المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الآنية باب الآنية، الباب هو الفتحة في الحائل بين الشيئين - شرح زاد المستقنع - الشنقيطي - الطهارة ط الإفتاء

[محمد بن محمد المختار الشنقيطي]

الفصل: ‌ ‌باب الآنية باب الآنية، الباب هو الفتحة في الحائل بين الشيئين

‌باب الآنية

باب الآنية، الباب هو الفتحة في الحائل بين الشيئين يُتوصّل بها من خارج إلى داخل، وعكسه قالوا: سُمِّيت مباحث العلم أبواباً؛ لأن الإنسان يتوصل من خارج، وهو الجهل بها إلى داخل، وهو العلم بما فيها، فمن قرأ شيئاً من هذه الأبواب فقد أدرك العلم الذي فيها كمن دخل البيت أدرك الخير الذي فيه وإرتفق بمنافعه.

[باب الآنية]: واحدها إناء، وَجَمَعَها -رحمة الله عليه-؛ لأن الأواني منها ما أباحه الشرع كآنية الخشب، والحديد، والصُّفرُ الطّاهرة، ونحوها، ومنها ما حرّمه الله كآنية الذهب، والفضة، والمتخذة من جلود السباع، ونحوها، فنظراً لتعددها جمعها بقوله رحمه الله:(الآنية)، أما مناسبة هذا الباب للطهارة فكما هو معلوم أن الطهارة تحتاج إلى ماء يتطهر به، وصفة تتم بها أما الماء الذي يتطهر به الإنسان فإنه يحتاج إلى وعاء يحمله، فإنه قد يكون الماء كما تقدم معنا في الباب الماضي ماء طهوراً، ولكن الإناء نجس، فهل يجوز أن يتوضأ الإنسان منه؟ وقد يكون الماء طهوراً، ولكنه في إناء محرم كالإناء من الذهب، أو الفضة، فهل يجوز أن يتطهر به؟ وما حكم طهارته؟

فإذاً لا بد من الكلام على أحكام الآنية لأنها أوعية الماء الذي يُتَطّهر به؛ فقال رحمة الله عليه: [باب الآنية].

ص: 61

قوله رحمه الله: [كل إناءٍ طاهرٍ، ولوْ ثميناً يباحُ إتّخاذُه، واستعمالُه]:

هذه الجملة كالقاعدة، فلو سألك سائل: ما هو الأصل في الأواني؟

تقول: الأصل أنها جائزة، ومباحة إذا كانت طاهرة، ولو كانت ثمينة فلو كان الإناء من الألماس، أو الجواهر، أو غيرها من المعادن الثمينة، والنفيسة فإنه يباح إتخاذه، وإستعماله، فلو أنّ إنساناً شرب في كأس من معدن ثمين كالجواهر، أو غيرها فإنه يباح له ذلك، فالأصل حِلُّ جميع ذلك " لأن الله تعالى قال في كتابه:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْه} (1) فدلت الآية الكريمة على أن الأصل حلُّ جميع ما سُخِّر لبني آدم حتى يدل الدَّليل على التحريم، ومن ذلك المعادن إذا اتخذت منها الأواني حلّ الإنتفاع بها ما لم ينصَّ الشرع على تحريم شيء منها كالذهب، والفضة، فإذاً الأصل في الإناء أنه يباح لك استعماله، واتخاذه، والاتخاذ يكون في البيت يجعله الإنسان لحفظ الأشياء فيه، أو يستعمله في مصالحه كأواني الأكل، والشرب، والطبخ، والنظافة، والصناعة، فالأصل فيها الحلُّ، ولو كانت ثمينة غالية القيمة، فلا حرج على المسلم في إستعمالها حتى ولو تطهر منها بالوضوء، والإغتسال، والإستنجاء.

قال رحمه الله: [إلا آنية ذهب، وفضة، ومضببٍ بهما] آنية الذهب، والفضة لا يجوز للمسلم أن يستعملها، فالإستثناء بقوله (إلا آنية ذهب، وفضة) المقصود به الإستثناء من الحلِّ الذي نصَّ عليه في قوله قبل ذلك:

(1) الجاثية، آية:13.

ص: 62

(يباحُ إِتّخاذُه، واستعمالُه) فيكون المعنى: إلا آنية ذهب، وفضة؛ فلا يباح إتخاذها، واستعمالها، ويستوي في التحريم أن يكون إستعمالها في الطهارة، أو غيرها، فلا يجوز التوضؤُ منها، وهكذا الاغتسال، والاستنجاء، وسواء كانت من الآنية القديمة، أو غيرها، فيحرم التّطهر من صنابير الذهب، والفضة، وكذلك الإغتسال منها، أو الإستحمام في المسابح، والأحواض المطليّة بهما، فجميع ذلك محرّم، والأصل في تحريمه ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث حذيفة إبن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تَشْربُوا في آنيةِ الذّهبِ، والفضِّةِ ولا تأكُلوا في صِحَافِهما فِإنها لهم في الدُّنيا، ولكُمْ في الآخِرةِ] فنهى عليه الصلاة والسلام عن الأكل والشرب، وهما في مقام الحاجة الضرورية؛ فنبّه بذلك على تحريم إتخاذها من باب أولى، وأحرى، لأن استعمالها في الطهارة ليس بضروري، فإذا حرم استعمالها في الضروري المحتاج إليه فمن باب أولى وأحرى أن يحرم إستعمالها فيما هو دون ذلك كالوضوء، والغسل، والإستنجاء، والشرع ينبّه بالأعلى على ما هو أدنى منه، وإذا حَرُم استعمالها في الضَّروريات، والحاجيات من الأكل، والشرب، والإغتسال، والطهارة فمن باب أولى أن يحرم في التحسينيات مثل: أن يتخذها للزينة.

وتحريم الأكل، والشرب في آنية الذهب، والفضة بلغ أعلى درجات التحريم، لورود الوعيد الشديد فيه كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الذي يشربُ في آنيةِ الفضّةِ إِنما يُجَرجِرُ في بطنِه نارَ

ص: 63

جهنّمَ]، ومن هنا نصّ بعض العلماء رحمهم الله على إعتباره من كبائر الذنوب. وقوله رحمه الله:[ومضبّبٍ بهما] أي: أن التحريم لا يختصُّ بالإناء الخالص من الذهب، والفضّة، بل يشمل جميع الأواني التي فيها ذهب، أو فضة، سواء كانت خالصة من أحدهما، أو كانت مطليَّة به، وسواء كانت نسبة الذهب، والفضة هي الأكثر، أو كانت الأقل، وسواء كانت مضبَّبة، أو مموّهة، أو طُلي بها خارجها، أو داخلها، أو أطرافها؛ فجميع ذلك محرّم؛ لعموم الحديث.

وسيأتي أن الضبّةَ اليسيرة مستثناة بشروطها، لورود الدليل الشرعي باستثنائها، وعليه فإنه يحرم إستعمال الأواني على إختلافها إذا كانت فيها أي نسبة من الذهب، أو الفضة فلا يجوز للمسلم مثلاً أن يشرب في كأس ذهب، أو فضة، ولا يجوز له أن يأكل بملعقة ذهب، أو فضة، ولو كان أنثى، فإن الأنثى يباح لها الذهب، والفضة من الحلى، دون الإتخاذ، والإرتفاق بهما في مأكل، أو مشرب؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه.

قوله رحمه الله: [فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها، ولو على أنثى]: قوله: [ولو على أنثى]: أي ولو كان الذي يشرب من الإناء ويستعمله من الإناث، فإن التحريم للأكل، والشرب عامٌّ لقوله عليه الصلاة والسلام:

[فإِنها لهمْ في الدُّنيا -أي للكفار- ولكمْ في الآخرة -أي للمسلمين-] قال بعض العلماء: لا يُؤمنُ على من أكل، وشرب فيهما، وإنتفع بالذهب، والفضة بالأكل، والشرب في صحافهما، وآنيتهما في الدنيا أن يَحْرِمَهُ

ص: 64

الله -جل وعلا- منهما في الآخرة كما حُرم شارب الخمر -والعياذ بالله- خَمر الآخرة بإدمانه عليها في الدنيا -نسأل الله السلامة والعافية-.

وقوله رحمه الله: [ولوْ على أنثى]" لو " فيها إشارة إلى خلاف مذهبي -أي في مذهب الحنابلة- فتعبيره بهذه الصيغة قصد أن يشير به إلى أن هناك من جوّز للمرأة دون الرجل إتخاذ الأواني، واستعمالها إذا كانت من الذهب، أو الفضة، وهو قول ضعيف، والصحيح مذهب الجماهير أن التحريم عام شامل للذكور، والإناث.

وقد دل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: [فإنَّها لهمْ في الدُّنيا، ولكمْ في الآخرةِ] فهذه الجملة تعليلية؛ كما نصّ عليه شراح الحديث، وهي تدل على أن تحريم هذه الأواني عام شامل للجنسين، دون تفريق بينهما.

قوله رحمه الله: [وتصح الطّهارةُ مِنْه] أي تصح الطهارة من الإناء إذا كان من ذهب، أو فضة، ويحكم بارتفاع الحدث، وزوال الخبث إذا تطهر منه.

وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أن من توضأ، أو إغتسل من إناء ذهب، أو فضة حُكِمَ بصحة وضوئه، وأن التّحريم للإناء لا يستلزم بطلان عبادة الوضوء، والغسل؛ لأن الجهة منفكّة بين المشروع، والممنوع، فإذا تطهر منها حكمنا بكونه طاهراً؛ لأنه صبَّ الماء على الأعضاء، وأجراه عليها بالصورة الشرعية المعتبرة، فحكمنا بكونه متطهّراً لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح:[ثُمّ تُفيضينَ الماءَ على جَسدِك؛ فإذا أنتِ قَدْ طَهُرتِ] وهذا قد أفاض الماء على جسده؛ فنحكم بكونه طاهراً، وهكذا إذا توضأ حكمنا بكونه متوضئاً؛ لوجود الفعل بصورته الشرعية المعتبرة،

ص: 65

وكون الإناء محرماً لا تأثير له في الطهارة نفسها، ففي الصحيح من حديث أبي هُريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:[لا يَقْبل الله صلاةَ أحدِكم إِذا أحدث حتى يتوضأ] فدل على أن من توضأ بصب الماء على أعضاء الوضوء بالصورة الشرعية أنه إرتفع حدثه، وهو هنا كذلك، فالجمهور رحمهم الله على أن طهارته صحيحة للنُّصوص الدّالة على صحتها، وهو آثم باستعمال آنية الذهب، والفضة؛ لمخالفته النهي المتضمن لتحريم استعمالها، وإتخاذها، فانفكّت الجهة بينهما، حيث لم يرجع النهي إلى ذات المنهي عنه، بل لشيء خارج عن ذاته، وهو الإناء، والوعاء، أما الماء المستعمل في الطهارة فهو باقٍ على الأصل الموجب لاعتبار التّطهر به صحيحاً.

وذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى عدم صحة الطهارة، وهو قولٌ في مذهب الحنابلة ورجّحه طائفة منهم، ورأوا أن النَّهي يقتضي فساد المنهيِّ عنه، فيُحكم بفساد الطهارة من آنية الذهب، والفضة.

والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو مذهب الجمهور لصحة ما ذكروه من دلالة الأدلة على اعتبار الطهارة، وصحتها، وإثمه بالمخالفة للنهي، وأن الجهة منفكة حيث لم يرجع النهي إلى ذات العبادة، وهي الغسل، والوضوء. والله أعلم.

قوله رحمه الله: [إلا ضبّةً يسيرةً] إلا أداة استثناء، والإستثناء: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فيكون المعنى أن الضَّبة اليسيرة من الفضة للحاجة جائزة.

ص: 66

وتضْبِيبُ الإناء يكون على طرفه كضبَّة الباب.

وإستثناء هذه المسألة من التحريم مبني على ما ورد عن أنس رضي الله عنه في إناء النبي صلى الله عليه وسلم: [لما إنكسرَ إتّخذ مكانَ الشّعبِ سِلسلةً من فضّةٍ].

وقد ذكر المصنف رحمه الله: ثلاثة شروط للحكم بالرخصة وهي:

الشرط الأول: أن توجد الحاجة.

والشرط الثاني: أن تكون الضبّة من الفضّة.

والشرط الثالث: أن تكون يسيرة.

وهناك شرط رابع مختص بالإستعمال وهو: أن لا يباشر بالشرب من الضبّة، ونصّ المصنف على كراهته، والصحيح التحريم إعمالاً للأصل.

فأما إشتراط وجود الحاجة فلأنها رخصة، والحاجة موجبة لها فتستثنى من التحريم، ومفهوم هذا الشرط أنه إذا إنكسر الإناء، وأمكن إصلاح كسره بمادة غير الفضة لم يرخص له باستعمال الفضة؛ لأنه غير محتاج، وهكذا إذا كان الإناء سليماً، وأراد أن يضع الفضّة على طرفه لم يجز لعدم وجود الحاجة، فبقى على الأصل الموجب للتحريم، وأما إشتراط كونها من فضة فلأن الدليل المرخّص ورد بها، فلا يجوز الذهب؛ لعدم ورود ما يستثنيه، فبقى على الأصل الموجب للتحريم، وأما إشتراط اليسير؛ فمفهومه أنه إذا كانت كثيرة لم تجز؛ إعمالاً للأصل، وقد تقدم أن الفرق بين اليسير والكثير هو أن لا يتفاحش في النفس، فما كان غير متفاحش فهو يسير، وما

ص: 67

تفاحش فهو كثير هذا على ما درج عليه المصنف رحمه الله، وغيره من فقهاء الحنابلة كما تقدم معنا في مسألة يسير الدم.

قوله رحمه الله: [وتُكرَه مباشرتُها لغير حاجة]: وتكره مباشرتها: أي مباشرة الضبّة لغير حاجة، فإن وجدت الحاجة كما يقولون: مثل أن يكون الموضع الذي إنكسر هو موضع الشرب قالوا: فحينئذٍ لا يستطيع أن يشرب إلا من هذا الموضع الذي فيه الفضة فيجوز له أن يشرب، وهذا لا إشكال فيه أعني في حال وجود الحاجة، أما قوله [تُكْره] في حال غير وجود الحاجة فقد قدمنا أن الصحيح أنه محرّم؛ لأن الأصل هو التحريم، والرخصة لا يُتجَاوز بِها محالُّها، فمحلّ الرخصة هنا إصلاح الإناء، ومباشرة الشرب من الموضع الذي فيه الضَّبة من دون حاجة ترفّه غير داخل في الرخصة؛ فبقى على الأصل الموجب لتحريمه، لا للكراهة فقط.

قوله رحمه الله: [وتباح آنية الكفار]: بعد أن بين لنا -رحمه الله تعالى- أحكام أواني المسلمين، وبيّن أن الأواني كلها جائزة إلا آنية الذهب، والفضة، وأن كل وعاء يجوز أن تنتفع به إلا إذا كان من الذهب، أو الفضة.

فإنه يرد السؤال عن حكم أواني الكفار، والكفار على قسمين:

القسم الأول: كفار من أهل الكتاب، وهم الذين لهم في الأصل دين سماوي، وهم اليهود والنصارى.

والقسم الثاني: كفار على غير دين سماوي كالوثنيين، والمشركين، والملحدين، ونحوهم.

ص: 68

فَيرِدُ السؤال: لو أن إنساناً سألك يوماً من الأيام وقال لك وجدتُ إناءً ليهودي هل يجوز لي أن أتوضأ به، أو اغتسل منه، أو أكل، أو أشرب فيه؟ هذا سؤال وارد، ولذلك بينت الشريعة حكم آنية الكفار في أكثر من حديث، وقد إختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة.

وتوضيحها أن أواني الكفار لها حالتان:

الحالة الأولى: أن تكون جديدة غير مستعملة كالأواني التي تأتي منهم جديدة مصنّعة من مواد طاهرة كالحديد، والنحاس، والصفر، والخشب، ونحوه فهذه طاهرة، ويجوز الانتفاع بها بلا إشكال، لأن اليقين طهارتها، وليس هناك دليل على النجاسة؛ فنبقي على الأصل الموجب لطهارتها، وإباحة إستعمالها.

الحالة الثانية: أن تكون أواني الكفار مستعملة، فإن كانت مستعملة فإن رأيت استعمالهم للنجاسة فيها مثل: أن ترى الإناء، وفيه النجاسة فبالإجماع أنه نجس، ولا يجوز استعماله حتى يُغْسَل، فلو أن كأساً صُبَّ فيها خمر؛ فإنه لا يجوز استعمالها، إلا بعد غسلها، وتنظيفها، وهكذا الوعاء إذا طُبخَ فيه خنزير، أو وُضع فيه؛ فإنه نجس، ويغسل ليُطهّر.

وأما إذا كانت هذه الأواني مغسّلة عندهم، ولم يجد الإنسان غيرها، وكانوا قد أكلوا فيها، أو شربوا فهذا للعلماء فيه وجهان: منهم من قال: لا تستعمل إلا أن يضطرّ إليها، لما ثبت في الصحيح من حديث أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه، قال: -يا رسول الله- إني بأرض قومٍ أهلِ كتابٍ أفنأكلُ في آنيتهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [لا إِلا أنْ لا تَجدُوا غيرَها؛

ص: 69

فاغسِلُوها، ثم كُلوا فيها]، فدلّ هذا الحديث على أن آنية الكفار التي يستعملونها لا يؤكل فيها، وقد عارض هذا الحديث حديثٌ ثانٍ، وهو أكل النبي صلى الله عليه وسلم من آنية الكفار، ففي حديث أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم إستضافه يهودي على خُبزٍ، وإهالةٍ سَنخةٍ فأكل النبي صلى الله عليه وسلم منها.

وكذلك -أيضاً- ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أن إمرأةً يهودية دعته إلى شاةٍ، ووضعت السمَّ فيها، فأكل منها عليه الصلاة والسلام، فدل هذا على أن آنية الكفار يؤكل فيها، قالوا: أما الشرب، والوضوء ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما لقي المرأة المشركة التي معها المَزادةُ توضّأ هو، وأصحابه منها. قالوا: فهذا يدل على أن أواني الكفار يؤكل فيها، ويشرب منها ما لم تُعْلم نجاستها.

ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث بأن يقال: إن كانت آنيتهم على حالة يغلب على الظن طهارتها جاز إستعمالها، وإعمال الأصل، والظاهر الموجب للحكم بالسلامة، وهذا مثل حاله عليه الصلاة والسلام في وضوئه من مزادة المشركة، لأن المزادة لا يمكن بحال أن يوضع فيها ماء الشرب إلا إذا كانت طاهرة سالمة من الدنس، والنجاسة.

ومثله أكله من طعام اليهودي، واليهودية لأن الآنية لا يوضع فيها الطعام للضَّيف إلا بعد غسلها وتنظيفها، بل قد تجد الإنسان يحتاط للضَّيف أكثر مما يحتاط لنفسه، فظاهر حالها أنها طاهرة، ثم إن الشاة، والخبز، والطعام الذي جُعل فيها طاهر.

ص: 70

وأما حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه فالسؤال فيه جاء عن إستعمال آنيتهم التي يستعملونها، وأهل الكتاب يشربون الخمور، ويأكلون الخنزير، فاجتمع الحرام في المأكول، والمشروب، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمل آنيتهم، واستثنى حالة وجود الحاجة فأجاز له إستعمالها على وجه يضمن معه سلامة الإناء من المحرّم النجس، والفرق بين الحالتين ظاهر، فجاز في الأول الأكل، والشرب لغلبة السلامة، والطهارة، وحُرّما في الثاني لغلبة النجاسة. والله أعلم.

وبناء على ما تقدم فهناك ثلاث حالات لأواني أهل الكتاب:

الأولى: أن تكون جديدة من مواد طاهرة، أو ظاهرها السلامة كما في حديث مزادة المشركة، فلا إشكال في طهارتها، وجواز إستعمالها إعمالاً للأصل الشرعي، وأما إذا كانت مصنوعة من مواد نجسة مثل: أن تصنع من جلود الحيوانات التي هي محرمة الأكل فمثلها لا تطهر بالدباغة، فلا إشكال في تحريمها جديدة كانت، أو قديمة.

الثانية: أن تكون متنجسة مثل: أن يضعوا فيها نجاسة من مأكول كالخنزير، أو مشروب كالخمر، فلا إشكال في نجاستها، فيجب غسلها، وتطهيرها، ولا يجوز إستعمالها إلا أن لا يجد غيرها لحديث أبي ثعلبة رضي الله عنه.

الثالثة: أن لا نعلم بنجاسة فيها، أو طهارة، وتكون من مواد مباحة طاهرة: فلا يجوز إستعمالها؛ إلا أن لا يجد غيرها، فيغسلها، ثم يأكل فيها لعموم حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه.

ص: 71

قوله رحمه الله: [وتُباحُ آنيةُ الكفارِ، ولوْ لَم تَحلّ ذبائحُهم]: أي يباح لك إِستعمال أوانيهم، ولو لم تحل ذبائحهم؛ لأن بعض العلماء يقول يباح آنية أهل الكتاب الذين تحلُّ ذبائحهم، وأما غيرهم ممن لا تحل ذبائحهم فلا تباح آنيتهم، فبيّن رحمه الله أن الإباحة لأواني الكفار عامة، سواء كانوا ممن تحلّ ذبائحهم، أو من غيرهم.

قوله رحمه الله: [وثيابهم إِنْ جُهِلَ حَالُها]: ثياب الكفار لها ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن تكون جديدة لم تُلبس كأن تأتي من بلاد الكفار جديدة لم تُستعمل؛ كالثياب المصنّعة في بلاد الكفار من مواد طاهرة، وبطريقة لا شبهة فيها؛ فحكمها الطهارة يقيناً؛ فأيُّ ثوب جديد، ولو جاء من ديار الشرك، والكفر تقول: اليقين أنه طاهر، والعبرة بطهارته حتى أرى النجاسة فيه، أو عليه، ودليل هذه الحالة حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح:[أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ في ثلاثةِ أثوابٍ بيضٍ سَحُوليةٍ] وسحول: موضع باليمن تصنع فيه هذه الثياب، وكانت اليمن أرض أهل الكتاب حتى آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما يشهد لذلك حديث معاذ رضي الله عنه لما بعثه عليه الصلاة والسلام إليها في آخر سنةٍ من حياته فقال له:[إِنك تأتي قوماً أَهلَ كتاب]، فدل هذا على جواز لبس الثياب المصنّعة في بلاد الكفر من مواد طاهرة، ومثله لبسه عليه الصلاة والسلام للبُرُد النَّجْرانِيّةِ.

ص: 72

الحالة الثانية: أن تُرى على ثوب الكافر النجاسة فحكمه: أنه نجس، وذلك مثل: ثوبه إذا أصابه بول، فإنه متنجس، فيلزم تطهيره إذا أراد لبسه، والصلاة فيه.

الحالة الثالثة: وهي التي فيها الإشكال: إذا كان ثوباً يستعمله الكافر، ولم تُرَ نجاسة عليه، فهل هو نجس، أو طاهر؟

قال بعض العلماء: ثياب الكفار أُعمِلُ فيها اليقين، فاليقين أنها طاهرة حتى أرى النجاسة عليها، هذا مذهب من يتسامح فيها، بناء على الأصل من طهارتها.

المذهب الثاني يقول: ثياب الكفار الظاهر نجاستها.

والمذهب الثالث التفصيل: فإن كان ممن يتوقى النجاسات كأهل الكتاب حكم بطهارتها، وإن كان ممن لا يتوقون النجاسة كالمشركين حكم بالنجاسة، ثم يتأكّد هذا في الثياب التي تلي العورة؛ كالسروال، والإزار، ونحوهما، بخلاف ما إذا كان مما لا يلي العورة كالعمامة، والطاقية، ونحوها وهذا هو الأرجح في نظري لأنه مبني على مراعاة الأصل الموجب للحكم بالطهارة، واستثناء الغالب الذي يُقوِّي دليلُ الظّاهرِ الحُكمَ بالنجاسة فيه، وهي الثياب التي تلي موضع النجاسة.

قوله رحمه الله: [ولا يَطْهُرُ جِلدُ ميْتَة بدِبَاغٍ] معناه: أن جلد الميتة لا يطهر إذا دبغ، فهو نجس في كلتا الحالتين دُبغَ، أو لم يُدبَغ، وهذه المسألة فيها قولان مشهوران:

ص: 73

القول الأول: أنه إذا دُبِغَ حُكِمَ بطهارته، وهو مذهب الجمهور من حيث الجملة، واستدلوا بما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه مرّ على شاة ميتة فقال:[هلا إنتَفَعتُمْ بِإهَابِها؟] فقالوا: يا رسول الله إنّها ميتة، فقال عليه الصلاة والسلام:[إذا دُبِغ الإهابُ فَقدْ طَهُر] فقد نصَّ عليه الصلاة والسلام على أن جلد الميتة يطهر بالدبغ، وهو ما أكّده بقوله في الحديث الحسن:[دِباغُ الأَدِيمِ ذَكاتُه] فكما أن الذكاة تعمل في طهارة لحم الحيوان المباح الأكل، كذلك الدِّباغ يعمل في طهارة الجلد في الميتة المحرمة الأكل.

القول الثاني: لا يطهر جلد الميتة بالدبغ، وهو مذهب الحنابلة، واستدلوا بحديث عبد الله بن عُكَيْمٍ عن أشياخ من جُهينَة أنهم أتاهم كتابُ النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهرٍ، أو شهرين:[أَلا تَنْتَفعوا من الميتةِ بإهابٍ، ولا عَصَبٍ]، فقالوا: إن هذا الحديث ناسخٌ، لكونه متأخراً في آخر حياته عليه الصلاة، والسلام.

والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بطهارة جلد الميتة بالدبغ، وذلك لما يلي:

أولاً: لصحة دلالة السنة الصحيحة على ذلك كما تقدم بيانه.

ثانياً: وأما الاستدلال بحديث عبد الله بن عُكيمٍ فيجاب عنه من وجهين:

الوجه الأول: ضعف إسناده، فقد ضعّفه غير واحد من الأئمة رحمهم الله، وعن الإمام أحمد رحمه الله أنه رجع عن هذا الحديث في آخر حياته، كما نقل الترمذي ذلك عنه، وبيّنا في شرح البلوغ الكلام على سنده.

ص: 74

الوجه الثاني: لو سُلّم تحسينه، فإنه لا يقوى على معارضة ما هو أصح منه؛ لأن الحديث الحسن لا يعارض الصحيح.

ثم إن دعوى النسخ للتحريم محتملة، لأننا لا ندري أيهما سبق، وخلال الشهر، والشهرين قد يطرأ التشريع، خاصة وأن حديث الجمهور يفهم منه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون تحريم الانتفاع، ثم نصّ عليه الصلاة والسلام على حلِّه، وحينئذ يكون دعوى نسخ التحريم أقوى من دعواهم لنسخ الحلِّ.

وعل كلٍ فليس هناك ما يدل على النسخ صراحة، وكونه قبل الوفاة بشهر، أو شهرين لا يستلزم النسخ مع ما في الحديث من ضعف الإسناد.

فالمصنف رحمه الله مشى على المذهب المرجوح، وهو: أنه لا يطهر جلد الميتة بالدبغ.

قال رحمه الله: [ويباحُ استعمالُه بعدَ الدَّبغ في يابسٍ من حيوانٍ طاهرٍ في الحياة]: هذا على القول بنجاسته، فإننا إذا حكمنا بنجاسته على القول المرجوح؛ فإنه يجوز الإنتفاع به في اليابسات، دون المائعات عندهم؛ لأن المائعات لو وضعت في جلد الميتة ما الذي يحدث لها؟

الجواب: تتنجس، وأما على القول الراجح فإنه يجوز الإنتفاع بجلد الميتة المدبوغ في اليابس، والمائع؛ لأنه طاهر.

قوله رحمه الله: [ولبنها، وكلُّ أجزاءِها نجسة]: ولبنها نجس؛ لأن الله عز وجل حرم الميتة، ولم يفرق بين لبنها، ولا غيره، وهناك قول ببقائه على أصل الطهارة ما لم يحدث فيه تغيير في صفاته.

ص: 75

وقوله: [وكلُّ أجزائها] أي التي تحلها الحياة، كاليد، والرجل، والرأس، فكلّها نجسة، ولا يجوز الإنتفاع بها لعموم التحريم.

قوله رحمه الله: [غَير شَعرٍ، ونحوه]: شعر الميتة للعلماء فيه وجهان مشهوران: فجماهير العلماء على أن شعر الميتة يعتبر مما لا تحله الحياة بمعنى أنه يجوز لك أن تنتفع بشعر الميتة؛ لأنه في حياتها يُجزُّ منها، ولا يحكم بنجاسته بالإجماع كما قال تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} (1) فدل دليل القرآن على طهارة الصوف، والوبر، وما يُستخلص من شعور بهيمة الأنعام، وأنتم تعلمون أن شعور بهيمة الأنعام تؤخذ منها بالحلاقة في حال حياتها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:[ما أُبِينَ مِنْ حي؛ فهو كَميْتَتِه] فلو كانت الشعور تحلُّها الحياة لحكم بنجاسة الشعر، وعدم جواز الانتفاع به، فلما إمتنّ سبحانه بالصوف، والوبر، وأحلّه لعباده دل ذلك على أن شعر الميتة إذا جُزَّ منها؛ فإنه طاهر يجوز الانتفاع به.

قوله رحمه الله: [وما أُبِينَ مِنْ حي فهو كَميْتَتِهِ]: معناه: أن ما قُطع من الحيوان في حال حياته أخذ حكم ميتته، فإذا كانت ميتته نجسة محرّمة، كان ذلك الجزء المقطوع نجساً محرّماً، والعكس بالعكس، فلو كانت ميتته محكوماً بطهارتها، وحلّها، فإنه إذا قُطع منه جزء، وهو حيٌّ كان ذلك الجزء طاهراً مباحاً، كالسمك، فلو أن إنساناً قطع ذنب سمكة، وهي حية وفرّت فهل يجوز له أن يأكل هذا الذنب؟

(1) النحل، آية:80.

ص: 76

الجواب: نعم؛ لأن ميتة السمك نفسها يجوز أكلها لقوله عليه الصلاة والسلام: [هو الطَهُورُ ماؤُه الحلُّ مَيْتَتُهُ] فيجوز له أن ينتفع بجزء السمك؛ لكن لو أن إنساناً قطع رجل شاة، وهي حيّة فما حكم هذه الرِجْل؟ الجواب: أنها تأخذ حكم ميتتها، فهي تكون كميتة الشاة، وميتة الشاة نجسة، ومحرّمة الأكل، كذلك رجْلُها إذا قطعت في حال حياتها فإنها يحكم بنجاستها، إلا أنه في المسألة الأولى لا نحكم بجواز قطع ذيل السمكة، وجزئها لأنه تعذيبٌ، ومُثْلةٌ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، وعن المُثْلَةِ كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز له فعل ذلك إختياراً لكن لو حصل إضطراراً جاز، والله تعالى أعلى وأعلم.

ص: 77