث عنك النفس بالسر خاليًا
فحينئذٍ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه، فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول، واستولت روحانيته على قلبه، فجعله إمامه وأستاذه ومعلمه وشيخه وقدوته، كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديه، فيطالع سيرته ومبادئ أموره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه وحركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، إلى غير ذلك
للقلب، كالبصر للعين، "فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب"، يُقبل "إليها بكليته" جملته "ويزهد في التعلقات الفانية"، كما في الحديث: ازهد في الدنيا يحبك الله، "ويدأب" يجهد ويتعب نفسه "في تصحيح التوبة" المأمور به بها في {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] الآية، "والقيام بالمأمورات الظاهرة"، كالصلاة، "والباطنة"، كالحب لله ولرسوله، "وترك المنهيات الظاهرة" كالغيبة، "والباطنة" كالحسد "ثم يقوم حارسًا على قلبه، فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله" بل يتوب منها في الحال "ولا بخطرة فضول لا تنفعه" لأنه إذا سامحه من ذلك انتقل إلى ما فوقه، وهكذا، وإذا فعل ما ذكر "فيصفو لذلك قلبه بذكر، ومحبته والإنابة": الرجوع "إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه إلى فضاء الخلوة بربه، وذكره ربه كما قال:
"وأخرج من بين البيوت لعلني
…
أحدث عنك النفس بالسر خاليًا
فأراد الشاعر بالبيوت: الطبع والنفس، بدليل ترجيه لا البيوت الحقيقية؛ إذ لا اعتداد بالخروج منها مع بقاء الطبع "فحينئذٍ يجتمع قلبه وخواطره، وحديث نفسه على إرادة ربه، وطلبه، والشوق إليه، فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول، واستولت روحانيته على قلبه، فجعله إمامه" الذي يقتدي به "وأستاذه" أي: معلمه، كلمة أعجمية؛ لأن السين والذال المعجمة لا يجتمعان في كلمة، ومعناها الماهر بالشيء العظيم "ومعلمه وشيخه وقدوته" ألفاظ متقاربة "كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديه"، الدال عليه، "فيطالع سيرته ومبادئ" أوائل
مما منحه الله به مما ذكرت بعضه، حتى يصير من بعض أصحابه، فإذا رسخ في قلبه ذلك فتح عليه بفهم الوحي المنزل عليه من ربه بحيث إذا قرأ السورة شاهد قلبه ماذا أنزلت فيه، وماذا أريد بها، وحظه المختص به منها، من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة، فيجتهد في التخلص منها، كما يجتهد في تحصيل الشفاء من المرض المخوف.
ولمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام علامات:
أعظمها الاقتداء به، واستعمال سنته، وسلوك طريقته، والاهتداء بهديه وسيرته، والوقوف عندما حد لنا من أحكام شريعته.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، فجعل متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم آية محبة العبد ربه، وجعل جزاء العبد على حسن متابعة الرسول محبة الله تعالى إياه، وقد قال الحكيم -وهو محمود الوراق-
"أموره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه"، رياضيات نفسه ومحاسن أخلاقه "وحركاته وسكوته ويقظته ومنامه وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، إلى غير ذلك مما منحه"، أعطاه وخصه "الله به مما ذكرت بعضه" فيما سبق "حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه، فإذا رسخ في قلبه ذلك فتح عليه بفهم الوحي، المنزل عليه من ربه، بحيث إذا قرأ السورة شاهد قلبه ماذا أنزلت فيه، وماذا أريد بها، وحظه" نصيبه "المختص به منها من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة، فيجتهد في التخلص منها، كما يجتهد في تحصيل الشفاء من المرض المخوف" بل أقوى للعاقل؛ لأن المرض كفارة، وهذه موبقة، "ولمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام علامات" دالة عليها "أعظمها الافتداء به": اتباعه "واستعمال سنته"، أي: طريقته، فعطف "وسلوك طريقته" تفسيري وكذا "والاهتداء بديه وسيرته"، ولا ضير في ذلك؛ لأن المقام أطناب، وسنته شاملة للتأسي به، في الاقتداء به في الشدائد والحروب وغيرهما، وليس مخصوصًا بالعبادات التي سنها، "والوقوف عندما حد"، أي قدر "لنا من أحكام شريعته" سميت الأحكام حدًّا، لمنعها عن الإقدام على ما يخالفها من قول أو فعل أو عزم، فالحد لغة المنع، فإذا أمر أو نهى، فقد منع من ضده.
"قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] "فجعل متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم آية"، أي: علامة "محبة العبد ربه، وجعل جزاء العبد على حسن
كما أفاده المحاسبي في كتاب "القصد والرجوع":
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
…
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته
…
إن المحب لمن يحب مطيع
وهذه المحبة تنشأ من مطالعة العبد منة الله عليه من نعمه الظاهرة والباطنة، فبقدر مطالعة ذلك تكون قوة المحبة، ومن أعظم مطالعه منة الله تعالى على عبده منه تأهله لمحبته ومعرفته ومتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم، وأصل هذا نور يقذفه الله تعالى في قلب ذلك العبد، فإذا دار ذلك النور أشرقت له ذاته، فرأى في نفسه وما أهلت له من الكمالات والمحاسن، فعلت به همته، وقويت عزيمته، وانقشعت عنه ظلمات نفسه وطبعه؛ لأن النور والظلمة لا يجتمعان إلا ويطرح أحدهما الآخر، فوقعت
متابعة الرسول محبة الله تعالى إياه" وغفرانه، وأشار بحسن إلى أن مجرد الاتباع لا يكون علامة إلا إذا كان على أكمل الوجوه، بحيث يتحقق فيه معنى حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه" إلخ. ن
"وقد قال الحكيم": الذي ينطق بالحكمة، "وهو محمود" بن الحسن "الوراق، كما أفاده الحارث بن أسد "المحاسبي" بكسر السين لمحاسبته نفسه، أو لغير ذلك، مر ضبطه وبعض ترجمته قريبًا جدًّا "في كتاب القصد والرجوع"، أحد تصانيفه، وهي نحو مائتين، وقال غيره إنه لمنصور الفقيه، بليغ، كان في أول الدولة العباسية:
"تعصي الإله وأنت تظهر حبه، هذا لعمري" أي: حياتي "في القياس بديع": غريب عجيب، مخالف لأنواع القياس "لو كان حبك صادقًا لأطعته، إن المحب" بكسر الهمزة لأنها تعليلية "لمن يحب مطيع" لا يعصيه أصلًا، ويقع في بعض النسخ بيت ثالث، وهو هذا:
في كل يوم يبتديك بنعمة
…
منه وأنت لشكر ذاك تضيع
بضم الفوقية من أضاع، كذا إذا أهمله، وأكثر النسخ، كما في الشفاء بدون هذا الثلاث، "وهذه المحبة تنشأ من مطالعة العبد" أي: نظره "منة الله": نعمه التي أنعم بها "عليه" ومعرفة قدرها، وأنها لا تكون إلا منه "من نعمه الظاهرة والباطنة "بيان لمنة الله تعالى "فبقدر مطالعة ذلك تكون قوة المحبة، ومن أعظم مطالعة منة الله تعالى على عبده، منة" تمييز "تأهله لمحبته ومعرفته ومتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم، وأصل هذا نور يقذفه الله تعالى في قلب ذلك العبد، فإذا دار ذلك النور أشرق له ذاته، فرأى في نفسه" أمرًا عظيمًا، تقصر عنه العبارة" "و" رأى فيما أهلت له من الكمالات والمحاسن، ما لا يمكنه التعبير عنه، فالمفعول محذوف فيهما، "فعلت به همته، وقويت عزيمته، وانقشعت"، انكشفت "عنه ظلمات نفسه وطبعه؛ لأن النور
الروح حينئذٍ بين الهيئة والأنس إلى الحبيب الأول.
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
…
وحنينه أبدًا لأول منزل
وبحسب هذا الاتباع توجب المحبة والمحبوبية معًا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن أن تحب الله، بل الشأن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرًا وباطنًا، وصدقته خبرًا، وأطعته أمرًا، وأجبته دعوة، وآثرته طوعًا، وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم تكن كذلك فلا تتعن فلست على شيء.
والظلمة لا يجتمعان" لا يدخل أحدهما على الآخر "إلا ويطرح" يزيل ويذهب "أحدهما الآخر، فوقعت الروح حينئذٍ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأول"، يتنازعه كل من الهيئة والأنس، ويحتمل تعلقه بوقعت، وبين الهيبة والأنس حال، يعني أنه وقع بين أمرين متضادين، فالهيبة تقتضي الفزع والخوف ممن يهابه، والإنس يقتضي انشراح النفس وانبساطها ممن تأنس به، وأنشد لغيره:
"نقل فؤادك حيث ئت من الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الأول"
"كم منزل في الأرض يألفه الفتى
…
وحنينه أبدًا لأول منزل"
نقل "بالنون" ومن الهوى متعلق به، أي: نقل فؤادك وعلقه بمن تهوى من كل ما تميل نفسك إليه، فإنك وإن فعلت ذلك لا بد لك من الرجوع إلى الحبيب الأول، لمعرفة مقامه بالميل إلى غيره "وبحسب" أي: بقدر "هذا الاتباع توجب""بضم التاء وفتح الجيم وموحده"، أي: تحصل وتوجد "المحبة والمحبوبية معًا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن" الأمر العظيم المرتب عليه سائر الكمالات؛ "أن تحب الله" فقط، "بل الشأن أن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه" صلى الله عليه وسلم "ظاهرًا وباطنًا، وصدقته خبرًا"، أي: فيما وصل إليك من أخباره، "وأطعته أمرًا"، أي: فيما أمر به، "وأجبته دعوة" أي: أجبت دعوته حيث دعاك "وآثرته طوعًا"، أي: فضلت طاعته وقدمتها على كل شيء لأن من فضل شيئًا قدمه على غيره، فلا يرد أن معنى الإيثار التفضيل، والمراد هنا التقديم، كقوله:{َيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] ؛ لأن التقديم لازم للتفضيل، فاللفظ هنا مستعمل فيهما، والأنصار لما فضلوا المهاجرين قدموهم على أنفسهم غاية التعظيم، حتى إن بعض من كان له زوجتان، عرض إحداهما على المهاجري الذي أخى المصطفى بينه وبينه، "وفنيت عن حكم غيره" فلم تجعل لنفسك وجودًا، ولا انقيادًا له
وتأمل قوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] أي الشأن في أن الله يحبكم، لا في أنكم تحبونه، وهذا لا ينالونه إلا باتباع الحبيب.
وقال المحاسبي في كتاب "القصد والرجوع": وعلامة محبة العبد لله عز وجل اتباع مرضاة الله، والتمسك بسنن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان، ووجد طعمه، ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه، فاستحلى اللسان ذكر الله تعالى وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذٍ يدخل حب الإيمان في القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده في اليوم الشديد الحر للظمآن الشديد العطش فيرتفع عنه تعب الطاعة لاستلذاذه بها، بل تبقى الطاعات غذاء لقلبه وتنعيمًا وسرورًا له، وقرة عين في حقه وتنعيمًا لروحه، يلتذ بها أعظم من اللذات الجسمانية، فلا يجد في أوراد العبادة كلفة.
وفي الترمذي عن أنس مرفوعًا: "ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني
"بحكمه" فقصرت نفسك عليه، "وعن محبة غيره من الخلق" بحبه "وعن طاعة غيره بطاعته" في أوامره ونواهيه "وإن لم تكن كذلك، فلا تتعن""بفوقيتين وعين مفتوحات وشد النون" أي: لا تتعب نفسك في أمر تتوهم به الوصول إليه "فلست على شيء" من المحبة المقتضية لإقباله عليك، ورفعه إياك في المحل الأعلى "وتأمل قوله تعالى:{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي: الشأن" بالرفع بيان لحاصل المعنى "في أن الله يحبكم لا في أنكم تحبونه، وهذا لا ينالونه إلا باتباع الحبيب" عليه الصلاة والسلام.
"وقال المحاسبي في كتاب القصد والرجوع: وعلامة محبة العبد لله عز وجل اتباع مرضاة الله" أي: رضاه "والتمسك بسنن" جمع سنة "رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان ووجد طعمه" باتباع مرضاة الله والسنن، "ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه، فاستحلى اللسان ذكر الله تعالى، وما والاه" مما فيه طاعة لله، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا إن أريد بالذكر ذكر اللسان، "وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذٍ يدخل حب الإيمان في القلب، كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده في اليوم الشديد الحر للظمآن الشديد العطش، فيرتفع عنه تعب الطاعة لاستلذاذه بها، بل تبقى الطاعات غذاء""بمعجمتين والمد""لقلبه" أي: كالغذاء له "وسرورًا له، وقرة عين في حقه، وتنعيمًا لروحه، يلتذ بها أعظم من اللذات الجثمانية""بضم الجيم ومثلثة" نسبة إلى الجثمان، وهو الجثة.
وفي نسخة: بالسين والجيم مكسورة، أي: أعظم من اللذات الحاصلة للشخص من تناوله ما يلتذ به "فلا يجد في أوراد العبادة كلفه".
كان معي في الجنة".
وعن ابن عطاء: من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره ونواهيه، وأفعاله وأخلاقه.
وقال أبو إسحاق الرقي -من أقران الجنيد: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وعن غيره: لا يظهر على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة.
"وفي الترمذي، عن أنس مرفوعًا" ولفظه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قدرت أن تمسي وتصبح ليس في قلبك غش لأحد فافعل"، ثم قال:"يا بني، وذلك من سنتي"، "ومن أحيا سنتي" بالإفراد على الأشهر، وبالجمع، "فقد أحبني" أي: علم محبته لي، أي: أظهرها وعمل بها وحث عليها، فشبه إظهارها بعد ترك الأخذ بها بالإحياء، ثم اشتق منه الفعل، فجرت الاستعارة في المصدر أصلية، ثم سرت إلى الفعل تبعًا، ولذا قالوا: السنن كسفينة نوح، اتباعها يدفع البلاء عن أهل الأرض، والسنة إنما سنها لما علم في خلافها من الخطأ والزلل، ولو لم يكن إلا أن الله وملائكته وحملة عرشه يستغفرون لمتبعها لكفى، فقد أحبني، أي: علم حبه لي، "ومن أحبني كان معي في الجنة"؛ لأن المرء مع من أحب.
وفي رواية، "فقد أحياني ومن أحياني"، أي: أظهر ذكري ورفع أمري، فجعله بمنزلة الإحياء، كما قيل:
ويحسبه قد عاش آخر دهره
…
إلى الحشر أن أبقى الجميل من الذكر
"وعن" أبي العباس أحمد بن محمد بن سهل "بن عطاء" الآدمي "بفتحتين"، تقدم "من ألزم نفسه آداب السنة، نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب" لله تعالى "في أوامره ونواهيه، وأفعاله وأخلاقه".
"وقال أبو إسحاق" إبراهيم بن داود القصار "الرقي"، "بفتح الراء وشد القاف" نسبة إلى الرقة مدينة على طرف الفرات، من كبار مشايخ الشام، وصحب أكثر المشايخ بها، وكان ملازمًا للفقر، مجردًا فيه محبًا لأهله، وقال: حسبك من الدنيا شيئان: صحبه فقير وحرمة ولي، وقال: الأبصار قوية، والبصائر ضعيفة، وهو "من أقران الجنيد" وابن الجلاء إلا أنه عمر طويلًا، حتى مات سنة ست وعشرين، وثلاثمائة، "علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم" المتابعة التامة، "وعن غيره لا يظهر" وفي نسخ: بالواو، أي: قال: ما مر عن الرقي وزاد، ولا يظهر "على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة، فأما من أعرض عن الكتاب
فأما من أعرض عن الكتاب والسنة، ولم يتلق العلم من مشكاة الرسول عليه الصلاة والسلام بدعواه علمًا لدنيا أوتيه فهو من لدن الشيطان والنفس وإنما يعرف كون العلم لدنيا روحانيًّا بموافقته لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه تعالى، فالعلم اللدني نوعان: لدني رحماني ولدني شيطاني، والمحك هو الوحي، ولا وحي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما قصة موسى مع الخضر فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني إلحاد وكفر، يخرج عن الإسلام، موجب لإراقة الدم، والفرق: أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأمورًا بمتابعته،
والسنة ولم يتلق العلم من مشكاة الرسول" أي: الأحاديث الواردة عنه "عليه الصلاة والسلام"، وعبر عنها بالمشكاة تشبيهًا لها بالكوة التي يصل النور منها إلى إنسان ببيت، إذا ورد عليه فيه انكشف ما كان خفيًّا عنه بسببه، "بدعواه علمًا لدنيا أوتيه، فهو من لدن الشيطان"، أي: من عنده "و" من عند "النفس، وإنما يعرف كون العلم لدنيا روحانيًّا بموافقته لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه تعالى، فالعلم اللدني"، الآتي لصاحبه من عند غيره "نوعان":
أحدهما: "لدني رحماني" من عند الرحمن تبارك وتعالى، سمي لدنيا لحصوله من الله، لا من كسب العبد "و" ثانيهما:"لدني شيطاني" من عنده لعنه الله "والمحك""بالكاف" المميز لذلك "هو الوحي، ولا وحي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم"، فما وافقه كان لدنيا رحمانيًّا، وما لا فشيطانيًّا.
قال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، قال ابن عربي: يريد أنه نتيجة عن العمل عليهما، وهما الشاهدان العدلان.
وفي نسخة: المحل باللام، أي: الذي يتلقى منه العلم عن الله هو الوحي، أي: الكتاب والسنة فما تلقى عن غيرهما، ولم يخرج على قواعدهما، فهو من وسوسة الشيطان، يجب صرفه حالًا، والحكم بأنه ليس من الله، "وأما قصة موسى مع الخضر"، وقوله تعالى:{آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] ، "فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني الحاد، وكفر يخرج عن الإسلام موجب لإراقة الدم".
وهذا جواب سؤال هو، لا يلزم أن ما أخذ من غير الوحي يكون من الشيطان، لجواز أنه علم غيبي من الله به على عبده، فأوصله إليه من غير طريق الوحي، بدليل قصة الخضر.
"و" الجواب: "الفرق أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولم يكن
ولو كان مأمورًا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه، ولهذا قال له: أنت موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم، ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، فرسالته عامة للجن والإنس في كل زمان، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه.
فمن أدعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى، أو جواز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلًا عن أن يكون من خاصة أولياء الله تعالى.
وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه.
والعلم اللدني الرحماني هو ثمرة العبودية والمتابعة لهذا النبي الكريم، عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، وبه يحصل الفهم في الكتاب والسنة بأمر يختص به صاحبه كما قال علي بن أبي طالب، وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، إلا فيما يؤتيه الله عبدًا، في كتابه، فهذا هو العلم اللدني الحقيقي.
الخضر مأمورًا بمتابعته" ودليل ذلك أنه "لو كان مأمورًا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه"، ولم يفعل؛ لأنه لم يؤمر بذلك، "ولهذا قال له: أنت موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم"، فرسالته خاصة بهم "ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، فرسالته عامة للجن والإنس في كل زمان، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه"، كما في الحديث "فمن ادعى أنه مع محمد، كالخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه"، لكفره بهذه الدعوى، "وليشهد شهادة الحق"، أي: يعتقد خلاف دعواه باطنًا، ويأتي بالشهادتين ظاهرًا ليعود إلى الإسلام، "فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلًا عن أن يكون من خاصة أولياء الله تعالى، وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه" في الضلال والإضلال.
"والعلم اللدني الرحماني هو ثمرة العبودية، والمتابعة لهذا النبي الكريم عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، وبه يحصل الفهم في الكتاب والسنة، بأمر يختص به صاحبه، كما قال علي بن أبي طالب" أمير المؤمنين "وقد سئل" والسائل له أبو جحيفة، كما في الصحيح، وقيس بن عباد "بضم العين وخفة الموحدة"، والأشتر النخعي، وحديثهما في سنن النسائي، "هل خصكم" أهل البيت النبوي، أو الجمع للتعظيم "رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس" من أسرار
فاتباع هذا النبي الكريم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض النفوس، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين.
ومن علامات محبته: أن يرضى مدعيها بما شرعه، حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضى، قال الله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجًا من قضائه ولم يسلم له.
قال شيخ المحققين وإمام العارفين، تاج الدين بن عطاء الله الشاذلي، أذاقنا
علم الوحي، كما تزعم الشيعة، "فقال: لا إلا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه" القرآن من فحوى الكلام، ويدركه من باطن المعاني التي هي غير الظاهر من نصه، ومراتب الناس في ذلك متفاوتة، وفيه جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه، ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة "فهذا هو العلم اللدني الحقيقي، فاتباع هذا النبي الكريم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور ورياض النفوس" جمع روضة، وهي الموضع المعجب بالزهور، جعل اتباعه كرياض مزهرة مثمرة للنفوس، الالتذاذ ها كلذة رائي الرياض بها، "ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين ومن علامات محبته أن يرضى مدعيها" عبر به دون محب؛ لأنه إذا ثبت أنه محب لا يحتاج لعلامة "بما شرعه" صلى الله عليه وسلم أمرًا ونهيًا، سماه شارعًا لمجيئه على يده وتبليغه، وإن كان الشارع حقيقة هو الله تعالى.
وفي نسخة: بما شرعه الله، أي: ما جاء به رسوله وبلغه، لقوله:{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] فمآلهما واحد، لكن الأولى أنسب بما الكلام فيه، "حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضى" أي: ضيقًا أو شكًا.
"قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} لا مزيدة للتأكيد، ونفي لما تقدمها، أي: ليس كما زعموا أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وقيل: لا الثانية زائدة، والقسم معترض بين حرفي النفس {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} أي: يرجعوا لحكمك ويرضوا به {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} من المشاجرة، وهي المخاصمة، وأصل معناه الاختلاط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه واختلاطها {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} ضيقًا مما حكمت به، أو من حكمك أو شكا من أجله، فإن الشاك في ضيق من أمره {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، أي: ينقادوا لحكمك، وأكده ليفيد الانقياد ظاهرًا، وباطنًا "فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجًا من قضائه ولم يسلم له" بقوله: لا يؤمنون.
الله حلاوة مشربه: في هذه الآية دليل على أن الإيمان الحقيقي لا يحصل إلا لمن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نفسه قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًا وبغضًا، ويشتمل ذلك على حكم التكليف وحكم التعريف، والتسليم والانقياد واجب على كل مؤمن في كليهما.
فأحكام التكليف، الأوامر والنواهي المتعلقة باكتساب العباد.
وأحكام التعريف هو ما أورده عليه من فهم المراد.
فتبين من هذا: أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بالأمرين الامتثال لأمره، والاستسلام لقهره.
ثم إنه سبحانه لم يكتف بنفي الإيمان عمن لم يحكم، أو حكم ووجد
"قال شيخ المحققين وإمام العارفين": جمع عارف، وهو من أشهده الحق نفسه وظهرت عليه الأحوال المعرفة، حاله هكذا ذكره الشيخ فالعالم عنده أعلى مقامًا، من العارف خلافًا للأكثر، فإن العالم من أشهده الله ألوهيته، ولم يظهر عليه حال العلم حاله، وقد قرر ذلك في الفتوحات وكتاب مواقع النجوم.
وفي نسخ المعرفين: وهي أبلغ؛ لأنه الدال على ما يوصل إلى ذلك، فيلزم أن يكون عارفًا، وتلميحًا بقول شيخه المرسي: لأجعلنك سيد الطريقتين "تاج الدين" أحمد بن محمد بن عبد الكريم "بن عطاء الله الشاذلي" السكندري، ثم المصري، وبها مات سنة تسع وسبعمائة، ودفن بالقرافة بقرب بني الوفاء، ومن نظمة.
أعندك عن ليلى حديث محرر
…
لا يراده يحيا الرميم وينشر
فعهدي بها العهد القديم وإنني
…
على كل في هواها مقصر
"أذاقنا الله حلاوة مشربه" في كتاب التنوير في إسقاط التدبير، "في هذه الآية دلالة على أن الإيمان الحقيقي لا يحصل إلا لمن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نفسه قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًّا وبغضًا، ويشتمل ذلك" المذكور "على حكم التكليف وحكم التعريف والتسليم" مبتدأ، "والانقياد" عطف كائن "على كل مؤمن في كليهما"، أي: حكمي التكليف والتعريف، "فأحكام التكليف الأوامر والنواهي، المتعلقة باكتساب العباد" أي: ما دل على الأحكام المستفادة منهما؛ إذ الأوامر ليست هي الأحكام التي يأتي بها المكلف؛ لأنه إنما يأتي بالمأمور، "وأحكام التعريف هو ما أورده عليه من فهم المراد، فتبين من هذا؛ أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بالأمرين: الامتثال لأمره والاستسلام لقهره"، أي: لما قهرك
الجرح في نفسه، حتى أقسم على ذلك بالربوبية الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم رأفة وعناية وتخصيصًا ورعاية؛ لأنه لم يقل: فلا والرب، وإنما قال:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ففي ذلك تأكيد بالقسم، وتأكيد في القسم، علمًا منه سبحانه بما في النفوس منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة سواء كان الحق عليها أو لها، وفي ذلك إظهار لعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه، فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه، والانقياد لأمره، ولم يقبل منهم الإيمان بإلهيته حتى يذعنوا لأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما وصفه به ربه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] فحكمه حكم الله، وقضاؤه قضاء الله، كما قال:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] وأكد ذلك بقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} .
عليه وألزمك به من المطلوبات والمنهيات، "ثم إنه سبحانه لم يكتف بنفي الإيمان عمن لم يحكم، أو حكم ووجد الحرج في نفسه"، بل بالغ في ذلك "حتى أقسم على ذلك"، فهو غاية لمقدر "بالربوبية الخاصة برسوله"، أي: المضافة إليه صلى الله عليه وسلم وجعلها خاصة به؛ لأن الرب في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، وهي وإن كانت شاملة لجميع العالمين، لكن تربية الحق لحبيبه لا يوازيها تربيته لغيره؛ لأنه بلغه أعلى الكمالات التي لم يبلغها لأحد سواه "رأفة وعناية" اهتمامًا "وتخصيصًا ورعاية؛ لأنه لم يقل: فلا والرب، إنما قال:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ففي ذلك تأكيد" لما أخبر به "بالقسم، وتأكيد في القسم" نفسه، بإضافة ربوبيته إليه؛ تعظيمًا له وتنويهًا لمقامه، وإنما أكد بذلك "علمًا منه"، أي: لعلمه "سبحانه بما في النفوس، منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة" على غيرها.
"سواء كان الحق عليها أو لها، وفي ذلك إظهار لعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه"، عطف مساوٍ للإشارة إلى أن مدلول "يحكموك" و"قضيت" واحد، "فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه والانقياد لأمره" عطف تفسير.
قال في الشفاء: يقال: سلم واستسلم وأسلم، إذا انقاد "ولم يقبل منهم الإيمان بإلهيته"، أي: بأنه آله "حتى يذعنوا" ينقادوا "لأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما وصفه به ربه" تبارك وتعالى، حيث قال، أو قائلًا:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، أي: هوى نفسه {إِنْ} ما {هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} فحكمه حكم الله، وقضاؤه قضاء الله، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا
وفي الآية إشارة أخرى إلى تعظيم قدره، وتفخيم أمره صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى:{وَرَبَّكَ} فأضاف نفسه إليه، كما قال في الآية الأخرى:{كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 1، 2] فأضاف الحق سبحانه نفسه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضاف زكريا إليه ليعلم العباد فرق ما بين المنزلتين وتفاوت ما بين الرتبتين.
ثم إنه تعالى لم يكتف بالتحكيم بالظاهر فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج -وهو الضيق- من نفوسهم في أحكامه صلى الله عليه وسلم، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها، وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار، ووجود الأغيار، فعنه يكون الحرج وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك؛ إذ نور الإيمان ملأ قلوبهم فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع العليم، ممدودة بوجود فضله العظيم، مهيآت لواردات أحكامه مفوضة له في نقضه وإبرامه، انتهى.
يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لأنه المقصود ببيعته، "وأكد ذلك بقوله:{يَدُ اللَّهِ فَوَْ أَيْدِيهِمْ} ، حال واستئناف مؤكد له على سبيل التخييل، قاله البيضاوي "وفي الآية إشارة أخرى إلى تعظيم قدره وتفخيم أمره صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى: {وَرَبَّكَ} فأضاف نفسه تعالى "إليه" عليه الصلاة والسلام، "كما قال في الآية الأخرى: {كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} ، فأضاف الحق سبحانه نفسه، في الآيتين "إلى محمد صلى الله عليه وسلم" فقال في الأولى: وربك وفي الثانية: ربك "وأضاف زكريا إليه"؛ لأنه بدل من عبده أو بيان له، فكان المعنى: ذكر رحمة ربك زكريا، الذي هو عبده "ليعلم""بضم التحتية وسكون العين وكسر اللام" الله "العباد، فرق ما بين المنزلتين"، منزلة نبينا ومنزلة زكريا، فإن في إضافة رب إلى المصطفى غاية التعظيم، "وتفاوت ما بين الرتبتين" عطف تفسير، فالرتبة لغة المنزلة والمكانة، "ثم إنه تعالى لم يكتف بالتحكيم بالظاهر، فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج، وهو الضيق من نفوسهم في أحكامه صلى الله عليه وسلم، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها، والثاني ظاهر وأما الأول، فلأنه لا يلزم من كونه الحكم موافقًا لهاه أن لا يشق عليه لما في الإلزام به من مشقة التكليف المترتب على فعله أو تركه عقوبة لا العفو، ويقرب ذلك أن الرجل قد يهوى زواج امرأة، لكن يمنعه كثرة نفقتها مثلًا، فإلزامه بتزوجها وإن وافق هواه، لكنه يشق عليه، فإذا أخذها للأمر ناله حرج في نفسه، "وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار ووجود الأغيار، فعنه" أي: عما ذكر من الأمرين "يكون الحرج، وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك؛ إذ نور الإيمان ملأ قلوبهم فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع" الذي وسع علمه ورحمته كل شيء،
وقال سهل بن عبد الله: من لم ير ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، ويرى نفسه في ملكه لم يذق حلاوة سنته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه".
وروينا عن السيد العارف بالله تعالى الكبير أبي عبد الله القرشي أنه قال: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، ولا يبقى لك منك شيء. انتهى.
فمن آثر هذا النبي الكريم على نفسه، كشف الله له عن حضرة قدسه، ومن معه بلا اختيار ظهرت له خفايا حقائق أسرار أنسه.
أو الغني الذي وسع غناه معاش عباده، ورزقه كافة خلقة "العليم" لكل معلوم، أو البالغ في العلم، فعلمه شامل لجميع المعلومات، محيط بها، سابق على وجودها "ممدودة" أي: مقواة في أنفسها "بوجود فضله العظيم" زيادة على إشراقها بأنوار قدسه، مأخوذة من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه، "مهيآت لواردات أحكامه"، وهي ما يرد على القلب من الخواطر المحمودة من غير عمل العبد، وتطلق أيضًا على كل ما يرد على القلب، سواء كان وارد قبض، أو بسط، أو حزن، أو فرح، أو غير ذلك من المعاني، قاله الكاشي:"مفوضة له في نقضه وإبرامه انتهى". كلام ابن عطاء الله.
"وقال سهل بن عبد الله" التستري: "من لم ير" أي: يعمل ويتيقن "ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم" بفتح الواو وكسرها نفوذ حكمه وسلطانه "عليه في جميع أحواله" بأن لا يخالفه في أمر من الأمور، "وير نفسه في ملكه" بكسر الميم حتى كأنه مملوكه، "لم يذق حلاوة سنته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يؤمن أحدكم" أي: لا يكمل إيمانه "حتى أكون أحب إليه من نفسه"، فإنه يدل على تلذذه بالاقتداء به، وإنما يلتذ بذلك إذا أحبه، فإن المحب لا يخالف محبوبه، فيترك مراده لمراده وبهذا دل على الأحبية، وطابقة العلة معلولها.
"وروينا عن السيد العارف بالله تعالى، الكبير" محمد بن أحمد بن إبراهيم "أبي عبد الله القرشي"، الأندلسي، ثم المصري، ثم المقدسي، وبه توفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة، والدعاء عند قبره مجاب، ولقي نحو ستمائة شيخ، وجد واجتهد، وأخذ عنه كثيرون، وله كرامات، "أنه قال: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، ولا يبقى لك منك شيء، انتهى".
وهو من ثمراتها وعلاماتها، "فمن آثر هذا النبي الكريم على نفسه" بأن قدم ما فيه رضاه، بامتثال أمره واجتناب نهيه، مطمئنًا بقبول ما جاء عنه زيادة على الإيمان "كشف الله له
ومن علامات محبته عليه الصلاة والسلام نصر دينه بالقول والفعل، والذب عن شريعته، والتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار، والحلم والصبر والتواضع وغيرها، مما ذكرته في أخلاقه العظيمة، وتقدم في كلام العارف ابن عطاء الله مزيد لذلك قريبًا. فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وآثر ذلك على أغراض الدنيا الفانية يا هذا أول نقدة من أثمان المحبة بذل الروح فما للمفلس الجبان وسومها بدم المحب يباع وصلهم تالله ما هزلت فيستامها المفلسون ولا كسدت فينفقها بالنسيئة المعسرون لقد أسيمت للعرض في سوق من يزيد فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس فتأخر الباطلون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنًا فدارت السلعة
عن حضرة قدسه"، فصار يعبد الله كأنه يراه، "ومن كان معه بلا اختيار" لشيء تميل إليه نفسه، مخالف لما طلب منه، "ظهرت له خفايا: حقائق أسرار أنسه، ومن علامات محبته عليه الصلاة والسلام نصر دينه بالقول والفعل" مجاهدة الكفار لإعلاء كلمة الله "والذب":"بمعجمة وموحدة" المنع والطرد "عن شريعته" برد ما يخالفها ودفع الشبه الواردة عليها، وتفسير أحاديثه وبيانها، والانقياد لها، "والتخلق بأخلاقه في الجود" فقد كان أجود الناس، "والإيثار" تقديم الغير عليه في أمور الدنيا، "والحلم، والصبر، والتواضع" فقد بلغ في كل منها الغاية القصوى، أفلا أقل من التخلق به في بعضها:
ومتى تفعل الكثير من الخير إذا كنت تاركًا لأقله
"وغيرها مما ذكرته في أخلاقه العظيمة، وتقدم في كلام العارف ابن عطاء الله مزيد لذلك قريبًا" جدًّا فوق هذا، "فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وآثر ذلك على أعراض الدنيا الفانية، يا هذا أول نقده من أثمان المحبة بذل الروح".
سئل الجنيد عن العشق، فقال: لا أدري ما هو، لكن رأيت رجلًا أعمى عشق صبيًّا، وكان الصبي لا ينقاد له، فقال الأعمى: يا حبيبي إيش تريد مني؟ قال: روحك، ففارق روحه حالًا، "فما للمفلس الجبان" ضعيف القلب "وسومها": طلب شرائها "بدم المحب، يباع وصلهم" الأحباب، "تالله ما هزلت": ضعفت، "فيستامها" يقال: سام واستام، بمعنى "المفلسون، ولا كسدت" بفتحتين"، لم تنفق لقلة الرغبات فيها، "فينفقها": يروجها "بالنسيئة" التأخير "المعسرون" الفقراء، "لقد أسميت للعرض في سوق من يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل
بينهم ووقعت في يد قوم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] .
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فتأخر أكثرهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعه {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من أجرى على يده عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وإن لها شأنًا، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان، من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: قد صارت
النفوس"، إعطائها بسماحة "فتأخر البطالون، وقام المحبون ينظرون، أيهم يصلح أن يكون ثمنًا فدارت السلعة بينهم، ووقعت في يد قوم أذلة"، عاطفين "على المؤمنين أعزة" أشداء "على الكافرين لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لا دعى الخلي" من المحبة "حرفة" بالكسر اسم من الاحتراف الاكتساب "الشجي" الحزين "فتنوع المدعون في الشهود"، كل بما قدر عليه، فتعارضت الشهادة "فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة" بإضافته إلى قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [العمران: 31] ، فتأخر أكثرهم" لعدم اتباعه الكامل، "وثبت اتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة" المذكورة "بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} فيه "فتأخر أكثر المحبين" لمشقة الجهاد عليهم، "وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا": أقبلوا إلى بيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} بأن يعذلوها في طاعته، "فلما عرفوا عظمة المشترى" سبحانه وتعالى:"وفضل الثمن، وجلالة من أجرى على يده" صلى الله عليه وسلم "عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة" المشتراه، "وأن لها شأنًا": أمرًا عظيمًا، "فرءوا من أعظم الغبن: أن يبيعوها لغيره بثمن بخس" ناقص "فعقدوا معه بيعة الرضوان من غير ثبوت خيار"، بل بتا،