المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الإستنجاء قال رحمه الله: [باب الإستنجاء]: الإستنجاء استفعال من النّجْو، - شرح زاد المستقنع - الشنقيطي - الطهارة ط الإفتاء

[محمد بن محمد المختار الشنقيطي]

الفصل: ‌ ‌باب الإستنجاء قال رحمه الله: [باب الإستنجاء]: الإستنجاء استفعال من النّجْو،

‌باب الإستنجاء

قال رحمه الله: [باب الإستنجاء]: الإستنجاء استفعال من النّجْو، وأصله: القطعُ للشيء، يقال: نجوت الشجرة أي: قطعتها، والسين، والتاء للطلب.

قال العلماء: سُمي قطع البول، والغائط بالماء، والحجارة إستنجاءً؛ لأن المكلف إذا فعله فقد حصلت له الطّهارهَ، والنقاء، وبالطهارة، والنقاء ينقطع أثر النجاسة فلذلك وصف بكونه استنجاء، أي طلباً لقطع النجاسة الخارجة.

وباب الاستنجاء باب مهم؛ لأنه يتعلق بالنوع الثاني من أنواع الطهارة، وهو طهارة الخبث فإن الله عز وجل أمر كل من أراد أن يصلي أن يكون قد حصَّل الطهارتين:

الأولى: من الحدث.

والثانية: من الخبث.

فأما طهارة الخبث: فيراد بها نقاء الثوب، والبدن، والمكان، وهي التي يتعلق بها باب الاستنجاء حيث بيّن العلماء رحمهم الله فيه طهارة البدن من الخارج، وحكم إزالة النجاسة عن الثوب، والمكان.

وأما طهارة الحدث: فهي الغسل، أو الوضوء، والبدل عنهما، وهو التَّيَمُّمُ.

ص: 79

هذا الباب يسميه بعضهم: بباب الاستنجاء، ويسميه بعضهم: بباب آداب قضاء الحاجة، ويسميه بعضهم بباب الخلاء، وآداب الخلاء، ومراد العلماء رحمهم الله أن يذكروا فيه الآداب الشرعية المتعلقة بالإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته سواء كانت بولاً، أو غائطاً، وهذا الباب وردت فيه النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم القولية، والفعلية، وبينت هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضائه لحاجته، ولذلك وصفه العلماء بباب آداب قضاء الحاجة.

فمن يقول: باب آداب قضاء الحاجة إستنبط ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا قَعَدَ أحدُكمْ لحاجَتِه].

ومن سماه بباب الاستنجاء فقد إستنبط ذلك من حديث سلمان رضي الله عنه، وفيه:" نَهانا أنْ نَستنْجِي بروثٍ، أو عظمٍ " فقالوا: باب الاستنجاء.

ومن سماه بباب آداب الخلاء فانتزعه من حديث أنس رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: [اللهم إني أعوذُ بكِ من الخبثِ، والخبائِثِ].

وآداب الخلاء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: آداب قبل دخول موضع قضاء الحاجة.

والقسم الثاني: آداب أثناء قضاء الحاجة.

والقسم الثالث: آداب بعد الفراغ من الحاجة.

وكلها وردت فيها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أُخذت من أصول الشريعة العامة، وهي جميعها منها: ما هو قولي، ومنها: ما هو فعلي.

فأما الآداب التي هي قبل قضاء الحاجة فمنها:

ص: 80

أنه إذا أراد أن يدخل الخلاء يقول: [اللهمّ إِني أَعوذُ بكَ من الخبْثِ، والخبائثِ] فهذا أدب يسبق قضاء الحاجة، وهو أدب قولي.

وأما الفعلي: فمنه الإبعاد، والإستتار فيطلب مكاناً بعيداً عن أعين الناس ساتراً.

وأما الآداب التي تكون أثناء قضاء الحاجة فمنها: أن لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها ببول، ولا غائط لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

[إذا أتيتمُ الغائطَ؛ فلا تَسْتقبلوا القبلةَ، ولا تسْتدبروها ببولٍ، ولا غائطٍ، ولكنْ شرّقوا، أو غرّبوا] وهو أدب فعلي.

والقولي: أن لا يتكلم أثناء قضاء الحاجة ولذلك ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: [لا يَذهبُ الرجلانِ يضْربانِ الغائطَ يكلّم أحدُهما الآخَر فإنّ الله يَمقتُ ذلك].

وأما الآداب التي تكون بعد الفراغ من قضاء الحاجة فمنها قوله: [غُفْرانَك] وهو أدب قولي، والفعلي: أن يقدم رجله اليمنى، ويؤخر اليسرى عند الخروج، فأصبح هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قضاء الحاجة مشتملاً على ثلاثة أنواع من الآداب على حسب الأحوال:

النوع الأول: آداب قبل دخول الخلاء.

والنوع الثاني: آداب أثناء قضاء الحاجة.

والنوع الثالث: آداب بعد الانتهاء، والفراغ من الحاجة، فالعلماء رحمهم الله يذكرون في هذا الباب ما يسن للمسلم أن يفعله قبل دخول الخلاء،

ص: 81

وما يسن له فعله، وهو أثناء قضائه لحاجته، وما يسن له فعله بعد فراغه، وانتهائه منها.

قال المصنف رحمه الله: [باب الاستنجاء]: أي في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام، والمسائل الشرعية المتعلقة بالاستنجاء.

قال رحمه الله: [يُستحبُ عندَ دخولِ الخلاءِ قولُ: بِسمِ الله، أعوذُ بالله من الخبْثِ، والخَبائثِ]: قال المصنف رحمه الله: [يُستحبُّ عنْد دخولِ الخلاء]: أي قبل أن يدخل الإنسان الخلاء يستحب له أن يقول: [بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث] لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: [اللهمّ إِني أعوذُ بكَ من الخُبْثِ والخبائثِ] هذا هو الثابت في الصحيحين، وأما لفظة: بسم الله، فقد ورد فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن، وأنه إذا قالها الإنسان عند رفع ثوبه، أو نزع الثياب؛ فقد ستر عن أعين الجن، وهو حديث متكلم في سنده.

وقوله رحمه الله: [يُستحبُّ لمنْ دخلَ الخلاءَ] أي: موضع قضاء الحاجة، ولا يخلو الموضع الذي يريد الإنسان أن يقضي حاجته فيه من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون مهيأ لقضاء الحاجة مثل: دورات المياه الموجودة في زماننا.

والحالة الثانية: أن يكون غير مهيىءٍ في أصله لقضاء الحاجة، مثل: البراري، والفلوات فهذه المواضع يقضي الإنسان حاجته فيها دون أن يكون فيها بناء مخصوص مُعدٌ لقضاء الحاجة.

ص: 82

وحينئذ يرد السؤال: متى يكون هذا الإستحباب لقول الذكر في الحالتين؟ والجواب: أنه في الحالة الأولى: يقوله قبل أن يدخل في الدورة، والمكان المعدِّ لقضاء الحاجة، فيكون عند إرادة الدخول، لأن الذكر لا يجوز في موضع قضاء الحاجة، فيقوله قبل الدخول لذلك، ومن هنا يكون قوله رحمه الله:[يستحبُّ لمنْ دخلَ الخلاءَ] المراد به أنه يستحب لمن أراد الدخول، أي قبل دخوله مباشرة.

وأما في الحالة الثانية: فإنه ليس هناك موضع مُحرَّمٌ عليه الذكر فيه، فقال بعض العلماء رحمهم الله يقوله: عند رفع ثوبه، وتهيوئِه لقضاء الحاجة، وقال بعضهم: إذا جلس قبل أن يخرج منه شيء، وكلا القولين له وجهه إلا أن الأول أقوى، لأنه يكون قبل حصول الكشف للعورة.

وقوله: [أعوذ بالله] أي ألتجئ، وأعتصم، وأحتمي بالله، وأصل العوذ: اللوذ، واللجوء، وقوله:[من الخبْث] بالإسكان، وهي رواية الأكثرين كما ذكر القاضي عياض رحمه الله، وفسّره بالشر، وأما بالضم: فهو جمع خبيث، فيحمل على ذكور الشياطين، ويكون قوله بعد ذلك:[والخبائثِ] المراد به على رواية الأكثرين الشياطين عموماً، ذكرانهم، وإناثهم، وأما على رواية الضمِّ فيكون معنى الخبائث: إناث الشياطين كما ذكره الإمام الخطابي رحمه الله، فعلى الوجه الأول: يكون مستعيذاً بالله من الشر عموماً، ومن الشياطين خصوصاً، وعلى الوجه الثاني: بالضمِّ يكون مستعيذاً من ذكور الشياطين، وإناثهم.

ص: 83

والأول: أقوى الوجهين روايةً، ومعنى، فهو أقوى رواية لأنه رواية أكثر الشيوخ كما قدمنا عن القاضي عياض رحمه الله، وهو أقوى معنى لأن فيه معنى زائداً على الوجه الثاني، لأن الوجه الثاني إختص بالشياطين، وأما الوجه الأول: فإنه لم يختص بهم بل شمل الشر كله بالإضافة إلى الشياطين كلهم ذكوراً، وإناثاً، فهو أعم.

وهذا الدعاء النبوي حرز من الله تعالى للمسلم يعصمه به سبحانه من أذية الشياطين، وشرورهم في هذا الموضع الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه تحضره الشياطين، كما في حديث السنن من قوله عليه الصلاة والسلام:[إن هذه الحُشوشَ محتَضَرة] أي تحضرها الشياطين، والحُشُوشُ: جمع حِشٍ، وهو البستان في لغة العرب، وعبّر به عن موضع قضاء الحاجة لأنهم كانوا في الغالب يقضون الحاجة في الحيطان، والبساتين، ولم يكن عندهم مراحيض، وأماكن مخصصة لقضاء الحاجة كما جاء في الأثر عن عائشة رضي الله عنها.

فشرع للمسلم أن يقول هذا الدعاء معتصماً بربه ملتجئاً إليه سبحانه؛ فإنه نعم المولى ونعم النصير.

قوله رحمه الله: [وعنْدَ الخروج منه: غُفْرانَكَ]: وعند الخروج منه أي: بعد أن يخرج؛ لأنه إذا أراد الخروج لا يُشرع له أن يتكلم حتى يجاوز موضع قضاء الحاجة، فإذا جاوز موضع قضاء الحاجة قال:[غُفْرانَكَ] وأصله: إِغفرْ غُفْرانَك، أو أسألك اللهم غفرَانَك، والغفر: أصله الستر، ومنه المِغْفَر؛ لأنه يستر رأس الإنسان من ضربات السلاح في الحرب قالوا: سميت المغفرة

ص: 84

مغفرة؛ لأن الله إذا غفر ذنب العبد كأن لم يكن منه ذنب، فأصبح كأنه خالياً من ذلك الذنب سُتِر عنه ذنبه، وكُفي مؤنته كما أن الإنسان إذا لبس المغفر كُفي شَرّ السلاح، وأذيته، وقوله:[غُفْرانَكَ] دعاء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند الترمذي، وأبي داود، والنسائي أنه كان يقول عليه الصلاة والسلام عند خروجه من الخلاء:[غُفْرانك].

وللعلماء -رحمة الله عليهم- في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم بعد قضائه لحاجته، وخروجه أقوال:

قال بعض العلماء: إستغفر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان لا يأمن من حصول بعض النظر إلى عورته، فلما كان الناس في غالب حالهم لا يسلمون من الوقوع في هذه الإخلالات أثناء قضاء حاجتهم سنّ لهم ذلك لتحصل به المغفرة لهم، فيكون قد عنى بذلك غالب أمته لا نفسه عليه الصلاة والسلام؛ لكونه معصوماً، وهذا القول يَقْوى على مذهب من يُحرّم نظر الإنسان لعورته إلا من حاجة.

وقيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم شُغل عن ذكر الله -جل وعلا- بقضاء الحاجة فقال: [غفرانك] لضياع هذا الوقت دون ذكر لله -جل وعلا-، وكما قالوا: حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربين، فهذا من كمال عبوديته لله، وكمال حبه، وتعلقه بذكر الله سبحانه وتعالى أن هذا الوقت مع حاجة الجسم إليه، وأنه في حالة عذر عن ذكر الله يستغفر من ذهابه، دون أن يذكر الله -جل وعلا- فيه، وهذا فيه تنبيه للمسلم أنه ينبغي عليه أن يكثر من ذكر الله، وأن يحرص على

ص: 85

إغتنام الحياة في طاعة ربه، وعبوديته له سبحانه؛ لأنه هو المقصود من خلقه كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1).

وقال بعض العلماء قال النبي صلى الله عليه وسلم غفرانك لأنه لما خرج الطعام من الجوف أَمِنَ الإنسان من كثير من الأضرار، والبلايا، فلم يستطع أن يوفي شكر نعمة الله عليه بهذا الفضل فقال:[غفْرانَك] أي: غفرانك من التقصير في حمد نعمك، وشكر مننك التي أنعمت، وامتننت بها علينا.

وكل هذه الأوجه صحيحة مناسبة، وتحتملها السنة.

قوله رحمه الله: [الحمدُ للهِ الذي أذهبَ عنّي الأذى، وعَافَاني]: الأذى أذى القذر الخارج؛ لأنه لو بقي في الجسم لأضر بالإنسان، ولذلك لو أن إنساناً مُنِعَ من البول ساعة واحدة لما استقر له قرار، ولو حيل بينه، وبين قضاء حاجته، وقيل له: إفتدِ بالدنيا لافتدى بها حتى تخرج حاجته، وقد يبلغ ببعض المرضى كالمشلولين شفاهم الله أن يمكث الساعات لإخراج فضلته من جسده، فهي نعمة من الله عظيمة لا يعلم مقدار فضله سبحانه، ورحمته، ولطفه بالعبد فيها إلا هو سبحانه وتعالى فناسب أن يقول عليه الصلاة والسلام:[الحمْدُ لله] لأنه المحمود على جلب النِّعم، وحصولها، ودفع النِّقم، وزوالها جل جلاله.

قوله رحمه الله: [الحمدُ لله الذي أذهبَ عنّي الأذى، وعَافَاني]: قيل المعافاة من شرور الشياطين، ونحوهم.

(1) الذاريات، آية:56.

ص: 86

وقيل: المعافاة من الضرر الموجود في الجسم بحبس ذلك الطعام، والشراب، فالله دفعه؛ فاستوجب أن يُشكر، ويُحمد على هذا الفضل، وكلاهما صحيح.

قوله رحمه الله: [وتقديمُ رجْلهِ اليسرى دُخولاً، واليمنى خُروجاً]: تقدم آداب الخلاء على قسمين:

القسم الأول: آداب قولية، وقد سبق بيان أدب قولي يقال قبل الدخول، وأدب قولي يقال بعد الخروج.

القسم الثاني: آداب فعلية، فشرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان الآداب الفعلية، والتي منها: أن الإنسان إذا أراد دخول الخلاء قدّم رجله اليسرى، وأخّر رجله اليمنى، وإذا أراد الخروج قدّم رجله اليمنى، وأخّر اليسرى؛ لأن الشريعة قصدت تكريم اليمين على اليسار، فجهة اليمين مفضّلة مشرفة على اليسار، وقد دلت نصوص الكتاب، والسنة على ذلك، فجعل الله أصحاب الجنة أصحاب اليمين -جعلنا الله وإياكم منهم-، وجعل السعيد من نال كتابه بيمينه، وفضّل اليمين على الشمال حينما ذكرها بصيغة الافراد في مقابل الجمع كما قال تعالى:{عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} (1) فقال: {عَنِ الْيَمِينِ} فأفرد، وقال:{وَالشَّمَائِلِ ِ} فجمع، والعرب تجمع في مقابل الإفراد تعظيماً للمفرد إذا كان يقبل التثنية، والجمع

(1) النحل، آية:48.

ص: 87

كما قال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (1) فجمع الظلمات، وأفرد النور، وهو أسلوب عربي يدلّ على تشريف المفرد على الجمع، فجهة اليمين مشرّفة على جهة الشمال، وكان صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيمن في تنعّله وترجّله وطُهُوره، وفي شأنه كلِّه كما في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

وفي الحديث -أيضاً- في السنن: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا لَبِسْتُمْ فَتيامنوا] أي: إذا لبس الإنسان ثوباً، أو عباءة، أو حذاء؛ فإنه يقدّم الجهة اليمنى من يد، وشِق، ورجلٍ على الجهة اليسرى.

فإذا أراد الخروج من الخلاء قدّم رجله اليمنى، وأخّر اليسرى تشريفاً لليمين؛ لأن الخروج أفضل من الدخول في هذه الحالة، وفي الدخول للخلاء يقدم المفضول على الفاضل، وفي الخروج منه يُقدِّم الفاضل على المفضول، فيقدِّم رجلَه اليمنى، ويؤخِّر اليسرى.

قوله رحمه الله: [عكسَ مسجدٍ، ونَعْلٍ]: عكس مسجد فمن دخل المسجد قدَّم رجله اليمنى للدخول، وأخَّر اليسرى، وإذا أراد الخروج قدم اليسرى، وأخّر اليُمنى، وقد ورد فيه حديث عند الحاكم أنه من السُّنة تقديم اليمنى على اليسرى عند دخول المسجد، وقوله [ونَعْلٍ]: المراد به عند لبس النعل، وهو ما يلبسه في رجله، فإذا أراد أن يلبس الحذاء يفعل ما يفعله عند دخول المسجد، فيُقدم رجله اليمنى، ويؤخّر اليسرى، والعكس إذا

(1) الأنعام، آية:1.

ص: 88

أراد أن يخلعه لحديث أم الؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح: [أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعْجِبه التّيمنُ في طُهُورِه، وتَنعّله، وتَرجُّله، وفي شأنِه كُله]، فقولها رضي الله عنها [تَنعّله]: يدل على أن من السنة التَّيمن عند لُبس النّعل، وتقديم اليسار عند خلعه، ونزعه، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا إنتعلَ أحدكُم فليبدأ باليمنى، وإذا خَلَعَ فليبدأ باليُسرى] واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة: وهي لو أن إنساناً أراد أن يخرج من بيته إلى المسجد، فهل الأفضل أن يقدم رجله اليمنى لشرف المقصود، والغاية، أو يؤخر اليمنى؛ لأنه الأفضل عند الخروج عموماً؛ لأن الخروج من البيت أدنى منزلة من البقاء فيه، فيكون الشّرف فيه في التأخير بخلاف الدخول فيه فإنه يكون الشرّف فيه في التقديم، ولذلك إذا أراد أن يخرج يقدِّم اليسرى؟ وبعبارة أخرى: هل نبقى على الأصل من مراعاة الحال، أم نستثني هذه الحالات لشرف الخارج من أجله؟ كلاهما قول لبعض العلماء رحمهم الله.

فمن قال نبقى على الأصل فإنه يقول بتقديم اليسرى عند الخروج سواء كان لمسجد، أو لغيره أي: لا يستثني، وهو أقوى لأن التّشريف راجع إلى الحال، ومن قال بالإستثناء قال: يقدم اليسرى في الخروج إلا إذا كان خارجاً للمسجد، وما فيه فضل فإنه يقدِّم اليمنى إلتفاتاً منه إلى الغاية، وكأنهم نظروا إلى أنه بمجرد خروجه للمسجد فهو في صلاة، وقربة، وطاعة كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:[إذا عَمِدَ أحدُكم إلى المسجدِ فهُو في صلاةٍ].

ص: 89

والأول أرجح في نظري والعلم عند الله لما يلى:

أولاً: إنه إعمال للأصل.

ثانياً: أنه مبني على مراعاة الحال نفسه عند الخروج بغَضِّ النظر عن صفة الخروج، فهو أقوى في التكريم.

ثالثاً: أن لازم القول الثاني أن من خلع حذاءه للدخول للمسجد أن يقدم اليمنى عند الخلع، ويؤخِّر اليسرى، وهذا مخالف للسُّنة كما قدمنا في حديث عائشة، وأبي هريرة رضي الله عنهما في الانتعال.

فلما لم تفرق السنة في خلع النعال بين كونه لقربة، أو لغيرها دلَّ على أن العبرة في مراعاة التكريم بالحال نفسه، لا بما يؤول إليه والله تعالى أعلم.

وعليه فإنه يقدم يسراه للخروج من المنزل، ولو خرج لصلاة، أو تعليم، أو جهاد، أو غيرها من الطاعات.

قوله رحمه الله: [واعتماده على رِجْلِه اليُسرى]: هذا من الآداب التي تُشرع عند فعل الحاجة وقضائها أن يعتمد على رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، وفي ذلك حديث ضعيف عن سراقة رضي الله عنه أخرجه البيهقي، والطبراني، وفيه:[أَمَرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن نتكئَ على اليسرى، وأن نَنصُبَ اليُمْنى].

وعللَ بعض العلماء ذلك بأن الأطباء يقولون: إنه أرفق بالبدن، وأيسر لخروج الخارج، فإن صحّ ما ذكروه كان مشروعاً من جهة الرفق بالبدن، ولا يحُكى سُنَّةً، لأن الحديث فيه ضعف، فإذا فعله الإنسان من باب الرفق بالبدن فلا بأس، لأن الرفق بالبدن من مقاصد الشريعة، ولا حرج في فعله.

ص: 90

قوله رحمه الله: [وبُعدُه في فضاءٍ، واستِتَارُه]: أي يُشرع للإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته، وكان في فضاء كالأرض الخلاء التي ليس فيها أحد أن يختار مكاناً بعيداً عن أعين الناس؛ لأن الفضاء منكشف، والإنسان إذا جلس في الفضاء يمكن أن تُرى عورته فشُرع له أن يُبعد، وأن يستتر فيشرع له أمران: البُعد في المذهب، وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث المغيرة رضي الله عنه عند أبي داود، والنسائي، والترمذي، وفيه أنه ذكر ذهابه عليه الصلاة والسلام لقضاء حاجته، ووصفه بقوله:[أَبْعَدَ عنّي] وهو حديث حسن.

وكذلك -أيضاً- يستتر فإذا كانت الأرض منبسطة بحث عن حفرة، أو شاخص، فإن وجد المطمئن من الأرض كالحفرة نزل فيها، وقضى حاجته؛ لأنه أبلغ في الاستتار ما لم يكن فيها ضرر عليه، أو يأتي إلى شاخص كأن يأتي إلى هضبة، أو تلٍّ؛ فيستقبله، ويقضي حاجته مستقبلاً له؛ لأنه أبلغ في الاستتار، وقالوا في الفضاء يُبْعد لأنه إذا بَعُدَ شخصه تعذر على العين الإطلاع على عورته، ويستتر لئلا يدهمه إنسان فجأة فيكون ذلك أبلغ في تحفظِه، وصيانة عورته، وقد عُظِّم أمر الاستتار في قضاء الحاجة، ومن تساهل في قضاء حاجته، فقضاها بجوار الطرقات على مرأى من الناس فإنه لا يخلو من الإثم، والتبعة، وقد ورد في حديث إِبن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين في قصة الرجلين اللّذين يعذبان قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم:[إِنهما يُعذّبان، وما يُعذبان في كبيرٍ، أمَّا أحدُهما فكانَ لا يَسْتَنْزِهُ من بَوْلِه] وفي رواية: [لا يَسْتَتِرْ مِنْ بَوْلِه] قال بعض العلماء: [لا يستتر] أي

ص: 91

يتساهل في كشف عورته، وعدم سترها عن أعين الناس -والعياذ بالله- فقالوا: إنها من الأمور التي تكون سبباً في عذاب القبر، وفتنته -نسأل الله السلامة والعافية-.

فالمقصود أنه ينبغي للإنسان أن يستتر، وأنبه على مسألة يخطئ فيها كثير -أصلحهم الله- خاصة من الجهلة، والعوام؛ فإنهم يأتون إلى أماكن الوضوء، ويكشفون عوراتهم، ويستنجون فيها دون حياء من الناس، ولا خوف من الله -جل وعلا- فأماكن الوضوء المخصّصة للوضوء لا يصلح فيها للإنسان أن يكشف عورته، وكذلك أيضاً يتسبب في أذية الناس بنتن البول، وريحه، فهذه من الأمور الممقوتة التي لا ينبغي للمسلم أن يفعلها، ومن رُوئِي منه فعل ذلك يُنصح، ويُذكّر، ويخوّف بالله -جل وعلا-، ويقال له: إتق الله، ولا تؤذ المسلمين، فإن أماكن الوضوء ليست لقضاء الحاجة لما فيها من أذية الناس بالرائحة، والنَّتن، وقد ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:[إتقوا اللّعانين، قالوا: وما اللّعانَانِ يا رسول الله؟ قال: الذي يبول في طريق الناسِ، وفي ظِلِّهمْ] فبيّن عليه الصلاة والسلام تحريم البول في هذين الموضعين لما فيهما من عظيم الضرر على المسلمين، فكذلك الحال فيمن يبول في أماكن الوضوء، حيث جمع بين كشف العورة، وأذية الناس بنتن البول، والنجاسة نسأل الله السلامة والعافية.

قوله رحمه الله: [وإرتيَادُه لِبَولِهِ مَوْضِعاً رَخْواً]: قوله: [وارتياده]: مأخوذ من قولهم: إرتاد الشيء: إذا طلبه، ومنه سُمّي الرائدُ رائداً، والرائد

ص: 92

في لغة العرب: هو الرجل الذي يُرسله الناس إذا كانوا في سفر لكي يطلب الماء لهم، فالرّيادة الطلب، فقوله:[إرتياده] أي: طلبه.

قوله: [وإرتيادُه لبوله موضعاً رخواً]: أي إذا أراد المسلم أن يبول فإنه يطلب الأرض الرخوة؛ لأن الأرض الرخوة أمكن في استيعاب البول، وأبعد من أن يتطاير طشاش البول، والنجاسة على البدن، والثوب فينجسه، فشُرع له أن يطلب المكان الرخو، وفيه حديث ضعيف عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إِذَا بالَ أحدُكم فَلْيَرتَدْ لِبَولِهِ] أخرجه أحمد وأبو داود، وفيه راوٍ لم يسمّ، وهو الراوي عن أبي موسى رضي الله عنه، وقد فُسِّر الإرتياد بمعنى الاختبار، والطلب كما مال إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، ولكن معناه صحيح أن الإنسان يشرع له أن يطلب مكاناً رخواً؛ لأنه يحقق مقصود الشرع من الاستنزاه من البول وقد دل على ذلك حديث الصحيحين عن إبن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجلين المعذبين في قبريهما، فمعنى الحديث، ومتنه صحيح، وإن كان سنده فيه ضعف، فإذا طلب المكان الرِّخو حقّق مقصودَ الشَّرع من الاستنزاه من البول؛ لأنه لا يأمن غالباً من طشاش البول، والأماكن تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن تكون صلبة.

القسم الثاني: أن تكون رخوة.

وفي كلا القسمين إما أن تكون الأرض طاهرة، وإما أن تكون نجسة.

فأصبح القسمان منقسمين إلى أربعة.

ص: 93

فإن كان المكان طاهراً صلباً بال جالساً، وإن كان نجساً رخواً بال قائماً، وإن كان نجساً صلباً إمتنع من البول فيه، وإن كان طاهراً صلباً خُيِّر بين الجلوس، والقيام، وقد جمع بعض الفضلاء هذه الصور الأربعة في قوله:

للطاهِر ِالصلب اجْلسِ

وامْنَعْ بِرَخوٍ نَجِسِ

والنجِس الصُّلْبَ اجْتنبِ

واْجلسْ وقُمْ إِن تَعْكِسِ

هذه أربع صور:

فقوله: (للطّاهِر الصُّلْبِ اجلِسِ): يعني إذا كان المكان طاهراً صلباً فإجلس. وقوله: (وامنَع برخوٍ نجس): يعني إذا كان مكاناً رخواً نجساً كما يحدث الآن إذا امتلأ موضع قضاء الحاجة لا يجلس الإنسان؛ لأنه إذا جلس ربما سقط ثوبه في النجاسة، أو تطاير طشاش البول على بدنه، أو ثوبه، خاصة عند قضائه لحاجته.

وقوله: (والنَّجِسَ الصُّلبَ اجتنب): أي إذا كان مكاناً صلباً نجساً، فلا تقضي الحاجة فيه أعني البول لأنه لا يأمن التَّنجس غالباً.

وقوله: (واجْلِسْ وقُمْ إِنْ تَعْكِسِ): يعني الطاهر الرَّخو إن شئت فاجلس فيه، وإن شئت فقم، فأنت مخيرٌ وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال قائماً، فالسُّنة دالة على جواز البول قائماً.

ومنع بعض العلماء منه، وهو مذهب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكانت تقول:" من حدَّثكمْ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالَ قائماً؛ فلا تُصَدّقُوه " والظاهر أنه لم يبلغها ذلك فحدثت بما رأته من غالب حاله عليه الصلاة

ص: 94

والسلام وهو البول جالساً، وقد صحَّ في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه:[أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سُباطةَ قومٍ فبَالَ قَائِماً] فدلّ على جواز البول قائماً قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً لعلّة؛ قيل: كان فيه مرض تحت ركبته في المَأبِضْ فلا يستطيع أن يثني رجليه فيجلس لقضاء حاجته فبال قائماً للضرورة.

وقيل: بال قائماً إستشفاءً من مرض الصُّلبِ، وكانت العرب تستشفي من أمراض الظهر بالبول قائماً فقالوا: إنه بال قائماً إستشفاءً من مرض الصُّلب.

وهذان الوجهان عُلِّلَ بهما لكي يقال: إن الأصل المنع، ولكن هناك وجه ثالث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، فلا حرج في فعله؛ لأنه لم يرد نهي عن البول قائماً حتى يقال إن الأصل يقتضى التحريم، والمنع؛ ولأنه لو كان بوله قائماً لعلّة المرض لنبّه على ذلك الصحابي، ولكنه لم يذكر شيئاً من ذلك، فدلّ على عدمه، وعليه فإنه يترجح القول بأنّ هذا جائز، ولا حرج فيه ولكن الهدي الأكمل، والأمثل أن يبول جالساً، وذلك لأنه هو هديه عليه الصلاة والسلام في أغلب أحوله، ولأن الجلوس أبلغ في الإستتار، والتحفظ من البول والله أعلم.

وقال بعض العلماء: بال عند سُباطة القوم قائماً؛ لأن السُّباطة مكان القذر، والنّجاسة؛ فلم يجلس -صلوات الله وسلامه عليه- من أجل ذلك، وهذه العلة هي الوحيدة القوية من بين العلل التي ذكروها لوجود دلالة في الظاهر تدل عليها.

ص: 95

قوله رحمه الله: [وارتيادُه لِبوْلِه مَوْضِعاً رَخْواً]: الارتياد قلنا: الطلب [لبوله] خرج الغائط فإن الغائط يرتاد له موضعاً أيَّاً كان لكن في الغائط، استثنى بعض العلماء أن يكون هناك مائع نجس كالحال إذا امتلأ الموضع المخصّص لقضاء الحاجة بالنجاسة كما يحصل في زماننا في بعض دورات المياه فإنه إذا تغوط لم يأمن من طُشاش النجاسة على ظهره، وثيابه إذا خرجت الفضلة من الغائط، ووقعت في النجاسة التي إمتلأ بها ذلك الموضع فيمنع من قضاء الغائط في مثل هذه المواضع إذا كانت مملوءة، وإذا كان المكان الذي جلس فيه الإنسان صلباً، وعنده آلة يستطيع أن يحكَّ بها الأرض فالأفضل له أن يحكّها، وحملوا على ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:[كنتُ أَسيرُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فأحملُ أَنا، وغلامٌ نَحْوي إداوةً من ماءٍ، وعَنَزة]، والعنزة: هي الحربة الصغيرة، وفي رأسها الزُّج، وهو الحديد قالوا: كانت تحُمل معه عليه الصلاة والسلام عند قضائه للحاجة، لأن من فوائدها إذا مرّ على صلبٍ حَكّه بها، ثم قضى حاجته، وقد صارت الأرض رخوةً، فكان ذلك أدعى لصيانة البدن، والثياب من النجاسة أثناء قضاء الحاجة.

قوله رحمه الله: [ومسْحُهُ بيدهِ اليُسرى إِذا فَرَغَ مِنْ بولِه مِنْ أَصلِ ذَكرهِ إلى رَأسِهِ]: هذا يسمى عند العلماء رحمهم الله بالسَّلْت، والسَّلت: أن يضع رأس اُصبعه عند أصل الذّكر، ثم يمرّه على مجرى البول حتى يُنقّي المجرى من الباقي إذا وُجِدَ، وهذا السّلتُ لا أصل له، وليس له دليل صحيح بل إنه

ص: 96

يجلب الوسوسة، ويشكك الإنسان، ولذلك قالوا: ينبغى للإنسان أن يقضي حاجته، فإذا غلب على ظنه أن البول إِنقطع قام.

أما أن يوسوس، ويبالغ في إزالة الخارج فإنه لا يأمن من حصول الوسوسة، والشّكِ، ويسترسل إلى ما لا تحمد معه العاقبة، وهذا صحيح، ولشيخ الإسلام -رحمة الله عليه- كلام جيد في هذه المسألة بيّن فيه أن هذا لم يثبت فيه نصّ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرر العلماء أن الذَّكَرَ كالضرع كلما حُلبَ دَرَّ أي: أن المكلف كلما ضغط عليه، وأكثر من تعاهده آذاه، وأتعبه بخروج البول، والمنبغي على المكلف أن يتقي الله على قدر إستطاعته يجلس فيقضي حاجته، فإن غلب على ظنِّه أن البول إنتهى صبَّ الماء، أو استجمر بالحجارة، ثم قام والله لا يكلفه إلا ما في وسعه، فإن أحسّ بخروج شيء، أو أن شيئاً يتحرك في العضو فذلك من وسوسة الشيطان حتى يستيقن فيجد البلل على ثوبه، أو على فخذه، أو رأس عضوه ولا يلزمه أن يذهب، ويبحث، ويفتّش فإن الإنسان إذا غلب على ظنِّه أنه إنقطع بوله كفاه ذلك، وأجزأ عنه، وقد فعل ما أوجب الله عليه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا إستمر على العمل بغالب الظنِ، وعدم البحث، والتّفتيش عن وجود شيء فإنه سرعان ما تذهب عنه الوساوس، وتضعف تدريجياً، كما يذكر الأطباء، والمجربون، هذا السّلت لا يشرع إلا في حالة واحدة، وهي: أن يكون الإنسان مبتلى بضعف في خروج البول، وهي حالة يُبتلى بها البعض - حمانا الله وإياكم منه- فبعد خروج بوله تبقى قطرات تضعف الآلة عن دفعها، ولا يمكن خروجها إلا بالسّلت فيُمرُ رأسَ إصبعه من أصل العضو إلى رأسه

ص: 97

حتى يُنْقِي الموضع هذا استثناه بعض العلماء، وهي الحالة الوحيدة المستثناة، وأما عدا ذلك فلا.

قوله رحمه الله: [ونتْرهُ ثلاثاً]: النتر بضرب رأس الذكر، كالسلت غير مشروع ولم يثبت به شيء، وفيه حديث ضعيف، ولا يعتبر من السُّنة، وكل من السّلت، والنتر مدعاة للوسوسة، والتباس الأمور على صاحبها، ولكن المكلف يتقي الله على قدر استطاعته، وشريعتنا شريعة رحمة، وتيسير وليست بشريعة عذاب، ولا عنت، ولا تعسير كما قال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) يقوم الإنسان فإن أحسّ بخروج خارج، أو حركة في العضو، ولم يتأكد من خروجه فإنه يحكم باليقين، وهو عدم الخروج، حتى يستيقن، أو يغلب على ظنه الخروج، ولو حكم باليقين، وبقي عليه، وكان الواقع أنه خرج شيء، ولم يعلم به فإن صلاته صحيحة، وطهارته مجزئة، لأنه عمل بالأصل إمتثالاً للشرع، والتزاماً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر من إستيقن الطهارة ألا يحكم بضدها إلا بيقين، أو غالب ظن، كما دلّ على ذلك حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الصحيحين حينما شُكِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلُ يجدُ الشيءَ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام:[لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً]، وإذا إستمر على ذلك إنقطعت عنه الوساوس والشكوك بإذن الله تعالى.

(1) الأنبياء، آية:107.

ص: 98

قوله رحمه الله: [وتحوّله عن مَوْضِعِه ليسْتَنْجِي في غَيْرِه]: هذه حالة خاصة تحصل لبعض الناس حيث يبقى الخارج في عضوه، ويحتاج إلى الإنتقال، والحركة ليقوى العضو على إخراج الفضله، وهذا القيام مبني على أحد أمرين:

الأمر الأول: ما ذكره بعض أهل العلم من أن الإنسان إذا ضعف عن إخراج الفضله فإنه لا يخلو من ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن تخرج منه بالسَّلت.

والحالة الثانية: أن تخرج بالصوت، وهو النّحْنَحةُ.

الحالة الثالثة: أن تخرج بعد التّحول، والحركة كالإنتقال من موضع قضاء الحاجة.

فبعض الناس إذا بقي الباقي في عضوه لا يستطيع إخراجه إلا بالسَّلت فيشرع له السَّلت؛ " لأن ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ " فشرع بأصل الشريعة.

النوع الثاني: يكون الدافع عنده ضعيفاً فيحتاج إلى إحداث صوت، وذلك بالنحنحة، وكانوا يعرفونها من الأمور التي يُبلى به الإنسان عند قضائه لحاجته، فيتنحنح حتى تقوى آلته على الدفع قالوا: فيشرع له ذلك فيتنحنح.

ومنهم من يخرج منه الخارج بعد حركته، فإذا إنتقل من موضع قضاء حاجته، ومشى الخطوة والخطوتين قويت الآلة على الدفع، فدفعت ما هو ثمَّ، قالوا: فمثل هذا بعد أن ينتهى من قضاء الحاجة يقوم إلى أقرب موضع يستنجي فيه حتى يقوى العضو على إخراج ما بقي.

ص: 99

الأمر الثاني: الذي من أجله ذكر العلماء القيام من الموضع إلى موضع ثانٍ ليستنجي فيه: إنه إذا قضى الحاجة على التراب كما هو الحال في القديم فإنه لا يأمن أثناء صب الماء على العضو أن يتطاير شيء من البول على البدن، أو الثوب، أو المكان، ولذلك قالوا: إنه يتحوّل عن موضع قضاء حاجته إلى موضع قريب حتى إذا صبّ الماء نزل على أرض طاهرة، فإذا تطاير شيء من ذلك الماء لم يدخله الوسواس هذا هو وجه الانتقال عندهم، وهو أقوى الوجهين لكنه قد يحكم باختصاصه بحال الإستنجاء بالماء كما يفهم من قول المصنف رحمه الله بقوله:[ليسْتَنجِي في غيره إنْ خَافَ تلوثاً] ويختص بحال خوفه من التلوث، والنجاسة.

قوله رحمه الله: [ويُكْرهُ دُخولُه بشيءٍ فيه ذِكرُ اللهِ تعالى]: ويكره للمسلم أن يدخل الحمام، وموضع قضاء الحاجة بشيء فيه ذكر الله مثل: كتب التفسير، والحديث، وكتب العلم، والرسائل، وأما القرآن نفسه؛ فقد نصّوا على حرمة دخول مكان قضاء الحاجة به، واستثنوا من منع دخول مكان قضاء الحاجة بشيء فيه ذكر الله تعالى حالة الحاجة، كما نصّ عليه المصنف رحمه الله بقوله:[إِلا لحاجةٍ] ومن أمثلة ذلك: الدّراهم، والنقود إذا كان مكتوباً عليها إسم الله، وكان يخاف إن وضعها في الخارج أن تُسْرقَ، وكذلك إذا كانت معه كتب علم لم يجد مكاناً تصان فيه بحيث لو وضعها خارج موضع الحاجة تعرّضت لامتهان أكبر، أو يخاف أن تتلف، أو تُسرق فحينئذ لا بأس أن يدخلها معه، ثم إذا دخل نظر إلى موضع غير مكان قضاء حاجته يمكن وضعها فيه على وجه لا تُمْتهنُ فيه، مثل: أن

ص: 100

يضعها على إبريق الماء، ويُبعده عنه، ويُنحّيه عن موضع قضاء حاجته، أو على مقبض الباب إن أمِنَ سقوطها، وقد دلّت الأصول الشرعية على أنه ينبغي للمسلم أن يعظِّم شعائرَ الله، (وهي كل ما أشعر الله بتعظيمه) كما في قوله سبحانه وتعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ولا شك في أن القرآن، وكتب التفسير، والحديث، ونحوها كلّها من شعائر الله لما فيها من آيات القرآن، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما الوحي، والأصل فيه أن يكرَّم كما قال سبحانه وتعالى منبهاً عباده على هذا الأصل الشرعي:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} فقوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} خبر بمعنى الإنشاء ففيه تنبيه على ما ينبغي على المسلم من إكرام الوحي.

قوله رحمه الله: [ورَفْعُ ثَوبِه قَبلَ دُنوهِ مِنَ الأَرْضِ]: مراده أنه ينبغي على المكلف إذا أراد أن يقضي حاجته أن يرفع ثوبه إذا دنى من الأرض، وهذا مبني على الأصل الشرعي الموجب لمنع كشف العورة ووجوب حفظها كما في الحديث الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام:[إِحْفَظْ عَورَتَكَ] وقد جاز له كشفها لقضاء الحاجة، فلا يكشفها إلا مقارباً لذلك، وذلك عند دنوه من الأرض، ولأن ذلك أبلغ في الاستتار، فإذا رفع ثوبه قبل الدّنو من الأرض كان ذلك مكروهاً له، لا محرماً.

قوله رحمه الله: [وكلامُه فِيهِ]: أي ولا يتكلم فيه، والضمير في قوله:[فيه] عائد إلى الموضع الذي يقضي فيه حاجته، والنهي عن ذلك ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لا يذهبُ الرّجلانِ يَضْربانِ

ص: 101

الغائطَ يُكلّم أحدُهمَا صَاحِبَه، فإن الله يَمقُتُ ذَلِكَ] ولو صحّ هذا الحديث لكان موجباً للتحريم، لأن مقْتَ الفعل دالّ على مَقْتَ الفاعل، والفعل الموجب للمقت محرم شرعاً.

والكلام أثناء قضاء الحاجة إعتبره المصنف رحمه الله مكروهاً لا محرماً، وهو عند بعض أهل العلم رحمهم الله من خوارم المروءة، فمن فعله سقطت مرؤته، ورُدّتْ شَهادُته، ولا شك في أن الحياء مانع من فعل ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح:[إِن مما أَدْركَ النّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبوةِ الأُولى إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَع ما شِئْتَ]، وتستثنى الحالات التي توجد فيها ضرورة، أو حاجة للكلام فمثال الضرورة: أن يخشى على إنسان الهلاك، ويكون في حال قضاء حاجته، فيصيح لإنقاذه، وإعلام الغير بحاله، ومثال الحاجة: أن يترك صبياً فيخشى ذهابه، وضياعه، فيكلمه حتى يكون ذلك سبباً في بقائه، وعدم ذهابه، ونحو ذلك مما تدعو الحاجة إليه.

وقوله رحمه الله: [وكلامه فيه] فيه فائدة حيث إن الحكم بكراهية الكلام متعلق بحال وجود الإنسان في موضع قضاء الحاجة بغضِّ النّظر عن كونه يقضي حاجته، أو لا، وعليه فبمجرد دخوله للموضع يمتنع من الكلام.

قوله رحمه الله: [وبَولُهُ في شَقٍ، ونحوه] أي ويكره أن يبول في شَقٍّ، والشَّقُ: واحد الشُّقوق، وهو الصَّدْع في الأرض، وقوله [ونحوه] أي نحو الشق من الفتحات مثل: الثُّقْبِ، وقد علّل بعض الشّراح ذلك بكونها مساكن للجنِّ، فإذا بال فيها آذاهم فيؤذونه، وذكروا في ذلك قصة موت سعد إبن عبادة رضي الله عنه وفي سندها كلام.

ص: 102

ومن أهل العلم من علّل ذلك بأن الهوامَّ، والحشرات تكون غالباً في هذه المواضع، فإذا بال فيها خرجت عليه، فما كان منها مؤذياً كالحيّات، والثّعابين يؤذيه، وربما يتسبب في موته، وعلى الأقل ربما خرج عليه أثناء البول فيقطع بوله فيُزْرِمَه فيضره ذلك في جسده كما هو معروف عند الأطباء، ولو خرجت الحشرات الصغيرة تنجست بالبول، فربما سعت إلى قدميه، وجسده، أو ثوبه فتَلوَّثَ بالنجاسة، ومن هنا نبّه المصنف رحمه الله على عدم البول في هذه المواضع، والتَّنبيه على ذلك موافق لأصول الشريعة.

قوله رحمه الله: [ومسُّ فَرْجِهِ بِيَمينِه] أي: ويكره أن يمسَّ الفرج باليمين، والصحيح: أن ذلك محرم لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا يُمْسِكَنَّ أحدُكمْ ذَكَرَهُ بيمينِه وهُو يَبُولُ، ولا يَتَمسحُ من الخلاءِ بِيَمينِه]، والنهي يقتضي التحريم، ومثله حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، وهو صحيح.

عبّر المصنف رحمه الله بالفرج ليدل على شموله للقبل، والدبر سواء كان من المرأة، أو الرجل، فلا يجوز لمسه بيمينه.

والتعبير باللّمس يدلُّ على أنّ محل ذلك أن يباشر الفرج بيده دون وجود حائل، ومفهومه: أنه إذا وجد الحائل فلا بأس، وهو أحد الوجهين عند أهل العلم رحمهم الله.

والنهي عن مسِّ الفرج باليمين، وتحريمه محلّه إذا لم توجد حاجة، أو ضرورة، فإن وجدت فلا حرج مثل: أن يكون ذلك لتعذر اللّمس بالشمال كمن كانت يده اليسرى مشلولة، أو مقطوعة، أو بها علّة تمنع مباشرتها، والحكم

ص: 103

بالمنع لا يختص بالإنسان نفسه بل يشمل غيره، فلا يجوز للمرأة أن تلمس ذكر صبيّها باليمين، وهكذا الطبيب، بل يقع اللّمس عند وجود الموجب للترخيص لهم به بغير اليد اليمنى منهم، ويكون تعبير النصِّ في الأحاديث الناهية عن إمساك الإنسان لذكره في قوله:[أحدُكُمْ ذَكَرَهُ] قد خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن يمسك الإنسان ذكر نفسه، والقاعدة في الأصول:[أن النصَّ إذا خَرَج مخرَجَ الغَالبِ لم يُعْتَبرْ مَفهُومُه].

قوله رحمه الله: [واسْتِنْجَاؤه، واسْتِجْمارُه بها]: أي ويكره إستنجاؤه، واستجماره بها أي بيده اليمنى، وقد قدمنا أن الصحيح أن هذا محرم لورود النهي الدّال على ذلك.

والمراد باستنجائه باليمين أن يصبَّ الماء على فرجه قُبلاً كان، أو دبراً رجلاً كان، أو إمرأة ثمّ يلمسه بها أثناء الإستنجاء لطلب حصول النقاء.

والحكم فيه كما تقدم في لمس الفرج أنه لا يجوز عموماً سواء إستنجى لنفسه، أو إستنجى لغيره كغسل فرج الصبيِّ، والصَّبية، والعاجز، والمشلول، ونحوهم، فلا يجوز أن يكون ذلك باليمين.

وأما الإستجمار باليمين فهو أن يأخذ الأحجار، والمناديل التي يريد أن يستجمر بها بيده اليمنى، وينظف بها المكان، صحيح أن المباشرة للفرج كانت بالحجر، والمنديل لكن الشّرع نهاه أن يفعل ذلك بيمينه؛ كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:[ولا يَسْتَطِبْ بِيَمينهِ]، وظاهر النهي التحريم.

ص: 104

وقد أورد بعض العلماء رحمهم الله إشكالاً في الاستطابة، خاصّة إذا كانت من البول من الرجل، فمن المعلوم أنه لا يجوز له أن يمسك ذكره بيمينه كما قدمنا، وهنا لا يجوز له أن يمسك الحجر، أو ما يستجمر به بيمينه، وهو لا بد له أن يمسك ذكره أثناء الإستجمار، فإن أمسكه باليمين خالف النهي الوارد عن إمساكه بها، وإن أمسكه بشماله فسيمسك الحجر بيمينه ويكون مستطيباً بها؛ فخالف النهي الوارد عن الاستطابة بها، فكيف يفعل؟

وأجيب بأنه لا يمسك ذكره بيمينه لأن النهي صريح في ذلك، ويمسك الحجر باليمين، ويثبِّتها، ولا يحرِّكها، ويكون التحريك للعضو باليسار، وحينئذ لا يكون مستطيباً بيمينه، ويرتفع الإشكال، لأن الإستطابة باليمين تكون بتحريكه للحجر، والمنديل، فيمتنع من فعل التحريك، ويُبْقيها ثابتة، ويحرِّك يسراه لتحصل الإستطابة بها وحدها.

قوله رحمه الله: [وإِسْتِقْبالُ النَّيرَيْنِ] أي ويكره له أن يستقبل النيّرين، والنيّران هما: الشمس، والقمر، وصفا بذلك لوجود النور فيهما كما قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} ، والحكم بكراهة استقبال النَّيرين ورد فيه حديث ضعيف، وقيل: لما فيهما من نور الله تعالى كما مشى عليه صاحب الروض وقيل: لأنهما من آيات الله، وقيل: لأنّ عليهما ملكين وكلها أقوال ضعيفة، والصحيح: أنه لا يكره إستقبالهما، واستدبارهما لأنّ السُّنة ثبتت بجواز ذلك كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[لا تَسْتقبلوا القِبلةَ، ولا تَسْتدبِروها ببولٍ، ولا غَائطٍ ولكنْ شَرِّقُوا، أو غَربوا] ومن المعلوم أن

ص: 105

هذا الحديث خاطب عليه الصلاة والسلام به أهل المدينة، والقبلة بالنسبة لهم جنوباً، فقوله:[شَرِّقوا، أو غَرِّبوا] إذن باستقبال المشرق، والمغرب، وهذا يستلزم لا محالة أن يستقبل النيّرين قطعاً خاصة عند الطلوع، والغروب، فدل على عدم صحة القول بتحريم إستقبال النيرين، وأن الصحيح جوازه، خاصة، وأنه لم يثبت في النهي عن ذلك، ولا فيما ذكروه من العلل دليل شرعى يعتمد عليه في ذلك.

قوله رحمه الله: [ويَحرُمُ إِسْتقبالُ القِبلةِ، واسْتِدبارُها في غير بُنيانٍ]: أي: ويحرم على المكلف أن يستقبل القبلة، أو يستدبرها في غير بنيان، وهذه المسألة إختلف فيها العلماء رحمهم الله على ستة أقوال، وهي:

القول الأول: يحرم الاستقبال، والاستدبار مطلقاً، وهو مذهب الحنفية، واختاره الإمام ابن حزم، وشيخ الإسلام رحمة الله على الجميع.

القول الثاني: يجوز الاستقبال، والاستدبار مطلقاً؛ وهو مذهب الظاهرية، وبعض السلف رحمهم الله.

القول الثالث: يجوز الاستدبار، دون الاستقبال؛ وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة، وأحمد، وقول بعض السلف رحمهم الله.

القول الرابع: يجوز الاستدبار، دون الاستقبال في البنيان، دون الصحراء؛ وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله.

القول الخامس: يجوز الاستقبال، والاستدبار في البنيان، دون الصحراء؛ وهو مذهب الجمهور، وهم المالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله.

ص: 106

القول السادس: يحرم استقبال القبلة ببول، أو غائط، وكذلك بيت المقدس؛ وهو قول الحسن البصري رحمهم الله.

وهذه هي أقوال العلماء -رحمة الله عليهم- في هذه المسألة وقد بيّنتها، وذكرت أدلتها، ووجه دلالتها في شرح بلوغ المرام، والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول بالتحريم مطلقاً لما يلى:

أولاً: لصحة دلالة السنة في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تَسْتَقبلُوا القِبْلةَ، ولا تَسْتَدبروها ببولٍ، ولا غائطٍ، ولكنْ شَرِّقوا، أو غَرِّبوا] متفق عليه، ومثله حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه فهذا نهي عام شامل للإستقبال، والإستدبار في الصحراء، والبنيان، والأصل في النهي أنه محمول على التحريم حتى يدلّ الدليل على صرفه إلى الكراهة.

ثانياً: أنه دليل حظر، وما إستدل به من خالفه فدليله للإباحة، والقاعدة:(أنه إذا تعارضَ الحاظِرُ، والمُبيحُ قَدّمنا الحاظرَ عَلى المُبِيح).

ثالثاً: أنّ حديث إبن عمر رضي الله عنهما في رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم [يَقْضِي حَاجَتَهُ على لَبِنَتيْنِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الكَعْبَةِ] لا يقوى على معارضة حديثنا من الوجوه التالية:

الوجه الأول: أنّ حديثنا قول إشتمل على خطاب، وتشريع للأمة، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما فعل من النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة:(أنه إِذا تعَارضَ القَوْلُ، والفِعْلُ، قَدّمْنا القَوْلَ على الفِعْلِ) لأن

ص: 107

الفعل يدخله إِحتمال الخصوصية بخلاف القول الذي خُوطِبتْ به الأمّة، فيكون دليل القول أرجح.

الوجه الثاني: أنه لو كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم تشريعاً للأمة لما وقع على هذا الوجه الخفي الذي لا يمكن أن تطلع عليه الأمّة في الأصل، لأن وسيلته محرمة، وهي قصد النظر إليه عليه الصلاة والسلام على هذه الحالة، ولذلك لم تقع من إِبن عمر رضي الله عنهما قصداً، فلا شك أن هذا يَبْعُد معه القول بأنه تشريع للأمة، وهو يقوي دعوى الخصوصية له عليه الصلاة، والسلام.

الوجه الثالث: أنه على القول بأن العلّة في النهي هي تعظيم القبله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينخرم فيه هذا المعنى لمكان العصمة، بخلاف عموم الأمة، فقوّى هذا المعنى القول بحمل حديث إِبن عمر رضي الله عنهما على الخصوصية.

الوجه الرابع: أنّ حديث إِبن عمر رضي الله عنهما لم يعارض حديث أبي أيوب رضي الله عنه من جميع الوجوه لأنه إِشتمل على إِستدبار الكعبة، وحديث النّهي جمع كلا الأمرين الاستقبال، والاستدبار، فلا يقوى على العارضة فيهما، بل تقع المعارضة فيه من وجه واحد، وهو الاستدبار دون الاستقبال، وحينئذ يضعف متنه عن معارضة متن حديث أب أيوب رضي الله عنه عند من يحمله على المعارضة العامة، ويقول بجواز الأمرين في البنيان، دون الصحراء، وهم الجمهور رحمهم الله.

ص: 108

رابعاً: أنّ أحاديث الجواز الأخرى لم تخل أسانيدها من كلام كما بيّناه في شرح البلوغ، وحديث النهي، والتحريم أصحُّ ثبوتاً، وأقوى دلالة على الحظر، والتحريم فكان مُقدّماً على غيره، والله تعالى أعلم.

قوله رحمه الله: [ولبْثُهُ فَوقَ حَاجتِه] أي: ويحرم أن يلبث بمعنى: أن يقعد في مكان قضاء الحاجة أكثر مما يحتاجه، بل عليه أن يبادر بالخروج منه بمجرد إنتهائه من حاجته، وطهارته منها، والأصل في ذلك: أن السنة دلّت على أنها أماكن فيها الضرر كما يشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: [إنّ هذه الحُشوش محتَضَرة] أي تحضرها الشياطين، وفي دعائه عليه الصلاة والسلام عند دخوله بقوله:[اللهم إني أعوذُ بِكَ من الخبثِ، والخبائِثِ] ما يشير إلى هذا المعنى، وعلّل في الروض التحريم بكشف العورة، أي أنه سيبقى مكشوف العورة فوق قدر الحاجة، وهي علة واردة، ولكن يشكل عليها أنها تقتضي تخصيص التحريم بحال كشف العورة، فلو سترها، وأطال المكث لخرج من المنع، وظاهر كلام المصنف رحمه الله لا يدل عليه لأنه غير مُقيَّدٍ بهذه الحالة، بل العبرة بالمكان نفسه، ولذلك جعل التحريم مرتباً على إطالة اللبث، والمقام في المكان لغير حاجة، وظاهره أن العبرة بالمكان كما شهدت به دلالة السنة المتقدمة.

قوله رحمه الله: [وبَولُه في طريقٍ، وظلٍّ نَافِع]: أي ويحرم عليه أن يبول في طريق؛ وسُمِّي الطريق طريقاً من الطَّرق؛ لأن الناس يطرقونه بنعالهم، وقيل: لأنه يُسمع فيه طرق النعال.

ص: 109

والطريق فيه موضعان:

الموضع الأول: الطريق المعين المحدد، وهذا لا إشكال في حرمة قضاء الحاجة فيه سواء كانت بولاً، أو غائطاً، ومن فعل ذلك فإن الناس تلعنه، وقد ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نبّه أمته على ذلك بقوله:[إِتّقُوا اللّعانينِ، قالوا: وما اللّعانَانِ يا رَسولَ الله؟ قال: الّذي يبُولُ في طريقِ النّاسِ، وظِلهمْ] فبيّن عليه الصلاة والسلام حرمة ذلك، وأنه موجب للعن الناس، وأمر أمته أن تجتنبه لما فيه من أذية المسلمين، ولا يجوز للمسلم أن يؤذي إخوانه، أو يتسبب في أذيتهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح:[الُمسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الُمسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ، ولِسَانِهِ].

الموضع الثاني: الجوانب المُهَيّأة لقضاء الحاجة كما في طرق السفر الآن، وقد تكون محجوزة لا يستطيع الإنسان أن يذهب في مكان غير أطراف الطريق فإذا إحتاج أن يبول فلا حرج عليه أن يقضي حاجته في تلك الأطراف، لبعد تلك الجوانب، وعدم حصول الضرر على المسافرين غالباً، ولكن عليه أن يبتعد عما يغلب على الظن نزول المسافرين فيه، للجلوس، أو الصلاة.

وأما الظِّلُ: فهو الساتر من الشمس، والنّاس تحتاجه غالباً وترتفق بالنزول، والجلوس فيه، فإذا قضى حاجته فيه حَرَمَهم منه، أو آذاهم أثناء جلوسِهم فتَنجّسوا، أو تأذَوا بالرَّائحةِ، فحَرُم عليه أن يقضي فيه حاجته لذلك، ويفهم من قوله [نافعٍ] أنه إذا لم يكن كذلك جاز له قضاء الحاجة فيه، واعتبر بعض الفقهاء رحمهم الله العلّة، وهي حاجة الناس للإنتفاع بالمكان،

ص: 110

وبنوا على ذلك تحريم البول في المكان المشمس الذي يجلس الناس فيه في الشتاء كما نبه عليه في الشرح.

وأما الدليل على تحريم البول في الطريق فالأصل فيه ما تقدم ذكره في الطريق، وهو ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إِتّقُوا اللّعانينِ. قالوا: يا رسولَ اللهِ وما اللّعانان؟ قال: الذي يَبولُ في طريقِ الناسِ، وظِلِّهمْ]، فدلّ على حرمة البول في هذين الموضعين، وفي حكمه التغوط، لأن المعنى فيهما واحد.

قوله رحمه الله: [وتَحتَ شَجَرةٍ عَليها ثَمرةٌ]: أي ويحرم عليه أن يبول تحت شجرة مثمرة، لأن الشجرة تغتذي بالنجاسة.

ومذهب بعض العلماء أن الشجر إذا اغتذت بالنجاسة لا يجوز أكل ثمرتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الجلاّلة وهي التي تأكل العذرة، والنجاسة، فدلّ هذا على أن الشجر إذا اغتذى بالنجاسة لا يجوز أكل ثمره وهذا أصح قولي العلماء؛ أو تكون علة التحريم أن الشجر يستظل الناس بظلّه؛ فإذا قضى الحاجة تحته فإنه يمنعهم من المقيل، والنزول تحته، والإرتفاق به.

قال رحمه الله: [ويُشْتَرطُ للاستِجمَارِ بأحجارٍ، ونَحوِها أَنْ يكونَ طاهِراً منْقِياً] في هذه العبارة بيّن المصنف الأمور التي ينبغي توفرها في الشيء الذي يستجمر به، وقد ذكر في عبارته هنا وصفين لا بد من تحققهما:

الأول: أن يكون طاهراً.

والثاني: أن يكون منقياً.

ص: 111

أما طهارة الشيء الذي يستجمر به فكأن يأخذ حجراً طاهراً، ويُنْقِي به الموضعَ، أو يأخذ ورقاً، أو قماشاً ما لم يكن فيه كتابة، أو شيءٌ محترم فيأخذ هذا الطاهر، ويُنْقِي به الموضع لأن الشّرع شرع الطهارة بالماء، والحجارة لإنقاء الموضع فإذا كان الشيء الذي يتطهر به نجساً لم يحقق مقصود الشرع لأنه يزيد الموضع نجاسة، ولا ينقيه.

والدليل على اشتراط هذا الوصف: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جِيءَ له بالحجرين، والرَّوثة ليستنجي بها رمى الروثةَ، وقال:[إنها رِكْسٌ] وهي لغة اليمن أنهم يبدلون الجيم كافاً، والأصل [رِجْس] والرِّجْسُ: النَّجِسْ، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الإنقاء بالروثة بناء على أنها ركس، فدلّ على أنّ الشيء الذي يتطهر به لا بد من أن يكون طاهراً.

وأما شرط الإنقاء: فالمراد به أن يحصل النّقاء للموضع عند مسحه بذلك المستجمر به من الحجارة، والمناديل، ونحوها، فأما إذا كان لا يُنْقِي مثل: الزجاج، والحجر الأملس، والرُّخام الأملس، والفحم، ونحوها فلا يجزئ، لأنه لا يحقق مقصود الشرع من تنظيف المكان، وتنقيته، فلا تحصل به الطهارة، ودليل ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام:[أنه نهى عَنِ الإسْتِنْجَاءِ بالرَّجِيع، والعَظْمِ] والنهي عن الإستنجاء بالعظم مبني على كونه زاداً لإخواننا من الجن، ولأنه أملس لا يحصل به النقاء.

فتلخص مما سبق أنه لا بد من تحقق هذين الوصفين:

الأول: أن يكون الشيء الذي يستجمر به طاهراً.

والثاني: أن يحصل به النقاء للموضع من النجاسة.

ص: 112

قوله رحمه الله: [غيرَ عَظْمٍ، ورَوْثٍ]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بهما كما في أحاديث السنن، ومنها حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، وغيره، أما العظم فقال فيه عليه الصلاة والسلام:[إِنه زادُ إِخوانِكُمْ مِنَ الجِنِّ] ولذلك لما إِجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بالجِنِّ سألوه الزاد؟ فقال: [لَكمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكر اسم اللهِ عَليْه تَجدونهَ أَوفَرَ مَا يكونُ لَحْماً] ولذلك نهي عن الاستجمار به، وهي إحدى العلتين فيه.

وقال بعض أهل العلم: إن العظام مع كونها زاداً لإخواننا من الجن لا تُنْقِي الموضعَ ففرّعوا على هذه العلِّة حكما، وهو عدم الاستجمار بشيء أملس لا يُنْقي الموضع، وهي العلة الثانية في تحريم الإستنجاء به.

قوله رحمه الله: [وطعامٍ]: أي وغير طعام فإن الطعام لا يجوز الاستجمار به لما فيه من الامتهان، والإفساد للنعمة، وكلاهما محرم، ولذلك نصّوا على أنه لا يجوز الاستجمار بالطعام، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله.

وقال بعض العلماء: إنه إذا قصد باستنجائه بالطعام إمتهان النعمة يكفر -والعياذ بالله- كما لو وطئها بقدمه قاصداً الامتهان، والكفر بالنعمة -نسأل الله السلامة والعافية-.

قوله رحمه الله: [ومُحْتَرَمٍ]: المحترم: هو الشيء الذي له حرمة، ومعنى العبارة أنه لا يجوز الاستجمار بالمحترمات، ومنها كتب العلم، لأنها من شعائر الله التي أشعر الله سبحانه بتعظيمها كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ

ص: 113

يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1)، قال بعض العلماء: الشعائر جمع شعيرة، وهي كل ما أشعر الله أي: أعلم العباد بحرمته، وتعظيمه فلذلك لا ينبغي أن يستجمر بشيء محترم شرعاً لأنه مخالف لمقصود الشرع.

قوله رحمه الله: [ومتَّصِلٍ بِحيوانٍ]: كأن يستجمر بذيل الناقة، أو البقرة، أو يستجمر بظهرهما، كل ذلك لا ينبغي له لأنه في حكم الاستجمار بالطعام، ولما فيه من تنجيس الموضع المتصل بذلك الحيوان.

ومما ينبغي على طالب العلم أن يلاحظه أن هذه المستثنيات على ضربين:

الضرب الأول: ورد النصّ به كالعظم، والرَّوثِ.

والضرب الثاني: منه ما عُرف من أصول الشرع المنع منه كما في المحترم، ونحوه، ومنه: ما يفوِّت مقصود الشرع، وهو الذي لا يُنْقِي، وبناءً على ذلك نفهم أن أحكام مسائل الفقه تؤخذ تارة من نصِّ الشَّرع عليها، وتارة تُفْهم من أصوله العامة، فالعلماء رحمهم الله يذكرون ما نصَّ الشَّرع عليه؛ لأنه هو الأصل، ثم يُتبعونَه بما دلّت الشريعة عليه بالعمومات، أو بالأصول العامّة كأن تقول: مقصد الشريعة إحترام كتب العلم، وإجلالها لقوله تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} وفي الاستنجاء بها مخالفة لمقصود الشرع فيحرم، وقد قرر الإمام الشاطبي رحمه الله هذه القاعدة في مباحث المقاصد من كتابه الموافقات الذي ينبغي على طلاب العلم أن يقرؤوه، وأن يلمّوا به، وهو في الجزء الثاني من الموافقات، وهو من أنفس ما كتب في المقاصد،

(1) الحج، آية:32.

ص: 114

ومسائلها، ويقال: أنه أول من كتب في باب المقاصد، وأفردها ببحوثها قرّر ذلك بقوله رحمه الله:[قَصْدُ الشّارع من المكلّفِ أن يكون قصدُه موافقاً له لا مخالفاً] فإذا فهمنا أن مقصود الشريعة إحترام كتب العلم، وإجلالها، وسئلت عن شيء يتضمن إحتقارها، أو الاستخفاف بها، أو إنتقاصها تفهم أنه ليس ثَمّ شرع الله أي أن هذا الفعل المسؤول عنه مخالف لما أمر الشّرع به، فيُمنع منه بأصول الشّرع العامة لا بالنصّ عليه عيناً، وهذا الذي يسمونه الأخذ من أصول الشريعة العامة، وبناءً على ذلك لما كان مقصود الشرع إجلال ما أمر بإجلاله من كتب العلم، والمحترمات فرَّع العلماء رحمهم الله عليه هذه المسألة.

قوله رحمه الله: [ولو بِحَجرٍ ذي شُعَبٍ]: [لو]: فيها إشارة للخلاف في الفقه المذهبي.

ومنهم من يقول: إنها مطلقاً إذا جاءت في كتب الفقه، أو متونه مثل أن يقول المصنف:[يجوز ذلك ولو على ظهر السفينة] تفهم أن المسألة على ظهر السفينة فيها خلاف، وتفهم أن ما بعد (لو) على الراجح عند المصنف، وأن هناك قولاً مخالفاً لهذا القول.

وقال بعض العلماء: لا تشير إلى الخلاف إلا إذا التزم المصنف بها في مقدمته كما فعل خليل صاحب المختصر في الفقه المالكي، ونبّه على إعتباره لهذا المصطلح في مقدمته.

قوله رحمه الله: [ولو بِحَجَرٍ ذِي شُعَبٍ]: الحجر ذو الشعب هو: الذي يكون له ثلاث، أو أربع شُعَب على حسب كبره المهم أنه لو أخذ الحجر

ص: 115

الذي له ثلاث شعب، واستجمر بشعبةٍ منه، ثم قلبه إلى الشعبة الثانية، واستجمر بها ثانية، ثم قلبه إلى الشُّعبة الثالثة، واستجمر بها، فإنه يجزيه عن الثلاثة الأحجار، وهذا محلّه في الحجر الكبير، دون الصغير كما هو معلوم.

قوله رحمه الله: [ويُسنُّ قَطْعُه على وِتْرٍ]: ويسن قطعه: أي قطع الخارج على الوتر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، فقال عليه الصلاة والسلام:[ومَنْ إِسْتَجْمَرَ فَليُوتِر] وللعلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: [ومَنْ إسْتَجْمر فليُوتِرْ] قولان:

القول الأول: " مَنْ اسْتَجْمَرَ " أي: قطع الخارج من بول، أو غائط فليوتر، وسنبين معنى ذلك.

القول الأول: " مَنْ اسْتَجْمَرَ " أي: من تطيّب بالبخور، ونحوه فليوتر؛ لأن البخور يوصف بذلك، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم منهم-:[مَجامِرُهم الألُوّةُ] فالاستجمار يقولون: المراد به التطيب، وهذا قول إمام دار الهجرة الإمام مالك -رحمة الله عليه- وقال به بعض أئمة اللغة، ولذلك قالوا: يُسنّ في تطييب الناس بالبخور أن يُطَيبوا مرة، أو ثلاثاً، أو خمساً، أو بأيِّ عددٍ آخر وتري، فإذا تطيب الإنسان بالطِّيب يقطع على الوتر، لأن له أصلاً عاماً في تفضيل الوتر؛ فيدخل فيه الطيب لإحتمال السنة له في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا.

فأما على القول الأول: وهو تفسيره بقطع الخارج فبيانه أن من إستجمر بعد بوله إِن إنقطع الخارج وتطهّر الموضع بالثلاثة الأحجار، وهي الأصل فلا

ص: 116

إشكال، وأما إذا لم ينقطع بذلك فتجب عليه الزيادة حتى يطهر الموضع، وحينئذ إما أن يحصل ذلك بعدد وترى كالخمس، والسبع فلا إشكال.

وإما أن يحصل بعدد شفعيٍ كالأربع، والسِّت، والثمان فيزيد واحدة ليحصل الإيتار، وبها تكون السنة، وهكذا الحال في قطع الغائط.

قوله رحمه الله: [ويَجِبُ الإستنجاءُ لكُلِّ خارجٍ إلا الريحَ] قصد المصنف رحمه الله أن يبين بهذه العبارة حكم الطهارة من الخارج بالاستنجاء، والإستجمار، وهو وجوبها، وقد دلّ على ذلك دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه من الأحاديث الكثيرة المشتملة على محافظته على الإستنجاء، والاستجمار، ومن أشهرها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:[أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يأتي الخلاءَ قال: فأحمِلُ أنا، وغُلام معي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء]، وكذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما أراد الخلاء:[إئتني بِثَلاثةِ أحْجار]، وأمر بها عليه الصلاة والسلام، ثم علّل ذلك الأمر بقوله:[فإنها تُجزِيهِ] وهذا التعليل دال على الوجوب كما قرره الإمام ابن قدامة رحمه الله، لأن التعبير بهذه الصيغة مشعر باللزوم، والوجوب.

وقوله رحمه الله: [ويَجبُ الإِسْتِنْجاءُ] ليس المراد به أن الإستنجاء بالماء متعيّن بل يجوز أن يعدل إلى الإستجمار بالطاهر من الحجر، والمنديل، ولا يجب الماء عيناً، سواء وجد الماء، أو لم يجده، وسواء كان مقيماً، أو مسافراً فهو

ص: 117

مخيّر بينهما ولا يتعين عليه واحد منهما إلا إذا تعدى الخارج الموضع كما في الدبر فيجب الإستنجاء بالماء لتطهيره.

وهل الأفضل الماء، أو الحجارة؟

والجواب: أن الماء أفضل لأنه أبلغ، وخاصة في النساء كما كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تأمر به في حَقِّهنَّ، والأحوال في الأفضلية على ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: الجمع بين الحجارة، والماء وهي أفضلها كما نصّ عليه طائفة من أهل العلم رحمهم الله وفيها: حديث أهل قباء، وهو متكلم في سنده، وتكلمنا عليه في شرح البلوغ، وبيّنا أن ضعف إسناده لا يمنع صحة متنه، لأن مقصود الشّرع حصول الطهارة على أتمِّ الوجوه، وأكملها، فهو موافق للأصول العامة، ولا يعتبر من البدع، والمحدثات حيث لا يعرف عن أحد من أئمة العلم رحمهم الله من المتقدمين أنه بدّع ذلك مع شُهرة حديثه، وكلام العلماء عليه بل نصّ بعضهم كما قدمنا على إستحبابه، وأنه أفضل لأن الكل ورد الإستنجاء، والإستجمار، وإنما لم ينصوا على تبديع فاعله؛ لأنه ليس من جملة التعبديات بإجماع العلماء رحمهم الله لأن الإستنجاء، والإستجمار من جملة الوسائل؛ كما هو مقرر عند العلماء، والنية لا تشترط فيها بلا خلاف كما قرره أئمة الفقه، والأصول رحمهم الله.

المرتبة الثانية: أن يستنجي بالماء لأنه أبلغ طهارة، ونظافة حيث لا يبقى معه شيء.

المرتبة الثالثة: الإستجمار بالطّاهر المُنْقِي.

ص: 118

وقوله رحمه الله: [مِنْ كُلِّ خَارج] فيه عموم لأن " كل " من ألفاظ العموم فيشمل كل خارج؛ سواء كان من القبل، أو من الدبر، وسواء كان من المائعات كالبول، والمذي، والودي، والدم، أو كان من الجامدات كالغائط، فإذا خرج الخارج أوجب الإستنجاء، أو الإستجمار.

قوله رحمه الله: [إِلا الرِّيحَ] إستثناء من العام المتقدم، ومعناه: فلا يجب الإستنجاء منها، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، وحُكي خلاف شاذٌ أنه يستنجي منها.

ومن أهل العلم رحمهم الله من نبّه على مسألة مهمة، وهي خروج الريح برذاذ الغائط كما يقع ذلك في أحوال خاصة كما في حال الإسهال الشديد، ويشترط للزومه وجود دلالة على رذاذ الغائط، وإلا لزم البقاء على الأصل.

وعلى هذا القول فإن الإستنجاء لم يكن للريح وإنما هو من أجل خروج شيء من الغائط معه كما لا يخفى.

قوله رحمه الله: [ولا يَصِحُّ قَبْلَه وضوء، ولا تَيَمّمٌ] مراده رحمه الله أنه يشترط لصحة الوضوء إذا خرج الخارج الموجب للإستنجاء أن يستنجي قبل وضوئه، فلو أنه توضأ بعد خروج الخارج، ثم إستنجى دون أن يلمس مثل: أن يصب الماء على الفرج، ويُمْسِكَه بحائلٍ، ونحوه مما لا يحصل معه نقض، أو يتوضأ، ثم يدخل البركة ليحصل غسل الفرج، ونحو ذلك، فإنه لا يصح وضوؤه بل عليه أن يعيده بعد استنجائه.

وهذا هو أحد قولي العلماء رحمهم الله في المسألة، والثاني: أنه يصح الوضوء قبل الإستنجاء، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمر رضي

ص: 119

الله عنه لما سأله: أينام أحدنا، وهو جنب؟ فقال عليه الصلاة والسلام:[تَوضّأ، واغسلْ ذكرك، ثم نَمْ] قالوا: فجعل له الوضوء قبل الإستنجاء، فدل على جواز الأمرين، وما ذكره المصنف رحمه الله يترجح بما يلي:

أولاً: أنه الأصل الذي دلّ عليه دليل الكتاب في آية الوضوء من سورة المائدة، وذلك من وجهين:

الوجه الأول: في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، ووجه الدلالة:

أن الله تعالى أمر بالوضوء عند إرادة القيام إلى الصلاة، وهذا يدل على أنه لا يُفصَل بينهما بفاصل الإستنجاء، وأنه هو الأصل.

الوجه الثاني: في قوله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فجعل الطهارة بالأصل، والبدل بعد المجيء من الغائط، وهو كناية عن حصول طهارة الخبث.

ثانياً: أن المحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أنه كان يستنجي، ثم يتوضّأ،

وما حفظ عنه في حديث صحيح أنه قدم الوضوء على الإستنجاء.

ثالثاً: أن الدليل الذي إستدلوا به مجاب عنه: بأن الواو لمطلق الجمع فقوله: [تَوضّأ، واغْسِلْ ذَكَرَكَ] الاستدلال به على الوجه الذي ذكروه مبني على أن الواو تفيد العطف مع الترتيب، وهو مذهب ضعيف.

والصحيح عند طائفة من أئمة اللغة أن الواو تفيد مطلق الجمع بغَضِّ النظر عن كون هذا قبل هذا كأن تقول جاء محمدٌ، وعمرُ فهو لا يستلزم أن يكون محمد جاء قبل عمر؛ بل المراد حصول المجيء منهما، فقول النبي صلى الله

ص: 120

عليه وسلم: [توضأ، واغْسِلْ ذَكَرَكَ] مراده حصول الأمرين، لا أن يوقع الوضوء قبل غسله لذكره، وقد تفيد الواو الترتيب إن دلّ الدليل على إرادته، وقصده كما في آية الوضوء؛ حيث ذكر فيها سبحانه الممسوح بين مغسولين؛ فدلّ على الترتيب، وأنه مقصود بين أعضاء الوضوء، وبناءً على ذلك يترجح القول بوجوب تقديم الإستنجاء على الوضوء، وأنه لا يصح الوضوء قبله.

ص: 121