الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المسح على الخفين
قال رحمه الله: [باب المسح على الخفين]: تقدم معنا في مباحث الوضوء أن المسح هو: إمرار اليد على الشيء تقول: مسحت الرأس إذا أمررت يدك عليه، والمراد به هنا:(إمرارُ اليدِ مبلولةً على الخُفّين، وما في حكمهما)، والخفان: مثنّى خُف، وهو النّعل من الجلد، أو الأدم الذي يكون للقدم، والأصل فيه أن يكون ساتراً لموضع الفرض، وذلك من أصابع الرجلين إلى الكعبين، وهما داخلان، كأنه يقول رحمه الله في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة برُخْصةِ المسح على الخفين.
أما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله فقد تكلم المصنف رحمه الله على صفة الوضوء الشرعية فلما فرغ من بيانها وَذِكْرِ المواضع التي أمر الله عز وجل بغسلها، ومسحها في الوضوء ناسب أن يذكر ما يتعلق بآخر عضو من أعضاء الوضوء، وهما الرجلان حيث رخّص الله -جل وعلا- بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمسح المكلف على ساتر مخصوص لهما، فناسب بعد الفراغ من باب الوضوء أن يذكر باب المسح على الخفين لأنه متعلق بآخر فرض من فرائض الوضوء وهو غسل الرجلين، والمسح على الخفين رخصة من رخص الشرع، وهذه الرُّخصة ثبتت مشروعيتها بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغت مبلغ التواتر، قال الإمام أحمد رحمه الله:[فيه " أي: في المسح على الخُفين " أربعون حديثاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعة]، ومثله عن
الحافظ إبن عبد البر رحمه الله، وقال الحسن رحمه الله:[حدّثني سبعونَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه مسحَ على الخُفّينِ].
ولذلك قال بعض العلماء عن أحاديث المسح على الخفين: إنها بلغت سبعين حديثاً، وقد أشار إلى ذلك صاحب الطلعة رحمه الله بقوله:
ثُمّ مِنَ المشْهُورِ ما تَواتَرا
…
وهْوَ ما يرْويهِ جَمعٌ حُظِرا
كَذِبُهم عُرْفاً كَمسْح الخفِّ
…
رفعُ اليَديْنِ عَادِمٌ للخُلْفِ
وقَدْ روى حَديثَهُ مَنْ كَتبا
…
أَكثُر مِنْ سِتّينَ مِمّنْ صَحِبا
أي أكثر من سِتّين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رووا هاتين السنُتين عن المصطفى صلى الله عليه وسلم الأولى: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام.
والثانية: المسح على الخفين، والأحاديث التي وردت في المسح على الخفين منها: ما هو قولي، ومنها: ما هو فعلي، ولذلك لا إشكال في مشروعيته، وكان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- عندهم خلاف في الصدر الأول وقع من بعض الصحابة رضي الله عنهم، ثم إنتهى بعد بلوغ السنة لهم.
قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: [ليس في المسح على الخُفّين عن الصحابة إختلاف لأن كل من رُوي عنه منهم إنكاره، فقد روي عنه إثباته]، ولذلك اتفقت الكلمة على مشروعية هذه الرخصة وأثر عن بعض السلف من العلماء أنه خصّها بالسفر لكنّه قال بأصلها، وهو إحدى الروايات الثلاث عن الإمام مالك -رحمة الله عليه- وسُنبين أنّ الصحيح أنها رخصة لا تختص بالسفر لحديث حذيفة رضي الله عنه في إثباتها، وفعلها في الحضر،
وهو ثابت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بالَ عند سُباطةِ قومٍ قال:
[فَصَببْتُ عليه الوضوء، فتوضّأ، ومسح على خُفّيه] وذلك في الحضر فالمسح على الخفين ثابت، وثبوته معتبر عند السلف، ومن بعدهم حتى كان بعض العلماء يدخل في عقيدة أهل السنة، والجماعة القول بمشروعية المسح على الخفين مبالغة في الرد على أهل البدع، والأهواء الذين لا يقولون بمشروعيته، والسبب في ذلك أن ثبوته ثبت بالتواتر، فأصبح من الأمور التي ثبتت مشروعيتها بدليل القطع، وما ثبت مشروعية بدليل القطع، وأنكره من اعتقد ثبوته بالقطع الذي لا شك فيه فقد كفر -والعياذ بالله-؛ لأنه يكذب الشريعة، وكل قطعي ثابت في الشريعة في الكتاب، أو السُّنة فإن إنكاره لمن اعتبر قطعيته، وثبوته يعتبر إنكاراً، وتكذيباً للشرع فيكفر بذلك كما هو مقرّر في العقيدة.
وهذا المسح رخصة على سبيل التخيير، لا إلزام فيها.
قال رحمه الله: [باب المسح على الخفين]: أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة بالمسح على الخفين، ومنها:
أولاً: مشروعيته ببيان الدليل الشرعي على ثبوته.
ثانياً: هل مشروعيته على سبيل اللزوم، أو لا؟
ثالثاً: ما هي الشروط المعتبرة في الخفين الممسوح عليهما.
رابعاً: ما هي صفة المسح هل هي لأعلى الخفّ، وأسفله، أو للأعلى، دون الأسفل، أو للأسفل، دون الأعلى؟
خامساً: هل المسح على الخفين مؤقت؟ وإذا كان كذلك فما هي المدة المؤقتة فيه؟ إلى غير ذلك من المسائل المتعلقة بالمسح على الخفين، ثم من عادة الفقهاء -رحمة الله عليهم- أنهم يعتنون بذكر حكم النظير مع نظيره فيدخلون المسح على العمامة إذا قالوا بمشروعيتها في باب المسح على الخفين، فيذكرون أحكام المسح، ويُتْبعونها بأحكام المسح على الجبائر، والعصائب، وقد يُتْبعونها كذلك بالمسح على الخمر بالنسبة للنساء على القول بمشروعيته، وكلّ ذلك سيبينه المصنف رحمة الله عليه في هذا الباب.
قال رحمه الله: [يَجُوزُ يوماً، ولَيْلَة لُمقيمٍ]: يجوز أي: المسح على الخفين، ولما قال: يجوز فهمنا منه أنه مشروع على سبيل الإباحة، والتخيير، فلا إلزام فيه للمكلف أي: أنه لا يجب على الإنسان أن يمسح على الخفين، وإنما ذلك مباح له، وجائز، فإن ترتبت مصالح من قصد إحياء السُّنة، ودلالة الناس عليها؛ فإنه يثاب ويعتبر مندوباً في حقه، وقد يصل إلى الوجوب إذا توقف بيان هذه السنة على تطبيقها، وفعلها.
قال رحمه الله: [يَجوزُ يوماً، وليلةً لمُقيم]: قوله: [لمقيم] الإقامة: ضد السفر، وتتحقق الإقامة حقيقة إذا كان الإنسان في موضعه الذي هو نازل فيه سواء كان في بادية، أو حاضرة، وتتحقق الإقامة -أيضاً- بالحكم وهي: الإقامة الحكمية كأن يكون الإنسان مسافراً، ثم نوى أن يمكث في بلد أربعة أيام، فأكثر غير يومي الدخول، والخروج.
وفي هذه الجملة دليل على مشروعية المسح على الخفين للمقيم، فيصبح القول بجوازه عاماً أي: شاملاً للسفر، والحضر.
وللعلماء قولان في هذه المسألة:
منهم من يقول: المسح مختص بالسفر، وهو إحدى الروايات عن الإمام مالك -رحمة الله عليه-؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح في السفر، والسفر يناسبه التخفيف، وذلك أن حديث المغيرة رضي الله عنه في إثبات المسح كان في سفره عليه الصلاة والسلام لغزوة تبوك فقال: أصحاب هذا القول إنه يختص بالسفر.
وقال الجماهير: إن المسح لا يختص بالسفر، بل يشمل السفر، والحضر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم من حديث علي:[يَمسحُ المُسافرُ ثَلَاثة أيامٍ، والمقيمُ يَوماً، وليلةً] فدلّ على أنه مشروع للمسافر، وللمقيم، وهي دلالة من السُّنة القولية، كذلك دلت السُّنة الفعلية على مشروعية المسح في الحضر كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطَة قَومٍ فَبالَ قَائِماً، ثم قال لي:[اُدْنُ]، فدنوتُ حتى كنت عند عقبيه، قال: فلما فرغ صببت عليه وضوءه حتى قال: [ثُمّ مَسحَ علَى خُفّيهِ] وهذا في الحضر، فدلّ على مشروعية المسح في الحضر كما هو مشروع في السفر.
وفي حديث صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه في السنن قال: [أَمَرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لا ننزِعَ خِفَافنا ثلاثةَ أيام بِلَيالِيهنَّ للمُسَافِر، ويوماً وليلةً للمُقِيم] فأثبت مشروعية المسح حضراً، وسفراً.
وبناءً على ذلك فإنه يترجح قول الجماهير بأن المسح يشرع حضراً، وسفراً، وعلى هذا فلا تتقيد رخصته بالسفر كما ذكر من يقول إنه متقيّد بالسفر؛ لأن ورود المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة رضي الله عنه في السفر لا يقتضي تخصيص الحكم بالسفر لوجود الحكم نفسه في الحضر بدليل السنة القولية والفعلية كما تقدم.
قوله رحمه الله: [ولِمسَافرٍ ثَلاثةَ بِلَيالِيهَا]: أي: أنّ المسح على الخفين مؤقت للمسافر، كما هو مؤقت للمقيم، وتعرف هذه المسألة بمسألة توقيت المسح على الخفين، وذلك على قولين:
فذهب الجمهور رحمهم الله من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية إلى أن المسح على الخفين مؤقت ثلاثة أيام للمسافر، ويوماً، وليلة للمقيم، وحجتهم ما سبق من حديث علي رضي الله عنه في صحيح مسلم، وحديث صفوان بن عسّال المُرادي رضي الله عنه في السنن، وقد تقدم ذكرهما في المسألة السابقة قالوا: إنهما نصّا على أنّ المسح مؤقت بيوم، وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر.
وأما بالنسبة للقول الثاني فقال: المسح على الخفين غير مؤقت، وهذا هو مذهب المالكية -رحمة الله عليهم-، والليث، وهو مروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
وقد احتج المالكية على عدم التأقيت بحديث أُبيِّ بن عمارة أنه سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن المسح على الخفين فقال: يا رسول الله أمسح على الخفين يوماً؟ قال: " نَعمْ " قال: " ويَوْمينِ "؟ قال: " نَعمْ " قال: " وثَلاثةً "؟ قال
نَعمْ، وفي رواية:" وما شِئْتَ " قالوا: إن هذا الحديث أصل في عدم تأقيت المسح على الخفين، ومعناه: أنك إذا لبست الخفين فامسح ما بدا لك، وينتهى الوقت عند نزعك للخفين، وعند أصحاب هذا القول لا يتأقت، لا في السفر، ولا في الحضر، فالإنسان يمسح مدة لبسه للخفين.
وأصح القولين فى نظري والله اعلم أن المسح يتأقت، وذلك لما يلي:
أولاً: لصحة دلالة السُّنة على ذلك.
ثانياً: أن حديث أُبيِّ بن عمارة ضعيف.
ضعفه الإمام أحمد، والبخاري، والدارقطي، وغيرهم من أئمة الحديث رحمهم الله قال إبن معين رحمه الله:(إِسْنادُه مُظْلِمٌ)، ولذلك لا يعارض السُّنة الصحيحة التي أثبتت المسح مؤقتاً.
قوله رحمه الله: [مِنْ حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ عَلى طَاهرٍ]: قوله [مِنْ حَدثٍ] مِنْ: للابتداء أي: يبدأ تأقيت المسح من الحدث الأول بعد اللبس على طهارة، فيبدأ التأقيت بالثلاثة الأيام إذا كان الإنسان مسافراً، واليوم، والليلة إذا كان مقيماً مِنَ الحَدثِ بعد لُبسه، فمن المعلوم أن لُبس الخفين يكون بعد طهارة كاملة تامة، فإذا كان متطهراً، ولبس خُفّيه فإنه ينتظر أول حدث بعد لُبْسه للخُفّين، فإذا أحدث بدأ التوقيت بذلك الحدثِ إلى مثله يوماً، وليلةً، أو ثلَاثة أيامٍ على حسب حاله مسافراً كان، أو مقيماً.
فعلى سبيل المثال: لو لبس الخفَّ الساعة العاشرة صباحاً، وهو على طهارة، ثم أحدث الساعة الحادية عشرة فإنه يَعْتدّ بوقت حدثه، وهو الساعة الحادية عشرة فإن كان مقيماً كان له المسح منها إلى مثلها في اليوم التالي، فينتهي
توقيت المسح له في الحادية عشرة من اليوم التالي إذا كان مقيماً، وهكذا الحال في السفر ينتهي في مثل وقت الحدث بعد ثلاثة أيام.
ونصّه رحمه الله على إِعتبار الحدث معناه: أنه لا عبرة بوقت اللُّبس، ولا بوقت المسْح الأول الذي يقع بعد اللبس، وإنما العبرةُ بالحدثِ لأنه بحصوله شُرِع له أن يمسح فاعتدّ بوقته بِغضِّ النّظر عن كونه مسح بعده، أو انتظر مدة.
ولذلك قال العلماء رحمهم الله: أن العبرة بوجود السبب، وهو الحدث، فأحاديث التوقيت جعل الشرع فيها المدة محدودة للرخصة، وإستباحة الرخصة إنما يكون بوقوع الحدث نفسه، لا بلُبس المكلّف، ولا بمسحه.
قوله رحمه الله: [عَلى طَاهرٍ مباحٍ]: يشترط في الخف أن يكون طاهراً، وأن يكون مباحاً، ومفهوم الشرط أنه لا يصح المسح على خفٍ نجس لأن الخف النجس أولاً: لا تصح الصّلاة به لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزع نعليه لما أخبره جبريل أنهما ليستا بطاهرتين، فدلّ على أن حذاء المصلي لا بد، وأن يكون طاهراً، فلا يتأتى فيه أن يمسح على هذا النوع، وهو النجس.
الأمر الثاني: أنه بالمسح باليد المبلولة على خفّ نجس العين، أو متنجس في موضع المسح، فإنه يتنجس بمرور يده على موضع النجاسة، أو على الخف نفسه إذا كان نجس العين، وبذلك لا تتحقق الطهارة المقصودة من المسح، بل يحصل ضدها، وهو النجاسة، فلم يصحّ المسح.
وقوله رحمه الله: [مباحٍ] أي: أن يكون الخف مباحاً، ويخرج بقوله:[مباحٍ] ما كان حراماً كالمغصوب فبيّن رحمه الله أنه لا يصح المسح إذا وقع على خفّين مغصوبين؛ لأن من شرط صحة المسح على الخفين أن يكونا مباحين، والمغصوب غير مباح، وهذا على مذهب الحنابلة رحمهم الله.
قوله رحمه الله: [ساترٍ للمفروضِ]: ساتر هذا الشرط الثالث، وهو: أن يكون الخفّ ساتراً لمحل الفرض، وهو الرِّجْلُ لأن البدل يأخذ حكم المُبْدل، والمسح بدل عن ما أمر الله بغسله، وهو الرجلان فوجب أن يستر جميع الرّجْلين اللّتين أمر الله بغسلهما، فلا بد من أن يكون ساتراً من أطراف الأصابع إلى الكعبين، والكعبان داخلان كما قررناه في آية الوضوء، فلو كان على نصف القدم، فإنه لا يجوز أن يمسح عليه لأنه غير سائر لمحل الفرض، ولو كان دون الكعبين، بحيث ستر جميع الرجل، إلا الكعبين فإنه لا يصح أن يمسح عليه لأنه غير ساتر لمحل الفرض.
قوله رحمه الله: [يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ]: يثبت بنفسه هذا الشرط مبني على أنه إذا وردت الرخصة في الشّرع ينبغي تقييدها بالوصف الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فالخفاف التي كانت موجودة، ومعروفة في زمانه عليه الصلاة والسلام تثبت بنفسها، فيخرج ما لا يثبت؛ لأن الذي لا يثبت بنفسه عُرضة إلى أن يكشف منه محل الفرض، وبناء عليه فإنه لا يمُسح عليه، ولا يعتبر على صفة الخف الذي ورد دليل الشرع باستباحة المسح عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خُفّه مَشْدوداً، ولو كان مما يشدُّ، أو كان غير ثابت
وينزل عن الكعبين لبُين ذلك، ولكان ظاهراً من الأحاديث التي جاءت بذكر مسحه -صلوات الله وسلامه عليه- على خفيه.
قوله رحمه الله: [مِنْ خُفٍ، وجَوْرَبٍ صَفِيقٍ، ونحوهما]: قوله: [مِنْ خُفٍّ] من: بيانية، وقوله:[وجورب] الواو للعطف الموجب للتشريك في الحكم أي سواء مسح على خف، أو جورب، والفرق بينهما أن الخفاف تكون من الجلد، أما الجوارب فإنها تكون من القماش ولها صورتان:
الصورة الأولى: أن تكون كلُّها من القماش؛ كجورب الصّوفِ، والقُطن الخالصين.
والصورة الثانية: أن تكون من القماش المنعّل، وصورته: أن يكون أعلاه من الصوف، ويكون أسفله الجلد فهذا يسمونه الجوربَ المنعَّلَ فهو من القماش لكن أسفله مما يلي الأرض، أو موطئ القدم منه من الجلد، وهو موجود في زماننا، ويعتبر جورباً منعلاً، وكلا النوعين داخل معنا هنا، وفيهما مسألتان:
المسألة الأولى: هل يجوز أن يمُسح على الجوارب كما يمُسح على الخفاف؟
المسألة الثانية: هل ذلك شامل لكلِّ جورب؟
أما المسألة الأولى: وهي هل يمسح على الجورب كما يمسح على الخف؛ ففيها قولان مشهوران:
القول الأول: يُمسح على الجوارب كما يُمسح على الخفّ، وبه قال الإمام أحمد، وطائفة من أهل الحديث رحمهم الله.
القول الثانى: أنه لا يمسح على الجوارب، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله.
فالذين قالوا بمشروعية المسح على الجورب إحتجوا بحديث الترمذي، وأحمد:[أن النبي صلى الله عليه وسلم مسحَ على الجَوْربَيْنِ].
والذين لا يرون جواز المسح على الجوربين قالوا أولاً: إنه لم يثبت في الجوربين ما ثبت في الخفين، فلا وجه للإستثناء، والرُّخصة.
وثانياً: أنه يُحمل قوله على الجوربين على الرواية بالمعنى، فيكون المراد بهما: الخفان من الجلد، لا الجوربان من القماش.
والذي يظهر والله أعلم جواز المسح على الجوربين لصحّةِ حديثه، فقد صحّحه غير واحد من أئمة الحديث منهم الإمام أحمد، والترمذي رحمة الله عليهما، وقد جاءت هذه السُّنة عن تسعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: عليٌ، وعمار، وإِبن مسعود، وأنس، وإِبن عمر، والبراء، وبلال، وإبن أبي أوفى، وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم.
ًثانياً: أنّ حمل الحديث على الخفين خلاف الظاهر، والمعروف أن إطلاق الجورب له معنى، وإطلاق الخف له معنى، وليس الصحابي يجهل دلالة اللفظين فإنّه عبر بلغة صحيحةٍ، ولذلك قالوا إن رواية مُنَعَّلَين تدل على الجلد، ويمكن أن يجاب عنها بأنّ المنعلين المراد بها بعض أفراد الجوارب، وهي الجوارب التي لها بطانة من الجلد.
ومن أهل العلم من أجاب: بأن المراد أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجورب مع النعل، والنعل لا تغطي كل الظاهر فلم يحتج إلى نزعها عند المسح، لأن النعل لا يلزم مسحه لأنه من باطن كالخف فاقتصر على مسح الجورب، فقال الصحابي على الجورب المنعل يعني أنه مسح مع وجود النعل، والمقصود الجورب، وعلى هذا يصح القول بالمسح على الجوربين.
أما المسألة الثانية: فإن الجورب الذي يجوز المسح عليه يشترط فيه أن يكون صفيقاً، وعلى ذلك كلمة أكثر من يرى المسح على الجوربين، أنه لا بد، وأن يكون صفيقاً، وهي عبارات العلماء، لأن الجوارب الخفيفة الشّفافة هذه لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إنما كانوا يلبسون الجوارب الثخينة، وكانوا يمشون بها، ولذلك كانوا يلفون الخرق على أقدامهم، وهو المعبّر عنه بالتساخين في بعض الروايات، وهذا يدل على ما اعتبره العلماء من اشتراط الصّفاقة أي: كونه صفيقاً، وأيضاً النظر يقتضيه، فإن الجورب منزّل منزلة الخفِّ، والخفُّ أصله من الجلد، ولا يمكن للجورب أن ينزّل منزلَته إلا بالثّخانة، والصّفاقة، وعلى هذا فإنه يصح المسح عليه إذا كان صفيقاً ثخيناً فالذي يشف البشرة، أو يكون غير ثخين فإنه لا يمُسح عليه؛ لأنه غير معروف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال بجوازه يقوله بالقياس فيقول: أقيس هذا الشّفاف على الجورب الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويجاب عنه: بأنه قياس مع الفارق، والفارق هنا مؤثر، ومن شرط صحة القياس، واعتباره أن لا يكون قياساً مع الفارق،
ثم إن المسح على الخفين رخصةٌ جاءت على صفة مخصوصة فيقتصر الحكم على الوارد، والقياس في مثل هذا ضيق.
وعليه فإنه لا يصح المسح على الجوربين إلا إذا كانا صفيقين، كما نبه عليه الأئمة منهم الإمام ابن قدامة -رحمة الله عليه- في المغني، وغيره من أصحاب المتون المشهورة في المذهب الحنبلي الذي يقول بجواز المسح على الجوربين كالإمام الحجّاوي في الإقناع، وابن النجّار في المُنتهى، وغيرهم رحمهم الله كلهم نصّوا على كونه صفيقاً إخراجاً للخفيف الذي يصف البشرة، أو يكون غير ثخين.
قوله رحمه الله: [ونَحْوِهِما] أي نحو الجورب الثخين بمعنى: أنه لا يختص الحكم بالجلد، ولا بالقماش فإذا وجد الساتر للقدمين من غيرهما، ولكنه على صفة الخفّ، والجورب في الثّخانة صَحّ المسح عليه، وهذا ما يدل عليه قوله:[نحوهما] المتضمن لمعنى الشَّبَهِيةِ.
قوله رحمه الله: [وعلى عِمَامةٍ لرجُل]: بعد أن فرغ رحمه الله من بيان أحكام المسح على الخفين شرع في بيان أحكام المسح على العمامة، والعمامة مأخوذة من قولهم: عمَّ الشيء إذا شمله، وصفت العمامة بكونها عمامة؛ لأنها تشمل الرأس بالغطاء فهي تستره، والعمامة تأتي على صور فمنها: العمامة التي لها ذؤابة، ومحنّكة، ومنها: العمامة التي لها ذؤابة غير محنكة، والعمامة: التي لا ذؤابة لها، وليست بمحنكة هذه ثلاث صور للعمائم.
فأما ما كان من العمائم له ذؤابة سواء كان محنّكاً، أو غير محنّك فإنه يشرع المسح عليه لأنها على صفة عمائم المسلمين كما يشهد لذلك الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه عمّم عبدَ الرحمن بنَ عوفٍ رضي الله عنه وأرسل العذبة بين كتفيه، وقال:[هَكذا فَاعتمَّ يا ابنَ عَوْفٍ] فالعمامة تكون لها عذبة سواء كانت مُحنّكة، أو غير مُحنّكة، وسواء أرسل عذبتها بين الكتفين من خلفه، أو أرسلها من جهة المقدمة على صدره من الجهة اليمنى تفضيلاً للأيمن على الأيسر، هذا بالنسبة لعمائم المسلمين.
وهناك نوع ثالث من العمائم وهي العمامة المقطوعة التي لا عذبة لها، ولا ذؤابة كانت شعاراً لأهل الذِمّة لأن أهل الذِمِّة إذا كانوا مع المسلمين فإنهم يكون لهم شعار يعرفون به، ويتميزون به عن المسلمين حتى لا يلتبسوا بهم، فلا بد من وجود علامة فارقة لهم، في ملبسهم بحيث يتميزون عنهم في المجامع وغيرها، وأول من سنَّ ذلك عُمر رضي الله عنه، فكانت لهم العمائم مقطوعة، والزنّار مَشْدوداً في أوساطهم، ولها أصل في السُّنة أن الكفار إذا دخلوا بلاد المسلمين لا يشابهونهم في اللباس، فلذلك كان رضي الله عنه يلزمهم بعمائم مخصوصة، ولباس مخصوص حتى يكون علامة لهم، فهذا النوع من العمائم يختص بأهل الذمّة، فالأصل منع المسلمين من لُبسه، وشدد العلماء رحمهم الله فيه لأن فيه مشابهة بأهل الذمة، فمِثلُ هذه العمائم لا يمسح عليه.
قوله رحمه الله: [وعلى عمامة لرجُلٍ محنّكةٍ، أو ذاتِ ذُؤابة]: وعلى عمامة لرجل، فالمرأة لو إعتمت فإن اعتمامها، وعصب رأسها يكون على حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون بدون حاجة فتكون -والعياذ بالله- ملعونة، لأنها تتشبّه بالرجال، وقد يفعل هذا بعض المسترجلات من النساء -نسأل الله السلامة والعافية-، وفي الحديث الصحيح أنّ النبيَ صلى الله عليه وسلم:[لَعَنَ المُسْتَرجِلاتِ مِنَ النساءِ].
الحالة الثانية: أن تحتاج إلى عصب رأسها لشدِّ رأسٍ من وجع، أو ألم، أو نحو ذلك، فهذا أمر مستثنى من التحريم لوجود الحاجة فهذه العصائب التي قد تشبه العمامة في بعض أحوالها لا يُمسحُ عليها، والأصل أن العمائم تختص بالرجال، والنساء لا عمائم لهن.
الأصل في مشروعية المسح على العمامة حديث المغيرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مَسَحَ على نَاصِيته، وعلى العمامة، وورد -أيضاً- أَمرُه عليه الصلاة والسلام بالمسح عليها، وحسّنه بعض أهل الحديث، فهذه السنة الثابتة بالفعل، والقول أصل في جواز المسح على العمامة، ويُشترط فيها كما قال:[ذاتِ ذؤابةٍ، أو مُحنّكة] أي موضوعة تحت الحنك وتعبيره بـ[أو] في قوله [أو محنكة] فيه دليل على عدم إختصاص الرخصة بالعمامة المحنكة، بل المهم أن تكون من عمائم المسلمين لها ذؤابة، سواء كانت محنَّكة، أو غير محنَّكة.
وإذا كانت العمامة محنَّكة كانت المشقة بنزعها أكبر، ولذلك لم يشرع المسح على كل ساتر للرأس فالطاقية، والعمامة المقطوعة لا يشقُّ نزعهما، فلم يرخص بالمسح عليهما، وعليه فالمنع من المسح على العمامة المقطوعة في أحد الوجهين راجع إلى عدم المشقة بالنزع كالقلنسوة.
قوله رحمه الله: [وعلى خُمُرِ نِساءٍ مُدَارةٍ تَحتَ حُلوقِهنّ]: أي ويجوز المسح من المرأة على خمارها، والخمار: فعال من الخَمْر، والخَمْر أصله التّغطية، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:[خَمّروا الآنيةَ] أي: غطوها، وسُمّيت الخمرُ خمراً -والعياذ بالله-؛ لأنها تغطي العقل، فكأن الإنسان إذا شربها صار كمن لا عقل معه، ووصف الخمار بكونه خماراً؛ لأنه يستر رأس المرأة، ويغطيه، والأصل في مشروعية المسح عليه حديث بلال في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه أنه قال:[مَسحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الخُفينِ، والخمَارِ، أي أذن بالمسح على الخمار للنساء، وفي مسند أحمد بلفظ: [إمسحوا على الخفين والخمار]، وفيه أيضاً أثر أم سلمة رضي الله عنها، وقياساً على العمامة في كونها ساترين يشقُّ نزعهما.
قوله رحمه الله: [مدارة تحت حلوقهن]: أي تكون تحت الحلق قالوا: إنه ينبغي أن يكون ذلك الخمار مداراً مثل: المِسْفَع، ونحوه يكون تحت الحلق، كالحال في المحنّك من عمائم الرجال حتى تحصل المشقة بنزعه، فيرخص بالمسح عليه، وهذا مبني على أن الرخصة فيهما مبنية على مشقّة النزع.
قوله رحمه الله: [في حدثٍ أصغَر]: بعد أن بيّن رحمه الله ما الذي يمسح عليه، ووقت المسح شرع في بيان محل المسح هل هو في جميع الأحداث، أو في بعضها؟ فبيّن رحمه الله إختصاص المسح على الخفين، والعمامة، والخمار بالحدث الأصغر، دون الأكبر، فلا يجوز للإنسان أن يمسح عليها في الحدث الأكبر إجماعاً، بل يجب عليه غسل القدمين، والرأس في الطهارة من الحدث الأكبر، والأصل في هذا ما ثبت في الحديث الصحيح، وهو حديث صفوان بن عسّالٍ المُراديِ رضي الله عنه وأرضاه قال:[أَمَرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ألا نَنْزِعَ خِفَافَنا من بولٍ، أو نومٍ، أو غائطٍ؛ لكن من جنابةٍ]، فدل على أن الخف يمسح عليه في الحدث الأصغر المعبر عنه بقوله:[من بولٍ، أو غائطٍ، أو نومٍ] دون الأكبر الذي يجب فيه نزع الخفين، وهو معنى قوله:[لكِنْ منْ جَنابةٍ] أي لكن نزعهما من جنابة، فدلّ على أن الحدث الأكبر لا رخصة فيه بالمسح على الخفين، بل يجب فيه الرجوع إلى الأصل، وهو غسل العضو.
قوله رحمه الله: [وعلى جَبِيرةٍ لم تَتَجاوز قَدرَ الحَاجةِ]: شرع رحمه الله في بيان أحكام المسح على الجبيرة بعد أن بيّن رحمه الله المسح على الخفّين، والعمائمِ، والخُمُرِ.
ويرد السؤال: أليست الجبيرة يمسح عليها كما يمسح على العمامة هذا من قماش، وهذا من قماش، وكلاهما ساتر لمحل الفرض، فلماذا أفردها؟
الجواب: أن الجبيرة تخالف ما تقدم في كونها في الحدث الأصغر، والأكبر، فإن الإنسان إذا جَبرّ كسراً ووضعها فإنه يحتاج إلى بقائها مدة معينة،
فسبب الرخصة قائم بخلاف المسح على الخفين، والعمامة، والخمر، فإنه ليس مرتباً على سبب، ولا علة، وإنما هي رخصة مطلقة على أحد الوجهين عند أهل العلم رحمهم الله.
والأصل في المسح على الجبائر: حديث ذي الشّجَةِ الذي رواه الدارقطني، وغيره أنّ رجلاً من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم سافَر مع أصحابهِ فأصابتهُ شِجَاج، أو كانت به جراح قال: فأجنب، فسألَ أصحابَه هلْ من رُخصة؟ قالوا: لا رخصة، وإغتسل أي: يلزمك الغسل، فاغتسل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:[قَتَلُوه قَتَلهُمُ الله هلا سَأَلوا إِذْ جَهِلُوا إنما شِفَاءُ العِيِّ السُّؤالُ]، وفي بعض الروايات:[قَدْ كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَعصُبَ جُرحَه] فأخذوا منه مشروعية المسح على العصائب، والجبائر وهذا الحديث متكلم في سنده، والقول بضعفه في رواية الجبائر أقوى، ولكن أصول الشريعة، وقواعدها العامة تدل على مشروعية المسح على الجبائر، ولذلك اتفقت كلمة العلماء، وأجمعوا على أنه يجوز المسح على الجبيرة لماذا؟ لأن التكليف شرطه الإمكان قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) فإذا كان بإمكان المكلف أن يفعل كُلّف، وإن لم يكن بإمكانه لم يكلف، فهذا الذي أصابه الكسر في يده، أو ساعده، أو زنده، أو كفه ليس بإمكانه أن ينزع الجبيرة حتى يغسل، ويترتب على نزعه ضرر عظيم ولأن الشريعة لما أذنت له أن يتداوى؛ فقد أذنت بلازم التداوي من
(1) البقرة، آية:286.
بقاء الجبيرة، فتبقى الجبيرة على ما هي عليه، ويمسح عليها، ويحلّ هذا الساترُ محل الأصل بشروطه، وهي:
أولاً: وجود الحاجة، وهو أن يتحقق من وجود الكسر الذي يحتاج إلى الجبر.
ثانياً: أن يشدّ بقدر الحاجة، فلو فُرضَ أن موضع الكسر الذي يحتاج بسببه إلى الجبر محدّد بخمسة أصابع ويحتاج الطبيب إلى إصبع قبل، وبعد يعني من البداية، والنهاية، فهذا الزائد الذي هو الإصبع السابق واللاحق في حكم الأصل فيشرع تغطيته بالجبيرة، ولا حرج عليه.
قوله رحمه الله: [وعلى جَبِيرةٍ لم تَتجَاوز قدرَ الحاجةِ، ولو في أَكْبر]: للقاعدة الشرعية: " أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها " وهي إحدى القواعد المشهورة عند العلماء بالقواعد الخمس وهي: " الأمُورُ بمقاصِدِها " و " اليَقينُ لا يُزالُ بالشكِ " و " الضررُ يُزالُ " و " المشقّةُ تَجلِبُ التيْسِير و " العادةُ مُحكّمةٌ " هذه الخمس القواعد انبنى عليها الفقه الإسلامي بمعنى: أن كثيراً من مسائل الفقه تفرع عليها، والقاعدة الرابعة منها تقول:[المشقةُ تجلبُ التَّيسير]، وتفرعت منها قواعد، منها قولهم:[الضَّروراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ] ثم ضبطت بقولهم: [ما أبيح للحَاجَةِ، والضَّرورةِ يُقدّرُ بِقَدْرها] أي: أن ما حكمنا بإباحته، وجوازه بناء على وجود ضرورة، أو حاجة فإن الواجب أن نتقيّد فيه بقدر الضرورة، والحاجة، وأن لا نزيد على ذلك، وهذا ما بنى عليه المصنف رحمه الله قوله في هذه المسألة:[لم تَتَجاوزْ قَدْرَ الحَاجةِ].
وقوله رحمه الله: [ولو في أكبر] أي ولو كان المسح على الجبيرة في حدث أكبر، ومن هنا خالفت الجبيرة المسح على الخفين والعمامة والخمار في كونها لا تختص بالحدث الأصغر بل إنها تكون في الحدث الأصغر، والأكبر، ومن هنا قال العلماء رحمهم الله لا يمسح في طهارة كبرى على غير الجبيرة.
قوله رحمه الله: [إلى حَلِّها]: أي إلى أن يحلّ الجبيرة، ويُرجع في ذلك إلى قول أهل الخبرة، فإن قال الأطباء: تبقى شهراً فإنها تؤقت بالشهر، وإن قالوا شهرين فكذلك، فلا يُتجاوز القدر الذي حكم الأطباء بالحاجة إليه، فإذا زاد عليه، فإنه لا يصح له أن يمسح في ذلك الزائد من الزمان.
قوله رحمه الله: [إِذَا لَبِسَ ذَلكَ بَعدَ كمالِ الطهارةِ]: المراد به بيان شرط جواز المسح على الخفين، والعمامة، والخمار، والجبيرة، وهو: أن يلبسها على طهارة كاملة، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال:[فأَهْويتُ لأَنزعَ خُفّيه؛ فقال: دَعْهُما فإني أَدخَلْتُهما طَاهِرتَيْنِ]، وهذا يدل على إشتراط لبس الخفين على طهارة تامة، ولا بد من أن تكون الطهارة تامة بحصولها بغسل الرجلين، فلو غسل إحدى الرجلين، ثم أدخلها في الخف بعد غسلها وقبل غسل الثانية لم يصحّ.
واستثنى بعض العلماء رحمهم الله الطهارة في شدِّ الجبيرة في الحالات التي يتعذر أن يتطهّر فيها فتشد الجبيرة قبل حصول الطهارة، فخفّف فيها لوجود الحرج الموجب للرّخصةِ.
قوله رحمه الله: [ومنْ مَسحَ في سفرٍ، ثمّ أقامَ، أو عكس، أو شكّ في ابتدائهِ فمسحُ مقيمٍ]: هذه المسألة مفرعة على الأصل حيث عرفنا أن المقيم يمسح يوماً، وليلة على الخف، والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن فلو فرضنا: أنك كنت مسافراً فمسحت اليوم الأول، ثم رجعت إلى البلد في اليوم الثاني، فأصبحت مقيماً في اليوم الثاني فهل نقول العبرة بالابتداء، فتتم مسحك مسح مسافر، أو نقول العبرة بالانتهاء فتقطع مسحك؛ لأنك أتممت مسح المقيم؟ هذا إذا كان في سفر، ثم أقام، وكذلك إذا كان مقيماً، ثم سافر، فلو أنه لبس الخف على طهارة وهو مقيم ثم مسح عليه نصف يوم ثم سافر بعد ذلك فهل يُتمّ مسح يوم وهو مسح المقيم، أو يتمّ ثلاثة أيامٍ وهي مسح المسافر، لأنه أصبح مسافراً وهكذا لو شكّ وهو في سفرٍ هل أحدث بعد لبس الخفّ حال إقامته فيتم مسح مقيم، أو أحدث حال سفره، فيتم مسح مسافر؟ ثلاثة أحوال ذكرها المصنف رحمه الله وهي مسألة خلافية، وللعلماء فيها قولان:
القول الأول: أنه يُردّ إلى الأصل، واليقين، وهو مسح اليوم، والليلة، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة رحمهم الله.
والقول الثاني: أنه يمسح بحاله الطارئ، فلو طرأ عليه السفر أتم ثلاثاً، ولو طرأت عليه الإقامة اعتبر اليوم والليلة فإن كان قد أمضاها في السفر، وزاد عليها إنتهى مسحه بمجرد إقامته، وهذا هو مذهب الحنفية.
وأما المالكية فإنه لمّا كان مذهبهم عدم التأقيت في المسح فإن هذه المسألة على مذهبهم غير واردة؛ لأنه لا فرق عندهم بين مسح المقيم، والمسافر.
وأقوى القولين: هو القول بالرجوع إلى اليقين، لأن المسح على الخفين رخصة، ونشكُّ في بقائها فوجب علينا الرجوع إلى اليقين، وهو مسح اليوم، والليلة لأنه مقطوع به على كلا الوجهين، وما زاد على اليوم، والليلة فإنه مشكوك في ثبوت الرخصة فيه، فوجب الأخذ باليقين، وإلغاء ما زاد عليه، وهذا معنى قولهم في القاعدة: [الشّكُ في الرُّخَصِ يُوجِبُ الرُّجوعَ إِلى الأَصل.
قوله رحمه الله: [وإنْ أَحْدثَ ثُمّ سَافَر قَبلَ مَسْحِه فَمسْحُ مُسافِرٍ]: بناه على ظاهر الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: [يمسح المسافر]، وإن كان الأصل يقتضي أن العبرة بالحدث، فكان يلزم إعمالاً للأصل أن يقال إن العبرة بالحدث فإن وقع حدثه في السفر أو في الحضر فالعبرة بالحدث وهذا هو الصحيح إتباعاً للأصل الذي تقرر أن الحدث سبب الرخصة الشرعية بالمسح فوجب الإعتداد به، ولا عبرة بالمسح فننظر متى كان حدثه، فإن كان في حال إقامته، ثم سافر مسَح مسْح مقيم، والعكس بالعكس، وهذا هو المذهب في الأصل، وأجيب عن الظاهر، باعتبار الشرع لسبب الرخصة، وهو أولى بالإعتبار.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يَمسَحُ قلانسَ، ولُفافةً]: شرع رحمه الله في بيان ما لا يمسح عليه فبين عدم جواز المسح على القلانس، وهي كالطواقي الموجودة في زماننا فلا تأخذ حكم العمامة، وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله، وهي المذهب كما أشار إلى ذلك في الإنصاف بقوله:[إحداهما: لا يباحُ، وهو المذهبُ] لأن الأصل وجوب مسح الرأس
والعمامة ثبت الدليل باستثنائها، فبَقيَ ما عداها على الأصل من وجوب نزعه، ومسح الرأس عملاً بالآية الكريمة.
وأما اللفافة: فهي ما يدار على العضو مثل: لفائف الأطباء في زماننا، وهي المسمّاة بالشاش فهذه لا يمسح عليها، وكذلك لفائف الرجلين: وهي التساخين، وذلك لأن الأصل يوجب غسل الرجلين، واليدين، والوجه، وجاءت الرخصة بالجبيرة فبقي ما عداها على الأصل، لكن يستثنى منها ما كان الضرر فيه، والمشقة كالجبيرة.
قوله رحمه الله: [ولا ما يَسْقُط من القَدَمِ، أو يُرى منه بَعضُه]: ذكرنا أن من شرط المسح على الخفين أن يثبت بنفسه، فلا ينكشف من محل الفرض شيء، فإذا كان الخف لا يثبت، وينكشف من محل الفرض شيء؛ لم يصحّ المسح عليه لأنه مخالف لما ثبت في السنة بالرخصة في المسح عليه.
قوله رحمه الله: [فإنْ لَبِسَ خُفاً على خفٍ قبلَ الحدثِ، فالحكمُ للفَوْقَاني]: إختلف العلماء رحمهم الله في مسألة المسح على خفٍ، فوق خف: فقال بعض العلماء: الرخصة تختصّ بالخفّ إذا باشر القدم.
وقال بعضهم: يجوز المسحُ على خفٍ فوق خف أي لا يشترط أن يكون الخُفُّ على القدم مباشرة فدرج المصنف رحمه الله على هذا القول.
والأول أقوى، وذلك أن الذي ورد في السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم مسحه على خفٍ يلي محل الفرض، وعلى هذا لا يقوى القول بالمسح على خف فوق خف؛ لأنه يلي ما حُكْمه المسح.
لكن على القول بالجواز ينبني عليه أن الحكم للخف الفوقاني، أي: الأعلى منهما، وهكذا لو لبس أكثر من خف، وقيل بالجواز كان المسح للأعلى، وألحق به بعضهم العمامة على العمامة.
قوله رحمه الله: [ويَمْسحُ أَكثَر العِمامة]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته كما في حديث المغيرة رضي الله عنه ولم يحكِ المغيرة رضي الله عنه تكلّف النبي صلى الله عليه وسلم في تتبعه للمسح لكورِ العمامةِ، بل قال:[ومَسحَ على ناصيته، وعلى العِمَامةِ]، فدلّ هذا على أنه إذا مُسح على العمامة فإنه يمسح أكثرها، ولا يُشترط في صحة المسح الاستيعاب، لما فيه من المشقة المخالفة للمقصود من الرخصة.
قوله رحمه الله: [وظَاهرِ قَدمِ الخفِّ] المراد به بيان محل المسح في الخفين، وهو ظاهر الخفين، وعليه فإنه لا يجب مسح أسفلهما، ودليل ذلك حديث علي رضي الله عنه الصحيح عند أبي داود أنه قال:[لَوْ كَانَ الدِّين بالرّأي لكَان أَسْفَل الخفّ أولى بالمسح منْ أعلاه، وقد رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يمسحُ على ظاهرِ خُفّيهِ]، وفي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عند أبي داود، والترمذي بسند حسن قال:[رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يمسحُ على ظهورِ الخفّين] فدلّ هذانِ الحديثانِ على أن الواجب مسحُ ظاهر الخفّ، وأعلاه، وأنه لا يجب مسح أسفله.
قوله رحمه الله: [مِنْ أَصابِعه إلى سَاقِه، دونَ أَسْفَلِه، وعَقِبِه]: قوله: [من]: للابتداء، وقوله:[أصابعه] أي أصابع القدمين، وقوله:[إلى ساقه] أي: ينتهي المسح إلى السّاق، ومراده إدخال الكعبين؛ لأن
إدخالهما كاملين لا يكون إلا بالشروع في أول الساق، وليس المراد مسح السّاق، لأن السّاق غير داخل في محل الفرض، وصورة المسح على الخفين: أن يُمرّ أصابع كفّيه مفرّقة على ظاهر الخفين، من أطراف أصابع القدمين إلى الساق، ولا يمسح العقبين، ولا أسفل الخفين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه مسح أسفل الخفين.
قوله رحمه الله: [وعلى جَميع الجَبِيرَةِ]: هذا من الفوارق بين المسح على الخفين، والمسح على الجبيرة أن في المسح على الجبيرة يجب عليه أن يستوعبها بالمسح إذا كانت محاذية لمحل الفرض مثل: الجبيرة على الساعد بخلاف المسح على الخفين، فإنه لا يجب إستيعاب الخفين، بل يقتصر على مسح أعلاه، مع أن كلاً منهما محاذياً لمحل الفرض.
قال رحمه الله: [ومتى ظهر بعض محل الفرض]: أي انكشف، سواء في المسح على الخفين، أو في المسح على الجبيرة فإنه يوجب انتقاض المسح، وذلك لعلّة ذكرها أهل العلم -رحمة الله عليهم-، وهي أنه إذا ظهر جزء من المستور الذي مُسح عليه بدل غسله، فقد توجه الخطاب في الشرع بغسله، ولا يستطيع أن يغسل؛ لأن شرط الموالاة قد فُقِدَ فإنّ مُضي المدة بين وضوئه الذي مسح فيه، وبين انكشاف العضو يقتضي بطلان شرط الموالاة، وإذا بطل شرط الموالاة تعذر أن يغسل، فيُرجع إلى الأصل من وجوب الوضوء عليه.
توضيح ذلك: لو فرضنا أن إنساناً توضأ، ثم نزع من خفه ما بان به محل الفرض فحينئذ نقول: إنه في الأصل مطالب بغسل رجليه، وهو محل الفرض
ورُخّص له بالمسح على خفيه بشرط أن يبقى على الصورة التي أذن الشرع بها من استتمام المدة، والخفّ ساتر، فإذا نزع، وانكشف جزء من محل الفرض، فقد توجه خطاب الشرع بالأصل، وهو غسل الموضع؛ لأنه فقد شرط المسح فلما توجه الخطاب بالأصل وهو غسل الموضع، وقد مضت فترة لا يمكن معها أن يتحقق شرط الموالاة حُكم بإنتقاض طهارته، وبطلانها، وكلُّ ذلك مبني على سبب فوات شرط الموالاة، ولذلك لو انكشف جزء من محل الفرض في الخفين، وكان قريب العهد بمسح الرأس كأن يكون مسح برأسه، ثم مسح على خفيه، وبعد دقيقة مثلاً إنكشف جزء من محل الفرض، أو خلع خفه؛ فإنه يمكنه أن يغسل رجليه، وتصح طهارته لأن شرط الموالاة لم يفقد فالعلة في المسألة هي فقد شرط الموالاة كما نبّه على ذلك الإمام الموفق -رحمة الله عليه- في المغني.