الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدها: ما فيه من التشبه بالإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى.
وأقل الأحوال في حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أنهما يقتضيان تحريم التشبه بأعداء الله تعالى في كل شيء من زيهم وأفعالهم ففيها دليل على المنع من اللعب بالكرة.
ويدل على المنع من اللعب بها أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين» متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ويدل على المنع منه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك» رواه الشافعي مرسلاً والحاكم موصولاً من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما.
الوجه الثاني: ما في اللعب بها من الصد عند ذكر الله وعن الصلاة وهذا أمر معروف عند الناس عامتهم وخاصتهم. وربما أوقعت الحقد بين اللاعبين حتى يئول بهم ذلك إلى العداوة والبغضاء. وتعاطي ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وما يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين حرام وقد قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} .
و
اللعب بالكرة نوع من الميسر
لأنه يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة وقد روى ابن جرير في تفسيره من طريق عبيد الله بن عمر أنه سمع عمر ابن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: «النرد: ميسر» . أرأيت الشطرنج ميسر
هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. وإذا كان اللعب بالكرة على عوض فهو من الميسر بلا شك.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي في «المغني» : كل لعب فيه قمار فهو محرم أي لعب كان وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته انتهى.
وقد روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: الميسر القمار. وروي أيضًا عن مجاهد وسعيد بن جبير وطاوس وعطاء والحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة والسدي ومكحول وعطاء بن ميسرة نحو ذلك.
وفي رواية له عن مجاهد وسعيد بن جبير أنهما قالا: الميسر القمار كله حتى الجوز الذي يعلب به الصبيان. وفي رواية له عن طاوس وعطاء قالا: كل قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز.
وذكر ابن كثير في تفسيره عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب أنهما قالا: حتى الكعاب والجوز والبيض التي يلعب بها الصبيان.
وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: الميسر محرم بالنص والإجماع.
إذا علم هذا فمن استحل العوض على اللعب بالكرة فقد استحل ما هو محرم بالنص والإجماع من الميسر وأكل المال بالباطل وقد قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله أبى على أن يدخل الجنة
لحمًا نبت من سحت فالنار أولى به» رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي المستدرك أيضًا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا كعب بن عجرة أنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به» .
وفي المستدرك أيضًا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به» وفي المستدرك أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به» ، وروى أبو نعيم في «الحلية» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» .
الوجه الثالث: أن في اللعب بالكرة ضررا على اللاعبين فربما سقط أحدهم فتخلعت أعضاؤه وربما انكسرت رجل أحدهم أو يده أو بعض أضلاعه وربما حصل فيه شجاج في وجهه أو رأسه وربما سقط أحدهم فغشي عليه ساعة أو أكثر أو أقل بل ربما آل الأمر ببعضهم إلى الهلاك كما قد ذكر لنا عن غير واحد من اللاعبين بها وما كان هذا شأنه فاللعب به لا يجوز.
الوجه الرابع: أن اللعب بالكرة من الأشر والمرح ومقابلة نعم الله تعالى بضد الشكر وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} . واللعب بالكرة نوع من المرح.
وروى البخاري في الأدب المفرد عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأشرة شر» قال أبو معاوية أحد رواته: الأشر العبث واللعب بالكرة نوع من العبث فلا يجوز.
الوجه الخامس: ما في اللعب بها من اعتياد وقاحة الوجوه وبذاءة الألسن وهذا معروف عن اللاعبين بها وقد ألجأني الطريق مرة إلى المرور من عند اللاعبين بها فسمعت منهم ما تستك منه الأسماع من كثرة الصخب والتخاطب بالفحش ورديء الكلام وسمعت بعضهم يقذف بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا وما أدى إلى هذا أو بعضه فهو حرام بلا ريب.
الوجه السادس: ما في اللعب بها أيضًا من كشف الأفخاذ ونظر بعضهم إلى فخذ بعض ونظر الحاضرين إلى أفخاذ اللاعبين وهذا لا يجوز لأن الفخذ من العورة وستر العورة واجب إلا من الزوجات والسراري لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» رواه الإمام أحمد وأهل السنن والحاكم في مستدركه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه.
والدليل على أن الفخذ من العورة ما رواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن جرهد الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو كاشف عن فخذه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «غط فخذك فإنها من العورة» قال الترمذي: هذا حديث حسن وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الإمام أحمد والترمذي والحاكم أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الفخذ عورة» هذا لفظ الترمذي. ولفظ الحاكم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل فرأى فخذه مكشوفة فقال: «غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وروى أبو داود وابن ماجه وعبد الله ابن الإمام أحمد والحاكم عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» وفي رواية للدارقطني: «لا تكشف عن فخذك فإن الفخذ من العورة» .
وروى الإمام أحمد والبخاري في «التاريخ الكبير» والحاكم في مستدركه عن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: «يا معمر غط عليك فخذك فإن الفخذين عورة» .
وروى الدارقطني في سننه عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل من السرة من العورة» .
وروي أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما تحت السرة إلى الركبة من العورة» .
إذا علم هذا فالنظر إلى عورة الغير حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه: «ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» ولقوله صلى الله عليه وسلم:
«لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة» رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
الوجه السابع: أن اللعب بالكرة من اللهو الباطل قطعًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق» .
وفي رواية «وتعليم السباحة» رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه.
فدل هذا الحديث الصحيح على أن اللعب بالكرة من الضلال لقول الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} .
قال الخطابي: في هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها لأن كل واحدة منها إذا تأملتها وجدتها معينة على حق أو ذريعة إليه ويدخل في معناها ما كان من المثاقفة بالسلاح والشد على الأقدام ونحوهما مما يرتاض به الإنسان فيتوقح بذلك بدنه ويتقوى به على مجالدة العدو فأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو كالنرد والشطرنج والمزاجلة بالحمام وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق ولا يستجم به لدرك واجب فمحظور كله انتهى.
وقوله: فيتوقح بذلك بدنه، معناه يصلب بدنه قال الجوهري: حافر وقاح أي صلب وتوقيح الحافر تصليبه بالشحم المذاب.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى سائر ما
يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق شرعي كله حرام.
قلت: ومن هذا الباب اللعب بالكرة لأنه مجرد لهو ولعب ومرح وعبث وأعظم من ذلك أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء بين اللاعبين وليس هو مما يستعان به في حق شرعي ولا يستجم به لدرك واجب فهو من اللعب المحظور بلا شك والله أعلم.
ثم ذكر الخطابي أن من لعب بالشطرنج وقامر به فهو فاسق ومن لعب به على غير قمار وحمله الولوع بذلك على تأخير الصلاة عن وقتها أو جرى على لسانه الخنا والفحش إذا عالج شيئًا منه فهو ساقط المروءة مردود الشهادة انتهى.
وما قاله في اللاعبين بالشطرنج يقال مثله في اللاعبين بالكرة ويزيد أهل الكرة على أهل الشطرنج بالمرح والأشر والتعرض لأنواع الضرر فاللعب بها شر من اللعب بالشطرنج وأعظم منه ضررًا.
ومن التعجب أن هذا اللعب الباطل قد جعل في زماننا من الفنون التي تدرس في المدارس ويعتنى بتعلمه وتعليمه أعظم مما يعتنى بتعلم القرآن والعلم النافع وتعليمهما.
وهذا دليل على اشتداد غربة الإسلام في هذا الزمان ونقص العلم فيه وظهور الجهل بما بعث الله به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم حتى عاد المعروف عند الأكثرين منكرًا والمنكر معروفًا والسنة بدعة والبدعة سنة وهذا من مصداق الحديث المتفق على صحته عن أنس رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل» الحديث.
واللعب بالكرة والاعتناء بتعلمه وتعليمه في المدارس وغيرها من ظهور الجهل بلا شك عند من عقل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.وما أشبه المفتونين باللعب بالكرة بالذين قال الله فيهم: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .
وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن العلوم المفضولة إذا زاحمت العلوم الفاضلة وأضعفتها فإنها تحرم انتهى.
وإذا كان الأمر هكذا في العلوم المفضولة مع العلوم الفاضلة فكيف باللعب بالكرة إذا زاحم العلوم الفاضلة وأضعفها كما هو الواقع في زماننا؟ مع أن اللعب بالكرة ليس بعلم وإنما هو لهو ومرح وأشر وبطر فيجب المنع منه لما ذكرنا فيه من التشبه بأعداء الله تعالى كما تقدم بيانه والله أعلم.
إذا علم هذا فمن أهدى لبعض اللاعبين بالكرة شيئًا من أجل حذقه في اللعب بها فقد أعان على الباطل. وكذلك من صنع لهم مأكولا أو مشروبا أو أحضره لهم فهو معين لهم على الباطل وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
فصل
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال بحيث يستعان بها على
الكر والفر والدخول والخروج ونحوه في الجهاد وغرضه الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو حسن وإن كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال فإنه ينهى عنه انتهى.
وهذا اللعب الذي تكلم فيه شيخ الإسلام وفصل القول فيه هو ما كان معروفًا في زمانه وقبله بأزمان وبعده كذلك إلى قريب من زماننا وهو اللعب بالكرة على الخيل يضربها الراكب ثم يسوق فرسه خلفها لتعتاد على الكر والفر والدخول والخروج وهذا اللعب بحسب نية صاحبه فإن كان قصده حسنًا وهو أن يتعلم الفروسية ويرتاض على أمور الجهاد في سبيل الله عز وجل فاللعب بها من هذا الوجه حسن لما يترتب عليه من الفوائد الشرعية.
وإن كان قصد اللاعب بها اللهو واللعب لا غير فهذا ينهى عنه. وكذلك إذا كان فيه مضرة على الخيل والرجال فإنه ينهى عنه من أجل المضرة. وهذا اللعب نوع واللعب المأخوذ عن الإفرنج وأشباههم نوع آخر.
وهذا النوع الأخير وهو المأخوذ عن الإفرنج وأضرابهم ليس فيه منفعة للجهاد ولا إعانة على حق شرعي بوجه من الوجوه بل كله شر وضرر محض فالواجب على ولاة أمور المسلمين المنع منه بالكلية.
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن اللعب بالسيف والرمح فأجاز ذلك بشرطين:
أحدهما: أن يكون السيف والرمح من خشب لا من حديد، والثاني
أن يريد به غيظ العدو ولا يريد به التظرف. ذكر ذلك عنه أبو داود رحمه الله تعالى.
ويتخرج على هذه الرواية المنع من اللعب بالكرة على الوجه المعمول به في زماننا لأنه إنما يراد به التظرف لا غير. وهذا مع قطع النظر عما في اللعب بها من الأمور المحرمة التي تقدم ذكرها.
فلو انتفت تلك الأمور عن اللعب بها لتوجه المنع منه على هذه الرواية ودليلها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه الذي تقدم ذكره قريبا والله أعلم.
فصل
فإن ادعى المتشبهون بأعداء الله تعالى أنهم إنما يريدون باللعب بالكرة رياضة الأبدان لتعتاد على النشاط والصلابة.
فالجواب أن يقال: إن الله تعالى قد جعل للمسلمين في الرياضات الشرعية غنية ومندوحة عن الرياضات الإفرنجية.
فمن ذلك المسابقة على الخيل وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم بينها وفعل ذلك أصحابه والمسلمون بعدهم.
وفي الصحيحين والموطأ ومسند الإمام أحمد والسنن الأربع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان فيمن سابق بها.
وفي رواية لأحمد والدارقطني قال عبد الله: فكنت فارسًا يومئذ فسبقت الناس طفف بي الفرس مسجد بني زريق. ورواه مسلم بنحوه.
قال ابن الأثير: طفف بي الفرس مسجد بني زريق أي: وثب بي حتى كاد يساوي المسجد يقال: طففت بفلان موضع كذا أي رفعته إليه وحاذيته به. وقال النووي: طفف بي الفرس المسجد، أي: علا ووثب إلى المسجد وكان جداره قصيرًا.
قلت: وقد جاء ذلك في رواية للدارقطني ولفظه قال عبد الله: فجئت سابقًا فطفف بي الفرس حائط المسجد وكان قصيرًا. وفي رواية له قال فوثب بي الجدار.
قال ابن حجر في «الفتح» : في الحديث مشروعية المسابقة وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك انتهى.
وروى الإمام أحمد أيضًا والدارمي والدارقطني والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أنه قيل له: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم، والله لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له يقال له: سبحة فجاءت سابقة فبهش لذلك وأعجبه.
وروى البيهقي أيضُا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم لقد راهن على فرس يقال لها سبحة فجاءت سابقة.
قال ابن منظور في لسان العرب: المراهنة والرهان المسابقة على
الخيل وغير ذلك. وكذا قال صاحب القاموس: المراهنة والرهان المخاطرة والمسابقة على الخيل. وقوله: فبهش لذلك معناه فرح به وارتاح له.
وفي سنن الدارقطني عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس» فخرج علي رضي الله عنه فدعا سراقة بن مالك فقال: يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة فإذا أتيت الميطان-قال أبو عبد الرحمن والميطان: مرسلها من الغاية-فصف الخيل ثم ناد هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل، فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثًا ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من شاء من خلقه فكان علي رضي الله عنه يقعد عند منتهى الغاية ويخط خطًا يقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفه بين إبهامي أرجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول لهما إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه أو أذن أو عذار فاجعلوا السبقة له فإن شككتما فاجعلا سبقهما نصفين فإذا قرنتم ثنتين فاجعلوا الغاية من غاية أصغر الثنتين ولا جلب ولا شغار في الإسلام.
وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عياض الأشعري قال: قال أبو عبيدة رضي الله عنه: من يراهنني؟ فقال شاب: أنا إن لم تغضب قال فسبقه فرأيت عقيصتي أبي عبيدة تنقزان وهو خلفه على فرس عربي.
ومن الرياضات الشرعية أيضًا المسابقة على الإبل وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه والمسلمون بعدهم.
وفي صحيح البخاري والمسند وسنن أبي داود والنسائي عن حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى
العضباء لا تسبق أو لا تكاد تسبق فجاء أعرابي على قعود فسبقها فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه فقال: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» .
وفي رواية للنسائي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فسبقه فكأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا في أنفسهم من ذلك فقيل له في ذلك فقال: «حق على الله أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا إلا وضعه الله» وكذا رواه الدارقطني في سننه من طريق النسائي.
وفي رواية لأبي داود عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: كانت العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسابقها فسبقها الأعرابي فكأن ذلك شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «حق على الله عز وجل أن لا يرفع شيء إلا وضعه» ورواه البخاري تعليقًا.
وفي سنن الدارقطني عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصوى لا تدفع في سباق إلا سبقت قال سعيد بن المسيب فجاء رجل فسابقها فسبقها فوجد الناس من ذلك أن سبقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الناس لم يرفعوا شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه الله عز وجل» .
وفي رواية له عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت القصوى لا تسبق، جاء أعرابي على بكر فسابقه فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله سبقت العضباء وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه حق على الله أن لا يرفع شيء من الأرض إلا وضعه» .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: تأمل قوله: «ألا يرفع شيء» وفي اللفظ الثاني: «ألا يرتفع شيء من الدنيا إلى وضعه» فجعل الوضع لما رفع أو ارتفع لا لما رفعه سبحانه إذا رفع عبده بطاعته وأعزه بها لا يضعه بها انتهى.
ومن الرياضات الشرعية أيضًا المسابقة على الأقدام وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه والمسلمون بعدهم.
وروى الشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قالت فسابقته فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: «هذه بتلك السبقة» .
وفي رواية أنهم كانوا في سفر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تقدموا» فتقدموا ثم قال لعائشة: «سابقيني» فسابقها فسبقته ثم سابقني وسبقني فقال: «هذه بتلك» .
وفي المسند وصحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في حديثه الطويل في غزوة ذي قرد قال: ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة قال: فبينما نحن نسير قال: وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدًا قال فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك قال: فلما سمعت كلامه قلت: أما تكرم كريمًا ولا تهاب شريفًا؟ قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله بأبي وأمي ذرني فلأسابق الرجل قال: «إن شئت» ، قال قلت: أذهب إليه
وثنيت رجلي فطفرت فعدوت قال: فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقي نفسي ثم عدوت في أثره فربطت عليه شرفا أو شرفين ثم إني رفعت حتى ألحقه قال فأصكه بين كتفيه قال قلت: قد سبقت والله قال: أنا أظن قال: فسبقته إلى المدينة.
قال النووي قوله: شدًا يعني عدوًا على الرجلين وقوله: فطفرت أي وثبت وقفزت، وقوله فربطت عليه شرفا أو شرفين استبقي نفسي معنى ربطت حبست نفسي عن الجري الشديد. والشرف ما ارتفع من الأرض. وقوله: استبقي نفسي بفتح الفاء أي لئلا يقطعني البهر.
وفي هذا دليل لجواز المسابقة على الأقدام وهو جائز بلا خلاف إذا تسابقا بلا عوض فإن تسابقا على عوض ففي صحتها خلاف الأصح عند أصحابنا لا تصح.
قلت وهو مذهب مالك وأحمد.
ومن الرياضات الشرعية أيضا المصارعة. وقد روى أبو داود والترمذي والبخاري في التاريخ من حديث أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي: هذا حديث غريب وإسناده ليس بقائم.
قال ابن حجر العسقلاني في «الإصابة» : وقصة الصراع مشهورة لركانة لكن جاء من وجه آخر أنه يزيد بن ركانة فأخرج الخطيب في المؤتلف من طريق أحمد بن عتاب العسكري حدثنا حفص بن عمر حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء يزيد بن ركانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثمائة
من الغنم فقال: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ قال: «وما تجعل إن صرعتك» قال: مائة من الغنم فصارعه فصرعه، ثم قال هل لك في العود فقال:«ما تجعل لي قال؟» : مائة أخرى فصارعه فصرعه وذكر الثالثة فقال: يا محمد ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك وما كان أحد أبغض إلي منك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقام عنه ورد عليه غنمه.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل مرة على مائة من الغنم وذكر بقية القصة بمثل ما في رواية الخطيب.
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض غلمان الأنصار فمر به غلام فأجازه في البعث وعرض عليه سمرة بن جندب رضي الله عنه فرده فقال لقد أجزت هذا ورددتني ولو صارعته لصرعته قال: فدونكه فصارعه فصرعه سمرة فأجازه. ورواه ابن عبد البر في «الاستيعاب» بنحوه.
ومن الرياضات الشرعية أيضًا الرمي ونحوه مما فيه إعانة على الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وقد روى الإمام أحمد والبخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا مع بني فلان» قال فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لكم لا ترمون» قالوا: كيف نرمي وأنت معهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارموا وأنا معكم كلكم» .
قال الجوهري: ناضله أي: راماه يقال: ناضلت فلانا فنضلته إذا غلبته
وانتضل القوم وتناضلوا أي: رموا للسبق وفلان يناضل عن فلان إذا تكلم عنه بعذره ودافع.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بنفر يرمون فقال: «رميًا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا» .
ورواه ابن ماجه في سننه عن محمد بن يحيى والحاكم في مستدركه من طريق إسحاق بن إبراهيم الصنعاني وأحمد بن حنبل كلهم عن عبد الرزاق به وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الحاكم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقوم من أسلم يرمون فقال: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا ارموا وأنا مع ابن الأدرع» فأمسك القوم قسيهم فقالوا: يا رسول الله من كنت معه غلب قال: «ارموا وأنا معكم كلكم» قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الحاكم أيضًا عن محمد بن إياس بن سلمة عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ناس ينتضلون فقال: «حسن هذا اللهم -مرتين أو ثلاثا- ارموا وأنا مع ابن الأدرع» فأمسك القوم بأيديهم فقالوا: لا والله لا نرمي معه وأنت معه يا رسول الله إذا ينضلنا فقال: «ارموا وأنا معكم جميعًا» قال فلقد رموا عامة يومهم ذلك ثم
تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضًا. قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير والذي يجهز به في سبيل الله والذي يرمي به في سبيل الله - وقال- ارموا واركبوا وأن ترموا خير لكم من أن تركبوا - وقال- كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثًا رميه عن قوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعند الحاكم في أوله قصة ولفظه عن خالد بن زيد الجهني قال: كنت راميًا أرامي عقبة بن عامر رضي الله عنه فمر بي ذات يوم فقال: يا خالد اخرج بنا نرمي فأبطأت عليه فقال: يا خالد تعال أحدثك ما حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول لك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه الذي احتسب في صنعته الخير ومتنبله والرامي. ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا وليس من اللهو إلا ثلاثة تأديب الرجل فرسه وملاعبته زوجته ورميه بنبله عن قوسه ومن علم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها» ، وقد رواه سعيد بن منصور والنسائي بنحو هذا اللفظ.
وفي رواية أبي داود «ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها - أو قال - كفرها» .
ورواه أبو داود الطيالسي والدارمي في مسنديهما بنحو ما تقدم وعندهما في آخره وقال: «من ترك الرمي بعدما علمه فقد كفر الذي علمه» .
وفي صحيح مسلم عن الحارث بن يعقوب عن عبد الرحمن بن شماسة أن فقيمًا اللخمي قال لعقبة بن عامر رضي الله عنه: تختلف بين هذين الغرضين وأنت كبير يشق عليك قال عقبة لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعانه قال الحارث: فقلت: لابن شماسة وما ذاك قال: إنه قال: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى» .
وفي المسند وصحيح مسلم وجامع الترمذي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» .
وفي المسند أيضًا عن أبي أمامة بن سهل قال: كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: «أن علموا غلمانكم العوم ومقاتلتكم الرمي» فكانوا يختلفون إلى الأغراض. الحديث. قال أهل اللغة العوم السباحة.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في «زوائد الزهد» وأبو نعيم في «الحلية» عن بلال بن سعد رحمه الله قال: أدركتهم يشتدون بين الأغراض ويضحك بعضهم إلى بعض فإذا كان الليل كانوا رهبانًا.
وذكر الشيخ أبو محمد المقدسي في «المغني» عن مجاهد قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يشتد بين الهدفين إذا أصاب خصلة قال أنا بها أنا بها. وعن حذيفة رضي الله عنه مثله.
وذكر الطبراني عن مصعب بن سعد قال: كان سعد رضي الله عنه يقول: أي بني تعلموا الرماية فإنها خير لعبكم.
وذكر الشيخ أبو محمد المقدسي أيضًا عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة لا تحضر من لهوكم إلا الرهان والنضال» قال الأزهري النضال في الرمي والرهان في الخيل والسباق فيهما.
وذكر الشيخ أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يربعون حجرًا يعني يرفعونه ليعرفوا الأشد منهم فلم ينكر عليهم.
قال القرطبي لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب على الحرب انتهى ..
فهذا ما تيسر ذكره من رياضات المسلمين ولهوهم المباح وفيها كفاية لكل مسلم، ومن لم يكتف بالرياضات الشرعية ولم يسعه ما وسع السلف الصالح فلا كفاه الله ولا وسع عليه في الدنيا والآخرة. ومن آثر الرياضات الإفرنجية على الرياضات الشرعية فذلك عنوان على زيغ قلبه.
عياذًا بالله من موجبات غضبه.
فصل
النوع التاسع والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله أهل المدارس وغيرهم من إقامة التمثيليات للماضين وأفعالهم مضاهاة لما يفعله النصارى في عيد الشعانين فإنهم يخرجون فيه بورق الزيتون ونحوه يزعمون أن ذلك مشابهة لما جرى للمسيح حين دخل إلى بيت المقدس
راكبًا أتانًا مع جحشها فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فثار عليه غوغاء الناس وكان اليهود قد وكلوا قومًا معهم عصي يضربونه بها فأورقت تلك العصي وسجد أولئك الغوغاء للمسيح فعيد الشعانين مشابهة لذلك الأمر ذكر هذا شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وإقامة التمثيليات للأمور الماضية هي من باب ما يفعله النصارى في عبد الشعانين ولم يكن ذلك من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من هدي أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. ولم يكن من عمل التابعين وتابعيهم بإحسان وإنما حدث ذلك في زماننا وهو متلقى عن الإفرنج وأشباههم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي رواية لأحمد ومسلم والبخاري تعليقًا مجزوما به: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .
وفي هذا الحديث دليل على المنع من إقامة التمثيليات لأنها من المحدثات ويدل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» وحديث «ليس منا من تشبه بغيرنا» .
فصل
النوع الثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى جعل الولاية العامة جمهورية وهذا من عمل أمم الكفر والضلال ومن يقتدي بهم من المنتسبين إلى الإسلام وهو خلاف ما تقتضيه الشريعة الإسلامية من نصب إمام واحد لا غير كما في الصحيحين والمسند وسنن ابن ماجه
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فوا بيعة الأول فالأول أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» .
وفي المسند وصحيح مسلم وسنني النسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» .
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» .
وفي هذه الأحاديث دليل على أن البيعة لا تجوز لأكثر من واحد وأن الجمهورية لا تجوز في الإسلام وأنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور وإن ظلموا وجاروا وإن الخارج عليهم لينازعهم الملك يجب قتله.
وفي مستدرك الحاكم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته موتة جاهلية» قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي الصحيحين وغيرهما عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا
الخير فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم» فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر» فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها» فقلت: يا رسول الله صفهم لنا قال «نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلتزم جماعة المسلمين وإمامهم» قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» .
وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بنحوه وزادت قلت: يا رسول الله فما يكون بعد ذلك قال: «الدجال» .
وفي رواية لمسلم قلت: يا رسول الله إنا كنا بشر فجاءنا الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: «نعم» قلت: هل من وراء ذلك الشر خير؟ قال: «نعم» قلت فهل وراء ذلك الخير شر قال: «نعم» قلت كيف؟ قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع»
وفي هذا الحديث والذي قبله دليل على أن الجمهورية ليست من أمر الإسلام وأن المشروع للمسلمين نصب إمام واحد وطاعته ولو كان فيه غشم وظلم للرعية.
وروى أبو داود الطيالسي ومسلم والترمذي عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» هذا لفظ الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
وروى أبو داود الطيالسي ومسلم أيضًا والبخاري في «التاريخ الكبير» عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع» قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا» .
وفي صحيح مسلم أيضًا عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة» .
وفي رواية «ألا من ولي عليه فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة» .
وفي مستدرك الحاكم عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقام فوعظ الناس ورغبهم وحذرهم وقال ما شاء الله أن يقول ثم قال: «اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وأطيعوا من ولاه الله أمركم ولا تنازعوا الأمر أهله ولو كان عبداً أسود وعليكم بما تعرفون من
سنة نبيكم والخلفاء الراشدين المهديين وعضوا على نواجذكم بالحق» قال الحاكم: إسناده صحيح على شرطهما جميعًا ولا أعرف له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي هذه الأحاديث دليل على أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور كما يفعل كثير من المنتسبين إلى الإسلام ممن قد جعلوا ولاية أمرهم إلى جمهورية وعدد كثير اتبعوا في ذلك سنن كثير من دول الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى وخالفوا شريعة الإسلام وما تقتضيه من نصب إمام واحد لا غير والسمع والطاعة له في المعروف وإن ظلم الرعية وجار في حكمه.
وخالفوا أيضًا ما كان عليه المسلمون منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم إلى زماننا. والأحاديث بنحو ما ذكرته كثيرة وفيما ذكرته كفاية لمبتغي الحق والله الموفق.
فصل
النوع الحادي والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى تدريب الجنود على الأنظمة الإفرنجية وتشكيلهم بشكل أعداء الله تعالى في اللباس والمشي وغير ذلك من الإشارات والحركات المبتدعة.
وقد فشي هذا التشبه المذموم في كثير من المنتسبين إلى الإسلام والدليل على تحريمه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» وقوله في الحديث الآخر: «ليس منا من تشبه بغيرنا» .
فأما تعلم الرمي وما يتبع ذلك من استعمال الآلات الحربية الحادثة
في هذه الأزمان من برية وبحرية وجوية فذلك مطلوب مرغب فيه للجهاد في سبيل الله ومكافحة أعداء الله قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} الآية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاث مرات رواه الإمام أحمد ومسلم والدارمي وأهل السنن إلا النسائي من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
فصل
النوع الثاني والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى إسقاط لفظة ابن في النسب كقولهم لمن اسمه أحمد بن محمد أحمد محمد ونحو ذلك وهذا معروف عن الإفرنج من قرون كثيرة وقد وقع في تقليدهم فيه ما لا يحصيه إلا الله تعالى.
وهؤلاء المفتونون بالتقاليد الإفرنجية قد خالفوا الكتاب والسنة وما عليه المسلمون منذ عهد الصحابة إلى زمن قريب.
فأما مخالفتهم للقرآن فقد ذكر الله تعالى عيسى ابن مريم في مواضع منه يقول في كل منها عيسى ابن مريم ولم يقل عيسى مريم وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} الآية. ولم يقل ومريم عمران.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يعني الله تبارك وتعالى: «لا ينبغي لعبد لي -وفي رواية- لعبدي أن يقول أنا خير من يونس بن متى» .
وأما مخالفتهم للسنة فروى الإمام أحمد والترمذي عن المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه قال: قال العباس رضي الله عنه بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس قال فصعد المنبر فقال: «من أنا؟» قالوا: أنت رسول الله قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وفي المسند وصحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم» .
وفي المسند أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن» وفي الصحيحين والمسند وسنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» زاد أحمد والشيخان ونسبه إلى أبيه.
وفي المسند وسنن أبي داود عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنبي أن يقول: إني خير من يونس بن متى» .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى» .
وفي المسند وصحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس
ابن متى» وفي المسند أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله بن عمرو إنك تصوم الدهر» وذكر تمام الحديث وأصله في الصحيحين.
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل فقال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك قال: «هل تدري ما حق الله على العباد؟» قال قالت: الله ورسوله أعلم الحديث.
وفي الصحيحين والمسند وجامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استقرءوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب» .
وفي جامع الترمذي أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأصدقهم حياء عثمان بن عفان وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرأهم أبي بن كعب ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» قال الترمذي: هذا حديث غريب.
وفي جامع الترمذي أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل أبو بكر نعم الرجل عمر نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح نعم الرجل أسيد بن حضير نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس نعم الرجل معاذ بن جبل نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح» .
قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد رواه البخاري في التاريخ الكبير بمثله.
والأحاديث بنحو ما ذكرته كثيرة جدًا. ولم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسقط لفظة ابن في النسب وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هدينا مخالف لهديهم» -يعني المشركين-رواه الحاكم في مستدركه من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وافقه الذهبي في تلخيصه.
وأما مخالفتهم لما عليه المسلمون قديما وحديثا فمما لا يخفى على طالب علم. وما كان المسلمون يعرفون إسقاط لفظة ابن في النسب حتى كثرت مخالطتهم لطوائف الإفرنج فافتتن الجهال بتقليدهم واتباع سننهم حذو النعل بالنعل.
فصل
النوع الثالث والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى الاعتماد في التاريخ على ميلاد عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام متابعة للنصارى ورغبة عما كان عليه المسلمون من اعتماد التاريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وقد وقع في هذه المشابهة فئام كثيرة من المنتسبين إلى الإسلام وهؤلاء قد جمعوا بين أمرين ذميمين.
أحدهما: التشبه بأعداء الله تعالى:
والثاني: الرغبة عما اتفق عليه الصحابة وفيهم الخلفاء الراشدون عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وعمل بذلك المسلمون بعدهم إلى زماننا سوى الذين سفهوا أنفسهم بالشذوذ عن المسلمين واتباع سنن أعداء الله تعالى والأخذ بأخذهم حذو النعل بالنعل فبئس للظالمين بدلا.
وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .
فصل
النوع الرابع والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى الاعتماد في المواقيت على الأشهر الإفرنجية متابعة للإفرنج ورغبة عما كان عليه المسلمون من الاعتماد في ذلك على الأشهر العربية. وما أكثر الواقعين في هذه المشابهة.
وقد وقت الله تبارك وتعالى للمسلمين بالأشهر العربية فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . فمن رغب عن التوقيت بالأشهر العربية فقد رغب عما شرعه الله للمسلمين واتبع سنن أعداء الله الضالين.
فصل
النوع الخامس والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى الاعتماد في دخول الشهور العربية على الحساب لا على رؤية الهلال.
وقد ذكر القول بهذا عن بعض أهل العلم في زماننا. ولازم هذا القول الاعتماد في دخول شهر الصوم وخروجه على قول المعتنين بالحساب وتسيير النيرين. والاعتماد أيضا على قولهم في كل المواقيت المتعلقة بالأهلة.
وهذا خلاف الكتاب والسنة وما عليه المسلمون من عهد الصحابة إلى زماننا.
أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . فجعل الله تبارك تعالى العمل في المواقيت بالأهلة لا بالحساب.
وأما السنة فروى عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمَّ عليكم فعدوا ثلاثين يومًا» ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وفي الصحيحين والمسند وسنني أبي داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا أمة أمية لا تكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا» وعقد الإبهام في الثالثة: «والشهر هكذا وهكذا وهكذا» يعني تمام الثلاثين. هذا لفظ أحمد ومسلم وهو عند النسائي كذلك سوى قوله في آخره يعني فليس هذا الحرف في روايته.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وصف هذه الأمة بترك الكتابة والحساب الذي يفعله غيرها من الأمم في أوقات عباداتهم وأعيادهم وأحالها على الرؤية حيث قال في غير حديث: «صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته». وفي رواية «صوموا من الوضح إلى الوضح» أي: من الهلال إلى الهلال.
وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تقام بالرؤية عند إمكانها لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى.
قال: وبالجملة فالحديث يقتضي اختصاص هذه الأمة بالوصف الذي فارقت به غيرها وذلك يقتضي أن ترك المشابهة للأمم أقرب إلى حصول الوفاء بالاختصاص.
وقال الشيخ في موضع آخر: ظن طائفة من الجهال أنهم يضبطون وقت طلوع الهلال بمعرفتهم وقت ظهوره بعد استسراره وبمعرفة بعده عن الشمس بعد مفارقتها وقت الغروب وضبطهم قوس الرؤية. قال: وهذه دعوى باطلة اتفق علماء الشريعة على تحريم العمل بذلك في الهلال فاتفق علماء الحساب العقلاء على أن معرفة الهلال لا تنضبط بالحساب ضبطًا صحيحًا قط ولم يتكلم فيه إلا قوم من المتأخرين تقريبًا وذلك ضلال عن دين الله وتغيير له شبيه بضلال اليهود والنصارى عما أمروا به من الهلال إذا غابت الشمس وقت اجتماع القرصين وكبس الشهور الهلالية وذلك من النسيء الذي كان في العرب زيادة في الكفر. فمن أخذا علم الهلال بالحساب فهو فاسد العقل والدين.
وقال ابن حجر في قوله: «لا نحسب» المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النذر اليسير فعلق
الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً.
ويوضحه قوله في الحديث: «فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» . ولم يقل: فسلوا أخل الحساب.
والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم.
وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض.
ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم.
قال الباجي: وإجماع السلف حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل.
فصل
النوع السادس والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى قراءة القرآن بلحون الغناء والأوضاع الموسيقية وقد وقع في هذه المشابهة كثير من المنتسبين إلى الإسلام ولا سيما قراء الإذاعات ومن شاكلهم.
وقد ورد النهي عن ذلك في حديث رواه أبو عبيد القاسم بن سلام والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن بلحون بالعرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين وسيجيء قومن من بعدي يرجعون بالقرآن
ترجيع الغناء والرهبانية والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم».
وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال فقد شهد له الواقع بالصحة وشهادة الواقع له من أوضح البراهين على خروجه من مشكاة النبوة والله أعلم.
فصل
النوع السابع والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله كثير من الناس من الاهتزاز وتحريك الرءوس عند قراءة القرآن إن ثبت أن اليهود كانت تفعل مثل ذلك عند قراءة التوراة.
فقد روى سنيد بن داود في تفسيره عن حجاج بن محمد عن أبي بكر بن عبد الله قال: لما نشر موسى الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه.
قلت: إن كان هذا صحيحًا عن اليهود فمثله ما ذكرنا عن كثير من المسلمين ولا يجوز ذلك إن ثبت أن اليهود كانت تفعله.
فصل
النوع الثامن والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى إجراء بعض الأحكام والأمر والنهي على الضعفاء من الناس وترك الأكابر والرؤساء منهم
وقد وقع في هذه المشابهة كثير من الناس وهي من أعظم أسباب الضلال والهلاك.
لما في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» .
وفي رواية للبخاري: «إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون على الشريف» .
فصل
النوع التاسع والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد جاء الذم البليغ والوعيد الشديد على ذلك قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
وفي المسند والسنن إلا النسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس فقال: «لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وفي رواية له عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وزاد: «أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم» .
فصل
النوع الأربعون: من التشبه بأعداء الله تعالى لبس الحق بالباطل كما يفعله اليهود وهذه المشابهة واقعة من كثير من المنتسبين إلى العلم.
وقد رأيت ذلك في كلام كثير من العصريين في كتبهم وصحفهم.
فصل
النوع الحادي والأربعون: مشابهة اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه وهذا واقع من كثير من المتقدمين والمتأخرين ولاسيما في زماننا.
ومن رزقه الله البصيرة رأى ذلك في كتبهم ومقالاتهم.
فصل
النوع الثاني والأربعون: مشابهة اليهود في قولهم سمعنا وعصينا.
وهذا يقع من كثير من المنتسبين إلى العلم وهو في غيرهم كثير جدًا وأكثر ما يكون ذلك بلسان الحال ويكون أيضًا بالمقال.
فصل
النوع الثالث والأربعون: من مشابهة اليهود ما يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم من الوعظ والتذكير وأمر الناس بالبر والتقوى وهم مع ذلك ينسون أنفسهم ويخالفون أقوالهم بأفعالهم السيئة وهؤلاء جديرون بالمقت والعقوبة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} . وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وفي هذه الآيات أبلغ تقريع وتوبيخ لمن أمر الناس بالبر والتقوى ونسي نفسه.
فليحذر الخطباء والوعاظ والقصاص من سوء عاقبة المخالفة بين الأقوال والأفعال.
وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم من يفعل ذلك والوعيد الشديد له في الآخرة.
منها ما في صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} فتكتب شهادة في أعناقكم فتسئلون عنها يوم القيامة.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه
وبالبر ويخالفون فعيرهم الله عز وجل وقد رواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق.
وروى ابن جرير أيضًا عن السدي نحو ذلك. وروى أيضًا عن ابن جريج في قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} قال: أهل الكتاب والمنافقون كانا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ويدعون العمل بما يأمرون به الناس فعيرهم الله بذلك فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
وروى أبو نعيم في «الحلية» عن الأوزاعي أنه قال: إن المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيرًا وإن المنافق يقول كثيرًا ويعمل قليلاً.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال: أبلغت ذلك قال: أرجو قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل قال: وما هن؟ قال: قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثاني قال قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} . أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ} . أحكمت هذه الآية؟ قال: لا قال: فابدأ بنفسك.
وذكر الحافظ ابن كثير عن إبراهيم النخعي أنه قال: إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ
تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}. وقوله إخبارًا عن شعيب {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} .
وروى الإمام أحمد في «الزهد» وأبو نعيم في «الحلية» عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن يا عيسى عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني.
ومنها ما رواه الطبراني وأبو نعيم في «الحلية» عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل بما قال أو دعا إليه» .
ومنها ما رواه الطبراني أيضًا والحافظ الضياء المقدسي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه» .
ومنها ما رواه الطبراني أيضًا والبزار عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه مرفوعًا «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها» .
ومنها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وعبد بن حميد وابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي والبغوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» .
وفي رواية لابن مردويه: «تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار» ورواه أبو نعيم في الحلية، بنحوه.
وفي رواية له عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به» .
وروى أبو نعيم أيضًا عن مالك بن دينار قال: ما من خطيب يخطب إلا عرضت خطبته على عمله فإن كان صادقًا صدق وإن كان كاذبًا قرضت شفتاه بمقراض من نار كلما قرضتا نبتتا.
ومنها ما في الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلا مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهىعن المنكر فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه» .
الأقتاب الأمعاء واحدها قتب بكسر القاف وسكون المثناة الفوقية واندلاقها خروجها من جوفه بسرعة قاله غير واحد من أئمة اللغة.
ومنها ما رواه ابن جرير عن الوليد بن عقبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل» .
وروى الإمام أحمد في «الزهد» عن الشعبي قال: يشرف أهل الجنة في الجنة على قوم في النار فيقولون: ما لكم في النار وإنما كنا نعمل بما تعلمونا فيقولون إنا كنا نعلمكم ولا نعمل به.
وروى أبو نعيم في «الحلية» عن قتادة قال: إن في الجنة كوى إلى النار فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إلى النار فيقولون ما بال الأشقياء وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم قالوا: إنا كنا نأمركم ولا نأتمر وننهاكم ولا ننتهي.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في «زوائد الزهد» عن الحسن قال: إذا كنت آمرا بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلا هلكت وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر فكن من أنكر الناس له وإلا هلكت.
ومن حكم الشعر قول أبي الأسود الدؤلي:
وغير تفي يأمر الناس بالتقى
…
طيب يداوي الناس وهو سقيم
يا أيها الرجل المعلم غيره
…
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى
…
كيما يصح وأنت به سقيم
وأراك تصلح بالرشاد عقولنا
…
أبدا وأنت من الرشاد عديم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
أبدأ بنفسك فانهها عن غيها
…
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى
…
بالقول منك وينفع التعليم
فصل
النوع الرابع والأربعون: من التشبه بأعداء الله تعالى استحلال المحرمات بالحيل وكثيرًا ما يقع ذلك في المبايعات الربوية.
ومن ذلك استحلال أهل البنوك للربا الصريح زعما منهم أن الربا الذي يأخذونه من صاحب المال إنما هو في مقابلة راحته من حمل ماله فهو كالأجرة على نقل المال من بلد إلى بلد آخر وهذه الحيلة شبيهة بحيل اليهود على استحلال المحرمات.
وقد روى ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» .
وقد زعم بعض العصريين في مقال له منشور في بعض الصحف المشئومة أن الزيادة التي يأخذها أهل البنوك من أرباب الأموال هي السفتجة الجائزة وهذا خطأ ظاهر فإن السفتجة التي أجازها من أجازها من الفقهاء هي المعروفة في زماننا بالتحويل ومعناها اشتراط القضاء في بلد آخر وصورتها أن يقترض زيد من عمرو ألف درهم في مكة ويكتب معه كتابا إلى وكيله في المدينة ليسلم الوكيل الألف لعمرو في المدينة فينتفع زيد بالقرض ويربح عمرو خطر الطريق.
قال صاحب القاموس: السفتجة أن يعطي مالا لآخر وللآخر مال في بلد المعطى فيوفيه إياه ثم فيستفيد أمن الطريق.
قال مرتضى الحسيني في «تاج العروس» : واختلفت عبارات الفقهاء في تفسيرها فمنهم من فسرها بما قاله المصنف وفسرها بعضهم فقال هي كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع مالاً قراضًا يأمن به من خطر الطريق وقال في النهر: هي بضم السين، وقيل: بفتحها وفتح التاء معرب سفته.
وفي «شرح المفتاح» : بضم السين وفتح التاء الشيء المحكم سمي به
هذا القرض لإحكام أمره وهو قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق بأن يقرض ماله عند الخوف عليه ليرد عليه في موضع أمن لأنه عليه السلام نهى عن قرض جر نفعًا قاله شيخنا انتهى.
ومن شرط جواز السفتجة ألا يأخذ أحدهما من الآخر زيادة فإن أخذ أحدهما من الآخر زيادة كما يفعله أهل البنوك فالزيادة ربا.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي في «المغني» : وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا.
وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة.
وإن شرط أن يعطيه إياها في بلد آخر وكان لحمله مؤنة لم يجز لأنه زيادة وإن لم يكن لحمله مؤنة جاز وحكاه ابن المنذر عن علي وابن عباس والحسن بن علي وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود وأيوب السختياني والثوري وأحمد وإسحاق واختاره.
وكرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة ومالك والأوزاعي والشافعي لأنه قد يكون في ذلك زيادة.
وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعًا.
وقال عطاء كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق فيأخذونها منه فسئل عن ذلك ابن عباس فلم ير به بأسًا.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن مثل هذا فلم ير به بأسًا وممن لم ير به بأسًا ابن سيرين والنخغي رواه كله سعيد.
وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد ليوفيه في بلد أخرى ليربح خطر الطريق. والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها بل بمشروعيتها ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة -إلى أن قال- ولو أقرضه مكسرة فجاءه مكانها بصحاح بغير شرط جاز. وإن جاءه بصحاح أقل منها فأخذها بجميع حقه لم يجز قولاً واحدًا لأن ذلك معاوضة للنقد بأقل منه فكان ربا.
قلت: ونظير هذا ما يفعله أهل البنوك فإنهم إذا أخذوا من الرجل ألف درهم لم يعطوه الألف كله وإنما يعطونه تسعمائة وخمسة وتسعين أو نحوها وهذا عين الربا ولا يجوز ذلك قولاً واحدًا كما صرح به الموفق وغيره من أكابر العلماء.
ثم قال الموفق وإن شرط في القرض أن يوفيه أنقص مما أقرضه وكان ذلك مما يجري فيه الربا لم يجز لإفضائه إلى فوات المماثلة فيما هي شرط فيه وإن كان في غيره لم يجز أيضًا وهو أحد الوجهين لأصحاب
الشافعي. ثم علل ذلك بأن القرض يقتضي المثل فشرط النقصان يخالف مقتضاه فلم يجز كشرط الزيادة.
ثم قال الموفق ولو أراد رجل أن يبعث إلى عياله نفقة فأقرضها رجلاً على أن يدفعها إلى عياله فلا بأس إذا لم يأخذ عليها شيئًا انتهى.
ومما ذكرنا يتضح أن معاملة أهل البنوك لا تجوز وأن ما ينتقصونه من أموال الناس هو عين الربا. والقول بأن ذلك من باب الإجارة أو الوديعة بأجرة خطأ ظاهر وجهل صرف. فأما الإجارة فقد قال الفقهاء في تعريفها: إنها عقد على منفعة مباحة معلومة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة. أو عمل معلوم بعوض معلوم. وهذا الحد لا تدخل فيه معاملة أهل البنوك فإنهم لا يعقدون على منفعة مباحة معلومة من عين معينة أو موصوفة في الذمة ولا يعملون مع صاحب المال عملاً معلوما يستحقون به الأجرة كنقل ماله بعينه إلى البلد الذي يريد نقله إليه وغاية ما يفعلونه مع رب المال أن يعدوا ماله ثم يستنفقونه ويردون إليه بدله أنقص منه وهذا هو القرض بعينه إلا أنه قرض جر نفعًا فهو ربا.
وأما الوديعة فقال: في الفائق هي عبارة عن توكل لحفظ مال غيره تبرعًا بغير تصرف.
وقال في الرعاية الصغرى: هي عقد تبرع بحفظ مال غيره بلا تصرف فيه. وقال في الرعاية الكبرى: والإيداع توكيل أو استنابة في حفظ مال زيد تبرعًا. قال في الإنصاف ومعانيها متقاربة.
قلت وأعمال أهل البنوك تخالف هذا الحد فإنهم لا يحفظون المال بعينه ثم يسلمونه لصاحبه وإنما يستنفقونه ويردون إليه بدله فخرجت
أعمالهم من حد لوديعة إلى حد القرض إلا أنه قرض بأنقص من المال المقبوض وذلك عين الربا. وأيضًا فإن الوديعة لا يتصرف فيها المودع وأهل البنوك يتصرفون فيما يقبضونه من أموال الناس فخرجت أعمالهم عن حد الوديعة.
فإن قيل: إن مرعي قد اتجه في الغاية أن الوديعة تجوز بعوض؟
قيل: قد قال مرعي في تعريف الوديعة: هي المال المدفوع إلى من يحفظه والإيداع التوكيل في حفظه كذلك بغير تصرف انتهى.
ولئن سلمنا لاتجاه مرعي على ضعفه فأعمال أهل البنوك لا تطابق حد الوديعة على قوله لأن أهل البنوك يتصرفون فيما يقبضونه من المال ولا يحفظونه بعينه فخرجت أعمالهم عن حد الوديعة إلى حد المبادلة بأنقص من المال المقبوض وذلك صريح الربا كمال ذكرنا والله أعلم. وبالجملة فأعمال أهل البنوك هي أعمال الإفرنج بعينها ومن تشبه بقوم فهو منهم.
ومما يفعله الإفرنج ومن يحذو حذوهم من المنتسبين إلى الإسلام ما يسمونه بالقرض وهو دفع المال إلى المحتاجين من الدول بشرط زيادة فيه معلومة كل عام وهذا هو ربا أهل الجاهلية بعينه وتسميتهم له بالقرض لا تزيل وصف الربا عنه لأن العبرة بالحقيقة لا باللفظ.
وقد ورد الوعيد الشديد لأهل الربا وأخبر الله تبارك وتعالى أنهم حرب له ولرسوله صلى الله عليه وسلم فليحذر المسلمون من المعاملات الربوية فإن عاقبتها إلى القلة في الدنيا والعذاب في الآخرة. عياذًا بالله من موجبات عضبه وأليم عقابه.
ومن الحيل على استحلال المحرمات قلب الدين على المدين كما يفعله بعض الناس.
ومن ذلك أيضًا بيع السلع وهي في محل البائع قبل أن يقبضها المبتاع ويحوزها إلى رحله وقد يتبايعها عدد كثير واحدًا بعد واحد وهي في مكان البائع وكل منهم لا يقبضها قبضًا شرعيًا وإنما ينظر إليها فقط أو ينظر إليها ويعدها إن كانت مما يعد كالأكياس ونحوها ثم يبيعها وهي في موضعها وهذا ليس بقبض شرعي وإنما هو حيلة يراد بها التخلص من تعب النقل ومؤنته وهؤلاء المحتالون على البيع قبل القبض الصحيح قد خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتكبوا نهيه كما سيأتي بيانه.
ولا يجوز لمن اشترى أكياسًا ونحوها أن يبعها أو يسوم عليها حتى يحوزها إلى رحله وإن لم يكن له رحل فلابد أن ينقلها إلى مكان لا اختصاص للبائع به لما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه «نهى أن تباع السلع حيث تشترى حتى يحوزها الذي اشتراها إلى رحله وإن كان ليبعث رجالاً فيضربونا على ذلك» قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى أبو داود والدارقطني في سننيهما وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ابتعت زيتًا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحًا حسنًا فأردت أن أضرب على يده فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا هو زيد بن ثابت فقال لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحلهم.
وفي رواية للدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ابتعت زيتًا بالسوق فقام إليَّ رجل فأربحني حتى رضيت قال فلما أخذت بيده لأضرب
عليها أخذ بذراعي رجل من خلفي فأمسك يدي فالتفت فإذا زيد بن ثابت قال: لا تبعه حتى تحوزه إلى بيتك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
وروى مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه رواه الإمام أحمد والشيخان وأهل السنن إلا الترمذي.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتاعوا الطعام جزافًا يضربون في أن يبيعوه في مكانهم ذلك حتى يؤووه إلى رحالهم رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي.
وفي الصحيحين والموطأ والمسند والسنن إلا الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه» وفي رواية «حتى يقبضه» وفي رواية لمسلم «حتى يستوفيه ويقبضه» .
وفي الصحيحين والمسند والسنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه» قال ابن عباس رضي الله عنهما وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام.
قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» وفي «صفة القبض عن الشافعي» تفصيل: فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول
وما لا ينق كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به.
وقرر الحافظ أيضا أن اختيار البخاري رحمه الله تعالى أن استيفاء المبيع المنقول من البائع وتبقيته في منزل البائع لا يكون قبضا شرعيا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به.
قلت: ويؤيد هذا ما تقدم ذكره من النهي عن بيع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يبعث رجالا يضربون من باع السلع حيث اشتراها» .
وعلى هذا فمن اشترى أكياسا ونحوها مما ينقل بنقد أو نسيئة ثم باعها قبل أن ينقلها من مكان البائع فقد باع قبل تمام القبض وخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتكب نهيه.
وفاعل هذا يستحق التأديب كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدب على ذلك. والمقصود ههنا أنه لا يجوز التحيل على بيع ما لم يتم قبضه وأن من فعل ذلك فقد تشبه باليهود الذين يستحلون المحرمات بالحيل والله المستعان.
فصل
النوع الخامس والأربعون: من التشبه بأعداء الله تعالى مشابهة الشيطان في الأكل والشرب بالشمال. وقد وقع في هذه المشابهة الذميمة كثير من جهال المسلمين.
وقد ذكر ابن عبد البر وابن حزم أن الأكل بالشمال محرم لظاهر الأخبار.
وفي الصحيحين والمسند والسنن إلا النسائي عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام سم الله وكل بيمنك وكل مما يليك» .
وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن جابر رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه ولا يمش في خف واحد ولا يأكل بشماله» .
وفي رواية للإمام مالك ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يأكل الرجل بشماله أو يمشي في نعل واحدة» .
وروى مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والدارمي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي رواية لأحمد ومسلم: «لا يأكلن أحد منكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها» .
قال وكان نافع يزيد فيها: «ولا يأخذ بها ولا يعطي بها» وأخرج البخاري هذه الرواية في الأدب المفرد من طريق ابن وهب بإسناد مسلم.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال» وهكذا رواه ابن ماجه في سننه وإسناده إسناد مسلم.
وفي مسند الحسن بن سفيان وسنن ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليأكل أحدكم بيمينه ويشرب بيمنه وليأخذ بيمينه وليعط بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويعطي بشماله ويأخذ بشماله» .
وقد دلت هذه الأحاديث على المنع من الأكل والشرب بالشمال وظاهرها يدل على التحريم كما ذهب إليه ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما وهذا إذا لم يكن عذر فإن كان عذر يمنع الأكل والشرب باليمن من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال نبه على ذلك النووي في شرح مسلم.
وعلة المنع من الأكل والشرب بالشمال ما فيه من التشبه بالشيطان كما هو مصرح به في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وما بعده من الأحاديث.
وللمنع علة أخرى وهي مشاركة الشيطان للآكل بشماله والشارب بشماله كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «من أكل بشماله أكل معه الشيطان ومن شرب بشماله شرب معه الشيطان» قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن.
وللمنع أيضًا علة ثالثة وهي الكبر ولهذا يكون الأكل والشرب بالشمال في المتكبرين والمتجبرين أكثر منه في غيرهم.
وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: «كل بيمنك» قال: لا أستطيع قال: «لا استطعت ما منعه إلا الكبر» فما رفعها إلى فيه.