المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب السواك وسنن الوضوء - شرح زاد المستقنع - الشنقيطي - الطهارة ط الإفتاء

[محمد بن محمد المختار الشنقيطي]

الفصل: ‌باب السواك وسنن الوضوء

‌باب السواك وسنن الوضوء

السِّواك: يطلق، ويراد به: الآلة التي يُتَسَوَّكُ بها، ويطلق، ويراد به: فعل السِّواك؛ فمن إطلاق السواك مراداً به الآلة التي يستاك بها: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه دخلَ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الذي تُوفي فيه، والسِّواك على طرفِ لسانِه، وهو يقول: أُعْ أُعْ كأنَّه يَتهوَّعُ -صلوات الله، وسلامه عليه-، فقوله:[والسواك]: يعني آلة السواك.

وأما إطلاق السواك مراداً به الفعل: فمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لَوْلا أَنْ أَشُقَّ على أمتي لأَمرتُهمْ بِالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ] أي: بفعل السواك.

وباب السواك: المراد به بيان الأحكام، والسُّنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في السَواك، فقد شرع الله عز وجل السواك بهدي نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- القولي، والفعلي، فكان عليه الصلاة، والسلام يستاك، ويأمر أصحابه بالسِّواك حتى ثبت في الصحيح أنه قال:[أَكْثرتُ عَليكُمْ في السِّواكِ]، وباب السواك يذكره العلماء قبل باب الوضوء، وقبل صفة الوضوء؛ والسبب في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:[لأَمرتهُمْ بالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ] وفي رواية: [مَع كُلِّ وُضُوءٍ]، وفي أخرى:[وعِنْدَ كلِّ وُضُوءٍ]، فقالوا: إن هذا محلُّه، ولذلك يذكرونه في باب الطهارة؛ ولأنّ السِّواك قسم من أقسام الطهارة في الوصف ففيه إنقاء موضع مخصوص؛ على صفة مخصوصة.

ص: 123

وقوله: [وسُنَنِ الوُضُوءِ]: أي في هذا الموضع سأبين لك جملة من الأحكام، والمسائل الشّرعية التي تتعلق بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في السواك، وسننه في الوضوء.

والسُّنة في اللغة: الطريقة، وأما في اصطلاح علماء الأصول: فهي: (ما يُثابُ فاعلُه، ولا يعاقبُ تاركُه)، وتشمل بمعناها العام كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من هديه القولي، والفعلي، والتقريري.

قوله رحمه الله: [التَّسوكُ بعُودٍ لَيِّنٍ]: التّسوك تَفَعُّل من السِّواك أي: فعل السواك بعود ليِّنٍ هذا هو أحد الوجهين عند العلماء -رحمة الله عليهم- أن السواك المحمود شرعاً يكون بالعود، لا بغيره.

وذهب طائفة من العلماء إلى أن السواك يحصل بالعود، وبكل ما يُنْقِي الموضعَ كأن يستاك بخرقةٍ، أو بمنديل قالوا: لأن مقصود الشرع هو إنقاء الموضع، ولهم دليل يدل على قولهم في قوله عليه الصلاة والسلام:[السِّواك مَطْهرة لِلْفَمِ مَرْضَاة لِلْرَبِّ] وجه الدلالة من هذا الحديث: أن قوله: [السِّواكُ مطهرةٌ للفَمِ] أي: أن السواك من شأنه أن يطهِّر، فدلّ على أن كل ما يُطهِّر يصدق عليه أنه سواك شرعي، وتوسّط بعض العلماء فقالوا: إنه يثاب على قدر ما يصيب من السُّنة في النَّقاء، ولا يأخذ فضل السُّنة كاملاً إذا استاك بخرقة، أو بمنديل لكن يكون له فضل كما لو فقد العود، وأراد أن يستاك بمنديل قالوا: يثاب على قدر ما أزال من قذر، ولا يحُصِّل السُّنة كاملة وهو إختيار الإمام إبن قدامة رحمه الله.

ص: 124

قوله رحمه الله: [ليّنٍ منْقٍ غيرِ مضرٍ]: قوله: [ليّن]: خرج اليابس قالوا: لأن اليابس يتفتت في الفم، فتكثر أوصاله، وهي مضرّة، ولربما أدمت اللُّثة، وجَرَحتْها، فقالوا يكون ليناً، مُنْقِياً، ولهذا أصل في حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا كان في مرض الوفاة كما في الصحيحين دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعن أبيه- وفي يده سِواكٌ فأبَّده النبي صلى الله عليه وسلم بَصرَه فقالت له عائشة: أتحبُّه؟ فأشار برأسه أَنْ نَعَمْ، قالت: فأَخذْتهُ، فقضمتهُ، وطيبتهُ، ثم أعطيتهُ للنبي صلى الله عليه وسلم فهذه سنة على أن السواك لا يكون إلا مهيأً ليّناً، وأنه لا يستاك بالأعواد اليابسة مباشرة.

قوله رحمه الله: [مُنْقٍ غَيرَ مُضِرٍ]: منقٍ: أي منظِّف للموضع، وقوله:[غيرَ مُضرٍ] لأن الشرع لا يأمر بالضّرر، بل إن السِّواك شُرِعَ دفعاً لضرر النَّتنِ، والقَلحِ الموجود في الأسنان، وتنظيفاً لها.

قوله رحمه الله: [لا يَتَفتتُ] أي: أن السواك يكون بعودٍ لا تَتَفتّتُ أجزاؤه في الفم، لأن هذا يؤذي المستاك بخروج فتاته، وقد يُدمي اللثة كما قدمنا.

وقد ذكر المصنف رحمه الله هذه الصفات في السواك وهي: أن يكون بعود ليِّن، منقٍ، غير مُضر، وهذه الصفات يتحقق بها مقصود الشرع، وبها يطيب إستخدام المسواك، ويشهد لذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما قدمنا، لأن حرصها على تطييبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع إطلاعه وإقراره دالّ على أنه ينبغي الحرص على هذه الصفات التي يتحقق بها المقصود الشرعي من فعل السواك، وكما جاء أصل ذلك بالشرع فإن الطّبع يؤكده حيث إن الأطباء يستحبون ليّن السواك لاشتماله على المادة

ص: 125

المساعدة على تنظيف الفمّ، إضافة إلى ما فيها من الفوائد التي تنتفع بها اللثة، وتقوى، وتتنظف بها الأسنان.

قوله رحمه الله: [لا بِأُصبعٍ، أو خِرقةٍ] مراده رحمه الله أن السّواك الشرعي لا يكون بالأصبع، والخِرقة وهذا صحيح، أن السواك الذي وردت به السنة في الأصل بالعود كما قدمنا.

وليس مراد المصنف رحمه الله تحريم تنظيف الفم بالأصبع، والخرقة خاصة عند عدم وجود عود السواك، بل ذلك جائز، فلا حرج على المسلم أن يدعك أسنانه بأصبعه، أو بخرقة خاصة عند عدم وجود المسواك، لأنه محتاج لإزالة الأذى، فإذا لم يتيسر العود جاز أن يزيله بأيِّ وسيلةٍ لأن السنة إشتملت على آلة، ومعنى، فالمعنى المقصود هو إزالة القذر، فإذا لم تتيسر الآلة شُرع تحقيق المقصود شرعاً، وهو المعنى، لكنه في حال الإختيار لا يكون سُنَّةً من كل وجه كما قدمنا، فمراد المصنف رحمه الله أنّ السِّواك الشرعي لا يكون بالأصبع، والخرقة، وهذا لا يمنع الجواز، فليس مراده تحريم تنظيف الأسنان بغير السواك الشرعي، كما هو موجود في زماننا من التنظيف بالمعجون، ونحوه.

قوله رحمه الله: [مسنونٌ كُلَّ وقتٍ]: دلت هذه العبارة على مسائل:

المسألة الأولى: أن السواك مسنون، وإذا كان مسنوناً فمعناه أنه مشروع، وهذه المسألة محلّ إجماع بين العلماء رحمهم الله.

المسألة الثانية: التعبير بكونه سنّة المقصود به بيان عدم وجوبه، وهذا هو مذهب الجمهور، ومنهم الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، رحمة

ص: 126

الله على الجميع، وخالفهم الظاهرية رحمهم الله فقالوا بوجوبه، وقيل بعض الظاهرية، وليس كلُّهم.

وقد بيّنا هذه المسألة في شرح البلوغ، وعمدة الأحكام، وأن الذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول بعدم الوجوب، وذلك لما يلى:

أولاً: ظاهر السنة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لَوْلا أَنْ أَشُقَّ على أمتي لأَمرتهمْ بِالسِّواك عِنْد كُلِّ صلاةٍ] فبيّن عليه الصلاة والسلام أنه لو أوجب السِّواك على أمته لأوقعهم في المشقة، وهي منتفية شرعاً، فانتفى الوجوب.

ثانياً: أن دليل الوجوب، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:[إِسْتاكُوا عَرْضاً] ضعيف حيث لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقوى على إثبات الحكم بالوجوب، فبقينا على الأصل، وهو براءة الذمة من لزوم السواك.

المسألة الثالثة: أن هذه السنية في كل وقت من ليل، أو نهار في أي جزء من أجزائهما، سواء كان ذلك في حال صيام، أو غيره، وهذا هو مذهب الحنفية، والمالكية، وبعض الشافعية، والحنابلة، واستدلوا على ذلك بعموم الأدلة التي أمرت بالسواك، واستحبته دون فرق بين وقت، وآخر، والأصل في العامِّ أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، فلو كان للسواك أوقات، دون أوقات لاستثنى عليه الصلاة والسلام وخصّص من العموم كما قال في الاستنشاق:[وبالغ في الإستنْشاقِ إلا أَنْ تكونَ صَائماً] فأحاديث السواك الصحيحة العامة لم يرد فيها شيء من الإستثناء كقوله: [عليكمْ بالسِّواك]

ص: 127

وقوله: [لأمرتهم بالسِّواكِ عنْدَ كُلِّ صلاةٍ]، وقوله صلى الله عليه وسلم:[السِّواكُ مَطْهرةٌ للفَمِ مَرْضَاةٌ لِلربِّ].

وذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى إستثناء ما بعد زوال الشمس لمن كان صائماً فقالوا: لا يستاك إلى غروب الشمس، وهو ما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله:

[لغيرِ صَائمٍ بَعْدَ الزَّوالِ]: مراده أن استحباب السواك في جميع الأوقات إلا في وقت واحد؛ فلا يستحب، وهو من بعد زوال الشمس لمن كان صائماً إلى الغروب، وقوله رحمه الله [صائم] عام يشمل الصائم فرضاً، ونفلاً، وهذا هو القول الثاني لأهل العلم -رحمة الله عليهم- في هذه المسألة، وهو مذهب الحنابلة، والشافعية، واحتجوا لذلك بأدلة:

أولها: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: [لخُلُوفُ فَمِ الصائمِ أَطْيبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيح المِسْكِ] ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم امتدح الخلوف، وأخبر أنه أطيب عند الله من ريح المسك، والسواك بعد الزوال يُذْهِبُ الخلوفَ؛ فلا يُشرع فعلُه.

ثانياً: حديث خبّابِ بنِ الأَرَتِّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا صُمْتُمْ فَاسْتاكُوا بِالغَداة، ولا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ]، ووجه الدلالة: أنه نهى عن السِّواك في العشِيِّ، والعشيُّ يبدأ بزوال الشمس؛ فدلّ على أنه لا يُستاك بعد الزوال.

ثالثاً: القياس حيث قاسوا خلوفَ فمِ الصائمِ على دمِ الشّهيد فقالوا: الخلوف أثر عبادة الصيام؛ فلا تُشرع إزالته بالسواك بعد الزوال؛ كما لا

ص: 128

تُشرع إزالة أثر الشهادة بغسل دم الشهيد؛ بجامع كون كلٍ منهما أثر عبادة محمودٍ شرعاً.

والذي يترجح فى نظري والعلم عند الله هو القول بمشروعية السواك على العموم، ولا إستثناء لما بعد الزوال للصائم، وذلك لما يلى:

أولاً: لصحة دلالة السنة في عمومها على ذلك، والأصل في العامِّ أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، ولم يرد دليل صحيح على تخصيصه هنا.

ثانياً: أن إِستدلالهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في: [فضل خلوف الصائم] يجاب عنه بأن خلوف الصائم منشؤُه من الجوف بسبب الجوع، والعطش، وليس من الفم، فإزالة وسخ الأسنان لا يؤثر في الخلوف، ولا يزيله، وليس له به علاقة.

وبه أيضاً يجاب عن استدلالهم العقلي بالقياس.

ثالثاً: أن حديث خَبَّاب رضي الله عنه الذي رواه البيهقي، والدارقطني يجاب عنه: بأنه حديث ضعيف الإسناد، فلا يثبت به التخصيص.

رابعاً: أنه ثبتت السنة في حديث عاصمٍ رضي الله عنه أنه قال: [رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أُحصي يستاكُ، وهو صائم] وهو عامّ، حيث لم يفرق بين ما قبل الزوال، وما بعده.

وبهذا كله يترجح القول بجواز الإستياك في جميع الأوقات، واستحبابه فيها دون إستثناء.

وبعد أن بيّن رحمه الله سُنّية السِّواك في كل وقت لغير صائم بعد الزوال شرع رحمه الله في بيان الأوقات التي هي آكد إِستحباباً، وذلك بقوله: [متأكد

ص: 129

عِنْدَ صَلاةٍ] أي: أن السواك يتأكد فعله عند صلاة، وصلاة نكرة شاملة للنافلة، والفريضة.

والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [لَوْلا أَنْ أشقَّ على أُمّتي لأمرتُهم بالسِّواك عِنْد كُلِّ صلاةٍ]، وفعل السِّواك عند الصلاة أي: قبل أن يكبر تكبيرة الإحرام.

وللعلماء في هذه المسألة قولان:

القول الأول: قال الجمهور يشرع قبل الصلاة أن يستاك الإنسان، ولو كان في المسجد.

القول الثاني: كراهية السواك عند الصلاة مباشرة وهو قول طائفة من فقهاء المالكية رحمهم الله، وحملوا الحديث في قوله:[عِنْد كُلِّ صلاةٍ] على أن المراد به عند الوضوء كما في الرواية الأخرى، وقالوا: إننا لو قلنا إن الإنسان يستاك عند الصلاة لحصلت محاذير:

أولها: إنه ربّما جرح اللُّثة لأن السواك لا يأمن أن يكون ناشفاً؛ فيجرح اللثة، أو يُدْمِيها، فيسيل الدّم، والدّم نجسٌ، وهو قول الجماهير.

ثانيها: أن الإنسان إذا إِستاك عند الصلاة إما أن يتفل في المسجد، وهذا ممتنع عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح:[البُصَاقُ في المسجدِ خطيئةٌ] وإما أن يبلع الوسخ، والقذر الذي أخرجه السِّواك من أسنانه، فيكون منظفاً لظاهره، ومفسداً لباطنه بدخول هذه الفضلة إلى الباطن، والتي قد تضرُّ بالجسد، فلا يُشرع فعل السواك على هذا الوجه.

ص: 130

والصحيح أنه يشرع قبل الصلاة لظاهر السنة في ذلك أما ما ذكروه من إدماء اللثة، فإنه يحتاط بالسواك الرَّطب، وكذلك -أيضاً- يحتاط بإجراء السواك على العظم دون أذية اللثة، ثم إن هذا لا يقع إلا في بعض الأنواع من السواك؛ فلا يقتضي منع الكُلِّ، فصار المحظور في بعض الأحوال، لا في كلِّها وهذا يقتضي أن دليلهم أخص من الدعوى، وأما ما ذكروه من البصاق بالمسجد، فليس على كل حال لإمكان أن يبصق الإنسان في منديل، أو في ثوبه، وإذا كان المسجد غير مفروش بصق تحت قدمه اليسرى، ثم دفن بصاقه لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في من يبصق في السجد:[ولا يَبْصُقْ عن يمينِه فيُؤذي بها الذي عنْ يَمينِه، ولا يبْصُقْ عنْ شِمالِه؛ فيُؤذي الذي عن شمالِه، ولكنْ عنْ يسارِه تحتَ قدمِه] هذه هي السُّنة، إذا كان المسجد غير مفروش، أما إذا كان مفروشاً فإنه يبصق في منديل، ونحو ذلك.

وقال بعض العلماء: إنه يستحب عند الصلاة لمكان دنو الملك من القارئ عند قرآته للقرآن، كما ورد في الخبر، ولذلك قالوا: يتأكد إستحبابه عند الصلاة لاشتمالها على القراءة.

قوله رحمه الله: [وانْتِباهٍ]: أي إنتباه من النوم لأنّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما ثبت في الصحيحين: [كانت تُعِدُّ للنبي صلى الله عليه وسلم سِوَاكه، وطَهُوره، فيبعثه الله من اللّيل ما شَاء]، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا قام من نومه بالليل يشُوصُ فَاهُ بالسِّواك، كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما في الصحيحين.

ص: 131

قال بعض العلماء: هذا يتضمن السواك على الوجهين عند الصلاة؛ لأنه قائم من أجل الصلاة، وعند الإنتباه من النوم، لأنه لما إِنتبه من النوم تغيرت رائحة فمه، فشُرِع له أن يُزيل تلك الرائحة بالسواك.

قوله رحمه الله: [وتَغيّرِ فمٍ]: أي إذا تغيّرت رائحة الفم فإنه يتأكد السواك، وتتغير رائحة الفم إما بسبب طول السكوت، والصمت، أو بالجوع، والظمأ، أو أكل شيء تبقى رائحته بالفم.

فيتأكد في حقه السواك في هذه الحالات، وقد دل على ذلك حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم:[كاَن إذا قامَ مِنَ اللّيلِ يَشُوصُ فَاهُ بالسِّواك]، والشوص: الدّلك، فهذا الحديث إِستنبط منه أهل العلم رحمهم الله أن النوم مظنة تغير رائحة الفم، ففهم منه أن السواك متأكد في جميع الأحوال التي تتغير فيها رائحة الفم.

قوله رحمه الله: [ويَسْتَاكُ عَرْضاً]: الاستياك عرضاً للعلماء فيه وجهان:

منهم من قال المراد به عرض السِّن، وهو أن يأخذ من طرف فمه الأيمن إلى طرف فمه الأيسر، فيبدأ باليمين إلى اليسار، فيكون إستياكه مراعياً فيه عرض السن.

وقيل: العرض عرض الفم، وذلك يكون بطول السن، فكأنه يستاك لكل سنِّ على حِدَةٍ.

والصحيح أن صفة السواك يسنُّ فيها التيامن، ومراعاة المقصود الشرعي، وهو حصول النّقاء، وأما الإستياك عرضاً على الوجهين السابقين فإنه لم يثبت أصله لأنهم بنوه على حديث:[إِسْتاكوا عَرْضاً] وهو حديث

ص: 132

ضعيف. فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة السواك إلا الأصل العام وهو التّيمن الذي دلّ عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: [كان يُعجِبُه التيمنُ في تَنعُّله وتَرجّله، وطُهُورِه، وفي شَأنه كلِّه] على أن السِّواك داخل في عموم الطُّهور، وما عدا التّيمن، وهو الإستياك عرضاً، أو طولاً فإنه موسّع فيه، وليس فيه شيء محدّد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله رحمه الله: [مُبْتدئاً بجانبِ فَمِه الأَيْمن]: أي يبدأ سِواكه بجهة اليمين من فكيه قبل اليسرى منهما لظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ونص العلماء على أن السُّنة أن يبدأ بالشق الأيمن وينتهى بشقه الأيسر، ويكون السواك على هذه الصفة مسنوناً لما فيه من التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.

قوله رحمه الله: [ويَدَّهنُ غِبّاً]: الإدهان يكون للشعر يشمل ذلك شعر الرأس، واللحية، وهذا أورده المصنف في باب السِّواك مع أنه ليس منه بناء على ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام:[اسْتَاكُوا عَرْضاً، وادهِنوا غِبّاً، واكْتَحِلوا وِتْراً]، ولذلك أدخل هذه الجزئية في باب السواك؛ على تأول أن الحديث وارد تأدباً مع الحديث، وهذا منهج للفقهاء أنهم يذكرون الشيء مع الشيء وإن لم يكن منه تأسياً بآية، أو حديث ذكرا فيها معاً، والسُّنة أن الإنسان يدهن شعر رأسه، ولحيته إذا أمكنه ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجّل شعره.

والدليل على مشروعية ذلك: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين، والذي تقدم وفيه قولها:[وتَرجّلِه] أي ترجيله لشعره فدل

ص: 133

على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعتني بشعره فيدهنه ويرجله، ولذلك قالوا: يسن.

قال بعض العلماء: ترْجيل الشعر أن يدهن الشعر، ثم يسرِّحُه أي: أن يجمع بين تسريح الشعر، ودهنه.

وقال بعض العلماء: التَّرجيل هو مطلق التسريح بغَضِّ النظر عن كونه بدهنٍ، أو بدون دهن، ومن سماحة الشريعة أنه يُشرع للإنسان أن يضع الدهن في شعر رأسه، ولحيته، وذلك على الوسط، فلا يترك الشعر أشعث أغبر، ولا يبالغ في الإدهان، والتسريح، وإنما يكون وسطاً، أما كونه لا يتركه شعثاً فحتى لا يتشبه بأهل الرّهبنة، وأهل البدع، والأهواء من الذين هم غلاة أهل الطرق الذين يبالغون في التّزهد، والتّقشف فلا يتشبَّه بهم، وكذلك -أيضاً- لا يتشبَّه بمن يتكلّف، ويبالغ في تجميل نفسه كأهل الخَنا، والمجون فيكون وسطاً، وهذا هو القِوام الذي جعل الله عز وجل عليه شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بين الإفراط، والتفريط.

ومن الأدلة على أنه لا يداوم على الترجيل حديث النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الصَّحابة أن يمْتشطوا كل يوم، ولذلك ينبغي للإنسان إذا كان ولا بد أن يمتشط يوماً، ويترك يوماً، وهذا أبلغ في الرجولة، وأبلغ في الفحولة مع الاعتدال، دون غلو، وإجحاف، ولذلك يشرع تسريح الشعر، وتسريح اللحية، ولكن ينبغي أن يكون في فعله لذلك غير متشبه بأهل الخَنا، والفُجور؛ وإنما يكون على قصد القربة، والتَّأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في إكرام الشعر.

ص: 134

والسُّنة أنه إذا إدّهن أن يبدأ بشقِّه الأيمنِ، فيضع الزيت على شِقِّ لحيته الأيمن، ثم يبدأ بتسريح شعر لحيته، ثم شِقّه الأيسر بعد أن يفرغ من شِقِّه الأيمن، وفي رأسه كذلك يبدأ بجانبه الأيمن، ثم الأيسر بعده، كما فعل عليه الصلاة والسلام في غسله من الجنابة، وحلقه لشعره في النُّسك كما في الصحيح، حيث راعى تقليم شق رأسه الأيمن قبل الأيسر.

قوله رحمه الله: [ويَكْتحلُ وتْراً]: الاكتحال: أن يضع الكحل في العين، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[عَليْكم بالإثمدِ؛ فإنه يَجلُوا البصَر، ويُنبِتُ الشَّعَرَ]، والإثمد: هو الحجر الأسود، وهذا هو المحفوظ في لغة العرب، وفيه شواهد في اللغة، وكذلك نبَّه عليه غير واحد منهم الإمام إبن مفلح رحمة الله عليه في الآداب الشرعية أنه الحجر الأسود، وهو أقوى، وأنصع، وأبلغ في تنظيف العين، وقوة البصر، وقد امتدح صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الحجر لما فيه من العلِّة التي ذكرها:[أنه يَجْلُوا البَصَرَ، ويُنْبِتُ الشعَرَ] أي: يجلوا بصر الإنسان؛ فينظِّف العَيْنَ، ويجعل فيها حِدَّةً في الإبصار، وكذلك يُنْبِتُ الشعر في الرِّمْشِ، وهو يحفظ العين بإذن الله من الأتربة، وغيرها.

وقوله رحمه الله: [ويَكْتَحِلُ وِتْراً]: للعلماء فيه وجهان:

الوجه الأول: أن يكحل العينين معاً في المرة الأولى يبدأ باليمنى، ثم اليسرى، ثم يرجع الثانية، والثالثة كذلك.

والوجه الثاني: أن يكحل كل عين على حِدَةٍ وتراً ثم إذا إِنتهى منها أكحل اليسرى.

ص: 135

ومحل الخلاف: إذا كان الوتر بغير الواحدة، والذي يظهر أن الأمر في هذا واسع، وهو مختلف بحسب إِختلاف أحوال الناس، وليس فيه أمر محدّد.

قوله رحمه الله: [وتَجِبُ التسميةُ في الوُضُوءِ]: بعد أن فرغ رحمه الله من بيان السّواك وأحكامه، شرع في بيان واجبات الوضوء فقال رحمه الله:[وتَجِبُ] الواجب: يطلق في اللغة بمعنين:

الأول: بمعنى الساقط يقال: وجب الشيء إذا سقط، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (1) أي سقطت، واستقرت على الأرض، ومنه ما ثبت في الحديث الصحيح:[أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يُصلّي المغربَ إذا وَجَبَتْ] بمعنى سقطت، وغاب قرصها.

والثاني: بمعنى: اللازم تقول: هذا واجب عليك؛ بمعنى: أنه لازم، وحتم، ومنه قول الشاعر:

أطاعتْ بنُوا عوفٍ أَميراً نَهاهُموا

عَنِ السِّلمِ حتى كَانَ أَولَ واجبِ

أي: أول لازم عليهم أن يفعلوه.

وأما في الإصطلاح فالواجب: (هو ما يُثَابُ فَاعِلُه، ويُعَاقَبُ تَارِكُهُ).

فإذا قال العلماء هذا واجب أي: أنه يلزم المكلف أن يقوم به، فإن فعل ذلك أُثيب، وإن تركه فإنه يعاقب.

(1) الحج، آية:36.

ص: 136

قوله رحمه الله: [وتَجِبُ التسْميةُ] أي: أن من أراد أن يتوضأ فيجب عليه أن يقول: بسم الله عند وضوئه، وتُعرف هذه المسألة بمسألة التَّسمية في الوضوء، وهي مسألة خلافية مشهورة للعلماء رحمهم الله فيها قولان:

القول الأول: إن التَّسمية ليست بواجبة في الوضوء، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

القول الثاني: إن التسمية واجبة في الوضوء، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وقول بعض المحدثين رحمهم الله.

وقد إستدل الجمهور رحمهم الله على مذهبهم بدليل الكتاب، والسنة.

أما دليلهم من الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .... } الآية، ووجه الدلالهَ: أن الله تعالى بيّن صفةَ الوضوء الواجبة في هذه الآية الكريمة، فلو كانت التَّسميةُ واجبةٌ لنصَّ عليها، ولكنه لم ينصَّ عليها، وقد نصَّ على وجوب التَّسمية في الذبح، والصيد فقال سبحانه:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وقال سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وقال سبحانه: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} وقال سبحانه: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} فلو قال قائل: إن السنة دلت على التسمية فالجواب: أن السنة دلت على أن من توضأ بما في آية الوضوء أجزأه، فدل ذلك على أن ما زاد عليها فهو سنة مستحب؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي لما سأله

ص: 137

عن الوضوء: [تَوضّأ كَمَا أَمَركَ اللهُ]، والله لم يأمر بالتسمية في آية الوضوء.

وأما دليلهم من السنة: فأحاديث صفة الوضوء في الصحيحين، وغيرهما عن عثمان، وعلي، وعبد الله ابن زيد رضي الله عن الجميع، وكلها لم تذكر تسميته عليه الصلاة، والسلام على أول الوضوء؛ فدلّ ذلك على عدم وجوبها.

وأما القائلون بوجوب التسمية فقد استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داوود، وأحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا وُضوءَ لمنْ لمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللهِ عَليْه] ووجه الدلالة: أن قوله: [لا وُضُوءَ] المراد به لا وضوء صحيح، فلا يجوز له أن يتوضأ، دون أن يذكر اسم الله على وضوئه.

والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول بعدم وجوب التسمية، وذلك لما يلي:

أولاً: لصحة دلالة الكتاب، والسنة على ذلك كما تقدم.

ثانياً: أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يُجَابُ عنه سنداً: من جهة الكلام في سنده، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله:[إنه لا يصحُّ في التسمية شَيءٌ]، وعلى القول بتحسينه، فإنه لا يُعارَض به الصحيح؛ لأنّ الحديث الحسن معمول به ما لم يخالف ما هو صحيح، كما هو مقرر في الأصول، وقد أشار إلى ذلك بعض أهل العلم رحمه الله بقوله:

وهُو في الحُجّة كالصّحِيحِ

ودُونَه إِنْ صيِرَ للترجِيحِ

ص: 138

ثالثاً: أنّ متن حديث أبي هريرة رضي الله عنه محتمل لمعنيين:

الأول: أن يكون النفي متعلقاً بالصِّحة، كما يقوله من يحتج به، وحينئذ يكون معارضاً لغيره.

الثاني: أن يكون النفي متعلقاً بالكمال، وحينئذ لا يكون معارضاً لغيره.

وإذا تردَّدَ الحديث بين معنيين أحدُهما: معارض، والثاني: غيرُ معارض وجب حمله على الوجه الذي لا يُعارض، فحمله على نفى الكمال أولى من هذا الوجه، ويكون معناه لا وضوء كامل لمن لم يذكر اسم الله عليه.

يبقى النظر في قوله: [وتَجِبُ التَّسميةُ]: فالتَّسميةُ: تَفْعلِة من ذكر اسم الله، فما هي التسمية؟ التسمية الكاملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولكنّها هنا بسْم الله، فيقف عند قوله: بسم الله؛ لأن قوله: [لمنْ لمْ يَذكرُ اسْمَ الله] المراد به اسم الله فقط، بدليل أن الله قال:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عند تذكيته:[بسْمِ اللهِ]، وبناءً على ذلك فإن التسمية تكون: بسم الله وحدها.

واختلف العلماء هل يحلُّ غيرِ لفظ الجلالة محلّه؛ كأن يقول: بسم الرَّحمن، وبسم الرّحيمِ، وبسم المَلكِ، وبسم القدّوسِ، وبسم العَزيز؟

والصحيح: أنه ينبغي الإقتصار في الأذكار على الوارد دون تغيير، أو تبديل، ولا يجُتهد فيها، فقوله عليه الصلاة والسلام:[لا وُضُوءَ لمنْ لم يَذكرُ اسْمَ اللهِ] يقتضى ذكر اسم الله وَحْدَه، وذلك لشرف هذا الاسم، وفضله،

ص: 139

ولذلك قال بعض العلماء في قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (1) قيل: {هَلْ} بمعنى لا أي: لا تعلم له سميّاً، فعلى أحد الأقوال في تفسيرها: إنه اسم {الله} لم يتسمَّ به أحدٌ، وهذا لشرفه، وكلُّ أسمائه سبحانه مشرفة، حتى قال طائفة من العلماء: إنه هو الإسم الأعظم الذي إذا سأل العبد ربه به أيَّ حاجة خالصاً من قلبه إستجابَ دعاءَه، ولذلك يقْتصر على هذا الاسم بعينه، وهو قوله:[بِسْم اللهِ] ولا يُعدل إلى قول: بِسْم الرّحيم، وبِسْم الرّحمن.

قوله رحمه الله: [وتَجب التَّسميةُ في الوُضُوءِ] معناه: أن يبتدئ عبادة الوضوء بذكر اسم الله عز وجل، وهذه التسمية واجبةٌ في مذهب الحنابلة عند أول واجب من واجبات الوضوء مثل: غسل الكفين عند الإستيقاظ من النوم، ومستحبةٌ عند أوَّل المستحبات، مثل: أن يبتدئ غسل كفيه في غير استيقاظ، وفرضٌ عند أول فرضٍ، فعلى القول بفرضية المضمضة، والإستنشاق يسمّ قبلهما، وعلى القول بعدم فرضيتهما يكون أول فرض هو الوجه.

فيتلخص مما سبق أن الأفضل، والأكمل أن يأتي بها في أول الوضوء، ويكون ذلك استحباباً إلا إذا كان مستيقظاً من نومه فيكون واجباً، ثم له ترك المستحب في المستحب حتى يبدأ في الفرائض، فتكون البداءة بها ثم واجبة

(1) مريم، آية:65.

ص: 140

ْ

على حسب ما هو المفروض الأول في الوضوء؟ هل هو الوجه، أو المضمضة، والاستنشاق، أو الإستنشاق، دون المضمضة على الخلاف المشهور.

وهذا كله على مذهب الحنابلة، وحسب الخلاف الموجود فيه.

قوله رحمه الله: [معَ الذِّكْر]: أي: أن وجوبها عند الذكر، ومفهومه: أنها ساقطة، وغير واجبة عند النسيان، وهذه هي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله، وعليها فإنه لا يطالب بإعادة وضوئه إذا تركها نسياناً، وعنه: أنها واجبة فيهما؛ أي: أنه إذا لم يذكر اسم الله -جل وعلا- وجب عليه الرجوع، وإعادة الوضوء حتى ولو كان ناسياً.

قوله رحمه الله: [ويَجِبُ الختانُ]: الختان: مصدر خَتَنَ، يَخْتِنُ، خِتَاناً، وهو خاتن، ومختون، والختان بالنسبة للرجال: إزالة الجلدة التي على حشفة الذكر.

وأما بالنسبة للنساء فهو إزالة أعلى الجلدة التي على الفرج، وشبّهَهَا بعض العلماء رحمهم الله بعُرْفِ الدّيك والختان مكرمة في النساء، وسنة في الرجال، وأوّل من اختتن إبراهيم الخليل -عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام- إِختتن، وهو ابنُ ثمانين سَنةً، إِمتثالاً لأمر الله عز وجل، ولذلك عُدَّ هذا من ابتلاء الله، وإِختباره له، فإن الختان مع تقدم السّن، وكِبَرها لا شك أن فيه مشقةً عظيمةً، ولكنه إِمتثل أمر الله، ولذلك بيّن حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ

ص: 141

بِكَلِمَاتٍ} (1) أنّ مما ابتلاه الله به: الختانَ، كما صح عنه في رواية الحاكم في مستدركه، فإنه إِبتلاه، وهو في كِبَرِ سِنِّه كما تقدم في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، والختان شرعه الله للرجال، لما فيه من الطهارة، والنّقاء، بإزالة هذا الموضع الذي قد تَعْلَقُ فيه النجاسة، وإذا أزاله كان ذلك أبلغ في الطهارة، والنّقاء، والبُعد عن الدّنس والدين دين طهارة حساً، ومعنى كما قال تعالى:{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (2)، والختان من الطهارة، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (3)، كما أن هذا الختان شُرِعَ تخفيفاً من الشهوة الموجودة في المرأة، فإن المرأة إذا تُركت على حالها إِشْتدّت شهوتها، ولذلك تعتدل الشهوة عند نساء المسلمين بالختان؛ بخلاف غيرهنّ من الكافرات، كما ذكر شيخ الإسلام رحمة الله عليه أنه: يوجد في النساء الكافرات من شدّة الشهوة، وطلب الفساد، والحرام ما لا يوجد في نساء المؤمنين، وذلك لمحل الختان، وجعل الله في الختان مصلحة الدين، والدنيا فلذلك تحصل به العفّة للمرأة، والطّهارة للرجل، والمرأة إذا استؤْصلت الجلدة التي هي موضع الختان بكاملها ذهبت شهوتها؛ كما يقول الأطباء من المتقدمين، والمتأخرين، وإذا تُركتْ اشْتدت غِلْمَتُها وإذا قُصّ منها، أو أخذَ بعضها إعتدلت، ولذلك ورد في حديث أم عطية رضي الله عنها كما أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله في التحفة قوله عليه الصلاة والسلام:[أشمِّي، ولا تُنْهِكي]،

(1) البقرة، آية:124.

(2)

المائدة، آية:6.

(3)

التوبة، آية:108.

ص: 142

والإشمام: أن يكون من أعلى الشيء، والإنهاك يعني به: أخذ الجلدة كلها، وهو حديث متكلم في سنده، ولكنّ معناه صحيح عند العلماء أنه ينبغي عند ختن المرأة أن لا تستؤصل الجلدة، بل يُؤخذ من أعلاها، لأن استئصالها يؤدي إلى ذهاب الشهوة، كما تقدم.

ومن الحكم العظيمة أن الدراسات الطبية أثبتت الفوائد المترتبة على هذه العادة الإسلامية المحمودة، حتى تبين من خلالها أن نسبة سرطان القضيب عند الرجال المختتنين لا تجاوز واحداً في المائة بالنسبة لغير المختتنين.

والصحيح: وجوبه على الرجال، والنساء، وذكرنا في شرح البلوغ، وعمدة الأحكام، وفي كتاب أحكام الجراحة الطبية الأدلة على ذلك، والخلاف فيها، وظاهر النصوص مشروعيته في حق الرجال، والنساء معاً؛ كما يدل عليه ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين:[خمس من الفطرة] وذكر منها الختان، دون أن يفرق بين الرجال، والنساء، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إِذَا إلْتقى الختانانِ] فبيّن أنّ الختان يكون في الرجال، والنساء، ولأن المرأة تحتاج إليه طلباً للعفة، والعفة مطلوبة، وواجبة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فلما كان اعتدال شهوة المرأة يحصُل به مقصود الشرع كان الختان من هذا الوجه أقرب للوجوب منه للاستحباب والندب.

وأما ما ورد من حديث إِبن كُليْبٍ: [أنّ الختانَ واجبٌ على الرِّجالِ، ومَكْرَمة للنِّساءِ] فهو حديث ضعيف.

ص: 143

ومحل وجوب الختان على المكلف إذا قارب البلوغ، والأفضل أن يُختن الصبيُّ، وتُختن الصّبية أي في حال الصغر، وينبغي على كل من الخاتن، والخاتنة مراعاة حدود الله في الختان؛ كما نبّه على ذلك الإمام إِبن قدامة رحمه الله في المغني في الجزء السادس عند كلامه على أحكام الإجارة حيث بيّن أنه يحرم على الخاتن أن يختن إلا إذا كان بصيراً بالختان عالماً به، وبكيفية فعله، وأن لا يتجاوز الموضع المعتاد في الختان، وأنه إذا ختن وهو غير عالم بالختان، أو تجاوز حدود الختان فإنّه يضمن، ويأثم شرعاً، أما ضمانه إذا لم يكن عالماً فلقوله عليه الصلاة والسلام في حديث السُّنن:[مِنْ تَطَبَّبَ، ولمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ، فَهُو ضَامنٌ] وهو حديث صحيح.

وأجمع العلماء على أنه يأثم، وأنه يُقتص منه، ولو كان طبيباً إذا قصد الإضرار، وقال: تَعمّدتُ، لقوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1) فيختن كل من الرجال والنساء، وتُراعى حدود الله عز وجل من عدم ختن الرجال للنساء إذا وجد النساء، وكذلك العكس، وعدم النظر إلى العورة أكثر من الوقت المحتاج إليه وعدم الزيادة على الحدِّ المعتبر في الكشف، واللَّمس للعورة.

قوله رحمه الله: [ما لمْ يَخف على نَفْسه]: مراده رحمه الله: أنه يُستثنى من وجوب الختان هذه الحالة، وهي أن يكون الشخص يخاف على نفسه إذا خُتن، ككبير السن، والشيخ الهرم، أو يكون في الموضع إلتهابات، أو

(1) المائدة، آية:45.

ص: 144

أمراض دائمة لا يرجى زوالها، ولو اختتن زادت عليه، واستفحل شرّها فيُرخص له في ترك الختان.

قوله رحمه الله: [ويُكْره القَزَعُ]: القزع هو: حلق بعض شعر الرأس، وترك بعضه، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في الذي يحلق، ويترك من الرأس:

فقال بعض العلماء: أن يحلق وسط الرأس، ويترك باقيه.

وقال بعضهم: أن يحلق أطرافه كأن يحلق الشق الأيمن، والأيسر، والقفا، ويُبْقي وسطه شأن أهل الفساد، وصنيع السِّفلة، والرّعاع -نسأل الله السلامة والعافية-.

وقيل: أن يحلق نصف الرأس، ويترك نصفه.

وقيل: أن يحلق مقدّمه، ويترك مؤخّره، أو العكس.

ولا مانع من اعتبار هذه الصور كلها؛ لأنه يحتملها النّص، والأصل أنه إذا إِحتمل النّص وجوهاً متعددة، ولم يرد الشرع بتقييد وجه منها أن تبقى دلالته على العموم، وللعلماء في تعليل تحريم القزع وجوه:

قال بعض العلماء: مشابهة اليهود، فقد كانوا يحلقون بعض الشعر، ويتركون بعضه.

وقال بعضهم: إن فيه ظلماً للإنسان في نفسه، والله أمر الإنسان بالعدل حتى مع نفسه.

وتوضيح ذلك: أنه إذا حلق شقه الأيمن، وترك الأيسر ظلم شقّه الأيمن إذا كان الزمان برداً، وظلم شقّه الأيسر إذا كان الزمان حراً، ولذلك نُهي أن

ص: 145

يَنْتعل بإحدى رجليه، ويترك الأخرى؛ لأنه ظلم للرِّجْل التي لم تنتعل، ونهى عن الجلوس بين الشمس، والظِّل؛ لأنه إذا كان صيفاً ظلم النصف الذي في الشمس، وإذا كان شتاءً ظلم النصف الذي في الظل، ولذلك قالوا إنه نُهي عن القزع لئلا يكون الإنسان ظالماً حتى مع نفسه.

والصحيح: أن كل هذه العلل صحيحة، ومحتملة ففيه ظلم، وفيه تشبه بأهل الفساد، ولذلك ما يفعله بعض من يحلق رأسه حتى، ولو بالتقصير كأن يقصر أطراف الشعر، ويجعل الشعر كثيفاً في منتصف الرأس فإنه يشمله هذا؛ لأن فيه تشبهاً بأهل الفساد، وقد أشار إلى ذلك بعض العلماء -رحمة الله عليهم- وكنا نعهد مشايخنا -رحمة الله عليهم- من الأوّلين أنهم كانوا يشددون في تخفيف الشعر، بعضه دون بعضه، وكانوا يعدّون ذلك من القزع، واختاره الوالد رحمه الله.

وقالوا: إما أن يُخفِّفَه كُله، أو يحلِقَه كله، وهذا هو الأصل الذي عليه العمل عند أهل العلم أن السُّنة في الرأس أن يحلق كلّه، أو يخفف كله لا أن يفعل ببعضه، ويترك بعضه لما فيه من مشابهة أهل الفساد، وإذا كان القزع حراماً حرم على الحلاق أن يفعله بالغير، فإن فعل أثم؛ لأنه معين على الإثم، والعدوان وحرمت الإجارة، والأجرة، يعني المال الذي يدفع في مقابل ذلك الشيء يعتبر حراماً على الأصل المقرر أن الإجارة على المحرم أجرتها محرمة.

قوله رحمه الله: [ومِنْ سُننِ الوُضُوءِ]: السُّنة: أصلها الطريقة، وسنّ الشيء إذا شرعه، والمراد بها سنن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء أي: في عبادة الوضوء، والمراد بالسّنة:(ما يُثابُ فاعلُه، ولا يعاقبُ تَاركُه) ويشمل

ص: 146

ذلك السنن القولية، والفعلية، والتقريرية أي: التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم أو فعلها، أو فُعِلت وأقرَّها، فكل ذلك يوصف بكونه سنّة، ولا يُطلب من المكلف طلب إلزام.

قوله رحمه الله: [ومِنْ سنَنِ الوُضُوءِ] شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان بعض السنن الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه.

وفي هذا دليل على حرص الأئمة، والعلماء رحمهم الله على الدِّلالة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته كيف، وقد جعله الله قدوة للمؤمنين، وأسوة لأمته في الدين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

وينبغي أن ينبّه على أن ذكر العلماء رحمهم الله للسنن لا يدعو إلى تركها، والتساهل فيها، بل المنبغي عكس ذلك.

وقوله رحمه الله: [السِّواك] أي: فعل السّواك، وقدمنا الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنيته عند الصلاة، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لوْلا أَنْ أشُقَّ على أمّتي لأَمرتهمْ بالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ صلاةٍ].

قوله رحمه الله: [وغَسْلُ الكفينِ ثَلاثاً]: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث حمران مولى عثمان، عن عثمان، وحديث علي بن أبي طالب، وعبد الله بن زيد رضي الله عن الجميع أنه استفتح وضوءه بغسل كفيه ثلاثاً، فدلّ ذلك على سنّيته قال بعض العلماء: إنما حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على غسل الكفين ثلاثاً؛ لأن الكفين آلة الوضوء، وهي التي تنقل الماء،

ص: 147

فينبغي أن تكون على نقاء، وطهارة، حتى يكون ذلك أدعى لحصول المقصود من الوضوء.

قوله رحمه الله: [ويجبُ مِنْ نومِ لَيْلٍ ناقضٍ لوضُوءٍ]: غسل الكفين على حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون للمستيقظ من النوم.

الحالة الثانية: أن يكون لغير المستيقظ من النوم.

فإن كان مستيقظاً من نومه سواء كان نوم ليل، أو نهار، فإنه يجب عليه غسلهما ثلاثاً؛ لظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إِذَا استَيْقَظَ أحدُكمْ مِنْ نَومِه فَلْيغسِلْ يَديهِ ثَلاثاً قَبلَ أنْ يُدخِلهما في الإِناءِ فإن أحدَكم لا يدْري أَينَ بَاتَتْ يَدُهُ] فدل هذا الحديث الصحيح على أنه يجب على من استيقظ من النوم أن يغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء.

أما إذا كان مستيقظاً في سائر أوقات يومه، وحضرت صلاة الظهر مثلاً، وأراد أن يتوضأ فلا تخلوا كفّاه من ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يتيقن نجاستهما، فيجب عليه أن يغسلهما قبل أن يتوضأ.

الحالة الثانية: أن يتيقن طهارتهما، فيسن له غسلهما؛ لمداومة النبي صلى الله عليه وسلم على غسلهما في الوضوء.

الحالة الثالثة: أن يشك في الطهارة فيستحب له غسلهما، ولا يجب؛ لأن اليقين طهارتهما، والشك نجاستهما، فيُلغي الشك، ويَبقى على اليقين.

ص: 148

هذا بالنسبة لغسل الكفين، وقوله رحمه الله [كفيهِ] الكفان: مثنى كفِّ، وحدُّ الكف من أطراف أصابع اليد إلى الزندين، وهما العظمان البارزان اللذان عند مفصل الكفِّ سُمِّي الكفُّ كفّاً لأنه تكفُّ به الأشياء؛ بمعنى: تُدْفَع.

قوله رحمه الله: [والبَداءَةُ بمضْمَضةٍ]: أي يسن البداءة بالمضمضة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن غسل كفّيه، مضْمَضَ، واستنْشَقَ ثلاثاً، والمضمضة: مأخوذة من قولهم: مَضْمَضَت الحيّة؛ إذا تحركت في جحرها فأصل المضمضة التحريك، ولذلك قالوا: يتفرع على قولنا إن المضمضة هي التحريك مسألة، وهي:

لو أن إنساناً أدخل الماء في فمه، ثم ألقاه مباشرة، دون تحريك فإنه لا يعتبر متمضمضاً، ثم اختلفوا هل المضمضة مجرد تحريك الماء، ولا يلزمه طرحه، أو لا بد له من طرحه؟

وجهان: أصحهما أنه لا بد من الطرح لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم فصار معنى شرعياً زائداً، ومن أمثلة هذه المسألة أن يدخل الماء، ويحركه في فمه، ثم يبتلعه.

قوله رحمه الله: [ثمّ إِسْتنْشَاق]: الاستنشاق من النَّشق، والنَّشَق: جذب الشيء بالنفس إلى أعلى الخياشيم، ومنه النَّشوق لأنه يستعط عن طريق الأنف، وهو سنّة من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم التي حافظ عليها، ولم يتركها في وضوء -صلوات الله وسلامه عليه-، والسنة أن يجمع بينهما من كفٍّ واحدة، فيجعل بعض الماء الموجود في الكف للفم فيتمضمض به، ثم يستنشق الباقي

ص: 149

من الماء بأنفه، ثم ينثره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما توضأ قسم كفه كما في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه فمضمض، واستنشق ثلاثاً من ثلاث غرفات أي: أن كل غرفة تكون مقسومة بين المضمضة، والاستنشاق، وهذه هي السُّنة.

قوله رحمه الله: [والُمبالَغةُ فِيهما لِغيرِ صَائمٍ]: المبالغة: مفاعلة من البلوغ، وهو الوصول تقول: بلغت الشيء إذا وصلت إليه.

فقوله: [المُبالغةُ]: أي أن الإنسان يصل إلى غاية الاستنشاق في إستنشاقه، وغاية المضمضة في مضمضته، وذلك عن طريق المبالغة في جذب الماء بالنَّفَسِ في الاستنشاق، والمبالغة في الإدارة والتحريك إلى اللهاة في المضمضة، قوله رحمه الله [لِغيْر صَائمٍ] هذا الاستثناء لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:[وبَالغْ في الاسْتِنْشَاقِ إلا أنْ تَكونَ صَائِماً] فقد دلّ هذا الحديث على أنه لا يُسن للإنسان أن يبالغ في استنشاقه حال صيامه، وهذا من باب التنبيه بالنظير على نظيره فنبه بالاستنشاق على المضمضة، فلا يبالغ فيها أيضاً، وذكر الاستنشاق؛ لأن الغالب في الاستنشاق ألا يتحكم الإنسان فيه عند المبالغة بخلاف المضمضة، فإن الغالب أنه يتحكم فيها.

وهذا الحديث -أعني قوله-: [وبَالِغْ في الاسْتِنْشاق] فيه تنبيه على أصل عند العلماء وهو: " أنه لا يُشْرعُ تَضييعُ الفَرائِضِ، أوْ إِرْتِكابُ المحرماتِ بفعلِ السننِ ".

توضيح ذلك: أنه إذا بالغ في الاستنشاق، ودخل الماء حلقه فإنه ضيع الواجب، وهو الصيام، وكذلك أيضاً لا يبالغ في إصابة سنة لوقوع في

ص: 150

محظور كما لو كان على الحجر طيب، فإنه إذا بالغ في إصابة الحجر وهو محرم بالنسك، وأصرّ على لمسه، أو تقبيله؛ فإنه سيصيب الطيب، وذلك تحصيل لسنة على وجه يفضي إلى الوقوع في محظور مس الطيب، ولذلك قالوا: يتركه حتى يقبله الغير، ثم يقبله من بعده، أو يلمسه الغير؛ فيلمسه من بعده إذا أذهب لمس، وتقبيل الغير ذلك الطيب، ولذلك لا ينبغي تفويت الواجب، وارتكاب المحظور طلباً للسُّنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هنا نهى الصحابي أن يبالغ في الاستنشاق حتى لا يقع في محظور الفطر.

قوله رحمه الله: [وتَخْلِيلُ اللّحْيةِ الكَثيفةِ]: التخليل: تفعيل من الخُلَل، وخُلَل الشيء أجزاءه، والمناسم التي فيه تقول: رأيته من خُلل الباب يعني من المناسم الموجود فيه، وهي الفتحات الصغيرة، وقالوا سُمِّي التخليل تخليلاً؛ لأن الإنسان يوصل الماء إلى الشعر من خلاله يعني يخُلل الماء بين الشعر، فيدخل في خُلَل اللحية، وكذلك شعر الرأس، والأصابع؛ لأنه يدخل خنصره بين الأصابع فقالوا: خَلّل لدخول الخنصر بينها.

وقوله: [وتَخْلِيلُ اللّحيةِ] يدل على أنه مسنون، وهذا كما قلنا أنها إذا كانت كثيفة وجب غسل ظاهرها، لا باطنها لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه، والمواجهة في اللحية الكثيفة تحصل بظاهرها؛ لا بباطنها، فكان تخليل باطنها غير واجب، والحكم بكونه سنة في اللحية مبني على حديث التخليل، وهو متكلم في إسناده، حتى قال بعض أهل العلم رحمهم الله:[لا يَصِحُّ في التّخلِيلِ شَيءٌ] ومن أهل العلم من إِعتبره وحكم بثبوته كالإمام الترمذي، والحاكم، وغيرهما رحم الله الجميع.

ص: 151

وقوله رحمه الله: [الكَثِيفَةِ] هي: الكثيرة الشعر، ومفهوم ذلك أنها إذا لم تكن كثيفة بأن كانت قليلة الشعر، وهي التي تُرى البشرة من تحتها وجب غسلها، وغسل ما تحتها من البشرة؛ لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه، والمراد بالوجه ما تحصل به المواجهة، فإن كانت يسيرة حصلت المواجهة بهما بالشعر اليسير، وبالبشرة من الوجه فوجب غسلهما، واعتبر وصف الكثافة لأنه صفة لحيته عليه الصلاة والسلام.

وقوله رحمه الله: [والأَصابِعِ] أي: وتخليل الأصابع، والمراد بها أصابع اليدين، والرجلين، لأن ما بين الأصبعين قد لا يصل إليه الماء فيحتاج إلى تفقد، وعناية، وهو ما يحصل عن طريق التخليل، بإدخال الخنصر بين الأصابع للتأكد من وصول الماء إلى تلك المواضع، واعتباره سنة مبني على حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه، وقد بيّنا كلام العلماء رحمهم الله في ثبوته، وفي مسائله في شرح البلوغ.

قوله رحمه الله: [والتَّيامُن]: تفاعل من اليمين، وهي الجهة التي شرّفها الشرع كما هو محفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يكون في الأعضاء المثناه، ويشمل ذلك: اليدين، والرجلين فإنه يتيامن فيهما، فيبدأ بغسل يده اليمنى قبل يده اليسرى، ورجله اليمنى قبل رجله اليسرى، ولكن لا يشرع التيامن في الأعضاء المنفردة، فلا يغسل شق وجهه الأيمن، ثم الأيسر، لأن هذا تنطّع، وتكلّف في العبادة، وقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل وجهه غسلاً واحداً، ومسح رأسه مسحة واحدة.

ص: 152

وقوله: [التَّيامُن]: أي أن التيامن سنة، وبناءً على ذلك لو أن إنساناً غسل يده اليسرى قبل يده اليمنى ما حكم وضوءه؟ نقول: إنه صحيح؛ لأنه فوت الأكمل، والأفضل، ولا إثم عليه، لأن التيامن ليس من فرائض الوضوء.

والدليل على صحته: أن الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} (1) فأمر بغسل اليد مطلقاً، ومن غسل اليسرى قبل اليمنى فقد إِمتثل ما أمر الله، غير أنه فوّت الفضيلة بتقديم اليمين على اليسار.

قوله رحمه الله: [وأَخْذُ ماءٍ جديدٍ للأذنين]: أي ويسن له أن يأخذ ماءً جديداً بعد مسح الرأس ليمسح أذنيه، واعتبار ذلك سنة يدل على أنه لو مسح الأذنين بعد مسحه لجميع الرأس دون أن يأخذ ماءً جديداً أنه لا حرج عليه في ذلك، ودل على سنية أخذ الماء الجديد للأذنين بعد مسح الرأس حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه عند الترمذي، وفيه عبد الله ابن لهيعة، ومن المعروف أن الترمذي يحسّن روايته.

قوله رحمه الله: [والغسلةُ الثانِيةُ، والثّالثةُ سُنّةٌ]: أي ليستا بواجبتين.

والدليل على عدم وجوبها: أن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} والغسل يتحقق بالمرة الواحدة، فمن غسل مرة واحدة، فقد إمتثل، هذا دليل الكتاب.

(1) المائدة، آية:6.

ص: 153

أما دليل السُّنة فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان رضي الله عنه أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً فدل على أنه لا تجب التّثنية، ولا التثليث، وأن الغسلة الثانية، والثالثة سنتان وليستا بواجبتين.

ص: 154