الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وزي أهل الشرك» ورواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح ولفظه: «ذروا التنعم وزي العجم» ورواه أيضًا في كتاب الزهد بإسناد صحيح، ولفظه:«إياكم وزي الأعاجم ونعيمها» .
قال ابن عقيل رحمه الله تعالى
النهي عن التشبه بالعجم للتحريم
.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى التشبه بالكفار منهي عنه بالإجماع. وقال أيضًا إذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديمًا وحديثًا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب في الجاهلية التي كانوا عليها ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم.
فصل
وقد ورد التغليظ في التشبه بأعداء الله تعالى كما في المسند وسنن أبي داود وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» صححه ابن حبان.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى إسناده جيد. وقال ابن حجر العسقلاني إسناده حسن. قال شيخ الإسلام وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث. قال وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . وقال الشيخ أيضًا في موضع آخر
قوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقًا انتهى.
وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى» .
قال ابن مفلح في قوله: ليس منا، هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم انتهى.
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عقيل بن مدرك السلمي قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء إسرائيل قل لقومك: لا يأكلوا طعام أعدائي ولا يشربوا شراب أعدائي ولا يتشكلوا شكل أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي. وروى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لقومك لا تدخلوا مداخل أعدائي ولا تطعموا مطاعم أعدائي ولا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تركبوا مراكب أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي. وروى الخلال عن حذيفة رضي الله عنه أنه أتى بيتًا فرأى شيئا من زي العجم فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم. وتقدم ما رواه البيهقي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» .
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أخبر صلى الله عليه وسلم أن أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة وذلك لأن الفساد إما في الدين وإما
في الدنيا فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق، ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الذي هو الكفر. وأما فساد الدين فنوعان نوع يتعلق بالعمل، ونوع يتعلق بمحل العمل. فأما المتعلق بالعمل فهو ابتغاء سنة الجاهلية، وأما المتعلق بمحل العمل فالإلحاد في الحرم؛ لأن أعظم محال العمل هو الحرم، وانتهاك حرمة المحل المكاني أعظم من انتهاك حرمة المحل الزماني - إلى أن قال- والمقصود أن من هؤلاء الثلاثة من ابتغى في الإسلام سنة جاهلية فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث، والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها، فإن السنة هي: العادة وهي الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة قال تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لتتبعن سنن من كان قبلكم» ، والاتباع هو الاقتفاء والاستنان، فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية، وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء كان من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم انتهى.
وقال أيضا في الكلام على قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» ، قد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك. وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفرا أو معصية أو شعارا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك، وبكل حال فهو يقتضي تحريم التشبه بهم بعلة كونه تشبها. والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا ولم يأخذه
أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر. لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة كما أمر بصبغ اللحى وإعفائها وإحفاء الشوارب، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم:«غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود» دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية وقد روي في هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التشبه بالأعاجم، وقال:«من تشبه بقوم فهو منهم» ، ذكره القاضي أبو يعلى، وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين. قال محمد بن حرب سئل أحمد عن نعل سندي يخرج فيه فكرهه للرجل والمرأة وقال: إن كان للكنيف والوضوء فلا بأس، وأكره الصرار قال: وهو من زي الأعاجم. وروى الخلال عن أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: سألت سعيد بن عامر عن لباس النعال السبتية فقال: زي نبينا أحب إلينا من زي باكهن ملك الهند ولو كان في مسجد المدينة لأخرجوه من المدينة.
وقال الشيخ رحمه الله تعالى أيضًا: قد بعث الله عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور:
منها أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس
لثياب الجند المقاتلة مثلا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع.
ومنها أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة تتوجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين.
وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا وظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.
ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين. إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية. هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم. فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له.
وقال الشيخ أيضا مشاركتهم في الهدي الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سببًا قريبًا أو بعيدًا إلى نوع ما من الموالاة والمودة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة.
وقال الشيخ أيضًا المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكل في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي،
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانًا من غيرهم ممن جرد الإسلام. والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا وإن بعد المكان والزمان فهذا أيضا أمر محسوس. قال والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة انتهى.
وما ذكره رحمه الله تعالى من نتائج التشبه بأعداء الله تعالى وثمراته السيئة كله واقع في زماننا، ولا سيما مواصلة أعداء الله تعالى ومؤاخاتهم وموالاتهم وموادتهم ومحبتهم والاختلاط التام بهم في بعض الأقطار بحيث قد ارتفع فيها التمييز ظاهرًا بين المسلم والكافر فلا يعرف هذا من هذا إلا من كان يعرفهم بأعيانهم، وقد قادت هذه الموافقة والمشابهة كثيرًا من الناس إلى النفاق وكثيرًا منهم إلى الردة والخروج من دين الإسلام عياذًا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.
فصل
ولما كان التشبه بأعداء الله تعالى واتباع سننهم والأخذ بأخذهم من أعظم العوامل في هدم الإسلام ومحو السنن النبوية واطراح المناهج السلفية والمروآت والشيم العربية والاعتياض عن ذلك كله بأدناس المدنية الإفرنجية، أحببت أن أنبه ههنا على أنواع من المشابهة فشت في زماننا وكثر الواقعون فيها وقل المنكرون لها، وكثير مما أذكره قد وقع من أزمان
طويلة وما زال شره يزداد على مر الأوقات حتى عاد الماضي منه شبه لا شيء بالنسبة إلى ما تم في هذه الأزمان.
وبعض ما أذكره لم يقع إلا في هذه الأزمان.
والقصد من ذلك النصيحة للمسلمين وبيان ما خفي على أكثرهم من أنواع المشابهة وتحذيرهم من شؤم التشبه بأعداء الله تعالى وسوء عاقبته.
والله المسئول أن يوفقنا جميعا لاتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يجنبنا هدي المشركين وأشباههم إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
النوع الأول من المشابهة وهو من أقبحها وأسوأها عاقبة ما ابتلى به الأكثرون من الغلو في القبور وبناء القباب عليها واتخاذ المساجد والسرج عليها وتعظيمها وتعظيم غيرها من الأشجار والأحجار وغيرها بما نهى عنه الشرع المطهر حتى آل الأمر بكثير منها إلى أن اتخذت أوثانا تعبد من دون الله ويفعل عندها من أنواع الشرك مثل ما كان المشركون الأولون يفعلونه عند اللات والعزى ومناة وغيرهن من الطواغي بل أعظم بكثير.
وقد وردت أحاديث كثيرة أخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخاذ القبور مساجد من فعل اليهود والنصارى ولعنهم على ذلك وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله يوم القيامة وحذر أمته ونهاهم أن يفعلوا كفعلهم، فيلحقهم من غضب الله ولعنته ولعنة رسوله صلى الله عليه وسلم مثل ما لحق أولئك وهذا من كمال نصحه لأمته وشدة شفقته عليهم صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
فمنها ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت: فلولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا.
ومنها ما في الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وفي رواية لمسلم قال:«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
ومنها ما في الصحيحين أيضًا عن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، يحذر ما صنعوا.
ومنها ما في الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» .
ومنها ما في المسند وصحيح ابن حبان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد» ، وقد أخرج البخاري بعض هذا الحديث في صحيحه.
ومنها ما في المسند أيضا عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
ومنها ما في صحيح مسلم عن جندب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك» .
ومنها ما في المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
ومنها ما في موطأ مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
ومنها ما في المسند والسنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» ، قال الترمذي: حديث حسن وصححه ابن حبان، وقد رواه الحاكم في مستدركه وقال: هو حديث متداول فيما بين الأئمة.
وقد قابل القبوريون هذه الأحاديث الصحيحة بالتصامم والتعامي
عنها والعمل بخلافها محادة منهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباعًا لسنن اليهود والنصارى.
وما زال الشيطان يعظم عندهم أمر القبور ويزين لهم الغلو في أصحابها ويأمرهم بالتوسل بهم إلى الله في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان ويوحي إليهم أنهم ينفعون ويضرون ويقربون عابديهم إلى الله زلفى ويشفعون لهم عنده حتى تمكنت وساوس الشيطان ووحيه وتزيينه من قلوبهم ورسخت فيها فصار افتتانهم بالقبور أعظم من افتتان اليهود والنصارى بقبور الأنبياء والصالحين، وما تركوا شيئا مما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر من فعله ولعن فاعله إلا وقد ارتكبوه وشاقوا الله ورسوله، فإنه صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد كما اتخذها اليهود والنصارى فعاندوه وبنوا عليها المساجد وسموها مشاهد ثم آل الأمر بكثير منهم إلى أن شرعوا للقبور حجا ووضعوا لذلك مناسك وكسوا القبور كما تكسى الكعبة وجعلوا حول بعض الضرائح المعظمة عندهم مطافًا يطوفون فيه على القبر كما يطوف المسلمون بالكعبة وسموا ذلك المطاف حرما يريدون أن يضاهئوا بأوثانهم البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وحرما آمنًا.
وقد حدثني غير واحد من رآهم يطوفون بالقبور ويتضرعون إلى أصحابها ويسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان، فما أشبه هؤلاء الضلال بالذين قال الله تعالى فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
وكذلك قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور والبناء عليها والكتابة عليها، كما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد والسنن عن جابر رضي الله عنه قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه» ، زاد الترمذي:«وأن يكتب عليها» ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية لأبي داود والنسائي أو يزاد عليه أو يكتب عليه.
ورواه ابن ماجه مختصرًا ولفظه: قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبر شيء» .
ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه: قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر أو يجصص أو يقعد عليه ونهى أن يكتب عليه» قال الحاكم على شرط مسلم وقد خرج بإسناده غير الكتابة فإنها لفظة صحيحة غريبة، وقال الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم، وخرج منه.
وفي رواية للحاكم: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور والكتاب فيها والبناء عليها والجلوس عليها» ، صححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يبنى على القبر» .
وقد خالف القبوريون هذه الأحاديث جملة وارتكبوا ما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه من البناء على القبور والزيادة عليها وتجصيصها والكتابة عليها حتى لقد ذكر لنا عن بعض الأوثان أنه قد كتبت عليه الكتابات بماء الذهب، وذكر عن بعضها أنه كتب عليه بماء الذهب قول الله تعالى:{وإنك لعلى خلق عظيم} ، فجعلوه ندا لله تعالى بالعبادة والتعظيم. وجعلوه
ندا للرسول صلى الله عليه وسلم بوصفه بما وصف الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه وهذا غاية المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ السرج على القبور ولعن من أسرجها فأبى القبوريون إلا أن يغالوا في إسراجها.
وكذلك قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور من النساء فأبين إلا أن يزاحمن الرجال في زيارتها وأن يسافرن إلى زيارة الأوثان وحجها من الأماكن البعيدة والقريبة ويطفن حولها تضطرب إلياتهن كاسيات عاريات متبرجات يفتن الحي ويؤذين الميت.
وكثير من المنتسبين إلى الإسلام يضعون الخوص على القبور. وبعضهم يضع عليها الأزهار الحسنة تحية للموتى كما يزعمون، وبعضهم يضع عليها الأزهار الصناعية. وبعضهم يضع عليها الرياحين. وبعضهم يصب عليها ماء الورد وأنواع الطيب، وكل هذه الأفعال الذميمة من التقاليد الإفرنجية، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
فصل
النوع الثاني: من المشابهة وهو من أعظمها شرًا وأسوأها عاقبة ما ابتلي به كثيرون من اطّراح الأحكام الشرعية والاعتياض عنها بحكم الطاغوت من القوانين والنظامات الإفرنجية أو الشبيهة بالإفرنجية المخالف كل منها للشريعة المحمدية، وقد قال الله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، وقال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وقد انحرف عن الدين بسبب هذه المشابهة فئام من الناس فمستقل من الانحراف ومستكثر. وآل الأمر بكثير منهم إلى الردة والخروج من دين الإسلام بالكلية فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والتحاكم إلى غير الشريعة المحمدية من الضلال البعيد والنفاق الأكبر قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} .
ثم نفى تبارك وتعالى الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع ولم يرض بحكمه ويطمئن إليه قلبه ولا يبقى لديه شك إن ما حكم به هو الحق الذي يجب المصير إليه فيذعن لذلك وينقاد له ظاهرًا وباطنا، وأقسم سبحانه وتعالى على هذا النفي بنفسه الكريمة المقدسة فقال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
وما أكثر المعرضين عن أحكام الشريعة المحمدية من أهل زماننا ولا سيما أهل الأمصار الذين غلبت عليهم الحرية الإفرنجية، وهان لديهم ما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة فاعتاضوا عن التحاكم إليهما بالتحاكم إلى القوانين والسياسات والنظامات التي ما أنزل الله بها من سلطان وإنما هي متلقاة عن الدول الكافرة بالله ورسوله أو ممن يتشبه بهم ويحذو حذوهم من الطواغيت الذين ينتسبون إلى الإسلام وهم عنه بمعزل.
وأقبح من فعل المنافقين ما يذكر عن بعض أهل زماننا أنهم قالوا: إن العمل بالشريعة المحمدية يؤخرهم عن اللحاق بأمم الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى. وهذه ردة صريحة والله المسئول أن يقيض لأهلها ولكل من لم يرض بأحكام الشريعة المحمدية من يعاملهم معاملة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لإخوانهم من قبل.
فصل
ومن اطراح الأحكام الشرعية ما يفعله كثير من المنتسبين إلى الإسلام من إبدال الحدود والتعزيرات بالحبس موافقة للإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى وهذا مصداق ما في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة وكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضًا الحكم وآخرهن الصلاة» رواه الإمام أحمد وابنه عبد الله وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه.
فصل
النوع الثالث: من المشابهة وهو من أشنعها وأسوأها عاقبة ما ابتلي به بعض المنتسبين إلى الإسلام من تقليد الشيوعيين في ظلم الأغنياء وأخذ أموالهم قهرًا بغير حق بدعوى الاشتراك بين الأغنياء والفقراء في المال. وهذا المذهب الخبيث مأخوذ عن المزدكية من المجوس وأول من أحدثه زرادشت ثم أظهر ذلك مزدك في أيام قباذ ودعا الناس إليه.
وقد ذكر الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي عن يحيى بن بشر بن عمير النهاوندي أنه قال: كان أول ملوك المجوس كومرث فجاءهم بدينهم
ثم تتابع مدعو النبوة فيهم حتى اشتهر بها زرادشت وكان مما سنه زرادشت عبادة النار والصلاة إلى الشمس، وكانوا يستحلون فروج الأمهات وقالوا الابن أحرى بتسكين شهوة أمه، وإذا مات الزوج فابنه أولى بالمرأة فإن لم يكن له ابن اكترى رجل من مال الميت ويجيزون للرجل أن يتزوج بمائة وألف وأظهر هذا الأمر مزدك في أيام قباذ وأباح النساء لكل من شاء ونكح نساء قباذ لتقتدي به العامة فيفعلون في النساء مثله فلما بلغ إلى أم أنوشروان قال لقباذ أخرجها إليّ فإنك إن منعتني شهوتي لم يتم إيمانك فهم بإخراجها فجعل أنوشروان يبكي بين يدي مزدك ويقبل رجله بين يدي أبيه قباذ ويسأله أن يهب له أمه فقال قباذ لمزدك ألست تزعم أن المؤمن لا ينبغي أن يرد عن شهوته؟ قال: بلى قال: فلم ترد أنوشروان عن شهوته؟ قال: قد وهبتها له، ثم أطلق للناس في أكل الميتة فلما ولي أنوشروان أمتى المزدكية.
وقال القرماني في تاريخه (أخبار الدول وآثار الأول) في الكلام على ملوك الفرس من الساسانية الذي من جملتهم قباذ. قال: وكان قباذ ضعيفًا مهينا في ملكه في أيام ظهر مزدك الزنديق وإليه تضاف المزدكية فادعى النبوة وأمر الناس بالتساوي في الأموال وأن يشتركوا في النساء؛ لأنهم إخوة لأب وأم آدم وحواء ودخل قباذ في دينه فشق ذلك على الناس وعظم عليهم وأجمعوا على خلع قباذ. وانضم إلى مزدك جماعة وقالوا: نحن نقاسم الناس ونرد على الفقراء حقوقهم من الأغنياء فكانوا يدخلون على الرجل في بيته فيغلبونه على أمواله ونسائه، فوثب رجل من الأشراف يعرف بابن ساجور في جماعة من أصحابه على مزدك فقتله فلم تبق ناحية إلا خرج منها خارج فخلعوا قباذ وولوا مكانه أخاه جاماسب بن فيروز ولحق قباذ بالهياطلة فأنجدوه وانتصر على أخيه جاماسب وحبسه واستمر قباذ في
الملك حتى قتل في يد العرب بمدينة الري وكان ملكه إلى أن هلك ثلاثًا وأربعين سنة، ثم ملك بعده ابنه أنوشروان ولما تولى الملك كان صغيرًا فلما استقل بالملك وجلس على السرير قال لخواصه إني عاهدت الله إن صار الملك إلي أن أعيد آل المنذر إلى الحيرة ثانيا وأن أقتل طائفة المزدكية الذين أفسدوا في أموال الناس ونسائهم، وكان مزدك قائمًا إلى جانب السرير فقال: هل تقتل الناس جميعا هذا فساد في الأرض والله قد ولاك لتصلح لا لتفسد. فقال له أنوشروان يا ابن الخبيثة أتذكر وقد سألت أبي قباذ أن يأذن لك في المبيت عند أمي، فأمر لك فمضيت نحو حجرتها فلحقت بك وقبلت رجلك وما زال نتن جواربك في أنفي منذ ذلك اليوم إلى الآن وسألتك حتى وهبتها لي ورجعت؟ فقال: نعم فأمر بقتله فقتل بين يديه وأخرج وأحرقت جثته وأمر بقتل أتباعه فقتل منهم خلقًا كثيرًا وأثبت ملة المجوسية القديمة وكتب بذلك إلى أصحاب الولايات وقوى جنده بالأسلحة والكراع وعمر البلاد وقسم أموال الزنادقة على الفقراء ورد الأموال التي لها أصحاب إلى أصحابها وأجرى الأرزاق للضعيفات اللاتي مات عنهن أزواجهن وأمر أن يزوجهن من مال كسرى وكذلك فعل بالبنات اللاتي لم يوجد لهن أب وأما البنون الذين لم يوجد لهم أب فأضافهم إلى مماليكه ورد المنذر إلى الحيرة وطرد الحارث عنها وكان الحارث مزدكيًا انتهى.
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه عن المزدكية نحو ما ذكره القرماني. فذكر أنهم قالوا: إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء. ويردون من المكثرين على المقلين وأن من كان عنده فضل من الأموال
والنساء والأمتعة فليس هو أولى به من غيره فافترص السفلة ذلك واغتنموا وكاتفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلي الناس بهم وقوي أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله لا يستطيع الامتناع منهم وحملوا قباذ على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه فلم يلبثوا إلا قليلا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئا مما يتسع به وصيروا قباذ في مكان لا يصل إليه أحد سواهم وجعلوا أخا له يقال له جاماسب مكانه وقالوا لقباذ: إنك قد أثمت فيما عملت به فيما مضى وليس يطهرك من ذلك إلا إباحة نسائك وأرادوه أن يدفع إليهم نفسه ويجعلوه قربانا للنار فلما رأى ذلك زرمهر بن سوخرا خرج بمن شايعه من الأشراف باذلا نفسه فقتل من المزدكية ناسًا كثيرًا وأعاد قباذ إلى ملكه وطرح أخاه جاماسب ثم لم تزل المزدكية بعد ذلك يحرشون قباذ على زرمهر حتى قتله ولم يزل قباذ من خيار ملوكهم حتى حمله مزدك على ما حمله عليه فانتثرت الأطراف وفسدت الثغور.
وذكر ابن جرير أن كسرى أنوشروان كتب إلى رعيته كتابا يحذرهم فيه مما دعا إليه مزدك ويذكر أنها ملة رجل منافق من أهل فسا يقال له زرادشت بن خركان ابتدعها في المجوسية فتابعه الناس على بدعته تلك وفاق أمره فيها. قال كسرى وكان ممن دعا العامة إليها رجل من أهل مذرية يقال له مزدق بن بامدا وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثهم عليه التآسي في أموالهم وأهليهم وذكر أن ذلك من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنه لو لم يكن الذي أمرهم به وحثهم عليه من الدين كان مكرمة في الفعال، ورضا في التفاوض فحض بذلك السفلة على العلية واختلط له أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء وسهل
السبيل للغصبة إلى الغصب وللظلمة إلى الظلم وللعهار إلى قضاء نهمتهم والوصول إلى الكرائم اللاتي لم يكونوا يطمعون فيهن وشمل الناس بلاء عظيم لم يكن لهم عهد بمثله فنهى الناس كسرى عن السيرة بشيء مما ابتدع زرادشت بن خركان ومزدك بن بامدا وأبطل بدعتهما وقتل بشرًا كثيرًا ثبتوا عليها ولم ينتهوا عما نهاهم عنه منها.
وذكر ابن جرير أيضًا أنه لما عقد التاج على رأس كسرى دخل عليه العظماء والأشراف فاجتهدوا في الدعاء له فلما قضوا مقالتهم قام خطيبا فبدأ بذكر نعم الله على خلقه وتوكله بتدبير أمورهم وتقدير الأقوات والمعايش لهم ولم يدع شيئا إلا ذكره في خطبته ثم أعلم الناس ما ابتلوا به من ضياع أمورهم وانمحاء دينهم وفساد حالهم في أولادهم ومعايشهم وأعلمهم أنه ناظر فيما يصلح ذلك ويحسمه وحث الناس على معاونته ثم أمر برءوس المزدكية فضربت أعناقهم وقسمت أموالهم في أهل الحاجة وقتل جماعة كثيرة ممن كان دخل على الناس في أموالهم ورد الأموال إلى أهلها وأمر بكل مولود اختلف فيه أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يعرف أبوه وأن يعطى نصيبًا من مال الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها ويرضي أهلها ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين التزويج من غيره إلا أن يكون لها زوج أول فترد إليه وأمر بكل من كان أضر برجل في ماله أو ركب أحدًا بمظلمة أن يؤخذ منه الحق ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فأنكح بناتهم الأكفاء وجعل جهازهن من بيت المال وأنكح شبابهم من بيوتات الأشراف وساق عنهم وأغناهم وأمرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله وخير نساء والده بين
أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصرن في الأجر إلى أمثالهن أو يبتغي لهن أكفاءهن من البعولة انتهى.
وقال الشهرستاني في الملل والنحل كان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب الناس والأموال أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شريكة فيها كاشتراكهم في الماء والكلأ والنار انتهى.
ومما ذكرنا يعلم أصل الاشتراكية الخبيثة وأنها موروثة عن زرادشت ومزدك واتباعهما من زنادقة المجوس وفجرتهم، ويعلم أيضا رجحان عقل كسرى أنوشروان وعقول أتباعه من الأعاجم الكفار على عقول طغاة الاشتراكيين في زماننا مع كونهم ينتسبون إلى الإسلام وإلى العربية وهم بعيدون كل البعد عنهما. فكسرى مع كفره أعقل وأعدل وأحسن سياسة ونظرًا للرعية من طغاة الاشتراكيين.
ويعلم أيضًا ما تشتمل عليه الاشتراكية من الفوضى والظلم العظيم والفساد العريض.
ويعلم أيضًا مخالفة هذا المذهب الخبيث للشريعة المحمدية ولجميع شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد زعم بعض طغاة الاشتراكيين وزنادقتهم أن الاشتراكية من دين الإسلام فجنوا بهذه الدعوى جنايتين عظيمتين.
إحداهما على الإسلام حيث افتروا عليه إثمًا عظيمًا وألصقوا به الظلم الذي حرمه الله على نفسه وجعله محرمًا بين عباده كما في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن
الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» رواه مسلم في صحيحه والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود الطيالسي في مسنده، وقد قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} الآية، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وقد اتفقت الشرائع السماوية على تحريم الظلم وأجمع المسلمون على ذلك، والنصوص من الكتاب والسنة على تحريم الظلم وأخذ الأموال بغير حق كثيرة جدا وسأذكر طرفًا منها قريبا إن شاء الله تعالى.
والقول بأن الاشتراكية من دين الإسلام قول معلوم البطلان بالضرورة من الدين وهو كفر لا شك فيه؛ لأن القائل بذلك قد شرع من الدين ما لم يأذن به الله واستحل ما هو محرم بالنص والإجماع. ومن شرع دينًا لم يأذن به الله فهو طاغوت، ومن استحل محرما مجمعًا على تحريمه فقد كفر.
الجناية الثانية: على الأغنياء بأخذ أموالهم بغير حق، وقد قال الله تعالى:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} . وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وقال تعالى:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} ، وقال تعالى:{وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} ، وقال تعالى:{أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} .
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية» .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الظلم ظلمات يوم القيامة» رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه الإمام أحمد ومسلم والبخاري في الأدب المفرد من حديث جابر رضي الله عنه، ورواه البخاري في الأدب المفرد وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي في تلخيصه.
ورواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ورواه الطبراني من حديث الهرماس بن زياد.
وفي مستدرك الحاكم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجور وأعوانهم في النار» ، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وروى أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجلاوزة والشرط وأعوان الظلمة كلاب النار» .
وروى الطبراني في الأوسط والصغير عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرًا غيري» .
وروى أبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم
في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رآى مظلومًا فقدر أن ينصره فلم يفعل».
وروى البخاري في الأدب المفرد من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر أمتي مسخ وقذف وخسف ويبدأ بأهل المظالم» .
ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:
إذا ظالم استحسن الظلم مركبًا
…
ولج عتوا في قبيح اكتسابه
فَكِلْهُ إلى ريب الزمان فإنه
…
سيبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالمًا متجبرًا
…
يرى النجم تيهًا تحت ظل ركابه
فلما تمادى واستطال بظلمه
…
أناخت صروف الحادثات ببابه
وعوقب بالظلم الذي كان يقتفى
…
وصب عليه الله سوط عذابه
وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه» قال ذلك لشدة ما حرم الله من مال المسلم على المسلم.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد من حديث السائب بن يزيد عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا -وفي رواية- لعبًا ولا جدًا ومن أخذ عصا أخيه فليردها» قال الترمذي: حسن غريب. وإذا كان الأمر هكذا في العصا فكيف بالدور والأرضين والأموال العظيمة من النقود وغيرها. فليبشر الاشتراكيون وأشباههم من الظلمة بغضب الله وأليم عقابه إن لم يتوبوا مما فعلوه ويردوا إلى الناس ما أخذوه منهم بغير حق فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق
لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان»، رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وإسناده صحيح على شرط البخاري.
وروى الإمام أحمد أيضا ومسلم من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع أرضًا ظالمًا لقي الله وهو عليه غضبان» .
وروى مالك وأحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة» ، فقال رجل وإن كان شيئا يسيرًا قال:«وإن كان قضيبا من أراك» ، وفي رواية مالك قال:«وإن كان قضيبا من أراك وإن كان قضيبا من أراك وإن كان قضيبًا من أراك» . قالها ثلاث مرات، وفي رواية ابن ماجه قال:«وإن كان سواكا من أراك» .
وروى الإمام أحمد أيضًا والشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين» .
وروى الإمام أحمد والشيخان أيضا وأبو داود الطيالسي عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وروى الإمام أحمد أيضا ومسلم وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يأخذ أحد شبرًا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة» .
وروى الإمام أحمد أيضًا والبخاري من حديث عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين» .
وروى الإمام أحمد أيضا والطبراني في الكبير عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الظلم أعظم؟ وفي رواية أظلم قال: «ذراع من الأرض ينتقصه من حق أخيه فليست حصاة من الأرض أخذها إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها» ، قال المنذري والهيثمي إسناد أحمد حسن.
وروى الإمام أحمد والطبراني أيضًا وابن حبان في صحيحه عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس» .
وفي رواية لأحمد والطبراني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخذ أرضًا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر» .
وفي رواية للطبراني في الكبير: «من ظلم من الأرض شبرًا كلف أن يحفره حتى يبلغ الماء ثم يحمله إلى المحشر» .
وروى أبو يعلى والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا المظالم ما استطعتم فإن العبد يجيء يوم القيامة وله من الحسنات ما يرى أنه ينجيه فلا يزال عبد يقوم فيقول يا رب إن فلانا ظلمني مظلمةً فيقول امحوا من حسناته حتى لا يبقى له حسنة» . قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو ماله فليؤدها إليه قبل أن يأتي إليه يوم القيامة لا يقبل فيه دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه وأعطي صاحبه وإن لم يكن له عمل صالح أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه» ، وقد رواه البخاري في صحيحه من طريق ابن أبي ذئب فذكره بنحوه. ورواه الترمذي في جامعه من طريق زيد بن أبي أنيسة عن سعيد المقبري فذكره بنحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح قال: وقد روى مالك بن أنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هل تدرون من المفلس؟» قالوا المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع قال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة ويأتي قد شتم عرض هذا وقذف هذا وأكل مال هذا فيقعد فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا}، وقال تعالى:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وفي صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس أي يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام، قال:«فأي بلد هذا؟» قالوا: بلد حرام. قال: «فأي شهر هذا؟» قالوا: شهر حرام. قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» فأعادها مرارًا ثم رفع رأسه فقال: «اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟» قال ابن عباس رضي الله عنهما فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته «فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» هذا لفظ البخاري.
وفي صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد أيضًا وسنن الدارمي عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي صحيح البخاري أيضًا وسنن ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي يوم هذا؟» قالوا: يوم النحر، قال:«فأي بلد هذا؟» قالوا: بلد الله الحرام. قال: «فأي شهر هذا؟» قالوا: شهر الله الحرام قال: «هذا يوم الحج الأكبر ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا الشهر في هذا اليوم» ثم قال: هل بلغت؟ قالوا: نعم فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اشهد»، هذا لفظ ابن ماجه وإسناده جيد.
وفي سنن ابن ماجه أيضًا بإسناد صحيح عن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: «يا أيها الناس ألا أي يوم أحرم؟ ثلاث مرات» قالوا: يوم الحج الأكبر. قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» الحديث. وفي آخره: «ألا يا أمتاه هل بلغت؟» ثلاث مرات قالوا: نعم. قال: «اللهم اشهد» . ثلاث مرات، وقد رواه الترمذي في جامعه بنحوه مطولاً ومختصرًا، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال: وفي الباب عن أبي بكرة وابن عباس وجابر وحذيم بن عمرو السعدي.
قلت: أما حديث أبي بكرة وحديث ابن عباس رضي الله عنهم فقد تقدم ذكرهما، وأما حديث جابر رضي الله عنه فرواه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجه والدارمي في سننهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة:«إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» .
وأما حديث حذيم بن عمرو السعدي رضي الله عنه فرواه النسائي وابن حبان في صحيحه من طريق موسى بن زياد بن حذيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» الحديث. وقد روى البخاري طرفًا منه في تاريخه الكبير.
وروى الدارمي في سننه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة في حجة الوداع: «أيها الناس إني والله
لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا بمكاني هذا فرحم الله من سمع مقالتي اليوم فوعاها، فرب حامل فقه ولا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة هذا اليوم في هذا الشهر في هذا البلد» الحديث.
وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته المخضرمة بعرفات فقال: «أتدرون أي يوم هذا وأي شهر هذا وأي بلد هذا؟» قالوا: هذا بلد حرام وشهر حرام ويوم حرام. قال: «ألا وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام كحرمة شهركم هذا في بلدكم هذا في يومكم هذا» . قال في الزوائد: إسناده صحيح.
وفي المسند وصحيح مسلم وجامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» .
وروى الإمام أحمد أيضًا والبزار والدارقطني واللفظ له عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» ، ورواه الطبراني في الكبير قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح.
وروى الإمام أحمد والطبراني في الأوسط والدارقطني في سننه عن عمرو بن يثربي رضي الله عنه قال: شهدت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وكان فيما خطب به أن قال: «لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه» فقلت: يا رسول الله أرأيت لو لقيت غنم ابن عمي فاجتزرت منها شاة هل علي في ذلك شيء؟ قال: «إن لقيتها تحمل شفرة وأزنادًا فلا تمسها» .
وفي رواية للدارقطني قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا ولا يحل لامرئ مسلم من مال أخيه شيء إلا بطيبة نفس منه» الحديث.
وروى الإمام أحمد والدارقطني أيضًا عن أبي حرة الرقاشي عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» .
وروى الدارقطني أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» وروى الدارقطني أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجته: «ألا وإن المسلم أخو المسلم لا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيب نفسه ألا هل بلغت؟!» قالوا: نعم. قال: «اللهم اشهد» .
وقد روى الحاكم في المستدرك نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع -فذكر الحديث وفيه: «أن كل مسلم أخو المسلم، المسلمون إخوة ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ولا تظلموا ولا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» ، إسناده صحيح.
وروى الترمذي من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
والأحاديث في تحريم أخذ الأموال بغير حق كثيرة جدًا وفيما ذكرته ههنا كفاية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل الله فلا هادي له.
وكما أن الاشتراكيين قد جنوا على الإسلام وعلى الأغنياء فقد جنوا أيضًا على الفقراء وعلى غيرهم ممن يعطونه من السحت الذي يأخذونه من الأغنياء قهرًا بغير حق ومن نبت لحمه من السحت فالنار أولى به.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أن الله أبى عليّ أن يدخل الجنة لحمًا نبت من سحت فالنار أولى به» ، رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي المستدرك أيضًا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت فالنار أولى به» .
وفي المستدرك أيضا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به» .
وفي المستدرك أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به» .
وروى أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» .
فصل
وقد ضم الاشتراكيون إلى الجنايات اللاتي ذكرنا أمرين آخرين عظيمين:
أحدهما: التشبه بالمزدكية من المجوس، ثم بالشيوعيين من بعدهم، ومذهب هؤلاء هو أخبث مذهب طرق العالم.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه في أول الكتاب فليراجع.
وعلى هذا فالحكم في الاشتراكيين كالحكم في المزدكيين والشيوعيين سواء بسواء.
الأمر الثاني: الاعتراض على أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وعدم الرضاء بقضائه وقسمته بين عباده. فإن الله تبارك وتعالى فاوت بين الناس في الأرزاق فجعل بعضهم أغنياءً وبعضهم فقراءً كما فاوت بينهم في العقول والأخلاق والعلوم والقوى والألوان والأشكال والأعمار والصحة والأسقام وغير ذلك ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ومن يشكره ممن يكفره. قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ} . وقال تعالى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ} ، وقال تعالى:{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} . وقال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وقال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي المسند من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: «غشمه وظلمه ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث» ، وقد رواه الحاكم في مستدركه مختصرًا وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وللمفتونين بالاشتراكية شبه يتشبثون بها وقد استوفى الرد عليها ثلاثة من أفاضل العلماء في ثلاث رسائل صدرت من دار الإفتاء بالرياض وقد اكتفيت بما كتبوه إذ لا مزيد على ذلك فجزاهم الله تعالى خير الجزاء ووفقنا وإياهم لنصر الحق وقمع الباطل.
فصل
النوع الرابع: من التشبه بأهل الجاهلية ما افتتن به بعض المنتسبين إلى الإسلام في زماننا من الدعوة إلى القومية العربية والاعتياض بها عن الأخوة الإسلامية وعن الدعوة إلى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهذه دسيسة الإفرنج ومكيدة من مكائدهم أرادوا بها
تفريق شمل المسلمين وإيقاع العداوة والبغضاء بينهم. وأول ما فعلوا ذلك في بلاد الشام منذ أكثر من ستين سنة على أيدي دعاتهم المبشرين ليفصلوا الترك عن العرب، ذكر ذلك بعض المؤرخين، وذكر أنهم عقدوا لذلك مؤتمرًا في باريس منذ أكثر من خمسين سنة، وكثرت بسبب ذلك الجمعيات العربية وتعددت الاتجاهات.
قلت: ولم تزل الدعوة إليها تزداد والافتتان بها ينمو من ذلك الحين إلى زماننا هذا.
وقد نبه على هذه الدسيسة الإفرنجية صاحب المنار محمد رشيد رضا في كتابه (الخلافة والإمامة العظمى) فقال: ومن وسائل المتفرنجين لإماتة الدين تعارض المانع والمقتضى فاتخذوا لإزالة الموانع وسائل:
منها: بث الإلحاد والتعطيل في المدارس الرسمية ولا سيما العسكرية وفي الشعب جميعًا وألفوا لذلك كتبًا ورسائل بأساليب مختلفة.
ومنها تربية النابتة الحديثة في المدارس وفي الجيش على العصبية الجنسية وإحلال خيالها محل الوجدان الديني بجعلها في المثل الأعلى للأمة والفخر برجالها المعروفين في التاريخ، وإن كانوا من المفسدين المخربين بدلا من الفخر برجال الإسلام من الخلفاء الراشدين وغيرهم من السلف الصالحين ولهم في ذلك أشعار وأناشيد يتغنى بها التلاميذ والجنود وغيرهم انتهى.
وقد زاد الحمق والغرور ببعض أهل الجهل المركب في زماننا فزعموا أن القومية العربية هي روح الإسلام، وأن الدعوة إليها دعوة إلى روح الإسلام.
وهذا خطأ كبير وضلال بعيد وجناية عظيمة على الإسلام حيث ألصقوا به ما يذمه الإسلام وينهى عنه من دعوى الجاهلية والتعزي بعزائها، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
وروى عبد بن حميد والترمذي وابن أبي حاتم والبغوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان رجل برّ تقيٌّ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌّ هينٌ على الله والناس بنو آدم وخلق الله آدم من التراب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}» .
وروى أبو داود والترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم، وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن» . هذا لفظ أبي داود ولفظ الترمذي قال: «لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من التراب» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية.
العبية بضم العين وكسر الباء الموحدة وتشديدها وتشديد الياء قال أهل اللغة: هي الكبر والفخر والنخوة.
قلت: ومن الفخر والنخوة الدعوة إلى القومية العربية وغيرها من القوميات والعصبيات.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: أضاف العبية والفخر إلى الجاهلية يذمهما بذلك وذلك يقتضي ذمهما بكونهما مضافين إلى الجاهلية وذلك يقتضي ذم كل الأمور المضافة إلى الجاهلية انتهى.
وروى البزار عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان» .
وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى» .
وروى الطبراني عن محمد بن حبيب بن خراش العصري عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى» .
وروى البيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: «يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى إن
أكرمكم عند الله أتقاكم ألا هل بلغت؟» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «فليبلغ الشاهد الغائب» .
وروى الإمام أحمد وابن جرير والبيهقي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملئوه ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيًا بخيلاً فاحشًا» .
قوله: طف الصاع قال ابن الأثير: أي قريب بعضكم من بعض يقال هذا طف المكيال وطفافه، وطفافه أي ما يقرب من ملئه وقيل هو ما علا فوق رأسه ويقال له أيضا طفاف بالضم والمعنى كلكم في الانتساب إلى أب واحد بمنزلة واحدة في النقص والتقاصر عن غاية التمام وشبههم في نقصانهم بالمكيل الذي لم يبلغ أن يملأ المكيال ثم أعلمهم أن التفاضل ليس بالنسب ولكن بالتقوى.
وروى مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه والبخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد» .
وروى البخاري في الأدب المفرد وابن ماجه في سننه بإسناد حسن من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة» .
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ذم في هذا الحديث من دعا بدعوى الجاهلية وأخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذمًا لمن لم يتركه وهذا كله يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها. ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله تعالى: {ولا تبرجن تبرك الجاهلية الأولى} فإن ذلك ذم للتبرج وذم لحال الجاهلية الأولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة ومنه قوله لأبي ذر رضي الله عنه لما عير رجلاً بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية، فإنه ذم لذلك الخلق ولأخلاق الجاهلية التي لم يجئ بها الإسلام، ومنه قوله تعالى:{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . فإن إضافة الحمية إلى الجاهلية يقتضي ذمها فما كان من أخلاقهم وأفعالهم فهو كذلك. انتهى.
وفي المسند وصحيح ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من عمل أهل الجاهلية لا يتركهن أهل الإسلام: النياحة والاستسقاء بالأنواء وكذا» ، قلت لسعيد: وما هو؟ قال: دعوى الجاهلية يا آل فلان يا آل فلان.
وفي الصحيحين والمسند وجامع الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجر: يا للمهاجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال دعوى الجاهلية؟» قالوا:
يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: «دعوها فإنها منتنة» .
وفي رواية للبخاري: «فإنها خبيثة» وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده مختصرًا.
قال النووي كسع بسين مخففة أي ضرب دبره وعجيزته بيد أو رجل أو سيف وغيره، وقال ابن حجر العسقلاني المشهور فيه أنه ضرب الدبر باليد أو بالرجل.
قال ووقع عند الطبراني من وجه آخر عن عمرو بن دينار عن جابر رضي الله عنه أن رجلا من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار برجله وذلك عند أهل اليمن شديد. وقوله: يا للأنصار بفتح اللام وهي للاستغاثة أي أغيثوني وكذا قول الآخر يا للمهاجرين. وقوله دعوها فإنها منتنة أي دعوة الجاهلية وأبعد من قال المراد الكسعة. ومنتنة بضم الميم وسكون النون وكسر المثناة من النتن أي أنها كلمة قبيحة خبيثة.
قلت: ونظير هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلا من نتن ما جاء به» ، رواه الترمذي وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن جيد غريب.
ونظيره أيضا ما رواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح منتنة فقال: «أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين» .
وفي حديث جابر رضي الله عنه الذي تقدم ذكره دليل على أن
الدعوة إلى القومية العربية دعوة منتنة خبيثة؛ لأنها من دعوى الجاهلية.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذان الاسمان المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل وفي هذا، وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار ولا من المكروه أو المحرم كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى ثم مع هذا لما دعا كل منهما طائفته منتصرًا، بها أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له إن الداعي بهما إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم ليبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المحذور من ذلك إنما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقًا فعل أهل الجاهلية. فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسن واجب أو مستحب - إلى أن قال- فإذا كان هذا التداعي في هذه الأسماء وفي هذا الانتساب الذي يحبه الله ورسوله فكيف بالتعصب مطلقًا والتداعي للنسب والإضافة التي هي إما مباحة أو مكروهة؟
إلى أن قال: فقد دلت الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه والنهي عنه وذلك يقتضي المنع من كل أمور الجاهلية مطلقًا، انتهى.
وفي الصحيحين والمسند والسنن إلا أبا داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية» .
وروى الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم» قيل: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟! قال: «وإن صام وصلى تداعوا بدعوى الله الذي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله» ، هذا لفظ أبي داود الطيالسي وفي رواية أحمد:«وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث.
قلت: وقال الحاكم في مستدركه الحارث الأشعري صحابي معروف سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول: سمعت الدوري يقول: سمعت يحيى ابن معين يقول: الحارث الأشعري له صحبة قال الحاكم: وهذا حديث صحيح، وقال في موضع آخر قد أخرج الشيخان برواة هذا الحديث عن آخرهم والحديث على شرط الأئمة صحيح محفوظ. وأقره الذهبي في تلخيصه. وقال الحاكم في موضع آخر على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى أبو يعلى والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ومن دعا دعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم» قالوا: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟! قال: «وإن صام وصلى» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بأن في إسناده عبيس بن ميمون وقد ضعفوه قال: والخبر منكر. قلت: والحديث قبله يشهد له ويقويه.
قال ابن الأثير وابن منظور في لسان العرب الجثا جمع جثوة بالضم وهو الشيء المجموع انتهى.
وفي هذا الحديث والذي قبله أبلغ تحذير من الدعوة إلى القومية العربية وغيرها من دعوى الجاهلية.
وروى الإمام أحمد والبغوي في شرح السنة عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا» .
وقد رواه البخاري في الأدب المفرد فقال: حدثنا عثمان المؤذن قال: حدثنا عوف عن الحسن عن عتي بن ضمرة قال: رأيت عند أبي رضي الله عنه رجلاً تعزى بعزاء الجاهلية فأعضه أبي ولم يكنه فنظر إليه أصحابه قال: كأنكم أنكرتموه فقال: إني لا أهاب في هذا أحدًا أبدًا إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوه» إسناده صحيح.
ثم رواه أيضا عن عثمان قال: حدثنا المبارك - يعني ابن حسان السلمي- عن حسن عن عتي مثله، وهذا إسناد جيد.
قال ابن الأثير وابن منظور في لسان العرب: العزاء والعزوة اسم لدعوى المستغيث وهو أن يقول: يا فلان أو يا للأنصار ويا للمهاجرين. ومنه الحديث الآخر من لم يتعز بعزاء الله فليس منا أي من لم يدع بدعوى الإسلام فيقول: يا للإسلام أو يا للمسلمين أو يا ألله، ومنه حديث عمر:«ستكون للعرب دعوى قبائل فإذا كان كذلك فالسيف السيف حتى يقولوا: يا للمسلمين» انتهى.
والهن كناية عن الفرج قال ابن الأثير وابن منظور، وفي الحديث: «من
تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا». أي قولوا له عض أير أبيك انتهى، وفي هذا الحديث أبلغ ذم وتنفير من التداعي بدعوى الجاهلية والتعزي بعزائها.
ومن ذلك الدعوة إلى القومية العربية وغيرها من القوميات والعصبيات، فمن دعا إلى شيء من ذلك فينبغي أن يقال له اعضض أير أبيك، ولا كرامة له ولا نعمة عين.
وقد روى أبو داود في سننه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل عصبية وليس منا من مات على عصبية» .
وروى أبو داود الطيالسي ومسلم والنسائي عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية» .
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتله جاهلية» هذا لفظ مسلم، ولفظ النسائي «ومن قاتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو يغضب لعصبية فقتل فقتلة جاهلية» ، وفي رواية لمسلم:«ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي» .
قوله تحت راية عمية. قال ابن الأثير قيل هو فعيلة من العماء الضلالة كالقتال في العصبية والأهواء، وحكى بعضهم فيها ضم العين. وقال النووي هي بضم العين، وكسرها لغتان مشهورتان والميم مكسورة
مشددة والياء مشددة أيضًا قالوا: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور قال إسحاق بن راهويه هذا كتقاتل القوم للعصبية.
قلت: وكذا قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه الذي يقاتل تعصبًا لقومه أو أهل بلده ونحو ذلك. قال: وسمّى الراية عمياء لأنه أمر الأعمى الذي لا يدري وجهه فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علم بجواز قتال هذا وجعل قتلة المقتول قتلة جاهلية سواء غضب بقلبه أو دعا بلسانه أو ضرب بيده.
وقد فسر ذلك فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل» فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: «الهرج القاتل والمقتول في النار» .
قلت: وهذا الحديث يطابق حال أهل الثورات في زماننا.
قال الشيخ: ثم إنه صلى الله عليه وسلم سمى الميتة والقتلة ميتة جاهلية وقتلة جاهلية على وجه الذم لها والنهي عنها، وإلا لم يكن قد زجر عن ذلك فعلم أنه كان قد تقرر عند أصحابه أن ما أضيف إلى الجاهلية من ميتة وقتلة ونحو ذلك فهو مذموم منهي عنه وذلك يقتضي ذم كل ما كان من أمور الجاهلية وهو المطلوب انتهى.
قال السندي في حاشيته على سنن النسائي وفيه أن من قاتل تعصبًا لا لإظهار دين ولا لإعلاء كلمة الله كان على الباطل انتهى. والعصبية والتعصب المحاماة والمدافعة قاله ابن الأثير وابن منظور.
قال ابن منظور: والعصبية أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين.
قلت: وهذا هو غاية المقصود من القومية العربية، فإنها دعوة إلى نصرة العرب بعضهم بعضًا وتألبهم على غيرهم من أجناس بني آدم مسلمين كانوا أو غير مسلمين.
وقد روى أبو داود في سننه عن بنت واثلة بن الأسقع أنها سمعت أباها رضي الله عنه يقول: قلت: يا رسول الله ما العصبية؟ قال: «أن تعين قومك على الظلم» .
ورواه البخاري في الأدب المفرد بنحوه ورواه ابن ماجه ولفظه قالت: سمعت أبي يقول سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: «لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم» .
ولا يخفى على ذي علم ما تشتمل عليه القومية العربية من الظلم العظيم وهو التفريق بين أجناس المسلمين من العرب وغير العرب وإيقاع العداوة والبغضاء بينهم وقطع الأخوة الإسلامية التي عقدها الله ورسوله بينهم كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ، وقال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} ، وقال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه في الصحيحين وغيرهما أنه قال: «المسلم أخو المسلم» .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي تقدم في ذم الاشتراكية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن كل مسلم أخو المسلم المسلمون إخوة» .
وتقدم أيضًا حديث حبيب بن خراش العصري وفيه: «المسلمون إخوة» .
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ثم شبك بين أصابعه» .
وفي الصحيحين أيضًا عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» .
وفي رواية لأحمد ومسلم: «المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله» ، والأحاديث في عقد الأخوة بين المسلمين كثيرة وليس هذا موضع ذكرها.
وإذا علم هذا فالدعاء إلى القومية العربية غايته إفساد ذات البين بين المسلمين من العرب وغير العرب، وفساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين كما في الحديث الصحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» قالوا: بلى قال: «صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة» رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد
وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح قال: ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» ، حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد أن مولى للزبير حدثه أن الزبير بن العوام رضي الله عنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم أفشوا السلام بينكم» .
وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن حرب بن شداد به.
ورواه الإمام أحمد من طرق عن يحيى بن أبي كثير به.
ورواه البزار قال المنذري والهيثمي: وإسناده جيد.
وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تسلموا ولا تسلموا حتى تحابوا أفشوا السلام تحابوا وإياكم والبغضة فإنها هي الحالقة لا أقول لكم تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» .
قال ابن الأثير في النهاية، وابن منظور في لسان العرب الحالقة الخصلة التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر.
وكما أن في القومية العربية إفسادَ ذات البين وحلق الدين ففيها أيضًا موالاة الكفار والمنافقين من العرب وموادتهم واتخاذهم بطانة ووليجة وذلك ينافي الإيمان ويوجب سخط الله تعالى وأليم عقابه. وقد قال الله تعالى:
قال البغوي رحمه الله تعالى: أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكفار، وأن من كان مؤمنا لا يوالي من كفر وإن كان من عشيرته.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرًا فمن واد الكفار فليس بمؤمن انتهى. وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَت لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنهُمْ فَاسِقُونَ} .
وهذا إخبار من الله تبارك وتعالى بأن موالاة الكفار تنافي الإيمان بالله ورسوله وكتابه وتوجب سخط الله تعالى وأليم عقابه وفي هذا أبلغ زجر وتحذير عن موالاتهم وموادتهم.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: بين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. انتهى. والآيات في الزجر عن موالاة أعداء الله تعالى كثيرة وليس هذا موضع ذكرها.
وإنما المقصود ههنا التنبيه على أن القومية العربية تشتمل على مفاسد كثيرة ومن أعظمها شرًا فساد ذات البين وموالاة الكفار والمنافقين.
وإذا كانت القومية العربية تشتمل على هذين الأمرين الذميمين مع
كونها من دعوى الجاهلية فأي خير يرجى منها وإنما هي شر محض فيجب البعد عنها والتحذير منها.
وقد استوفى الرد على شبه القوميين أخونا وصاحبنا العلامة المحقق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في رسالته التي سماها: «نقد القومية العربية» ، فجزاه الله تعالى خير الجزاء ووفقنا وإياه لنصر الحق وقمع الباطل.
فصل
النوع الخامس: من مشابهة أعداء الله تعالى ما ابتلي به الأكثرون من اتخاذ أعياد زمانية ومكانية كلها مبتدعة. فأما الزمانية فكثيرة.
منها يوم المولد النبوي وليلة المعراج وليلة النصف من شعبان.
ومنها ما يجعل لميلاد صالح أو من يظن صلاحه.
ومنها ما يجعل لولاية بعض الملوك ويسمى عيد الجلوس وهو مأخوذ من عيد النيروز عند العجم.
قال الشيخ محمد السفاريني: قال أصحاب الأوائل أول من اتخذ النوروز حمشيد الملك، وفي زمانه بعث هود على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكان الدين قد تغير ولما ملك حمشيد جدَّد الدين وأظهر العدل فسمي اليوم الذي جلس فيه على سرير الملك نيروزا.
قال مرتضى الحسيني في تاج العروس: النيروز اسم أول يوم من السنة عند الفرس عند نزول الشمس أول الحمل وعند القبط أول توت كما في المصباح، معرب نوروز أي اليوم الجديد. انتهى.
ومنها ما يجعل لثورة المنازعين للملوك وانتصار بعضهم على بعض وهو مأخوذ من عيد المهرجان عند العجم.
قال الشيخ محمد السفاريني أول من اتخذه أفريدون لما ظهر على الضحاك العلواني وكان الضحاك ظالمًا كثير الحيل صاحب مكر وخداع فسمي اليوم الذي ظهر فيه أفريدون وغلب على الضحاك المهرجان. والمهر الوفاء وجان السلطان معناه سلطان الوفاء. انتهى.
ومن الأعياد المبتدعة أيضا عيد الجلاء عند الجمهورية المصرية وهو شبيه بعيد المهرجان عند العجم.
إلى غير ذلك من الأعياد المبتدعة لأيام السرور والأفراح مما لم يأذن به الله.
وأما المكانية فهي ما أحدثه الهمج الرعاع من الاجتماعات عند القبور واعتياد المجيء إليها، إما مطلقًا وإما في أوقات مخصوصة ولا سيما ما يفعله عند القبر المنسوب إلى البدوي بمصر. وعند القبر المنسوب إلى الحسين بكربلاء. وعند قبر الشيخ عبد القادر الجيلاني ببغداد، فكل واحد من هذه القبور الثلاثة قد جعله أشباه الأنعام عيدًا لهم يضاهئون به ما شرعه الله للحنفاء من الاجتماع عند الكعبة وفي عرفات ومزدلفة ومنى في أيام الحج، ويقصد كل واحد من هذه الأوثان الثلاثة ويجتمع عنده من الزوار نحو ما يجتمع في مشاعر الحج.
والقبور التي قد افتتن بها الضُّلَاّل واتخذوها أعيادًا أكثر من أن تحصر ولا حاجة إلى ذكرها وتعدادها إذ لا فائدة في ذلك.
وإنما المقصود ههنا التحذير من مشابهة المشركين في أعيادهم الزمانية والمكانية.
ومنها الاجتماع عند القبور واتخاذها أعيادًا وقصدها بالسفر وشد الرحال.
ومن هذا الباب ما يفعله الفئام من الناس من شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم واتخاذه عيدًا يعتادون المجيء إليه والاجتماع عنده في كثير من الأوقات ولا سيما في أيام الحج حتى إن كثيرًا من الجهال يرون أنه لا يتم لأحدهم الحج إلا بزيارة قبر الشريف قبل الحج أو بعده ويتعلقون في ذلك بأحاديث واهية لا تقوم بشيء منها حجة ويعدلون عن النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن اتخاذ قبره عيدًا كما في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ولا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» صححه النووي.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به قال يحيى بن معين هو ثقة وحسبك بابن معين موثقًا، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم الرازي ليس بالحافظ هو لين تعرف وتنكر.
قال الشيخ ومثل هذا يخاف أن يغلط أحيانًا فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ وهذا له شواهد متعددة.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: إسناده حسن ورواته كلهم ثقات مشاهير. وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي: هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة.
قلت: ومن شواهده التي ذكرها شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره ما رواه سعيد بن منصور في سننه حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم قبورًا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» .
وقال سعيد أيضًا: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء؟ فقلت: لا أريده فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم عليه ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم قبورًا لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ورواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر هذه الزيادة وهي قوله: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.
قلت: ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن ابن عجلان عن سهيل عن الحسن بن الحسن بن علي قال: رأى قومًا عند القبر فنهاهم وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» .
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: فهذا فيه أنه
أمره أن يسلم عند دخوله المسجد وهو السلام المشروع الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجماعة من السلف كانوا يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد وهذا مشروع في كل مسجد.
وقال الشيخ في موضع آخر: هذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسندًا؟ انتهى.
وروى ابن أبي شيبة والبخاري في التاريخ الكبير وأبو يعلى الموصلي في مسنده عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» . ورواه الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسي في كتابه المختارة، وهو ما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي ونحوهما، فإن الغلط في هذا قليل، ليس هو مثل تصحيح الحاكم.
قال الشيخ: فهذا علي بن الحسين زين العابدين وهو من أجل التابعين علمًا ودينًا حتى قال الزهري: ما رأيت هاشميًّا مثله وهو يذكر هذا الحديث بإسناده، ولفظه: «لا تتخذوا بيتي عيدًا فإن تسليمكم يبلغني أينما
كنتم»، وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند بيته كما لا مزية للصلاة عليه عند بيته بل قد نهى عن تخصيص بيته بهذا وهذا.
وقال الشيخ في موضع آخر: انظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط؟ انتهى.
وفي الصحيحين والمسند والسنن إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى» هذا لفظ البخاري. وفي رواية لمسلم: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ومسجد ومسجد إيلياء» .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري قوله: «لا تشد الرحال» بضم أوله بلفظ: النفي والمراد النهي عن السفر إلى غيرها.
قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به وكنى بشد الرحال عن السفر لأنه لازمه وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور. ويدل عليه قوله في بعض طرقه إنما يسافر. انتهى.
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي» هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» .
ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام وإلى المسجد الأقصى وإلى مسجدي هذا» .
وروى الطبراني في الصغير عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» .
وفي الموطأ وسنن النسائي عن بصرة بن أبي بصرة رضي الله عنه أنه قال لأبي هريرة رضي الله عنه، وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي والمسجد الأقصى» ، وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده والبخاري في التاريخ الكبير من حديث أبي بصرة رضي الله عنه، بنحوه.
وروى الإمام أحمد وغيره عن قزعة قال: أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فقلت: إني أريد الطور فقال: «لا، إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجد المدينة والمسجد الأقصى فدع عنك الطور فلا تأته» .
فتحصل من ألفاظ هذه الأحاديث ثلاث صيغ النفي والنهي والحصر وكل واحد من هذه الصيغ تفيد أنه لا يجوز السفر إلى زيارة شيء
من القبور ولا المساجد والأماكن المعظمة سوى المساجد الثلاثة وباجتماع هذه الصيغ الثلاثة يزداد المنع شدة والله أعلم.
وقد أبى الجاهلون والغالون في القبور إلا أن يرتكبوا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بشدهم الرحال إلى قبره واتخاذهم بيته عيدًا يعتادون المجيء إليه والاجتماع عنده ويختلط الرجال بالنساء ويضجون بالأصوات المرتفعة ويسيئون الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} .
فنهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن الجهر لرسوله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض وأخبرهم أن ذلك من أسباب حبوط الأعمال الصالحة؛ لأنه خلاف ما أمر الله به من توقيره واحترامه وحسن الأدب معه ثم أثنى تبارك وتعالى على الذين يوقرون رسوله صلى الله عليه وسلم ويستعملون أحسن الآداب معه ووعدهم على ذلك المغفرة والأجر العظيم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} .
وكما أنه لا يجوز الضجيج ورفع الأصوات عند النبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته فكذلك لا يجوز شيء من ذلك حول قبره لأن حرمته ميتا كحرمته حيا صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
وقد روى البخاري في صحيحه عن السائب بن يزيد قال: كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما قال: من أنتما -أو من أين أنتما-؟
قالا: من أهل الطائف قال: «لو كنتم من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
وروى النسائي بإسناد صحيح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال سمع عمر رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال: «أتدري أين أنت؟» .
فدل هذا الحديث والذي قبله على أن رفع الأصوات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنكرات التي يجب تغييرها. وجاء في حديث ضعيف أن ذلك عام في جميع المساجد فرواه ابن ماجه في سننه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع» ، وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا فلبعضه شواهد في الصحيحين وغيرهما تقويه.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الكلام على حديث عمر رضي الله عنه: قوله لو كنتما يدل على أنه كان تقدم نهيه عن ذلك. وفيه المعذرة لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله، قوله: لأوجعتكما. زاد الإسماعيلي جلدًا ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع لأن عمر رضي الله عنه لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي انتهى.
وإذا كان هذا قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لرجلين رفعا أصواتهما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يقال في جهال أهل هذه الأزمان
وغوغائهم الذين يفعلون هذا المنكر كثيرًا في غالب الأوقات ويضمون معه منكرات أخر.
منها إساءة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة الضجيج حول قبره ورفع الأصوات عنده.
ومنها مخالفة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإنهم لم يكونوا يشدون الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يجتمعون حول قبره للسلام عليه فضلا عن الضجيج عنده ورفع الأصوات ولو كان ذلك خيرًا لسبقوا إليه ولكانوا أحرص عليه من غيرهم.
وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: الأفضل للناس اتباع السلف الصالح في كل شيء انتهى. وما أحسن قول الراجز:
وكل خير في اتباع من سلف
…
وكل شر في ابتداع من خَلَف
وقد جاء في وصف الفرقة الناجية من هذه الأمة أنهم من كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم رواه الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وحسنه.
وروى الإمام أحمد في الزهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «عليكم بالسمت الأول» .
وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة عنه رضي الله عنه أنه قال: «إنكم اليوم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول» .
وروى الإمام أحمد ومحمد بن نصر المروزي عنه رضي الله عنه أنه قال: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة» .
وروى أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «من كان مستنًا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوبًا وأعمقها علمًا واقلها تكلفًا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة» ، وقد روى رزين نحو هذا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ومنها اختلاط الرجال بالنساء وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: «إن اجتماع الرجال والنساء لبدعة» رواه الخلال، واختلاط الرجال بالنساء مما يثير الشهوة ويدعو إلى الفتنة والفساد.
ولقد ذكر لنا أن بعض السفهاء هناك يغامزون النساء وربما وقع من بعضهم ما هو أعظم من ذلك وأطم وهو الشرك الأكبر ووسائله.
وقد حدثني بعض الثقات أن خدام المسجد النبوي إذا كانت ليلة الجمعة أخرجوا ما يلقيه الغوغاء داخل الشباك الذي حول الحجرة من أواني الطيب والكتب الكثيرة، قال: وقد عرض علي بعض الكتب التي تلقى هناك فإذا هي مشتملة على الشرك الأكبر.
فبعضهم يسأل المغفرة والرحمة من النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم يسأل منه أن يهب له الأولاد.
وبعضهم يطلب منه تيسير النكاح إذا تعسر عليه.
إلى غير ذلك من الأمور التي كانوا يفزعون فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
وينسون الرب الواحد الأحد الصمد المالك المتصرف في خلقه بما يشاء وله الحكمة التامة والحجة البالغة لا معقب لحكمه ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسئلون، وقد قال تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ، وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى.
وقد عكس المشركون هذا الأمر فزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يملك لهم الضر والرشد والإعطاء والمنع، وهذا عين المحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأمور الشركية التي تفعل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعند غيره من قبور الصالحين أو من يظن صلاحه هي من ثمرات الغلو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته كما في المسند وسنني النسائي وابن ماجه ومستدرك الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» هذا لفظ ابن ماجه وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
ومنها التشويش على من حولهم في المسجد من المصلين والتالين للقرآن.
وقد روى مالك في الموطأ عن أبي حازم التمار عن البياضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: «إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» .
وروى أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر، وقال:«ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة -أو قال في الصلاة-» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال ابن عبد البر حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان.
وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف وخطب الناس فقال: «أما إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنه يناجي ربه فليعلم أحدكم ما يناجي ربه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة في الصلاة» .
وإذا كان المصلي منفردًا ومثله التالي للقرآن في غير صلاة منهيًا عن الجهر الذي يحصل منه تشويش على من حوله من المصلين والتالين للقرآن فنهي أهل الاجتماعات المحدثة والضجيج المنكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحول قبره يكون بطريق الأولى والله أعلم.
ومنها اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا ومخالفة نهيه عن ذلك، وقد قال الله تعالى:{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصبيهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} .
ومنها زيارة النساء للقبر الشريف وقبري أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وذلك لا يجوز لهن لما رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت رضي الله عنهم.
قلت: أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فرواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأهل السنن أنه رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» . قال الترمذي: حديث حسن وصححه ابن حبان والحاكم.
وأما حديث حسان بن ثابت رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد والبخاري في التاريخ الكبير وابن ماجه والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حسان عن أبيه رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور» قال في الزوائد: إسناد حديث حسان بن ثابت صحيح ورجاله ثقات.
وهذه الأحاديث دالة على أن زيارة القبور حرام على النساء بل كبيرة من الكبائر؛ لأن اللعن لا يكون إلا عن كبيرة. سواء في ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر غيره ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ينافي هذه الأحاديث أو يخصصها فوجب منع النساء من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومن زيارة غيره من سائر القبور والله أعلم.
والمنكرات التي تكون في كثير من الاجتماعات المحدثة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما ذكرته.
والله المسئول أن ينصر دنيه ويعلي كلمته وأن يوفق ولاة أمور المسلمين لإنكار المنكرات والأخذ على أيدي السفهاء والسير فيهم بسيرة الخليفة الراشد العادل الذي وضع الله الحق على لسانه وقلبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والبخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه، وللترمذي والحاكم أيضًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم وقال: ليس له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية للحاكم: «عليكم بما تعرفون من سنة نبيكم والخلفاء الراشدين المهديين وعضوا على نواجذكم بالحق» . قال الحاكم: صحيح على شرطهما جميعًا ولا أعرف له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال الخطابي في قوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» فيه دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولاً وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى انتهى.
وهذه الاجتماعات عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من محدثات الأمور التي لم تكن في صدر الإسلام فلا ريب أنها داخلة فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته.
وكذلك شد الرحال لأجل القبر هو من محدثات الأمور التي لم تكن في صدر الإسلام.
وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يأتي المدينة لزيارة قبور أهل البقيع أو الشهداء أو غيرهم لم يوف بنذره، ومالك والأكثرون قالوا: لا يجوز أن يوفي بنذره فإنه معصية، ولو نذر السفر إلى نفس المسجد للصلاة فيه لم يحرم عليه الوفاء بالإجماع بل يستحب الوفاء وقيل: يجب على قولين للشافعي والوجوب مذهب مالك، وأحمد، ونفي الوجوب مذهب أبي حنيفة.
فظهر أن أقوال أئمة المسلمين موافقة لما دلت عليه السنة من الفرق بين السفر إلى المدينة لأجل مسجد الرسول والصلاة فيه والسفر إليها لغير مسجده كالسفر لأجل مسجد قباء أو لزيارة القبور التي فيها. قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وقبور من فيها من السابقين الأولين وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين.
ونقل الشيخ أيضا ما ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه المبسوط أنه روي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان أراد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء:«لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» .
وذكر الشيخ أيضًا عن أبي عبد الله بن بطة وأبي الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرين من المتقدمين أنهم قالوا: إن شد الرحال والسفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين.
فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع
المسلمين، وذكر ذلك أبو عبد الله أحمد بن حنبل من البدع المخالفة للسنة والإجماع.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: وما ذكر من الأحاديث في زيارة قبور الأنبياء فضعيفة بالاتفاق بل مالك أمام المدينة كره أن يقول الرجل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا علي حيثما كنتم» انتهى.
فالواجب على المسلمين عامة وعلى علمائهم وولاة أمورهم خاصة إنكار المنكرات التي تفعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند قبره والإنكار على من يشد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من القبور والمساجد والأماكن المعظمة سوى المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وإنكار غير ذلك من المنكرات الظاهرة بين المسلمين.
وكل أحد ينكر على حسب قدرته كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» ، رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» .
فصل
إذا علم ما ذكرنا فأعياد المسلمين الزمانية منحصرة في سبعة أيام: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة، وأيام التشريق، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: «ما هذان اليومان» ؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قد أبدلكم بهما خيرًا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى أبو داود أيضًا والترمذي والحاكم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب» ، قال الترمذي: حديث صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في "تلخيصه".
وروى مالك في الموطأ والشافعي في مسنده من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع: «يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيدًا فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك» ، هكذا رواه مالك والشافعي مرسلاً.
وقد رواه ابن ماجه والطبراني من حديث صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عبيد بن السباق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره بنحوه.
وروى الطبراني أيضًا من طريق مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع: «معاشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله لكم عيدًا فاغتسلوا وعليكم بالسواك» .
وروى الإمام أحمد في مسنده والبخاري في الكنى والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده» ، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وروى الإمام أحمد أيضًا وأبو داود الطيالسي وأهل السنن إلا الترمذي عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم. قال: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم واحد قال: نعم. قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال: «من شاء أن يصلي فليصل» ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون» ، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه.
ولابن ماجه أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مثله، وله أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اجتمع عيدان على عهد رسول الله
- صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ثم قال: «من شاء أن يأتي الجمعة فليأتها ومن شاء أن يتخلف فليتخلف» .
وروى الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: اجتمع عيدان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من أحب أن يجلس من أهل العالية فليجلس في غير حرج» .
وروى مالك في الموطأ والشافعي في مسنده من طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء فصلى ثم انصرف فخطب وقال: «إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظر ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له» .
وفي سنن النسائي ومستدرك الحاكم عن وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصلى ولم يصل بالناس يوم الجمعة فذكر ذلك لابن عباس رضي الله عنهما، فقال: أصاب السنة، زاد الحاكم فبلغ ابن الزبير فقال: رأيت عمر بن الخطاب إذا اجتمع عيدان صنع مثل هذا. قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه، ورواه أبو داود في سننه من حديث عطاء بن أبي رباح بنحوه.
وفي رواية له عن عطاء قال اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما جميعًا فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر.
وروى ابن جرير في تفسيره والطبراني في الأوسط عن قبيصة عن ذؤيب قال: قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدًا يجتمعون فيه فقال عمر رضي الله عنه: أي آية يا كعب؟ فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فقال عمر رضي الله عنه: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه يوم الجمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ.
وروى الترمذي في جامعه وابن جرير في تفسيره عن عمار بن أبي عمار قال: قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} ، وعنده يهودي فقال: لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا فقال ابن عباس رضي الله عنهما فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم الجمعة ويوم عرفة قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
والغرض من سياق حديث عبيد بن السباق وما بعده الدلالة على أن يوم الجمعة عيد من أعياد المسلمين.
وأما الأعياد المكانية للمسلمين فهي منحصرة في مواضع الحج ومشاعره المعظمة. فالكعبة والمسجد الحرام عيد للمسلمين، والصفا والمروة وموضع السعي بينهما عيد للحجاج والمعتمرين. وعرفات ومزدلفة ومنى أعياد للحاج في أيام الحج، فمن اتخذ عيدًا مكانيًا سوى هذه الأمكنة أو عيدًا زمانيًا سوى السبعة الأيام التي تقدم ذكرها فقد ابتدع في الدين وتشبه باليهود والنصارى والمشركين، ومن تشبه بقوم فهو منهم وما أكثر المتشبهين بهم في اتخاذ الأعياد المبتدعة من زمانية ومكانية والله المستعان.
فصل
النوع السادس: من المشابهة وهو من أقبحها ما ابتلي به كثير من المسلمين من حلق اللحى تقليدًا لطوائف الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى، ومن الجهال من ينتفها، ومنهم من يقصها، ومنهم من يحلق العارضين ويقص الذقن.
وكل ذلك مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي الأنبياء قبله وما كان عليه الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
وقد ورد الوعيد الشديد على هذه الأفعال الذميمة فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاق» رواه الطبراني.
قال أهل اللغة مثل بالشعر صيره مثلة بأن حلقه من الخدود أو نتفه أو غيّره بالسواد.
وحلق اللحى وقصها من سنن الأكاسرة كما روى ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب ما ملخصه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام فكتب كسرى إلى باذام وهو نائبه على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به فبعث باذام قهرمانه وبعث معه رجلا من الفرس فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره النظر إليهما وقال: «ويلكما من أمركما بهذا؟» قال: أمرنا ربنا يعنيان كسرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي» .
وروى البيهقي وغيره من طريق ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: «إنهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم» السبال جمع سبلة بالتحريك وهو الشارب.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس» .
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب» ، هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: «خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى» .
وقد جاء في حديث مرسل أن قص اللحى من أعمال قوم لوط.
فروى ابن عساكر في تاريخه عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة - ذكر الخصال ومنها: قص اللحية وطول الشارب» .
إذا علم هذا فمن مثل بلحيته بحلق أو نتف أو قص فقد تشبه بأعداء الله تعالى من المجوس وقوم لوط وطوائف الإفرنج وأشباههم، ومن تشبه بقوم فهو منهم. والكلام في التمثيل باللحى مبسوط في كتابي المسمى:«دلائل الأثر على تحريم التمثيل بالشعر» ، فليراجع هناك.
فصل
النوع السابع: من التشبه بأعداء الله تعالى إعفاء الشوارب وما أكثر الواقعين في هذه المشابهة القبيحة.
وقد تقدم أن ذلك من سنن الأكاسرة وقومهم المجوس ومن أعمال قوم لوط.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» .
وفي المسند وجامع الترمذي وسنن النسائي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يأخذ شاربه فليس منا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضا الحافظ الضياء المقدسي وأخرجه في المختارة. وفي هذا الحديث أبلغ تحذير من توفير الشوارب والكلام فيما يتعلق بالشوارب مبسوط في كتابي المسمى بـ «دلائل الأثر» .
فصل
النوع الثامن: من التشبه بأعداء الله تعالى ترك الشيب في الرأس واللحية أبيض ناصعًا لا يغير ذلك وذلك من فعل اليهود والنصارى.
وفي الصحيحين والمسند والسنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» هذا لفظهم سوى الترمذي.
ولفظ الترمذي: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود» ثم قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وفي رواية للإمام أحمد: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى» ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ.
وفي رواية للنسائي: «أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوا عليهم فأصبغوا» .
وروى الإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: «يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب» . قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. قال: وأخرج الطبراني في الأوسط نحوه من حديث أنس رضي الله عنه.
قال: وفي الكبير من حديث عتبة بن عبد رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشعر مخالفة للأعاجم» .
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: قد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة، ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة، قال ابن حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب ولا يتشبه بأهل الكتاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «غيروا الشيب ولا تشبهوا بأهل الكتاب» ، وقال إسحاق بن إبراهيم: سمعت أبا عبد الله يقول لأبي: يا أبا هاشم اختضب، ولو مرة واحدة فأحب لك أن تختضب ولا تشبه باليهود انتهى.
وقد دل حديث أبي أمامة رضي الله عنه على أن تغيير الشيب يكون بالحمرة أو بالصفرة، ويكون أيضًا بالحناء والكتم لما في المسند والسنن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضًا ابن حبان.
وفي رواية للنسائي: «أفضل ما غيرتم به الشمط الحناء والكتم» .
قال النووي: الكتم بفتح الكاف والتاء المثناة من فوق المخففة هذا هو المشهور وهو نبات يصبغ به الشعر يكون بياضه أو حمرته إلى
الدهمة. وقال ابن حجر العسقلاني: الكتم نبات باليمن يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة وصبغ الحناء أحمر فالصبغ بهما معًا يخرج بين السواد والحمرة انتهى.
وفي سنني أبي داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب بالحناء فقال: «ما أحسن هذا» ! قال: فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم. فقال: «هذا أحسن من هذا» ، قال: فمر آخر قد خضب بالصفرة فقال: «هذا أحسن من هذا كله» ، والكلام في هذا وفيما يتعلق بالصبغ بالسواد مبسوط في كتابي المسمى بـ «دلائل الأثر» فليراجع هناك.
فصل
النوع التاسع: من التشبه بأعداء الله تعالى تقزيع شعر الرأس بحلق جوانبه أو قفاه أو مواضع منه وهو من فعل اليهود والنصارى والمجوس، وكثير من السفهاء في زماننا يجزون شعر الرأس ويتركون في مقدمه قنزعة تشبه عرف الديك، وقد قيل إن هذا من فعل اليهود في زماننا وليس ذلك ببعيد وبالجملة فهذا الفعل القبيح من التمثيل بالشعر وفيه تشويه للخلق.
وقد روى أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى غلامًا له قرنان أو قصتان فقال: احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود.
وفي مسند الإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد قالت: رأى ابن
عمر رضي الله عنهما صبيًا في رأسه قنازع فقال: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق الصبيان القزع.
وروى الإمام أحمد أيضًا والشيخان وأهل السنن إلا الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع» . والقزع أن يحلق رأس الصبي فيترك بعض شعره.
وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيا قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم عن ذلك، وقال:«احلقوه كله أو اتركوه كله» .
قال النووي: أجمع العلماء على كراهة القزع قال العلماء والحكمة في كراهته أنه تشويه للخلق، وقيل: لأنه زي اليهود انتهى.
وروى الطبراني وغيره عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «حلق القفا من غير حجامة مجوسية» ، قال المروذي: سألت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا قال: هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم. قال: وكان أبو عبد الله لا يحلق قفاه إلا في وقت الحجامة.
وقال المروذي أيضًا قلت لأبي عبد الله يكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه قال: أما أنا فلا أحلق قفاي وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة فيه كراهية قال: إن حلق القفا من فعل المجوس ورخص في وقت الحجامة.
قال: وسمعت مثنى الأنباري يقول: سألت أبا عبد الله عن حلق القفا قال: لا إلا أن يكون في وقت الحجامة.
وذكر الخلال بإسناده عن الهيثم بن حميد قال: حف القفا من شكل المجوس، وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه قيل له: لم؟ قال: كان يكره أن يتشبه بالعجم.
ومن أقبح القزع ما يفعله كثير من السفهاء في زماننا من حف جوانب الرأس ومعالجة باقيه بالدهن والمشط حتى يصير على شكل ما يفعله كثير من أمم الكفر والضلال في زماننا وما أكثر المتشبهين بهم في هذا الزي القبيح، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من تشبه بقوم فهو منهم» ، وقد تقدم هذا الحديث في أول الكتاب فليراجع.
فصل
النوع العاشر: من التشبه بأعداء الله تعالى لبس البرنيطة التي هي من لباس الإفرنج ومن شابههم من أمم الكفر والضلال وتسمى أيضًا القبعة، وقد افتتن بلبسها كثير من المنتسبين إلى الإسلام في كثير من الأقطار الإسلامية ولا سيما البلدان التي فشت فيها الحرية الإفرنجية وانطمست فيها أنوار الشريعة المحمدية.
ومن ذلك أيضا الاقتصار على لبس السترة والبنطلون. فالسترة قميص صغير يبلغ أسفله إلى حد السرة أو يزيد عن ذلك قليلا وهو من ملابس الإفرنج، والبنطلون اسم للسراويل الإفرنجية، وقد عظمت البلوى بهذه المشابهة الذميمة في أكثر الأقطار الإسلامية.
ومن جمع بين هذا اللباس وبين لبس البرنيطة فوق رأسه فلا فرق
بينه وبين رجال الإفرنج في الشكل الظاهر، وإذا ضم على ذلك حلق اللحية كان أتم للمشابهة الظاهرة. ومن تشبه بقوم فهو منهم كما تقدم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وتقدم أيضًا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ليس منا من تشبه بغيرنا» .
وتقدم أيضًا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في الزهد عن عقيل بن مدرك قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لقومك: «لا يأكلوا طعام أعدائي ولا يشربوا شراب أعدائي ولا يتشكلوا شكل أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي» .
وتقدم أيضًا ما رواه أبو نعيم في الحلية عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لقومك: «لا تدخلوا مداخل أعدائي ولا تطعموا مطاعم أعدائي ولا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تركبوا مراكب أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي» .
فإن ادعى المتشبهون بأعداء الله تعالى أنهم إنما يلبسون البرنيطات لتكون وقاية لرءوسهم من حر الشمس ويلبسون البنطلونات والقمص القصار لمباشرة الأعمال.
قيل: هذه الدعوى حيلة على استحلال التشبه المحرم والحيل لا تبيح المحرمات، ومن استحل المحرمات بالحيل فقد تشبه باليهود كما في الحديث الذي رواه ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» ، والدليل على تحريم التشبه بأعداء الله تعالى ما تقدم من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
وقد ورد الأمر بمخالفة أهل الكتاب في لباسهم والأمر للوجوب وترك الواجب معصية فروى الإمام أحمد بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار -فذكر الحديث وفيه-: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يتزرون فقال: «تسرولوا واتزروا وخالفوا أهل الكتاب» .
وروى الإمام أحمد أيضًا وأبو داود الطيالسي ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» .
وفي رواية لمسلم قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين فقال: «أأمك أمرتك بهذا؟» قلت: أغسلهما؟ قال: «بل احرقهما» .
وفي رواية للنسائي عنه رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه ثوبان معصفران فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:«اذهب فاطرحهما عنك» قال: أين يا رسول الله؟ قال: «في النار» .
وهذا الحديث الصحيح صريح في تحريم ثياب الكفار على المسلمين وفيه دليل على المنع من لبس البرنيطات وغيرها من ملابس أعداء الله تعالى كالاقتصار على لبس البنطلونات والقمص القصار وغير ذلك من زي أعداء الله تعالى وملابسهم لوجود علة النهي فيها
…
وفي غضب النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأمره بطرح ثوبيه في النار أبلغ زجر عن مشابهة الكفار في زيهم ولباسهم. وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «أأمك أمرتك بهذا؟» أبلغ ذم وتنفير من التشبه بأعداء الله تعالى والتزيي بزيهم.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى للمسلمين مندوحة عن مزاحمة أعداء الله تعالى في لباسهم والتشبه بهم فمن أراد وقاية لرأسه ففي لباس المسلمين ما يكفيه. ومن أراد ثيابًا للأعمال فكذلك. ومن أراد ثياباً للزينة والجمال فكذلك، ومن رغب عن زي المسلمين ولم يتسع له ما اتسع لهم من الملابس المباحة فلا وسع الله عليه في الدنيا ولا في الآخرة.
قال الشيخ أحمد محمد شاكر في الكلام على حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. هذا الحديث يدل بالنص الصريح على حرمة التشبه بالكفار في اللبس وفي الهيئة والمظهر كالحديث الآخر الصحيح: «ومن تشبه بقوم فهو منهم» .
ولم يختلف أهل العلم منذ الصدر الأول في هذا أعني: في تحريم التشبه بالكفار حتى جئنا في هذه العصور المتأخرة فنبتت في المسلمين نابتة ذليلة مستعبدة هجيراها وديدنها التشبه بالكفار في كل شيء والاستخذاء لهم والاستعباد ثم وجدوا من الملتصقين بالعلم المنتسبين له من يزين لهم أمرهم ويهون عليهم أمر التشبه بالكفار في اللباس والهيئة والمظهر والخلق وكل شيء حتى صرنا في أمة ليس لها من مظهر الإسلام إلا مظهر الصلاة والصيام والحج على ما أدخلوا فيها من بدع بل من ألوان من التشبه بالكفار أيضًا، وأظهر مظهر يريدون أن يضربوه على المسلمين هو غطاء الرأس الذي يسمونه القبعة «البرنيطة» وتعللوا لها بالأعاليل والأباطيل، وأفتاهم بعض الكبراء المنتسبين إلى العلم أن لا بأس بها إذا أريد بها الوقاية من الشمس، وهم يأبون إلا أن يظهروا أنهم لا يريدون بها إلا الوقاية من الإسلام. فيصرح كتابهم ومفكروهم بأن هذا اللباس له أكبر
الأثر في تغيير الرأس الذي تحته ينقله من تفكير عربي ضيق إلى تفكير أفرنجي واسع. ثم أبى الله لهم إلا الخذلان، فتناقضوا ونقضوا ما قالوا من حجة الشمس إذ وجدوا أنهم لم يستطيعوا ضرب هذه الذلة على الأمة فنزعوا غطاء الرأس بمرة تكروا الطربوش وغيره ونسوا أن الشمس ستضرب رءوسهم مباشرة دون واسطة الطربوش ونسوا أنهم دعوا إلى القبعة وأنه لا وقاية لرءوسهم من الشمس إلا بها. ثم كان من بضع سنين أن خرج الجيش الإنجليزي المحتل للبلاد من القاهرة والإسكندرية بمظهره المعروف فما لبثنا أن رأيناهم ألبسوا الجيش المصري والشرطة المصرية قبعات كقبعات الإنجليز فلم تفقد الأمة في العاصمتين وفي داخل البلاد منظر جيش الاحتلال الذي ضرب الذلة على البلاد سبعين سنة فكأنهم لم يصبروا على أن يفقدوا مظهر الذل الذي ألفوه واستساغوه وربوا في أحضانه، وما رأيت مرة هذا المنظر البشع منظر جنودنا في زي أعدائنا وهيئتهم إلا تقززت نفسي وذكرت قول عميرة بن جعل الشاعر الجاهلي يذم قبيلة تغلب:
إذا ارتحلوا عن دار ضيم تعاذلوا
…
عليهم وردوا وفدهم يستقيلها
انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وما ذكره رحمه الله تعالى من تشبه الجيش المصري والشرطة المصرية بالجيش الإنجليزي ليس هو مما انفرد به المصريون بل قد شاركهم فيه كثير من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام فألبسوا جيوشهم وشرطهم مثل لباس الإفرنج ولم يبالوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهذا التشبه القبيح والانحراف عن زي المسلمين والتزيي بزي أعداء الله تعالى كله من آثار بطانة السوء كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمر بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى» ، رواه البخاري والنسائي.
ولهما أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من وال إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالا فمن وقي شرها فقد وقي وهو من التي تغلب عليه منهما» . هذا لفظ النسائي.
وقد رواه الإمام أحمد بنحوه وعنده في آخره: «من وقي شر بطانة السوء فقد وقي - يقولها ثلاثًا - وهو مع الغالبة عليه منهما» .
وقد رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي والحاكم وفيه قصة لأبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى البخاري أيضًا والنسائي عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بعث من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالا فمن وقي بطانة السوء فقد وقي» . هذا لفظ النسائي.
وإذا علم هذا فالواجب على المسلمين كافة أن يبعدوا كل البعد عن مشابهة أعداء الله تعالى والتزيي بزيهم في اللباس وغيره.
ويجب على ولاة الأمور أن ينزعوا لباس الإفرنج عن جيوشهم وشرطهم ويلبسوهم لباس المسلمين. وينبغي لهم أن يحترزوا من شر بطانة السوء ممن يأمرهم بالمنكر ويحضهم عليه ويبعدوهم عنهم غاية البعد، والله المسئول أن يوفق ولاة أمور المسلمين لما فيه الخير والصلاح وأن يأخذ بنواصيهم إلى الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فصل
النوع الحادي عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى تبرج النساء وخروجهن بالزينة إلى الأسواق وإبداء زينتهن للرجال الأجانب، وأقبح من ذلك سفور كثير منهن بين الرجال الأجانب في الأسواق وغير الأسواق. وأقبح من ذلك وأقبح لبس كثير منهن مثل لبس نساء الإفرنج قمصًا قصارًا لا تستر إلا من أعلى العضدين إلى أسفل الفخذين وباقي البدن بارز للناظرين.
وهؤلاء ينطبق عليهن ما رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» .
وما رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف العنوهن فإنهن ملعونات لو كان وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمنكم نساء الأمم قبلكم» .
ورواه الطبراني وعنده في أوله: «سيكون في أمتي رجال يركبون نساءهم على سروج كأشباه الرحال» .
ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه: «سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب مساجدهم نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف العنوهن فإنهن ملعونات لو كان وراءكم أمة من الأمم لخدمنهم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم» . فقلت لأبي وما المياثر؟ قال: سروج عظام، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قلت: والقائل لأبيه ما المياثر؟ هو عبد الله بن عياش القتباني أحد رواته.
وفي هذين الحديثين علم من أعلام النبوة لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوجود النساء الكاسيات العاريات في آخر أمته فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه.
وقد جاءت الأخبار أيضا عن المتبرجات فيما رواه رزين عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف بكم إذا فسق فتيانكم وطغى نساؤكم؟» .
وما رواه البخاري في تاريخه عن ابن عباس الحميري عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف بكم إذا فسق نساؤكم؟» .
وقد نهى الله تبارك وتعالى عن التبرج فقال جل ذكره: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} ، وقال تعالى:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الآية، وقال تعالى:{الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} الآية.
والتبرج هو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال الأجانب.
وهو على مراتب أقبحه ما تفعله نساء الإفرنج ومن يتشبه بهن من نساء المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام من إبراز كثير من أجسادهن بحضرة الرجال الأجانب.
وقد روى أبو نعيم في الحلية من طريق وكيع حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المختلعات والمتبرجات هن المنافقات» .
وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وروى البيهقي في سننه عن ابن أبي أذينة الصدفي مرسلاً.
وعن سليمان بن يسار مرسلاً: «شر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم» .
والكلام في ذم التبرج مبسوط في كتابي المسمي: «بالصارم المشهور على أهل التبرج والسفور» ، فليراجع هناك.
وقد اعترف بعض عقلاء الإفرنج بما في سفور النساء وتبرجهن من المفاسد والمضرات.
قال محمد رشيد رضا حدثني الأمير شكيب أرسلان في جنيف سويسرة عن طلعت باشا التركي أن عظيم الألمان لما زار الأستانة في أثناء الحرب ورأى النساء التركيات سافرات متبرجات عزله على ذلك وذكر له ما فيه من المفاسد الأدبية والمضار الاقتصادية التي تئن منها أوربا وتعجز عن تلافيها وقال له: إن لكم وقاية من ذلك كله ألا وهو الدين الإسلامي أفتزيلونها بأيدكم؟!
قلت: وهذا الألماني أعقل من كثير من المنتسبين إلى الإسلام، وقد ذكرت في «الصارم المشهور» عن بعض عقلاء الإيطاليين نحو ذلك فليراجع.
فصل
النوع الثاني عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله كثير من النساء من فرق شعر الرأس من جانبه وجمعه من ناحية القفا كما تفعله نساء الإفرنج، وقد جاء وصفهن بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:«مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة» ، وفي قوله أيضا على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف، وقد فسر بعض العلماء قوله:«مميلات مائلات» بأنهن يمتشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا ويمشطن غيرهن تلك
المشطة، وهذه المشطة هي مشطة نساء الإفرنج ومن يحذو حذوهن من المتبرجات الكاسيات العاريات.
فصل
النوع الثالث عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى تعقيد الخرق في رءوس البنات كأنها الزهر وهو من أفعال الإفرنج في زماننا وقد فشا ذلك في المسلمين تقليدًا منهم لأعداء الله تعالى واتباعًا لسننهم الذميمة.
فصل
النوع الرابع عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى ما افتتن به كثير من النساء من لبس ملابس نساء الإفرنج وهي أنواع كثيرة.
منها ما يبلغ إلى الركبتين ومنها ما هو فوق ذلك.
فصل
النوع الخامس عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى اتخاذ الأواني كالصحاف والكئوس والملاعق، وغيرها من الذهب والفضة. والأكل والشرب فيها.
فصل
والنوع السادس عشر: لبس الرجال خواتم الذهب وتحليهم بساعات الذهب والفضة.