المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الوعيد الشديد على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة - الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌ الوعيد الشديد على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة ونهى عن لبس الذهب والحرير ونهى عن جلود النمور أن يركب عليها ونهى عن المتعة ونهى عن تشييد البناء» .

ومنها ما رواه النسائي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة» .

ومنها ما في الصحيحين وغيرهما عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع - فذكر السبع الأول ثم قال- ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب في الفضة أو قال: أنية الفضة وعن المياثر والقسي وعن لبس الحرير والديباج والاستبرق» .

وفي رواية لمسلم: «وعن الشرب في الفضة فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة» .

إذا علم هذا فالصحيح من قولي العلماء أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلا ما عرفت إباحته، وقد نقل هذا عن مالك والشافعي وهو قول الجمهور واختاره البخاري رحمه الله، قال في آخر كتاب الاعتصام من صحيحه باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلا ما تعرف إباحته، قال الحافظ ابن حجر: أي بدلالة السياق أو قرينة الحال، أو قيام الدليل على ذلك. انتهى.

وقد ورد‌

‌ الوعيد الشديد على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

والوعيد الشديد على الشيء يقتضي تحريمه بل يدل على أنه من الكبائر.

ص: 104

ففي الصحيحين والموطأ ومسندي الشافعي وأحمد وسنن ابن ماجه عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» .

وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بنحوه.

وفي رواية لمسلم: «إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب» .

وفي رواية له أخرى: «من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارًا من جهنم» .

ورواه الطبراني في الكبير بنحوه وزاد إلا أن يتوب.

وفي المسند وسنن ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب في إناء فضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم» .

وروى الطبراني في الصغير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» .

وروى الدارقطني وحسنه والطبراني والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم» هذا لفظ الدارقطني.

وروى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي بعثني بالحق لا تنقضي هذه الدنيا حتى يقع بهم الخسف والمسخ والقذف قال: ومتى ذلك يا نبي الله بأبي أنت وأمي؟ قال: إذا رأيت النساء قد ركبن السروج وكثرت القينات وشهد شهادات الزور

ص: 105

وشرب المسلمون في آنية أهل الشرك الذهب والفضة واستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء فاستدفروا واستعدوا» وقال: هكذا بيده وستر وجهه.

وروى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة. ومن شرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا لم يشرب بها في الآخرة. ثم قال: لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة» . قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى الطبراني في الصغير وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس الحرير وشرب في الفضة فليس منا» .

قال ابن مفلح في الفروع: هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم.

وقال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث حذيفة وأم سلمة والبراء رضي الله عنهم، في هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلا كان أو امرأة ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء؛ لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء.

قال القرطبي وغيره في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب.

ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور.

ص: 106

قلت: وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الحنفية أنهم قالوا: لا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء للنصوص، ولأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر أيضا نقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة أحد التابعين فكأنه لم يبلغه النهي عن الشافعي في القديم ونص في الجديد على التحريم ومن أصحابه من قطع به عنه وهذا اللائق به لثبوت الوعيد عليه بالنار.

وذكر الحافظ أيضا أن الشافعي نص على تحريم اتخاذ الإناء من الذهب أو الفضة.

قال الحافظ: وإذا حرم الاتخاذ فتحريم الاستعمال أولى.

وقال الحافظ أيضا اختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها والأشهر المنع وهو قول الجمهور ورخصت فيه طائفة وهو مبني على العلة في منع الاستعمال انتهى.

وقد ذكر العلماء لمنع الاستعمال عللاً كثيرةً ومن أقواها علتان: كل واحدة منهما تفيد تحريم الاتخاذ من غير استعمال؛ لأن المعنى الذي حرم الاستعمال من أجله موجود في الاتخاذ أيضا فكان حكمه حكم الاستعمال، ولأن الاتخاذ وسيلة في الاستعمال والوسائل لها حكم المقاصد.

العلة الأولى: السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وهذه العلة هي المشهورة عند كثير من الفقهاء من الحنابلة وغيرهم.

ص: 107

قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في المغني ويحرم اتخاذ الآنية من الذهب والفضة واستصناعها؛ لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور والمزمار ويستوي في ذلك الرجال والنساء لعموم الحديث.

قلت: يعني بذلك حديث حذيفة وحديث أم سلمة. قال: ولأن علة تحريمها السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وهذا معنى يشمل الفريقين وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى التزين للأزواج فتختص الإباحة به دون غيره. انتهى.

العلة الثانية التشبه بالكفار كما يفيد ظاهر حديث حذيفة رضي الله عنه الذي تقدم في أول الفصل والتشبه بالكفار حرام لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تشبه بغيرنا» ، رواه الترمذي. ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» .

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} انتهى.

وهذه العلة أقوى من الأولى لحديث حذيفة المتقدم في أول الفصل.

ولما روى الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين أن حذيفة رضي الله عنه أتى بيتا فرأى فيه شيئًا من زي العجم فلم يدخله، وقال:«من تشبه بقوم فهو منهم» .

ص: 108

وقال المروذي في كتاب الورع: قرئ على أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأنا أسمع عن يحيى بن سعيد عن أبي عبيدة قال: دعي حذيفة رضي الله عنه إلى شيء قال: فرأى شيئا من زي الأعاجم قال: فخرج وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» ، فهذا المروي عن حذيفة رضي الله عنه يؤيد القول بأن علة المنع التشبه بالكفار ويفيد بظاهره أنه لا فرق بين الاتخاذ للاستعمال وبين الاتخاذ للزينة من غير استعمال.

وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى نحو ذلك فذكر القاضي أبو الحسين في الطبقات في ترجمة علي بن أبي صبح السواق قال: كنا في وليمة فجاء أحمد بن حنبل فنظر إلى كرسي في الدار عليه فضة فخرج فلحقه صاحب المنزل فنفض يده في وجهه وقال زي المجوس زي المجوس وخرج.

وقال صالح بن أحمد كان رجل يختلف مع خلف المخرمي إلى عفان يقال له أحمد بن الحكيم العطار فختن بعض ولده فدعا يحيى وأبا خيثمة وجماعة من أصحاب الحديث وطلب أبي أن يحضر فمضوا ومضى أبي وأنا معه فلما دخل أجلس في بيت ومعه جماعة من أصحاب الحديث ممن كان يختلف معه إلى عفان فكان فيهم رجل يكنى بأبي بكر يعرف بالأحول فقال له: يا أبا عبد الله ههنا آنية الفضة فالتفت فإذا كرسي فقام وخرج وتبعه من كان في البيت وسأل من كان في الدار عن خروجه فأخبروا فتبعه منهم جماعة وأخبر الرجل فخرج فلحق أبي فحلف له أنه ما علم بذلك ولا أمر به وجاء يطلب إليه فأبى وجاء الرجل عفان فقال له الرجل: يا أبا عثمان اطلب إلى أبي عبد الله يرجع فكلمه عفان فأبى أن يرجع ونزل بالرجل أمر عظيم رواه أبو نعيم في الحلية.

ص: 109

وقال أحمد رحمه الله تعالى في رواية صالح إذا كان في الدعوة مسكر أو شيء من منكر آنية المجوس الذهب والفضة أو ستر الجدران بالثياب خرج ولم يطعم.

وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله فالرجل يدعى فيرى مكحلة رأسها مفضض قال: هذا يستعمل وكل ما استعمل فاخرج منه إنما رخص في الضبة أو نحوها.

وهذه الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى تفيد أن كل ما صلح للاستعمال من آنية وآلة وغيرهما فاتخاذه من الذهب والفضة لا يجوز وينكر على متخذه ولا تجاب دعوته. ومن لم يعلم به إلا بعد ما دخل دار متخذه فإنه يخرج ولا يطعم.

ويستثنى من ذلك خاتم الفضة وقبيعة السيف منها وحلية المنطقة ونحو ذلك مما رخص فيه.

وقال المروذي أيضًا قلت لأبي عبد الله دخلت على رجل فأتى بمكحلة رأسها مفضض فقطعتها فأعجبه ذلك فتبسم وأنكر على صاحبها.

وقال أيضا: قيل لأبي عبد الله إن رجلاً دعا قوما فجيء بطشت فضة أو إبريق فكسر، فأعجب أبا عبد الله كسره، قلت لأبي عبد الله: فإن وقع إلي إبريق لأبيعه ترى أن أكسره أو أبيعه كما هو؟ قال: اكسره، وقال أيضا سألت أبا عبد الله عن إبريق فضة يباع؟ قال: لا حتى يكسر.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ووجه ذلك أن الصناعة محرمة فلا

ص: 110

قيمة لها ولا حرمة وأيضًا فتعطيل هذه الهيئة مطلوب فهو بذلك محسن وما على المحسنين من سبيل انتهى.

وعلى هذه الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى يخرج الحكم في الصناديق والساعات والأقلام المتخذة من الذهب أو الفضة وفيما سوى ذلك من الأواني والآلات المتخذة منهما فكل ما صلح من ذلك للاستعمال لم يجز اتخاذه لا للذكور ولا للإناث ويكسر إذا أمكن كسره وينكر على متخذه ولا تجاب دعوته.

ويستثنى من ذلك الساعات في حق النساء إذا كن يتحلين بها.

والعلة في المنع من اتخاذ ما ذكر هي مشابهة الكفار كما علل بذلك حذيفة رضي الله عنه فيما رواه المروذي والخلال عنه وتقدم ذكره. وكما علل بذلك الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيما تقدم ذكره في رواية السواق ورواية صالح. وروي عن الشافعي وغيره أنهم عللوا بذلك في أواني الذهب والفضة.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبها بالكفار ثم ذكر بعض ما ذكرته عن حذيفة وأحمد، والأصل في ذلك ما تقدم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» .

فأفاد هذا الحديث الصحيح أن من استعمل ما لا يجوز له استعماله من الذهب أو الفضة أو اتخذ ذلك عنده فقد تشبه بأعداء الله تعالى ومن تشبه بقوم فهو منهم.

ص: 111

فصل

وأما تختم الذكور بخواتم الذهب فقد ورد التصريح بتحريمه في عدة أحاديث وورد النهي عنه في أحاديث أخر والنهي يقتضي التحريم كما تقدم تقرير ذلك قريبًا، وورد أيضا التغليظ فيه والكراهة الشديدة له وهجر متخذه والإنكار عليه وذلك يقتضي التحريم أيضًا، فأما الأحاديث المصرحة بتحريمه.

فالأول منها: عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها» ، رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والترمذي والنسائي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الحديث الثاني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي» ، رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي وصححه ابن حبان، وزاد ابن ماجه في روايته:«حل لإناثهم» .

الحديث الثالث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إحدى يديه ثوب من حرير وفي الأخرى ذهب فقال: «إن هذين محرم على ذكور أمتي حل لإناثهم» رواه أبو داود الطيالسي وابن ماجه.

الحديث الرابع عن عمر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يديه صرتان إحداهما من ذهب والأخرى من حرير فقال: «هذان حرام على الذكور من أمتي حلال للإناث» رواه الطبراني.

ص: 112

الحديث الخامس عن مسلمة بن مخلد أنه قال لعقبة بن عامر رضي الله عنه قم فحدث بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمعته يقول: «الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم» رواه الإمام أحمد.

الحديث السادس عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب والحرير حل لإناث أمتي وحرام على ذكورها» ، رواه الإمام أحمد والطبراني.

الحديث السابع عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب والحرير حل لإناث أمتي وحرام على ذكورها» رواه الطبراني.

وأما الأحاديث في نهي الرجال عن التختم بالذهب.

فالأول منها عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهى عن خاتم الذهب أو قال حلقة الذهب» ، الحديث متفق عليه.

الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن ختم الذهب» متفق عليه.

الحديث الثالث: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن لبس القسي والمعصفر وعن تختم الذهب وعن قراءة القرآن في الركوع» ، رواه مالك وأحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 113

الحديث الرابع عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب» رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب» رواه ابن ماجه.

الحديث السادس: عن حذيفة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والذهب وقال هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» ، رواه ابن ماجه وهو في الصحيحين لكن بغير هذا اللفظ كما تقدم ذكره.

الحديث السابع عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب ومياثر النمور» رواه النسائي بهذا اللفظ، ورواه أبو داود مطولاً وفيه قصة وعنده أن المقدام قال لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن لبس الذهب» ، قال: نعم.

الحديث الثامن عن حمان بن خالد الهنائي أن معاوية رضي الله عنه عام حج جمع نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة فقال: «أنشدكم بالله هل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبوس الذهب» قالوا: نعم قال: وأنا أشهد رواه النسائي.

الحديث التاسع عن عائشة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والذهب» ، رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية من طريقه.

الحديث العاشر عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى

ص: 114

عن الشرب في آنية الذهب والفضة ونهى عن لبس الذهب والحرير» رواه الطبراني.

الحديث الحادي عشر عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن النوح والشعر والتصاوير وجلود السباع والتبرج والغناء والذهب والخز والحرير» رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه بأسانيد جيدة.

الحديث الثاني عشر عن أبي الكنود قال: أصبت خاتمًا من ذهب في بعض المغازي فلبسته فأتيت عبد الله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه فأخذه فوضعه بين لحييه فمضغه وقال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتختم بخاتم الذهب، أو قال: بحلقة الذهب» رواه الإمام أحمد.

ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده مختصرًا ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن خاتم الذهب أو حلقة الذهب» وليس فيه ذكر الخاتم الذي وجده أبو الكنود.

الحديث الثالث عشر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن خاتم الذهب وعن خاتم الحديد» رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي رجاله ثقات.

وأما الأحاديث في التغليظ في التختم بالذهب وكراهته وهجر متخذه والإنكار عليه:

فالأول: منها عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» فقيل للرجل بعد ما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم: خذ

ص: 115

خاتمك انتفع به قال: لا والله لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.

الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبس فصنع الناس ثم إنه جلس عن المنبر فنزعه فقال: «إني كنت ألبس هذا الخاتم واجعل فصه من داخل» فرمى به ثم قال: «والله لا ألبسه أبدًا» فنبذ الناس خواتيمهم رواه مالك وأحمد والشيخان وأهل السنن إلا ابن ماجه.

وفي رواية للنسائي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتمًا من ذهب ثلاثة أيام فلما رآه أصحابه فشت خواتيم الذهب فرمى به فلا ندري ما فعل.

الحديث الثالث: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رجلا كان جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من ذهب وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصرة أو جريدة فضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه فقال الرجل: مالي يا رسول الله؟ قال: «ألا تطرح هذا الذي في إصبعك؟» فأخذه الرجل فرمى به فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فقال: «ما فعل الخاتم؟» قال: رميت به قال: «ما بهذا أمرأتك إنما أمرتك أن تبيعه وتستعين بثمنه» رواه النسائي وقال: هذا حديث منكر. قلت: وفي إسناده رجل مبهم.

الحديث الرابع: عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر في يده خاتمًا من ذهب فجعل يقرعه بقضيب معه فلما غفل النبي صلى الله عليه وسلم ألقاه قال: «ما أرانا إلا قد أوجعناك وأغرمناك» رواه النسائي.

وفي رواية له عن أبي إدريس الخولاني مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى

ص: 116

في يد رجل خاتمًا من ذهب فضرب إصبعه بقضيب كان معه حتى رمى به.

الحديث الخامس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال وذكر منها التختم بالذهب» ، رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني والنسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث السادس عن أبي ذر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أكلتنا الضبع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا لغير الضبع أخوف عليكم من الضبع إذا صبت عليكم الدنيا فيا ليت أمتي لا يلبسون الذهب» ، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن زيد بن وهب عن أبي ذر رضي الله عنه.

ورواه الإمام أحمد عن وكيع عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن زيد ابن وهب عن أبي ذر رضي الله عنه فذكره بنحوه وزاد فقلت لزيد بن وهب ما الضبع؟ قال: السنة. قال ابن الأثير: الضبع السنة المجدبة وهي في الأصل الحيوان المعروف والعرب تكني به عن سنة الجدب انتهى.

الحديث السابع: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على بعض أصحابه خاتمًا من ذهب فأعرض عنه فألقاه واتخذ خاتمًا من حديد فقال: «هذا شر هذا حلية أهل النار» فألقاه فاتخذ خاتمًا من ورق فسكت عنه رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد.

الحديث الثامن: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أقبل رجل من البحرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فلم يرد عليه وكان في يده خاتم من

ص: 117

ذهب وعليه جبة حرير فألقاهما ثم سلم فرد عليه السلام ثم قال: يا رسول الله! أتيتك آنفًا فأعرضت عني قال: «إنه كان في يدك جمرة من نار» رواه البخاري في الأدب المفرد والنسائي في سننه.

الحديث التاسع عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبسن حريرًا ولا ذهبًا» ، رواه الإمام أحمد والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث العاشر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لبس الذهب من أمتي فمات وهو يلبسه حرم الله عليه ذهب الجنة» رواه الإمام أحمد.

فهذه ثلاثون حديثًا في منع الذكور من لبس الذهب وسواء في ذلك الكبير منهم والصغير لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها» .

قال مالك رحمه الله تعالى في الموطأ أنا أكره أن يلبس الغلمان شيئا من الذهب؛ لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تختم الذهب فأنا أكرهه للرجال الكبير منهم والصغير.

وقال النووي في شرح مسلم أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء، وأجمعوا على تحريمه على الرجال إلا ما حكي عن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم أنه أباحه، وعن بعض أنه مكروه لا حرام.

وهذان النقلان باطلان فقائلهما محجوج بهذه الأحاديث التي ذكرها

ص: 118

مسلم مع إجماع من قبله على تحريمه له مع قوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير «إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها» .

قال أصحابنا ويحرم سنن الخاتم إذا كان ذهبًا وإن كان باقيه فضة وكذا لو موه خاتم الفضة بالذهب فهو حرام انتهى كلام النووي.

فإن قيل: إنه قد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم لبسوا خواتم الذهب وذلك مما يدل على الجواز.

فالجواب من وجهين:

أحدهما: ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى إنه إن صح عنهم فلعله لم يبلغهم النهي وهم في ذلك كمن رخص في لبس الحرير من السلف وقد صحت السنة بتحريمه على الرجال وإباحته للنساء انتهى.

الثاني: إن تحريم الذهب على الذكور ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه كما تقدم وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز العدول عنه إلى غيره؛ لأنه لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري في جزء رفع اليدين بإسناد صحيح.

وقال سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم: «سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع» رواه البخاري في جزء رفع اليدين بإسناد صحيح.

وقال الأوزاعي كتب عمر بن عبد العزيز أنه لا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الدارمي في سننه بإسناد جيد.

ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة من طريق إسماعيل

ص: 119

ابن عياش حدثنا بشر بن عبد الله بن يسار السلمي وسوادة بن زياد وعمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الناس أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} . وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فكل قول أو فعل خالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله فهو مردود على قائله كائنا من كان ولا يجوز لأحد أن يعمل به وهذا أمر مجمع عليه.

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد.

إذا علم هذا فمثل التختم بالذهب ما فشا في زماننا من التحلي بساعات الذهب أو ما فيه خلط منه أو كان مموها به فيحرم ذلك على الذكور كالتختم بالذهب بل التحلي بساعات الذهب أولى بالتحريم في حق الذكور في التختم بالذهب؛ لأن لابسها من الرجال قد جمع بين أمرين محرمين:

أحدهما: لبس ما هو حرام على الذكور بالنص والإجماع.

والثاني: التشبه بالنساء في لبسهن الأساور والتشبه بالنساء حرام.

وباجتماع هذين المحرمين يكون تحريم ساعات الذهب على الذكور أغلظ من تحريم خواتم الذهب عليهم والله أعلم.

ص: 120

وحكم ساعات الفضة في حق الذكور كحكم ساعات الذهب أو قريب منه لما في تحليهم بهن من التشبه بالنساء. وأيضا فإنه إنما أبيح للرجال من الفضة الخاتم وقبيعة السيف وحلية المنطقة ونحو ذلك مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين أنهم ترخصوا فيه وما سوى ذلك فهو باق على المنع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» رواه الإمام أحمد ومسلم والبخاري تعليقًا مجزومًا به من حديث عائشة رضي الله عنها.

وقد زعم بعض الناس أنه يجوز للرجال التوسع في لبس الفضة يعني من غير اقتصار على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين أنهم لبسوه واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها» رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ولو تأمل هذا القائل أول الحديث لعلم أنه لا حجة له فيه ولظهر له أن الرخصة في التحلي بالفضة إنما أريد بها النساء خاصة. ولفظ الحديث عند أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يحلق حبيبه بحلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب ومن أحب أن يطوق حبيبه سوارًا من نار فليسوره بسوار من ذهب ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها» ، فشدد على الرجال في تحلية نسائهم بالذهب ثم رخص لهم أن يلبسوهن من حلي الفضة ما شاءوا.

ويدل على أن الرخصة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه إنما هي للنساء دون الرجال حديث أخت حذيفة رضي الله عنه وعنها قالت: خطبنا

ص: 121

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين به أما إنه ليس منكن امرأة تحلت ذهبًا تظهره إلا عذبت به» ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

ويدل على ذلك أيضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت قاعدًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتته امرأة فقالت: يا رسول الله سوارين من ذهب قال: «سواران من نار» قالت: يا رسول الله طوق من ذهب قال: «طوق نار» قالت: قرطين من ذهب قال: «قرطان من نار» قال: وكان عليها سواران من ذهب فرمت بهما وقالت: يا رسول الله إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها صلفت عنده قال: «ما يمنع إحداكن أن تصنع قرطين من فضة ثم تصفره بزعفران أو بعبير» رواه الإمام أحمد والنسائي، قولها صلفت عنده معناه ثقلت عليه ولم تحظ عنده.

ويدل على ذلك أيضا ما رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية من طريقه عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أنها كانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم قالت فبينا أنا عنده إذ جاءته خالتي قالت: فجعلت تسائله وعليها سواران من ذهب فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيسرك أن عليك سوارين من نار» قالت: قلت: يا خالتاه إنما يعني سواريك هذين قالت: فألقتهما وقالت: يا نبي الله إنهن إذا لم يتحلين صلفن عند أزواجهن فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أما تستطيع أن تجعل خوقًا من فضة وجمانة من فضة ثم تخلقه بزعفران فيكون كأنه من ذهب فإنه من تحلى وزن عين جرادة أو خربصيصة كوى بها يوم القيامة» .

قال الجوهري وابن الأثير الخوق الحلقة. وقال ابن منظور الخوق: الحلقة من الذهب والفضة. وقيل: هي حلقة القرط والشنف خاصة. وقال

ص: 122

ثعلب الخوق حلقة في الأذن، قال ابن منظور: يقال ما في أذنها خرص ولا خوق انتهى. وأما الجمانة فقال الجوهري: حبة تعمل من الفضة كالدرة وجمعها جمان، وقال صاحب القاموس الجمان كغراب اللؤلؤ أو هنوات أشكال اللؤلؤ من فضة الواحدة جمانة انتهى وسيأتي تفسير الخربصيصة قريبًا إن شاء الله تعالى.

فهذه الأحاديث الثلاثة مطابقة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ومزيلة لما قد يتوهمه منه من لم يمعن النظر فيه والله أعلم.

وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال: «مالي أجد منك ريح الأصنام» ؟ فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النار» ، فطرحه فقال: يا رسول الله! من أي شيء أتخذه قال: «اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً» قال الترمذي: هذا حديث غريب وصححه ابن حبان.

واحتج به الإمام أحمد فيما رواه الأثرم عنه فدل على صحته عنده.

وفي قوله: «ولا تتمه مثقالاً» دليل على أنه لا يجوز للرجال التوسع في لبس الفضة.

ويدل على ذلك أيضًا ما رواه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» .

وهذا الحديث من أقوى الأدلة على منع الرجال من التوسع في لبس الفضة لما في ذلك من التشبه بالكفار والله أعلم.

ص: 123

وبعد تحرير هذا الموضع وقفت على كلام للشيخ محمد بن مفلح رحمه الله تعالى قرر فيه ما ذكرته ههنا وأورد فيه أدلة كثيرة على منع الرجال من استعمال كثير الفضة، ولحسن كلامه وكثرة فوائده رأيت أن أسوقه كله ههنا وإن كان في بعض ما ذكره من الأحاديث نوع تكرار مع ما ذكرته.

قال أبو البركات ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه المحرر: ويباح للرجل من حلي الفضة الخاتم وقبيعة السيف.

قال ابن مفلح في النكت على المحرر: ظاهره تحريم لباس الفضة والتحلي بها إلا ما استثناه وعلى هذا كلام غيره صريحًا وظاهرًا ولم أجد أحدًا احتج لتحريم لباس الفضة على الرجال في الجملة ودليل ذلك فيه إشكال.

وحكي عن الشيخ تقي الدين أنه كان يستشكل هذه المسألة وربما توقف فيها. وكلامه في موضع يدل على إباحة لبس الفضة للرجل إلا ما دل دليل شرعي على تحريمه.

وقال في موضع آخر لباس الذهب والفضة يباح للنساء بالاتفاق - إلى أن قال- فلما كانت ألفاظه صلوات الله وسلامه عليه عامة في آنية الذهب والفضة وفي لباس الذهب استثنى من ذلك ما خصصته الأدلة الشرعية كيسير الحرير ويسير الفضة في الآنية للحاجة ونحو ذلك فأما لبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه فإذا جاءت السنة بإباحة خاتم الفضة كان هذا دليلا على إباحة ذلك وما هو في معناه وما هو أولى منه بالإباحة وما لم يكن كذلك يحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه. انتهى.

ص: 124

كلامه وذلك لأن النص ورد في الذهب والحرير وآنية الذهب والفضة فليقتصر على مورد النص وقد قال الله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} .

قلت: قد تقدم ما رواه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» .

وهذا لفظ عام يدل على منع الرجال من لبس الذهب والفضة والحرير والديباج. ويخص من عمومه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أنهم ترخصوا فيه وما سوى ذلك فهو باق على المنع كما تقدم تقريره. ومن ادعى إباحة شيء مما دخل في عموم هذا الحديث الصحيح فعليه إقامة الدليل على تخصيصه من العموم والله أعلم.

قال ابن مفلح: ووجه تحريم ذلك أن الفضة أحد النقدين اللذين تقوم بهما الجنايات والمتلفات وغير ذلك، وفيها السرف والمباهات والخيلاء ولا تختص معرفتها بخواص الناس فكانت محرمة على الرجال كالذهب ولأنها جنس يحرم فيها استعمال الإناء فحرم منها غيره كالذهب وهذا صحيح فإن التسوية بينهما في غيره. ولأن كل جنس حرم استعمال إناء منه حرم استعماله مطلقًا وإلا فلا وهذا استقراء صحيح وهو أحد الأدلة، ولأنه عليه الصلاة والسلام رخص للنساء في الفضة وحضهن عليها ورغبهن فيها ولو كانت إباحتها عامة للرجال والنساء لما خصهن بالذكر ولأثبت عليه الصلاة والسلام الإباحة عامة لعموم الفائدة بل يصرح بذكر الرجال لما فيه من كشف اللبس وإيضاح الحق. وذلك فيما قال الإمام

ص: 125

أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور عن ربعي عن امرأته عن أخت حذيفة قالت: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر النساء ما منكن امرأة تتحلى ذهبًا تظهره إلا عذبت به» ، رواه أبو داود عن مسدد عن أبي عوانة عن منصور. حديث حسن. وربعي هو ابن حراش الإمام.

وقال أحمد أيضًا حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار حدثني أسيد بن أبي أسيد عن ابن أبي موسى عن أبيه أو عن ابن أبي قتادة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يحلق حبيبته حلقة من نار فليحلقها حلقة من ذهب ولكن الفضة فالعبوا بها لعبًا» ، وقوله:«فالعبوا بها لعبًا» يعني النساء؛ لأن السياق فيهمن فقوله: حلوا معاشر الرجال نساءكم بالفضة مطلقًا من غير حاجة ولا يحوج من كره.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت امرأة: يا رسول الله! طوق من ذهب قال: «طوق من نار» -إلى أن قال-: «ما يمنع إحداكن أن تصنع قرطين من فضة ثم تصفرهما بالزعفران» ، رواه أحمد. ولأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الخاتم من أي شيء أتخذه قال:«من ورق ولا تتمه مثقالاً» رواه جماعة منهم النسائي والترمذي، وقال: حديث غريب.

وهذا يدل على أنهم كانوا ممنوعين من استعمال الورق وإلا لما توجهت الإباحة إليه وأباح اليسير؛ لأنه نهى عن تتمته مثقالاً ولأن الصحابة رضي الله عنهم نقلوا عنه عليه الصلاة والسلام استعمال يسير الفضة ليكون ذلك حجة في اختصاصه بالإباحة ولو كانت الفضة مباحة مطلقًا لم يكن في نقلهم استعمال اليسير من ذلك كبير فائدة فقال أنس رضي الله عنه:

ص: 126

كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حسن غريب.

وقال مزيدة العصري دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة، رواه الترمذي، وقال: غريب، وهذا كقول أنس رضي الله عنه أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة. لتكون حجة إباحة اليسير في الآنية.

وقد ثبت في الصحاح والسنن من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من الفضة انتهى كلام ابن مفلح رحمه الله تعالى.

ولقد أجاد وأفاد وقرر الصواب الذي لا شك فيه وأوضح الأدلة على ذلك وأحسن التعقب والتزييف لما خالفه وفي أول تقريره لتحريم الفضة جملة فيها خلل وهي قوله: فإن التسوية بينهما في غيره.

ويظهر لي أن في العبارة سقطًا وأن صوابه هكذا: فإن التسوية بينهما في تحريم استعمال الإناء منهما تقتضي التسوية بينهما في غيره والله أعلم.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام "في قواعد الأحكام": لبس الذهب والتحلي به محرم على الرجال إلا لضرورة وحاجة ماسة، وكذلك الفضة إلا الخاتم وآلات الحرب وكذلك لبس الحرير لا يجوز للرجال إلا لضرورة أو حاجة ماسة. ويجوز لبس الحرير والتحلي بالذهب والفضة للنساء تحبيبا لهن إلى الرجال. فإن حبهن حاث على إيلادهن من يباهي به الرسول الأنبياء وينتفع به الوالد إن عاش بما جرت به العادة من الانتفاع

ص: 127

بالأولاد والأحفاد. وإن مات كان فرطا لأبويه وأجرا وذخرا ووقاية من النار بحيث لا تصيبه إلا تحلة القسم انتهى.

فصل

وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه لوقوعه من كثير من الجهال وهو إلباس الأسنان بأغلفة من ذهب قصدًا للزينة لا من خلل في الأسنان وبعضهم يقلع أسنانه ويبدلها بأسنان ذهب قصدا للزينة وهذا لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها» .

وإنما أجاز العلماء ربط الأسنان بالذهب إذا كان يخشى سقوطها؛ لأن ذلك مما تدعو إليه الضرورة واستدلوا على ذلك بحديث عرفجة بن أسعد أنه قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفًا من ورق فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفًا من ذهب رواه أهل السنن إلا ابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن قال: وقد روي عن غير واحد من أهل العلم أنهم شدوا أسنانهم بالذهب، وفي هذا الحديث حجة لهم انتهى.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ربط الأسنان بالذهب إذا خشي عليها أن تسقط قد فعله الناس فلا بأس به عند الضرورة. فقيد رحمه الله تعالى الجواز بالضرورة فعلم أنه لا يجوز ما لم تدع إليه ضرورة كإبدال الأسنان بالذهب وتغليفها به ونحو ذلك مما يقصد به الزينة لأن الضرورة إذا انتفت فالأصل التحريم والله أعلم.

ومن قاس ما لم تدع إليه ضرورة على محل الضرورة وجعل الجميع من باب واحد فقد أبعد النجعة ونادى على كثافة جهله.

ص: 128

وقد روى الأثرم بإسناده عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم قال: من حلى أو تحلى بخربصيصة كوي بها يوم القيامة مغفورا له أو معذبًا، وهذا له حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال إلا عن توقيف، وقد احتج الإمام أحمد بهذا الحديث في رواية الأثرم.

قال الأثرم: قلت أي شيء خربصيصة؟ قال شيء صغير مثل الشعيرة. وقال الهروي وغيره من أهل اللغة الخربصيصة هي الهنة التي تتراءى في الرمل لها بصيص كأنها عين جرادة.

وإذا كان الأمر هكذا في التحلي بالخربصيصة التي هي مثل عين الجرادة في الصغر فكيف بالتحلي بما هو أكبر من ذلك بكثير كالساعات والخواتيم والأزارير والأسنان وأغلفتها وغير ذلك من حلي الذهب مما قد كثر استعماله في زماننا واستحله كثير من الجهال فالله المستعان.

فصل

وأما لبس الحرير فقد ورد التصريح بتحريمه على الذكور فيما رواه عمر وعلي وأبو موسى وعبد الله بن عمرو وعقبة بن عامر وزيد بن أرقم وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم وقد تقدمت أحاديثهم قريبًا. ومن الأحاديث الصريحة في التحريم حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك والله يمين أخرى ما كذبني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير» رواه البخاري تعليقًا وأبو داود موصولاً وهذا لفظه.

ص: 129

ومن الأحاديث في هذا الباب أيضًا حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن تستحل أمتي فروج النساء والحرير» رواه ابن المبارك في الزهد وابن عساكر في تاريخه. ورواه البخاري في التاريخ الكبير ولفظه قال: «يوشك أن يستحلوا الخمر والحرير» ، وفي نسخة:«الحر والحرير» .

ومن الأحاديث في هذا الباب أيضا حديث مكحول عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك ورحمة ثم ملك أعفر ثم ملك وجبروت يستحل فيها الخمر والحرير» ، رواه الدارمي في سننه وقال: وقد سئل عن أعفر فقال: يشبهه بالتراب وليس فيه خير. وقال ابن الأثير في النهاية أي ملك يساس بالنكر والدهاء من قولهم للخبيث المنكر عفر والعفارة الخبث والشيطنة ومنه الحديث: «أن الله تعالى يبغض العفرية النفرية هو الداهي الخبيث الشرير ومنه العفريت» ، انتهى. وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده من طريق عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر بنبوة ورحمة وكائنًا خلافة ورحمة وكائنًا ملكًا عضوضًا وكائنًا عتوا وجبرية وفسادًا في الأرض يستحلون الفروج والخمور والحرير وينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله» .

وورد أيضًا النهي عن الحرير في عدة أحاديث وفي بعضها النهي عنه وعن الديباج والإستبرق والقسي والمعصفر والمياثر. والنهي يقتضي التحريم كما تقدم تقرير ذلك قريبًا، وورد أيضًا التغليظ فيه والكراهة

ص: 130

الشديدة له وهجر لابسه والإنكار عليه وذلك مما يقتضي التحريم أيضًا.

فأما أحاديث النهي عنه فقد تقدم ستة منها قريبًا.

أولها: حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج» ، وفي لفظه:«نهانا عن الحرير والديباج» الحديث. رواه الإمام أحمد والشيخان وأهل السنن.

ثانيها: حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن لبس الذهب والحرير» ، رواه الطبراني في الكبير.

ثالثها: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما المخرج في الصحيحين وغيرهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع فذكر المأمورات ثم قال: «ونهى عن خواتيم الذهب وعن الشرب في الفضة وعن المياثر والقسي وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق» .

فأما المياثر والقسي فسيأتي الكلام عليهما بعد الحديث الرابع. وأما الحرير فمعروف، وأما الديباج والإستبرق فقال الحافظ ابن حجر أنهما صنفان نفيسان من الحرير.

وقال ابن الأثير: الديباج هو الثياب المتخذة من الإبريسم فارسي معرب والإستبرق ما غلظ من الحرير والإبريسم وهي لفظة أعجمية معربة أصلها استبرة. وقال الجوهري الإستبرق الديباج الغليظ.

وفي الصحيحين وسنن النسائي عن يحيى بن أبي إسحاق قال: قال لي سالم بن عبد الله ما الإستبرق؟ قلت: ما غلظ من الديباج وخشن منه.

ص: 131

الرابع: حديث علي رضي الله عنه الذي رواه مالك وأحمد وأبو داود الطيالسي وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن لبس القسي والمعصفر» ، الحديث.

وروى الدارقطني في سننه عن أبي بردة قال: انطلقت أنا وأبي إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقال لنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن آنية الذهب والفضة أن يشرب فيها وأن يؤكل فيها ونهى عن القسي والميثرة وعن ثياب الحرير وخاتم الذهب» .

وروى الإمام أحمد والنسائي عن مالك بن عمير قال: كنت قاعدًا عند علي رضي الله عنه فجاء صعصعة بن صوحان فسلم ثم قام فقال: يا أمير المؤمنين انهنا عما نهاك عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نهانا عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير ونهانا عن القسي والميثرة الحمراء وعن الحرير والحلق الذهب» ، هذا لفظ أحمد.

وفي رواية له أيضًا ولمسلم: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي وعن جلوس على المياثر» ، قال: فأما القسي فثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام فيها شبه كذا وأما المياثر فشيء كانت تجعله النساء لبعولتهن على الرحل كالقطائف الأرجوان. ورواه البخاري في صحيحه معلقًا فقال وقال عاصم عن أبي بردة قال: قلت لعلي رضي الله عنه ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير أمثال الأترنج والميثرة كانت النساء تصنعه لبعولتهن مثل القطائف يصفونها ثم ساق حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر والقسي» .

ص: 132

قال الجوهري: القسي ثوب يحمل من مصر يخالطه الحرير، وفي الحديث أنه نهى عن لبس القسي قال أبو عبيد هو منسوب إلى بلاد يقال لها القس قال: وقد رأيتها ولم يعرفها الأصمعي قال: وأصحاب الحديث يقولونه بكسر القاف وأهل مصر بالفتح انتهى كلام الجوهري.

وقال الهروي هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على شاطئ البحر قريبًا من تنيس يقال لها: القس بفتح القاف وبعض أهل الحديث يكسرها انتهى.

وأما المياثر فهي جمع ميثرة بكسر الميم وهو ما كان وطيئًا لينًا مما يجلس عليه ويرتفق به قال الخطابي والهروي وغيرهما من أهل اللغة: هي من مراكب العجم. قال الهروي: وتعمل من حرير أو ديباج وتتخذ كالفراش الصغير وتحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب تحته، وقال أبو عبيد: المياثر الحمر التي جاء النهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير.

قال الحافظ ابن حجر: وعلى كل تقدير فالميثرة وإن كانت من حرير فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس على الحرير ولكن تقييدها بالأحمر أخص من مطلق الحرير فيمتنع إن كانت حريرًا ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء. وإن كانت من غير حرير فالنهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم انتهى.

وقد علل بعض السلف النهي عن المياثر الحمر والثياب الحمر بأنها من زينة قارون، قال المروذي: سألت أبا عبد الله عن المرأة تلبس المصبوغ الأحمر فكرهه كراهة شديدة وقال: أما إن تريد الزينة فلا وقال:

ص: 133

يقال: إن أول من لبس الثياب الحمر قارون أو فرعون ثم قرأ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} قال: في ثياب حمر.

وعن مجاهد في قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} قال في ثياب أرجوان حمر وعن قتادة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} قال: على ألف بغلة شهباء عليها مياثر الأرجوان.

قال الجوهري: الأرجوان صبغ أحمر شديد الحمرة وقال غيره: هو الصوف وقيل: كل شيء أحمر فهو أرجوان ذكره الحافظ ابن حجر قال الجوهري، ويقال أيضًا الأرجوان معرب وهو بالفارسية أرغوان وهو شجر له نور أحمر أحسن ما يكون وكل لون يشبهه فهو أرجوان قال عمرو بن كلثوم:

كأن ثيابنا منا ومنهم

خضبن بأرجوان أو طلينا

وقد كثر في زماننا استعمال المياثر الحمر في مجالس الكبراء والمترفين وقد قيل: إن بعضها من الديباج وما كان منه فالجلوس عليه لا يجوز لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس عليه في الحديث الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه وتقدم ذكره.

وتقدم أيضا أن النهي يقتضي التحريم إلا ما عرفت إباحته، وما كان من غير الديباج فالظاهر أنه لا يجوز الجلوس عليه أيضا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المياثر ولما في ذلك من التشبه بالأعاجم والتشبه بهم حرام والله أعلم.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا أركب الأرجوان ولا ألبس

ص: 134

المعصفر ولا ألبس القميص المكفف بالحرير» قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الخامس: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والذهب» ، رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية من طريقه.

السادس: حديث معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن النوح والشعر والتصاوير وجلود السباع والتبرج والغناء والذهب والخز والحرير» رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه.

الحديث السابع عن أبي عثمان النهدي قال أتانا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الحرير إلا هكذا» وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام قال فيما علمنا أنه يعني الأعلام متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. ورواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي بنحوه، وفي رواية أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم:«نهى عن الحرير إلا ما كان هكذا وهكذا إصبعين وثلاثة وأربعة» .

وفي رواية ابن ماجه أن عمر رضي الله عنه: «كان ينهى عن الحرير والديباج إلا ما كان هكذا» ثم أشار بإصبعه ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عنه» .

وقد رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي من حديث سويد بن غفلة أن عمر رضي الله عنه خطب بالجابية فقال: «نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 135

الحديث الثامن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس وكان ينهى عن الحرير فعجب الناس منها فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا» متفق عليه.

الحديث التاسع عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير وعن التختم بالذهب وعن الشرب في الحناتم» رواه النسائي بهذا اللفظ والترمذي مختصرًا، وقال: حديث حسن صحيح.

الحديث العاشر عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب ومياثر النمور» رواه النسائي بهذا اللفظ ورواه أبو داود مطولاً، وفيه قصة وعنده أن المقدام قال لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن لبس الحرير؟» قال: نعم.

الحديث الحادي عشر عن أبي شيخ الهنائي قال: سمعت معاوية وحوله ناس من المهاجرين والأنصار فقال لهم: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن لبس الحرير؟» قالوا: اللهم نعم، رواه النسائي.

الحديث الثاني عشر عن أبي ريحانة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر وذكر منها أن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبيه حريرًا مثل الأعاجم» رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي.

ص: 136

الحديث الثالث عشر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لبس النبي صلى الله عليه وسلم يومًا قباء من ديباج أهدي له ثم أوشك أن نزعه فأرسل به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقيل له: قد أوشك ما نزعته يا رسول الله! فقال: «نهاني عنه جبريل» فجاءه عمر يبكي فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهت أمرًا وأعطيتنيه فمالي؟ قال: «إني لم أعطكه لتلبسه إنما أعطيتكه تبيعه» فباعه بألفي درهم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي.

وأما الأحاديث في التغليظ في لبس الحرير والكراهة الشديدة له وهجر لابسه والإنكار عليه.

فالأول منها ما في الصحيحين والموطأ ومسندي الشافعي وأحمد والسنن إلا الترمذي عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» ، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة فقال: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أكسكها لتلبسها» فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخًا له بمكة مشركًا.

وفي رواية لمسلم عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأى عمر رضي الله عنه عطاردًا التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء وكان رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم فقال عمر يا رسول الله إني رأيت عطاردًا يقيم في السوق حلة سيراء فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك

ص: 137

وأظنه قال: ولبستها يوم الجمعة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» فلما كان بعد ذلك أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة وقال: شققها خمرًا بين نسائك قال: فجاء عمر بحلته يحملها فقال: يا رسول الله بعثت إلي بهذه وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت. فقال: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها» ، وأما أسامة فراح في حلته فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرًا عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكر ما صنع فقال: يا رسول الله ما تنظر إلي فأنت بعثت إلي بها فقال: «إني لم أبعثها إليك لتلبسها ولكن بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين نسائك» .

ورواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه. وفي الصحيحين والمسند وسنني أبي داود والنسائي من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه نحو حديث نافع عنه.

قال الجوهري: السيراء بكسر السين وفتح الياء برد فيه خطوط صفر وقال ابن الأثير: السيراء بكسر السين وفتح الياء والمدنوع من البرود يخالطه حرير كالسيور. وقال الخطابي: السيراء هي المضلعة بالحرير.

قلت: وقد جاء تفسير السيراء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بردًا سيراء قال: والسيراء المضلع بالقز رواه أبو داود والنسائي. ورواه الحاكم في مستدركه مختصرًا وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

الحديث الثاني عن عمران بن حطان قال: سألت عائشة رضي الله

ص: 138

عنها فقالت: ائت ابن عباس فسله قال: فسألته فقال: سل ابن عمر قال فسألت ابن عمر رضي الله عنهما فقال: أخبرني أبو حفص يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» ، فقلت: صدق وما كذب أبو حفص على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي وهذا لفظ البخاري.

وعند أحمد والنسائي أن عمران بن حطان سأل ابن عباس رضي الله عنهما أولاً فقال: سل عائشة فسأل عائشة فقالت: سل ابن عمر فسأل ابن عمر فقال: حدثني أبو حفص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا فلا خلاق له في الآخرة» .

وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له» هذا لفظ مسلم.

ولفظ أحمد: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» .

وفي المسند أيضًا عن علي بن زيد قال: قدمت المدينة فدخلت على سالم بن عبد الله وعلي جبة خز فقال لي سالم: ما تصنع بهذه الثياب؟ سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له» .

وقد اختلف في تفسير الخز، فقيل: إنه رديء الحرير، وقيل: إنه القسي الذي تقدم ذكره في حديث علي رضي الله عنه، وقيل: إنه وبر مخلوط بحرير، وقال ابن الأثير: هو ضرب من ثياب الإبريسم، وقال ابن

ص: 139

حجر: الأصح في تفسير الخز أنه ثياب سداها من حرير ولحمتها من غيره. وقال ابن الأثير: الخز المعروف أولا ثياب تنسج من صوف وإبريسم وهي مباحة، وقد لبسها الصحابة والتابعون فيكون النهي عنها لأجل التشبه بالعجم وزي المترفين، وإن أريد بالخز النوع الآخر فهو حرام؛ لأن جميعه معمول من الإبريسم وعليه يحمل الحديث الآخر قوم يستحلون الخز والحرير. انتهى.

وما ذكره من الإباحة في النوع الأول ينتقض بما ذكره من النهي عنه لأن النهي عن الشيء يقتضي تحريمه ما لم يقم دليل على أن النهي للكراهة.

وينتقض أيضًا بقوله: إنه من زي العجم والمترفين لأن التزيي بزيهم غير مباح، وقد تقدم حديث من تشبه بقوم فهو منهم. وحديث ليس منا من تشبه بغيرنا، وأقل الأحوال في هذين الحديثين أنهما يقتضيان تحريم التشبه بالأعاجم.

وأما ما ذكره عن الصحابة والتابعين من لبس الخز فقد روي ذلك عن جماعة منهم لا عن جميعهم وهو محمول على أنه لم يبلغهم النهي عنه وقد يكون ما لبسوه من الخز الذي ليس فيه حرير.

فقد قيل: إن أصل الخز اسم دابة يقال لها الخز سمي الثوب المتخذ من وبره خزًا لنعومته ثم أطلق على ما يخلط بالحرير لنعومة الحرير ذكر هذا القول الحافظ ابن حجر في فتح الباري قال: وعلى هذا فلا يصح الاستدلال بلبسه على جواز لبس ما يخالطه الحرير ما لم يتحقق أن الخز الذي لبسه السلف كان من المخلوط بالحرير. انتهى.

ص: 140

وقد تقدم التصريح بتحريم الخز في الحديث الذي رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري وهو حديث صحيح. وتقدم النهي عنه فيما رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه بأسانيد جيدة من حديث معاوية رضي الله عنه.

وروى الإمام أحمد والبخاري في التاريخ أيضًا وأبو داود بأسانيد جيدة عن معاوية أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تركبوا الخز ولا النمار» .

وفي سنن ابن ماجه بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة مكفوفة بحرير إما سداها وإما لحمتها فأرسل بها إلي فأتيته فقلت: يا رسول الله! ما أصنع بها ألبسها؟ قال: «لا، ولكن اجعلها خمرًا بين الفواطم» .

فهذه الأحاديث الأربعة يشد بعضها بعضًا وفيها كفاية للاحتجاج على تحريم الخز والله أعلم.

وفي الصحيحين ومسندي أحمد وأبي داود الطيالسي وسنن النسائي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» ، زاد أحمد في بعض الروايات وقال عبد الله بن الزبير:«ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى {وِلِبَاسُهُم فِيْهَا حَرِيْرٌ}» .

وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد وسنن النسائي عن أبي عثمان النهدي قال: كنا مع عتبة بن فرقد فجاءنا كتاب عمر رضي الله عنه أن

ص: 141

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة إلا هكذا» ، وقال أبو عثمان بإصبعيه اللتين تليان الإبهام فرأيتهما إزرار الطيالسة حين رأيت الطيالسة.

الحديث الثالث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة» أخرجاه في الصحيحين ورواه أحمد وابن ماجه بإسناد مسلم.

الحديث الرابع عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» رواه مسلم.

الحديث الخامس: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير من أمتي فمات وهو يلبسه حرم الله عليه حرير الجنة» رواه الإمام أحمد.

الحديث السادس: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من لبس الحرير في الدنيا حرمه في الآخرة» رواه ابن حبان في صحيحه.

الحديث السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا لم يشرب بها في الآخرة ثم قال: لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ص: 142

الحديث الثامن: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس الحرير وشرب في الفضة فليس منا» ، رواه الطبراني في الصغير وأبو نعيم في الحلية.

الحديث التاسع: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعًا شديدًا كالكاره له ثم قال: «لا ينبغي هذا للمتقين» متفق عليه.

الحديث العاشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الحرير من الثوب فينزعه» رواه البخاري في تاريخه.

الحديث الحادي عشر: عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريرًا ولا ذهبًا» ، رواه الإمام أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث الثاني عشر: عن أبي أمامة أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله» ، رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية.

الحديث الثالث عشر: عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له» رواه الإمام أحمد والنسائي وأبو نعيم في الحلية.

الحديث الرابع عشر: عن الحسن بن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا يرجو أن يلبسه

ص: 143

في الآخرة إنما يلبس الحرير من لا خلاق له»، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده.

ورواه الإمام أحمد بنحوه وزاد قال الحسن فما بال أقوام يبلغهم هذا عن نبيهم فيجعلون حريرًا في ثيابهم وبيوتهم؟

الحديث الخامس عشر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج أو مزرورة فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبًا فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه وقال: «ألا أرى عليك ثياب من لا يعقل» ؟، رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم في مستدركه، وقال: صحح الإسناد ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث السادس عشر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كساني النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي أخرجاه في الصحيحين والإمام أحمد في مسنده.

وفي رواية لأحمد ومسلم وأبي داود والنسائي، قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فبعث بها إليّ فلبستها فعرفت الغضب في وجهه فقال: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين النساء» .

وفي رواية لأحمد وأبي داود الطيالسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: «لست أرضى لك ما أكره لنفسي» ، قال: فأمرني فشققتها بين نسائي خمرًا.

الحديث السابع عشر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أقبل رجل من البحرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فلم يرد عليه وكان في يده

ص: 144

خاتم من ذهب وعليه جبة حرير فألقاهما ثم سلم فرد عليه السلام رواه البخاري في الأدب المفرد والنسائي في سننه.

الحديث الثامن عشر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة بحرير فقال: «طوق من نار يوم القيامة» رواه البزار والطبراني في الأوسط قال المنذري: ورواته ثقات.

الحديث التاسع عشر عن جويرية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوب حرير في الدنيا ألبسه الله عز وجل يومًا أو ثوبًا من النار يوم القيامة» ، رواه الإمام أحمد والطبراني، وفي رواية:«من لبس ثوب حرير في الدنيا ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة من النار أو ثوبًا من النار» ، ورواه البزار عن حذيفة رضي الله عنه موقوفًا:«من لبس ثوب حرير ألبسه الله يومًا من نار ليس من أيامكم ولكن من أيام الله الطوال» .

الحديث العشرون عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: من ترك الخمر وهو يقدر عليه لأسقينه منه في حظيرة القدس ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه لأكسونه إياه في حظيرة القدس» رواه البزار قال المنذري: وإسناده حسن.

الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يسقيه الله الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا» رواه الطبراني في الأوسط قال المنذري: ورواته ثقات إلا شيخه المقدام بن داود وقد وثق.

الحديث الثاني والعشرون عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال

ص: 145

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: إذا كان المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرمًا وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء أو خسفًا أو مسخًا» رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.

الحديث الثالث والعشرون عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة» فذكرها ومنها أن يكون الحرير لباسًا وقال في آخره: «فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات» رواه أبو نعيم في الحلية.

الحديث الرابع والعشرون: عن عروة بن رويم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا عملت أمتي خمسًا فعليهم الدمار إذا ظهر فيهم التلاعن وشربوا الخمور ولبسوا الحرير واتخذوا القينات واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء» ، رواه البيهقي وأبو نعيم في الحلية.

الحديث الخامس والعشرون: عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يبيت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو فيصبحون قد مسخوا خنازير وليخسفن بقبائل فيها وبدور فيها حتى يصبحوا فيقولوا خسف الليلة ببني فلان خسف الليل بدار بني فلان وأرسلت عليهم حصباء حجارة كما أرسلت على قوم لوط وأرسلت عليهم الريح العقيم

ص: 146

فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم بشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير واتخاذهم القينات وقطيعتهم الرحم»، رواه أبو داود الطيالسي والحاكم في مستدركه وأبو نعيم في الحلية وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث السادس والعشرون: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف» قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله وهم يقولون: لا إله إلا الله فقال: «إذا ظهرت القينات وظهر الزنا وشربت الخمر ولبس الحرير كان ذا عند ذا» ، رواه ابن أبي الدنيا.

الحديث السابع والعشرون: عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تمسخ طائفة من أمتي قردة وطائفة خنازير ويخسف بطائفة ويرسل على طائفة الريح العقيم بأنهم شربوا الخمر ولبسوا الحرير واتخذوا القيان وضربوا بالدفوف» رواه ابن أبي الدنيا.

الحديث الثامن والعشرون: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف في متخذي القيان وشاربي الخمر ولابسي الحرير» رواه الطبراني.

الحديث التاسع والعشرون: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ليبيتن أناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم واتخاذهم القينات وشربهم الخمر وبأكلهم الربا ولبسهم الحرير» ، رواه عبد الله ابن الإمام أحمد.

ص: 147

الحديث الثلاثون: عن صالح بن دريك رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليستحلن ناس من أمتي الحرير والخمر والمعازف وليأتين الله على أهل حاضر منهم عظيم بجبل حتى ينبذه عليهم ويمسخ آخرون قردة وخنازير» رواه ابن أبي الدنيا.

الحديث الحادي والثلاثون: عن الحسن مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة» فذكر الخصال ومنها لباس الحرير رواه ابن عساكر في تاريخه.

وقد كمل بهذا العدد مع ما تقدم أربعة وخمسون حديثًا في منع الذكور من لبس الحرير وسواء في ذلك الكبير منهم والصغير لعموم المنع.

وقد حكى الإجماع على تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء غير واحد من العلماء منهم ابن عبد البر والقاضي عياض والحافظ الذهبي وصرح بتكفير من استحله من الرجال.

قال الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني:

القسم الثاني

ما يختص تحريمه بالرجال دون النساء وهو الحرير والمنسوج بالذهب والمموه به فهو حرام لبسه وافتراشه في الصلاة وغيرها ولا نعلم في لبس ذلك على الرجال اختلافًا إلا لعارض أو عذر قال ابن عبد البر هذا إجماع انتهى.

وقال القاضي عياض انعقد الإجماع بعد ابن الزبير ومن وافقه على

ص: 148

تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء، ذكر ذلك في الكلام على قول ابن الزبير رضي الله عنهما: ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» رواه مسلم وغيره.

وقال الحافظ الذهبي: من استحل لبس الحرير من الرجال فهو كافر وإنما رخص فيه الشارع لمن به حكة أو جرب أو غيره وللمقاتلين عند لقاء العدو.

وأما لبس الحرير للزينة في حق الرجال فحرام بإجماع المسلمين انتهى.

وقد زعم بعض العلماء: أنه يجوز إلباس الصبيان الحلي والحرير قال بعضهم في يوم العيد، وقال بعضهم مطلقًا وعللوا ذلك بأنه لا تكليف عليهم، وأنهم محل الزينة، وهذا قول باطل مردود بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها» ، وهذا يعم الكبير والصغير وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عموم المنع لكبار الذكور وصغارهم كما في سنن أبي داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري.

وروى الأثرم عن حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما نحوه. ولما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ابن الزبير رضي الله عنهما ثوبًا من حرير مزقه عليه فقال الزبير أفزعت الصبي فقال: لا تكسوهم الحرير.

وروى البخاري في التاريخ الكبير عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه دخل على عمر رضي الله عنه

ص: 149

ومعه بني له عليه قميص حرير فعمد إلى القميص فشقه وقال: اذهب به إلى أمك.

وأما تعليل المجيزين له بأنه لا تكليف على الصبيان وأنهم محل للزينة فإنه تعليل ضعيف بل ساقط لمخالفته لعموم أحاديث المنع.

قال الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني ويتعلق التحريم بتمكينهم من المحرمات كتمكينهم من شرب الخمر وأكل الربا وغيرهما. وكونهم محل الزينة مع تحريم الاستمتاع بهم يقتضي التحريم لا الإباحة بخلاف النساء انتهى. وقوله: يتعلق التحريم بتمكينهم من المحرمات معناه أنه يحرم على وليهم أن يمكنهم منها. وإذا مكنهم فالإثم عليه لا عليهم لأنهم غير مكلفين.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي أصح القولين أنه يحرم على الولي أن يلبسه الصبي لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنيث.

وقال أيضًا في تحفة الودود بأحكام المولود. ويجنبه -أي يجنب الولي الصبي- لبس الحرير فإنه مضعف له مخبب للطبيعة كما يجنب اللواط وشرب الخمر والسرقة والكذب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حرم الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم» .

والصبي وإن لم يكن مكلفًا فوليه مكلف لا يحل له تمكينه من المحرم فإنه يعتاده ويعسر فطامه عنه وهذا أصح قولي العلماء. واحتج من لم يره حرامًا عليه بأنه غير مكلف فلم يحرم لبسه للحرير كالدابة وهذا من أفسد القياس فإن الصبي وإن لم يكن مكلفًا فإنه مستعد للتكليف ولهذا

ص: 150

لا يمكن من الصلاة بغير وضوء ولا من الصلاة عريانا ولا نجسًا ولا من شرب الخمر واللواط والقمار انتهى.

ويستثنى من المنع في حق الكبار والصغار العلم في الثوب إذا لم يزد على أربع أصابع لما تقدم في حديث عمر رضي الله عنه ومثل ذلك لبنة الجيب وسجف الفراء ونحوها إذا كان ذلك بقدر أربعة أصابع فأقل، لحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها أخرجت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج رواه مسلم وأهل السنن إلا الترمذي.

فأما المنسوج من الحرير وغيره كثوب منسوج من قطن وحرير أو من وبر وحرير أو من صوف وحرير.

فقد قال كثير من العلماء: إن الحكم للأغلب منهما.

فبعضهم يعتبر ذلك بالوزن فإن كان الحرير أقل وزنا لم يحرم عندهم وإن كان أكثر حرم.

وبعضهم يعتبر القلة والكثرة بالظهور فإن كان الحرير أكثر ظهورًا حرم وإن كان أقل لم يحرم.

وهذه الاعتبارات لا دليل على شيء منها وما لم يكن عليه دليل فليس عليه تعويل ويردها حديث النهي عن الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع. ومعلوم أن هذه القدر لا يبلغ عشر الثوب لا وزنا ولا ظهورًا.

ومن أباح أكثر من أربع أصابع فقد أباح ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويردها أيضًا حديث النهي عن القسي، وقد تقدم قول علي رضي الله عنه أنها ثياب مضلعة فيها حرير أمثال الأترنج فدل على أنها ليست بحرير

ص: 151

صرف. وما فيها من الحرير يحتمل أنه أكثر مما معه من الخلط ويحتمل أنه أقل ومع ذلك فقد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يأمر فيها باعتبار وزن ولا ظهور.

فدل على أنه لا اعتبار بشيء من ذلك؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، ويردها أيضا حديث النهي عن السيراء وقد تقدم في حديث أنس رضي الله عنه أن السيراء هي المضلعة بالقز، يعني: أنها ليست بحرير صرف والقول فيها كالقول في القسي سواء. ويردها أيضًا أحاديث النهي عن الخز، وقد تقدم في أحد الأقوال أنه حرير مخلوط بغيره وليس في أحاديث النهي عنه أمر باعتبار وزن ولا ظهور فدل على أنه لا اعتبار بشيء من ذلك ومن اعتبر شيئًا لم يؤمر باعتباره فقد تكلف والله أعلم.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: استدل بالنهي عن لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب لتفسير القسي بأنه ما خالط غير الحرير فيه الحرير ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء ووقع كذلك في حديث علي عند أبي داود والنسائي وأحمد بسند صحيح على شرط الشيخين من طريق عبيدة بن عمرو عن علي رضي الله عنه قال: «نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير» ، ويحتمل أن تكون المغايرة باعتبار النوع فيكون الكل من الحرير كما وقع عطف الديباج على الحرير في حديث حذيفة الماضي قريبًا ولكن الذي يظهر من سياق طرق الحديث في تفسير القسي أنه الذي يخالط الحرير لا أنه الحرير الصرف فعلى هذا يحرم لبس الثوب الذي خالطه الحرير، وهو قول بعض الصحابة كابن عمر والتابعين كابن سيرين.

ص: 152

وذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير الأغلب وعمدتهم في ذلك ما تقدم في تفسير الحلة السيراء وما انضاف إلى ذلك من الرخصة في العلم في الثوب إذا كان من حرير كما تقدم تقريره في حديث عمر رضي الله عنه.

قال ابن دقيق العيد: وهو قياس في معنى الأصل لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كل مختلط وإنما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة لجميع الثوب فيكون المنع من لبس الحرير شاملاً للخالص والمختلط وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة انتهى.

وهذا الذي قرره ابن دقيق العيد هو الصواب وعليه يدل ظاهر الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تحريم الحرير سوى أربع أصابع، والله أعلم.

فإن قيل: قد روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب الحرير المصمت فأما الثوب الذي سداه حرير ليس بحرير مصمت فلا نرى به بأسًا.

فالجواب أن هذا الحديث قد عارضه ما هو أقوى منه من حيث الأصل والشواهد وهو الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه عن علي رضي الله عنه أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة مكفوفة بحرير إما سداها وإما لحمتها فأرسل بها إليّ فأتيته فقلت: يا رسول الله! ما أصنع

ص: 153

بها ألبسها؟ قال: «لا ولكن اجعلها خمرًا بين الفواطم» ، هذا لفظ ابن ماجه وإسناده حسن.

وفي رواية ابن أبي شيبة أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة بحرير إما سداها أو لحمتها فأرسل بها إلي فقلت: ما أصنع بها ألبسها؟ قال: «لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي ولكن اجعلها خمرًا بين الفواطم» .

وفي رواية الإمام أحمد أهديت له حلة من حرير فكسانيها قال علي رضي الله عنه: فخرجت فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لست أرضى لك ما أكره لنفسي قال: فأمرني فشققتها بين نسائي خمرًا» .

وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث زيد بن وهب عن علي رضي الله عنه قال: كساني النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي.

وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي صالح الحنفي عن علي رضي الله عنه وزاد فقال: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين النساء» . فهذا الحديث الصحيح يرد حديث ابن عباس رضي الله عنهما من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عليًا رضي الله عنه عن لبس الحلة المسيرة بالحرير المخلوط بغيره، فهذا يرد قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه إنما نهى عن الحرير المصمت. ويرد أيضًا قوله: أن ما سدي بالحرير فلا بأس به.

الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم صرح بكراهته لنفسه ولغيره لبس الثوب المسير بخلط من حرير في سداه أو في لحمته ففيه إشارة إلى أن الثوب الذي

ص: 154

سداه كله حرير أو لحمته كلها حرير أولى بالكراهة والنهي. وفي النص على الكراهة رد على من قال: إنه لا بأس به.

الثالث في غضبه صلى الله عليه وسلم على علي رضي الله عنه لما لبس الحلة المسيرة دليل على تحريم ذلك على الرجال والله أعلم.

وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله تعالى فائدة حسنة وهي إطلاق الوصف على الثوب بما فيه من خلط رفيع وإن كان أقل مما معه. وفي هذا الحديث وحديث النهي عن القسي رد على ابن العربي المالكي في قوله: إن النهي عن الحرير حقيقة في الخالص.

ويرد حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا بالحديث المتفق على صحته عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الحرير إلا هكذا إصبعين» .

وفي رواية لمسلم: «إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع» فظاهر هذا الحديث النهي عن لبس الحرير مطلقًا سواء كان مصمتا أو سدى أو لحمة إلا ما استثني من قدر أربع أصابع فما دون.

ويرد حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها» ، فإن ظاهره يقتضي تحريم الحرير على الذكور سواء كان مصمتا أو سدى أو لحمة سوى ما استثني من العلم ونحوه. ويرد حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا بأحاديث النهي عن الخز فإن الأصح فيه كما قال الحافظ ابن حجر: أنه حرير مخلوط بغيره.

ص: 155

وظواهر الحديث التي تقدمت في النهي عن الحرير والتغليظ فيه تؤيد حديث علي رضي الله عنه، وتؤيد حديث ابن عباس رضي الله عنهما، إذ لم يفرق فيها بين مصمت ومخلوط ولو كان بينهما فرق مؤثر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ما بين الرخصة في العلم إذا لم يزد على أربع أصابع، والله أعلم.

وقد اختلف في علة تحريم الحرير على الرجال على أقوال: أحدها: أنها التجبر والتكبر والفخر والخيلاء وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما ففي مسند الإمام أحمد عن شعبة بن دينار مولى ابن عباس رضي الله عنهما أن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما دخل على ابن عباس يعوده من وجع عليه برد استبرق فقال: يا أبا عباس ما هذا الثوب؟ قال: وما هو؟ قال: الاستبرق. قال: والله ما علمت به وما أظن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا حين نهى عنه إلا للتجبر والتكبر ولسنا بحمد الله كذلك فلما خرج المسور قال: انزعوا هذا الثوب عني، وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بنحوه.

الثاني: أن العلة السرف.

الثالث: أنها كسر قلوب الفقراء.

الرابع: أن العلة التشبه بالنساء لكون الحرير من ملابسهن الخاصة بهن. وأيضا فإنه ثوب رفاهية وزينة ولبسه يورث الأنوثة والتخنث ضد الشهامة والرجولة فيليق ذلك بالنساء دون الرجال.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى لبس الحرير يكسب القلب صفة من صفات الإناث ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا ويظهر على شمائله من التخنث والتأنث والرخاوة ما لا يخفى حتى لو كان من أشهم

ص: 156

الناس وأكبرهم فحولية ورجولية فلا بد أن ينقصه لبس الحرير منها، وإن لم يذهبها مرة، ومن غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا فليسلم للشارع الحكيم. انتهى. وهذا القول أقوى مما قبله وأقوى منه القول الخامس: وهو أن العلة التشبه بالكفار والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» وقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «ألا أرى عليك ثياب من لا يعقل» ؟ يعني: ثياب الكفار الذين لا يعقلون. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له» ، وقد تقدمت هذه الأحاديث قريبًا.

وقد ورد التعليل بهذه العلة في لبس الثياب المعصفرة كما في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين فقال: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم والنسائي.

إذا تقرر هذا فليعلم أن افتراش الحرير والديباج محرم كلبسه نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله تعالى ومثل ذلك الاتكاء عليه والاستناد إليه؛ لأن ذلك من فعل الجبابرة والمترفين ولا يجوز التشبه بهم.

قال المروذي قال أبو عبد الله: افتراش الديباج كلبسه قال: وكره افتراش الحرير. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه. باب افتراش الحرير، وقال عبيدة: هو كلبسه. وعبيدة هذا بفتح العين هو ابن عمر السلماني قال الحافظ ابن حجر وصله الحارث بن أبي أسامة من طريق محمد ابن سيرين قال: قلت لعبيدة افتراش الحرير كلبسه؟ قال: نعم ثم ساق البخاري رحمه الله تعالى في الباب حديث حذيفة رضي الله عنه قال: «نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن

ص: 157

لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه»، ورواه الدارقطني في سننه بنحوه.

وروى الإمام أحمد أن أبا أمامة رضي الله عنه دخل على خالد بن يزيد فألقى له وسادة فظن أنها حرير فتنحى وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله» .

قال أبو البركات ابن تيمية رحمه الله تعالى فهم أبو أمامة رضي الله عنه دخول الافتراش في عمومه. اهـ.

وروى ابن وهب في جامعه عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «لأن أقعد على جمر الغضا أحب إليَّ من أن أقعد على مجلس من حرير» ، ورواه الحاكم في مستدركه بنحوه. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الحنفية أنهم قالوا في تعليل المنع من لباس الحرير في حجة أبي يوسف ومحمد على أبي حنيفة في المنع من افتراشه وتعليقه والتسر به؛ لأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام قال عمر رضي الله عنه: إياكم وزي الأعاجم انتهى.

وقد سئل ابن عقيل رحمه الله تعالى هل يجوز أن يتخذ النساء السفر والمطارح والمخاد وغير ذلك حريرًا فقال: لا بل ملابس فقط. نقله عن ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد وأقره.

وذكر الحافظ ابن رجب عنه أنه ذكر في الفنون أن النساء لا يجوز لهن استعمال الحرير إلا في اللبس دون الافتراش والاستناد.

ص: 158

قلت: ووجه ذلك أن النساء إنما أبيح لهن لبس الحرير لحاجتهن إلى التزين للأزواج وليس كذلك افتراش الحرير والاستناد إليه؛ لأنه ليس من التزين الذي أبيح لهن فيبقى على المنع.

ومثل ذلك استعمال الذهب والفضة فإنه يجوز للنساء أن يتحلين بهما لحاجتهن للتزين للأزواج ولا يجوز لهن اتخاذ الأواني منهما ولا الأكل والشرب فيهما؛ لأن ذلك ليس من التزين الذي أبيح لهن والله أعلم.

فصل

النوع الثامن عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى تحلي الرجال بساعات الذهب والفضة وتحلي الرجال والنساء بساعات الحديد.

والدليل على ذلك ما رواه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» .

وما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال: «مالي أجد منك ريح الأصنام؟» ، فطرحه ثم جاء وعليه ختم من حديد. فقال:«مالي أرى عليك حلية أهل النار؟» ، فطرحه فقال: يا رسول الله! من أي شيء أتخذه؟ قال: «اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً» ، هذا لفظ أبي داود.

وفي رواية الترمذي ثم جاءه وعليه خاتم من صفر بدل قوله من شبه

ص: 159

وزاد ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل الجنة» . قال الترمذي: هذا حديث غريب. وصححه ابن حبان واحتج به الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيما رواه الأثرم عنه كما سيأتي قريبًا. فدل على صحته عنده، وله شواهد يأتي ذكرها قريبًا إن شاء الله تعالى.

قال الخطابي رحمه الله تعالى إنما قال في خاتم الشبه أجد منك ريح الأصنام؛ لأن الأصنام كانت تتخذ من الشبه.

قال: ويقال معنى حلية أهل النار أنه زي بعض الكفار وهم أهل النار.

قلت: الذي يفيد ظاهر الحديث أن الحديد حلية الكفار في نار جهنم ويؤيد ذلك قوله في خاتم الذهب: إنه حلية أهل الجنة، ففيه الأخبار عن حلية كل من الفريقين في الدار الآخرة والله أعلم.

وفي هذا الحديث دليل على المنع من التحلي بساعات الشبه والحديد؛ لأنه إذا منع من التختم بهما فلأن يمنع من التحلي بالساعات المتخذة منها بطريق الأولى والأحرى.

وإذا تحلى الرجل بشيء من الساعات المتخذة منهما فقد جمع بين التشبه بالنساء والتشبه بأهل النار، ولا يجوز التشبه بأهل النار ولا بالنساء وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:«ولا تتمه مثقالاً» دليل على أنه لا يجوز للرجل أن يتحلى من الفضة بزنة مثقال فما فوقه. فأما ما دون ذلك فيجوز في الخاتم ولا يجوز فيما يلبس في الذراع لما في ذلك من التشبه بالنساء.

وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده: حدثنا يحيى بن

ص: 160

سعيد عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه ابن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على بعض أصحابه خاتمًا من ذهب فأعرض عنه فألقاه واتخذ خاتمًا من حديد فقال: «هذا شر هذا حلية أهل النار» ، فألقاه فاتخذ خاتمًا من ورق فسكت عنه. إسناده جيد وقد حسن الترمذي حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده في بعض المواضع من جامعه وصححه في بعضها. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأحسن كل الإحسان في ذلك أي في تصحيح حديثه.

قلت: وصحح حديثه أيضًا الحاكم في مستدركه ووافقه الذهبي على ذلك في تلخيصه.

وروى الحاكم في مستدركه عن إسحاق بن راهويه أنه قال: إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وروي أيضا عن الإمام أحمد أنه قال: قد صح سماع عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وذكر الدارقطني في سننه عن شيخه أبي بكر النيسابوري مثل ذلك.

وقال الترمذي في جامعه: قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- رأيت أحمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب قال محمد وقد سمع شعيب بن محمد من عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

وقال الدارقطني في سننه حدثنا محمد بن الحسن النقاش أخبرنا

ص: 161

أحمد بن تميم قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري شعيب والد عمرو بن شعيب سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم قلت له: فعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يتكلم الناس فيه قال: رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به قال: قلت فمن يتكلم فيه يقول ماذا؟ قال يقولون: إن عمرو بن شعيب أكثر أو نحو هذا.

قلت وهذا ليس بقادح لأن عمرو بن شعيب ثقة فلا يضره إكثاره. وذكر صاحب التهذيب عن البخاري أنه قال: رأيت أحمد وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ما تركه أحد من المسلمين قال البخاري من الناس بعدهم؟

قلت: وقد احتج الإمام أحمد في رواية الأثرم بحديث عمرو بن شعيب الذي تقدم ذكره آنفا وأومأ إليه في رواية مهنا كما سيأتي فدل على ثبوته عنده.

وقد رواه البخاري في الأدب المفرد بإسناد جيد فقال حدثنا إسماعيل -يعني ابن أبي أويس-قال حدثني سليمان -يعني: ابن بلال- عن ابن عجلان فذكره بنحو رواية الإمام أحمد.

ورواه الإمام أحمد أيضًا من وجه آخر فقال حدثنا سريج -يعني ابن النعمان- حدثنا عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أنه لبس خاتمًا من ذهب فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه كرهه فطرحه ثم لبس خاتما من حديد فقال: «هذا

ص: 162

أخبث وأخبث» فطرحه ثم لبس خاتما من ورق فسكت عنه. إسناده صحيح. ابن أبي مليكة من رجال الصحيحين وسريج من رجال البخاري.

وأما عبد الله بن المؤمل فقد اختلف الأئمة فيه وقد ذكر المنذري عن ابن معين أنه وثقه في ورايتين وضعفه في رواية وقال: ابن سعد ثقة وصحح له ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما. قلت: وعلى هذا فحديثه صحيح على شرط ابن خزيمة وابن حبان.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا عمار بن أبي عمار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في يد رجل خاتما من ذهب فقال: «ألق ذا» فألقاه فتختم بخاتم من حديد فقال: «ذا شر منه» فتختم بخاتم من فضة فسكت عنه. رجاله كلهم ثقات إلا أن عمار بن أبي عمار لم يدرك عمر رضي الله عنه ففيه انقطاع ولكن له شاهد مما تقدم عن بريدة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.

وروى البيهقي في «شعب الإيمان» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب وعن خاتم الحديد» .

ورواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي: ورجاله ثقات. وقال البخاري في التاريخ الكبير حدثنا يحيى بن إسماعيل قال: حدثنا يحيى بن صالح قال حدثنا محمد بن مهاجر عن كيسان مولى معاوية قال: خطب معاوية الناس فقال: يا أيها الناس إن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن تسع -وأنا أنهى عنهن- النوح والشعر والتبرج والتصاوير وجلود السباع والغناء

ص: 163

والذهب والحرير والحديد» إسناده جيد وقد حسنه السيوطي في الجامع الصغير.

وروى البخاري أيضًا في التاريخ الكبير والبزار والطبراني عن مسلم ابن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل وعليه خاتم من حديد فقال: «ما طهر الله كفا فيها خاتم من حديد» حسنه السيوطي في الجامع الصغير وقال الهيثمي فيه شميسة بنت نبهان لم أعرفها وبقية رجاله ثقات.

قلت: وفيه عباد بن كثير الرملي ضعفه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما وقال ابن المديني كان ثقة لا بأس به وذكر المنذري عن ابن عيينة أنه كان ينهى عن ذكره إلا بخير، قال: وقال أبو مطيع: كان عندنا ثقة أخرج من قبره بعد ثلاث سنين فلم يفقد منه إلا شعيرات.

قلت: وأقل الأحوال في حديثه أن يكون من قبيل الحسن والله أعلم. وهذه الأحاديث تؤيد حديث بريدة رضي الله عنه وكما تدل بمنطوقها على المنع من لبس خاتم الحديد، فكذلك هي دالة بمفهوم الأولى على المنع من لبس ساعات الحديد لأنها أكبر من الخواتم. وعلة المنع كون الحديد حلية أهل النار وهم الكفار والمسلم منهي عن التشبه بأعداء الله تعالى.

وللمنع في حق الرجال علة أخرى وهي التشبه بالنساء في لبسهن الأساور بل وفي تحليهن بالساعات في هذه الأزمان. ومن المعلوم أن الحلية من خصائص النساء كما قال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} .

وقد أبيح للرجال من الحلية النزر اليسير من الفضة كالخاتم وقبيعة

ص: 164

السيف وحلية المنطقة ونحو ذلك مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم أنهم ترخصوا فيه وما سوى ذلك فهو باق على المنع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» رواه الأمام أحمد ومسلم والبخاري تعليقا مجزوما به من حديث عائشة رضي الله عنها.

ومن الممنوع منه تحلي الرجل في ذراعه بسوار أو ساعة أو غير ذلك من سائر أنواع الحلية لأن التحلي في هذا الموضع من خصائص النساء.

فإن ادعى بعض المتشبهين بالنساء أنهم لا يقصدون الزينة بلبس الساعات في أيديهم وإنما يقصدون بها معرفة الوقت.

قيل: هذه الدعوى لا تزيل عنهم وصف التشبه بالنساء إذ لا فرق بين وضع الساعة في ذراع الرجل ووضعها في ذراع المرأة ولا فرق أيضًا بين من يقصد بلبسها الزينة ومن يقصد بذلك معرفة الوقت لأن كلا منهما متشبه بالنساء فهما سواء في علة المنع. ومن كان مقصوده معرفة الوقت فله مندوحة عن التشبه بالنساء فيضع الساعة في جيبه ونحوه من المواضع المعدة لوضع الأشياء فيها والله الموفق.

وقد جعل كثير من الناس دعوى معرفة الوقت حيلة لهم على استحلال التزين بالساعات والتشبه بالنساء والحيل لا تبيح المحرمات.

وقد روى ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» .

وقد زعم بعض الناس أن لبس الساعات المتخذة من الحديد ونحوه لا بأس به للذكور وعللوا ذلك بأن الحديد ليس بحلية وشبهتهم هذه

ص: 165

مردودة بقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي لبس خاتما من حديد: «مالي أرى عليك حلية أهل النار» وقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الآخر لما اتخذ خاتما من حديد: «هذا شر هذا حلية أهل النار» .

ففي هذين الحديثين النص على دخول ما لبس من الحديد في مسمَّى الحلية. فهو حلية أهل النار كما أن الذهب والفضة واللؤلؤ حلية أهل الجنة قال الله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} . وقال تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} . الأساور جمع أسورة واحدها سوار وهو ما يجعل في الأيدي من الحلي حكاه ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وغير واحد.

وقال مرتضى الحسيني في تاج العروس هو ما تستعمله المرأة في يديها.

قلت: وعلى هذا فالساعة داخلة في مسمَّى السوار إذا لبست في اليد. السوار ممنوع في حق الذكور من أي نوع كان من أنواع الحلية لما في لبسهم له من التشبه بالنساء والله أعلم.

فإن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للخاطب الذي لم يجد صداقًا: التمس ولو خاتما من حديد رواه مالك والشافعي وأحمد والشيخان وأهل السنن من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه فدل على جواز لبس خاتم الحديد فكذلك الساعة منه قياسًا على الخاتم.

قيل قد أجاب عن هذا الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» فقال: لا حجة فيه لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته.

ص: 166

قلت: ويمكن الجمع بين ما في حديث سهل وما في حديث بريدة وما بعده من الأحاديث بأن يحمل المنع على ما كان حديدًا صرفًا.

ويحمل الجواز على ما لويت عليه فضة فقد روى أبو داود والنسائي في سننيهما والبخاري في تاريخه عن إياس بن الحارث بن المعيقيب عن جده معيقيب رضي الله عنه قال كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملويّ عليه فضة، قال: فربما كان في يدي قال: وكان المعيقيب على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الخاطب بالتماس خاتم مما يجوز لبسه وهو ما لويت عليه فضة وسماه حديدًا اعتبارًا بأصله.

ويحتمل أنه أمره بالتماس خاتم من حديد صرف لأن المرأة يمكنها لبسه بعد ما يلوى عليه ذهب أو فضة وبهذا تجتمع الأحاديث وينتفي عنها التعارض والله أعلم.

ويحتمل أن يكون ما في حديث سهل وحديث معيقيب منسوخا بحديث بريدة وما بعده من الأحاديث الدالة على المنع من لبس الحديد بالكلية. وهذا الاحتمال أقوى مما قبله وقد أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية أبي طالب فقال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاتم من حديد عليه فضة فرمى به فلا يصلى في الحديد والصفر.

قلت المعروف من ورع الإمام أحمد رحمه الله تعالى وشدة تثبته أنه لا يقول مثل هذا إلا عن أثر ثابت عنده.

وعلى هذا فيكون طرح النبي صلى الله عليه وسلم لخاتم الحديد الذي عليه فضة

ص: 167

كطرحه لخاتم الذهب سواء فكل منهما يدل طرحه على المنع منه ونسخ ما تقدم من جواز لبسه.

ويؤخذ منه المنع من لبس الحديد الصرف بطريق الأولى والأحرى. وقد يستدل لما ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى بالحديث الذي رواه الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحدا ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح الناس خواتيمهم رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي.

وقد قيل: إن الزهري وهم في هذا الحديث من خاتم الذهب إلى خاتم الورق.

وقال آخرون: لا وهم يفه وتأولوه. ومسلك التأويل في هذا أولى من مسلك التوهيم ولاسيما في حق الزهري وأمثاله من أكابر الأئمة المعروفين بمزيد الحفظ والإتقان. والأقرب في هذا أن يحمل ما رواه الزهري على ما ذكره الإمام أحمد في رواية أبي طالب أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاتم من حديد عليه فضة فرمى به. وأخبار أنس رضي الله عنه عن الخاتم المطروح بأنه من ورق لا ينفي أن يكون باطنه حديدًا وتكون الفضة ملوية عليه كما في حديث معيقيب رضي الله عنه فلعل أنسًا رضي الله عنه سماه ورقا اعتبارا بظاهره والله أعلم.

وقد قال ابن هانئ: سألت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- عن خاتم الحديد فقال: لا نلبسه.

وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: أكره خاتم الحديد لأنه حلية أهل

ص: 168

النار. وسأله الأثرم عن خاتم الحديد ما ترى فيه؟ فذكر حديث عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «هذه حلية أهل النار» . وابن مسعود رضي الله عنه قال: لبسة أهل النار. وابن عمر رضي الله عنهما قال: «ما طهرت كف فيها خاتم من حديد» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: في حديث بريدة رضي الله عنه لرجل للبس خاتما من صفر: «أجد منك ريح الأصنام» فما اتخذ يا رسول الله؟ قال: «فضة» انتهى كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

ونص أيضا في رواية إسحاق وجماعة على كراهة خاتم حديد وصفر ونحاس ورصاص للرجل والمرأة فيحتمل أنه أراد كراهة التنزيه ويحتمل أنه أراد كراهة التحريم وهو أظهر لما تفيده التعاليل التي ذكرها في رواية مهنا والأثرم.

ويستفاد ذلك أيضا من نصه في رواية أبي طالب على أنه لا يصلى في الحديد والصفر ولو كانت الكراهة فيهما للتنزيه لم يمنع من الصلاة فيهما والله أعلم.

وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال في «الجامع الصغير» : ولا يتختم إلا بالفضة.

ثم ذكر الشيخ عن الحنفية أنهم قالوا هذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام للحديث المأثور أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل خاتم صفر فقال: «مالي أجد منك ريح الأصنام» ؟. ورأى على رجل خاتم من حديد فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النار» ؟.

قال الشيخ: ومثل هذا كثير في مذهب أبي حنيفة وأصحابه انتهى.

ص: 169

والقول في ساعة الحديد والصفر والنحاس كالقول في الخاتم منها سواء. وهذا إنما هو في حق النساء فهي مكروهة في حقهن كراهة تحريم على الأظهر لما في الصفر والنحاس من ريح الأصنام ولما في التحلي بالحديد من التشبه بأهل النار، والمسلم منهي عن التشبه بأعداء الله تعالى.

وقد ورد النهي عن التشبه بأهل النار كما في سنن ابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه قال مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع على بطني فركضني برجله وقال: «يا جنيدب إنما هي ضجعة أهل النار» وفي سننه أيضا عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل نائم في المسجد منبطح على وجهه فضربه برجله قال: «قم أو اقعد فإنها نومة جهنمية» .

وستفاد أيضا المنع من التشبه بأهل النار من قوله صلى الله عليه وسلم للرجل: «مالي أرى عليك حلية أهل النار» ؟

ومن قوله أيضا في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «هذا شر هذا حلية أهل النار» فظاهر هذين الحديثين إنكار التختم بالحديد من أجل أنه حلية أهل النار ولا يجوز للمسلم أن يتشبه بهم والله أعلم.

وأما الرجال فلا يجوز لهم لبس الساعات بالكلية لما في ذلك من التشبه بالنساء وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والبخاري وأهل السنن إلا النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 170

وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي في تلخيصه وصححه أيضا النووي وغيره.

وروى الإمام أحمد أيضا والطبراني وأبو نعيم في «الحلية» عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال» قال الهيثمي: رجال الطبراني كلهم ثقات. قلت: وكذا رجال أبي نعيم وأما إسناد أحمد ففيه رجل مبهم وبقية رجاله ثقات. وإذا كانت الساعة من حديد ونحوه فللمنع منها في حق الرجال علتان التشبه بالنساء والتشبه بأهل النار وهذا مما يزيد المنع تأكيدًا والله أعلم.

وقد رأينا المتحلين بالساعات من الرجال يضعونها في اليسار تقليدا للإفرنج وذلك أن أعداء الله تعالى يعظمون اليسار كما يعظم المسلمون اليمين فهم يأكلون باليسار ويشربون باليسار وكتابتهم وكتبهم منكوسة من جهة اليسار ولبسهم للساعات في اليسار وهم أول من لبسها وتحلى بها. وقد قلدهم كثير من جهال المسلمين في تعظيم اليسار بالأكل والشرب بها والتحلي فيها بالساعات وغير ذلك مما تبعوهم فيه وهؤلاء قد جمعوا بين التشبه بالنساء والتشبه بالأحياء من الكفار وبالأموات منهم وهم أهل النار فالله المستعان.

وقد تقدم في أول الكتاب قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية

ص: 171

رحمه الله تعالى: إن الشريعة إذا نهت عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون.

قلت ولبس الساعات في الأيدي هو مما أحدثه الأعاجم الكفار من الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى فلا يجوز للمسلم أن يتشبه بهم في لبس هذه الحلية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» وللحديث الآخر: «ليس منا من تشبه بغيرنا» وقد تقدم ذكر هذين الحديثين في أول الكتاب وفي أثنائه مرارًا والله الموفق.

فصل

النوع التاسع عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى تصوير ذوات الأرواح ونصب الصور في المجالس والدكاكين وغيرها.

قد عظمت البلوى بهذه المشابهة الذميمة وفشت صناعة الصور وبيعها في جميع الأقطار الإسلامية وافتتن باقتنائها واقتناء الجرائد والمجلات والكتب التي فيها ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين فضلا عن غيرهم وصار نصبها في المجالس والدكاكين عادة مألوفة عند كثير من الناس بل إنه قد اتخذ نصب صور الملوك والوزراء والكبراء رسميًّا في كثير من المجالس الرسمية فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وهذا المنكر الذميم أعني صناعة الصور ونصبها في المجالس وغيرها موروث عن قوم نوح ثم عن النصارى من بعدهم. وكذلك عن

ص: 172

مشركي العرب فإنهم كانوا يصنعون الصور وينصبونها ولكن كان عملها واتخاذها قليلاً عندهم بالنسبة إلى النصارى.

وقد صور مشركو قريش في جوف الكعبة صورًا منها صورة إبراهيم وصورة إسماعيل وصورة مريم في حجرها عيسى فالمصورون من هذه الأمة والمتخذون للصور متشبهون بقوم نوح وبالنصارى وبمشركي العرب وبأمم الكفر في زماننا ومن تشبه بقوم فهو منهم.

والكلام في ذم التصاوير وتحريم صناعتها واتخاذها مبسوط في كتابي «إعلان النكير على المفتونين بالتصوير» فليراجع هناك.

فصل

النوع العشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما ابتلي به كثير من المسلمين قديما وحديثا من تشييد المساجد وزخرفتها والتباهي بها.

وقد عاد تشييد الماضين وزخرفتهم ومباهاتهم كل شيء بالنسبة إلى تشييد أهل زماننا وزخرفتهم ومباهاة بعضهم بعضًا. وهذا من أشراط الساعة كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» رواه الإمام أحمد والدارمي وأهل السنن إلا الترمذي وصححه ابن حبان.

ولفظ النسائي: «من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد» وقال البخاري في صحيحه: قال أنس رضي الله عنه: «يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً» .

ص: 173

قال ابن حجر: هذا التعليق هذا التعليق رويناه موصولاً في مسند أبي يعلى وصحيح ابن خزيمة من طريق أبي قلابة أن أنسًا رضي الله عنه قال: سمعته يقول: «يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً» ثم قال: تنبيه.

قوله: ثم لا يعمرونها المراد به عمارتها بالصلاة وذكر الله وليس المراد بنيانها انتهى.

وروى الطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «أن من أعلام الساعة وأشراطها أن تزخرف المحاريب وأن تخرب القلوب» .

وروى أبو نعيم في «الحلية» من حديث مكحول عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للساعة أشراط» قيل: وما أشراطها؟ قال: «غلو أهل الفسق في المساجد وظهور أهل المنكر على أهل المعروف» قال أعرابي: فما تأمرني يا رسول الله قال: «دع وكن حلسًا من أحلاس بيتك» وقد ظهر مصداق هذه الأحاديث في زماننا ظهورًا جليًّا وهذا يدل على اقتراب الساعة.

وقد وردت الأحاديث بالترغيب في الاقتصاد في بناء المساجد وذم تشييدها وزخرفتها وبيان أن التشييد والزخرفة من فعل اليهود والنصارى.

قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه «باب بنيان المسجد» وقال أبو سعيد رضي الله عنه كان سقف المسجد من جريد النخل. وأمر عمر رضي الله عنه ببناء المسجد، وقال:«أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس» .

وقال أنس رضي الله عنه: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً.

ص: 174

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. ثم ساق البخاري بإسناده عن نافع أن عبد الله يعني ابن عمر رضي الله عنهما أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر رضي الله عنه شيئا وزاد فيه عمر رضي الله عنه وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا ثم غيره عثمان رضي الله عنه فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج. وقد روى هذه الحديث أبو داود في سننه قال والقصة الجص.

وقال ابن حجر في الفتح: قال ابن بطال وغيره هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه فقد كان عمر رضي الله عنه مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك ابن مروان وذلك في أواخر عصر الصحابة وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة انتهى.

وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي من طريقه عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه عليه أصحابه فقال: «ابنو عريشًا كعريش موسى» فقلت للحسن: ما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يديه بلغ العريش يعني السقف. وهذا مرسل.

ص: 175

وروى البيهقي أيضا من حديث حماد بن سلمة عن أبي سنان عن يعلى بن شداد بن أوس عن عبادة رضي الله عنه أن الأنصار جمعوا مالا فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ابن هذا المسجد وزينه إلى متى نصلي تحت هذا الجريد فقال: «ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى» قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

قلت: وقد احتج به الإمام أحمد رحمه الله تعالى وما ذلك إلا لثبوته عنده قال في رواية المروذي: قد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكحل المسجد قال: «لا عريش كعريش موسى» قال أبو عبد الله: إنما هو شيء مثل الكحل يطلى به أي فلم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم فيه. انتهى كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

وفي سنن أبي داود وصحيح ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت بتشييد المساجد» قال ابن عباس رضي الله عنهما: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى.

وروى البخاري في صحيحه قول ابن عباس رضي الله عنهما تعليقا مجزومًا به وتقدم ذكره.

قال الخطابي وغيره التشييد رفع البناء وتطويله.

قلت: وفي قوله «ما أمرت بتشييد المساجد» نوع من التوبيخ والتأنيب لمن فعل ذلك من هذه الأمة.

قال علي القاري ما معناه، أن تشييد المساجد وتزيينها بدعة لأنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه موافقة لأهل الكتاب انتهى.

وقال الخطابي: قوله لتزخرفنها معناه لتزيننها وأصل الزخرف الذهب

ص: 176

يريد تمويه المساجد بالذهب ونحوه ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل والمعنى أن اليهود والنصارى إنما زخرفوا المساجد عندما حرفوا وبدلوا وتركوا العمل بما في كتبهم يقول: فأنتم تصيرون إلى مثل حالهم إذا طلبتم الدنيا بالدين وتركتم الإخلاص في العمل وصار أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة بتشييدها وتزيينها انتهى. وقوله: ونحوه يعني من كل ما تزين به المساجد من الأصباغ والنقوش فهو أعم من تمويهها بالذهب واللام في قوله: لتزخرفنها لام القسم والنون للتأكيد يعني أن التشبه باليهود والنصارى في زخرفة المساجد واقع في هذه الأمة ولابد.

وقد استند ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: لتزخرفنها إلى آخره على ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها وكما شرفت النصارى بيعها» رواه ابن ماجه.

وله أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم» قال ابن حجر رجاله ثقات إلا جبارة بن المغلس شيخه يعني: ابن ماجه ففيه مقال.

قلت: وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في إسناده جبارة بن المغلس، وفيه أيضًا ليث وهو ابن أبي سليم، وفيه مقال، وبقية رجاله ثقات.

وذكر المروذي في كتاب «الورع» عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «إذا حليتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم فعليكم الدمار» وروى أبو نعيم في «الحلية» عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:» إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم».

وذكر المروذي في كتاب "الورع" عن أبي فزارة عن مسلم البطين

ص: 177

قال: مر علي رضي الله عنه بمسجد التيم وهو مشرف فقال: هذه بيعة التيم؟ قلت: هذا إنكار من علي رضي الله عنه على الذين شرفوا مسجدهم وفي ضمن هذا الإنكار توبيخ لهم وتأنيب على التشبه بالنصارى في جعلهم المسجد مشرفًا كالبيعة.

وقال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال دخلت مع ابن عمر رضي الله عنهما مسجدًا بالجحفة فنظر إلى شرفات، فخرج إلى موضع فصلى فيه، ثم قال لصاحب المسجد: إني رأيت في مسجدك هذا يعني الشرفات شبهتها بأنصاب الجاهلية فمر بها أن تكسر. إسناده جيد.

وإذا كان هذا قول علي وابن عمر رضي الله عنهما في تشريف المسجد فكيف لو رأيا ما يفعله كثير من الناس في زماننا من تضخيم بناء المساجد وتشريفها بالشرفات الكثيرة وزخرفتها بالأصباغ والألوان المختلفة وتبذير الأموال الكثيرة في ذلك فالله المستعان.

قال المروذي أيضًا: ذكرت لأبي عبد الله -يعني الإمام أحمد بن حنبل- مسجدًا قد بني وأنفق عليه مال كثير فاسترجع وأنكر ما قلت.

وقال المروذي أيضًا قلت لأبي عبد الله إن ابن أسلم الطوسي لا يجصص مسجده ولا بطوس مسجد مجصص إلا قلع جصه فقال أبو عبد الله هو من زينة الدنيا.

قلت: وهذا يقتضي أنه لا ينبغي تجصيص المساجد فضلاً عن زخرفتها وتزيينها بالأصباغ والألوان المختلفة.

ص: 178

وظاهر الرواية الأولى أنه لا يجوز تشييد المساجد وتضخيم بنائها لأن النفقة في ذلك من التبذير والسرف المذموم.

والأصل في هذا ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله.

وما تقدم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فهؤلاء هم القدوة وفيهم الأسوة الحسنة.

وأما التشييد والزخرفة فهما من أفعال اليهود والنصارى وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني» أخرجاه في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وصححه ابن حبان وغيره.

فصل

النوع الحادي والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ترك الصلاة في النعال والخفاف بالكلية لما رواه أبو داود والبيهقي في سننيهما والحاكم في مستدركه عن شداد بن أوس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم» .

ورواه الطبراني في معجمه الكبير ولفظه: «صلوا في نعالكم ولا تشبهوا باليهود» قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي هذا الحديث رد على الموسوسين الذين لا يصلون في النعال ولا في الخفاف ولا يدخلون المساجد فيها إما بالكلية كما في بعض

ص: 179

الأماكن وإما إلى موضع الصلاة كما في أماكن أخر، وهذا من الغلو والتعمق والرغبة عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فإنهم كانوا يدخلون المساجد في النعال والخفاف ويصلون فيها كما في الصحيحين عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم ورواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والدارمي والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم. قال: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن أبي حبيبة وعبد الله بن عمرو وعمرو بن حريث وشداد بن أوس وأوس الثقفي وأبي هريرة وعطاء رجل من بني شيبة.

وفي الصحيحين أيضًا عن همام بن الحارث قال: رأيت جرير بن عبد الله رضي الله عنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه ثم قام فصلى فسئل فقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا. هذا لفظ البخاري.

وفي الصحيحين أيضًا عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: وضأت النبي صلى الله عليه وسلم فمسح على خفيه وصلى. هذا لفظ البخاري.

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم عن ابن أوس وكان أوس -يعني ابن حذيفة الثقفي- جده قال: أشار إلي جدي أن أناوله نعليه وهو يصلي فناولته فلبسهما وهو يصلي فلما صلى قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه. إسناده صحيح على شرط مسلم وقد رواه ابن ماجه في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة فذكره بنحوه.

ص: 180

وروى ابن ماجه أيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في النعلين والخفين.

وقد رواه الإمام أحمد في مسنده وفيه قصة وهي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أتى أبا موسى الأشعري في منزله فحضرت الصلاة فقال أبو موسى: تقدم يا أبا عبد الرحمن فإنك أقدم سنًا وأعلم قال: لا بل تقدم أنت فإنما أتيناك في منزلك ومسجدك فأنت أحق قال فتقدم أبو موسى فخلع نعليه فلما سلم قال: ما أردت إلى خلعهما أبالوادي المقدس أنت لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الخفين والنعلين.

وفي المسند أيضًا وسنني أبي داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيًا ومنتعلاً.

في المسند أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قائمًا وقاعدًا وحافيًا ومنتعلاً.

وروى أبو نعيم في «الحلية» من حديث مكحول عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيًا ومنتعلاً وينصرف عن يمنه وعن شماله.

وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى النبي القوم ألقوا نعالهم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: «ما حملكم على إلقائكم نعالكم» ؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا -وقال-

ص: 181

إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما» ورواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والدارمي والحاكم بنحوه. وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنعليه وفيهما قذر فأخبره جبريل فحذفهما وأتم صلاته.

وفي مستدرك الحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلع نعليه في الصلاة قط إلا مرة واحدة خلع فخلع الناس فقال: «مالكم» ؟ قالوا: خلعت فخلعنا فقال: «إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرًا أو أذى» قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي سنن الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما. {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: الصلاة في النعلين وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نعليه فخلعهما فخلع الناس فلما قضى الصلاة قال: «لم خلعتم نعالكم» ؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا قال: «إن جبريل عليه السلام أتاني فقال إن فيهما دم حلمة» .

فهذا ما تيسر إيراده من الأحاديث الدالة على أن الصلاة في النعال والخفاف سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بها وفعلها هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ولهذا لما قيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: أيصلي الرجل في نعليه؟ قال: إي والله، فأما الصلاة في الخفاف فلا يزال العمل بها باقيًا في كثير من البلاد الإسلامية حتى الآن.

ص: 182

وأما الصلاة في النعال فقد عفى أثرها في هذه الأزمان حتى صارت في بعض الأماكن من قبيل البدع ومنكرات الأفعال. وبعض المنتسبين إلى الإسلام ينكرون الصلاة في النعال والخفاف معًا.

ولما ذكر بعض أهل السنة لبعض المنتسبين إلى العلم من أولئك ما هم عليه من البدع والمنكرات قال له: وأنتم تفعلون أمرا منكرًا وهو الصلاة في الخفاف.

قلت: وهذا دليل على استحكام غربة الدين في زماننا حتى عاد المعروف عند الأكثرين منكرًا والمنكر معروفًا والسنة بدعة والبدعة سنة.

ومن غلو الموسوسين وتعمقهم أنهم يمنعون غيرهم من دخول المساجد في النعال والخفاف وينكرون ذلك عليهم أشد الإنكار ولو رأوا أحدًا يدخل المساجد في نعليه أو خفيه لاستعظموا ذلك واشتد إنكارهم على فاعله وإنما يحملهم على هذا جهلهم بالسنة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين من التيسير وترك التعسير.

وحجة الموسوسين على المنع من دخول المساجد بالنعال والخفاف أنها مظنة للتلوث بالنجاسة. وقد جاءت السنة بكشف هذه الشبهة كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والدارمي وأبو داود السجستاني والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي سنن أبي داود ومستدرك الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له

ص: 183

طهور». قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي في تلخيصه. وفي رواية لأبي داود: «إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب» وله أيضًا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

فصل

النوع الثاني والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى استقذار الأكل بالأيدي واعتياد الأكل بالملاعق ونحوها من غير ضرر بالأيدي وكذلك الجلوس للطعام على الكراسي ونحوها مما يتكئ الجالس عليه ويتمكن في جلوسه. وكذلك ترتيب سماطات الطعام وأوانيه على الزي الإفرنجي وكل هذا مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أكمل الهدي على الإطلاق.

فأما هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل فقد كان يأكل بثلاث أصابع ويلعقها إذا فرغ.

كما في المسند وصحيح مسلم وسنني أبي داود والدارمي عن كعب ابن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع ويلعق يده قبل أن يمسحها» ، وفي رواية لمسلم:«كان يأكل بثلاثة أصابع فإذا فرغ لعقها» ، ورواه الدارمي أيضًا بنحوه.

وفي المسند وصحيح مسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 184

ورواه الدارمي في سننه ولفظه عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه الثلاث» إسناده صحيح على شرط مسلم.

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعق الأصابع والصحفة ورغب في ذلك كما في الصحيحين والمسند وسنن أبي داود وابن ماجه والدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها» .

وفي رواية لأحمد: «إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده بالمنديل حتى يلعقها أو يلعقها» ورواه أبو داود بنحوه.

قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على المسند: هذا الحديث مما يتحدث فيه المترفون المتمدنون عبيد أوروبا في بلادنا يستنكرونه والمؤدب منهم من يزعم أنه حديث مكذوب لأنه لا يعجبه ولا يوافق مزاجه فهم يستقذرون الأكل بالأيدي وهي آلة الطعام التي خلقها الله وهي التي يثق الآكل بنظافتها وطهارتها إذا كان نظيفًا طاهرًا كنظافة المؤمنين.

أما الآلات المصطنعة للطعام فهيهات أن يطمئن الآكل إلى نقائها إلا أن يتولى غسلها بيده فأيهما أنقى؟ ثم ماذا في أن يلعق أصابعه غيره إذا كان من أهله أو ممن يتصل به ويخالطه إذا وثق كل منهما من نظافة صاحبه وطهره ومن أنه ليس به مرض يخشى أو يستقذر انتهى كلامه.

وفي المسند وصحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 185

أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: «إنكم لا تدرون في أي طعمكم البركة» .

وفي رواية لأحمد: «ولا يرفع الصحفة حتى يلعقها أو يلعقها فإن آخر الطعام فيه البركة» .

وفي رواية لمسلم: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة» .

وفي رواية له: «ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعقها أو يلعقها» وفي رواية له أخرى: «إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة» وقد رواه الترمذي وابن ماجه بنحوه مختصرًا.

وفي المسند وصحيح مسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان» وأمرنا أن نسلت القصعة قال: «فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقد رواه الدارمي في سننه مختصرا ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سقطت لقمة أحدكم فليمسح عنها التراب وليسم الله وليأكلها» إسناده صحيح على شرط مسلم.

ص: 186

وفي المسند وصحيح مسلم وجامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه لا يدري في أيتهن البركة» .

وفي رواية لمسلم: «وليسلت أحدكم الصحفة» .

وفي المسند وجامع الترمذي وسنني ابن ماجه والدارمي وتاريخ البخاري عن نبيشة الخير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة» قال الترمذي: هذا حديث غريب.

وفي سنن الدارمي عن الحسن قال: كان معقل بن يسار رضي الله عنه يتغدى فسقطت لقمته فأخذها فأماط ما بها من أذى ثم أكلها فجعل أولئك الدهاقين يتغامزون به فقالوا له: ما ترى ما يقول هؤلاء الأعاجم يقولون: انظروا إلى ما بين يديه من الطعام وإلى ما يصنع بهذه اللقمة فقال: إني لم أكن لأدع ما سمعت لقول هؤلاء الأعاجم: «إنا كنا نؤمر إذا سقطت من أحدنا لقمة أن يميط ما بها من الأذى وأن يأكلها» إسناده صحيح على شرط مسلم.

وقد رواه ابن ماجه في سننه بنحوه وعنده قال: إني لم أكن لأدع ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأعاجم «إنا كنا نأمر أحدنا إذا سقطت لقمته أن يأخذها فيميط ما كان فيها من أذى ويأكلها ولا يدعها للشيطان» إسناده صحيح على شرط مسلم.

وقد اشتملت هذه الأحاديث على عدة فوائد وآداب من آداب الأكل:

ص: 187

الأولى: مشروعية الأكل باليد بخلاف ما عليه المتشبهون بالإفرنج وأضرابهم من الأكل بالملاعق واستقذار الأكل بالأيدي. وفعل أعداء الله وأشباههم أولى بالاستقذار من فعل المسلمين. وذلك أن أحدهم يدخل الملعقة أو بعضها في فيه ثم يخرجها وقد علق اللعاب بها فيغمسها في الطعام بما علق بها ثم يدخلها في فيه مرة أخرى وهكذا يفعل إلى أن يفرغ من أكله وأما الأصابع فإن الآكل بها لا يدخلها في فيه وإنما يدخل اللقمة فقط وتكون الأصابع من خارج فيه فلا يعلق بها اللعاب كما يعلق بالمعلقة.

والقول في أكل اللحم بالأشواك التي أحدثها أهل المدينة من الإفرنج ومن يتشبه بهم كالقول في الأكل بالملاعق سواء فكلاهما أولى بالاستقذار من الأكل بالأيدي. والأكل بهما خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو الغاية في النظافة والنزاهة والبعد عما يكره ويستقذر.

وقد أجاز بعض الفقهاء الأكل بالملاعق وبعضهم كره ذلك قال الآمدي السنة أن يأكل بيده ولا يأكل بملعقة ولا غيرها ومن أكل بملعقة وغيرها أخل بالمستحب وجاز.

وقال الحجاوي في الإقناع: ولا بأس أن يأكل بمعلقة قال البهوتي في شرحه ربما يؤخذ من قول الإمام أكره كل محدث كراهيتها.

قلت: والصحيح أن الأكل بالملاعق مكروه لأنه من فعل الجبابرة والمترفين ومن فعل طوائف الإفرنج وأشباههم من الكفرة. فأما إن كان في اليد ضرر يمنع من الأكل بها أو كان الطعام لينا جدا بحيث لا تمسكه اليد فلا كراهة في الأكل بالملعقة حينئذ والله أعلم.

ص: 188

الثانية: استحباب الأكل بثلاث أصابع قال النووي: ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقا وغيره مما لا يمكن بثلاث وغيره ذلك من الأعذار انتهى.

الثالثة: استحباب لعق الأصابع والصحفة بعد الطعام ليحصل للآكل ما في الطعام من البركة. ولعق الصحفة ولحسها هو سلتها بالإصبع ولعق ما يعلق بالإصبع منها كما هو معروف ومعمول به عن المتمسكين بالسنة.

قال الخطابي: سلت الصحفة تتبع ما يبقى فيها من الطعام ومسحها بالإصبع ونحوه وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في لعق الأصابع وسلت الصحفة وهو قوله فإنه لا يدري في أي طعامه يبارك له يقول لعل البركة فيما علق بالأصابع والصحفة من لطخ ذلك الطعام.

وقد عابه قوم أفسد عقولهم الترفه وغير طباعهم الشبع والتخمة وزعموا أن لعق الأصابع مستقبح أو مستقذر كأنهم لم يعلموا أن الذي علق بالإصبع أو الصحفة جزء من أجزاء الطعام الذي أكلوه وازدردوه فإذا لم يكن سائر أجزاءه المأكولة مستقذرا لم يكن هذا الجزء اليسير منه الباقي في الصحفة واللاصق بالأصابع مستقذرا كذلك.

وإذا ثبت هذا فليس بعده شيء أكثر من مسه أصابعه بباطن شفتيه وهو ما لا يعلم عاقل به بأسا إذا كان الماس ولممسوس جميعا طاهرين نظيفين وقد يتمضمض الإنسان فيدخل إصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه فلم ير أحد ممن يعقل أنه قذارة أو سوء أدب فكذلك هذا لا فرق بينهما في منظر حس ولا مخبر عقل انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

ص: 189

وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو أنه إذا اجتمع على الأكل من الصحفة اثنان فأكثر فكل يلعق ما يليه منها ولا يعاب على من لم يلعق ما يلي غيره.

الفائدة الرابعة: استحباب أكل اللقمة الساقطة بعد إماطة ما علق بها من أذى قال النووي هذا إذا لم تقع على موضع نجس فإن وقعت على موضع نجس تنجست ولابد من غسلها إن أمكن فإذا تعذر أطعمها حيوانًا ولا يتركها للشيطان انتهى.

وما تضمنته هذه الفوائد فكله مستقبح ومستقذر عند أهل المدينة الإفرنجية ومن يتشبه بهم من جهال المسلمين وسفهائهم الذين هم اتباع كل ناعق فهم يستقذرون الأكل باليد ويستقذرون لعقها ويستقذرون لعق الصحفة ويستقذرون أكل اللقمة الساقطة. وهؤلاء عن سنن الأكل وآدابه بمعزل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه.

وكثير من المتشبهين بأعداء الله تعالى لم يقفوا عند حد الاستقباح والاستقذار للعمل بالسنة الثابتة في لعق الأصابع والصحفة بل أقدموا على إنكار الأحاديث الواردة في ذلك وزعموا أنها مكذوبة.

وقد تقدم ما ذكره الشيخ أحمد محمد شاكر عنهم. وهذا جراءة منهم قبيحة وكفى بذلك خذلانا لهم إذ قد جمعوا بين ثلاثة أمور منكرة:

أولها: الرغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وثانيها: التشبه بأعداء الله تعالى.

وثالثها: إنكار الأحاديث الصحيحة بمجرد الهوى والتشهي والاتباع

ص: 190

لأعداء الله تعالى وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم وأعداء المؤمنين وما أشبه هؤلاء بالذين قال الله تعالى فيهم: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .

الفائدة الخامسة: إثبات وجود الشياطين وأنهم يأكلون. وفي ذلك رد على من أنكر وجودهم كالفلاسفة ومن نحا نحوهم من ملاحدة الإفرنج وزنادقة هذه الأمة وما أكثرهم في زماننا لاكثرهم الله.

السادسة: جواز مسح اليد بالمنديل ونحوه بعد لعقها.

السابعة: استغفار القصعة لمن لحسها إن صح الحديث بذلك. وهذا مما لا ينكره مسلم. ونظير ذلك حنين الجذع اليابس شوقًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك تسبيح الحصى في يده. ونظيره أيضًا قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} .

وقريب من ذلك قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ} .

وأما هديه صلى الله عليه وسلم في الجلوس للأكل فقد كان يجلس مستوفزًا غير متمكن. وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مقعيًا يأكل تمرًا.

وفي رواية لمسلم قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقسمه وهو محتفز يأكل منه أكلاً ذريعًا. وفي رواية أكلا حثيثًا.

قال الجوهري الإقعاء عند أهل اللغة أن يلصق الرجل إليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويتساند إلى ظهره.

ص: 191

وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أكل مقعيًا. وقال أيضًا ورأيته محتفزًا أي مستوفزًا.

وقال صاحب القاموس احتفز استوفز وتضام في جلوسه واستوى جالسًا على وركيه انتهى.

وفي سنني أبي داود وابن ماجه عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم قصعة يقال لها الغراء يحملها أربعة رجال فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتي بتلك القصعة يعني وقد ثرد فيها فالتفوا عليها فلما كثروا جثى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أعرابي: ما هذه الجلسة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعلني عبدًا كريمًا ولم يجعلني جبارًا عنيدًا» وذكر تمام الحديث. وهذا لفظ أبي داود.

ولفظ ابن ماجه قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فجثى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه يأكل فقال أعرابي ما هذه الجلسة فقال: «إن الله جعلني عبدًا كريمًا ولم يجعلني جبارًا عنيدًا» قال النووي: إسناده جيد. وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. ونقل الحافظ عن ابن بطال أنه قال: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعًا لله تعالى.

وروى الإمام أحمد في الزهد عن الحسن مرسلا قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بطعام أمر به فألقي على الأرض وقال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» .

وروى أبو داود وابن ماجه في سننيهما والحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه» هذا لفظ ابن ماجه.

ص: 192

وفي رواية أبي داود والحاكم «وهو منبطح على بطنه» قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود الطيالسي والدارمي وأهل السنن إلا النسائي عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا آكل متكئًا» .

وفي المسند وسنني أبي داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئًا ولا يطأ عقبيه رجلان.

وقد اختلف في صفة الاتكاء. فقيل: أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة كان وقيل: أن يميل على أحد شقيه. وقيل أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض ذكر هذه الأقوال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» .

قال وأخرج ابن عدي بسند ضعيف: «زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل» قال مالك: هو نوع من الاتكاء قال الحافظ: وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئًا ولا يختص بصفة بعينها انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى فسر الاتكاء بالتربع. وفسر بالاتكاء على الشيء وهو الاعتماد عليه وفسر بالاتكاء على الجنب. والأنواع الثلاثة من الاتكاء. فنوع منها يضر بالآكل وهو الاتكاء على الجنب فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء.

وأما النوعان الآخران فمن جلوس الجبابرة المنافي للعبودية ولهذا

ص: 193

قال آكل كما يأكل العبد. قال وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذي تحت الجالس فيكون المعنى إني إذا أكلت لم أقعد متكئًا على الأوطية والوسائد كفعل الجبابرة ومن يريد الإكثار من الطعام لكني آكل بلغة كما يأكل العبد انتهى وهذا القول الأخير هو الذي قرره الخطابي ورد ما سواه.

قال في «معالم السنن» : يحسب أكثر العامة أن المتكئ هو المائل المعتمد على أحد شقيه لا يعرفون غيره وكان بعضهم يتأول هذا الكلام على مذهب الطب ودفع الضرر عن البدن إذ كان معلوما أن الآكل مائلا على أحد شقيه لا يكاد يسلم من ضغط يناله في مجاري طعامه فلا يسيغه ولا يسهل نزوله معدته وليس معنى الحديث ما ذهبوا إليه وإنما المتكئ ههنا هو المعتمد على الوطاء الذي تحته وكل من استوى قاعدا على وطاء فهو متكئ. والاتكاء مأخوذ من الوكاء فالمتكئ هو الذي أوكى مقعدته وشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته والمعنى: إني إذا أكلت لم أقعد متمكنًا على الأوطية والوسائد فعل من يريد أن يستكثر من الأطعمة ويتوسع في الألوان ولكني آكل علقة وآخذ من الطعام بلغة فيكون قعودي مستوفزًا له انتهى.

قال الحافظ ابن حجر: واختلف السلف في حكم الأكل متكئا. فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية.

وتعقبه البيهقي فقال قد يكره لغيره أيضا لأنه من فعل المتعظمين وأصله مأخوذ من ملوك العجم قال: فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئًا لم يكن في ذلك كراهة انتهى. وقول البيهقي هو

ص: 194

الصحيح وأما قول ابن القاص فليس بشيء إذ من المعلوم أن الأمة أسوة نبيها في الأحكام إلا ما ثبت بالدليل اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم به دون الأمة. ولم يقم دليل على اختصاصه صلى الله عليه وسلم بكراهة الاتكاء حال الأكل فعلم أن أمته تبع له في ذلك.

ويؤيد هذا أن الاتكاء حال الأكل من فعل الجبابرة والمتعظمين من ملوك الأعاجم وغيرهم ومن فعل الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى ومن فعل المترفين المتشبهين بأعداء الله تعالى. والمسلمون مأمورون بمخالفة هذه الأصناف كلها ومنهيون عن التشبه بهم فعلم أن الاتكاء للأكل مكروه لجميع المسلمين إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة كما قرر ذلك البيهقي والله أعلم.

إذا علم هذه فمن الاتكاء المذموم الجلوس على الكراسي حال الأكل كما يفعل ذلك المترفون من الإفرنج ومن يأخذ بأخذهم من جهال المسلمين في هذه الأزمان. ولا شك في كراهة هذا الجلوس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا آكل متكئًا» ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني» .

فالواجب على المسلمين اتباع هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم والعض على سنته بالنواجذ والبعد كل البعد عن مشابهة أعداء الله تعالى والله الموفق.

فصل

النوع الثالث والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى الإشارة بالأصابع عند السلام.

ص: 195

وكذلك الإشارة بالأكف مرفوعة إلى جانب الوجه فوق الحاجب الأيمن كما يفعل ذلك الشرط وغيرهم.

وكذلك ضرب الشرط بأرجلهم عند السلام ويسمون هذا الضرب المنكر والإشارة بالأكف التحية العسكرية وهي تحية مأخوذة عن الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى وهي بالهزء والسخرية أشبه منها بالتحية ولكن ما الحيلة فيمن غيرت طباعهم المدنية الإفرنجية وأثرت فسادًا كثيرًا في أخلاقهم وأفعالهم حتى صاروا يستحسنون من أفعال الإفرنج وغيرهم من الأعاجم ما يستقبحه أولو العقول السليمة والفطر المستقيمة. وهذه التحية المستهجنة من جملة المنكر الذي ينبغي تغييره والنهي عنه لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الأمام أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان وغيره من الحفاظ.

وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف» .

وروى الحافظ أبو يعلى والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن جابر رضي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسليم الرجل بإصبع واحدة يشير بها فعل اليهود» قال الهيثمي رجال أبي يعلى رجال الصحيح وقال المنذري رواته رواة الصحيح.

وفي رواية للبيهقي: «لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليمهم إشارة بالكفوف والحواجب» قال البيهقي إسناده ضعيف.

ص: 196

قلت له شاهد مما تقدم وما يأتي وهو ما رواه النسائي بسند جيد عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: «لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والإشارة» وفي مستدرك الحاكم من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هدينا مخالف لهديهم» يعني المشركين قال الحاكم صحيح على شرك الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقد رواه الشافعي في مسنده من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا ولفظه: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك»

إذا علم هذا فقد اختص الله تبارك وتعالى المسلمين بأفضل التحيات وأكملها وأزكاها وهو السلام الذي علمه الله تبارك وتعالى لآدم أبي البشر حين نفخ فيه الروح وأخبره أنه تحيته وتحية ذريته من بعده كما في الصحيحين والمسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال: السلام عليكم فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله» الحديث.

وقد شرع الله تبارك وتعالى لهذه الأمة أن يسلم بعضهم على بعض بهذه التحية المباركة الطيبة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . وقال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} .

ص: 197

قال سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري يعني فليسلم بعضكم على بعض.

وفي جامع الترمذي عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من قومه قال: طلبت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه- فقال يعني النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» .

وفيه أيضا عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي جري جابر بن سليم الهجيمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام فقال: «لا تقل عليك السلام ولكن قل السلام عليكم» .

وبهذا السلام المبارك الطيب يسلم الرب تبارك وتعالى على المؤمنين إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} .

وروى ابن ماجه في سننه وابن أبي حاتم والبغوي في تفسيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السالم عليكم يا أهل الجنة قال وذلك قول الله تعالى: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}» .

وبهذا السلام المبارك الطيب تسلم الملائكة على المؤمنين إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .

وقد تقدم ذكر تسليمهم على آدم بهذا السلام المبارك الطيب.

ص: 198

وكما أن السلام هو تحية المسلمين فيما بينهم في الدنيا فكذلك هو تحيتهم فيما بينهم في الدار الآخرة كما قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} وقال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} .

وإذا علم فضل السلام وأنه تحية المسلمين في الدارين فليعلم أيضًا أنه لا أسفه رأيًا ممن رغب عن ذلك واستبدل عنه بإشارات الإفرنج وضربهم بالأرجل.

والله المسئول أن يوفق ولاة أمور المسلمين لمنع هذه الأفعال المخالفة للشريعة المحمدية.

فصل

النوع الربع والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى قيام الشرط وغيرهم من أعوان الملوك وخدامهم على الملوك وهم قعود وقيام الرجال للداخل عليهم على وجه التعظيم له والاحترام.

وقد ورد النهي عن ذلك والتشديد فيه كما في صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قيامًا فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودًا فلما سلم قال: «إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا» الحديث وقد رواه ابن ماجه في سننه بإسناد مسلم.

ص: 199

ورواه البخاري في «الأدب المفرد» عن عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال حدثني أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه فذكره بمثله وإسناده حسن وقد بوب عليه البخاري بقوله: «باب قيام الرجل للرجل القاعد» . ثم قال البخاري رحمه الله تعالى في الأدب المفرد «باب من كره أن يقعد ويقوم له الناس» .

حدثنا موسى -يعني ابن إسماعيل التبوذكي- قال حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرس بالمدينة على جذع نخلة فانفكت قدمه فكنا نعوده في مشربة لعائشة رضي الله عنها فأتيناه وهو يصلي قاعدا فصلينا قياما ثم أتيناه مرة أخرى وهو يصلي المكتوبة قاعدا فصلينا خلفه قياما فأومأ إلينا أن اقعدوا فملما قضى الصلاة قال: «إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا وإذا صلى قائما فصلوا قياما ولا تقوموا والإمام قاعد كما تفعل فارس بعظمائهم» إسناده صحيح رجاله كلهم من رجال الصحيحين.

وقد رواه أبو داود في سننه عن عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير ووكيع عن الأعمش فذكره بنحوه. وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

وفي المسند وسنني أبي داود وابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضًا» قال المنذري في «الترغيب والترهيب» : إسناده حسن فيه أبو غالب واسمه حزور ويقال نافع ويقال سعيد بن الحزور فيه كلام طويل ذكرته في مختصر السنن وغيره والغالب عليه التوثيق وقد صحح له الترمذي وغيره.

ص: 200

قلت وقد وثقه الدارقطني وقال ابن مفلح في «الآداب» : أبو غالب مختلف فيه وحديثه حسن. وقد بوب أبو داود على هذا الحديث وعلى حديث معاوية الآتي بقوله: باب الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك.

وقال البخاري رحمه الله تعالى في «الأدب المفرد» : حدثنا موسى بن إسماعيل -يعني التبوذكي- قال حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال ما كان شخص أحب إليهم رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعلمون من كراهيته لذلك. إسناده صحيح على شرط مسلم وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وبوب الترمذي على هذا الحديث وعلى حديث معاوية الآتي بقوله: باب كراهية قيام الرجل للرجل.

وقال أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل -يعني التبوذكي- حدثنا حماد -يعني ابن سلمة- عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» إسناده صحيح على شرط مسلم.

وقد رواه الترمذي في جامعه فقال حدثنا محمود بن غيلان حدثنا قبيصة -يعني ابن عقبة- حدثنا سفيان-يعني الثوري- عن حبيب ابن الشهيد عن أبي مجلز قال خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه فقال: اجلسا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: وفي الباب عن أبي أمامة رضي الله عنه وهذا حديث حسن.

ص: 201

قلت رجاله كلهم من رجال الصحيحين فهو على هذا صحيح على شرط الشيخين. ثم رواه الترمذي عن هناد عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن حبيب ابن الشهيد عن أبي مجاز بكسر الميم وإسكان الجيم واسمه لاحق بن حميد السدوسي عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين وقد رواه الإمام أحمد في مسنده من طرق عن حبيب بن الشهيد وأسانيده كلها صحيحة.

وقال البخاري رحمه الله تعالى في «الأدب المفرد» : باب قيام الرجل للرجل تعظيما. حدثنا آدم -يعني ابن أبي إياس- قال حدثنا شعبة وحدثنا حجاج -يعني ابن منهال- قال حدثنا حماد -يعني ابن سلمة- قال حدثنا حبيب بن الشهيد قال سمعت أبا مجلز يقول: إن معاوية رضي الله عنه خرج وعبد الله بن عامر وعبد الله بن الزبير قعود فقام ابن عامر وقعد ابن الزبير وكان أرزنهما قال معاوية رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يمثل له عباد الله قيامًا فليتبوأ بيتًا في النار» إسناداه صحيحان على شرط مسلم.

قال ابن الأثير في قوله: «من سره أن يمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» أي: يقومون له قياما وهو جالس يقال مثل الرجل يمثل مثولا إذا انتصب قائمًا وإنما نهي عنه لأنه من زي الأعاجم ولأن الباعث عليه الكبر وإذلال الناس.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في الكلام على قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى الإمام جالسًا فصلوا جلوسًا وإذا صلى الإمام قائمًا فصلوا قيامًا ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها» .

ص: 202

في هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود.

ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد. ونهي أيضا عما يشبه ذلك وإن لم يقصد به ذلك.

وفي الحديث أيضا نهي عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله: «فلا تفعلوا» . فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية انتهى.

وقال النووي فيه النهي عن قيام الغلمان والتباع على رأس متبوعهم الجالس لغير حاجة.

وأما القيام للداخل إذا كان من أهل الفضل والخير فليس من هذا بل هو جائز قد جاءت به أحاديث وأطبق عليه السلف والخلف.

قلت في آخر هذا الكلام نظر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل الخلق وخيرهم ومع هذا فقد نهى أصحابه عن القيام له إذا خرج عليهم وأخبرهم أن ذلك من فعل الأعاجم يعظم بعضهم بعضا.

وقال أنس رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك.

ولما قام ابن عامر لمعاوية رضي الله عنه لما خرج عليهم أمره أن

ص: 203

يجلس وحدثهم بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من التشديد في ذلك. وهذه أحاديث صحيحة فيجب العمل بها.

ومن قال: إنها محمولة على القيام على الملوك وهم قعود وما أشبه ذلك فقد أبعد النجعة وخالف ما دلت عليه هذه الأحاديث من النهي عن القيام للداخل ونحوه على وجه التعظيم والاحترام.

وقد رد ابن القيم رحمه الله تعالى على من قال بهذا القول فقال في تهذيب السنن على قول المنذري.

وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنهم لما صلوا خلفه صلى الله عليه وسلم قيامًا وهو قاعد فأشار إليهم فقعدوا فلما سلم قال: «إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا» .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: حمل أحاديث النهي -يعني حديث معاوية وحديث أبي أمامة- على مثل هذه الصورة ممتنع فإن سياقها يدل على خلافه وأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن القيام له إذا خرج عليهم ولأن العرب لم يكونوا يعرفون هذا وإنما هو من فعل فارس والروم.

ولأن هذا لا يقال له: قيام للرجل إنما هو قيام عليه.

ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه والقيام عليه المشبه لفعل فارس والروم والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة العرب وأحاديث الجواز تدل عليه فقط انتهى.

وذكر ابن القيم أيضا حديث معاوية رضي الله عنه ثم قال: وفيه رد

ص: 204

على من زعم أن معناه: أن يقوم الرجل للرجل في حضرته وهو قاعد فإن معاوية روى الخبر لما قاما له حين خرج.

قال: وأما الأحاديث المتقدمة فالقيام فيها عارض للقادم مع أنه قيام إلى الرجل للقائه لا قيام له وهو وجه حديث فاطمة فالمذموم القيام للرجل.

وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم فلا بأس به وبهذا تجتمع الأحاديث والله أعلم انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

والأحاديث التي أشار إليها أنها قد تقدمت ستأتي في القسم الثالث وهي حديث عائشة رضي الله عنها في قيام النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة، وقوله للأنصار:«قوموا إلى سيدكم» وحديث عائشة رضي الله عنها في قيام النبي صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة إذا دخلت عليه وقيامها إليه إذا دخل عليها.

إذا علم هذا فالقيام على ثلاثة أقسام:

أحدها: القيام على الرجل وهو قاعد كما يفعله الشرط وغيرهم من أعوان الملوك مع الملوك وهذا هو الذي ورد النهي عنه في حديث جابر رضي الله عنه الذي تقدم ذكره ولا أعلم نزاعًا في كراهته والمنع منه.

ويستثنى من هذا مسألة واحدة وهي ما إذا قدم على الإمام رسل من الأعداء وخيف منهم أن يغدروا به فلا بأس أن يقوم بعض أعوانه على رأسه بالسلاح كما فعل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في صلح الحديبية فإنه كان قائما بالسلاح على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه رسل قريش.

والحديث بذلك في صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد وغيرهما.

ص: 205

القسم الثاني: القيام للداخل ونحوه إعظامًا له واحترامًا لا لقصد المعانقة أو المصافحة. وفي كراهة هذا والمنع منه نزاع بين العلماء والصحيح المنع منه لما تقدم عن أبي أمامة وأنس ومعاوية رضي الله عنهم في ذلك. وأحاديثهم وإن كانت واردة في هذا القسم فعمومها يشمل القسم الأول أيضا لأن كلا منهما من أفعال الأعاجم وتعظيم بعضهم بعضًا. والمسلم منهي عن التشبه بالأعاجم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» وفي الحديث الآخر: «ليس منا من تشبه بغيرنا» .

وقد فرق بعض العلماء بين القيام لأهل الفضل والفقه وبين القيام لغيرهم فأجازوه لأهل الخير ومنعوه لغيرهم وهذا تفريق لا دليل عليه. وقد تقدم رد ما قاله النووي في ذلك.

قال إسحاق بن إبراهيم: خرج أبو عبد الله على قوم في المسجد فقاموا له فقال: لا تقوموا لأحد فإنه مكروه.

وقال أحمد أيضا في رواية مثنى: لا يقوم أحد لأحد.

وقال ابن حنبل: قلت لعمي ترى للرجل أن يقوم للرجل إذا رآه قال: لا يقوم أحد لأحد إلا الولد لوالده أو لأمه فأما لغير الوالدين فلا. نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وظاهر هذه الروايات أنه لا فرق بين القيام لأهل الفقه والدين وبين القيام لغيرهم. وقد روي عن الإمام مالك نحو هذا قال ابن القاسم في «المدونة» : قيل لمالك الرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه قال: أكره ذلك ولا بأس بأن يوسع له في مجلسه.

ص: 206

قال: وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس من فعل الجبابرة وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا فليس هذا من فعل الإسلام.

وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : محصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس ولو كان في شغل نفسه فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتتلقاه وتنزع ثيابه وتقف حتى يجلس فقال: أما التلقي فلا بأس به وأما القيام حتى يجلس فلا فإن هذا من فعل الجبابرة وقد أنكره عمر بن عبد العزيز انتهى.

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: أبو بكر والقاضي ومن تبعهما فرقوا بين القيام لأهل الدين وغيرهم فاستحبوه لطائفة وكرهوه لأخرى والتفريق في مثل هذا بالصفات فيه نظر.

قال: وأما أحمد فمنع منه مطلقا لغير الوالدين فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأئمة ولم يكونوا يقومون له فاستحباب ذلك للإمام العادل مطلقا خطأ.

وقصة ابن أبي ذئب مع المنصور تقتضي ذلك.

وما أراد أبو عبد الله -والله أعلم-إلا لغير القادم من سفر فإنه قد نص على أن القادم من السفر إذا أتاه إخوانه فقام إليهم وعانقهم فلا بأس به.

وحديث سعد يخرج على هذا وسائر الأحاديث فإن القادم يتلقى لكن هذا قام فعانقهم والمعانقة لا تكون إلا بالقيام.

وأما الحاضر في المصر الذي قد طالت غيبته والذي ليس من عادته المجيء إليه فمحل نظر. فأما الحاضر الذي يتكرر مجيئه في الأيام كإمام المسجد أو السلطان في مجلسه أو العالم في مقعده فاستحباب القيام له خطأ بل المنصوص عن أبي عبد الله هو الصواب انتهى.

ص: 207

وقصة ابن أبي ذئب التي أشار إليها الشيخ قد ذكرت له مع المهدي وأنه لما حج دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبق أحد إلا قام إلا ابن أبي ذئب فقال له المسيب بن زهير: قم هذا أمير المؤمنين فقال ابن أبي ذئب: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال المهدي: دعه فلقد قامت كل شعرة في رأسي. ذكره الخطيب في تاريخه.

وقد سئل الشيخ أيضًا عن النهوض الذي يعده الناس من الإكرام والاحترام عند قدوم شخص معتبر هل يجوز أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذى باطنه وربما أدى ذلك إلى بغض ومقت وعداوة.

فأجاب -رحمه الله تعالى-: لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام للداخل المسلم كما يردون عليه السلام كما يعتاد كثير من الناس بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك. ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة. وقال للأنصار لما قدم سعد ابن معاذ قوموا إلى سيدكم، وكان سعد متمرضًا بالمدينة وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة.

والذي ينبغي للناس أن يعتادوا ما كان السلف عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق وهدي خير القرون إلى ما دونه وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا

ص: 208

ولا يقوم لهم في اللقاء المعتاد. فأما القيام لمن قدم من سفر ونحو ذلك تلقيًا له فحسن.

وإذا كان من عادة الناس إكرام من يجيء بالقيام ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس لحقه أو قصد لخفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له، لأن في ذلك إصلاح ذات البين وإزالة للتباغض والشحناء.

وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار» فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء ولهذا فرقوا بين أن يقال قمت إليه وقمت له.

والقائم للقادم قد ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد.

وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدًا في مرضه وصلوا قيامًا أمرهم بالقعود وقال: «لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضًا» فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبهوا بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.

وجماع ذلك أن الذي يصلح اتباع عادة السلف وأخلاقهم والاجتهاد في ذلك بحسب الإمكان فمن لم يعتد ذلك أو لم يعرف أنه العادة وكان في ترك مقابلته بما اعتاده الناس من الإكرام مفسدة راجحة فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما تحصل المصلحة بتفويت أدناهما انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وقال أيضا في الفتاوى المصرية: ينبغي ترك القيام في اللقاء المتكرر

ص: 209

المعتاد ونحوه لكن إذا اعتاد الناس القيام وقدم من لا يرى كرامته إلا به فلا بأس به فالقيام دفعًا للعداوة والفساد خير من تركه المفضي إلى الفساد وينبغي مع هذا أن يسعى في الاصطلاح على متابعة السنة انتهى.

القسم الثالث: القيام إلى القادم لمعانقته أو مصافحته أو إنزاله عن دابته ونحو ذلك من المقاصد الجائزة. وهذا القيام جائز قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه بحضرته، كما في جامع الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانًا يجر ثوبه والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبله. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

قولها: عريانا تريد أنه عليه الصلاة والسلام كان ساترا ما بين سرته وركبته ولكن سقط رداؤه عن عاتقه فكان ما فوق سرته وما تحت ركبته عريانا. قال الطيبي: وكان هذا من شدة فرحه حيث لم يتمكن من تمام التردي بالرداء حتى جره وكثيرا ما يقع مثل هذا انتهى.

وروى البيهقي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه عكرمة بن أبي جهل مسلمًا مهاجرًا قام إليه فرحا بقدومه.

وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحدًا كان أشبه سمتًا وهديًا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة رضي الله عنها كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكانت إذا دخل عليها قامت إليه وأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن

ص: 210

أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء على حمار فقال النبي للأنصار: «قوموا إلى سيدكم» .

وفي رواية لأحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال أبو سعيد فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» فقال عمر رضي الله عنه: سيدنا الله قال: «أنزلوه» فأنزلوه. الحديث قال الحافظ ابن حجر سنده حسن.

قلت: وفي هذه الرواية بيان المراد من الأمر بالقيام إلى سعد رضي الله عنه ففيه رد على من استدل به على جواز القيام المنهي عنه.

قال الحافظ ابن حجر: هذه الزيادة -يعني قوله فأنزلوه- تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه انتهى.

وفي الصحيحين وغيرهما في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لما تاب الله عليه قال: وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني الحديث.

فهذا وما أشبهه من القيام جائز كما دلت عليه هذه الأحاديث وهو قيام إلى الشخص لا له والقيام إلى الشخص من فعل العرب. القيام له أو عليه من فعل العجم. وقد تقدم قول ابن القيم رحمه الله تعالى أن المذموم القيام للرجل.

وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم فلا بأس به.

وقد روي عن أحمد رحمه الله تعالى ما يوافق هذا.

ص: 211

قال أبو جعفر محمد بن أحمد بن المثنى: أتيت أحمد بن حنبل فجلست على بابه أنتظر خروجه فلما خرج قمت إليه فقال لي: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يتمثل الناس له قياما فليتبوأ مقعده من النار» فقلت له: إنما قمت إليك لا لك فاستحسنه.

فصل

النوع الخامس والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله كثير من الجهال من التصفيق في المجالس والمجامع عند رؤية ما يعجبهم من الأفعال وعند سماع ما يستحسنونه من الخطب والأشعار وعد مجيء الملوك والرؤساء إليهم. وهذا التصفيق سخف ورعونة ومنكر مردود من عدة أوجه.

أحدها: أن فيه تشبهًا بأعداء الله تعالى من المشركين وطوائف الإفرنج وأشباههم.

فأما المشركون فقد قال الله تعالى عنهم: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} .

قال أهل اللغة وجمهور المفسرين: المكاء الصفير، والتصدية: التصفيق، وبهذا فسره ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم. فأما ابن عمر رضي الله عنهما فرواه ابن جرير عنه وفيه أنه حكى فعل المشركين فصفر وأمال خده وصفق بيديه.

وروى ابن أبي حاتم عنه رضي الله عنه أنه قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون.

ص: 212

وأما ابن عباس رضي الله عنهما فرواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الفرج ابن الجوزي عنه. ولفظ ابن أبي حاتم قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق والمكاء الصفير والتصدية التصفيق.

وكذا روي عن مجاهد ومحمد بن كعب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك والحسن وقتادة وعطية العوفي وغيرهم. قال ابن عرفة وابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية فألزمهم ذلك عظيم الأوزار.

وروى الإمام أحمد والنسائي والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر قريشا أنه أسري به إلى بيت المقدس قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا قال: «نعم» قال: فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب.

وأما الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى فقد ذكر المخالطون لهم أن التصفيق من أفعالهم في محافلهم إذا أعجبهم كلام أو فعل من أحد صفقوا تعجبًا وتعظيمًا لذلك القول أو الفعل. وقد أخذ سفهاء المسلمين عنهم هذا الفعل السخيف تقليدًا لهم وتشبها بهم.

وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» وتقدم أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى» .

ص: 213

وفي هذين الحديثين دليل على المنع من التصفيق لما فيه من التشبه بأعداء الله تعالى.

ويدل على المنع منه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين» متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «هدينا مخالف لهديهم» -يعني المشركين- رواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ورواه الشافعي في مسنده من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا ولفظه: «هدينا مخالف لأهل الأوثان والشرك» .

ومن المقرر عند الأصوليين أن الأمر بالشيء نهي عن ضده وعلى هذا فالأمر بمخالفة المشركين هو في الحقيقة نهي عن موافقتهم والتشبه بهم فيما يفعلونه من التصفيق وغيره من زيهم وأفعالهم السيئة. وكذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأن هدي المسلمين مخالف لهدي أهل الشرك يقتضي منع المسلمين من التصفيق وغيره من أفعال المشركين والله أعلم.

وقد روي أن التصفيق من أعمال قوم لوط فروى ابن عساكر في تاريخه عن الحسن مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة» فذكر الخصال ومنها التصفيق.

الوجه الثاني: أن التصفيق من خصائص النساء لتنبيه الإمام إذا نابه شيء في صلاته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إنما

ص: 214

التصفيق للنساء» رواه مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

وقد أتى صلى الله عليه وسلم في هذه الجملة الوجيزة بالحصر والاستغراق والاختصاص فدل على أنه لا مدخل فيه للرجال بحال. وعلى هذا فمن صفق من الرجال فقد تشبه بالنساء فيما هو من خصائصهن.

وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والبخاري وأهل السنن إلا النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وروى ابن ماجه في سننه بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن المرأة تتشبه بالرجال والرجل يتشبه بالنساء» ورواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بنحوه وصححه ابن حبان والحاكم والنووي وغيرهم وقال الحاكم على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي في تلخيصه.

وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال» في إسناده رجل مبهم وبقية رجاله ثقات وقد رواه الطبراني فأسقط الرجل المبهم قال الهيثمي: فعلى هذا رجال الطبراني كلهم ثقات.

قلت: ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق الإمام أحمد وقد أسقط الرجل المبهم ورجاله كلهم ثقات.

الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على الرجال لما صفقوا في

ص: 215

الصلاة لأنهم فعلوا فعلاً لا يجوز للرجال فعله ولا يليق بهم وإنما يليق بالنساء وقد قرن الإنكار ببيان العلة في ذلك فقال إنما التصفيق للنساء.

فهذه الجملة تفيد منع الرجال من التصفيق ألبتة وأنه ينبغي الإنكار على من صفق منهم.

الوجه الرابع: أن التصفيق لم يكن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من هدي أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ولم يكن من عمل التابعين وتابعيهم بإحسان وإنما حدث في المسلمين في أثناء القرن الرابع عشر من الهجرة النبوية لما كثرت مخالطة المسلمين للإفرنج وأعجب جهال المسلمين بسنن أعداء الله وأفعالهم الذميمة.

وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه ابن حبان والحاكم وقال: ليس له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي رواية للحاكم: «عليكم بما تعرفون من سنة نبيكم والخلفاء الراشدين المهديين وعضوا على نواجذكم بالحق» قال: الحاكم صحيح على شرطهما جميعًا ولا أعرف له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب أبلغ الخطب ويخطب البلغاء بحضرته وينشد فحول الشعراء عنده أفخم الشعر وأجزله ولم ينقل أن أحدًا من أصحابه صفق عند سماع خطبة ولا قصيدة.

ص: 216

وكذلك الخلفاء الراشدون بعده كانوا يخطبون أبلغ الخطب ويخطب عندهم البلغاء وتنشد عندهم الأشعار الجيدة ولم ينقل عنهم ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصفقون عند التعجب والاستحسان وإنما نقل عن كفار قريش أن بعضهم صفقوا تعجبًا لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسري به إلى بيت المقدس. فهؤلاء هم سلف المصفقين عند التعجب والاستحسان وسلفهم الآخر الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى. وكل امرئ يهفو إلى ما يناسبه. ومن تشبه بقوم فهو منهم.

ولهم أيضا سلف ثالث من شر السلف وهم قوم لوط فقد روى ابن عساكر في تاريخه عن الحسن البصري مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة» فذكر الخصال ومنها التصفيق.

وللمصفقين أيضا سلف رابع من شر السلف وهم جهال المتصوفة ومبتدعوهم.

قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: إذا طرب أهل التصوف لسماع الغناء صفقوا ثم ساق بإسناده إلى أبي علي الكاتب قال: أن ابن بنان يتواجد وكان أبو سعيد الخراز يصفق له.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: والتصفيق منكر يطرب ويخرج عن الاعتدال ويتنزه عن مثله العقلاء ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية وهي التي ذمهم الله عز وجل بها فقال: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} . فالمكاء الصفير والتصدية

ص: 217

التصفيق. قال وفيه أيضا تشبه بالنساء والعاقل يأنف من أن يخرج عن الوقار إلى أفعال الكفار والنسوة انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في «قواعد الأحكام» : وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث لا يفعلهما إلا أرعن أو متصنع كذاب كيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه؟ وقد قال عليه السلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك -إلى أن قال-: وقد حرم بعض العلماء التصفيق على الرجال بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما التصفيق للنساء» . ولعن عليه الصلاة والسلام المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء. ومن هاب الإله وأدرك شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق ولا يصدر التصفيق والرقص إلى من غبي جاهل ولا يصدران من عاقل فاضل.

ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء ولا معتبر من أتباع الأنبياء وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء وقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئًا من ذلك انتهى.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ في الشبابات والاجتماع على ذلك دينًا وطريقًا إلى الله تعالى وقربة فهذا ليس من دين الإسلام وليس مما شرعه لهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد

ص: 218

رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه ولا تابعيهم بإحسان ولا تابعي التابعين انتهى.

والغرض منه قوله: إنه لم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك يعني التصفيق وما ذكر معه لا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أصحابه ولا تابعيهم بإحسان ولا تابعي التابعين.

وقال الشيخ أيضا في موضع آخر: وأما الرجال على عهده -يعني عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ولا يصفق بكف بل قد ثبت عنه في الصحيح أن قال: «إنما التصفيق للنساء» . ولعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء.

ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك مخنثًا انتهى.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في «كتاب الإغاثة» : والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح لئلا يتشبهوا بالنساء فكيف إذا فعلوه لا لحاجة وقرنوا به أنواعًا من المعاصي قولاً وفعلاً؟ انتهى.

وقال الحليمي يكره التصفيق للرجال فإنه مما يختص به النساء وقد منعوا من التشبه بهن كما منعوا من لبس المزعفر لذلك انتهى قال الأذرعي: وهو يشعر بتحريمه على الرجال.

قلت: يعني أن مراد الحليمي بالكراهة: كراهة التحريم لأن التشبه بالنساء حرام على الرجال والمتشبه بهن ملعون واللعن لا يكون إلا على

ص: 219

كبيرة من الكبائر وفيما قاله هؤلاء كفاية في بيان قبح التصفيق من الرجال وذم من يتعاطى ذلك منهم.

فصل

النوع السادس والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله بعض السفهاء من الصفير على أوزان الغناء. وهذا الصفير من المكاء الذي ذم الله به كفار قريش فقال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} . والصفير على أوزان الغناء من أفعال الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى وعنهم أخذ السفهاء هذا الفعل الذميم.

وقد روي أن الصفير من أعمال قوم لوط فروى ابن عساكر في تاريخه عن الحسن البصري مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة» فذكر الخصال ومنها الصفير. إذا علم هذا فالصفير منكر من وجهين:

أحدهما: ما فيه من التشبه بقوم لوط وكفار قريش وبالإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى والتشبه بكل من هؤلاء حرام.

والثاني: ما فيه من أوزان الغناء وإيقاعاته وهو من هذا الوجه لهو وغناء وكلاهما باطل محرم.

فصل

النوع السابع والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله كثير من الجهال من تكتيف اليدين على الدبر. وهذا الفعل السخيف من

ص: 220

أفعال الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى كما حدثنا بذلك من خالطهم كثيرًا ورأى ذلك منهم. وقد تلقى ذلك عنهم كثير من سفهاء المسلمين.

وقد تقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» وتقدم أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى» .

وفي هذين الحديثين دليل على المنع من تكتيف اليدين على الدبر لما في ذلك من التشبه بأعداء الله تعالى.

وقد روى أبو داود في سننه بإسناد جيد عن الشريد بن سويد رضي الله عنه قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على إلية يدي فقال: «أتقعد قعدة المغضوب عليهم» صححه النووي ورواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفيه دليل على أنه لا يجوز للمسلم أن يتشبه بأعداء الله تعالى لا في فعل ولا في هيئة ففيه دليل على المنع من تكتيف اليدين على الدبر.

ولو فرضنا عدم الدليل على المنع من هذا التكتف الذميم لكان العقل يقتضي المنع منه لأمرين:

أحدهما ما فيه من التشبه بالأسارى المستذلين المقهورين والعاقل لا يرضى لنفسه أن يكون مثلهم وقد ورد النهي عن التشبه بالذين يعذبون فقال أبو داود في سننه:

ص: 221

حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي -ح- وحدثنا محمد بن سلمة حدثنا ابن وهب وهذا لفظه جميعا عن هشام بن سعد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة وقال هارون بن زيد ساقط على شقه الأيسر ثم اتفقا فقال: لا تجلس هكذا فإن هكذا يجلس الذين يعذبون. إسناد الأول حسن والثاني صحيح على شرط مسلم.

وقد رواه الإمام أحمد في مسنده مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير حدثنا هشام يعني ابن سعد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا ساقطًا يده في الصلاة فقال: «لا تجلس هكذا إنما هذه جلسة الذين يعذبون» إسناده صحيح على شرط مسلم وفيه دليل على المنع من تكتيف اليدين على الدبر لما فيه من التشبه بالأسارى المكتوفين. والتكتيف نوع من التعذيب.

الأمر الثاني: أنه فعل مستقبح عند ذوي المرواءات والشيم. وكيف لا يكون قبيحًا بالرجل أن يضع يديه على دبره ثم يمشي بين الناس وهو على ذلك الوضع المستهجن المزري بالصبيان الصغار فضلا عن الرجال الكبار؟

فينبغي للعاقل أن يسمو إلى معالي الأمور التي تجمله وتزينه ويبعد عن سفاسف الأمور التي تدنسه وتشينه والله الموفق.

وقد زعم بعض المفتونين بتكتيف اليدين على الدبر أن في ذلك فائدة طبية والظاهر أن

هذا غير صحيح وإنما هو من المغالطات والحجج الجدلية ولو قدر صحة ما زعمه لم يكن ذلك مبيحًا للتشبه بأعداء الله

ص: 222

تعالى. وليس كل ما فيه فائدة طبية يكون جائزُا من أجل تلك الفائدة. بل ينظر في الشيء فإن كان مباحًا جاز التداوي به وإن كان محرما حرم التداوي به وإن كان مكروهًا كره التداوي به والأمثلة على ذلك كثيرة وليس هذا موضع ذكرها.

ونقتصر ههنا على مثال واحد وهو أن العاشق لغير زوجته أو أمته التي يجوز له وطؤها قد يحصل له من الضرر ما يئول به إلى الهلاك.

ومن المعلوم أن دواءه وفائدته الطبية في الإلمام بمعشوقه لا غير فهل يقال إنه يجوز له الإلمام بالمرأة المحرمة عليه أو بالصبي من أجل ما له في ذلك من الفائدة الطبية. كلا لا يقول هذا أحد من المسلمين.

وكذلك لا يظن بأحد من أئمة المسلمين أن يقول بجواز التشبه بأعداء الله تعالى من أجل فائدة طبية تحصل من ذلك التشبه.

وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تداووا ولا تداووا بحرام» .

وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري أخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور وسنده صحيح على شرط الشيخين.

وروى الحافظ أبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» .

ففي هذه الأحاديث دليل على أنه لا يجوز التداوي بشيء محرم

ص: 223

وظاهرها يشمل الأعيان المحرمة والأفعال المحرمة. ومن الأفعال المحرمة الغناء والضرب على آلات الملاهي والاستماع إليها.

وقد نص العلماء على تحريم التداوي بصوت ملهاة واستدلوا على ذلك بعموم حديث «لا تداووا بحرام» .وإذا كان التداوي بصوت الملهاة محرما فالتداوي بما فيه تشبه بأعداء الله تعالى كذلك بل هو أولى بالتحريم لما يقتضيه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» .

فصل

النوع الثامن والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى اللعب بالكرة على الوجه المعمول به عند السفهاء في هذه الأزمان وذلك لأن اللعب بها على الوجه مأخوذ عن الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى.

وقد رأيت عمل الأمريكان في أخشاب الكرة ومواضع اللعب بها ورأيت عمل سفهاء المسلمين في ذلك فرأيته مطابقا لعمل الأمريكان أتم المطابقة.

وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» .

وتقدم أيضًا حديث عبد الله بن عمرو رضي عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا» .

إذا علم هذا فاللعب بالكرة على الوجه الذي أشرنا إليه من جملة المنكر الذي ينبغي تغييره. وبيان ذلك من وجوه:

ص: 224