الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب فروض الوضوء وصفته
قال المصنف رحمه الله: [باب فروض الوضوء، وصفته]: الفروض: جمع فرض، والفرض يطلق بمعنى: الحزِّ، والقطع، ومنه الفريضة، وهي: النصيب الذي جعله الله عز وجل من تركة الميت للحيّ من بعده، سميت بذلك؛ لأن مال الميت يقتطع منه لكل وارث نصيبه، فقيل لها فريضة.
وأما في اصطلاح الشرع فهو: [ما يُثابُ فاعلُهُ، ويُعاقبُ تاركُهُ] فهو بمعنى الواجب، وهذا هو مذهب جهور العلماء؛ خلافاً للحنفية -رحمة الله عليهم-، فإنهم يرون أن الفرض آكد من الواجب، وأقوى من حيث الدليل ثبوتاً، ودلالة.
وقوله رحمه الله: [فروض] جمع: فريضة، وجمعها رحمه الله لأن الواجبات التي ألزم الشرع المكلفين بها في الوضوء متعددة، ففرض الله غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، فلما تعدّدَت جمعها رحمه الله بقوله: فرائض الوضوء.
وقوله: [الوضوء]: مأخوذ من الوضاءة، وهي: الحسن، والبهاء، والجمال، وصف بذلك؛ لأنه يُبَيِّضُ وجه صاحبه، وأعضاءه في الآخرة كما ثبت في الحديث الصحيح أن أُمّته عليه الصلاة والسلام يدعون يوم القيامة غُراً محجّلين من أثر الوضوء، وهو طهارة حسِّية، ومعنوية، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة، والسلام قال: [ما منْ مُسلمٍ يُقرّب وَضُوءَهَ فيُمضمِضَ، ويَسْتنشِق، ويغسلُ وجْهه إلا خَرجتْ خَطَايا وجْهِهِ
مع الماءِ، أو مع آخِرِ قَطْرِ الماءِ حتّى تَخْرجَ مِنْ تَحتِ أَشْفارِ عَيْنَيهِ، فإِذا غَسَل يَديْه خَرَجتْ كلُّ خَطِيئةٍ بَطَشتْها يَدَاهُ مَعَ الماءِ، أوْ معَ آخرِ قَطْرِ المَاءِ حتى تَخْرج من تحتِ أَظفارِ أَصابِعهِ]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تمام ذلك في أعضاء الوضوء؛ فإذاً تحصّل من هذا أن الوضوء يُفضي إلى جمال الحس، والمعنى، فوصف بكونه وضوءاً من هذا الوجه، فحقيقة الوضوء في اللغة راجعة إلى الحُسْن، والبهاء من الوضَاءَةِ.
وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله: فهو (الغسلُ، والمسحُ لأعضاءَ مخصوصةٍ، بنيّة مخصوصةٍ)، والمراد بالأعضاء المخصوصة المغسولة الوجه، واليدان إلى المرفقين، والرجلان إلى الكعبين، وأما العضو الممسوح فهو الرأس، والرجلان إن مسح على الخفين، أو الجوربين.
والمراد بالنِّيةِ المخصوصة: أن يقصد رفع الحدث، أو إستباحة المحظور كما سيأتي بيانه في مسائل النِّية وأحكامها بإذن الله تعالى.
قال رحمه الله: [باب فُروض الوُضوءِ]: أي في هذا الوضع سأذكر لك جملة من الأحكام، والمسائل التي يُعرف بها ما أوجب الله على عباده في طهارة الوضوء.
مناسبة هذا الباب: أن من عادة العلماء -رحمة الله عليهم- أنهم يبتدئون بآداب قضاء الحاجة، ثم يُثَنّونَ بفرائض الوضوء، لأنّ المكلف إذا فرغ من قضاء حاجته تهيأ لعبادة الصلاة، وذلك بالوضوء، ثم بعد ذلك يصلي كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) ولذلك يقولون تقديم باب آداب قضاء الحاجة الذي كنا نتكلم عنه على باب الوضوء؛ إنما هو من باب الترتيب المناسب للحال، فالغالب في حال المكلف أن يقضي حاجته أولاً، ثم يَتهيّأ لعبادة الصلاة، وقد أدخل المصنف باب السواك؛ لأن السواك يكون قبل الوضوء كما سبق بيانه عند ذكر باب السواك، ثم أتبع جميع ذلك بباب الوضوء.
قوله رحمه الله: [فُروضُهُ سِتةٌ]: الضمير في قوله: [فروضه] عائد إلى الوضوء أي: الفروض التي أوجب الله على المكلف في الوضوء ستة.
هذا يسميه العلماء الإجمال قبل البيان، والتفصيل، وهو أسلوب محمود، وقد تقدم معنا أنه منهج الكتاب والسنة أن تورد الشيء إجمالاً، ثم تفصّله، وفي ذلك فائدة:
وهي تهيئة السامع، وكذلك المخاطب لفهم المراد، فإنه لو قال مباشرة: وفروض الوضوء غسل الوجه وغسل اليدين لما كان في ذلك مناسبة ألطف من قوله: [فُروضُهُ سِتّةٌ] لأنه لما قال إنها ستة نشأ السؤال: ما هي هذه الستة؟ فحدث التشويق للسامع، والمخاطَب أن يعرف تفصيل هذا الإجمال، وهو أسلوب القرآن قال الله تعالى:{الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} (2) وكان بالإمكان أن يقول الحاقة: كذبت ثمود، وكذلك قوله
(1) المائدة، آية:6.
(2)
الحاقة، آية: 1 - 3.
تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} (1) فأحدث بالإجمال الشوق إلى معرفة البيان، والتفصيل هكذا هنا، وقوله رحمه الله:[فروضُهُ ستّة] أي الفروض التي أمر الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم بها في الوضوء ستة.
قوله رحمه الله: [غسل الوجه]: الغسل هو: صبُّ الماء على الشيء؛ تقول: غسلت الإناء إذا صببت الماء عليه؛ فأصاب أجزاء الإناء، وغسلت الوجه إذا صببت الماء عليه؛ فأصاب الماء أجزاءه، وبناء على ذلك قالوا الغسل لا يتحقق إلا بوصول الماء إلى البشرة.
فلو أنّ إنساناً أخذ يداً مبلولة، ثم دلكها على وجهه، دون صب للماء، وجريان له على الوجه لم يكن غاسلاً، وإنما هو ماسح، وفرق بين الغسل، والمسح.
وقوله: [الوجه]: مأخوذ من المواجهة، والوجه سيأتي إن شاء الله بيانه، وتحديده.
والدليل على فرض غسل الوجه: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أمر، والقاعدة في الأصول:" أنّ الأمرَ يدلُّ على الوجوبِ إلا إذا صرَفه الصارف " فلما قال: {فَاغْسِلُوا} أي فرض عليكم أن تغسلوا وجوهكم.
(1) القارعة، آية: 1 - 3.
كذلك -أيضاً- دلّت السُّنة على ذلك فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم توضّأ، ولم يثبت عنه في حديث صحيح أنه توضأ، وترك غسل وجهه، ففي الصحيحين من حديث حمران مولى عثمان عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وأرضاه- أنه دعا بوَضُوءٍ، فأكْفأَ على كفيهِ، فغسلهما ثلاثاً، ثمّ تَمضْمَضَ، واسْتَنْشَقَ ثلاثاً، ثمّ غَسَل وجْهَهَ
…
إلخ، ومثله في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الصحيح، وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في السنن كلها وصفت وضوءَ النبي صلى الله عليه وسلم وأنه غسل وجهه فيه، ولذلك أجمع العلماء -رحمة الله عليهم- على أن غسل الوجه فرض من فرائض الوضوء، فلو توضأ إنسان، ولم يغسل الوجه لم يصحّ وضوءه بإجماع العلماء -رحمة الله عليهم-.
قوله رحمه الله: [والفَمُ، والأنفُ منه]: بعد أن بين أن الوجه يجب غسله شرع رحمه الله في بيان ما يُعتبر من الوجه، وما لا يُعتبر منه، فبيّن أن داخل الفم، والأنف يعتبر من الوجه، وهذا هو أحد أقوال العلماء الثلاثة في هذه المسألة، وبيانها فيما يلى:
القول الأول: أنه ليس من الوجه، فغسله سُنّة، وليس بواجب، وهذا هو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد رحم الله الجميع.
القول الثاني: أن داخلهما من الوجه، فيُعتبر غسله فرضاً من فرائض الوضوء، وهذا هو مذهب الظاهرية ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
القول الثالث: أن داخل الأنف من الوجه، دون داخل الفم بمعنى أن الفرض هو: الإستنشاق، دون المضمضة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول بعض أهل الحديث رحمة الله على الجميع.
وقد بينتُ أدلتهم، ومناقشاتهم في شرح بلوغ المرام، وأن الذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول بعدم وجوبهما في الوضوء، وأن داخلهما ليس من الوجه المأمور بغسله، وذلك لما يلي:
أولاً: لصحة دلالة الكتاب، والسنة على ذلك، أما دليل الكتاب فقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بغسل الوجه، والوجه في حقيقته اللغوية: ما تحصل به المواجهة، وهي إنما تكون بظاهر الوجه، لا بباطنه، وهو داخل الفم، والأنف، فاللسان العربي في حقيقة الوجه لا يشمل باطن الفم، والأنف، وإنما يختص بظاهر الوجه، وحْدَهُ، والقرآن نزل بلسان العرب، ويُفسَّر به كما هو معلوم.
وقد أكّدت السُّنة هذا المعنى كما في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي؛ فقال: -يا رسول الله- كيف أتوضأ؟ " أي صف لي الوضوء الذي أصلي به " فقال عليه الصلاة والسلام: [تَوضأ كَما أَمَركَ اللهُ] أي اقرأ كتاب الله، وما وجدت في آية المائدة، فافعله قالوا: فردّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأعرابيَ إلى ظاهر القرآن، وهذا أعرابي لا يعرف الوضوء إذ لو كان عالماً بالوضوء لما سأل، فكونه يردّه إلى ظاهر القرآن، فإن هذا واضح في دلالته
على أن المراد ظاهر الآية، وظاهر الآية يدل على الإكتفاء بغسل ظاهر الوجه.
وأما ما استنبطوه من كون الفم، والأنف من خارج فهذه مسائل لا يدركها إلا الفقيه، ويعسر على أعرابي في بداية الإسلام يسأل كيف الوضوء أن يدرك هذه المسائل الفقهية.
ثانياً: أن ما إِستدل به من الأمر بالمضمضة محمول على الندب، والاستحباب، والصارف له عن ظاهره دليل الكتاب، والسنة المتقدم.
وعليه فإنه يترجح القول بعدم وجوب المضمضة، والإستنشاق، وأنهما من سنن الوضوء لا من فرائضه والله أعلم.
ولو قال قائل: إنّ النبي عليه الصلاة والسلام داوم على المضمضة، والاستنشاق فجوابه: أن النبي عليه الصلاة والسلام داوم على السنن من باب التعليم لا من باب الإلزام، ألا تراه عليه الصلاة والسلام بإجماع الروايات عنه ما توضأ إلا غسل كفيه قبل أن يتوضأ، والذين قالوا بوجوب المضمضة والاستنشاق يُسلّمون بأن غسل الكفين قبل الوضوء لغير المستيقظ من النوم أنه مستحب، وليس بواجب فدل على أن المداومة تكون على ما هو واجب، وعلى ما هو غير واجب، فلا يقوى الإستدلال بها إستقلالاً على الوجوب عموماً.
قوله رحمه الله: [وغَسْلُ اليَديْنِ]: الفرض الثاني: غسل اليدين، واليدان: مثنى يد -وسيأتي إن شاء الله حدُّهما عند الكلام على حدِّ الوجه-.
واليدان أمر الله بغسلهما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فأمر بغسل اليدين، والأمر دال على الوجوب إلا أن يصرفه صارف، ولا صارف هنا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم غسل كلتا يديه إلى المرفقين.
والواجب الغسل من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والمرفقان داخلان في الغسل، فلو غسل يديه، ولم يغسل المرفقين لم يصح وضوءه في قول الجماهير، وذهب داود بن علي الظاهري -رحمة الله على الجميع- إلى القول بأن المرفقين ليسا بداخلين في الغسل، قال إن قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إِنّ: {إِلَى} غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها كقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) فإن الليل لا يجب صيامه، والقاعدة في الأصول:" أن ما بعدَ الغايةِ مُخالفٌ لما قَبْلَها فِي الحُكْمِ " ولذلك قالوا: لا يجب غسل المرفقين، والمرفقان: مثنى مرفق، وهو عند مفصل الساعد، مع العضد وسُمّي بذلك من الارتفاق، لأن الإنسان إذا جلس إِرتفق عليه.
والصحيح أن المرفقين داخلان في الغسل وذلك لما يلي:
أولاً: لظاهر القرآن في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فقوله: {إِلَى} بمعنى مع، وهي تأتي في لغة العرب بهذا المعنى،
(1) البقرة، آية:187.
ومنه قوله تعالى: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (1) أي: مع الله فإلى بمعنى: مع، فيكون قوله تعالى:{إِلَى الْمَرَافِقِ} أي: مع المرافق.
ثانياً: أن قولهم: " إِن ما بعدَ الغايةِ مُخالف لما قَبْلَها في الحكم " محل نظر فإنّ الغايَة لها حالتان:
الحالة الأولى: أنْ تكون من جنس المُغيّا.
الحالة الثانية: أنْ تكون من غير جنس المُغيّا.
فإن كانت الغاية من جنس المُغيّا دخلت، وإن كانت من غير جنسه لم تدخل.
وتوضيح ذلك: أن المرفقين من جنس اليد؟ لأنّ اليد في الأصل من أطراف الأصابع إلى المنكب، فلما قال:{إِلَى الْمَرَافِقِ} دخلت لأنها من جنس اليدين.
وأما قوله سبحانه: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} الغاية فيه الليل، وهي ليست من جنس المُغيّا، وهو النهار المأمور بصومه، فلم يدخل الليل الذي هو الغاية في المُغيّا لأنها ليست من جنسه.
ثالثاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: [تَوضَّأَ فغسلَ يديْهِ حتى شَرَعَ في العَضُدِ] يعني كاد أن يغسل عضده وهذا يدل على أن المرفقين قد غسلتا من النبي صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يترجح قول الجمهور رحمهم الله بوجوب غسل المرفقين مع اليدين.
(1) آل عمران، آية:52.
واليد عامة تشمل اليد الصحيحة، والمشلولة، والمقطوعة، فلو أن إنساناً كانت يده شلاء وجب عليه غسلها فيصبُّ الماء عليها، ولو قُطِعَت، وبقي من الفرض شيء فإنه يجب عليه غسل ما بقي بعد القطع، ويجب غسل اليد بكامل ما فيها سواء كانت على أصل الخلقة فيها خمسة أصابع، أو زادت إلى ستة، أو سبعة، أو أكثر فإنه يجب غسل الجميع وذلك لأن الله عز وجل أمر بغسلها في قوله:{وَأَيْدِيكُمْ} ولا شك أن المكلف إن زادت خلقته في اليد، أو نقصت فإنها داخلة في هذا الوصف أعني كونها يداً له مأموراً بغسلها.
قوله رحمه الله: [ومَسْحُ الرّأسِ]: الفرض الثالث: مسح الرأس، والمسح هو إمرار اليد على الشيء؛ تقول: مسحت برأس اليتيم؛ إذا أمررت يدك عليه، والمراد بالمسح هنا سكب الماء على يده، ثم إمرارها على رأسه مبلولة بالماء.
وحدُّ الرأس المأمور بمسحه يبدأ من الناصية إلى القفا، وهذا بالنسبة للطول، ثم من عظم الصّدغ إلى عظم الصّدغ عرضاً، والدليل على كون مسح الرأس فرضاً قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فإن قوله: {امْسَحُوا} أمر، والقاعدة في الأصول:" أنّ الأمرَ للوجُوبِ؛ ما لمْ يَصْرِفْه الصَّارفُ " ولا صارف هنا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه، ولم يترك المسح في وضوئه البتّة، والإجماع من العلماء منعقد على أنه يجب مسح الرأس، وأنّ من توضأ، ولم يمسح برأسه لم يصحّ وضُوءه.
المسألة الثانية: ما هو القدر الواجب مسحه من الرأس؟ والجواب: أنه إِختلفت أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة:
القول الأول: إنه يجب مسح الرأس كله وهو مذهب المالكية في المشهور، وإحدى الروايات عن الإمام أحمد -رحمة الله عليه- واختارها غير واحد من أصحابه، ومنهم الإمام ابن قدامة رحمه الله.
القول الثاني: أن الواجب مسح ربع الرأس، وبه قال الإمام أبو حنيفة، وأصحابه -رحمة الله على الجميع-.
القول الثالث: أن الواجب مسح ثلاث شعرات، وأن ما زاد عليها ليس بواجب، وبه قالت الشافعية -رحمة الله على الجميع-.
وهناك رواية عند المالكية أن الواجب ثلث الرأس هذه محصل أقوال العلماء في مسألة مسح الرأس.
فيرد السؤال: ما هي أدلة العلماء على هذه الأقوال:
والجواب: أن من قال بوجوب مسح الرأس كله: إحتج بظاهر القرآن في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} قالوا: إن قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} الباء للإلصاق، والمراد: إمسحوا رؤوسكم، وليس المراد بها التبعيض، وقال بعضهم في وجه دلالة الآية: إن الباء زائدة، وهو اختيار بعض المفسرين ممن يرجح هذا القول، فيقولون: إن قوله: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} أي: إمسحوا رؤوسكم، وهذا مثل قوله تعالى في قراءة:{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} التقدير: تُنْبِتُ الدهن، والباء زائدة.
وهنا ننبه على مسألة، وهي أن قول العلماء:" الباء " زائدة، أو " مِنْ " زائدة ليس مراد العلماء أنه حرف زائد لا معنى له في كتاب الله، فإن بعض المتأخرين يُسيءُ الأدب مع أهل العلم المتقدمين، دون إلتفات إلى مصطلحاتهم، ومقصودهم، وهنا أنبه على أن مراد العلماء -رحمة الله عليهم- بكونها زائدة ليس إلغاء كونها من القرآن؛ وإنما المراد أن المعنى إرادة الكل لا إرادة البعض مثل قولنا هنا:{امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} أي: أنها لم تأت للتبعيض، فيقولون هي زائدة، وحملها على الزيادة الحقيقية بمعنى أنها ملغاة من القرءان يقتضي الكفر، فإن من أنكر حرفاً من كتاب الله ثابتاً بالتواتر يكفر -والعياذ بالله- وهذا لا يقوله جاهل من عوامّ المسلمين، فضلاً عن علماء الأمة الذين هم أهل العلم، والدراية، والرواية، فلا ينبغي للإنسان أن يكون بسيط الفهم ساذجاً ينكر على العلماء -رحمة الله عليهم-، دون تروٍ، وفهمٍ لمقصودهم فإذا قالوا قراءة شاذّة، أو حرفاً زائداً؛ فليس مرادهم الشّذوذ بمعنى الانتقاص، والتحقير، ولا الزيادة بمعنى الإلغاء؛ إنما هو معنى موجود في هذه الحروف بأصل اللغة، والقرآن جاء بهذه اللغة التي من معانيها ما ذكروه، ولذلك تأتي الباء لأكثر من عشرة معان جمعها بعض الفضلاء بقوله:
تَعَد لُصُوقاً واسْتَعنْ بِتَسَبُّبٍ
…
وبَدل صِحَاباً قَابَلُوكَ بِالاسْتِعْلا
وزِدْ بَعْضَهُمْ ظَرْفَاً يَميناً
…
تَحُزْ معَانِيَها كُلَاّ
الدليل الثاني لهم السُّنة: وهو: [أن النبي صلى الله عليه وسلم توضّأ، فمسح جميع رأسه]، كما ثبت ذلك في صفة وضوئه في الأحاديث الواردة في الصحيحين وغيرهما، ولم يحفظ عنه في حديث صحيح أنه اقتصر على بعض الرأس، أو جزء من الرأس، أو على ثلاث شعرات منه، فلو كان الاقتصار على البعض جائزاً لفعله، ولو مرة واحدة -صلوات الله وسلامه عليه-.
هذا بالنسبة لأدلة من قال بوجوب مسح الرأس كله.
وأما دليل من قال: إنه يجب مسح ربع الرأس، وهم الحنفية -رحمة الله عليهم- فقد إحتجوا أولاً بالآية فقالوا: إن قوله {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُم} الباء للتبعيض، وهذا معروف في لغة العرب كما قال تعالى:{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} (1) فليس المراد أنه أخذ الرأس كلِّه، ولكن أخذ البعض فَنُزِّل منزلة الكل، وتقول: أخذت برأس اليتيم، وليس المراد أنك أخذت بالرأس كلِّه؛ وإنما أخذت بعضه فكأنك أخذت الكل؛ لأنه بمجرد شدِّك لجزء من الرأس ينشدُّ جميع الرأس فيقال: أخذ برأسه فقوله: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُم} للتبعيض.
وأما الدليل الثاني فقد إحتجوا: بحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توضأ في غزوة تبوك: [مسحَ بِنَاصِيَته، وعلى العِمَامَةِ] قالوا: والناصية تقدّر بربع الرأس، ولذلك يقدّرونها بأكثر أصابع الكفّ فلا يجزئ المسح بما دونها، وهذا أصل عندهم، وتوضيحه من باب الفائدة: أن عندهم
(1) الأعراف، آية:150.
أن أكثر الشيء منزل منزلة الكلِّ، وهذا أصل طردوه في مسائل لا تحصى كثرة في العبادة، والمعاملة، ولذلك تجدهم يصحّحون طواف من طاف أربعة أشواط بالبيت؛ لأنّ أكثر الطواف أربعة أشواط، فلو ترك الثلاثة قالوا: يصح، ويلزمه الجبران لما بقي، ولم يحكموا ببطلان جميع الطواف، وهكذا السعي، هذا أصل عندهم أن أكثر الشيء منزل منزلة الكلِّ فقالوا: إن ربع الرأس إذا مُسح بأكثر الأصابع يجزئ، ويكفى في هذا الفرض الذي أمر الله عز وجل بمسحه.
وأما الذين قالوا: إنه يمسح ثلاث شعرات؛ فقد احتجوا بقوله تعالى: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُم} قالوا: الباء للتبعيض، وبناءً على ذلك يكون قوله:{امْسَحُوا بِرُءُوسِكُم} أي: بعض رؤوسكم، ولا يجب مسح كلِّ الرأس، وهذا البعض الذي يصدق عليه الجمع إنما هو الثلاث، فأكثر؛ لأنها أقلُّ الجمع، وبناءً على ذلك قالوا: أقلّ الرأس ثلاث شعرات، فإذا مسح الثلاث صدق عليه أنه مسح برأسه، وهكذا لو حلق في الحج، أو العمرة ثلاث شعرات، أو قصّر ثلاث شعرات أجزأه هذا أصل عندهم -رحمة الله عليهم-.
هذه حاصل أدلة من قال بالتبعيض يبقى فقط القول الأخير الذي حكيناه رواية عن الإمام مالك أن الثلث من الرأس يجزئ هذا أصل عند المالكية -أيضاً- أن الثلث فرق عندهم بين القليل والكثير في العبادات، والمعاملات، ومنها ثلث الخفّ إذا كان مخرقاً في المسح على الخفين، وهكذا في المعاملات كما في مسألة المساقاة، والمزارعة إذا كان في الأرض المساقى عليها بياض دون ثلثها الذي سُقِىَ عليه لحق المساقاة، وجاز أن يتعامل مع العامل على
إحيائه، وزراعته قالوا: إِن إِعتبار الثلث فرقاً في المذهب بين القليل، والكثير مبني على السنة الصحيحة وذلك في حديث سعد رضي الله عنه في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الثُّلثُ، والثُّلُثُ كَثير] قالوا: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الثُّلُثُ كَثيرٌ] فوصفه بكونه كثيراً فصار حكماً شرعياً في الفرق بين القليل، والكثير عندنا، فمن مسح ثلث رأسه فإنه يُجزيه هذا قول طائفة من أصحاب الإمام مالك -رحمة الله عليه- لكن المذهب على وجوب مسح الكلِّ.
هذه محصّل حجج العلماء في مسألة المسح على الرأس.
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بوجوب مسح الرأس كلّه، وذلك لما يأتي:
أولاً: لظاهر القرآن فإنّ حمل الباء على التبعيض تجوّزٌ، والأصل حملها على ما ذكر من الإلصاق لأنه أقرب إلى معنى المسح، فإنّ قولك: مسحت برأسه على أنه للإلصاق أقرب من قولك: إنه للتبعيض؛ لأن التبعيض خلاف الأصل، ولذلك يأتي غالباً في المعاني المجازية.
الأمر الثاني: أن السنة التي اُحتج بها على التبعيض، في دليل القول الثاني الذين قالوا بوجوب مسح ربع الرأس يجاب عنها: بأن الحديث فيه مسح بناصيته، وعلى العمامة، فَيصِحُّ الاستدلال بهذا الحديث أنْ لو اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على مسح الناصية، بل نقلب دلالة هذا الحديث، ونقول هو حجة لنا لا علينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتبع الناصية بالعمامة فدل على وجوب مسح جميع الرأس لكن هنا إشكال أورده الحنفية -رحمة الله عليهم - قالوا: لو قلتم إن
مسحه للعمامة المراد به مسح فرض لبطلت أصولكم؛ لأنه لا يصح في الأصل أن يجُمع بين البدل، وبين المبدل؛ فإن الرأس إما أن يمسح عليه، أو يمسح على العمامة، فإما أن تقولوا مسح على الفرض، وهو الناصية ويكون مسحه على العمامة لاغٍ؛ فيستقيم دليلنا، أو تقولوا: مسح على العمامة، والناصية ملغاة، وهذا خلاف الظاهر فكيف الجواب عن هذا الإشكال؟
والجواب: أن يقال: إن المسح على العمامة في هذا الحديث هو الأصل؛ ولكن يجوز في العمامة أن يُكشف ما جرت العادة بكشفه بدليل أن من تعمّم العمامة المعروفة فإن السوالف تخرج، والخارج المعتاد مغتفر في المسح على العمامة، ولكنه يمُسح إبقاء على الأصل، والناصية كشفها صنيع أهل الفضل، لأن أهل الفضل لا يبالغون في إِرخاء ستر الوجه إلى حواجبهم؛ لأن ذلك غالباً من صنيع أهل الكبر، والخيلاء، ولذلك قالوا: إنه يُكشف عن الناصية، ويكون كشف النبي صلى الله عليه وسلم عنها في هذا الحديث؛ إنما هو من باب ما جرت به العادة بكشفه، فلا يرد ما ذكروه، ويكون مسحه على العمامة أصلاً، ومسحه على الناصية تبعاً، وبناءً على ذلك لا يرد هذا الإشكال، ويستقيم مذهب من قال بوجوب مسح جميع الرأس.
أما استدلال بعض المالكية بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الثُّلثُ، والثلُثُ كَثِيرٌ] نقول يصح الاستدلال بهذا الحديث في ما طلب التقدير في جزءه، أي أننا نسلم الإستدلال به في الأمور التي إكتفى الشرع فيها بجزئها، لكن في الأمور التي أمر الشرع بها كُلاً لا يورد فيها مثل هذا النص الدال على تسامح الشرع في البعض، لأنّ مسح الرأس ظهر أن الشرع يريده كاملاً، وما ظهر أن
الشرع يريده كاملاً لا يورد فيه ما دل على إجزاء البعض فيه كما في بقية الفروض التي قصد الشرع غسلها كاملة كاليد مثلاً، فليس لقائل أن يقول: يغسل الإنسان ثلث يده لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: [الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِير] لأننا نقول إن اليد أمر الشرع بغسلها كلها، وكذلك هنا في الرأس أمر بمسحه كله، فلا يستقيم الإحتجاج بهذا الحديث، وبهذا يترجح القول بمسح الرأس كله والله تعالى أعلى وأعلم.
والسنة عنه عليه الصلاة والسلام في مسحه لشعره: أنه بدأ من مقدمه حتى بلغ قفاه، ثم رجع إلى مُقَدَّمِهِ هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه- قال:[بدأ بمقدم رأسه حتى بلغ قفاه ثم ردهما إلى الموضع الذي، بدأ منه].
وقال بعض العلماء: بل يبدأ من القفا حتى يصل بهما إلى المقدم، ثم يعود إلى القفا، واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه المتقدم وفيه:" أَقبلَ بِهما، وأَدبر " قالوا: " أقبل بهما " أي: من القفا إلى المُقَدَّمِ، وأدبر أي: ردهما إلى القَفَا.
والذي يظهر: أن قوله: [أقْبَلَ بِهما، وأَدبر] من باب تقديم المؤخر، وتأخير المُقَدَّمِ وهو معنى معروف في لغة العرب أنهم يقولون: أقْبلَ، وأَدبر، ومرادهم: أنه أدبَر، ثم أقْبل، ومنه قول إمرؤ القيس يصف جوادَه:
مِكَرٍ مِفَرٍ مقْبِلٍ مُدْبرٍ مَعاً
…
كجُلْمُود ِصَخْرٍ حَطهُ السيلُ مِنْ عَلِ
فإن قوله: (مكرٍ، مفرٍ) مراده به: أنه فرَّ أولاً، ثم كرَّ بعد ذلك؛ لأن الكَرَّ لا يكون إلا بعد الفرار، فالفارس يفرُّ أولاً، ثم بعد ذلك يَكِرُّ، فيكون قوله: مِكَرٍ، مِفَرٍ من باب تقديم المؤخر، وتأخير المُقَدَّمِ، وكذلك قوله:(مُقْبلٍ، مُدبرٍ معاً) فإن الأصل أنه: أدبر أولاً، ثم أقبل على العدو، فهذا معروف في اللغة فيكون قول الصحابي رضي الله عنه في صفة مسحه عليه الصلاة والسلام:[فأقْبل بهما، وأَدبر] محمولاً على هذا المعنى: أنه أدبر، ثم أقبل.
وهناك وجه ثالث قال أصحابه فيه: نجمع بين الحديثين، وهو أن قوله:[أقبل بهما، وأدبر] المراد به بكلتا اليدين، فإحداهما مقبلة، والأخرى مدبرة، فيضع يديه في منتصف الرأس، ويقبل باليمنى إلى مقدّم الرأس، ويدبر باليسرى إلى مؤخره، والصحيح: ما ذكرناه أنه أقبل بهما، وأدبر المراد به: أدبر بهما، ثم أقبل للرواية المبيّنة وهي قوله رضي الله عنه:[بدأَ بِمُقدّم رَأسِه حتّى إنتَهى إِلى قَفاهُ، ثمّ رَدّهما إلى المكان الذي بدأ منه].
قوله رحمه الله: [وغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ]: هذا الفرض الرابع الذي أمر الله بغسله، وهو الرجلان، وقد أجمع أهل العلم رحمهم الله على أن غسل الرجلين من فرائض الوضوء.
وخالف بعض من لا يعتد بخلافه، وقالوا: إن الرجلين يجب مسحهما، ولا يجب غسلهما.
قالوا إن قوله: {وأرجلِكم} بالجر في قراءة معطوف على قوله: {امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، وبناءً على ذلك يكون التقدير:{وامْسَحُوا أرجلَكم} وهذه
القراءة يجاب عنها: بأن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} الجر فيها للمجاورة، ومنه قول الشاعر:
لَعِبَ الزَّمانُ بِها بَعْدي
…
وغيَّرها سوافي المَورِ والقَطْرِ
فإن الأصل: والقطرُ أي: غيّرها القطرُ فقوله: والقطرِ راعى فيه الجرَّ بالمجاورة لقوله: المورِ، وإلا فالأصل في التقدير أن يقول: والقطرُ، ولا يقول: والقطرِ، وأما قراءة النّصبِ فهي قوية واضحة في الدلالة على الوجوب، وأن الرجلينِ فَرضُهما الغسلُ، لا المسح، ثم يجب غسل الرجلين من أطراف الأصابع إلى الكعبين والكعبان داخلان في الغاية، والخلاف فيهما كالخلاف في المرفقين، فالمقصود أنه يجب غسل الكعبين والكعبان هما العظمان الناتئان في آخر الساق، ويجب غسلهما، فلو غسل رجليه، ولم يغسل الكعبين لم يصح وضوءه؛ لأن الله أمر بغسلهما، وقال:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أي مع الكعبين؛ لأن الغاية داخلة في المغيا فهي من جنسها فإن الكعبين ليسا من الساق، وإنما هما من القدم، والقدم في الظاهر عليهما، لأن حركته ووضعَه في رفعه قائم على الكعبين، فهما من القدم، وليسا من الساق، وبناءً على ذلك يجب غسل الرجلين، ولا يجزئ مسحهما.
وببيان ما سبق نكون قد إِنتهينا من أربعة فرائض، والفرض الأخير هذا ثبت وجوبه بدليل الكتاب كما قلنا في الآية وبدليل السُّنة من مواظبته عليه الصلاة والسلام على غسل رجليه إذا لم يكن عليهما خفٌّ، أو جورب، والإجماع، فليس هناك أحد من أهل العلم رحمهم الله يقول: إنّ الرجلين لا
يجب غسلهما إلا الخلاف الشاذّ الذي أشرنا إليه سابقاً، يُستثنى من ذلك المسح على الخفين، والجوربين فإنه إذا غطى قدميه بالخفين نُزِّل المسحُ منزلةَ الغسلِ؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث المتواترة، ولذلك ورد عن أكثر من ستين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفّيه، حتى إن أهل السنة، والجماعة إذا ذكروا عقيدة أهل السُّنة، والجماعة أدخلوا فيها سُنِّية المسح على الخفين؛ مبالغة في ردّ قول أهل البدع، والأهواء الذين لا يرون المسح على الخفين؛ لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث المتواترة كما قال صاحب طلعة الأنوار رحمه الله:
ثمّ مِنَ المشْهُورِ ما تَواتَرا
…
وهْوَ ما يرْويهِ جَمعٌ حُظِرا
كَذِبُهم عُرْفاً كَمسْحِ الخفِّ
…
رفعُ اليَديْنِ عَادِمٌ للخُلفِ
وقَدْ روى حَديثَهُ مَنْ كَتَبا
…
أكثرُ مِنْ سِتّينَ مِمّن صَحِبا
أي أن المسح على الخفين ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر من ستين من أصحابه -صلوات الله وسلامه عليه- و رضي الله عنهم أجمعين- فيُنزَّل المسح على الخفين منزلة غسل الرجلين لإذن الشريعة به، ولذلك قال بعض المفسرين في قوله:{وَأَرْجُلَكُمْ} في قراءة الجر قال: إنها محمولة على حالة المسح على الخفين، وينزّل الجوربان منزلةَ الخفين على أصح قولي العلماء رحمهم الله كما سيأتي.
قوله رحمه الله: [والتّرتِيبُ]: يقال رتّب الأشياءَ: إذا جعل كل شيء منها في موضعه، وجعلها تلو بعض، فقدّم ما حقّه التقديم، وأخّر ما حقّه التأخير
والمراد بقوله هنا: الترتيب؛ أن يُوقع الغَسلَ، والمسح على التّرتيب الذي جاءت به آية المائدة، فيبدأ بغسل وجهه، ثم غسل يديه، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه، فلو قدم مسح الرأس على غسل الوجه لم يُجْزِه، ولو قدّم غسل الرجلين على مسح الرأس لم يُجْزِه، وهكذا.
إذاً الترتيب أن يوقع الأعضاء المأمور بغسلها، ومسحها على وفق آية المائدة.
وهذا الترتيب دلّ عليه دليل الكتاب: فإن الله عز وجل أمر بغسل الوجه، ثم أتبع الوجه اليدين، ثم أتبعهما بمسح الرأس، ثم أتبع الجميع بغسل الرجلين، والواو لا تقتضي الترتيب في لغة العرب إلا عند وجود القرائن الدالة على الترتيب، فهو ليس بأصل فيها فأنت إذا قلت مثلاً: جاء محمد، وعلي لا يستلزم ذلك أن يكون محمد جاء أولاً، ثم من بعده علي إذ يجوز أن تقول: جاء محمد، وعلي، وقد كان علي قد جاء أولاً، ويجوز أن تقول: جاء محمد، وعلي وقد جاءا مع بعضهما، لا يسبق أحدهما الآخر إذاً فالواو في قوله:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} وقوله بعد ذلك: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم} الواو في هذه الأربع لا تفيد التّرتيب نصّاً لكن فُهِم الترتيبُ من سياقها، وذلك أنه لا معنى لإدخال الممسوح بين المغسولين إلا إرادة التّرتيب الوارد فإن الله عز وجل أدخل المسح على الرأس، وهو ممسوح، وجعله بين مغسولين، وهما اليدان، والرجلان، فلو كان الترتيب ليس بلازم لذكر المغسولات أولاً، ثم أتبع بالممسوح، أو ذكر الممسوح أولاً، ثم أتبع بالمغسول، فلا وجه لإدخال المسح بين الغسل على هذه الصورة إلا إرادة الترتيب بين تلك الأعضاء بحسب ورودها في الآية الكريمة.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: [تَوضّأ كَمَا أَمَركَ الله عز وجل] أي على الصفة التي وردت في كتاب الله عز وجل وقد وردت فيه مرتبة.
ثالثاً: أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضاً فقدم عضواً على عضو على خلاف ترتيب الآية الكريمة.
لكن هنا إشكال في الحديث الذي ورد من كونه عليه الصلاة والسلام تمضمض بعد أن غسل وجهه، فكيف نجيب عن هذا الإشكال؟
والجواب: أن الترتيب في أعضاء الوضوء يقع على الصور التالية:
أولاً: الترتيب بين مفروض، ومفروض.
ثانياً: الترتيب بين مسنون، ومسنون.
ثالثاً: الترتيب بين مفروض، ومسنون.
فأما الترتيب بين مفروض، ومفروض فكغسل اليدين بعد غسل الوجه، وهو مفروض، ولازم.
وأما الترتيب بين مسنون، ومسنون فكالترتيب بين المضمضة، والإستنشاق بأن يوقع المضمضة أولاً، ثم يستنشق بعدها، وهو مسنون.
وأما الترتيب بين مفروض، ومسنون؛ فكالمضمضة، والإستنشاق، مع غسل الوجه يبدأ بالمضمضة أولاً، ثم الإستنشاق وكلاهما سنة، ثم يغسل وجهه، وهو الفرض، وهذا الترتيب مسنون أيضاً، والذي ورد في الحديث من كونه غسل وجهه، ثم تمضمض؛ إنما هو بين مسنون، ومفروض، ومحل الكلام فيما بين المفروضات، وبناءً على ذلك يكون هذا الحديث لا علاقة له بالترتيب الواجب، ولا يصحّ الإستدلال به على إسقاطه، وهذا أمر يُغْفِله
بعض طلاب العلم أنه يحتج بهذا الحديث على إلغاء الترتيب، وليس في الحديث دلالة؛ إنما يستقيم الإستدلال بالحديث أن لو غسل النبي صلى الله عليه وسلم يديه قبل وجهه، أو قدّم مسح رأسه على غسل اليدين؛ أما عدم الترتيب بين المسنونات، أو بينها، وبين الفرائض؛ فالأمر فيه واسع ليس كالفرائض.
هذا الترتيب إنما هو في الفرائض إذا كان بين عضو، وعضو، كما قدمنا في ترتيب اليدين بعد الوجه، وأما إذا كان العضو واحداً متعدداً، كالأعضاء المثناة، فلا يجب الترتيب، ففي اليدين والرجلين يجوز لك أن تغسل اليمنى قبل اليسرى، وأن تغسل اليسرى قبل اليمنى، ولا يشترط الترتيب بين اليمنى، واليسرى؛ لأنّ الله عز وجل أمر بغسل اليدين مطلقاً، وهذا قد غسل يديه، وفِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم اليمنى على اليسرى كمالٌ؛ لقول عائشة رضي الله عنها:[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُه التَّيمنُ في تَنَعُّلِهِ، وتَرجُّلِه، وطُهُورِهِ، وفي شَأنِه كُلِّه]، وبناءً على ذلك لا يجب الترتيب بين المسنونات، ولا بين الأعضاء المثناة كاليدين والرجلين.
قوله رحمه الله: [والموالاة]: المراد به أن تقع هذه الفروض على الولاء بعضها يلي بعضاً، دون وجود فاصل مؤثر، وتوضيح ذلك: أن يغسل وجهه، ثم يقوم بغسل يديه قبل أن ينشف وجهه، ثم يمسح رأسه قبل أن تنشف يداه، ثم يغسل رجله قبل أن ينشف الماء الذي مُسح به رأسه، هذا هو مراد العلماء بالموالاة، ولذلك قال العلماء ضابطها: أن لا ينشف العضو المفروض قبل أن يبدأ بالفرض الذي يليه، مثال ذلك: لو أن إنساناً توضأ في بيته، ثم انقطع الماء أثناء الوضوء، وكان قد غسل وجهه، فقام من موضعه
إلى موضع آخر فيه الماء، ومشى حتى بلغه فحينئذ ننظر فإن كان الفاصل الذي بين انقطاع الماء، وغسله للعضو فاصلاً مؤثراً؛ بمعنى أنه ينشف فيه العضو في الزمان المعتدل الذي هو ليس بشديد البرد، والحر، (لأن الحر فيه نوع من الرطوبة خاصة إذا كان الإنسان في الظل فيبقى العضو طرياً إلى أمد أكثر والبرد مع الهواء، والريح يحصل به النشاف بسرعة) فلو قُدِّر مثلاً إلى خمس دقائق أن العضو في الزمان المعتدل ينشف نقول: إذا مضت خمس دقائق ما بين غسله لوجهه، وغسله ليديه بعد عثوره على الماء بطل وضوءه، وإن كان دون ذلك صحَّ، ولم يؤثر وجود هذا الفاصل.
والأصل في فرضية الموالاة دليل السنة، وذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: [لمّا رأى على قَدَمِ الرَّجُلِ قَدْرَ لُمْعَةٍ لَمْ يُصِبْها الماءُ أَمَره أَنْ يُعيدَ وضُوءَه، وصَلَاته]-صلوات الله وسلامه عليه- فدلّ هذا على أن الولاء من فرائض الوضوء لأن أمره بإعادة الوضوء يدل دلالة واضحة على بطلان الوضوء بغير موالاة.
قال رحمه الله: [والنِّيةُ شَرْطٌ لِطَهارةِ الأَحْداثِ كُلِّها]: النِّية: مأخوذة من قولهم نوى الشيء، ينويه نيّة، ونيَة بالتخفيف، والتّشديد.
والنِّية في لغة العرب معناها: القصد، تقول: نويت الشيء إذا قصدته، سواء كان ذلك في القول، أو الفعل وقولهم أعني العلماء رحمهم الله:(النّية شرطٌ في طهارة الأَحداثِ) مرادهم بذلك أن يقصد المكلف العبادة، ويكون قصده مشتملاً على أمرين: الأول: التقرب لله -جل وعلا-، والثاني: رفع الحدث، واستباحة ما تشترط الطهارة لفعله: كالصلاة، والطواف، ولمس المصحف.
والأصل في وجوب النية، ولزومها في العبادات قول الله -تعالى- مخاطباً نبيه:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) فقوله تعالى: {فَاعْبُدِ} أمر وقوله سبحانه: {مُخْلِصًا} أي حال كونك مُخْلِصًا له الدين، ومن المعلوم أنه لا يتحقق الإخلاص إلا بتجريد النية لله، وبناء على ذلك توقف اعتبار العبادة على نية القربة، فلو أن إنساناً أراد أن يصلي، ولم يقصد العبادة لله -جل وعلا- أو فعل أفعال الصلاة وقصد بها رياضة البدن فإنها لا تعتبر عبادة مجزئة، إذاً لا بد في العبادة من قصد القربة لله سبحانه وتعالى، والوضوء عبادة من العبادات، فهو داخل تحت هذا الأمر، فتجب فيه النية.
وأما قصد رفع الحدث؛ فهو أعم المقاصد في النية في الطهارة، وبه يرتفع الحدث الأصغر والأكبر، فيستبيح فعل جميع ما تشترط له الطهارة، دون استثناء، وأما إذا قصد استباحة معين لزمه تعيينه في قول الجمهور لحديث عمر رضي الله عنه أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلم قال:[إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكُلِّ امرئٍ ما نوى] فقد دل الحديث بمنطوقه على أن من نوى شيئاً كان له، وبمفهومه أن من لم ينو شيئاً لم يكن له، فأخذوا منه دليلاً على التفريق بين نية رفع الحدث العامة، ونية الإستباحة الخاصة، وهذا النوع الثاني في النية وهو قصد رفع الحدث، أو الإستباحة الخاصة هو الذي يقصده العلماء رحمهم الله في مسألة نية الوضوء، وأما النوع الأول: وهو الإخلاص، وقصد القربة لله عز وجل، فإنه معلوم من الشرع بداهة لأن
(1) الزمر، آية:2.
العلماء أجمعوا على أن العبادات لا تصح إلا بنية، وقد قرر الإمام الشاطبي رحمه الله مبحثاً نفيساً ينبغي على طالب العلم أن يرجع إليه في كتابه الموافقات في الجزء الأول منه حيث عقد فصلاً كاملاً لتقرير وجوب النية، ولزومها في العبادات، وبيّن وجه اعتبار الشرع لها، وإلزامه للمكلف بها، الشاهد من هذا أنه لا يصح إيقاع الوضوء، والغسل من الجنابة، وغيرها على الوجه المعتبر شرعاً إلا إذا نوى الإنسان به رفع الحدث، أو الإستباحة على التفصيل المتقدم، فلو أن إنساناً غسل، ومسح أعضاء الوضوء قاصداً التبرد، أو نظافة البدن لم يُجْزِهِ ذلك الوضوء؛ إلا إذا نوى به الوضوء الشرعي، وكذلك الحال لو أنه كانت على الرجل جنابة، أو إمرأة طهرت من حيضها ثم انغمس كل منهما في بركة، وكان عند انغماسه قاصداً التبرد في زمان صيف، فإن هذه النية لا تجزيهما، ويلزمهما الغسل مرة ثانية بنيّة رفع حدث الجنابة، والحيض وهذا هو الذي عبّر المصنف رحمه الله عنه بقوله:[لِطَهارةِ الأحداث] والأحداث هنا عامة أي سواء كانت صغرى، أو كبرى، ومفهوم قوله:[الأحداث] أن طهارة الخبث لا تشترط لها النية، لأنها من الوسائل، وليست من المقاصد، والإجماع على أن الوسائل لا تشترط لها النية.
قوله رحمه الله: [والنّيةُ شَرْطٌ]: الشرط في اللغة: العلامة.
وأما في اصطلاح العلماء: (فما يلزم من عَدمِه العدمُ، ولا يلزم من وجُوده الوجود).
مثال ذلك: الوضوء شرط لصحة الصلاة يلزم من عدم الوضوء عدم صحة الصلاة، لأننا نقول إنه شرط لصحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الوضوء وجود الصلاة؛ فإن الإنسان قد يتوضأ، ولا يصلي هذا معنى قولهم:[ما يلزمُ من عدمِه العدمُ، ولا يلزم من وجودِه الوجود].
وقوله: [شَرْطٌ لطهارةِ الأحْداثِ كُلِّها]: فيه عموم، وذلك في قوله:[كلّها]، فشمل الأحداث الصغرى والكبرى، فكلّها تشترط النية فيها، وهذه مسألة خلافية إختلف فيها جمهور العلماء مع الإمام أبي حنيفة، وأصحابه رحمة الله على الجميع؛ فالجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية يرون: أن الوضوء، والغسل لا يصحّ إلا بالنية، فمن توضأ بنية التَّبرد، وكان عليه حدث أصغر؛ فإنه لا يجزيه، وهكذا لو إِغتسل تبرداً، أو نظافة، وعليه جنابة.
وذهب الإمام أبو حنيفة، وأصحابه إلى: أن الوضوء، والغسل يصحّ كلٌ منهما بدون نية، فإذا توضأ، أو اغتسل بدون نية رفع الحدث، أو كان قاصداً النظافة؛ فإنه يجزيه، ويصحُّ منه.
واحتج الجمهور بدليل الكتاب، والسُّنة، والعقل.
أما دليل الكتاب فقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وجه الدلالة: أن الوضوء عبادة، فلا يصح إلا بنية، وكذلك قوله سبحانه:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1)، والدليل على كونه عبادة أنه غَسْل
(1) البينة، آية:5.
للأعضاء على صفة مخصوصة، ولذلك أمر بغسل بعض الأعضاء ومسح بعضها، ولو كان عبادة معقولة المعنى لما جاء على هذا الوجه.
وأما دليل السُّنة: فحديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنما الأعْمالُ بالنِّيات، وإنما لِكُلِّ إمْرئٍ مَا نَوى] ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن في هذا الحديث أن صحة الأعمال موقوفة على النية، والوضوء عمل، فلا يصح إلا بنية.
كذلك إستدلوا بما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: [الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمانِ] فوصف الطهور، (وهو الطهارة من الحدث بنوعيها الوضوء، والغسل) بكونه شطر الإيمان، والمراد به الصلاة، لأن الله سمى الصلاة إيماناً كما في قوله سبحانه:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم التي توجهتم فيها إلى بيت المقدس.
فإذا ثبت بدليل السنة أنّ كُلاًّ من الوضوء، والغسل شطرَ الصّلاة؛ فإن الصّلاة بالإجماع تُشترط لها النِّية فلزمت النية في شطرها، وهو الطُّهورُ أعني: الوضوء، والغسل.
وأما دليلهم من العقل؛ فالقياس حيث قالوا: تجب النِّية في الوضوء، والغسل كما تجب في التيمُّم؛ بجامع كون كل منهما طهارة تُسْتَباح بها الصلاة.
هذا حاصل ما استدل به الجمهور من دليل النّقل، والعقل.
أما الإمام أبو حنيفة -رحمة الله عليه-، وأصحابه فدليلهم العقل حيث قالوا: إن الوضوء، والغسل كلٌّ منهما عبادة معقولة المعنى، وهو وسيلة، وليس بمقصد، والوسائل لا تشترط لها النية إجماعاً، ولذلك قالوا يصح الوضوء
بدون نية، وقولهم وسيلة أي: أنه يتوصل به إلى فعل العبادة لا أنه عبادة بذاته فيكون حينئذ مثل ما لو ركب دابة ليصل إلى المسجد لم تجب عليه النية، ولم تلزمه كذا هنا.
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله: هو القول باشتراط النية لصحة الوضوء، والغسل لِصِحَّة دلالة النقل، والعقل على ذلك، وما ذكروه غير مسلم، وقد بيّنا دلالة النقل على اعتبار الوضوء، والغسل عبادةً لا وسيلة معقولة المعنى والله أعلم.
ثم هذه النية لها ضوابط:
أولاً: أنه ينبغي أن تقع قبل البداءة بالعبادة، دون فاصل مؤثر، أو عند البداءة بها مصاحبة دون سبق من أول الفعل المفروض في أول الطهارة، وذلك لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (1) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم والأمر بغسل الوجه لا يتأتى إلا بعد نيته، وتكون مُصاحبةً لأول مفروضٍ، أو واجب فإذا قام الإنسان من النوم تكون نيته عند غسله لكفيه فتكون النية عند إرادته لغسل الكفين، وإن كان في نهاره تلزمه النية عند غسله لوجهه فلو عزبت عنه قبل ذلك صحَّ وضوءه؛ لأنها تجب عند أول مفروض، ولكن بالنسبة لما قبل المفروض الأول لا يتحقق فيه الثواب كما قرره العلماء -رحمة الله عليهم- إلا بالنّية.
(1) المائدة، آية:6.
ثانيًا: النّية في الوضوء إما أن ينوي النية العامة، أو الخاصة؛ فالأول: نيّته لرفع الحدث، والثاني: نيّته لاستباحة محظور على المحدث مثل: الصلاة، والطواف، ونحوهما، فإذا نوى رفع الحدث؛ فلا إشكال في جواز فعله لجميع ما تشترط لها الطهارة، دون تفصيل؛ لأن حدثه إرتفع فزال الحاظر عن الجميع.
وأما إذا نوى إستباحة المحظور؛ فإنه يختلف بحسب اختلافه، فإما أن يكون أعلى؛ كالصلاة المفروضة.
وإما أن يكون أدنى؛ كلمس المصحف، وعليه فإمّا أن ينوي الأعلى، ويندرج تحته الأدنى، أو ينوي الأدنى ولا يندرج تحته الأعلى، وإما أن ينوي المساوي، وفيه تفصيل.
فأما إذا نوى الأعلى فمثاله: الصلاة المفروضة فإنها أعلى من غيرها، وهو النافلة، وصلاة الجنائز، والطواف، ومس المصحف، وسجود التلاوة.
فإذا نواها (أي الفريضة) صح له أن يصلي جميع ما دونها، كراتبتها القبلية، والبعدية، وغيرها من النوافل، وهكذا الطواف، ولمس المصحف، وبقية ما تشترط له الطهارة.
وأما إذا نوى الأدنى: فإنه لا يجوز له أن يستبيح به ما هو أعلى مثل: أن ينويه لنافلة لم يصحّ أن يصلي به فرضاً.
وأما إذا نوى المساوي: فيصح في حال يكون فيها مساوياً في مطلق الوصف مثل الفريضة المقضِيّة فلو دخل وقت فريضة الظهر، وكان عند وضوئه قد
نواها، ثم تذكّر أنه لم يصلّ الفجر صحَّ له أن يصلي بذلك الوضوء الفجر، والظهر، وهكذا الحال في النوافل.
واستدل من قال بهذا التفصيل بحديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، والذي تقدمت الإشارة إليه وإلى دلالته على المسألة.
وقد أشار بعضهم إلى هذه الأحوال في النِّية بقوله:
ولْيَنْوِ رَفْعَ حَدَثٍ أَوْ مُفْتَرَضْ
…
أَوْ إِسْتِبَاحةً لِممْنُوعٍ عَرَضْ
وذهب آخرون إلى أنه إذا توضأ للمسنون، والمستحب، والمفروض فإنه لا فرق وتجزيه هذه النيّة عن الكلّ، لأن الحدث عندهم يرتفع بالطهارة، بِغضِّ النظر عن نوعية النية، ويشهد لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يَقْبلُ الله صَلاةَ أَحدِكُم إِذَا أَحْدَثَ حَتّى يَتَوضأ] فإذا توضأ للمسنون، أو المستحب، ناسياً رفع الحدث؛ فإنه يُحكم بإرتفاع حدثه، وهذا ما مشى عليه المصنف رحمه الله وذلك بقوله:[فَإِنْ نَوى ما تُسَنُّ لَهُ الطهارةُ، أو تَجْدِيداً مَسْنُوناً؛ نَاسِياً رَفعَ حَدثِه؛ إِرْتَفَعَ، وإِنْ نَوى غُسْلاً مَسْنُوناً أَجْزَأَ عَنْ وَاجِبٍ]، والقول الأول مذهب المالكية، والشافعية، وهو الأقوى من حيث الدليل؛ الذي دلّ على إعتبار النيّة، والقول الثاني الذي مشى عليه المصنف هو مذهب الحنابلة رحمهم الله، وأما الحنفية فلا إشكال عندهم، لأن النية ليست واجبة في الوضوء، والغسل، فلا فرق عندهم.
ومذهب القائلين بالتفصيل ألزم للأصل، وأقوى من حيث الدليل، لأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه:[لا يَقْبلُ الله صلاةَ أَحدِكُم إِذَا أَحْدَثَ حتّى يتوضّأ] إذا أخذ بظاهره قد يستدل به على إسقاط النية أيضاً، فإذاً لا وجه للأخذ بعمومه في نية الطهارة، وحديث النية وهو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقدّم عليه، في اعتبار النية في الطهارة، وكذلك مقدّم عليه في تعيين النية، وهي مسألتنا، وقوله عليه الصلاة والسلام:[وإِنما لِكلّ امرئٍ مَا نوى] دالّ على أن من نوى الأدنى لم يجز له أن يستبيح الأعلى على التفصيل الذي قدمناه، والله أعلم.
قوله رحمه الله: [وإن نوى غُسْلاً مسْنوناً أجزأ عن واجب]: وإن نوى غسلاً مسنوناً كغسل العيدين أجزأ عن واجب كالحدث وتقدم وجهه أن الحدث يرتفع بالمسنون، وهكذا المستحب بناء على وجود النية التي تصلح لرفع الحدث بغضِّ النّظر عن وصفها.
قوله رحمه الله: [وكَذا عَكْسُه]: يعني لو نوى الأعلى لاندرج الأدنى، وهذا صحيح قولاً واحداً عند العلماء -رحمة الله عليهم-، والخلاف إذا نوى الأدنى هل يرفع الحدث فيستبيح الأعلى، أو لا؟
قلنا الصحيح: أنه لا يستبيح. وإن نوى الأعلى إِندرج تحته الأدنى، وصح له أن يصلي ما دونه كأن ينوي صلاة الظهر جاز له أن يوقع النوافل قبلها، وبعدها.
قوله رحمه الله: [وإِنْ إِجْتَمعتْ أحداث تُوجِبُ وضوءاً، أو غُسْلاً؛ فَنَوى بطهارته أحدهما إرتفع سائرها]: معناه أن من أحدث أكثر من حدث أصغر
أو أكبر إندرج بعضها تحت بعض، وأجزأت عنها طهارة واحدة، سواءً نوى رفعها كلها، أو نوى رفع بعضها، فمثاله في الحدث الأصغر: إذا بال، وتغوّط، وخرج منه الريح، فتوضأ ناوياً رفع حدث البول إرتفع الحدث عن الجميع، لأنه بنيته لرفع الحدث إرتفع حدثه في الكلّ.
وهكذا الحال في الطّهارة الكُبرى مثل: أن يحتلم، ثم يجامع أهله، أو العكس، فإنه إذا اغتسل ناوياً رفع حدث الجنابة إرتفع الحدث الأكبر كلّه، ولم يتبعض، وفي هذه المسألة وجد الأصل الموجب لارتفاع الحدث، فأجزأ عن الكل، واعتبرت للجميع النية الواحدة، من باب الحكم الوضعي.
قوله رحمه الله: [ويَجِبُ الإِتْيانُ بها عِنْد أَوّلِ وَاجباتِ الطهارةِ]: بعد أن بيّن لنا مضمون النية في الطهارة شرع رحمه الله في بيان موضع النية، ومكانها.
فقال رحمه الله: [ويجب الإتيان بها عند أوّل واجباتِ الطهارة]: يجب الإتيان بالنّية عند أوّلِ واجبات الطهارة، فأوّل واجبات الوضوء إن كان مستيقظاً من النوم: أن يغسل كفّيه ثلاثاً؛ فيجب عليه أن يأتي بالنية عند أول هذا الواجب.
وإن قلنا بوجوب المضمضة، والإستنشاق: فإنه في حالة ما إذا كان في غير الإستيقاظ من النوم تكون نيّته عند إرادته المضمضة، والإستنشاق، وإن قلنا بعدم وجوب المضمضة، والإستنشاق، فإن أول مفروض بالإجماع هو الوجه، فتكون نيته عند غسله للوجه، فإن سبقت النية هذا الواجب، فلا يخلو سبقها: إما أن يكون بالزمن اليسير، أو الكثير، فإن كان سبقها بفاصل
يسير، فإنه لا يؤثر قياساً على الصلاة، وسائر العبادات مثل: أن ينوي رفع الحدث، ثم يحرك الإناء، أو يفتح الصنبور، ثم يشرع في طهارته، فهذا الفاصل بالزمن اليسير مغتفر.
وأما إن كان الفاصل بالزمن الكثير؛ فإنه يعتبر مؤثراً، مثل: أن ينوي الطهارة، ثم يتحدّث مع غيره ساعة، ثم يتوضأ، دون تجديدٍ للنِّية فإن هذا الفاصل موجب لعدم الإعتداد بنيته الأولى؛ لأن مُضِي هذا القدر من الزمان المؤثر يوجب إلغاء النّية؛ كالحال في الصلاة، والعبادات.
قوله رحمه الله: [وهو التَّسْمِيةُ]: المصنف إختار وجوبها، وبناء على القول بوجوب التسمية تكون النية عند التسمية وهناك قول في وجوب التسمية يفصّل بين نسيانها، وعدم نسيانها فإنْ نسيها، ونوى عند غسله لكفّيه صحَّ وضوءه على القول بأن النسيان يسقط المطالبة، والمؤاخذة كما سبق بيانه عند ذكر مسألة التسمية.
قوله رحمه الله: [وتُسَنُّ عنْدَ أوّلِ مَسْنوناتها]: إذاً للنية حالتان:
الحالة الأولى: أنها تجب عند أول واجب، ويختلف ذلك بحسب إختلاف العلماء، فإن قلت التسمية واجبة فعند التسمية، وإن قلنا إن أول الواجبات هو المضمضة، والإستنشاق تكون نيّته عند إرادة المضمضة والإستنشاق، وإن قلنا إن أول واجب هو غسل الوجه كانت نيته واجبة عند ابتداءه بغسل وجهه وهو الصحيح إلا في حال الإستيقاظ من النوم، فتكون نيته عند إرادة غسله لكفيه.
وأما الحالة الثانية فقد أشار إليها بهذه العبارة وهي:
قوله رحمه الله: [وتُسنّ عِنْد أوّلِ مَسْنُوناتها إِنْ وُجِدَ قَبل واجبٍ]: أي أنّ النّية تُسنُّ عنْد أوّل مسنونات الطهارة إن وجد قبل واجب، ويتأتى هذا في غسل الكفين لغير المستيقظ من نومه؛ حيث يكون غسله لكفيه سنة، فتسن النية عند إبتدائه الغسل لهما، وهما في هذه الحالة قبل أول واجب، وهو غسل الوجه إن قلنا بعدم وجوب التسمية، وأما إذا قلنا بوجوب التسمية عند الذكر، وسقوطها عند النسيان، فنسيها عند إبتداء وضوئه في هذه الحالة يكون المسنون قبل الواجب وهو غسل الكفين، لأنه في غير حالة الإستيقاظ من النوم فتسن النية حينئذ عند أول مسنون وهو غسل الكفين لأنه وُجِدَ قبل الواجب.
قوله رحمه الله: [واستصحاب ذكرها في جميعها]: الإستصحاب إستفعال من صحب الشيء إذا لازمه، وكان معه، ومنه: الصاحب، والمراد باستصحاب ذكرها أي: أن يستصحب ذكر النية فالضمير عائد إلى النية، وقوله:[في جميعها] أي: جميع الطهارة صغرى كانت، أو كبرى، وعليه فإنه يلزمه إستصحاب قصد رفع الحدث من بداية الوضوء إلى نهايته، وهكذا الحال في الغسل، وهذا هو أحد الوجهين عند العلماء رحمهم الله.
وهناك وجه ثان أن العبادة التي لا يقع فاصل بينها بأجنبي يجزيء أن تكون النية في أولها، ولا يلزمه الإستصحاب، ولكن ينبغي أن لا يقع منه إلغاء لها حتى ينتهي من فعلها.
وهذا الوجه هو الأقوى، وعليه فالمهم أن يستحضر النية في أول الوضوء، ولا ينقضها بشيء حتى ينتهى منه، وهكذا الحال في غُسله.
قوله رحمه الله: [وصِفَةُ الوضُوءِ]: بعد أن بين لنا رحمه الله فرائض الوضوء وشرط صحته من النية شرع في بيان صفة الوضوء، وللفقهاء في طريقة بيانها مسلكان: بعضهم يبدأ بصفة الوضوء الكاملة، ثم يذكر بعدها صفة الإجزاء المعبَّر عنها بفرائض الوضوء، وشرائط صحته، وممن مشى على هذا المسلك الإمام ابن قدامة -رحمة الله عليه- في كتابه العمدة حيث قدّم الصفة الكاملة، ثم أتبعها ببيان صفة الإجزاء، وهذا المسلك أنسب من وجهين:
الأول: مراعاة الأدب، وذلك بالإبتداء بذكر هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكامل في عبادة الوضوء.
والثاني: أن التكرار فيه محمود بخلاف المسلك الأول.
قوله رحمه الله: [وصِفَةُ الوُضُوءِ]: صفة الشيء: حِلْيته، وما يتميز به، ولما كان الوضوء قد أمر الشرع فيه بغسل، ومسح أعضاء مخصوصة؛ فإن له صفتين:
الأولى: صفة الكمال.
والثانية: صفة الإجزاء.
أما صفة الكمال: فهي الصفة التي توضّأ بها النبي صلى الله عليه وسلم في حال الإسباغ كما في الصحيحين من حديثي عثمان، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما، وهي أكمل ما يكون عليه إيقاع هذه العبادة؛ لأن المكلف يحصل بها أعلى
درجاتها، وأما صفة الإجزاء: فهي الصفة التي إذا فعلها أجزأه وضوءه؛ كأن يكون الماء عنده قليل، ويخشى أنه لو فعل المسنونات لا يستطيع غسل المفروضات؛ فيقتصر على صفة الإجزاء.
هذا وجه تقسيم الوضوء إلى صفة إجزاء، وكمال، والسبب في هذا التقسيم أنه يستفاد منه في الحكم بصحة الوضوء، وعدم صحته في حال ترك شيءٍ منه، فإن كان المتروك فرضاً حكمنا بعدم صحته، وإن كان مسنوناً حكمنا بالصحة، وعدم تأثير تركه؛ إلا في نقصان الأجر.
قوله رحمه الله: [أَنْ يَنْوِي، ثُمَّ يُسَمِّيَ، ويَغْسِلَ كفيهِ ثَلاثاً]: تقدم الكلام على النّية، وعلى التَّسْمِية، وقوله:[ويغسلَ كفّيهِ ثَلاثاً] الأصل فيه ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عثمان، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما، وكذلك في حديث علي رضي الله عنه في السنن أنه عليه الصلاة والسلام إفتتح وضوءه بغسل كفِّيه، ولذلك يعتبر غسل الكفّين في الوضوء أول المسنونات إذا لم يكن الإنسان مستيقظاً من النوم لأنه يكون حينئذ يكون واجباً على أصحِّ قولي العلماء رحمهم الله في حكمه وقد تقدم معنا بيان حقيقة الكفين، وأحوالهما، وحكمهما في أول الوضوء.
قوله رحمه الله: [ثمّ يتمضْمَضَ، ويَسْتنشِقَ]: تقدم معنا بيان حقيقة المضمضة، والإستنشاق، وخلاف العلماء رحمهم الله في حكمهما.
قوله رحمه الله: [ويستنشق]: الإستنشاق: استفعال من النَّشق، وأصل النَّشق جَذْبُ الشيءِ إلى الخياشيم بالنَّفَسِ، ومنه سمي النَّشوق نشوقاً؛ لأنه يُستعط، ويُجذب بالنَّفَسِ، والإستنشاق ظاهره مبني على ما قدمنا، وأما
إخراج الماء المستنشق فيسمى إستنثاراً، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إِذَا توضّأَ أَحدُكُمْ فَليسْتَنْشِقْ بمِنْخَريْهِ] وظاهره ليس فيه تعرّض للإستنثار، ولذلك قال بعض العلماء: إذا استنشق يعني جذب الماء تحقق الإستنشاق، ولا يلزمه الاستنثار يعني الطرّح.
والصحيح أن تعبير الشرع بالإستنشاق متضمن لطلب الإستنثار؛ لأن الإنسان إذا استنشق لا يصبر على بقاء الماء حتى ينثره، وفائدة إِشتراط النّثر أن الإنسان إذا عصر أنفه دون أن ينثر لم يكن محققاً للاستنشاق على أكمل صوره، ولذلك لا بد من النَّثْرِ كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:[إِذَا تَوضّأ أحدُكُمْ فَلْيَجْعلْ على أَنفِهِ ماءً]، هذا الإستنشاق، ثم قال:[ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ] أي ليطرح لأن النَّثْرَ في اللغة: هو الطرح، فقوله:[لِيَنْتَثرْ] أي: لينثر الماءَ الذي جَذبَه بِنَفَسِه إلى خياشيمه، ولذلك لا بد من النَّثر لأن المقصود من إدخال الماء تطهير هذا الموضع، فإذا كان يعصره دون أن يكون منه نثر لم يتحقق به كمال التطهير لهذا الموضع.
قال رحمه الله: [ويَغسلَ وجْهَه منْ مَنابِتِ شَعرِ الرَّأسِ إلى ما انحدَرَ مِنَ اللّحْيَينِ، والذِّقْنِ طُوُلاً]: قوله [ويَغْسلَ وجْهَهَ] الوجه: تقدم أنه من المواجهة، وبيّنا كلام العلماء في الوجه، ودليل وجوب غسله والآن نبيّنُ حدَّ الوجْهِ.
أما طولاً فقالوا: إنه من منابت الشعر الذي يكون في ناصية الإنسان إلى ما انحدر من اللّحييْنِ، وهما الفكّان السُّفليان الأيمن منهما، والأيسر إلى ما انحدر منهما، والسبب في تعبير المصنف بقوله:[إلى ما إنحدر]؛ لأنه لا
يمكن إستيعاب الوجه كاملاً إلا بأخذ جزء يسير مما جاوره حتى يستوعب المحل المفروض غسله، فما انحدر من اللّحْيين هو الغاية في الغسل، والتي بها يتمكن من إستيعاب جميع الوجه، وقوله:[مِنْ مَنابتِ شَعَرِ الرَّأسِ] المراد به المكان بغضِّ النَّظر عن كون الشعر موجوداً، أو غير موجود كما في الأصلع، فالعبرة بمكان نبات الشّعر من الناصية، هذا كلّه في حدِّ الوجه طولاً، أما حدُّه عرضاً فقد بيّنه بقوله رحمه الله:[ومِنَ الأُذنِ إلى الأُذنِ عَرْضاً] من الأُذنِ إلى الأُذنِ، وهذا الحدّ يُدْخل البياض الذي بين الأذن، وشعر اللحية في العارضتين بالنسبة لمن كانت له لحية.
قوله رحمه الله: [وما فِيه مِنْ شَعَرٍ خَفيفٍ]: أي في الوجه فالضمير عائد إليه، والمراد أنه يجب عليه غسل الشعر الخفيف الموجود في الوجه؛ لأنّ البشرة تُرى من تحته، وإذا كانت البشرة تُرى من تحته فإنه يجب عليه غسل الشعر، وغسل ما تحته؛ لأن المواجهة تتحقق بالشعر، وبما تحت الشعر من البشرة، فيجب غسل الجميع.
قال بعض الفضلاء في هذه المسألة:
خَلّلْ أَصابعَ اليدينِ وشَعَرْ
…
وَجْهٍ إِذا مِنْ تَحْتِه الجِلْدُ ظَهرْ
فقال رحمه الله: (إذا من تحته الجلد ظهر)، والمصنف رحمه الله قال:[إِذَا كانَ الشعرُ خَفِيفاً] بمعنى أنك ترى البشرة من تحته؛ لأنك إذا رأيت البشرة من تحت الشعر، فإنه حينئذ تكون المواجهة قد حصلت بالشّعر، وبالبشرة فهذا هو وجه المطالبة بغسل كل منهما.
وقوله رحمه الله: [والظَّاهِر الكَثيف مَعَ مَا اسْتَرْسَل مِنْه] أي: ويجب عليه غسل ظاهر الشعر الكثيف وما استرسل منه، فأصبحت اللّحية على حالتين: الأولى: أن تكون خفيفة ترى البشرة من تحتها فالحكم أنه يجب غسل الإثنين؛ لأن المواجهة حصلت بهما، والله أمر بغسل الوجه فصدق على الإثنين؛ فلزم غسلهما معاً، لتحصيل المأمور به شرعاً.
والثانية: أن تكون كثيفة بمعنى أنها تحجب البشرة، فلا تُّرى مِنْ تحتها، فحينئذ يجب غسل الظاهر من اللحية فقط، لأنه هو الذي تحصل به المواجهة، وأما باطنها، وظاهر البشرة فلا مكان لهما في المواجهة لستر الشعر الكثيف لهما، فنزّل منزلَتهما، وأغنى غسل ظاهر اللحية الكثيفة عن غسل باطنها، وهذا هو فقه المسألة، وما استرسل من اللحية تابع لها؛ لأن المواجهة حصلت بالكلّ أعنى ظاهر اللحية، وما استرسل فوجب عليه غسلهما.
قوله رحمه الله: [ثمّ يديه إِلى المِرْفَقين]: ثم يغسل يديه مع المرفقين، وقد تقدم بيان حدِّ اليدين، ومعنى المرفقين، ودخولهما في غسل اليدين، وهنا ننبه على خطأ شائع عند كثير من الناس من العامة، فإنهم إذا توضؤوا يغسل الواحد منهم الكفين، ثم يتمضمض، ويستنشق، ويغسل وجهه، فإذا غسل يديه بدأ من آخر الكف فيغسل ساعده، ويغفل عن الكفّين، من فعل ذلك لا يصح وضوءه، وتلزمه إعادة الوضوء، والصلاة لأن غسلهما أول الوضوء لا يجزئ عن غسلهما المفروض من وجهين:
الأول: أن المسنون لا يجزئ عن الفرض، فغسلهما في غير حال الإستيقاظ الأصل إستحبابه، فلا يجزئ عن الفرض.
الثاني: ولو وقع واجباً كما في حال غسلهما عند الإستيقاظ من النوم؛ فإنه لا يجزئ؛ لأنه سابق للوجه فيفوت فرض الترتيب، حيث لا يصح غسل اليدين، ولا بعضهما قبل غسل الوجه كما بيّناه في شرط الترتيب، وعليه فلا يجزيه بكل حال.
وكثير يقع في هذا، وينبغي تنبيههم.
قوله رحمه الله: [ثُم يمسَحُ كل رأسه مَعَ الأذنيْنِ مرةً واحدةً]: شرع رحمه الله في بيانه للفرض الذي يلي غسل اليدين، وهو مسح الرأس، فقال:[ثم يمسحُ رأسَه كُلّه] وهذا على الصحيح، وقد تقدم بيان دليل وجوب مسح الرأس كله، وأنه هو الراجح من أقوال العلماء رحمهم الله، وقوله:[مَع الأذنين] أي: أن الأذنين تأخذان حكم الرأس، فيجب مسحهما؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:[الأذنَان مِنَ الرأسِ] وقد تقدم معنا بيان ذلك، وبيان صفة مسحهما مع الرأس، وقوله رحمه الله:[مرةً واحدةً] أي: أنه لا يثلث مسح الرأس حتى، ولو أسبغ الوضوء، فإذا غسل جميع الأعضاء ثلاثاً؛ فإن الرأس لا يمسحه إلا مرة واحدة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، وذهب الشافعية رحمهم الله إلى القول بسنية التثليث في مسح الرأس، وإستدل الجمهور على مذهبهم بدليل النقل، والعقل، أما دليلهم من النقل: فهو السنة وذلك في أحاديث منها: حديث عثمان، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما في صفة وضوء النبيِّ صلّى الله عليه، وسلم حيث بيَّنا أنه غسلَ جميع أعضاء الوضوء ثلاثاً، ولم يذكرا ذلك في مسح الرأس، فلم
يفعله عثمان رضي الله عنه في وصفه لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الله رضي الله عنه:[فأقبلَ بهما، وأدبَر] ولم يذكر أنه ثلث المسح.
وقد جاء التصريح بإقتصاره عليه الصلاة، والسلام على المرة الواحدة حتى في حال إسباغه، كما في حديث علي رضي الله عنه حيث إنه وصف وضوء النبيِّ صلى الله عليه وسلم:[وأنه توضَّأَ فغسلَ كفّيه ثم مضمضَ ثلاثاً، واسْتَنْشَق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرةً ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثمّ قال: أحببتُ أنْ أُريَكُمْ كيفَ كان طُهُور رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم]. رواه الترمذي وصححه، وعن أنس رضي الله عنه مثله.
وفي حديث الربيع رضي الله عنها أنها رأتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يتوضّأ فقالت: [مَسَحَ برأسِه ما أَقْبل منه، وما أَدْبر، وصَدْغَيه، وأُذُنيه مرةً واحدةً] رواه الترمذي، وصحّحه.
وأما دليلهم من العقل فقالوا: إِن تكرار المسح يجعل الممسوح مغسولاً، ومقصود الشرع في هذا العضو هو المسح، وليس الغسل.
وإستدل الشافعية رحمهم الله بحديث علي رضي الله عنه عند الدارقطني: [أنه مَسحَ برَأسِه، وأُذنَيْهِ ثلاثاً] وسنده ضعيف.
وعليه فإنه يترجح القول بأن المسح لا يكون إلا مرةً واحدةً حتى ولو كان الوضوء ثلاثاً؛ لصحّة دلالة النقل، والعقل على ذلك، ولأنّ دليل القول بالتّثليث لم يثبت.
فائدة: إستدل بعضهم بحديث: [توضأَ ثلاثاً، ثلاثاً] على أنه عام فيشمل مسح الرأس، وجوابه: أنه محمول على الأغلب، لأن أحاديث الجمهور مفصّلة بيّنت أن التثليث كان في أغلب أعضاء الوضوء لا في كلّها فتُقدم على هذا الحديث الذي وصف وصفاً غالبياً.
قوله رحمه الله: [ثمّ يغسلُ رجْلَيْه مع الكَعْبينِ]: ثم يغسل رجليه، وهذا هو الفرض الأخير غسل الرجلين، أو مسحهما إذا كان لابساً للخفين، أو الجوربين، والكعبان يجب غسلهما مع القدم لقوله تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وقد تقدم بيان دليل وجوب غسل الرجلين إلى الكعبين، وهل الكعبان يجب غسلهما، أو لا؟ وذكرنا الأقوال، والأدلة، والراجح في هذه المسألة تبعاً للخلاف في المرفقين مع اليدين بما يغني عن الإعادة.
قوله رحمه الله: [ويَغسِلُ الأَقْطعُ بَقيَّةَ المفروضِ]: لأنّ الله أمره بغسل الجميع، فإذا سقط عنه البعض لمكان العذر فإن سقوط البعض لا يقتضي سقوط الكل؛ فالخطاب متوجه عليه أن يغسل يده كاملة فإذا قُطع بعضُها، وبَقي ساعِده مثلاً فإن السَّاعد داخل في المأمور، فيجب عليه غسل ما بقي من الساعد بعد القطع.
قوله رحمه الله: [فإِن قُطِعَ منَ المِفْصَلِ غَسلَ رَأسَ العَضُدِ مِنْه]: هذا مبني على ما ذكرناه من كون الكعبين، والمرفقين داخلين في الغسل ولا يمكن إستيعابهما إلا بالشروع في العضد كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم، فصار طرف العضد داخلاً من هذا الوجه، فإذا بقي بعد قطع اليد شيء منه وجب غسله، وفيه نظر، حاصله أن غسل العضد إن
كان للإستيعاب لم يلزمه غسله عند قطع ما قبله، وإن كان غسله مفروضاً أصلاً صحّ غسله، فعلى الأول يكون تابعاً، وعلى الثاني يكون أصلاً، فيسقط في الأول لسقوط أصله دون الثاني حيث إنه أصل مأمور بغسله.
قوله رحمه الله: [ثمّ يرفع نظره إلى السماء ويقول ما ورد]: رفع النظر إلى السماء بعد الفراغ من الوضوء لم يصح فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه يقتصر على القول من ذكر الشهادة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أن من قالها عند تمام وضوءه، فُتِحَت له أبوابُ الجنّة الثمانيةِ يدخل من أيها شاء -نسأل الله العظيم أن يجعلنا، وإياكم ذلك الرجل-.
قوله رحمه الله: [وتُباحُ مَعُونته، وتَنْشِيفُ أَعْضَائِه]: الإباحة: إستواء طرفي الحكم أي: لا يؤمر به ولا ينهى عنه، وقوله:[تُباحُ مَعونتُه] أي: معونة المتوضئ، كما ثبت في الأحاديث الصّحيحة من صبِّ الصّحابة رضي الله عنهم لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس، وحذيفة، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم في الصحيح، فإنها كلّها دلّت على مشروعية خدمة الأحرار بعضهم لبعض، وخاصة إذا كان من أهل الفضل، وكبار السن، والوالدين، فإنّ هؤلاء خدمتهم عبادة، وقربة لله -جل وعلا-، وتجب عند وجود الحاجة، كالمشلول، ونحوه.
وإذا كان صغير السن، وأردت أن تخدمه فلا حرج إذا قُصد بذلك وجه الله لا رياءً، ولا سمعةً لكن الأفضل لطالب العلم ألا يمكّنَ الناس من خدمته في
بداية طلبه للعلم، أو في صغر سنه لما في ذلك من الفتنة، والإنسان في مقتبل عمره لا يأمن الفتنة بخلاف كبار السن، فإن الخشوع فيهم أكثر، وقربهم من الموت يُبْعدهم من قصد إهانة الناس غالباً، مع ما لهم من حق كبر السن، ولذلك يستحب بعض العلماء أن الإنسان إذا كان صغير السن ولو كان من العلماء أنه يتورع عن خدمة الناس له حتى يكون ذلك أبلغ في إخلاصه، وفي طاعته لله -جل وعلا-، أُثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:(إن صحبت رفقة في سفر؛ فلا يعلموا بصيامك؛ إنهم إن علموا بصيامك قالوا: أنزلوا الصائم، أكرموا الصائم احملوا الصائم حتى يذهب أجرك) أي: لا يزالوا يكرمونك حتى يذهب أجرك بما يكون منهم من إكرام، ولذلك ينبغي للإنسان أن يتورع، وقد عهدنا علماء أجلاء -رحمة الله عليهم- بلغوا من العلم شأواً عظيماً كانوا يتورعون عن خدمة الناس لهم خاصةً في هذه الأزمنة التي قل أن يُوجد فيها المُخلِص وكذلك إن وجد المُخلص قد يوجد المُغالي، وكثير من البدع، والأهواء، والغلو في الصالحين نشأ بسبب الخدمة، ولذلك لا ينبغي أن يُتخذَ الدين طريقاً لإهانة عباد الله -جل وعلا- فإن الله أخرج الناس بالإسلام من العبودية لغيره إلى العبودية له سبحانه وتعالى، وقد تكلم الإمام ابن القيم -رحمة الله عليه- كلاما نفيسا في الفوائد، وقال: إن كثيراً من الفساق يغترون بصحبة الصالحين حتى يكونوا جريئين على المعاصي بسبب فضلهم على الصالح بخدمته، ولذلك تجده يخدمه فيغتر بصحبته، فيجرأ على حدود الله، ولا يصلح من حاله، وتصبح صحبته
للعالم صحبة شكلية للخدمة، لكن أن ينتفع بعلمه، ويستفيد من ورعه وتقواه لا تجد لذلك أثراً حتى -والعياذ بالله- يفسد عليه دينه.
والمنبغي أن يحمل الإنسان نفسه على أتم الوجوه، وأقربها إخلاصاً لله -جل وعلا-، خرج عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من المسجد فخرج معه أصحابه يشيّعوه قال: مالكم؟ قالوا: رأيناك تسير وحدك فأردنا أن نشيّعك، قال:(إليكم عنّي إنها فتنة للتابع، والمتبوع) هذا عبد الله بن مسعود في عصر الخيرية، وفي القرون المفضلة يقول: إنها فتنة للتابع أي: أن الإنسان إذا سار مع العالم، دون أن يسأله، ودون أن يستفيد من علمه ذلك فتنة للتابع بالإغترار بالصحبة، ورؤية الناس له مع أهل الفضل، وأيضاً فتنة للمتبوع أي: أن العالم ربما دخله الغرور برؤية من حوله ممن يشيّعه، ويسير معه.
ولذلك الأسلم والأكمل أن الإنسان يتورع وإذا نظر الله إليك قد حباك العلم والفضل لا تهين عباده ولا تأخذ منهم أجراً ولا جزاءً ولا شكوراً كَمُلَ أجرك عنده -جل وعلا-، ولذلك قال تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (1) لكن لا يعني هذا التحريم، والمنع ولكن نقول: أن الإنسان إذا خشي الفتنة على نفسه، أو على من معه، فإنه ينبغي عليه أن يتورّع، وهذه المسألة أحبُّ أن أُنبه عليها؛ لأنه حصل فيها كثير من الدَخَل، فلقد رأينا كثيراً من طلاب العلم
(1) ص، آية:86.
يصحبون العلماء، ويكون في بداية صحبته للعالم كأحسن ما أنت رآءٍ أدباً، وخلقاً، واستفادة من العالم، وكثرة سؤال، ومدارسة له، ولكن ما إن يدخل إلى مقام خدمته، والقيام على شأنه، ويداخله في أموره الخاصة إلا وتغير حاله فيخرج عن حدِّ الأدب، ولربما يأتي وقت، وقد رأينا ذلك بأعيننا في بعض ضعاف النّفوس في حال صحبتهم لمشائخنا يأتي وقت يجرؤ فيه على أن يُفتي فيه بحضرة العالم، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من المزالق الخطيرة إذا صحبت أهل العلم لا حرج أن تخدمهم، وأنت تريد وجه الله؛ ولكن اعلم أن صحبة العلماء للعلم، والفائدة، وليست للمظاهر، والأمور التي قد تكون فتنة على الإنسان في دينه، ودنياه، وآخرته.
قال رحمه الله: [تُباحُ مَعُونتُه]: أي: يجوز أن يعاونه الغير.
قوله رحمه الله: [وتَنْشيفُ أَعضائه]: التنشيف: هو التجفيف أي: يباح التنشيف، ويجوز، ولكن الأفضل أن لا ينشف أعضاء الوضوء لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[مَا مِنْ مُسْلم يُقرِّبُ وضُوءَه فيُمضمِضَ، ويَسْتَنْشق، ويَغسِل وجْهَه إلا خَرجتْ كُلُّ خَطيئةٍ نَظرتْ إِليها عَيْناهُ مَعَ المَاءِ أَوْ مَعَ آخرِ قَطْرِ الماءِ] فقوله: [مَع الماءِ، أوْ مع آخِرِ قَطْرِ المَاءِ]، وكذلك قال في اليدين:[حتى تَخْرجَ مِنْ تَحتِ أَظْفارِ أَصابِعه مَعَ الماءِ، أوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الماء] فقد دلّ على فضيلة عدم تنشيف الأعضاء، وترك الماء يتقاطر حتى يكون أكثر طهارة من الذنوب، والخطايا.
وكذلك ثبتت السُّنة بتأكيد هذا المعنى المستنبط في الوضوء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما اغتسل، وجاءته أمّ المؤمنين بمنديل قالت رضي الله عنها:[فلم يُرِده، وجعل يَنْفضُ الماءَ بيديْه].
ولهذا استحَبّ طائفةٌ من العلماء أنه يُبقي الأعضاء مبلولة، حتى يكون ذلك أدعى لخروج خطاياه، مع الماء أو مع آخر قطر الماء على ظاهر الحديث.