الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب النكاح
النكاح في اللغة: الضم والتداخل، وقال الفراء (1): النُّكْح بضم ثم سكون: اسم الفرج، ويجوز كسر أوله، وكثر استعماله في الوطء، وسمي به العقد لكونه سببه. وقال أبو القاسم الزجاجي (1): هو حقيقة فيهما. وقال الفارسي (1): إذا قالوا: [نكح](أ) فلانة أو بنت فلان. فالمراد العقد، وإذا قالوا: نكح زوجته. فالمراد الوطء. وقال آخرون: أصله لزوم شيء بشيء مستعليًا عليه، ويكون في المحسوسات وفي المعاني. قالوا: نكح المطر الأرض. ونكح النعاس عينه. ونكحتُ القمح في الأرض. إذا حرثتها وبذرته فيها. ونكحت الحصاة أخفاف الإبل.
وفي الشرع حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الصحيح، ويدل على ذلك كثرة وروده في الكتاب والسنة للعقد حتى قيل: إنه لم يرد في القرآن (ب) إلا للعقد، ولا يَرِدُ مثلُ قوله تعالى:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2). لأن شرط الوطء في التحليل إنما يثبت بالسنة، وإلا [فالعقد] (جـ) لا بد منه؛ لأن قوله {حَتَّى تَنْكِحَ}. معناه: حتى تتزوج. أي: يعقد عليها. ومفهومه أن
(أ) في النسخ: انكح. والمثبت من الفتح 9/ 103.
(ب) ساقط من: جـ.
(جـ) في الأصل: فإتيان العقد.
_________
(1)
ينظر الفتح 9/ 103.
(2)
الآية 230 من سورة البقرة.
ذلك كافٍ بمجرده، لكن بينت السنة أنه لا عبرة بمفهوم الغاية بل لا بد بعد العقد من ذوق العُسَيلة، كما أنه لا بد بعد ذلك من التطليق، ثم العدة، نعم أفاد أبو الحسين بن فارس أن النكاح لم يرد في القرآن إلا للتزويج إلا قوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (1). فإن المراد به الحلم. والله أعلم. وفي وجه للشافعية كقول الحنفية أنه حقيقة في الوطء، مجاز في العقد. وقيل: مقول بالاشتراك على كل منهما. وبه جزم الزجاجي، وهو الذي يترجح في نظري، وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد، ورجح بعضهم الأول، فإن أسماء الجماع كنايات لاستقباح ذكره، فيبعد أن يستعير من لا يقصد فحشًا اسم ما يستهجنه لما لا يستهجنه، فدل على أنه في الأصل للعقد، وهذا يتوقف علي تسليم المدعي أنها كلها كنايات، وقد جمع أسماء النكاح ابن [القطاع](أ) فزادت على الألف.
793 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا [معشر] (ب) الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء". متفق عليه (2).
قوله: "يا [معشر] (ب) الشباب". المعشر جماعة يشملهم وصف ما،
(أ) في النسخ: القطان. والمثبت من الفتح 9/ 103.
(ب) في الأصل: معاشر.
_________
(1)
الآية 6 من سورة النساء.
(2)
البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج". وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح 9/ 106 ح 506، وباب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة 9/ 112 ح 5066، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه ووجد مؤنة
…
2/ 1018 ح 1400.
فالشباب مَعْشر، والشيوخ معشر، والكهول معشر، وجمعه على معاشر، ولفظ "الصحيحين" بصيغة معشر، والمعنى هنا متساوي، والشباب جمع شاب، ويجمع أيضًا على شيبة وشُبّان بضم أوله وتشديد الباء الموحدة آخره نون، وذكر الأزهري (1) أنه لم يجمع فاعل على فعلان غيره. ويرد عليه: مثل صحبان في صاحب. وأصله الحركة والنشاط وهو اسم من بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الشافعية. وقال القرطبي في "المفهم": يقال: حَدَثٌ. إلى ست عشرة سنة ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين ثم كهل. وكذا ذكر الزمخشري. وقال ابن شاس المالكي في "الجواهر" أنه يقال: شاب. إلى أربعين. وقال النووي (2): الأصح المختار أن الشباب من بلغ ولم يجاوز الثلاثين، ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ. وقال الرُّوياني وطائفة: من جاوز الثلاثين يسمى شيخًا. زاد ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين. وقال أبو إسحاق الإسفراييني عن أصحاب الشافعي: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر فيختلف باختلاف الأمزجة.
خصّ الشباب بالخطاب؛ لأن الغالب وجود قوة الداعي إلى النكاح فيهم بخلاف الشيوخ، فإذا وجد في غيرهم فالحكم واحد لوجود المعنى المقتضي.
وقوله: "من استطاع منكم الباءة". هي بالهمزة والمد وتاء التأنيث، وفيها لغة بغير همز ولا مد، وقد تهمز وتمد بلا هاءٍ، ويقال لها أيضًا: الباهة. مبدل عن الهمزة هاء، وقيل: بالمد القدرة على مؤن النكاح، وبالقصر الوطء. قال الخطابي: المراد [بالباءة هنا النكاح](أ). انتهى. ولعله
(أ) في النسخ: بالنكاح الباءة هنا. والمثبت من الفتح 9/ 108.
_________
(1)
الفتح 9/ 108.
(2)
شرح مسلم 9/ 173.
أراد مؤن النكاح. قال: وأصله الموضع الذي يتبوءه ويأوي إليه. وقال المازري: اشتق [العقد](أ) على المرأة من أصل الباءة؛ لأن من شأن من يتزوج المرأة أن يتبوأ بها منزلًا. انتهى. ولابد من تقدير مؤن العقد. وقال النووي (1): اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى قول واحد، أصحهما أن معناها المراد اللغوي وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه -وهي [مؤن](5) النكاح- فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم؛ ليدفع شهوته، ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء. وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبًا. والقول الثاني أن المراد هنا مُؤَن النكاح، سميت باسم ما يلازمها. وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم لتندفع شهوته. والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوا قوله:"ومن لم يستطع فعليه بالصوم". قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن. وانفصل القائلون بالأول عن ذلك بالتقدير المذكور. انتهى. والتعليل المذكور للمازري. وأجاب عنه عياض (2) بأنه لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله:"من استطاع الباءة". أي بلغ الجماع وقدر عليه "فليتزوج". ويكون قوله: "ومن لم يستطع". أي من لم يقدر على التزويج. ومع هذا التأويل يصح أن يكون معمول الاستطاعة المحذوف
(أ) في النسخ: للعقد. والمثبت من الفتح 9/ 108.
(ب) في النسخ: مؤنة. والمثبت من شرح صحيح مسلم 9/ 173.
_________
(1)
صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 173.
(2)
الفتح 9/ 108.
هو الباءة أو التزويج، ويكون ما ذكر تفسير المراد، وقد جاء مصرحًا بذلك في رواية الترمذي (1):"ومن لم يستطع منكم الباءة". وعند الإسماعيلي (2): "من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج". فيقدر فيمن لم يستطع لفظ التزويج؛ لدلالة المثبت على المنفي.
وقوله: "فليتزوج". فعل أمر وظاهره الوجوب، فيقتضي أن النكاح واجب على الإطلاق مع القدرة على أسبابه وهو تحصيل المؤن. وقد ذهب إلى هذا داود ومن وافقه من أهل الظاهر، ورواية عن أحمد، وذهب إليه أبو عوانة الإسفراييني من الشافعية وصرح به في "صحيحه"، ونقله المصعبي في "شرح مختصر الجويني" وجهًا. قال أهل الظاهر: إنما يلزم العقد دون الوطء. وروي عن أحمد أنه يجب عند خشية العنت. وعبارة ابن تيمية في "المحرر"(3): النكاح للتائق سنة مقدمة على نفل العبادة إلا أن يخشى الزنى بتركه فيجب، والوجوب عند خوف العنت وجه في مذهب الشافعي.
حكاه الرافعي عن "شرح مختصر الجويني". وقال النووي في "الروضة"(4): لا يتحتم النكاح، بل يخير بينه وبين التسري. وجزم به أبو العباس القرطبي، وهو من المالكية، بل زاد فحكى الاتفاق عليه، فإنه قال: إنا نقول بموجب هذا الحديث في حق الشاب المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزبة، بحيث لا يرتفع عنه إلا بالتزويج. وقال ابن حزم في "المحلى" (5): وفرض على كل قادر على الوطء إن وجد أن يتزوج أو يتسرى، فإن عجز عن
(1) الترمذي 3/ 392 ح 1081.
(2)
الفتح 9/ 108.
(3)
المحرر 2/ 13.
(4)
روضة الطالبين 7/ 19.
(5)
المحلى 11/ 3.
ذلك فليكثر من الصوم. ثم قال: وهو قول جماعة من السلف. وذهب الجمهور إلى أن الأمر في الحديث محمول على الندب، قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى خير بينه وبين التسَرّي في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . ثم قال: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1). والتسري ليس بواجب إجماعًا فكذا النكاح، لأن التخيير بين الواجب وغيره يرفع الوجوب. والمسألة مبسوطة في الأصول إلا أن دعوى الإجماع غير مسلمة، فإن فيه الخلاف السابق في أن التسري واجب، ثم قوله تعالى:{إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (2). فإن قوله: {غَيْرُ مَلُومِينَ} . يدل على عدم الوجوب إذ لا يقال للواجب: إن فاعله غير ملوم. ثم الحديث متأول بأن ذلك في حق المستطيع الذي يخاف الضرر من العزبة، ثم إن القائلين بالوجوب إنما يجب عندهم العقد دون الوطء، وظاهر الحديث في الوطء، لأن العقد لا يحصل شيئًا من الفوائد المرتبة عليه. وأما قوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (3). فهو لا يدل على وجوب التزويج، وإنما يجب على الولي الإنكاح عند طلبه منه، ولم يقل أحد بوجوبه على النساء، وقد صرح بذلك ابن حزم (4) فقال: وليس ذلك فرضًا على النساء. وقال أبو إسحاق الشيرازي صاحب "التنبيه"(5): إن النكاح للنساء مستحب عند الحاجة ومكروه عند عدمها. وقال الشيخ عماد الدين الريحاني في "شرح الوجيز" المسمى بـ "الموجز": لم يتعرض الأصحاب
(1) الآية 3 من سورة النساء.
(2)
الآية 7 من سورة المؤمنون.
(3)
الآية 32 من سورة النور.
(4)
المحلى 11/ 4.
(5)
التنبيه 1/ 157.
للنساء، والذي يغلب على الظن أن النكاح في حقهن أولى مطلقًا، لأنهن يحتجن إلى القيام بأمورهن والستر من الرجال، ولا يحصل فيهن الضرر الناشئ من النفقة. وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" (1): قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري. وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري قال (2): فالوجوب في حق من لا ينكف عن الزنى إلا به كما تقدم. قال: والتحريم في حق من يخل بالزوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته عليه وتَوَقانه إليه، والكراهة في حق مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطاعة من عبادة أو اشتغال بالعلم اشتدت الكراهة. وقيل: الكراهة فيما إذا كان في حال العزوبة أجمع منه في حال التزويج. والاستحباب فيما إذا حصل به معنى مقصود، من كسر شهوة، وإعفاف نفس، وتحصين فرج، ونحو ذلك. والإباحة فيما إذا انتفت الدواعي والموانع. ومنهم من استمر بدعوى الاستحباب فيمن هذه صفته للظواهر الواردة في الترغيب فيه. قال عياض: هو مندوب في حق كل من يرجى منه النسل ولو لم يكن له في الوطء شهوة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإني مكاثر بكم"(3). ولظواهر الحض على النكاح والأمر به، وكذا في حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطء، فأما من لا يغسل ولا أرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت. وقد يقال: إنه مندوب أيضًا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا رهبانية في الإسلام"(4).
(1) شرح العمدة 4/ 22.
(2)
الفتح 9/ 110، 111.
(3)
سيأتي ح 795.
(4)
ينظر ما سيأتي ص 15.
وقال الغزالي في "الإحياء"(1): من اجتمعت له فوائد النكاح وانتفت عنه آفاته فالمستحب في حقه التزويج، ومن لا فالترك له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقه فليجتهد ويعمل بالراجح. ومثل التقسيم الذي ذكر تقي الدين ذكر الهدوية.
وقوله: "ومن لم يستطع". في رواية: "ومن لم يقدر"(2).
وقوله: "فعليه بالصوم". هذا من باب الإغراء، مثل قولك: عين زيدًا. أي الزمه. والإغراء للمخاطب؛ لأن الضمير في قوله: "فعليه". وإن كانت صيغة غائب لعوده إلى "مَن"، فهو في المعنى مخاطب بقوله:"من استطاع منكم". وقد وهم أبو عبيد وقال: "فعليه بالصوم". هو إغراء غائب، ولا تكاد العرب تغري إلا [المشاهد] (أ) تقول: عليك زيدًا. ولا تقول: عليه زيدًا. إلا في هذا الحديث. وقد عرفتَ الجواب عنه.
وكان الصوم واقيًا لمضرة العنت؛ لما فيه من الأسباب الكاسرة للشهوة، وتقليل مادة الماء؛ لترك الطعام والشراب وقمع النفس عن كثير من المقويات للشهوة وإدْماجًا لتحصيل عبادة هي في نفسها مطلوبة. وفيه إشارة إلى أن الغرض من الصوم قمع النفس من العادات وكسر الشهوة، ولا يقوم مقامه تقليل الطعام وحده من دون صوم.
قوله: "فإنه". أي الصوم، "له وِجاء". بكسر الواو والمد، أصله الغمز، ومنه: وَجَأَه في عنقه. إذا غمزه دافعًا له، و: وجأه بالسيف. إذا
(أ) كذا في النسخ. وفي غريب الحديث لابن سلام 2/ 75: الشاهد.
_________
(1)
الإحياء 2/ 706.
(2)
الطبراني 10/ 102 ح 10027.
طعنه به، و: وجأ أنثييه. غمزهما حتى رَضَّهما. ووقع في رواية ابن حبان (1) تفسير الوجاء، قال: وهو الإخصاء. وهي زيادة مدرجة في الخبر لم تقع إلا في طريق زيد بن أبي أنيسة، وتفسير الوجاء بالإخصاء فيه نظر؛ فإن الوجاء رضُّ الأنثيين، والإخصاء سلهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة على قول بعض المحققين، أو من باب التشبيه البليغ على قول الأكثر، وحكى أبو عبيد (2) عن بعضهم وَجَا بفتح الواو مقصور، والأول أكثر. وقال أبو زيد (3): لا يقال وجاء إلا فيما لم يبرأْ وكان قريب العهد بذلك.
وفي الحديث إرشاد للعاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم؛ لأن شهوة النكاح تابعة لشمهوة الأكل؛ تَقْوى بقوته وتَضْعُفُ بضعفه. واستدل به الخطابي (4) على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية. وحكاه البغوي في "شرح السنة"(5). وينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها بالأصالة؛ لأنه قد يقدر بعدُ فيندم لفوات ذلك في حقه. وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، والحجة فيه أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاء، فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلًا، واستدل به الخطابي أيضًا على أن المقصود من النكاح الوطء، ولهذا شرع الخيار في العُنَّة.
وفيه الحث على غض البصر، وتحصين الفرج بكل ممكن، وعدم التكلف بغير المستطاع. ويؤخذ منه أن حظوظ النفوس والشهوات لا تقدم
(1) ابن حبان 9/ 335 ح 4026.
(2)
غريب الحديث 2/ 74.
(3)
ينظر غريب الحديث لأبي عبيد 2/ 73، وينظر الفتح 19/ 110.
(4)
معالم السنن 3/ 180.
(5)
شرح السنة 9/ 6.
على أحكام الشرع، بل هي دائرة معها. واستدل به القرافي أن التشريك في العبادة لا يضر بخلاف الرياء، ولكنه يقال: إن كان المشرك عبادة كالشرك فيه مثل ما هنا فإنه يحصل الصوم وتحصين الفرج وغض البصبر، وأما تشريك المباح؛ كلو دخل في الصلاة لِتَرْكِ خطاب من يحل خطابه فهو محل نظر؛ يحتمل القياس على ما ذكر، ويحتمل عدم صحة القياس. واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء؛ لأنه لو كان الاستمناء مباحًا لأرشد إليه لأنه أسهل، وتعقب بأنه لا يسلم كونه أسهل إذ هو فعل، والصوم يستلزم الترك والترك أسهل، وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية.
واعلم أنه قد ورد في الترغيب إلى النكاح أحاديث كثيرة؛ منها من حديث أنس: "تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم يوم القيامة". أخرجه ابن حبان (1)، وذكر الشافعي (2) بلاغًا عن ابن عمر بلفظ:"تناكحوا تكاثروا، فإني أباهي بكم الأمم". وللبيهقي (3) من حديث أبي أمامة: "تزوجوا فإني مكاثر بكم الأم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى". وورد: "فإني مكاثر بكم" أيضًا من حديث الصنابحي بن الأعسر (4)، ومعقل بن يسار (5)، وسهل بن حنيف (6)، وحرملة بن النعمان (7)، وعائشة (8)، وعياض
(1) ابن حبان 9/ 338 ح 4028.
(2)
الأم 5/ 144.
(3)
البيهقي 7/ 78.
(4)
أحمد 4/ 349، وابن حبان 14/ 358 ح 6446.
(5)
سيأتي ح 795.
(6)
الطبراني في الأوسط 6/ 44 ح 5746.
(7)
التلخيص 3/ 116.
(8)
ابن ماجه 1/ 592 ح 1846.
ابن غَنْم (1)، ومعاوية بن حَيْدة (2)، وغيرهم. وأما حديث:"لا رهبانية في الإسلام". فلم يوجد في شيء من الأصول المعتبرة بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني (3):"إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة". وعن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "لا صَرُورَة (أ) في الإسلام". أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم (4). وفي الباب حديث النهي عن التبتل، أخرجه البخاري (5). وحديث:"من كان موسرًا فلم ينكح فليس منا". أخرجه الدارمي، والبيهقي (6) من حديث أبي نجيح وجزم بأنه مرسل، وقد أورده [البغوي] (ب) في "معجم "الصحابة". و (جـ) حديث طاوس: قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: إنما يمنعك من التزويج عجز أو فجور. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره (7). وفي حديث عائشة: "النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني". أخرجه البخاري (8). وأخرج الحاكم (9) من
(أ) في حاشية ب: بفتح الصاد الذي لم يتزوج وكذا الذي لم يحج، كذا في القاموس. وينظر القاموس المحيط (ص ر ر).
(ب) في الأصل، ب: الطبري. وفي جـ: الطبراني. والمثبت من الفتح 9/ 111.
(جـ) في ب: في.
_________
(1)
الطبراني 17/ 368 ح 1008.
(2)
الطبراني 19/ 416 ح 1004.
(3)
الطبراني 6/ 75، 76 ح 5519.
(4)
أحمد 1/ 312، وأبو داود 2/ 14 ح 1729، والحاكم 1/ 448.
(5)
البخاري 9/ 117 ح 5073.
(6)
الدارمي 3/ 1383 ح 2210، والبيهقي 7/ 78.
(7)
ابن أبي شيبة 4/ 127، وعبد الرزاق 6/ 170 ح 10384، وسعيد بن منصور 1/ 139 ح 491.
(8)
كذا في النسخ، وليس عند البخاري من حديث عائشة، بل من حديث أنس وسيأتي ح 794، أما من حديث عائشة فهو عند ابن ماجه 1/ 592 ح 1846، بنحوه مطولا.
(9)
الحاكم 2/ 161.
حديث أنس رفعه: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني". وهذه الأحاديث وإن كان في الكثير منها ضعف، فمجموعها يدل على الترغيب في النكاح، وأن لذلك أصلًا، لكن في حق من يتأتى منه النسل. والله أعلم.
794 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه وقال: "لكني أنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". متفق عليه (1).
795 -
وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا ويقول: "تزوجوا الولود الودود، إني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة". رواه أحمد وصححه ابن حبان (2). وله شاهد عند أبي داود والنسائي وابن حبان (3) أيضًا من حديث معقل بن يسار.
حديث أنس أورده المصنف بلفظ مسلم، وأصل الحديث (أ): جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ قد غفر الله له ما تقدم من
(أ) زاد بعده في الأصل، جـ: قال أنس.
_________
(1)
البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح 9/ 104 ح 5063، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه 2/ 1120 ح 1401.
(2)
أحمد 3/ 158، وابن حبان 9/ 338 ح 4028.
(3)
أبو داود 2/ 227 ح 2050، والنسائي 6/ 65، 66، وابن حبان 9/ 363، 364 ح 4056.
ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل [النساء](أ) فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". هذا لفظ البخاري.
قوله: حمد الله وأثنى عليه. فيه دلالة على أنه يقدم الحمد والثناء على الله عند إرادة التكلم في أمر مهم من أمر الدين أو الدنيا وبيان أحكام المكلفين وإزالة [الشبهة عن](ب) المجتهدين.
وقوله: "لكني أنا أصلي" إلى آخره. دلالة على أن المشروع هو الاقتصاد في العمل دون الانهماك والإضرار بالنفس وهجر المألوفات كلها، وأن الحنيفية مبنية على التسهيل والتيسير، لا تعسير فيها ولا تنفير، كما قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1). وقد ورد في الاقتصاد في العمل أحاديث كثيرة أخرجها البخاري (2) في "الصحيح" وغيره. قال الطبري (3): في الحديث الرد على من منع من استعمال الحلال من الأطعمة والملابس وغيرها. قال عياض (3): وهذا مما اختلف فيه السلف؛ فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري، ومنهم من عكس واحتج بقوله تعالى:
(أ) في الأصل، جـ: الناس.
(ب) في النسخ: سنة. والمثبت من الفتح 9/ 106.
_________
(1)
الآية 185 من سورة البقرة.
(2)
ينظر البخاري ح 1150، 1151، 6463 - 6465.
(3)
ينظر الفتح 9/ 106.
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (1). قال: والحق أن هذه الآية في الكفار، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمرين، والأولى التوسط في الأمر وعدم الإفراط في ملازمة استعمال الطيبات، فإنه يفضي إلى الترفه والبطر، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات، فإن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانًا، فلا يستطيع الانتقال عنه، فيقع في المحذور، كما أن منع تناول ذلك أحيانًا يفضي إلى التنطع المنهي عنه. ويرد عليه صريح قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (2). كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلًا وترك النفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة، وخير الأمور الوسط.
وقوله: "فمن رغب عن سنتي فليس مني". المراد بالسنة الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، وأراد صلى الله عليه وسلم: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني. ولمح بذلك إلى طريقة الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى، وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه. وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة؛ فيفطر ليقوى على الصوم، وينام ليقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل.
وقوله: "فليس مني". إن كانت الرغبة لضرب من التأويل يعذر صاحبها فيها فالمعنى: ليس مني: أي على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كانت إعراضًا وتنطعًا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى
(1) الآية 20 من سورة الأحقاف.
(2)
الآية 32 من سورة الأعراف.
"ليس مني": ليس على ملتي؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر.
وقوله في الحديث الثاني: وينهى عن التبتل. التبتل هو الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعًا إلى عبادة الله تعالى. وأصل التبتل القطع، ومنه: مريم البتول؛ لانقطاعها عن نساء زمانها دينًا وفضلًا ورغبة في الآخرة. و "الولود" كثيرة الولد، وقد ورد مصرحًا به في أول حديث معقل بن يسار في نكاح العاقر التي لا تلد ولم يجبه في الثالثة إلا بهذا الأمر. و "الودود" هي المودودة لما هي عليه من حسن الخلق والتودد إلى الزوج، فهو فعول بمعنى مفعول. والمكاثرة يوم القيامة بكثرة الأمة.
796 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك". متفق عليه مع بقية السبعة (1).
797 -
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رَفَّأ إنسانًا إذا تزوج قال: "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير". رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان (2).
(1) البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين 9/ 132 ح 5090، ومسلم، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين 2/ 1086 ح 1466، وأحمد 2/ 428، وأبو داود، كتاب النكاح، باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين 2/ 226 ح 2047، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب تزويج ذات الدين 2/ 597 ح 1858، والنسائي، كتاب النكاح، باب كراهية تزويج الزناة 6/ 376 ح 3230، وعند الترمذي 3/ 396 ح 1086 من حديث جابر بذكر ثلاث خصال دون لفظة الحسب.
(2)
أحمد 2/ 381، وأبو داود، كتاب النكاح، باب ما يقال للمتزوج 2/ 248 ح 2130، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء فيما يقال للمتزوج 3/ 400 ح 1091، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب تهنئة النكاح 1/ 614 ح 1905، والنسائي في الكبرى، عمل اليوم والليلة، ما يقال له إذا تزوج 6/ 73 ح 10089، وابن حبان 9/ 359 ح 4052.
الحديث ذكر فيه أربع، وفي رواية مسلم (1) عن جابر بإسقاط حسبها. وأخرج الحاكم وابن حبان (2) من حديث أبي سعيد:"تنكح المرأة على إحدى ثلاث خصال؛ جمالها ودينها وخلقها، فعليك بذات الدين والخلق".
وروى ابن ماجه والبزار والبيهقي (3) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يُرديهن، ولا لمالهن فلعله يطغيهن، وأنكحوهن للدين، ولأمة سوداء خرقاء ذات دين أفضل". وروى النسائي (4) من طريق سعيد المقبُري عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، أي النساء خير؟ قال:"التي تسره إذا نظر، وتطعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره". الحديث معناه الإخبار منه صلى الله عليه وسلم بما يفعله الناس في العادة، فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين، لا أنه أمر. قال شِفرٌ (5): الحسب الفعل الجميل للرجل وآبائه. انتهى. وفي حديث بريدة مرفوعًا: "إن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه هذا المال". أخرجه ابن حبان في "صحيحه" وقال الحاكم (6): هذا على شرط الشيخين. وهو يحتمل أن يكون خرج مخرج الذم، لأن الحسب إنما هو بالأنساب لا بالمال، ويحتمل التقرير والإعلام بصحته إذ لا فائدة لرجوعه إلى نسبه مع فقره وهو لا يحصل له مطلبًا، وإنما يكون حسبه بماله، فهو الذي يرفع من شأنه عند الناس كان لم يكن له شرف
(1) مسلم ح 1466 - 54.
(2)
الحاكم 2/ 16، وابن حبان 9/ 345 ح 4037.
(3)
ابن ماجه 1/ 597 ح 1859، والبزار ح 2438، والبيهقي 7/ 80.
(4)
النسائي 6/ 68.
(5)
شرح مسلم 10/ 52.
(6)
ابن حبان 2/ 474 ح 700، والحاكم 2/ 163.
النسب، ويدل على ذلك حديث سمرة (1) مرفوعًا:"الحسب المال، والكرم التقوى". حسنه الترمذي. وقد دل الحديث على أن مصاحبة أهل الدين في كل شيء هي الأولى؛ لأن صاحبهم يستفيد من أخلاقهم وبركتهم وطرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم.
وفي قوله: "تربت يداك". أي التصقت بالتراب من الفقر، لم يقصد حقيقة الدعاء عليه بذلك. وهو خارج مخرج ما يعتاده الناس من إلهاب الخاطب والتزامه بما أريد منه.
وحديث: كان إذا رَفَّأ
…
إلخ. وأخرجه الدارمي (2) وصححه أيضًا أبو الفتح في "الاقتراح على شبرط مسلم". وفي الباب عن عقيل بن أبي طالب. رواه الدارمي وابن السني (3) وغيرهما من طريق الحسن، قال؛ تزوج عقيل بن أبي طالب امرأة من بني جُشَم، فقيل له: بالرفاء والبنين. فقال: قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله فيكم وبارك لكم". واختلف فيه على الحسن. أخرجه بقي بن مخلد (4) من طريق غالب عنه عن رجل من بني تميم قال: كنا نقول في الجاهلية: بالرفاء والبنين. فعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قولوا
…
". فذكره. وفي حديث جابر أخرجه مسلم (5)، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجت؟ ". قلت: نعم يا رسول الله. قال: "بارك الله لك". وزاد الدارمي: "وبارك عليك".
(1) أحمد 5/ 10، والترمذي 5/ 363 ح 3271، وابن ماجه 2/ 1410 ح 4219.
(2)
الدارمي 3/ 1391 ح 2220.
(3)
الدارمي 3/ 1389 ح 2219، وابن السني في عمل اليوم والليلة 284 ح 602.
(4)
التلخيص 3/ 153.
(5)
مسلم 2/ 1087، 1088 ح 715/ 56.
قوله: كان إذا رَفَّأ. الرفاء: الموافقة وحسن المعاشرة، وهو من رفأ الثوب، وقيل: من رفوت الرجل، إذا سكّنت ما به من روع. وقولهم: بالرفاء والبنين. في محل النصب على الحال؛ أي هذا النكاح ملتبسًا بالرفاء والبنين، وإنما نهي عنه؛ لأنه كان من شعار الجاهلية، فكره لذلك. وفي الحديث دلالة على شرعية الدعاء للناكح.
798 -
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الحاجة: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". ويقرأ ثلاث آيات. رواه أحمد والأربعة، وحسنه الترمذي والحاكم (1).
والآيات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا
(1) أحمد 1/ 392، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس 1/ 287 ح 1097، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح 3/ 413 ح 1105، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب خطبة النكاح 1/ 906 ح 1892، والنسائي، كتاب الصلاة، باب كيفية الخطبة 3/ 104.
(2)
الآية 1 من سورة النساء.
(3)
الآية 102 من سورة آل عمران.
عَظِيمًا} (1). وجاء في رواية لأبي داود (2) بعد قوله: "ورسوله". "أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسَه ولا يضر الله شيئًا". وفي رواية للنسائي (3): قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة والتشهد في الحاجة. وذكر الحديث. وجاء في رواية (4) بحذف "إن"، وكذا في رواية البيهقي (5) من حديث أبي داود الطيالسي بحذف "إن" وإثباتها بالشك، وفي آخره: قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: هذه في خطبة النكاح وفي غيرها؟ قال: في كل حاجة. وفي إسناد الحديث إرسال؛ لأنه من حديث أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود. وهو لم يسمع من أبيه، إلا أن الحاكم (6) رواه من طريق أخرى عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن ابن مسعود. وليس فيه الآيات. ورواه (7) أيضًا من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص وأبي عبيدة أن عبد الله قال. فذكر نحوه. ورواه البيهقي (5) من حديث واصل الأحدب، عن شقيق، عن ابن مسعود بتمامه.
الحديث فيه دلالة على شرعية ما ذكر من التحميد والتشهد عند إرادة النكاح، وأنه غير شرط في النكاح، وشرطه بعض أهل الظاهر، وهو قول شاذ.
(1) الآيتان 70، 71 من سورة الأحزاب.
(2)
أبو داود 2/ 245 ح 2119.
(3)
النسائي في الكبرى 3/ 321 ح 5527.
(4)
النسائي في الكبرى 1/ 529، 6/ 126 ح 1709، 10323.
(5)
البيهقي 7/ 146.
(6)
البيهقي 3/ 215، 7/ 146 عن الحاكم به. وينظر التلخيص 3/ 152.
(7)
البيهقي 7/ 146 عن الحاكم به. وينظر التلخيص 3/ 152.
799 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل". رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات، وصححه الحاكم (1). وله شاهد عند الترمذي والنسائي (2) عن المغيرة. وعند ابن ماجه وابن حبان (3) من حديث محمد بن مسلمة. ولمسلم (4) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تزوج امرأة:"أنظرت إليها؟ ". قال: لا. قال: "اذهب فانظر إليها".
قوله: تزوج امرأة. أي أراد. وتمام حديث جابر قال: فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها. حديث جابر أخرجوه من حديث ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن واقد بن عبد الرحمن (5). ورواه أحمد من هذا الوجه، وفيه أن المرأة من بني سلمة. وأعله ابن القطان (6) بواقد بن عبد الرحمن بأنه غير معروف، والمعروف واقد بن عمرو (7)، وهو في رواية الحاكم كذلك، وكذا في رواية الشافعي وعبد الرزاق (8)، وحديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة وقد خطب امرأة:
(1) أحمد 3/ 334، وأبو داود، كتاب النكاح، باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها 2/ 235 ح 2082، والحاكم، كتاب النكاح 2/ 165.
(2)
الترمذي 3/ 397 ح 1087، والنسائي 6/ 69.
(3)
ابن ماجه 1/ 599 ح 1864، وابن حبان 9/ 349 ح 4042.
(4)
مسلم 2/ 1040 ح 74/ 1424.
(5)
واقد بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ الأنصاري قال الحافظ: مجهول. التقريب ص 579، وينظر تهذيب الكمال 30/ 411.
(6)
كما في نصب الراية 4/ 241.
(7)
واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ الأنصاري النهشلي، أبو عبد الله المدني، وثقه ابن سعد وأبو زرعة وقال الحافظ: ثقة. ينظر تهذيب الكمال 30/ 412، وتهذيب التهذيب 11/ 107، والتقريب ص 579.
(8)
الشافعي -كما في التلخيص 3/ 147، وعبد الرزاق 6/ 157 ح 10337.
"انظر إليها فإنه أحرى أن يؤْدم بينكما". أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان (1).
والحديث فيه دلالة على ندبية تقديم النظر إلى التي يراد نكاحها، وهو مذهب الجماهير من العلماء وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسائر أهل الكوفة. وحكى القاضي عياض (2) كراهته، وهو خطأ مخالف لصريح الحديث، ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة، والنظر يباح إلى الوجه والكفين، لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها، وهذا مذهب الأكثر. وقال الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم. وقال داود: ينظر إلى جميع بدنها. والحديث لا يدل على خلافه، بل قد يدل عليه إذا لم يحصل له المقصود بنظر البعض وكان الداعي إلى زواجها نظر جميع الجسد، ويدل على ذلك ما رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي عمر (3) أن عمر كشف عن ساق أم كلثوم بنت علي لما بعث بها إليه علي لينظرها. ولا يشترط رضا المرأة بذلك النظر، بل له أن يفعل ذلك في غفلتها، ومن غير تقدم إعلام. لكن قال مالك (4): أكره نظره في غفلتها؛ مخافة من وقوع نظره على عورة. وعن مالك رواية ضعيفة أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها. وهو ضعيف لأن الحديث يدل على أنه مأذون له مطلقًا. ولأنها تستحي في
(1) ابن ماجه 1/ 599 ح 1865، والدارمي 3/ 1389 ح 2218، وابن حبان 9/ 351 ح 4043، ورواية النسائي والترمذي تقدم تخريجهما في حديث الباب.
(2)
شرح مسلم 9/ 210.
(3)
عبد الرزاق 6/ 163 ح 10352، وسعيد بن منصور 1/ 147 ح 521، وابن أبي عمر -كما في التلخيص 3/ 147.
(4)
شرح مسلم 9/ 210.
الغالب من الإذن، ولأنه قد يحصل بسبب ذلك أذى، فإنه إذا ترك النكاح لعدم إعجابه تأذت منه في الغالب، ولذلك ذكر أصحاب الشافعي أنه ينبغي أن يكون نظره إليها قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلاف بعد الخطبة. وإذا لم يمكنه النظر استحب له أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره بصفتها، كما روى أنس أنه صلى الله عليه وسلم بعث أم سليم إلى امرأة فقال:"انظري إلى عرقوبيها وشمي معاطفها". أخرجه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي (1) من حديث أنس، واستنكره أحمد، والمشهور فيه من طريق عمارة عن ثابت عنه. ورواه أبو داود في "المراسيل"(2) عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن ثابت. ووصله الحاكم من هذا الوجه بذكر أنس فيه، وتعقبه البيهقي بأن ذكر أنس فيه وهم. قال: ورواه أبو النعمان عن حماد مرسلًا. قال: ورواه محمد بن كثير الصنعاني عن حماد موصولًا. وفي قوله: "وشمي معاطفها". في رواية الطبراني، وفي رواية أحمد وغيره:"شمي عوارضها". والمعاطف: ناحيتا العنق، والعوارض: الأسنان التي في عرض الفم، وهي ما بين الثنايا والأضراس، واحدها عارض، والمراد اختبار رائحة نكهتها. كذا في "النهاية"(3)، ويثبت مثل هذا الحكم للمرأة أن تنظر إلى خاطبها؛ فإنه يعجبها منه مثل ما يعجبه منها، وقد روي مثل هذا عن عمر (4). قال المصنف (5) رحمه الله: لم أجده عن عمر.
(1) أحمد 3/ 231، والطبراني كما في التلخيص 3/ 147، والحاكم 2/ 166، والبيهقي 7/ 87.
(2)
المراسيل ص 144.
(3)
النهاية 3/ 212.
(4)
مصنف عبد الرزاق 6/ 158 ح 10339.
(5)
التلخيص 3/ 105. وقد رواه عبد الرزاق عن عمر كما في المصنف 6/ 158 ح 10339.
800 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له". متفق عليه (1) واللفظ للبخاري.
وذكر البخاري في ترجمة الباب: لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع. وأورده في حديث أبي هريرة (2) بلفظ: "أو يترك". وأخرجه مسلم (3) من حديث عقبة بن عامر بلفظ: "حتى يذر". وأخرجه أبو الشيخ (4) في كتاب "النكاح" من طريق عبد الوارث، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة بلفظ:"حتى ينكح أو يدع". وإسناده صحيح. الحديث فيه دلالة على أنه منهي عن الخطة إذا قد سبق بها أحد، وظاهر النهي التحريم، وادعى النووي (5) الإجماع على التحريم. وقال الخطابي (6): النهي للتأديب وليس للتحريم، يُبطِل العقدَ عند أكثر الفقهاء. ويقال: لا ملازمة بين تحريم الخطبة وبين العقد؛ فإن ذلك منفصل، وإن ادعى أن العقد منهي عنه لوقوعه بعد الخطبة المنهي عنها فلا دليل على ذلك. وظاهر الحديث إطلاق النهي قبل الإجابة وبعدها، ولم أطلع على قول في ذلك إلا في أحد قولي الشافعي، كما سيأتي قريبًا، وأما بعد الإجابة فإجماع
(1) البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع 9/ 198 ح 5142، ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم. الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك 2/ 1032 ح 1412/ 50.
(2)
البخاري 9/ 199 ح 5144.
(3)
مسلم 2/ 1034 ح 1414/ 56.
(4)
أبو الشيخ -كما الفتح 9/ 199.
(5)
شرح مسلم 9/ 197.
(6)
معالم السنن 3/ 194.
على أنه منهي عنها (أ) إذا كانت الإجابة [تصريحًا](ب)، وهي من المرأة المكلفة في الكفؤ، ومن الولي في حق الصغيرة، وأما غير الكفؤ فلا بد من إذن الولي على القول بأن له المنع. وأما إذا كانت الإجابة بالتعريض، فالأصح عند الشافعية عدم التحريم، وهو قول الهدوية، وقول للشافعي التحريم، وحجة من جوز الخطبة قبل الإجابة ما ورد في قصة فاطمة بنت قيس (1) فإنها قالت: خطبني معاوية وأبو جهم. ولم ينكر عليهما النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل خطبها لأسامة، وأشار النووي (2) إلى أنه لا حجة، لاحتمال أن يكونا خطبا معًا أو لم يعلم الثاني بخطبة الأول، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب وإنما أشار بأسامة، وعلى فرض أنه خطب، فلعله لما ذكر لها ما في معاوية وأبي جهم ظهر منها الرغبة عنهما فخطبها لأسامة، ولكنه بقي الكلام هل إضرابها يقوم مقام ترك الخاطب كما هو المعني به في الحديث؟ ولعله يقاس عدم رغبتها إلى التمام، بترك الخاطب للتمام، إذ العقد متوقف على إتمامهما جميعًا لما أراداه. وأما إذا لم يحصل من المرأة إجابة ولا رد، فقطع بعض الشافعية بالجواز، وبعضهم أجرى القولين للشافعي في ذلك، وقصة فاطمة تحتمل ذلك وأنه لم يسبق منها إجابة لأيهما. ونص الشافعي أن سكوت البكر رضا بالخاطب، والعقد مع التحريم يصح عند الجمهور. وقال داود: يفسخ النكاح قبل الدخول وبعده. وعند المالكية خلاف كالقولين، وقال بعضهم: يفسخ قبله لا بعده.
(أ) في ب، جـ: عنه.
(ب) في النسخ: صريحا. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
مسلم 2/ 1114 ح 1480، وأبو داود 2/ 284 ح 2284.
(2)
شرح مسلم 9/ 197، 198.
وحجة الجمهور أن المنهي عنه هو الخطبة، والخطبة ليست شرطًا في صحة النكاح، فلا يفسخ النكاح بوقوعها غير صحيحة. وحكى الطبري أن بعض العلماء قال: إن النهي منسوخ بقصة فاطمة. وهو غلط، وصرح الرُّوياني بأن الخطبة التي تحرم بعدها الخطبة إنما هي إذا كانت جائزة، فلو كانت محرمة كالخطبة للمعتدة لم يكن لها حكم، وهو واضح؛ لأن الأول لم يثبت له حق، وكذا إذا لم يعلم الخاطب بما وقع من الإجابة أو الرد فإنه يجوز الخطبة؛ لأن الأصل الإباحة، وعند الحنابلة في ذلك روايتان.
وقوله: "حتى يترك أو يأذن له". فيه دلالة على الحل للمأذون له. وهل يختص ذلك بالمأذون له أو يتعدى إلى غيره؛ لأن مجرد الإذن المصادر من الخاطب الأول دال على إعراضه عن تزويج تلك المرأة، وبإعراضه يجوز لغيره أن يخطبها، الظاهر الثاني، فيكون الجواز للمأذون له بالتنصيص ولغيره بالإلحاق. ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة:"أو يترك". واستدل بقوله: "على خطبة أخيه". بأن محل التحريم إذا كان الخاطب مسلمًا، فلو خطب الذمي ذمية فأراد المسلم أن يخطبها جاز له ذلك مطلقًا، وهو قول الأوزاعي ووافقه من الشافعية ابن المنذر وابن [حَربُويه] (أ) والخطابي. وكذلك حديث:"فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته حتى يذر". قال الخطابي (1): قطع الله الأخوة بين المسلم والكافر، فيختص
(أ) في النسخ: حرقويه. وفي الفتح 9/ 200: جويرية. والمثبت من خبايا الزوايا 1/ 223، وتهذيب الأسماء 2/ 256 وهو أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب بن عيسى البغدادي. ينظر سير أعلام النبلاء 14/ 536، وطبقات الشافعية 3/ 446.
_________
(1)
معالم السنن 3/ 195.
النهي بالمسلم. وقال ابن المنذر: الأصل في هذا الإباحة حتى يرد المنع. وقد ورد المنع مقيدًا بالمسلم في حديث عقبة بن عامر أخرجه مسلم (1): "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته حتى يذر". وذهب الجمهور إلى إلحاق الذمي بالمسلم في ذلك، وأن التعبير بالأخ خرج على الغالب فلا يعمل بالمفهوم. وقال بعضهم: الخلاف راجع إلى أن النهي هل هو من حقوق العقد و [احترامه](أ)، أو من حقوق المتعاقدين؛ فعلى الأول الراجح ما قال الخطابي، وعلى الثاني الراجح ما قال غيره، ومثل هذا شفعة الكافر؛ فمن جعلها من حقوق الملِك أثبتها له، ومن جعلها من حقوق المالك منع، وقريب من هذا ما ذهب إليه الأمير الحسين في "الشفاء"، ونقل عن ابن القاسم صاحب مالك أن الخاطب الأول إذا كان فاسقًا جاز للعفيف أن يخطب على خطبته، ورجحه ابن العربي منهم، وهو متجه فيما إذا كانت المخطوبة عفيفة، فيكون الفاسق غير كفؤ لها، فتكون خطبته كلا خطبة، ولم يعتبر الجمهور ذلك إذا صدرت منها علامة القبول، وقد حكى بعضهم الإجماع على خلاف هذا القول، وكذلك يحرم على المرأة أن تخطب على خطبة المرأة الأخرى إذا قد أجاب الخطوب، إلحاقًا لحكم النساء بحكم الرجال، ويشير إليه أيضًا ما مرّ من حديث أبي هريرة في كتاب البيع (2):"ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها". فإنه منهي عن سؤالها الطلاق لأختها ليتزوجها، فكذلك خطبتها لخطبة أختها، وهذا إذا كان في عزم المخطوب ألا يتزوج إلا واحدة، فأما إذا كان عزمه
(أ) في النسخ: الحرمة. والمثبت من الفتح 9/ 200.
_________
(1)
ينظر ما تقدم ح 645، وفي 6/ 106.
(2)
تقدم ح 645.
الجمع بينهما فلا تحرم. والخِطبة بكسر الخاء في النكاح.
801 -
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي. فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعَّد النظر [فيها](أ) وصَوَّبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوِّجنيها. قال:"فهل عندك من شيء؟ ". فقال: لا والله يا رسول الله. فقال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئًا". فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظر ولو خاتمًا من حديد". فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتم من حديد، ولكن هذا إزاري -قال سهل: ما له رداء- فلها نصفه. فقال [رسول الله](ب) صلى الله عليه وسلم: "إما تصنع بإزارك؟ إن لَبِسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لَبِسَتْه لم يكن عليك منه شيء". فجلس الرجل، حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم. مولِّيًا فدعا به، فلما جاء قال:"ماذا معك من القرآن؟ ". قال: معي سورة كذا وسورة كذا. عدَّدها، فقال:"تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ ". قال: نعم. قال: "اذهب فقد ملّكتُكها بما معك من القرآن". متفق عليه واللفظ لمسلم (1). وفي رواية له (2): قال:
(أ) في الأصل: إليها.
(ب) ساقطة من: الأصل، ب.
_________
(1)
البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراءة عن ظهر قلب 9/ 78 ح 5030، ومسلم، كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن 2/ 1040، 1041 ح 1425/ 76.
(2)
مسلم 2/ 1041 ح 1425/ 77.
"انطلق فقد زوَّجتُكها، فعلِّمها من القرآن". وفي رواية للبخاري (1): "أمكناكها بما معك من القرآن". ولأبي داود عن أبي هريرة (2) قال: "ما تحفظ؟ ". قال: سورة "البقرة" و (أ) التي تليها. قال: "قم فعلمها عشرين آية".
قوله: جاءت امرأة. هذا اللفظ في معظم الروايات، وقد جاء في رواية: إني لفي القوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قامت امرأة. وفي رواية: أتت امرأة إليه. ويمكن الجمع بأن معنى قامت: وقفت. والمراد أنها وقفت بعد أن جاءت لا أنها كانت جالسة في المجلس فقامت. وفي رواية سفيان الثوري عند الإسماعيلي (3): جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد. فأفاد تعيين المكان الذي وقعت فيه القصة. قال المصنف رحمه الله تعالى (4): ولم أقف على اسمها، ووقع في "أحكام ابن الطلاع (ب) " أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك. وهذا هو تعيين الواهبة نفسها التي أريدت في قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (5). وهذه غيرها.
(أ) في مصدر التخريج: أو. وينظر ما سيأتي ص 37.
(ب) وقع في الفتح 9/ 206: ابن القصاع. والذي في النسخ موافق لما في الفتح 9/ 419، 12/ 268، وكتاب الأحكام لم يذكر لابن القصاع، بل ذكر لابن الطلاع. ينظر هدية العارفين 2/ 780، 432، ومحجم المؤلفين 11/ 123، 12/ 275.
_________
(1)
البخاري، كتاب النكاح، باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح 9/ 175 ح 5121.
(2)
أبو داود، كتاب النكاح، باب التزويج على العمل يعمل 2/ 243 ح 2112.
(3)
الفتح 9/ 209.
(4)
الفتح 9/ 206.
(5)
الآية 50 من سورة الأحزاب.
وقوله: جئت أهب. هكذا في رواية الثوري (1)، وقد جاءت ألفاظ غير هذا، ولابد من تقدير مضاف؛ أي: أمر نفسي. لأن رقبة الحر لا تملك، والمراد: أتزوجك من غير عوض.
وقوله: فنظر إليها. فيه دلالة على جواز نظر المرأة لمن أراد أن يتزوج.
وقوله: فصعَّد النظر إليها -بتشديد العين- أي رفع. وصوَّب -بتشديد الواو- أي خفض، والتضعيف إما للمبالغة في التأمل وإما لتكرير النظر، وبالثاني جزم القرطبي في "المفهم"، قال (2): أي نظر أعلاها وأسفلها مرارًا. ووقع في رواية (3): فخفَّض فيها البصر ورفَّعه. وهما بالتشديد أيضًا. وطأطأ رأسه: أي لم يرفعه بعد ذلك.
وقوله: لم يقض فيها شيئًا. جاء في رواية الكُشْمِيهَني والمستملي (4) أنها قامت ثلاث مرات تعرض نفسها عليه. وفي رواية الطبراني (5): فصمت، ثم عرضت نفسها عليه فصمت، فلقد رأيتها قائمة مَلِيًّا تعرض نفسها عليه وهو صامت. وفي رواية مالك (6): فقامت طويلًا. وهو منصوب صفة لمصدر محذوف أو زمان محذوف. وفي رواية (7): فقامت حتى رثينا لها من طول القيام، ويجمع بينها وبين رواية الكُشميهني أنها قامت ثلاث مرات، باستمرار قيامها مدة الثلاث العرضات، فسمى كل عرضة قيامًا مستقلًّا،
(1) الفتح 9/ 206، وينظر مصنف عبد الرزاق 7/ 77 ح 12274.
(2)
الفتح 9/ 206.
(3)
الطبراني 6/ 231 ح 5951، والدارقطني 3/ 247، والبيهقي 7/ 147.
(4)
الفتح 9/ 206.
(5)
الطبراني 6/ 234 ح 5961.
(6)
الموطأ 2/ 526 بلفظ: "فقامت قياما طويلا".
(7)
الطبراني 6/ 227 ح 5938.
وليس المراد أنها قامت بعد أن قعدت.
والمراد بأنه لم يقض فيها: هو ما فُهم من صمته من عدم رغبته فيها.
وفي رواية حماد (1): قال: "ما لي في النساء حاجة". ويجمع بينها وبين غيرها أنه قال ذلك في آخر الحال، فكأنه صمت أولًا ليُفْهِم (أ) أنه لم يُردها، فلما أعادت الطلب أوضح لها باللفظ. ووقع في حديث أبي هريرة عند النسائي (2): جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها عليه فقال لها: "اجلسي". فجلست ساعة ثم قامت، فقال لها:"اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك".
ويؤخذ منه وفور أدب المرأة مع شدة رغبتها؛ لأنها لم تبالغ في الإلحاح في الطلب، وفهمت من السكوت عدم الرغبة، لكنها لما لم تيأس من الرد، جلست تنتظر الفرج. وسكوته صلى الله عليه وسلم؛ إما حَيَاءً من مواجهتها بالرد، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء جدًّا كما ورد في صفته أنه كان أشد حياءً من العذراء في خِدرها (3)، وإما انتظارًا للوحي، وإما تفكرًا في جواب يناسب (أ) المقام.
وقوله: فقام رجل من أصحابه. قال المصنف رحمه الله تعالى (4): لم أقف على اسمه، ووقع في رواية معمر والثوري عند الطبراني (5): فقام رجل
(أ) كذا في الأصل، جـ. وفي ب غير منقوطة، وفي الفتح 9/ 206: لتفهم.
_________
(1)
الدارمي 3/ 1412 ح 2247، والبيهقي 7/ 144، 145.
(2)
النسائي -كما في الفتح 9/ 206.
(3)
مسلم 4/ 1809 ح 2320.
(4)
الفتح 9/ 207.
(5)
تقدم تخريجها في الصفحة السابقة حاشية (5).
أحسبه من الأنصار. وفي رواية زائدة عنده (1): فقام رجل من الأنصار.
ووقع في حديث ابن مسعود (2): فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ينكح هذه؟ ". فقام رجل.
قوله: فقال: زوِّجنيها. هكذا في رواية مالك (3).
وقوله: إن لم يكن لك بها حاجة. زيادة في الاحتياط، لِما عسى أن يتجدد له فيها رغبة بعد أن لم يكن.
وقوله: فقال: لا والله يا رسول الله. في رواية هشام بن سعد (4) زيادة بعد هذا: قال: "فلا بد لها من شيء". وفي رواية الثوري عند الإسماعيلي (5) زيادة: قال: "إنه لا يصلح".
وقوله: فقال: "اذهب إلى أهلك". إلى قوله: ولا خاتم من حديد. لفظ "خاتم" في قوله: "انظر ولو خاتمًا". منصوب بفعل مقدر تقديره: [أَصْدِق](أ).
وقوله: ولا خاتم. جاء فيه النصب على أنه مفعول: وجدت، مقدرًا. والرفع بتقدير: ولا حصل في خاتم من حديد.
(أ) في الأصل، ب: أصدقت.
_________
(1)
الطبراني 6/ 240 ح 5980.
(2)
الدارقطني 3/ 249.
(3)
تقدم تخريجها ص 33 حاشية (6).
(4)
الطبراني 6/ 163، 164 ح 5750.
(5)
في الفتح 9/ 207.
وقوله: ولكن هذا إزاري. إلى آخره. وقع في رواية مالك تقديم ذكر الإزار على قوله: فقال: "اذهب إلى أهلك". إلى تمام ذكر الخاتم، وفي رواية غيره تقديم ذلك على ذكر الإزار كما في هذا المختصر. والإزار يذكر ويؤنث، وقد وقع هنا مذكرًا.
وقوله: قال سهل. أي: ابن سعد الراوي.
وقوله: فلها نصفه. من كلام الرجل، وقد وهم القرطبي فجعله من كلام سهل، وقد جاء مصرحًا بالمراد في رواية أبي غسان محمد بن مطرف، ولفظه: ولكن هذا إزاري ولها نصفه. قال سهل: وما له رداء.
وقوله: "إن لبسْتَه" إلى آخره. أي إن لبسته كاملًا. وإلا فمن المعلوم من ضيق حالهم وقلة الثياب عندهم، أنها لو لبسته بعد أن شقه لم يسترها، ويحتمل أن يكون المراد (أ) نفي كمال الستر، لأن العرب قد تنفي جملة الشيء إذا انتفى كماله، والمعنى: لو شققته بينكما نصفين لم يحصل كمال سترك بالنصف إذا لبسْتَه ولا هي. وفي رواية معمر عند الطبراني (1): والله ما وجدت شيئًا غير ثوبي هذا، اشْقُقْه بيني وبينها. قال:"ما في ثوبك فضل عنك". وفي رواية فُضَيل بن سليمان (2): ولكني أشق بردتي هذه فأعطيها النصف وآخذ النصف. وفي رواية الدراوردي (3): قال: ما أملك إلا إزاري
(أ) زاد بعده في جـ: به.
_________
(1)
تقدم تخريجها ص 33 حاشية (5).
(2)
البخاري 9/ 188 ح 5132.
(3)
الفتح 9/ 208.
هذا. قال: "أرأيت إن لَبِسَتْه، فأي شيء تلبس؟ ". وفي رواية مبشر (1): هذه الشملة التي عليَّ ليس عندي غيرها. وفي رواية هشام بن سعد: ما عليه إلا ثوب واحد عاقد طرفيه على عنقه. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما وجابر (2): والله ما لي ثوب إلا هذا الذي عليَّ. فكل هذا مما يرجح الاحتمال الأول.
قوله: سورة كذا وسورة كذا. وقع في رواية أبي هريرة تعيين ذلك؛ قال: ما تحفظ من القرآن؟. قال: سورة "البقرة"[أو](أ) التي تليها. كذا في كتابي أبي داود والنسائي (3) بلفظ: "أو".
قال المصنف رحمه الله تعالى (4): وزعم بعض من لقيناه أنه عند أبي داود بالواو وعند النسائي بلفظ: "أو". ووقع في حديث ابن مسعود (5): قال: نعم، سورة "البقرة" [وسور المفصّل. وفي حديث ضُميرة أن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلًا على سورة "البقرة"] (ب) لم يكن عنده شيء. وفي حديث أبي أمامة (6): زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من امرأة على سور من المفصل
(أ) في الأصل، ب: و.
(ب) ما بين المعكوفين ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح 9/ 208.
_________
(1)
تقدمت ص 33 حاشية (7).
(2)
الفتح 9/ 208.
(3)
أبو داود 2/ 243 ح 2112، والنسائي في الكبرى 3/ 313 ح 5506.
(4)
الفتح 9/ 208، 209.
(5)
البيهقي 7/ 243.
(6)
تمام في فوائده 2/ 419 ح 772 - الروض البسام.
جعلها مهرها، وأدخلها عليه وقال:"علِّمها". وفي حديث أبي هريرة الذكور: "فعلِّمها عشرين آية وهي امرأتك". وفي حديث ابن عباس (1): "أزوجها منك على أن تعلمها أربع أو خمس سور من كتاب الله". وفي مرسل أبي النعمان الأزدي عند سعيد بن منصور (2): زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن. وفي حديث ابن عباس وجابر: "هل تقرأ من القرآن شيئًا؟ ". قال: نعم، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)}. قال:"أصدِقْها إياها". ويجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض، أو أن القصص متعددة.
وقوله: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ ". المراد به حفظهن.
وقوله: "اذهب فقد ملكتكها". إلى آخره، وقد جاء ألفاظ في الروايات المختلفة وهي:"أنكحتكها بما معك من القرآن". أخرجها البخاري (3)، وفي رواية مالك: قال: "زوجتكها على ما معك من القرآن". وفي رواية الثوري عند الإسماعيلي (4): "أنكحتكها بما معك من القرآن". وفي رواية معمر عند أحمد (5): "قد أملكتها". وقال في آخره: فرأيته يمضي وهي تتبعه. وفي رواية أبي غسان (6): "أمكناكها". وفي حديث ابن مسعود (7):
(1) الفتح 9/ 209.
(2)
سنن سعيد بن منصور 1/ 176 ح 642.
(3)
البخاري 9/ 205 ح 5149.
(4)
الفتح 9/ 214.
(5)
أحمد 5/ 334 بلفظ: "أملكتكها"، وما هنا موافق لما عند الطبراني من رواية معمر 6/ 222، 223 ح 5927.
(6)
الفتح 9/ 209، 214.
(7)
الدارقطني 3/ 249، 250.
"قد أنكحتكها على أن تُقرئها وتعلِّمها، وإذا رزقك الله عوَّضتها". فتزوجها الرجل.
الحديث فيه دلالة على أحكام؛ منها: حلّ الموهوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد نص الله سبحانه وتعالى على ذلك الحكم وجعله خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فينعقد النكاح في حقه بلفظ الهبة وتصير زوجة له. وظاهره أنه لا يحتاج إلى مهر ليفارق النكاح. وحكى الخياطي من أصحاب الشافعي وجوب المهر وجعَل الخصوصية في الانعقاد بلفظ الهبة، وقد وقع ذلك في غير هذه التي لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم هبتها.
واختُلف في تعيين الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقيل: هي خولة بنت حكيم. أخرجه البيهقي من حديث عائشة في رواية أبي سعيد المؤدب (1)، وكذا ابن مردويه، وعلقه البخاري ولم يسق لفظه (2)، وبه قال عروة وغيره. وقيل: أم شريك. ورواه النسائي (3) من طريق حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه عن أم شريك، وبه قال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل. وقيل: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين. قاله الشعبي، وروي ذلك عن عروة أيضًا، وقيل: ميمونة بنت الحارث. رُوي ذلك عن ابن عباس وقتادة.
ومنها: أنه ينبغي للمرأة عرض نفسها على الرجل ليتزوجها لا سيما إذا كان من أهل الصلاح.
(1) البيهقي 7/ 55.
(2)
البخاري 9/ 164 ح 5113.
(3)
النسائي في الكبرى 5/ 294 ح 8928.
ومنها: جواز النظر من الرجل وإن لم يكن خاطبًا لإرادة التزوج، فإنه صلى الله عليه وسلم صعَّد النظر، وهو يدل على المبالغة في الاستقصاء لمعرفة مخايلها وما يرغب في نكاحها. ويمكن الانفصال عنه بدعوى الخصوصية له لمحل العصمة. قال المصنف رحمه الله تعالى (1): والذي تحرر عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرُم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره. انتهى. ويحتمل أن ذلك كان قبل الحجاب، أو بعده وهي متلفعة.
ومنها: أن الهبة لا تتم إلا بالقبول. ومنها: جواز الخِطبة على الخطبة إذا عرف رغبة الأول عن المخطوبة. ومنها: ثبوت ولاية الإمام على المرأة التي لا قربها لها إذا أذنت، وإن كان في بعض الألفاظ التي مرت ما يدل على أنها فوضت النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها، والتفويض توكيل.
ومنها: أن النكاح لا بد فيه من صداق، وأنه لا حد لأكثره، وأما أقله فالحديث يدل على أنه يصح أن يكون شيئًا يسيرًا، فإن قوله:"ولو خاتمًا من حديد". مبالغة في تقليله، فيصح بكل ما تراضى عليه الزوجان أو مَن العقد إليه مما فيه منفعة كالسَّوط والنعل وإن كان قيمته أقل من درهم، وضابطه أن كل ما جاز أن يكون قيمة وثمنًا لشيء صح أن يكون مهرًا. ونقل عياض (2) الإجماع على أنه لا يصح أن يكون مما لا قيمة له، ولا يحل به النكاح. وقال أبو محمد بن حزم (3): يصح بكل ما يسمى شيئًا ولو حبة من شعير؛ لقوله:
(1) الفتح 9/ 210.
(2)
الفتح 9/ 211.
(3)
المحلى 11/ 97.
"هل تجد شيئًا؟ ". ويجاب عنه (أبأنه مخصص أ) بقوله: "ولو خاتمًا من حديد". لأنه ورد مبالغة في التقليل وله قيمة. وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وأبو الزناد وربيعة وابن أبي ذئب وغيرهم من أهل المدينة غير مالك ومن تبعه، وابن جريج ومسلم بن خالد وغيرهما من أهل مكة، والأوزاعي في أهل الشام، لليث في أهل مصر، والثوري وابن أبي ليلى وغيرهم من العراقيين غير أبي حنيفة ومن تبعه، الشافعي وداود وفقهاء أصحاب الحديث، وابن وهب من المالكية، ورواية عن الناصر. وذهبت طائفة إلى تحديد أقله؛ فذهبت العترة جميعًا وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن أقله عشرة دراهم، قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا مهر أقل من عشرة دراهم"(1). وقياسًا على المال الذي يقطع السارق به بجامع استباحة عضو محرم في كل منهما (2). وأجاب الجمهور عن ذلك بأن الحديث لو كان ثابتًا لكان نصًّا في محل النزاع، لكنه غير ثابت، فإنه يرويه مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن جابر، ومبشر والحجاج ضعيفان (3)، وعطاء أيضًا لم يلق جابرًا، فبطل الاحتجاج به لا سيما مع معارضته للحديث الصحيح المتفق على صحته. وأما القياس فكذلك لا يصح؛ لمصادمته النص ولفساده، وذلك أن اليد
(أ- أ) في ب: بأن تخصص. وفي جـ: بأنه تخصيص.
_________
(1)
أبو يعلى 4/ 72، 73 ح 2094، والدارقطني 3/ 245، والبيهقي 7/ 240.
(2)
الذي في الفتح أن هذا القياس إنما هو لقول مالك بأن أقل المهر ثلاثة دراهم أو ربع دينار. ينظر الفتح 9/ 209، 210.
(3)
مبشر بن عبيد الحمصي، كوفي الأصل، متروك، ورماه أحمد بالوضع، تقريب التهذيب ص 519، وتقدمت ترجمة الحجاج بن أرطاة في 2/ 168، 5/ 175.
تقطع وتبين ولا كذلك الفرج، وبأن القدر المسروق يجب على السارق رده مع القطع، ولا كذلك الصداق. وقال مالك: أقله ثلاثة دراهم أو ربع دينار، قياسًا أيضًا على السرقة. وفيه ما ذكر. قال أبو الحسن اللخمي: قياس قدر الصداق بنصاب السرقة ليس بالبين؛ لأن اليد إنما قطعت في ربع دينار نكالًا للمعصية، والنكاح مستباح بوجه جائز. لكن في قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} (1). وقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (2). ما يدل على اشتراط المالية. حتى أخذ منه بعض المالكية أنه يشترط أن يكون مما يجب فيه الزكاة. وقال سعيد بن جبير: أقله خمسون درهمًا. وقال النخعي: أربعون. وقال ابن شبرمة: خمسة دراهم. وهذه الأقوال لا دليل عليها، ولعلها مستنبطة من الآية من الطَّول والمال في العرف، وقول ابن شبرمة من إصداق عبد الرحمن نواة من ذهب وهي قدر خمسة دراهم.
ومنها: أنه ينبغي ذكر الصداق في العقد؛ لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، فلو عقد بغير ذكر صداق صح، ووجب لها مهر المثل بالدخول على الصحيح، وقيل: بالعقد. وإنما كان أنفع؛ لأنه يثبت لها نصف المسمى بالطلاق قبل الدخول.
ومنها: استحباب تعجيل تسليم المهر.
ومنها: جواز الحلف وإن لم يطلب اليمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه اليمين، لكنه يكره لغير ضرورة.
(1) الآية 25 من سورة النساء.
(2)
الآية 24 من سورة النساء.
ومنها: أنه يجوز الحلف على ما يظن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعد يمينه: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد" مرتين. ولو كانت اليمين لا تكون إلا على علم لم يكن لذهابه فائدة، إذ العلم لا ينتفي، ولا يجوز حصول ما يخالفه.
ومنها: أن الصداق يخرج عن ملك الزوج وتملكه المرأة بمجرد العقد. ومنها: أنه لا يجوز للمرء أن يُخرج عن ملكه ما لا بد له منه؛ مثل ما يستر العورة أو يسد الخلة من الطعام والشراب، لأنه قال له:"إن لَبِسَتْه لم يبق عليك منه شيء". فعلل المنع بأنه لم يبق عليه منه شيء.
ومنها: اختبار مدعي الإعسار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدقه في أول ما ادعى أنه معسر حتى ظهر له مخايل الصدق، وهو يدل على ما ثبت من الحكم في مدعي الإعسار أنه لا يسمع منه اليمين حتى يظهر إعساره بقرائن الأحوال.
ومنها: أنه يصح أن يكون الصداق منفعة الزوج، ويقاس عليه غيره، فإن التعليم هنا منفعة. وقد ذهب إلى صحة كون الصداق منفعة؛ العترة جميعًا والشافعي وأصبغ وسحنون؛ لهذا ولما في قصة شعيب وموسى. وذهب مالك إلى كراهة ذلك، وجوَّز الفسخ للنكاح قبل الدخول إذا كان على منفعة؛ وذلك لما في الإجارة من الجهالة والغرر، ولذلك خالف في الإجارة الأصم وابن علية، لأن التعامل إنما يكون في عين معروفة باقية، والإجارة تعلقت بحركات وأفعال غير ثابتة ولا مقدرة بنفسها. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن القاسم من المالكية إلى منع ذلك إلا في [منفعة](أ) العبد في غير تعليم [القرآن](أ)، فجوزوا جعلها صداقًا، وكأنهم نظروا إلى أن قبض
(أ) ساقط من: الأصل.
العبد وثبوت اليد عليه قائم مقام قبض المنفعة فأشبهت العين المقبوضة، وأجابوا عن هذا الحديث بأن الباء بمعنى اللام، وعن قصة شعيب بأن شرع من قبلنا لا يلزمنا، وهي مسألة خلف بين الأصوليين.
ومنها: أن تعليم القرآن يجوز أخذ [الأجرة](أ) عليه، وقد تقدم الكلام عليه في الإجارة والخلاف فيه (1)، والمانعون يتأولون الحديث بأن الباء في قوله:"بما معك". بمعنى اللام للسببية وليست عوضًا. وأجاب الماوردي بأنه لو كان كذلك لكانت بغير مهر وكانت موهوبة، والهبة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم. وأجاب عن ذلك الطحاوي، وتبعه الأَبهري وأبو محمد بن أبي زيد، بأن هذا خاص بهذا الرجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان له أن ينكح بغير صداق فله أن يُنكح غيره من شاء بغير صداق. وبمثله قال الداودي، قال (ب): لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وأيده بعضهم بأنه لما قال له: "ملكتكها". لم يشاورها ولا استأذنها. ويُردُّ على التأبيد بأن في الروايات أنها فوَّضته في أمرها، فلم يحتج إلى مراجعتها في شيء. ويحتج لخصوصية الرجل بهذا ما أخرجه سعيد بن منصور (2) من مرسل أبي النعمان الأزدي قال: زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن وقال: "لا يكون لأحد بعدك مهرًا". وهذا مع إرساله فيه من لا يُعرف. وأخرج أبو داود (3) من طريق مكحول قال:
(أ) في الأصل: الأجر.
(ب) ساقطة من: جـ.
_________
(1)
تقدم في 6/ 368 - 374.
(2)
تقدم تخريجه ص 38، حاشية 2.
(3)
أبو داود 2/ 243 ح 2113.
ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو عوانة (1) من طريق الليث بن سعد نحوه. وقال عياض (2): يحتمل قوله: "بما معك من القرآن". وجهين؛ أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدارًا معينًا منه ويكون ذلك صداقًا، وقد جاء هذا التفسير عن مالك، ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة:"فعلِّمها من القرآن"(3). وفي بعضها تعيين عشرين آية كما سبق، ويحتمل أن تكون الباء للتعليل، فأكرمه بزواجه المرأة لكونه حافظًا للقرآن أو لبعضه، ونظيره قصة أم سليم مع أبي طلحة فيما أخرجه النسائي (4) وصححه عن أنس قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مثلك يُردُّ، ولكنك كافر وأنا مسلمة، ولا يحل في أن أتزوجك، فإن تُسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره. فأسلم، فكان ذلك مهرها. وأخرج (4) من طريق أخرى عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام. فذكر القصة وقال في آخره: فكان ذلك صداق ما بينهما. وترجم عليه النسائي: التزويج على الإسلام. ثم ترجم (5) على حديث سهل: التزويج على سورة من القرآن. فكأنه مال إلى ترجيح الاحتمال الثاني، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي (6) من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجلًا من أصحابه:"يا فلان، هل تزوتجت؟ ". قال: لا، وليس
(1) أبو عوانة -كما في الفتح 9/ 212.
(2)
الفتح 9/ 212.
(3)
مسلم 2/ 1041 ح 1425 - 77.
(4)
النسائي 6/ 114.
(5)
النسائي 6/ 113.
(6)
ابن أبي شيبة -كما في الفتح 9/ 212 - والترمذي 5/ 153 ح 2895.
عندي ما أتزوج به. قال: "أليس معك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؟ ".
الحديث. وأيد الطحاوي ما ذكره من الخصوصية أن الإجارة لا تصح إلا على عمل معين أو وقت معين، والتعليم قد لا يعرف وقته، فقد يحصل في وقت يسير، وقد يحتاج إلى زمان طويل. قال: فكما أنه لو باع منه داره بتعليم سورة لم يصح البيع، فكذلك النكاح. وأجيب عنه بأنه قد وقع تعيين القدر الذي أمره بتعليمها، ومقدار الوقت لا يختلف حال المتعلم فيه، خصوصًا العرب أهل اللسان. وأجاب بعضهم باختيار التعليل أيضًا، ولا يلزم منه عدم المهر، بل يكون المهر ثابتًا في ذمته، إذا أيسر قضاه. وقد جاء في حديث ابن عباس (1):"فإذا رزقك الله فعوِّضها". ولكنه غير ثابت. وقال بعضهم: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أصدق عنه كما كفّر عن المجامع في رمضان، ويكون ذكر القرآن وتعليمه للتحريض على تعلم القرآن وتعليمه، وتنويهًا بفضل أهله.
ومنها: أن قوله: "قد ملكتكها". يدل على أن النكاح ينعقد بلفظ يفيد التمليك، ولا يشترط لفظ الإنكاح أو التزويج، وقد ذهب إلى هذا العترة وأبو حنيفة وأصحابه، والمشهور عن المالكية جوازه بكل لفظ يفيد معناه إذا قرن بذكر الصداق أو قصد به النكاح كالتمليك ونحوه، ولا يصح عندهم بلفظ الإجارة والعارية والوصية، واختلف عندهم في الإحلال والإباحة، وهو كذا عند الحنفية في الإجارة على أصح الوجهين عندهم وعند الهدوية أيضًا، والحنفية تجيزه بكل لفظ يفيد التأبيد مع القصد، وعند الشافعي وأحمد والزهري وطاوس وربيعة وابن المسيب، لا بد من لفظ
(1) وهو عند أبي عمر بن حيوة في فوائده -كما في الفتح 9/ 205، 207. وينظر الفتح 9/ 213.
النكاح أو التزويج. ولفظ الحديث بهذه الرواية يرد عليهم، وقوله تعالى:{إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (1).
ويجاب عن الحديث بأنه قد ورد فيها لفظ: "زوّجتكها". قال ابن دقيق العيد (2): هذه لفظة واحدة في قصة واحدة، اختلفت مع اتحاد مخرج الحديث، والظاهر أن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم لفظ واحد، فالمرجع في هذا إلى الترجيح، وقد نقل عن الدارقطني أن الصواب رواية من روى:"زوجتكها". وأنهم أكثر وأحفظ. قال: وقال بعض المتأخرين (3): يحتمل صحة اللفظين ويكون قال لفظ التزويج أولًا ثم قال: اذهب فقد ملَّكتكها بالتزويج السابق. قال ابن دقيق العيد: وهذا بعيد؛ فإن الظاهر من السياق اتحاد اللفظ، وأن اللفظ المذكور هو الذي انعقد به النكاح، وكذا الكلام في رواية:"أمكناكها". وقال ابن التين (4): لا يجوز أن يكون النبي عقد بلفظ التمليك والتزويج معًا في وقت واحد، فليس أحد اللفظين أولى من الآخر. قال: ومن زعم أن معمرًا وهم فيه، فالجواب عنه أن البخاري أخرجه في غير موضع من رواية غير معمر مثل معمر. انتهى. وزعم ابن الجوزي في "التحقيق" (5) أن رواية أبي غسان:"أنكحتكها"، ورواية الباقين:"زوجتكها". إلا ثلاثة أنفس، وهم معمر ويعقوب وابن
(1) الآية 50 من سورة الأحزاب.
(2)
ينظر شرح عمدة الأحكام 4/ 48.
(3)
هو الإمام النووي، صرّح به الحافظ في الفتح 9/ 214. وينظر شرح مسلم 9/ 214.
(4)
الفتح 9/ 214.
(5)
التحقيق 2/ 272.
أبي حازم. قال: ومعمر كثير الغلط، والآخران لم يكونا حافظين. انتهى.
قال المصنف رحمه الله (1): وقد غلط في رواية أبي غسان، فإنها بلفظ:"أمكناكها". في جميع نسخ البخاري، نعم وقعت بلفظ:"زوجتكها". عند الإسماعيلي من طريق حسين بن محمد، عن أبي غسان. والبخاري أخرجه (2) عن سعيد بن أبي مريم، عن أبي غسان بلفظ:"أمكناكها". وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق يحيى بن عثمان بن صالح، عن سعيد شيخ البخاري فيه بلفظ:"أنكحتكها". فهذه ثلاثة ألفاظ عن أبي غسان، ورواية:"أنكحتكها" في "البخاري"(3) لابن عيينة كما حررته، وما ذكره من الطعن في الثلاثة مردود، ولا سيما عبد العزيز بن أبي [حازم](أ)، فإن روايته تترجح؛ لكون الحديث عن أبيه، وآل المرء أعرف بحديثه من غيرهم. هذا [و](5) الذي تحرر أن الذين رووه بلفظ التزويج أكثر عددًا ممن رواه بغير لفظ التزويج ولا سيما وفيهم من الحفاظ مثل مالك، ورواية سفيان بن عيينة:"أنكحتكها". مساوية لروايتهم، ومثلها رواية
(أ) في النسخ: حاتم. والمثبت من حاشية الأصل، وفيها: في الخلاصة ابن أبي حازم، وفي الفتح كذلك، فصح ابن أبي حازم. وقد تقدم على الصواب.
(ب) ساقطة من: الأصل، جـ، وفي ب: أو. والمثبت يقتضيه السياق.
_________
(1)
الفتح 9/ 214.
(2)
البخاري 9/ 175 ح 5121.
(3)
البخاري 9/ 205 ح 5149.
زائدة (1)، وعدَّ ابن الجوزي (2) فيمن رواه بلفظ التزويج حماد بن زيد، وروايته بهذا اللفظ [في فضائل القرآن](أ)(3)، وأما في النكاح فبلفظ:"ملكتكها"(4). وقد تبع الحافظ صلاح الدين العلائي ابن الجوزي فقال في ترجيح رواية التزويج: ولا سيما وفيهم مالك وحماد بن زيد. انتهى. وقد تحرر أنه اختلف على حماد فيها كما اختلف على الثوري، فظهر أن رواية التمليك وقعت في إحدى الروايتين عن الثوري وفي رواية عبد العزيز بن أبي [حازم](ب) ويعقوب بن عبد الرحمن وحماد بن زيد، وفي رواية معمر:"أملكتكها". وهي بمعناها، وانفرد أبو غسان برواية:"أمكناكها". وأَخْلِق بها أن (جـ تكون تصحيفًا جـ) من: "ملكناكها". فرواية التزويج أو الإنكاح أرجح، وعلى تقدير أن تتساوى الروايات يقف الاستدلال بها لكل من الفريقين. وقد قال البغوي في "شرح السنة" (5): لا حجة في هذا الحديث لمن أجاز انعقاد النكاح بلفظ التمليك، لأن العقد كان واحدًا، فلم يكن اللفظ إلا واحدًا، واختلف الرواة في اللفظ الواقع، والذي يظهر أنه
(أ) ساقط من: جـ. وفي الأصل: هكذا في الفتح. وضرب عليها في ب، وكتب في الحاشية: ها هنا تشكيك بخط المؤلف وقال: هكذا في الفتح. فينظر الفتح إن شاء الله تعالى. في الفتح يوجد كما ذكر هنا باللفظ. والمثبت من الفتح 9/ 214.
(ب) في الأصل، جـ: حاتم. وقد تقدم ص 47، 48.
(جـ-جـ) في ب: يكون تصحيفها.
_________
(1)
تقدم تخريجها ص 35.
(2)
التحقيق 2/ 271، 272.
(3)
البخاري 9/ 74 ح 5029.
(4)
البخاري 9/ 198 ح 5141.
(5)
شرح السنة 9/ 122.
كان بلفظ التزويج على وفق قول الخاطب: زوِّجنيها. إذ هو الغالب في [لفظِ](أ) العقود، إذ قلَّما يختلف فيه لفظ المتعاقدين، ومن روى بغير لفظ التزويج لم يقصد مراعاة اللفظ الذي انعقد به العقد، وإنما أراد الخبر عن جريان العقد على تعليم القرآن، وقيل: إن بعضهم رواه بلفظ الإمكان. وقد اتفقوا على أن العقد بهذا اللفظ لا يصح. كذا قال. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى (1): وبالغ ابن التين فقال: أجمع أهل الحديث على أن الصحيح رواية: "زوجتكها". وأن رواية: "ملكتكها". وهم. وأجاب بعضهم بأن الذين اختلفوا في هذه اللفظة أئمة عارفون بالمعنى، (ب فلولا أن ب) الألفاظ عندهم مترادفة ما عبروا بها، فدل على أن كل لفظ منها يقوم مقام الآخر. انتهى.
ويجاب عن هذا بأن هذا راجع إلى جواز الرواية بالمعنى من العارف، ولكنه عند الترجيح يُرجع إلى المتفق عليه ويُترك المختلف فيه، والرواية بالمعنى قد يحصل فيها الخطأ، فإنه قد يعتقد أن ذلك اللفظ مرادف وهو في نفس الأمر غير مرادف، والخلاف واقع في نقل اللغة كما وقع في غيرها، إلا أنه يقال: قد ثبت في غير النكاح -مثل الطلاق والعتاق وغيرهما- صحته بغير اللفظ الصريح فيه من الألفاظ المحتملة لتأدية ذلك المعنى مع القرينة، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالكناية، ولا حجر على اللفظ الصريح، فيصح تأديته بكل لفظ يدل عليه مع القصد إلى ذلك. والله سبحانه أعلم.
(أ) كذا في النسخ: لفظ. وفي مصدر التخريج، والفتح 9/ 215؛ أمر.
(ب- ب) في جـ: فلو كانت.
_________
(1)
الفتح 9/ 215.
ومنها: أنه يؤخذ من الحديث أنه إذا سأل النكاح وقال: زوجني. قال: زوجت. لم يحتج إلى قبول (أ) منه. كذا قاله أبو بكر الرازي الحنفي والرافعي من الشافعية (1).
ومنها: أن طول الفصل بين الإيجاب والقبول، وفراق المجلس لا لقصد الإضراب، لا يضر، وقال المهلب (2): إن المستوجب إذا أجيب بشيء معين وسكت كفى إذا ظهرت قرينة القبول، وإلا فيشترط معرفة رضاه بالقدر المذكور.
ومنها: أن سكوت من عُقد عليها إجازةٌ إذا لم يمنع من كلامها خوف أو حياء أو غيرهما.
ومنها: جواز العقد من دون أن يَسأل المرأة: هل لها ولي حاضر أو لا؟ وهل هي في عصمة رجل أو في عدته؟ قال الخطابي (3): ذهب إلى هذا جماعة حملًا على ظاهر الحال، ولكن الحكام يحتاطون ويسألون. ونصَّ الشافعي على أنه ليس للحاكم أن يزوِّج امرأة حتى يشهد عدلان أنها ليس لها ولي حاضر (ب) ولا أنها في عصمة رجل، ولا في عدة، لكن اختلف أصحابه هل هذا على سبيل الاشتراط أو الاحتياط، والثاني المصحح عندهم (4)،
(أ) في ب: قبوله.
_________
(1)
الفتح 9/ 213.
(2)
المصدر السابق.
(3)
معالم السنن 3/ 211، 212.
(4)
ينظر روضة الطالبين 7/ 69.
وعند الهدوية أنها تحلف الغَرِيبة احتياطًا.
ومنها: أنه لا يشترط في صحة العقد تقدم الخُطبة، إذ لم يقع في شيء من طرق الحديث وقوع حمد ولا تشهد ولا غيرهما من أركان الخُطبة، وخالف في ذلك الظاهرية فجعلوها واجبة، ووافقهم من الشافعية أبو عوانة فترجم في "صحيحه": باب وجوب الخُطبة عند العقد (1).
ومنها: أن الكفاءة في المال لا تعتبر؛ لأن الرجل لا شيء له. ولكنه يقال: والمرأة كذلك، فإنه لم يدل دليل على أن لها مالًا.
ومنها: أن طالب الحاجة لا ينبغي له أن يلح في طلبها بل يطلبها برفق وتأنٍّ، ويدخل في ذلك طالب العلم؛ كمن يستفتي ويباحث مَن عَلِمَ.
ومنها: أن الفقير يجوز له أن يتزوج المرأة إذا علمت بحاله ورضيت به. وظاهره ولو كان عاجزًا عن التكسب. كذا قاله الباجي (2). وتُعقِّب باحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع من حال الرجل على أنه قادر على التكسب، لا سيما ما كان عليه أهل ذلك العصر من قلة الشيء والقناعة باليسير.
ومنها: صحة النكاح بغير ولي. وأجيب بأنها (أ) لم يكن لها ولي حاضر، والإمام ولي من لا ولي لها.
(أ) زاد في ب: لما.
_________
(1)
أبو عوانة 3/ 43.
(2)
الفتح 2/ 216.
ومنها: أنه يجوز للرجل أن ينتفع بملك زوجته؛ لقوله: "إن لبستَه لم يكن عليها منه شيء". فلم يمنعه من الانتفاع به، وإنما هو لحاجتها إليه. وأجيب بأن انتفاعه به جميعه قد يصح على جهة المهايأة (1)؛ لكونه شريكًا لها.
ومنها: نظر الإمام في مصالح رعيته وإرشاده إلى ما يصلحهم. ومنها: المراجعة في الصداق. ومنها: خِطبة المتزوج لنفسه. ومنها: أنه لا يجب إعفاف المسلم بالنكاح كما يجب إطعامه وسقيه إذا اضطر إلى ذلك.
قال ابن التين بعد أن ذكر فوائد الحديث (2): فهذه إحدى وعشرون فائدة بوَّب البخاري على أكثرها.
قال المصنف رحمه الله (3): وقد فصلت ما ترجم به البخاري من غيره.
وهذه الفوائد المذكورة ثمان وعشرون، والحمد لله على ذلك، والصواب أنها إحدى وثلاثون.
802 -
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أَعْلِنوا النكاح". رواه أحمد وصححه الحاكم (4).
هو عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي، القرشي، سمع أباه وعمرو بن سُليم -بضم السين- وسمع منه مالك وابن عجلان وزياد بن
(1) المهايأة: قسمة المنافع على التعاقب والتناوب. التعريفات للجرجاني ص 105.
(2)
الفتح 9/ 216.
(3)
الفتح 9/ 216.
(4)
أحمد 4/ 5، والحاكم، كتاب النكاح 2/ 183.
سعد، مات قبل هشام بن عبد الملك بقليل أو بعده، ومات هشام سنة أربع وعشرين ومائة، وروى الحديث أيضًا أحمد والترمذي والنَّسائيُّ وابن ماجه والحاكم من حديث محمد بن حاطب (1)، وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها:"أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغِربال". أي: الدف. أخرجه التِّرمذيُّ وابن ماجه والبيهقيّ (2) عن عائشة، وفي إسناده خالد بن إلياس (3) وهو منكر الحديث، قاله أحمد، وفي رواية التِّرمذيِّ عيسى بن ميمون (4) وهو يضعَّف، قاله التِّرمذيُّ (5)، وضعفه ابن الجوزي من الوجهين (6)، وأخرج التِّرمذيُّ من حديث عائشة -وقال: حسن غريب-: "أعلنوا هذا النكاح،
(1) أحمد 3/ 418، والترمذي 3/ 398 ح 1088، والنَّسائيُّ 6/ 127، وابن ماجه 1/ 611 ح 1896، والحاكم 2/ 184.
(2)
التِّرمذيُّ 3/ 398 ح 1089، وابن ماجه 1/ 611 ح 1895، والبيهقيّ 7/ 290.
(3)
هو خالد بن إلياس -ويقال: إياس- بن صخر بن أبي الجهم. قال الحافظ: متروك الحديث. التقريب ص 187، وينظر تهذيب الكمال 8/ 29.
(4)
ينظر التاريخ الصَّغير 2/ 130.
(5)
الترمذي 3/ 399.
(6)
العلل المتناهية 2/ 138.
قال صاحب تحفة الأحوذي: كذا في النسخ المحاضرة، وأورد هذا الحديث الشَّيخ ولي الدين في المشكاة وقال: رواه التِّرمذيُّ وقال: هذا حديث غريب. ولم يذكر لفظ حسن، وكذلك أورد الشوكاني هذا الحديث في النيل وقال: قال التِّرمذيُّ: هذا حديث غريب. ولم يذكر هو أيضًا لفظ حسن، فالظاهر أن النسخة التي كانت عند صاحب المشكاة وعند الشوكاني هي الصحيحة ويدل على صحتها تضعيف التِّرمذيُّ عيسى بن ميمون أحد رواة هذا الحديث، وقد صرح الحافظ في الفتح بضعف هذا الحديث، والله تعالى أعلم. 2/ 170. وفي سنن التِّرمذيِّ: قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، حسن في هذا الباب 3/ 399. ينظر نيل الأوطار 6/ 223.
واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف" (1). والبيهقيّ وضعفه من حديث عائشة رضي الله عنها:"أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف، وليولم أحدكم ولو بشاة، فإذا خطب أحدكم امرأة وقد خضب بالسواد فليعلمها، لا يغرها"(2).
قوله: "أعلنوا النكاح". فيه دلالة على [مشروعية](أ) ما يدل على وقوع النكاح بين الزوجين؛ وذلك كالوليمة وضرب الطبول وغيرها من إحضار من يشهد على العقد، وقوله في الروايات الآخر:"واضربوا عليه بالغِربال، واضربوا عليه بالدفوف". من عطف الخاص على العام، وأمَّا فعل ما يحرم في غير النكاح كالمزمار وغيره، فالأكثر من الأمة أن ما يحرم في غير النكاح يحرم فيه؛ لعموم النَّهي، وذهب النَّخعيُّ ومالك وغيرهما من الفقهاء أنَّه يباح في النكاح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"واضربوا عليه بالدفوف". فيقاس المزمار وغيره عليه، ويكون ذلك [مخصضًا](ب) لعموم النَّهي، أو محمولًا على غير الملهي؛ جمعًا بين الدليلين. قال الإمام يَحْيَى: دف الملاهي -وهو بضم الدال وبفتحها والفتح أكثر- مدور جلده من رق أبيض ناعم، في عرضه سلاسل يسمى الطار، له صوت يطرب؛ لحلاوة نغمته، وهذا لا إشكال في تحريمه وتعلق النهي به، وأمَّا دف العرب فهو على شكل الغربال خلا أنَّه لا خروق فيه، وطوله [إلى](جـ) أربعة أشبار، فهو الذي أراده صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه المعهود
(أ) في الأصل: شرعية.
(ب) في الأصل: مخصوصًا.
(جـ) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
الترمذي 3/ 398 ح 1089.
(2)
البيهقي 7/ 290.
حينئذٍ. وقال أبو طالب والهادي: وهو محرم أيضًا، إذ هو آلة لهو، فتمزق إن ظفر بها كالمزمار ونحوه. قال الإمام المهدي: ولعلّه يقول: الخبر منسوخ. وقال المؤيد بالله، وهو قول الهادي في "الأحكام": بل يكره فقط. وقال أبو العباس وأبو حنيفة وأصحابه: بل مباح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "واضربوا عليه بالدفوف". وقولِه صلى الله عليه وسلم: "فصل ما بين الحلال والحرام الدف". ولتقريره أم نبيط حين رآها تدفف وترتجز في عرس. قال الإمام يَحْيَى: فأمَّا ضرب طبل الحرب والزير -وهو النقارة. وقيل: الناقوس. والبَم؛ و [هو](أ) القصعة الكبرى من قصاع الطبلخانه (1). وفي "الصحاح"(2) و"الضياء": البم: الوتر الغليظ من أوتار المزهر (3). قال في "شمس العلوم": وهو عجمي. وطبق الصفر؛ وهو الصنج وما أشبهه، وجميع الكوسات؛ وهي الطبول- فلا بأس به [إذا لم] (ب) توضع للهو. كذا ذكره في "البحر". وقال في "الغيث": والمراد بما ذكره الإمام يَحْيَى، إذا استعملت لا على طريق الغناء؛ لأنَّ كل ضربة موضوعة للهو، فهي محرمة ولو في غير لهو. انتهى.
(أ) في الأصل: جـ: هي.
(ب) في الأصل: إذ لو، وفي جـ: إذ لم.
_________
(1)
الطبلخاناه: طبول متعددة معها أبواق وزمر تختلف أصواتها على إيقاع مخصوص. صبح الأعشى 4/ 8.
(2)
الصحاح 5/ 1875.
(3)
المزهر: العود الذي يضرب به وهو أحد آلات الطرب. الوسيط.
803 -
وعن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلَّا بولي". رواه أحمد والأربعة (1)، وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان، وأعل بالإرسال (2).
وأخرجه الحاكم (3) وأطال في تخريج طريقه، وقد اختلف في وصله وإرساله. قال الحاكم: وقد صحت الرّواية فيه عن أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ عائشة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش. قال: وفي الباب عن علي وابن عباس. ثم سرد تمام ثلاثين صحابيًّا، وقد جمع طرقه الدمياطي من المتأخرين، قال التِّرمذيُّ (4) -بعد أن ذكر الاختلاف فيه وأنَّ من جُملة مَن وصله إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه، ومن جملة مَن أرسله شعبة وسفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة ليس فيه أبو موسى راويه-: ومَن رواه موصولًا أصح؛ لأنهم سمعوه في أوقات مختلفة، وشعبة وسفيان وإن كانا أحفظ وأثبت من جميع من رواه عن أبي إسحاق، لكنهما سمعاه في وقت واحد. ثم ساق من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة قال: سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق: أسمعتَ أبا بردة
(1) أحمد 4/ 394، وأبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي 2/ 236 ح 2085، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلَّا بولي 3/ 407 ح 1101، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلَّا بولي 1/ 605 ح 1881، ولم يخرجه النَّسائيّ، وينظر التلخيص 3/ 156، سنن البيهقي 7/ 108.
(2)
التِّرمذيُّ 3/ 409، وابن حبان 9/ 388 ح 4077.
(3)
الحاكم 2/ 169 - 172.
(4)
الترمذي 3/ 409.
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلَّا بولي"؟ قال: نعم. وإسرائيل (1) ثبتٌ في أبي إسحاق. ثم ساق من طريق لابن مهدي قال: ما فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلَّا لما اتكلت به على (أ) إسرائيل؛ لأنَّه كان يأتي به أتم. وأخرج ابن عدي (2) عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة وسفيان. وأسند الحاكم (3) من طريق علي بن المديني ومن طريق البُخاريّ والذهلي وغيرهم، أنهم صححوا حديث إسرائيل، ومَن تأمل ما ذكر عرف أن الذين صححوا وصله لم يستندوا في ذلك إلى كونه زيادة ثقة فقط، بل القرائن المذكورة المقتضية لترجيح رواية إسرائيل الذي وصله على غيره.
الحديث فيه دلالة على اعتبار الولي في عقد النكاح، إذ الظاهر من قوله:"لا نكاح إلَّا بولي". هو نفي الصحة التي هي أقرب إلى نفي أصل النكاح الممتنع حمل اللفظ عليه الذي هو المعنى الحقيقي. والولي هم الأقرب الأقرب من العصبة دون ذوي الأرحام؛ كالخال والجد من قبل الأم، و [كذا](ب) الإخوة من [قبل](جـ) الأم. وقد ذهب إلى هذا الجمهور من
(أ) زاد بعده في الأصل، جـ: أبي.
(ب) ساقط من: الأصل.
(جـ) ساقط من: الأصل، جـ.
_________
(1)
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الهمداني السبيعي، أبو يوسف الكوفيّ، قال الحافظ: ثقة، تكلم فيه بلا حجة. التقريب ص 104، وتهذيب الكمال 2/ 515.
(2)
الكامل 1/ 413.
(3)
الحاكم 2/ 170.
العلماء، ويروى عن الحنفية أنهم من الأولياء، واحتج الأبهري بأن الذي يرث الولاء هم العصبة دون ذوي الأرحام، فكذلك عقد النكاح. [واختلفوا أيضًا في الابن ما نزل؛ فذهب العترة أن ولايته على إنكاح أمه، وأنه أقدم من الأب ما علا. وذهب الشَّافعي إلى أنَّه لا ولاية للابن؛ لأنَّه ليس بعصبة لأمه، فهو كالأخ من الأم عنده، وذهب مالك إلى أن الأب أولى من الابن. واحتج الأولون بأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن أبي سلمة أن يزوجه إياها (1)، وكذا أم سليم زوجها بأبي طلحة ولدُها أنسُ بنُ مالك (2). وأجيب بما ذكره البيهقي من أن ابن أم سلمة كان عصبة لأمه؛ وذلك لأنَّ أم سلمة هي هند بنت أبي أميَّة بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وعمر ولدها هو ابن أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكذلك أنس بن مالك كان عصبة لأمه، وهما يجتمعان في حرام بن عدي بن النجار، وبأن ذلك كان خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه كان له في باب النكاح ما لم يكن لغيره. هذا كلام البيهقي، ولكنه لا يتمشى هذا الجواب في حق أنس بن مالك، وعلى ذلك جميعه إشكال، وهو أن عمر بن أبي سلمة كان صغيرًا؛ فإنَّه مات النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن تسع سنين، وكذلك أنس بن مالك فإن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهو ابن تسع سنين، وأبو طلحة قديم الإسلام كان ممن شهد العقبة، والصغير لا ولاية له، ولعلّه يقال في حق ابن أم سلمة: إنه لما لم يكن من عصبتها في دار الهجرة، فالولاية للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذنه لعمر](أ)
(أ) زيادة من حاشية (ب) كتب في أعلاها علامة الإلحاق، وكتب في آخرها: صح.
_________
(1)
النَّسائيّ 6/ 81 من حديث أم سلمة.
(2)
النسائي في الكبرى 3/ 285 ح 5395 من حديث أنس.
[بذلك توكيل له، فيكون نائبًا عن النَّبيِّ صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم، ويكون ذلك دليلًا لمن يقول: إنه يجوز أن يتولى الطرفين الزوج إذا كانت الولاية له. وفي حق أنس بن مالك أنَّه إذا كان قد أسلم أحد من عصبتها فهو نائب عنه أو أجاز له العقد، والصغير المميز يصح أن يكون وكيلًا في النكاح، مع أن ذلك عند التحقيق يكون دليلًا قويًّا على أن المرأة لها أن تزوج نفسها، وإنَّما الولي لتحسين العقد وإشاعته، وتطييب لنفسه، رعاية لحق القرابة، واحتج في "البحر" لثبوت ولاية الابن وأنه أقدم من الأب، بأن الولاية في النكاح تابعة للتعصيب بالإرث، والأب معه ذو سهم. وقد يجاب عنه بأن هذا محل نزاع، ثم قال الإمام يَحْيَى ومحمد: قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤم الرجل أباه وإن كان أفقه منه" (1). قلنا: النكاح مبني على التعصيب بخلاف العبادة، ولكن يندب تقديمه بأن نوكله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الكُبر الكُبر" (2). "ليس منا من لم يوقر الكبير" (3). هذا كلامه، وقد عرفت أنَّه لا جامع بين هذا وبين إمامة الصَّلاة. ثم قال في "البحر": أبو حنيفة: بل يستويان، إذ لا مزية لأحدهما، إذ ينسبان إليها بلا واسطة. قلنا: الابن مع الأب عصبة لا الأب. انتهى كلام "البحر"](أ). واختلفوا في الوصي إذا أوصاه الأب على أولاده، هل يكون أولى من الولي القريب في عقد النكاح أو مثله أو لا ولايةَ
(أ) زيادة من حاشية (ب) كتب في أعلاها علامة الإلحاق، وكتب في آخرها: صح.
_________
(1)
ابن المبارك في البر والصلة ص 125 ح 20، وعبد الرَّزاق 2/ 397 ح 3841، وابن أبي شيبة 3/ 106 من قول عطاء.
(2)
البُخاريّ 12/ 229 ح 6898 من حديث بشير بن يسار.
(3)
أحمد 1/ 257 من حديث ابن عباس.
له؟ فقال ربيعة، وأبو حنيفة، ومالك: الوصي أولى. واحتج لهم بأنَّ الوصي ناب عن الأب بعد موته، فحكمه حكم النائب في حياة الأب، فكما أنَّ نائب الأب في حال الحياة أولى من غيره، كذلك بعد الموت، ويجاب بالفرق بأن الولاية انتقلت بعد موته إلى غيره من الأولياء بخلافها حال الحياة فهي له.
وقد اختلف العلماء في اشتراط الولي في النكاح، فذهب الجمهور إلى اشتراطه، وقالوا: لا تزوج المرأة نفسها أصلًا. وذكر ابن المنذر أنَّه لا يعرف عن أحد من الصّحابة خلاف ذلك. وذهب مالك إلى اعتبار الولي في حق الشريفة دون الوضيعة، فلها أن تزوج نفسها. وذهب أبو حنيفة إلى عدم اشتراط الولي مطلقًا، ولها أن تزوج نفسها، ولو بغير إذن وليها، واحتج بالقياس على البيع، فإنَّها تستقل ببيع سلعتها، وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الصغيرة، وخص بالقياس عمومها، والتخصيص بالقياس جائز، ويجاب عنه بأن القياس غير صحيح، إذ ثم مانع وهو الغضاضة (1) في حق الأولياء دون بيع سلعتها. وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن الولي تلزمه الإجازة في الكُفء، وله أن يختار في غير الكفء، وهو مذهب الأوزاعي. وقالت الظاهرية: يعتبر الولي في حق البكر دون الثيب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب أولى بنفسها"(2). ولاستحياء البكر. والجواب عن الحديث، أن (أ) المراد
(أ) في ب: بأن.
_________
(1)
الغضاضة: الذلة والمنقصة. التاج (غ ض ض).
(2)
أبو عوانة 3/ 76 ح 4254 من حديث ابن عباس.
بكونها أولى بنفسها اعتبار رضاها؛ جمعًا بين هذا وبين حديث: "لا نكاح إلَّا بولي". وغيره، والاستحياء لا يصلح أن يكون موجبًا للحكم. وقال أبو ثور: إنَّ للمرأة أن تنكح نفسها بإذن وليها، لقوله صلى الله عليه وسلم، "أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها"(1). فمفهومه أن نكاحها بإذن الولي يصح، والجواب بأن المفهوم غير معمول به، لقوله صلى الله عليه وسلم "المرأة لا تَنكح ولا تُنكح"(2).
804 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها". قال: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". أخرجه الأربعة إلَّا النَّسائيّ، وصححه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم (3).
وأخرج الحديث الشَّافعي (4)، وابن ماجه، أخرجوه من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزُّهريّ عن عروة عنها، وأُعِلَّ بالإرسال، وحسنه
(1) هو الحديث التالي.
(2)
الدارقطني 3/ 228 بلفظ: "لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها
…
". من حديث أبي هريرة.
(3)
أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي 2/ 235، 236 ح 2083، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلَّا بولي 3/ 407، 408 ح 1102، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلَّا بولي 1/ 605 ح 1879، وأبو عوانة، كتاب النكاح، باب ذكر الخبر الدال على عدم منع الولي من تزويج الثيب من رجل تريده 3/ 77 ح 4259، وابن حبان، كتاب النكاح، باب الولي 9/ 384 ح 4074، والحاكم، كتاب النكاح، باب الولي 2/ 168.
(4)
الأم 5/ 13.
التِّرمذيُّ، وقال يَحْيَى بن معين (1): لم يذكر هذا الحديث عن ابن جريج غير ابن علية، وسماع (أابن علية عن ابن جريج أ) ليس بذاك، ورواه الحاكم (2) من طريق عبد الرَّزاق عن ابن جريج: سمعت سليمان: سمعت الزُّهريّ. وعدَّ أبو القاسم مَن رواه عن ابن جريج، فبلغوا عشرين رجلًا، وذكر أنَّ معمرًا وعبيد الله بن زَحْر تابعا ابن جريج على روايته إياه عن سليمان بن موسى، وأن قرة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وأيوب بن موسى وهشام بن سعد وجماعة تابعوا سليمان بن موسى عن الزُّهريّ. قال: ورواه أبو مالك الجنبي ونوح بن [دَرَّاج](ب) ومندل (جـ) وجعفر بن برقان وجماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. ورواه الحاكم (3) من طريق أحمد عن ابن علية عن ابن جريج به، قال في آخره: قال ابن جريج: فلقيت الزُّهريّ فسألته عنه فلم يعرفه، وسألته عن سليمان بن موسى فأثنى عليه. وأعل ابن حبان (4)، وابن عدي (5)، وابن عبد البر (6)، والحاكم (7)،
(أ - أ) في جـ: ابن جريج عن ابن علية.
(ب) في الأصل، جـ: دارج. وينظر تهذيب الكمال 30/ 43.
(جـ) في جـ: مبدل. وهو مندل بن علي العنزي. ينظر تهذيب الكمال 28/ 493.
_________
(1)
"تاريخ ابن معين- برواية الدُّوريِّ 3/ 86، والتلخيص 3/ 156، 157.
(2)
الحاكم 2/ 168.
(3)
الحاكم 2/ 169.
(4)
ابن حبان 9/ 385، 386 عقب ح 4074.
(5)
ابن عدي 3/ 1115.
(6)
التمهيد 19/ 86.
(7)
الحاكم 2/ 168، 169.
وغيره، الحكاية عن ابن جريج، وأجابوا عنها على تقدير الصحة؛ فإنَّه لا يلزم من نسيان الزهري له، أن يكون سليمان بن موسى وهم عليه، وقد تكلم عليه الدارقطني (1) في جزء "من حدث ونسي"(أ) والخطيب بعده، وأطال الكلام عليه البيهقي في "السنن"(2) وفي "الخلافيات"(3)، وابن الجوزي (4) في "التحقيق".
الحديث فيه دلالة على اعتبار إذن الولي في النكاح، والإذن يكون بعقده لها، أو بعقد الوكيل، وهذا مجمع عليه، كفعل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في أم حبيبة (5)، وميمونة (6)، ويصح أن يكون الوكيل مفوضًا يزوجها من شاء كما يصح من الموكل، وفي أحد وجهين للإمام يَحْيَى أنَّه لا يصح، إذ ليس كالأصل في تحري المصلحة. والجواب أنَّه قد رضي ما رضيه الأصل، وفي تفويض وكيل الزوج وجهان؛ يصح؛ لما ذكر، ولا يصح؛ لاختلاف الأغراض، وظاهر الحديث يقضي بصحة ما ذهب إليه أبو ثور كما تقدم، ولكنه مخصوص بحديث أبي هريرة الآتي.
وقوله: "فإن دخل بهما" إلى آخره. فيه دلالة على أن المهر تستحقه المرأة بالدخول في النكاح الباطل، وظاهره، ولو كان مع العِلم بالبطلان، وقد
(1) التلخيص 3/ 157.
(2)
البيهقي 7/ 105، 106.
(3)
التلخيص 3/ 157.
(4)
التحقيق 2/ 256.
(5)
أحمد 6/ 427، وأبو داود 2/ 241 ح 2107، والنَّسائيُّ 6/ 119، والبيهقيّ 7/ 139.
(6)
أحمد 1/ 270، 271، وأبو يعلى 4/ 364 ح 2481، والطبراني 11/ 391 ح 12093.
ذهب إليه الإمام يَحْيَى وأكثر أصحاب الشَّافعي، ولا يوجب الحد. وقال الصَّيْرفيُّ (1): بل يحد، إذ يصير مع العلم بتحريمه كفاعل المحرم القطعي. قال الإمام المهدي في "البحر": وهو المذهب.
وفي الحديث دلالة على أن النكاح المختل فيه ركن من أركانه، أنَّه باطل مع العِلم والجهل، وأن النكاح إنَّما هو صحيح أو باطل ولا واسطة بينهما، وهو مذهب الجمهور. وذهب أبو طالب، والمؤيد، وأبو العباس، والمذاكرون من الهدوية، والفرضيون، إلى أن النكاح قد يكون فاسدًا وهو ما خالف مذهب الزوجين، أو أحدهما جاهلين، ولم تكن المخالفة في أمر مجمع عليه، وهذا القسم تترتب عليه أحكام عندهم مفصلة في الفروع.
وقوله: "فإن اشتجروا" إلى آخره. الاشتجار الخصومة. والمراد به هنا منع الأولياء للعقد عليها، فإذا عضلوا انتقل الأمر إلى السلطان، وظاهره أنها لا تنتقل إلى الأبعد إذا منع الأقرب، وهو مذهب الشَّافعي، وذهب غيره إلى انتقالها إلى الأبعد، ويحملون الحديث بأن الاشتجار وقع من الأقرب والأبعد، والتأويل محتمل.
وقوله: "ولي من لا ولي لي". فيه دلالة على إثبات ولاية السلطان في حال العضل وفي حال عدم الولي، وكذا في حال غيبة الولي، وهل تزويجه بالولاية أو النيابة عن الولي؟ فيه وجهان، ويؤيده حديث ابن عباس أخرجه
(1) المهذب 2/ 35.
الطّبرانيّ (1) مرفوعًا: "لا نكاح إلَّا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له".
وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وفيه مقال، وأخرجه سفيان في "جامعه"، ومن طريقه الطّبرانيّ في "الأوسط" (2) بإسناد حسن عن ابن عباس بلفظ:"لا نكاح إلَّا بولي مرشد أو سلطان". وترجم البُخاريّ (3): باب السلطان ولي؛ لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "زوجناكها بما معك من القرآن". ولم يخرج الحديث؛ لأنَّه ليس على شرطه، وظاهر عموم الحديث أن السلطان إليه تزويج الكافرة التي لا ولي لها. قال الإمام يَحْيَى: والمراد بالسلطان في أَلْسِنَة العلماء حيث يطلقونه هو الإمام العادل المتولي لمصالح الدين، فأمَّا سلاطين الجور وأمراء الظلم، فهم لصوص سلَّابون لا تقبل شهادة أحدهم في بصلة فضلًا عن أن يحكموا في شيء من الأمور الدينية وإمضاء الأحكام الإسلامية، فإن عدم الإمام وحاكمه وكلت المرأة؛ لقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (4). فأثبت لكل مؤمن ولاية، والترتيب اقتضاه الإجماع. وقال أبو ثور وبعض العلماء المتقدمين: بل ينتظر وجود الإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فالسلطان". والجواب أن ذلك محمول على وجوده، ولا ينتظر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ثلاث لا ينبغي التأني"(5) الحديث. وقال الإمام يَحْيَى: بل يزوجها منصوب عند أهل النصب (6) أو مَن صلح عند
(1) الطّبرانيّ 11/ 142 ح 11298.
(2)
الطّبرانيّ في الأوسط 1/ 166، 167 ح 521.
(3)
البُخاريّ 9/ 190.
(4)
الآية 71 من سورة التوبة.
(5)
أحمد 1/ 105 بلفظ: "ثلاثة يا علي لا تؤخرهن
…
". والترمذي 3/ 387 ح 1075. بلفظ: "يا علي ثلاث لا تؤخرها
…
".
(6)
أهل النصب: هم طائفة من الخوارج، وتسمى أيضًا النواصب والناصبية. التاج (ن ص ب).
الهادوية، ولا وكالة، وإنَّما هو تعيين من المرأة، فتعيّن من شاءت. والله أعلم.
805 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تنكح الأيم حتَّى تستأمر، ولا تنكح البكر حتَّى تستأذن". قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال:"أن تسكت". متَّفقٌ عليه (1).
قوله: "لا تنكح". روي بصيغة الخبر مرفوعًا وبصيغَة النَّهي مجزومًا، والخبر أبلغ، والأيم؛ هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق؛ لمقابلتها بالبكر، وهذا هو المعنى الأصلي في الأيم، ولذلك قالوا: الغزو مأيمة (2). لأنَّه يقتل فيه الرجال، فتصير النساء أيامَى. وقد يطلق على من لا زوج لها أصلًا، ونقله عياض عن إبراهيم الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما، ولو صغيرة. وحكى الماوردي القولين لأهل اللغة، وقد وقع في رواية الأوزاعي عن يَحْيَى في هذا الحديث عند ابن المنذر، والدارمي، والدارقطني (3):"لا تنكح الثيب". ووقع عند ابن المنذر في رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه في هذا الحديث:
(أ) في حـ: "البنت".
_________
(1)
البُخاريّ، كتاب النكاح، باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلَّا برضاها 9/ 191 ح 5136، ومسلم، كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت 2/ 1036 ح 1419/ 64.
(2)
مجمع الأمثال 1/ 380، واللسان (أى م) ولفظه: الحرب مأيمة.
(3)
الدَّارميُّ 3/ 1398 ح 2232، والدارقطني 3/ 238 ح 63.
"الثيب تشاور"(1).
وقوله: "تستأمر". الاستئمار طلب الأمر، والمعنى: لا يعقد عليها حتَّى يطلب الأمر منها. وفيه إشعار بأن العقد من الولي عليها، فيؤخذ منه اشتراط الولي. والمطلوب من المرأة إنَّما هو الأمرُ اعتبارًا لرضاها.
وقوله: "ولا تنكح البكر حتَّى تستأذن". أراد بالبكر هنا البالغة، إذ لا معنى لاستئذان الصغيرة، وأتى بالاستئذان هنا، وبالاستئمار في الأولى، للفرق بينهما، فإن الاستئمار يدل على (أتأكيد المشاورة أ) وجعلِ الأمر إلى المستأمَرة، ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقًا، والبكر بخلاف ذلك، والإذن دائر بين القول والسكوت بخلاف الأمر؛ فإنَّه صريح في القول، وإنَّما جعل السكوت إذنًا في حق البكر، لأنها قد تستحيي من أن تفصح.
وقوله: قالوا: يا رسول الله. جَاء في رواية: قلنا: يا رسول الله. وفي حدَّثنا عائشة (2) أنها السائلة؛ قلت: إن البكر تستحيي. قال: "رضاها صمتها". والحديث فيه دلالة على اعتبار رضا المزوجة (ب)، وتفصيل الإذن كما ذكر، فسكوت البكر كافٍ بعد علمها بالعقد وإن لم تعلم أن السكوت
(أ- أ) في ب: تأكد المشورة.
(ب) في ب: الزوجة.
_________
(1)
أحمد 2/ 229 من طريق عمر بن أبي سلمة. وينظر الفتح 9/ 192.
(2)
البُخاريّ 9/ 191 ح 5137.
رضًا. قال ابن المنذر (1): يستحب أن تعلم البكر بأن السكوت إذن، لكن لو قالت بعد العقد: ما علمت أن سكوتي إذن. لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور، وكذا ذكر المؤيد بالله؛ لو سكتت وباطنها الكراهة، لم يضر ذلك. وكذا الثيب لو نطقت وباطنها الكراهة، لم يضر ذلك. وأبطل العقد بعض المالكية حيث قالت: لم أعلم أن السكوت رضًا. وقال ابن شعبان (2): يقال لها ذلك ثلاثًا، إن رضيت فاسكتي، وإن كرهْتِ فانطقي. وقال بعضهم: يطال المقام عندها لئلا تخجل، فيمنعها ذلك من المسارَعَة. واختلفوا فيما إذا لم تتكلم بل ظهرت منها قرينة السخط بالبكاء ونحوه، فعند الهدوية أن السكوت لا يكون رضًا، وكذا عند المالكية، وعند الشَّافعية، لا أثر لشيء من ذلك في المنع، إلَّا إن قرنت مع البكاء الصياح ونحوه، وفرق بعضهم بين الدمع، فإن كان حارًّا دل على المنع، وإن كان باردًا دل على الرضا، واختلفوا في الأب يزوج البكر البالغة بغير إذنها؛ فذهب العترة، وأبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، وأبو ثور إلى أنَّه لا يصح، وهو ظاهر الحديث، فإنَّه يطلق في حق الأب وغيره. وذهب ابن أبي ليلى، ومالك، والليث، والشّافعيّ، وأحمد، وإسحاق، إلى أن له إجبارها؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:"الثيب أحق بنفسها". وسيأتي (3)، فدل على أن البكر بخلافها، وهو أن ولي البكر أحق بها، وكذا حديث أبي موسى: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو
(1) الفتح 9/ 192، 193.
(2)
الفتح 9/ 193.
(3)
سيأتي ح 806.
إذنها" (1). فعلق الحكم باليتيمة، فيقيد حديث: "ولا تنكح البكر حتَّى تستأذن". باليتيمة، ويجاب عنه بأنه صرح في حديث ابن عباس، أخرجه مسلم (2): "والبكر يستأذنها أبوها". فصرح بذكر الأب، فالمفهوم غير معمول به، وتأول الشَّافعي المؤامرة في حق الأب بأنها تكون لأجل استطابة النَّفس، كما في حديث ابن عمر مرفوعًا (3): "وآمِروا (4) النساء في بناتهن". قال الشَّافعي: لا خلاف أنَّه ليس للأم أمرٌ، لكنَّه على معنى استطابة النَّفس. وقال البيهقي (5): زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباسٍ غير محفوظة، قال الشَّافعي: زادها ابن عيينة في حديثه، وكان ابن عمر، والقاسم، وسالم، يزوجون الأبكار لا يستأمرونهن. قال البيهقي: والمحفوظ في حديث ابن عباس: "البكر تستأمر" (6). ورواه صالح بن كيسان بلفظ: "واليتيمة تستأمر" (7). وكذلك رواه أبو بردة (1) عن أبي موسى، ومحمد بن [عمرو](أ) عن أبي سلمة عن أبي هريرة (8)، فدل على أن المراد بالبكر اليتيمة.
(أ) في النسخ: عمر. والمثبت من مصادر التخريج.
_________
(1)
أحمد 4/ 394.
(2)
مسلم 2/ 1037 ح 68/ 1421.
(3)
أحمد 2/ 34، وأبو داود 2/ 238 ح 2095.
(4)
أي: شاوروهن في تزويجهن. النهاية في غريب الحديث 1/ 66.
(5)
السنن الكبرى 7/ 115، 116، ومعرفة السنن والآثار 5/ 247 - 250.
(6)
سيأتي تخريجه ص 79.
(7)
أحمد 4/ 195 ح 2365، والنَّسائيُّ 6/ 84 ح 3262.
(8)
أحمد 2/ 259، وأبو داود 2/ 238 ح 2094، والترمذي 3/ 417 ح 1109، والنَّسائيُّ 6/ 87 ح 3270.
قال المصنف (1) رحمه الله: وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب، ولو قال قائل: بل المراد باليتيمة البكر. لم يدفع. و"تُستأمر" بضم أولى، يدخل فيه الأب وغيره، فلا تعارض بين الروايات، ويبقى النظر في أن الاستئمار هل هو شرط في صحة العقد، أو مستحب لاستطابة النَّفس كما قال الشَّافعي؟ ذلك محتمل. انتهى. وأجاب الإمام المهدي في "البحر"(2) عن حجة الشَّافعي بأنه صلى الله عليه وسلم رد نكاح بالغة شكت أن أباها أجبرها، والحديث أن جارية بكرًا أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (3). ورجاله ثقات، وأعل بالإرسال، وبتفرد جرير بن حازم عن أيوب، وتفرد حسين - (أيعني ابن محمد الآتي ذكره أ) - عن جرير، وأجيب بأن أيوب بن سويد رواه عن الثوري عن أيوب موصولًا (4)، وكذلك رواه معمر بن سليمان الرقي عن زيد بن حبان عن أيوب موصولًا (5)، وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله حكم لمن وصله على طريقة الفقهاء، وعن الثَّاني بأنَّ جريرًا توبع عن أيوب كما ترى. وعن الثالث، بأن [سليمان](ب) بن حرب تابع حسين بن محمد عن جرير،
(أ - أ) ساقط من: ب، جـ.
(ب) في الأصل، جـ: سلمان. وينظر تاريخ بغداد 8/ 89.
_________
(1)
الفتح 9/ 193.
(2)
البحر 4/ 57.
(3)
أحمد 1/ 273، وأبو داود 2/ 238 ح 2096، وابن ماجه 1/ 603 ح 1875.
(4)
الدارقطني 3/ 235 ح 58.
(5)
الدارقطي 3/ 235 ح 57.
وأجاب البيهقي (1) عن ذلك بأنه محمول على أنَّه زوجها من غير كفء. والله أعلم.
قال المصنف (2) رحمه الله: جواب البيهقي (أ) هو المعتمد، فإنَّها واقعة عين فلا يثبت الحكم فيها تعميمًا، وأمَّا الطعن في الحديث، فلا معنى له، فإن طرقه يقوي بعضها ببعض، وفي الباب عن جابر وابن عمر وعائشة (3). وبوب البُخاريّ (4): إذا زوج ابنته وهي كارهة، فنكاحه مردود. وذكر فيه حديث خنساء بنت خدام، [بفتح](ب) المعجمة بعدها نون ومهملة ممدود، وقد روي خناس بوزن فلان، وخدام بكسر المعجمة بعدها [دال مهملة](جـ)، ولكن في روايته أنها كانت ثيبًا (د)، والثيب (هـ) مجمع على اعتبار رضاها إلَّا مَا روي عن الحسن (5) أنَّه أجاز إجبار الأب للثيب. وعن النَّخعيِّ (6): إن كانت في عياله جاز وإلا رد. واختلفوا إذا وقع بغير رضاها، فقالت الحنفية
(أ) بعده في ب: هذا.
(ب) في النسخ: بكسر. وقد نص الحافظ في الفتح 9/ 195 أنها بوزن حمراء.
(جـ) في النسخ: ذال معجمة. والمثبت من الفتح 9/ 195.
(د) في جـ: بنتا.
(هـ) في جـ: والبنت.
_________
(1)
السنن الكبرى 7/ 118.
(2)
الفتح 9/ 196.
(3)
النسائي 6/ 87، وفي الكبرى 3/ 283 ح 4 - 5384، والدارقطني 3/ 233، 236 ح 47، 48، 51، 59.
(4)
البُخاريّ 9/ 194 ح 5138.
(5)
مصنف ابن أبي شيبة 4/ 136.
(6)
مصنف ابن أبي شيبة 4/ 136.
والهدوية: إن أجازته جاز. وعن المالكية: إن أجازته عن قرب جاز، وإلا فلا. ورده الباقون مطلقًا.
806 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الثيب أحق بنفسها من وَليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها". رواه مسلم (1). وفي لفظ: "ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر". رواه أبو داود والنَّسائيُّ، وصححه ابن حبان (2).
الحديث الأخير: "ليس للولي" إلى آخره. رواته ثقات، أخرجه ابن حبان من حديث معمر عن صالح بن كيسان عن نافع (أ) بن جبير عن ابن عباس، [وقال] (ب) أبو الفتح القشيري: ويقال: إن معمرًا أخطأ فيه. يعني أن صالحًا إنَّما حمله عن عبد الله بن الفضل عن ابن (جـ) جبير، وهو قول الدارقطني (3).
قوله: "واليتيمة تستأمر". اليتيم في الشرع؛ الصَّغير الذي لا أب له،
(أ) زاد بعده في النسخ: عن. والصّواب حذفها كما في مصادر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 29/ 272.
(ب) في التلخيص 3/ 161: قاله.
(جـ) في جـ: ابن أبي.
_________
(1)
مسلم، كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت 2/ 1037 ح 67/ 1421.
(2)
أبو داود، النكاح، باب في الثيب 2/ 239 ح 2100، والنَّسائيُّ، كتاب النكاح، باب استئذان البكر
…
6/ 85، وابن حبان، كتاب النكاح، باب الولي 9/ 399 ح 4089.
(3)
سنن الدارقطني 3/ 239.
فظاهر الحديث أن اليتيمة يصح أن يزوجها الأولياء، وهو ظاهر قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (1) الآية. وما ذكر في سبب نزولها من أنَّه يكون في حجر الولي يتيمة وليس له رغبة في نكاحها، وإنَّما يرغب في مالها فيتزوجها لذلك، فنهوا، وكذا قوله تعالى:{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (2) الآية. وترجم البُخاريّ (3) ذلك، وقال: باب تزويج اليتيمة. وقد ذهب إلى هذا زيد بن علي والهدوية وأبو حنيفة وأصحابه، وذهب مالك إلى أن الصغيرة لا يزوجها إلَّا الوصي، وكأنه نظر إلى أن الوصي قائم مقام الأب فله حكمه، وذهب الناصر والشّافعيّ إلى أن الصغيرة لا يزوجها إلَّا الأب؛ محتجين بقوله:"واليتيمة تستأمر". قالوا (أ): والاستئمار لا يكون إلَّا بعد البلوغ، إذ لا فائدة [في استئمار](ب) الصغيرة، فكان ذلك قرينة على أن المراد باليتيمة فاقدة الأب وقد بلغت، لأنَّه قد يطلق اليتيم على من فقد أحد أبويه وإن بلغ، والمراد أن اليتيمة تترك حتَّى تستأمر ولا يكون استئمارها إلَّا بعد البلوغ. ومَن أجاز تزويج الصغيرة بغير الأب يثبت لها الخيار متى بلغت ولو كان جدًّا، وذهب الناصر، والمؤيد بالله، والفريقان، إلى أنَّه كالأب فلا خيار لها؛ لقوله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (4). فسمى الجد أبًا. والجواب بأنه
(أ) ساقط من: جـ.
(ب) في الأصل: لاستئمار.
_________
(1)
الآية 3 من سورة النساء.
(2)
الآية 127 من سورة النساء.
(3)
البخاري 9/ 197.
(4)
الآية 78 من سورة الحج.
مجاز. وثبوت الخيار لها عند الهدوية وأبي حنيفة، ومحمد، والمؤيد بالله؛ قالوا: قياسًا على الأمة، فإنَّها تخير إذا أعتقت وهي مزوجة، والجامع بينهما حدوث ملك التصرف. وذهب أبو يوسف إلى أنَّه لا خيار لها؛ كمن زوجها أبوها. قال ابن رشد في "نهاية المجتهد" (1): سبب الاختلاف في إنكاح الصغيرة لغير الأب، قياس غير الأب في ذلك على الأب، فمن رأى أن الاجتهاد الموجود فيه الذي جاز للأب بسببه أن يزوج الصغيرة لا يوجد في غير الأب (ب)، لم يجز ذلك، ومن رأى أنَّه يوجد فيه أجاز ذلك، ومن فرق بين الصَّغير في ذلك والصغيرة، فلان الرجل يملك الطلاق إذا بلغ ولا تملكه المرأة، ولذلك جعل أبو حنيفة لهما الخيار إذا بلغا. انتهى.
وأعلم أن نكاح الأب لأولاده الصغار مجمع عليه، وترجم على ذلك البُخاريّ (2) بباب: نكاح الرجل ولده الصغار، ضبط بضم الواو وسكون اللام بصيغة الجمع وبفتحهما بصيغة الجنس، يشمل الذكر والأنثى، واحتج عليه بقوله تعالى:{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (3). فجعل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ؛ أي يدل على أن النكاح قبل البلوغ جائز، وهو استنباط حسن، ولكن ذلك لا يختص بالأب إلَّا أن يقال: قد بَيَّن أن المراد
(أ) بهامش ب: أي لأجل أنَّه قد لا يوجد في غير الأب ما يوجد في الأم من الأب في رعاية المصلحة.
_________
(1)
الهداية 6/ 369.
(2)
البخاري 9/ 189.
(3)
الآية 4 من سورة الطلاق.
بما (أ) في الآية الكريمة هو من زوجها الأب تَزْويج عائشة رضي الله عنها، والأصل في الأبضاع التحريم إلَّا ما دل عليه النص، فاقتصر على المنصوص عليه. قال المهلب (1): أجمعوا على أنَّه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر، ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلَّا أن الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ. وحكاه ابن حزم (2) عن ابن شبرمة مطلقًا أن الأب لا يزوج بنته البكر الصغيرة حتَّى تبلغ وتأذن، وزعم أن تزوج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين (3) كان من خصائصه، والله أعلم.
807 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها". رواه ابن ماجه والدارقطني ورجاله ثقات (4).
وأخرج الحديث البيهقي (5).
وفي قوله: "لا تزوج المرأة المرأة". دلالة على أن المرأة لا يثبت لها ولاية في النكاح، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وذهبت الحنفية إلى ثبوت
(أ) ساقطة من: ب.
_________
(1)
الفتح 9/ 190.
(2)
المحلى 11/ 36.
(3)
البُخاريّ 7/ 223، 9/ 190 ح 3894، 5134، ومسلم 2/ 1038 ح 69 - 1422.
(4)
ابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلَّا بولي 1/ 606 ح 1882، والدارقطني، كتاب النكاح 3/ 227.
(5)
البيهقي 7/ 110.
الولاية للنساء بعد العصبة. قال في "كنز الدقائق"(1): وإن لم يكن عصبة، فالولاية للأم، ثم الأخت لأب وأم، ثم لأب (أ)، ثم ولد الأم، ثم لذوي الأرحام، ثم للحاكم. انتهى. والحديث هذا يرد عليهم، وقد يستأنس (ب) لهم في حق الأم بقوله صلى الله عليه وسلم:"استأمروا النساء في بناتهن"(2). فالاستئمار يدل على ثبوت الحق لهن في ذلك، والجمهور حملوا الأمر على الندب، وأن الغرض من ذلك إنَّما هو تطييب لنفس الأم لما لها من الاتصال بابنتها.
وقوله: "ولا تزوج المرأة نفسها". فيه دلالة على عدم أهلية المرأة لإنكاحها نفسها. وقد تقدم بعض من ذلك، وقد اختلف العلماء في ذلك. قال في "نهاية المجتهد" (3): اختلف العلماء هل الولاية شرط من شروط صحة النكاح أم ليست بشرط؟ فذهب مالك إلى (جـ) أنَّه لا يكون نكاح إلَّا بولي، وأنها شرط في الصحة في رواية أشهب عنه، وبه قال الشَّافعي، وقال أبو حنيفة، وزُفر، والشعبي، والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفئًا جاز. وفرق داود بين البكر والثيب، فقال باشتراط الولي في البكر وعدم اشتراطه في الثيب، ويتخرج على رواية ابن القاسم عن مالك في الولاية قول رابع؛ أن اشتراطها سنة لا فرض؛ وذلك أنَّه روي عنه أنَّه كان
(أ) في جـ: الأب.
(ب) في جـ: يستأمر.
(جـ) في جـ: على.
_________
(1)
البحر الرائق شرح كنز الدقائق 3/ 133.
(2)
تقدم تخريجه ص 70.
(3)
الهداية 6/ 370، 371.
يرى الميراث بين الزوجين بغير ولي، وأنه يجوز للمرأة غير الشريفة أن تستخلف رجلًا من النَّاس على نكاحها، فكأنه عنده مِن شروط التمام لا مِن شروط الصحة، بخلاف عبارة البغداديين مِن أصحاب مالك، أعني أنهم يقولون: إنَّها من شروط الصحة لا من شروط التمام. وسبب الاختلاف؛ أنَّه لم تأت آية ولا سنة ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح فضلًا عن أن يكون في ذلك نصٌّ، بل الآيات (أ) والسنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة في ذلك، وإن كان المسقط لها ليس عليه دليل؛ لأنَّ الأصل براءة الذمة، ونحن نورد ما احتج به الفريقان، ونبين وجه الاحتمال في ذلك، فمن أظهر ما يحتج به من الكتاب في اشتراط الولاية قوله تعالى:[{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ](ب) أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (1). قالوا: وهذا خطاب للأولياء، ولو لم يكن لهم حق في الولاية لما نهوا عن العضل. وقوله تعالى:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (2). وهذا أيضًا خطاب للأولياء، ومن أشهر ما احتج به هؤلاء من الأحاديث ما رواه الزُّهريّ عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، ثلاث مرات، وإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي مَن لا ولي لها".
(أ) في جـ: الآثار.
(ب) في النسخ، وبداية المجتهد: فإذا بلغن. والمثبت صواب التلاوة.
_________
(1)
الآية 232 من سورة البقرة.
(2)
الآية 221 من سورة البقرة.
أخرجه التِّرمذيُّ (1) وقال فيه: حديث حسن. وأمَّا ما احتج به من لم يشترط الولاية مِن الكتاب والسنة فقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2). قالوا: وهذا دليل على جواز تصرفها في العقد على نفسها. قالوا: وقد أضاف إليهن (أ) في غير ما آية من الكتاب الفعل، فقال:{أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (3). وقال تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4). وأمَّا من السُّنَّة، فاحتجوا بحديث ابن عباس المتفق على صحته، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها"(5). وبهذا الحديث احتج داود في الفرق عنده بين الثيب والبكر في هذا المعنى. فهذا مشهور ما احتج به الفريقان من السماع. فأمَّا قوله تعالى: [{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ](ب) أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}. فليس فيه أكثر من نهي قرابة المرأة وعصبتها عن (جـ) أن يمنعوها النكاح، وليس نهيهم عن العضل ممَّا يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد لا حقيقة ولا مجازًا، أعني بوجه من وجوه أدلة الخطاب الظاهرة أو النص، بل قد يمكن أن يفهم منه ضد
(أ) في جـ: النَّهي.
(ب) في النسخ، وبداية المجتهد: فإذا بلغن.
(جـ) ساقط من: ب. وفي جـ: علي.
_________
(1)
تقدم ح 804.
(2)
الآية 234 من سورة البقرة.
(3)
الآية 232 من سورة البقرة.
(4)
الآية 230 من سورة البقرة.
(5)
مسلم 2/ 1037 ح 1421.
هذا، وهو أن الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم، وكذلك قوله تعالى:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (1). هو أن يكون خطابًا لأولي الأمر من المسلمين أو لجميع المسلمين أحرى منه أن يكون خطابًا للأولياء، وبالجملة فهو متردد بين أن يكون خطابًا للأولياء أو لأولي الأمر. فإن قيل: هذا عام، والعموم يشتمل ذوي الأمر [و] (أ) الأولياء. قيل: هذا الخطاب إنَّما هو خطاب بالمنع، والمنع بالشرع، فيستوي فيه الأولياء وغيرهم، وكون الولي مَأمورًا بالمنع بالشرع لا يوجب له ولاية خاصة في الإذن، (ب أصلًا كالأجنبي ب). ولو قلنا: إنه خطاب للأولياء يوجب اشتراط إذنهم في صحة النكاح. لكان مجملًا لا يصح به عمل؛ لأنَّه ليس فيها ذكر أصناف الأولياء ولا صفاتهم ولا مراتبهم، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، ولو كان في هذا كله شرع معروف لنقل تواترًا أو قريبًا من التواتر؛ لأنَّ هذا ممَّا تعم به البلوى، ومعلوم أنَّه كان في المدينة مَن لا ولي لها، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يعقد أنكحتهم، ولا نصب لذلك من يعقده، وأيضًا فإن المقصود من الولاية ليس هو حكم الولاية، وإنَّما المقصود منها تحريم نكاح المشركين والمشركات، وهذا ظاهر، والله أعلم.
وأمَّا حديث عائشة (2)، فهو حديث مختلف في وجوب العمل به، والأظهر أن مَا ليس يتفق على صحته، أنَّه لا يجب العمل به، وأيضًا فإن
(أ) في الأصل، جـ: ومن.
(ب- ب) في جـ، وبداية المجتهد: أصله الأجنبي.
_________
(1)
الآية 221 من سورة البقرة.
(2)
تقدم ح 804.
سلمنا صحة الحديث فليس فيه إلَّا اشتراط إذن الولي لمن لها ولي، أعني المولَّى عليها. وإن سلمنا أنَّه عام في كل امرأة فليس فيه أن المرأة لا تعقد على نفسها، أعني أن تكون هي التي تولت العقد، بل الأظهر منه أنَّه إذا أذن لها (1) جاز أن تعقد على نفسها. وأمَّا مَا احتج به الفريق الآخر من قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . فإن المفهوم منه النَّهي عن التثريب عليهن فيما استبددن بفعله دون أوليائهن، وليس ها هنا شيء يمكن أن تستبد به المرأة دون الولي إلَّا عقد النكاح، فظاهر هذه الآية، والله أعلم، أن لها أن تعقد النكاح، وللأولياء الفسخ إذا لم يكن بالمعروف، وهو الظاهر من الشرع، وأمَّا إضافة النكاح إليهن، فليس فيه دليل على اختصاصهن بالعقد، لكن الأصل هو الاختصاص، إلَّا أن يقوم الدليل على غير ذلك.
وأمَّا حديث ابن عباس (2) فهو لَعمرى ظاهر في الفرق بين الثيب والبكر؛ لأنَّه إذا كان كل واحدة منهما يستأذن ويتولى العقد عليها الولي، فبماذا؟ ليت شعري تكون الأيم أحق بنفسها من وليها، والاحتجاج بقوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . وهو أظهر في أن المرأة تلي العقد مِن الاحتجاج بقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} . على أن الولي هو الذي يلي العقد. وقد ضعفت الحنفية حديث عائشة، وذلك أنَّه حديث رواه جماعة عن ابن جريج عن الزُّهريّ، وحكى ابن علية عن ابن جريج أنَّه سأل الزُّهريّ عنه، فلم يعرفه. قالوا: والدليل على
(1) أي: الولي.
(2)
تقدم تخريجه ص 79.
ذلك أن الزُّهريّ لا يشترط الولاية. وقد احتجوا أيضًا بحديث ابن عباس أنَّه قال: "لا نكاح إلَّا بولي وشاهدي عدل"(1). ولكنه مختلف في رفعه. وأمَّا احتجاج الفريقين من جهة المعاني فمحتمل؛ وذلك أنَّه يمكن أن يقال: إن الرشد إذا وُجِدَ في المرأة اكتفى به في عقد النكاح، كما يكتفى به في التصرف في المال، وشبهه أن يقال: إن المرأة مائلة الطبع إلى الرجال أكثر منها إلى تدبير الأموال، فاحتاط الشرع بأن جعلها محجورة في هذا المعنى على التأبيد، مع أن ما يلحقها من العار في إلقاء نفسها في غير موضع كفاءة يتطرق إلى أوليائها، لكن يكفي في ذلك أن يكون للأولياء الفسخ والحسبة، والمسألة كما ترى محتملة، لكن الذي يغلب على الظن أنَّه لو قصد الشارع اشتراط الولاية لبين جنس الأولياء وأصنافهم ومراتبهم، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإذا كان لا يجوز عليه فييه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وكان عموم البلوى في هذه المسألة يقتضي أن ينقل اشتراط الولاية عنه تواترًا أو قريبًا (أ) من التواتر، فقد يجب أن يعتقد أحد أمرين؛ إما أنه ليست الولاية شرطًا في صحة النكاح وإنَّما للأولياء الحسبة في ذلك، وأمَّا إن كانت شرطًا فليس من شرط صحتها تمييز أصناف الأولياء وصفاتهم؛ ولذلك يضعف قول من يبطل عقد الولي الأبعد مع وجود الأقرب. انتهى. وهذا الكلام الذي ذكره في "غاية التحقيق ونهاية
(أ) في ب: قريب.
_________
(1)
الدارقطني 3/ 221، 222، والبيهقيّ 7/ 124.
التدقيق"، والله أعلم، وقد روي عن عائشة أيضًا أن النكاح يصح بغير ولي.
رواه الطحاوي والبيهقيّ (1). وروى البيهقي (2) عن علي رضي الله عنه، أنَّه أجاز النكاح بغير ولي بعد الدخول بالمرأة، في قصة جرت، ولم يذكر المصنف رحمه الله، الوارد في اعتبار الشهادة. وقد أخرج في "زوائد المسند" (3) عن عمران بن حصين عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا نكاح إلَّا بولي وشاهدي عدل". وعن عائشة مرفوعًا مثله بزيادة: "فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". رواه الدارقطني (4)، ولمالك في "الموطأ"(5) عن أبي الزُّبير المكيِّ أن عمر بن الخطاب أتي بنكاح لم يشهد عليه إلَّا رجلٌ وامرأة، فقال: هذا نكاح السر، ولا أجيزه، ولو كنت تقدمت فيه لرجمت. وعن ابن عباس رضي الله عنه:"لا نكاح إلَّا بشاهدي عدل وولي مرشد"(6). ولا مخالف له من الصّحابة. أخرجه الدارقطني (7) وذكر أن في سنده مجاهيل، وقد ذهب إلى اعتبار الشهادة علي، وعمر، وابن عباس، والعِترة، والحسن البصري، والنخعي، والشعبي، وابن المسيب، والشّافعيّ، وأبو حنيفة، وأحمد. وذهب ابن عمر، وابن الزُّبير، وعبد الرحمن بن مهدي، وداود،
(1) شرح معاني الآثار 3/ 8، والبيهقيّ 7/ 112، 113.
(2)
البيهقي 7/ 112.
(3)
لم أقف عليه في المسند، وعزاه صاحب منتقى الأخبار في شرح نيل الأوطار 6/ 150، والحافظ في التلخيص 3/ 156، كلاهما إلى أحمد، والحديث أخرجه عبد الرَّزاق 6/ 196 ح 10473.
(4)
الدارقطني 3/ 225، 226.
(5)
الموطأ 2/ 535.
(6)
الشَّافعي في الأم 5/ 22.
(7)
الدارقطني 3/ 221، 222 بنحوه.
إلى أن الشهادة لا تعتبر كشراء الأمة للوطء. وقال في "نهاية المجتهد"(1): اتفقوا، أعني أبا حنيفة والشّافعيّ ومالكًا على أن الشهادة من شروط النكاح، واختلفوا هل هي شَرط تمام يؤمر به عند الدخول أو شرط صحة يؤمر به عند العقد؟ واتفقوا على أنَّه لا يجوز نكاح السر، واختلفوا إذا شهد شاهدان ووصيا بالكتمان؛ هل هو سر أم ليس بسر؟ فقال مالك: هو سر ويفسخ. وقال أبو حنيفة، والشافعي: ليس بسر. وسبب اختلافهم، هل الشهادة في ذلك حكم شرعي أم (أ) إنَّما المقصود منها سد ذريعة الاختلاف والإنكار؟ فمن قال: حكم شرعي. قال: هي من شروط الصحة. ومن قال: توثيق. قال: من شروط التمام. ثم ذكر حديث ابن عباس حجة القائل باعتباره، ثم قال: وأبو حنيفة ينعقد النكاح عنده بشهادة فاسقين؛ لأنَّ المقصود عنده بالشهادة هو الإعلان فقط. والشّافعيّ يرى أن الشهادة تتضمن المعنيين، أعني الإعلان والقبول، ولذلك اشترط فيها العدالة، وأمَّا مالك فليس يتضمن عنده الإعلان إذا أوصى الشاهدان بالكتمان، وسبب اختلافهم؛ هل ما يقع فيه الشهادة (ب) ينطلق عليه اسم السر أم لا؟ والأصل في اشتراط الإعلان قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أعلنوا هذا النكاح" الحديث (2). وقول عمر رضي الله عنه فيه: هذا نكاح السر، ولو تقدمت فيه لرجمت.
(أ) زاد بعده في جـ: لا.
(ب) ساقط من: ب.
_________
(1)
بداية المجتهد 6/ 397.
(2)
تقدم تخريجه ص 54، 55.
وقد روي عن الحسين بن علي رضي الله عنه أنَّه تزوج بغير شهادة ثم أعلن النكاح. انتهى.
808 -
وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار، والشِّغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق. متفق عليه (1).
واتفقا من وجه آخر (أ) على أن تفسير الشِّغار من كلام نافعٌ (2).
هو أبو عبد الله نافع بن سَرْجِس، بفتح السِّين المهملة الأولى وسكون الراء وكسر الجيم، مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، كان دَيْلميًّا (3)، من كبار التّابعين المدنيين، سمع ابن عمر، وأبا سعيد الخُدري. روى عنه الزُّهريّ، وأيوب السَّختياني، وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، ومالك بن أنس. وهو من المشهورين بالحديث، ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم ويجمع حديثهم ويعمل به، ومعظم حديث ابن عمر مروي عنه. قال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر، لا
(أ) ساقط من: ب، جـ.
_________
(1)
البُخاريّ، كتاب النكاح، باب الشغار 7/ 15 ح 5112، ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه 2/ 1034 ح 57، 1415.
(2)
البُخاريّ ح 6960، ومسلم ح 58، 1415.
(3)
الدَّيْلَمي: هذه النسبة إلى الديلم، وهي بلاد معروفة، وجماعة من أولاد الموالي ينسبون إليها.
الأنساب 2/ 527.
أبالي ألَّا أسمعه من أحد. مات سنة سبع عشرة ومائة (أ). وقيل: سنة عشرين.
الشِّغار بمعجمتين مكسور الأول، أصله في اللغة الرفع (1)، يقال: شغر الكلب. إذا رفع رجله ليبول، كأنه قال: لا ترفع رجل بنتي حتَّى أرفع رجل بنتك. وقيل: هو من شغر البلد، إذا خلا، لخلوه عن الصداق. ويقال: شغرت المرأة. إذا رفعت رجلها عند الجماع. وقال ابن قتيبة (2): كل واحد منهما يشغر عند الجماع. وكان من نكاح الجاهلية.
وقوله: نهى عن الشغار. المراد به نهى عن نكاح الشغار، بتقدير المضاف، وقد صرح به في رواية ابن وهب عن مالك، ذكره ابن عبد البر (3).
وقوله: والشغار. إلى آخره. قال ابن عبد البر (3): ذكر تفسير الشغار جميع رواة مالك عنه. وأمَّا أبو داود (4) فاختصر الرّواية عن القعنبي، وكذا التِّرمذيّ (5)، أخرجه من طريق معن بن عيسى، واختصر التفسير، ويدل على ذلك أن النَّسائيّ (6) أخرجه من طريق معن بالتفسير، وكذا الخطيب (7)
(أ) ساقط من: جـ.
_________
(1)
لسان العرب (ش غ ر).
(2)
غريب الحديث 1/ 207.
(3)
التمهيد 14/ 70.
(4)
أبو داود 2/ 233، 234 ح 2074.
(5)
التِّرمذيُّ 3/ 431، 432 ح 1124.
(6)
النَّسائيّ 6/ 112.
(7)
المدرج 1/ 387.
أخرجه من طريق القعنبي بالتفسير. وقد اختلفت الرواة عن مالك فيمن ينسب إليه التفسير، والأكثر لم ينسبوه لأحد، ولهذا قال الشَّافعي، فيما حكاه البيهقي في "المعرفة" (1): لا أدري؛ التفسير عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو عن ابن عمر، أو عن نافع، أو عن مالك؟ ونسبه محرز بن عون وغيره إلى مالك. قال الخطيب (2): تفسير الشغار ليس من كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هو قول مالك وصل بالمتن المرفوع، وقد بين ذلك ابن مهدي والقعنبي ومحرز بن عون، ثم ساقه عنهم كذلك، ورواية محرز بن عون عند الإسماعيلي والدارقطني (3) في "الموطآت". وأخرجه الدارقطني (3) أيضًا من طريق خالد بن مخلد عن مالك، قال: سمعت أن الشِّغار أن يزوج الرجل
…
إلى آخره. وهذا دالٌّ على أن التفسيرين منقول مالك لا من مقوله، وصرح البُخاريّ (4) في كتاب ترك الحيل عن نافع في هذا الحديث؛ تفسير الشغار مِنْ قول نافع ولفظه. قال عبيد الله: قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكره. فلعل مالكًا أيضًا حمله عن نافع، وقال أبو الوليد الباجي: الظاهر أنَّه مِن جملة الحديث، وعليه يحمل، حتَّى يتبين أنَّه من قول الراوي وهو نافع. وقال المصنف (5) رحمه الله: قد تبيّن ذلك، ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه ألا يكون في نفس الأمر مرفوعًا، فقد ثبت ذلك من غير روايته، فعند مسلم (6)
(1) معرفة السنن والآثار 5/ 338.
(2)
المدرج 1/ 385، 386.
(3)
الفتح 9/ 162.
(4)
البُخاريّ 12/ 333 ح 6960.
(5)
الفتح 9/ 162.
(6)
مسلم 2/ 1035 (1416/ 61).
من رواية أبي أسامة وابن نمير عن (أعبيد الله أ) بن عمر أيضًا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، مثله سواء. قال: وزاد ابن نمير: والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي. أو: زوِّجني أختك وأزوجك أختي. وهذا يحتمل أن يكون تلقاه عن أبي الزناد، ويؤيّد الاحتمال الثَّاني وُروده في حديث أنس وجابر وغيرهما أيضًا، فأخرج عبد الرَّزاق (1) عن معمر عن ثابت وأبان عن أنس مرفوعًا:"لا شغار في الإسلام". والشغار أن يزوج الرجل الرجل (ب) أخته بأخته. وروى البيهقي (2) من طريق نافع بن يزيد عن ابن جريج عن أبي الزُّبير عن جابر مرفوعًا نَهى [النبي صلى الله عليه وسلم](جـ) عن الشغار. والشغار أن ينكح هذه بهذه بغير صداق؛ بُضع (د) هذه صداق هذه، وبُضع (د) هذه صداق هذه. وأخرج أبو الشَّيخ (3) في كتاب النكاح من حديث أبي ريحانة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن المشاغرة. والمشاغرة أن يقول: زوج هذا من هذه، وهذه من هذا، بلا مهر. قال القرطبي (4): تفسير الشغار صحيح، موافق لما ذكره أهل اللغة، فإن كان مرفوعًا فهو المقصود، وإن كان
(أ- أ) في جـ: عبد الله.
(ب) ساقطة من: ب.
(جـ) ساقط من النسخ، والمثبت من مصدر التخريج.
(د) في الأصل، ب: يضع.
_________
(1)
عبد الرَّزاق 6/ 184 ح 10434.
(2)
البيهقي 7/ 200.
(3)
أبو الشَّيخ -كما في الفتح 9/ 163.
(4)
الفتح 9/ 163.
من قول الصحابي فمقبول أيضًا؛ لأنَّه أعلم بالمقال وأقعد بالحال. انتهى. وفي "الطّبرانيّ"(1) من حديث أُبي بن كعب مرفوعًا: "لا شغار". قالوا: يا رسول الله، وما الشغار؟ قال:"نكاح المرأة بالمرأة لا صداق بينهما". وإسناده وإن كان ضعيفًا، لكن يُستأنس به في هذا القام.
اختلف الفقهاء في نكاح الشغار، هل هو باطل أو غير باطل؟ فذهب العِترة والشّافعيّ ومالك إلى أنَّه باطل، للنهي الوارد فيه، والنهي يقتضي بطلان المنهي عنه، واختلفوا في العلة المقتضية للبطلان، فذهب المؤيد بالله وأبو طالب إلى أن العلة كون البضع صار ملكًا للأخرى، وذهب إليه أكثر الشَّافعية، قالوا: لأنَّه يصير البضع مشتركًا بين الزوج والأخرى، وجعل كل واحدة مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الولي، وهو ملكه لبعض بضع زوجته بتمليكه (أ) لبضع موليته، وهذا ظلم بكل واحدة من المرأتين، وإخلاء لنكاحها عن مهر ينتفع به. وقال القفال (2): العلة في البطلان التعليق والتوقيف، وكأنه يقول: لا ينعقد لك نكاح بنتي حتَّى ينعقد لي نكاح بنتك. وقال الخطابي (3): كان ابن أبي هريرة يشبهه برجل تزوج امرأة ويستثني عضوًا من أعضائها، وهو ممَّا لا خلاف في
(أ) في ب، جـ: فتمليكه.
_________
(1)
الطّبرانيّ في الأوسط 4/ 41 ح 3559.
(2)
الفتح 9/ 163.
(3)
معالم السنن 3/ 193.
فساده، وتقرير ذلك أنَّه يزوج وليته ويستثني بضعها حيث يجعله للأخرى صداقًا. وقال مالك: العلة خلو العقد عن المهر. ونقله الخرقي (أ)(1) عن نص (ب) أحمد بن حنبل، وكذا ابن دقيق العيد (2). وقال الإمام يَحْيَى: بل العلة مجموع الاشتراك في البضع والخلو عن الهر. وحديث الباب يؤيد قول مالك وأحمد بقوله: لا صداق بينهما. فإنَّه يشعر بأن جهة الفساد ذلك، وإن كان يحتمل أن يكون ذلك ذكر لملازمته لجهة الفساد. وقال ابن دقيق العيد (3): وعلى الجملة ففيه شعور بأن عدم الصداق له مدخل في النَّهي. وحديث أبي ريحانة يؤيده، ويتفرع على الخلاف ما إذا ذكر مهر لكل واحدة منهما أو لأحدهما، هل يخرج عن الشغار أو لا؟ فعلى من يقول: إن العلة المجموع أو عدم ذكر المهر وحده. يصح النكاح ولا يكون شغارًا، ومن جعل العلة الاشتراك في البضع، هو شغار منهي عنه. واختُلف على أصل الشَّافعي فيما إذا لم يصرحا بالبضع، فالأصح عند الشَّافعية الصحة، ونصَّ الشَّافعي على خلافه، ولفظه: إذا زوج الرجل ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت لآخر على أن صداق كل واحدة [بضع](جـ) الأخرى، أو على أن ينكحه الأخرى، ولم يُسمِّ أحد منهما لواحدة منهما صداقًا، فهذا الشغار
(أ) في الأصل، جـ: الحربي.
(ب) ساقطة من: ب.
(جـ) في الأصل: وضع.
_________
(1)
الفتح 9/ 163.
(2)
شرح عمدة الأحكام 4/ 35، وينظر الفتح 9/ 163.
(3)
شرط عمدة الأحكام 4/ 35.
الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو [مفسوخ](أ). هكذا ساقه البيهقي (1) بإسناده الصَّحيح عن الشَّافعي، [قال (2)] (ب): وهو الموافق للتفسير المنقول في الحديث، واختلف نَصُّ الشَّافعي فيما إذا سمَّى مع ذلك مهرًا، فنص في "الإملاء"(3) على البطلان، وظاهر نصه في "المختصر"(3) الصحة؛ وعلى ذلك اقتصر في النقل عن الشَّافعي من ينقل الخلاف من أهل مذهبه، وذهب الحنفية والزهري ومكحول والثوري والليث، ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، أن النكاح صحيح، ويلغو ما ذكر فيه. قالوا: لعموم قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (4). ولم يُفَصِّلْ. قال الإمام الهدي في "البحر": قلنا: النَّهي اقتضى قبحه فلا صحة. انتهى. وقد يجاب من طرق الحنفية بأن النَّهي وإن اقتضى القبح فلا يلزم منه الفساد، بل النَّهي يدل على الصحة عندهم، ورواية عن (جـ) مالك، أنَّه يفسخ عقد الشغار قبل الدخول لا بعده. وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، وقد يجاب عنه بما قاله الشَّافعي (5) رحمه الله: إن النساء محرمات -[لعمومِ](د) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (6) - إلَّا ما أحل الله، من النكاح و (هـ) ملك يمين، فإذا ورد
(أ) في النسخ والفتح: منسوخ. والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) ساقط من النسخ. والمثبت من الفتح. وينظر معرفة السنن والآثار 5/ 340.
(جـ) ساقط من: جـ.
(د) في ب، جـ: لعموم.
(هـ) في ب والفتح: أو.
_________
(1)
معرفة السنن والآثار 5/ 339.
(2)
أي البيهقي.
(3)
ينظر الفتح 9/ 163.
(4)
الآية 3 من سورة النساء.
(5)
معرفة السنن والآثار 5/ 340، وينظر الفتح 9/ 164.
(6)
الآية 5 من سورة المؤمنون، والآية 29 من سورة المعارج.
النَّهي عن نكاح تأكد التحريم، والمراد (أ) أنَّه لا يباح إلَّا بالنكاح الذي لا نهي عنه، وما نهي عنه رجع إلى ذلك الأصل، وهذا وجه قوي. والله أعلم.
واعلم أنَّه ذكر في (ب لحديث لفظ ب) البنت، وفي رواية: الأخت. قال النووي (1): أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات وبنات الأخ وغيرهن، كالبنات في ذلك. قال ابن القيِّم في "الهدي النبوي" (2): والذي يجيء على أصل أحمد أنهم متى عقدوا على ذلك، وإن لم يقولوه بألسنتهم، أنَّه لا يصح؛ لأنَّ المقصود في العقود معتبر، والمشروط عرفًا كالمشروط لفظًا؛ فيبطل العقد بشرط ذلك والتواطؤ عليه ونيته. والله أعلم.
809 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن جارية بكرًا أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وأعل بالإرسال.
الحديث تقدم الكلام عليه قريبًا في أثناء حديث أبي هريرة، فارجع إليه (3).
810 -
وعن الحسن عن سمرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما". رواه أحمد والأربعة وحسنه التِّرمذيُّ (4).
(أ) زاد بعده في ب: به.
(ب- ب) في جـ: لفظ الحديث بلفظ.
_________
(1)
شرح مسلم 9/ 201.
(2)
زاد المعاد 5/ 109.
(3)
ينظر ما تقدم ص 67 - 73.
(4)
أحمد 5/ 8، وأبو داود، كتاب النكاح، باب إذا أنكح الوليان 2/ 237 ح 2088، =
هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن -واسم أبي الحسن يسار- البصري، من سبي مَيْسَان، مولى زيد بن ثابت، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة، وقدم البصرة بعد مقتل عثمان، ورأى عثمان، وقيل: إنه لقي عليًّا بالمدينة. وأمَّا بالبصرة فإن رؤيته إياه لم تصح؛ لأنَّه كان في وادي القرى متوجهًا نحو البصرة، حين قدم علي بن أبي طالب البصرة. ويقال: إنه لقي طلحة وعائشة ولم يصح له منهما سماع. وروَى عن غيرهما من الصّحابة؛ مثل أبي بكرة الثَّقفيّ وأنس بن مالك وسمرة بن جندب، وروى عنه خلق كثير من التّابعين وتابعيهم، وهو إمام وقته في كل فن وعلم وزهد وورع وعبادة. مَات في رجب سنة عشر ومائة. ويسار بفتح الياء المنقوطة اثنتين من أسفل وتخفيف السين المهملة، وميسان بفتح الميم وسكون الياء تحتها نقطان، وبالسين المهملة (1).
الحديث صححه أبو زرعة (2) وأبو حاتم (3) والحاكم (4) في "المستدرك"، وصحته متوقفة على ثبوت سماع الحسن من سمرة، ورجاله ثقات. واختلف فيه عن الحسن، ورواه الشَّافعي وأحمد والنَّسائيُّ (5) من طريق قتادة
= والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في الوليين يزوجان 3/ 418 ح 1110، والنَّسائيُّ، كتاب البيوع، باب الرجل يبيع السلعة فيستحقها مستحق 7/ 314. ولفظه عندهم كلفظ المصنف وزيادة: ومن باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما. وأخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب إذا بايع المجيزان فهو للأول 2/ 738 ح 2190 مقتصرًا على الشطر الثَّاني.
(1)
تهذيب الكمال 6/ 95.
(2)
التلخيص 3/ 165.
(3)
علل ابن أبي حاتم 1/ 404 ح 1210.
(4)
الحاكم 2/ 175.
(5)
الأم 5/ 16، وأحمد 4/ 149، والنَّسائيُّ 4/ 57.
أيضًا عن الحسن عن عقبة بن عامر، قال التِّرمذيُّ (1): الحسن عن سمرة في هذا أصح. قال ابن المديني (2): لم يسمع الحسن من عقبة شيئًا. وأخرجه ابن ماجه (3) من طريق سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أو عقبة بن عامر.
دَل الحديث على أن المرأة إذا عقد لها وليّان لشخصين وكان العقدان مترتبين، أنها للأول منهما، وسواء كان الثَّاني قد دَخَل بها أو لا، أما إذا دخل بها عالمًا، فإجماعٌ أنَّه زانٍ وأنها للأول، وأمَّا إذا دخل جهلًا فكذلك، إلَّا أنَّه لا حدَّ للجهل. وقد ذهب إلى هذا العِترة والحنفية والشافعية والحسن البصري وأحمد وإسحاق بن راهويه. وذهب عمر وطاوس والزهري ومالك أنها تكون للثاني، إذ الدخول أقوى من العقد لتكملة المهر.
قال الإمام المهدي: قلنا: الحديث أولى، والوطء لا يصحح الباطل، كما أن المرأة لو نكحت في العدة، ودخل بها الزوج، فإنَّه لا يُصِحُّ الوطءُ العقدَ، وهذا حيث ترتب العقدان. وأمَّا إذا وقعا في وقت واحد فإن العقدين يبطلان، والظاهر أنَّه مجمع عليه، وأمَّا إذا علم التَّرتيب، ثم التبس المتقدم، فإن العقدين يبطلان أيضًا؛ لأنَّه لا يمكن إجراء حكمهما؛ لعدم إمكان قسمتها بين الزوجين بخلاف المبيع بين المشتريين فإنَّه يمكن القسمة، وقد ذهب إلى هذا الهدوية وأبو حنيفة والشّافعيّ إلَّا أن الزوجة إذا أقرت بسبق أحدهما أو دخل بها أحد الزوجين برضاها فإن ذلك يقرر العقد الذي أقرت بسبقه؛ إذ الحق عليها فإقرارها صحيح، وكذا الدخول برضاها، فإنَّه قرينة
(1) ينظر التلخيص 3/ 165.
(2)
العلل لابن المديني ص 70.
(3)
تقدم تخريجه في حديث الباب.
السبق؛ لوجوب الحمل على السلامة. وقال أحمد وإسحاق: إنه في هذا الظرف يقرع بين الزوجين. ويجاب بأن القرعة غير مشروعة في مثل هذا. وقال الإمام يَحْيَى: إنه إن جهل المتأخر أو التبس كون الوقت متحدًّا أو مختلفًا يكون لها حكم الزوجة الملتبسة لا تخرج منهما إلَّا بطلاق، فإن تمردا؛ فقال الحقيني والأستاذ: إن الحاكم يفسخ النكاح. وقال السيد أحمد الأزرقي: إنهما يجبران على الطلاق، ولا يطؤها أيهما ولا مهر ولا ميراث؛ لاحتمال عدم الزوجية، ومن مات اعتدت منه، فإن مات الثَّاني بعد انقضاء العدة استأنفت للاحتمال لا قبل الانقضاء؛ إذ عليها في الحقيقة عدة واحدة فينتقل إلى الأخرى. قال الإمام المهدي: هذه الأحكام حيث علم المتأخر ثم التبس، لا حيث التبس كون الوقت متحدًّا أم لا. وقد ذكر هذا القاضي زيد والإمام يَحْيَى في موضع غير هذا الموضع، ولكن الظاهر أنَّه لا فرق بين الصورتين، فما ذكره الإمام يَحْيَى في هذا الموضع هو الأولى، والله أعلم.
811 -
وعن جابر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه أو أهله فهو طاهر". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وكذلك ابن حبان (1).
الحديث من رواية ابن عقيل، وأخرجه ابن ماجه (2) من رواية ابن عقيل
(1) أحمد 3/ 301، وأبو داود، كتاب النكاح، باب في نكاح العبد بغير إذن سيده 2/ 234 ح 2078، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في نكاح العبد بغير إذن سيده 3/ 419، 420 ح 1111، 1112، وقد عزاه الحافظ للحاكم بدلًا من ابن حبان في التلخيص 3/ 165، وهو في المستدرك 2/ 194.
(2)
ابن ماجه 1/ 630 ح 1959 بلفظ: إذا تزوج العبد.
عن ابن عمر (أ [وقال التِّرمذيُّ: لا يصح وإنَّما هو عن جابر. وأبو داود (1) من حديث العمري عن نافع عن ابن عمر] أ) بلفظ: "فنكاحه باطل". وتعقبه بالتضعيف وتصويب وقفه. ورواه ابن ماجه (2) من حديث ابن عمر بلفظ ثالث: "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو زان". وفيه مندل بن علي وهو ضعيف. وقال أحمد بن حنبل (3): هذا حديث منكر. وصوب الدارقطني (4) في "العلل" وقف هذا المتن على ابن عمر، ولفظ الموقوف أخرجه عبد الرَّزاق (5) عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، أنَّه أحَدَّ (ب) عبدًا له تزوج بغير إذنه، ففرق بينهما وأبطل صداقه وضربه حدًّا.
الحديث فيه دلالة على أن نكاح العبد بغير إذن مالكه لا يصح، وهل يكون حكمه حكم الزنى؟ فالجمهور على ذلك، إلَّا أنَّه إذا كان جاهلًا للتحريم سقط عنه الحد، ولحق النسب به. وذهب الإمام يَحْيَى إلى أن العقد الباطل لا يكون له حكم الزنى هنا ولو كان عالمًا. وقال: إن العقد شبهة يدرأ به الحد؛ لأنَّ فيه خلاف داود في صحة نكاح العبد بغير إذن سيده؛ لأنَّ النكاح عنده فرض عين، فهو كسائر فروض الأعيان لا يحتاج
(أ- أ) ما بينهما ساقط من النسخ. والمثبت من التلخيص 3/ 165.
(ب) كذا في النسخ وإحدى مخطوطات مصنف عبد الرَّزاق، وفي المصنف: وجد. ولعل الصواب: أخذ. وينظر نصب الراية 3/ 204.
_________
(1)
أبو داود 2/ 235 ح 2079.
(2)
ابن ماجه 1/ 360 ح 1960.
(3)
العلل المتناهية 2/ 133، والتلخيص 3/ 165.
(4)
ينظر التلخيص 3/ 165.
(5)
عبد الرَّزاق 7/ 243 ح 12981.
إلى إذن السيد، ويجاب عنه بأن الظاهر من قوله: فهو عاهر. يدل على أنَّه زنى حقيقة، وتأويله بأنه من باب التشبيه البليغ خلاف الظاهر من دون قرينة، فإن تزوج بغير إذن سيده كان قالعقد موقوفًا ينفذ بالإجازة. وذهب الناصر والشّافعيّ إلى أنَّه لا ينفذ بالإجازة؛ لقوله:"فهو عاهر". والجواب بأنه عاهر إذا لم يحصل إجازة، إلَّا أن الشَّافعي والناصر لا يصح عندهما إجازة الموقوف، وذهب مالك إلى أن العقد نافذ إلَّا أن السيد له فسخه. والحديث يدل على أنَّه لا يحتاج إلى فسخ كما ذهب إليه العترة والشّافعيّ إن حمل على ظاهره، ولكنه لا يتم ذلك على كل قول، إلَّا على قول الشَّافعي والناصر؛ لأنَّ العهر -وهو الزنى- لا تلحقه الإجازة، فلا بد من تأويله بالحمل على التشبيه البليغ، ومع ذلك فهو يحتمل ما ذهب إليه مالك من حيث إنه غير مستقر، لأنَّ للسيد فسخه، فهو يشبه ما لا اعتبار له رأسًا كالعهر، ويحتمل ما ذكره الهدويَّة أنَّه كالعاهر؛ لأنَّه إذا لم يجزه السيد كان عاهرًا، وإذا أجازه نفذ، فهو في الابتداء كالعاهر.
812 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يُجْمَعُ بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها". متَّفقٌ عليه (1).
قوله: "لا يجمع". بلفظ المضارع المبني للمجهول مرفوعًا على أن "لا"
(1) البُخاريّ، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها 9/ 160 ح 5109، ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها 2/ 1028 ح 1408.
نافية غير ناهية، فهو خبر في معنى النَّهي، وهو كثير في اللغة، (أظاهر في أ) تحريم الجمع بينهما، سواء كان ذلك مرتبًا أو في عقد واحد معًا، إلَّا أنَّه مع التَّرتيب يبطل العقد على الثَّانية، وفي الجمع بينهما في عقد واحد، يبطلان جميعًا. قال الشَّافعي (1): تحريم الجمع بين من ذكر هو قول من لقيته من المفتين، لا اختلاف بينهم في ذلك. وقال التِّرمذيُّ (2)، بعد تخريجه: العمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافًا؛ أنَّه لا يحل للرجل أن يجمع المرأة وعمتها أو خالتها، ولا أن ينكح المرأة على عمتها أو خالتها. وقال ابن المنذر (3): لست أعلم في منع ذلك اختلافًا اليوم، وإنَّما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وكذا ابن عبد البر (4) نقل الإجماع، وكذا ابن حزم (5) والقرطبي (6)، والنووي (7). واستثنى ابن حزم عثمان البتي وهو أحد الفقهاء القدماء من البصرة، وهو بفتح الموحدة وتشديد التاء المثناة، واستثنى النواوي والإمام المهدي طائفة من الخوارج والضيعة، والقرطبي حكى الخلاف عن الخوارج، وزاد أيضًا في الرّواية عنهم جواز الجمع بين الأختين، والظاهر أن نقله عنهم جواز الجمع بين الأختين غلط؛ لأنَّ ذلك نص القرآن، وهم يعتمدون نصوص القرآن، وإنَّما مخالفتهم للسنة؛ لطعنهم في أكثر الصّحابة رضوان الله عليهم.
(أ- أ) في ب، جـ: ظاهره.
_________
(1)
الأم 5/ 5.
(2)
التِّرمذيُّ 3/ 433 ح 1126.
(3)
الإشراف على مذاهب أهل العلم 1/ 81.
(4)
التمهيد 18/ 277.
(5)
المحلى 11/ 150.
(6)
تفسير القرطبي 5/ 125.
(7)
شرح مسلم، 9/ 190، 191.
وأعلم أنَّه يلزم الحنفية أن يجوزوا الجمع بين المرأة وعمتها؛ لأنهم يقدمون (أ) العمل بعموم الكتاب على أخبار الآحاد؛ لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1)، إلَّا أن صاحب "الهداية" من الحنفية انفصل عن هذا بأن هذا الحديث مشهور، والمشهور له حكم القطعي، ولا سيما مع الإجماع من الأمة وعدم الاعتداد بالمخالف. والرضاع حكمه حكم النسب، وقد روي عن الهادي أنَّه أحل ذلك من الرضاع، وقد أجيب بأن الهادي إنَّما قصد الفرق بين الرضاع والنسب في العلة، وأمَّا الحكم فواحد.
وأعلم أن هذا الحكم قد روي عن جماعة من الصّحابة، إلَّا أنَّه قال الشَّافعي (2): إن أهل العلم لا تثبت إلَّا الرّواية عن أبي هريرة. قال البيهقي (3): هو كما قال؛ قد جاء من حديث علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن [عمرو](ب) وأنس وأبي سعيد وعائشة، وليس فيها شيء على شرط الصَّحيح، وإنَّما اتفقا (4) على إثبات حديث أبي هريرة، وأخرج البُخاريّ (5) حديث جابر من رواية عاصم عن الشعبي عن جابر، وبين الاختلاف على الشعبي فيه، وقال: والحفاظ يرون رواية عاصم خطأ، والصّواب رواية ابن عون وداود بن أبي هند. انتهى.
(أ) في جـ: يقولون.
(ب) في النسخ: "عمر". والمثبت من مصدر التخريج.
_________
(1)
الآية 24 من سورة النساء.
(2)
الأم 5/ 5.
(3)
البيهقي 7/ 166.
(4)
يعني البُخاريّ ومسلمًا. وينظر مصدر التخريج.
(5)
البُخاريّ 9/ 160 ح 5108.
ولكن هذا الاختلاف لا يقدح عند البُخاريّ، لأنَّ الشعبي أشهر بجابر منه بأبي هريرة، وللحديث طريق أخرى عن جابر بشرط الصَّحيح أخرجها النَّسائيّ (1) من طريق ابن جريج عن أبي الزُّبير عن جابر، والحديث أيضًا محفوظ من أوجه عن أبي هريرة، فلكل من الطريقين ما يعضده، وقول من نقل البيهقي عنهم تضعيف حديث جابر معارض بتصحيح التِّرمذيِّ وابن حبان وغيرهما له، وكفى بتخريج البخاري له موصولًا قوة. [وقد أخرج التِّرمذيُّ أيضًا من حديث أبي موسى، وأبي أمامة وسمرة](2). قال المصنف (3) رحمه الله تعالى: ووقع لي (أ) أيضًا من حديث أبي الدرداء ومن حديث عتاب بن أسيد، ومن حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود، وأحاديثهم موجودة عند ابن أبي شيبة وأحمد وأبي (ب) داود والنَّسائيُّ وابن ماجه وأبي يعلى والبزار والطبراني وابن حبان وغيرهم (4).
(أ) في جـ: له.
(ب) في جـ: وابن أبي.
_________
(1)
النَّسائيّ 6/ 98.
(2)
ينظر التِّرمذيُّ 3/ 433 وفيه: وفي الباب عن علي وابن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد وأبي أمامة وجابر وعائشة وأبي موسى وسمرة بن جندب. ولم يخرج شيئًا من هذه الروايات.
(3)
الفتح 9/ 161.
(4)
ابن أبي شيبة 4/ 246، 247 من حديث أبي سعيد وابن مسعود وابن عمرو وابن عمر، وأحمد 2/ 179 من حديث ابن عمرو، وأبو داود 1/ 477 ح 2067 من حديث ابن عباس به، والنَّسائيُّ 6/ 406، 407 من حديث أبي هريرة وجابر به، وابن ماجه 1/ 621 ح 1930 من حديث أبي سعيد، ح 1931 من حديث أبي موسى به، وأبو يعلى 13/ 193 ح 7225 من حديث أبي موسى به، والبزار 4/ 289، 290 ح 1462 من حديث زينب امرأة ابن مسعود عن ابن مسعود به، والطبراني في الكبير 17/ 162 ح 426 من حديث عتاب بن أسيد به، وفي الأوسط 6/ 117 ح 5973 من حديث سمرة به. ابن حبان 9/ 426 ح 4116 من حديث ابن عباس به.
وفي لفظ حديث ابن عباس عند أبي داود: كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين، وفي رواية عند ابن حبان نهى أن تزوج المرأة على العمة والخالة. وقال:"إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامَكن". وهذه الروايات (أ) يؤيد بعضها بعضًا، والله أعلم.
813 -
وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا يُنكح". رواه مسلم (1)، وفي رواية له:"ولا يخطب"(2). زاد ابن حبان (3): "ولا يخطب عليه".
تقدم الكلام عليه في كتاب الحج (4).
814 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: تزوج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم. متَّفقٌ عليه (5). ولمسلم (6) عن ميمونة نفسها أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حَلال. وفي رواية عن ابن عباس عند النَّسائيّ (7): تزوج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم؛ جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها إياه.
(أ) في جـ: الرّواية.
_________
(1)
مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته 2/ 1030 ح 42/ 1409.
(2)
تقدم ح 568.
(3)
ابن حبان 9/ 434 ح 4124.
(4)
ينظر ما تقدم في 5/ 250 - 252.
(5)
البُخاريّ، كتاب الحج، باب تزويج المحرم 4/ 51 ح 1837، ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته 2/ 1031، 1032 ح 46، 47/ 143.
(6)
مسلم، الموضع السابق 2/ 1032 ح 48/ 1411.
(7)
النسائي 6/ 88.
وللبخاري (1) في عمرة القضاء بزيادة: وبنى بها وهي حلال وماتت بسرف.
والحديث فيه دلالة على صحة عقد المحرم، كما ذهب إليه الحنفية، وخالفهم الجمهور كما تقدم في كتاب الحج، وأجابوا عن حديث ابن عباس بأجوبة. قال الأثرم (2): قلت لأحمد: إن أبا ثور يقول: بأي شيءٍ يدفع حديث ابن عباس؟ أي مع صحته. قال: فقال: الله المستعان، ابن المسيب يقول: وَهَمَ ابن عباس. وميمونة تقول: تزوجني وهو حلال. انتهى. وحديث عثمان يعارضه. قال ابن عبد البر (3): اختلفت الآثار في هذا الحكم، لكن الرّواية أنَّه تزوجها وهو حلال جاءت من [طرق](أ) شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد، لكن الوهم إلى الواحد أقرب إلى الوهم من الجماعة، فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما، وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم، فهو المعتمد. انتهى. ويترجح حديث عثمان بأنه [لتقعيد](ب) قاعدة، وحديث ابن عباس واقعة عين يحتمل أنواعًا من الاحتمالات؛ منها، أن ابن عباس كان يرى أن مَن قلّد الهدي يصير (جـ) محرمًا، والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان قلّد الهدي (د) في عمرته تلك التي
(أ) في الأصل: طريق.
(ب) في الأصل: لتقعية.
(جـ) في ب، جـ: صار.
(د) ساقطة من: ب.
_________
(1)
البُخاريّ 7/ 509 ح 4258.
(2)
الفتح 9/ 165.
(3)
التمهيد 3/ 153.
تزوج فيها ميمونة، فيكون إطلاقه أنَّه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم؛ أي عقد عليها بعد أن قلّد الهدي وإن لم يكن تلبّس بالإحرام، وذلك أنَّه كان أرسل إليها أبا رافع يخطبها، فجعلت أمرها إلى العباس، تروجها من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرج التِّرمذيُّ، وابن خزيمة وابن حبان (1) في [صحيحيهما] من طريق مَطَر الورَّاق عن ربيعة بن [أبي](أ) عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما. قال التِّرمذيُّ (2): لا نعلم أحدًا أسنده غير حماد بن زيد، عن مطر، ورواه مالك (3) عن ربيعة عن سليمان مرسلًا.
ومنها أن معنى محرم أي داخل في الحرم أو في الشهر الحرام. وقد ورد ذلك عن العرب، وجزم بهذا التأويل ابن حبان في "صحيحه" (4). وعارض حدَّثنا ابن عباس أيضًا حديث يزيد بن الأصم أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حَلال. أخرجه مسلم (5) من طريق الزُّهريّ. قال: وكانت خالته كما كانت خالة ابن عباس (6). وأخرج مسلم (5) من وجه آخر عن يزيد بن
(أ) ساقط من النسخ، والمثبت من مصادر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 9/ 123.
_________
(1)
التِّرمذيُّ 3/ 200 ح 841، وابن خزيمة كما في الفتح 9/ 166، وعن ابن خزيمة ابن حبان 9/ 442 ح 4135، وابن حبان 9/ 438 ح 4130.
(2)
التِّرمذيُّ 3/ 200، 201 عقب ح 841.
(3)
الموطأ 1/ 348.
(4)
ابن حبان 9/ 438.
(5)
مسلم 2/ 1032 ح 46/ 1410.
(6)
مسلم 2/ 1032 ح 1411.
الأصم، قال: حدثتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس.
قال الطبري (1): الصواب من القول عندنا أن نكاح المحرم فاسد؛ لصحة حديث عثمان، وأما قصة ميمونة؛ فتعارضت الأخبار فيها. ثم ساق من طريق أيوب قال: أنبئت أن الاختلاف في زواج ميمونة إنما وقع، لأنه صلى الله عليه وسلم كان بعث إلى العباس ينكحها منه، فأنكحه، فقال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بعد ما أحرم. وقد ثبت أن عمر وعليًّا رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة فرّقوا بين محرم نكح وبين امرأته (2)، ولا يكون هذا إلا عن ثبت.
فائدة: ذكر ابن عبد البر (3) أن ابن عباس اختص من بين الصحابة بهذه الرواية، وليس كذلك، فقد أخرج النسائي من طريق أبي سلمة (4) عنه عن عائشة مثله، وأخرجه الطحاوي والبزار (5) من رواية مسروق عنها، وصححه ابن حبان (6)، وقد أعلّ بالإرسال كما ذكر النسائي عن [عمرو](أ) بن علي أنه
(أ) في النسخ: عمر. والمثبت من مصدر التخريج، وينظر تهذيب الكمال 22/ 162.
_________
(1)
الفتح 9/ 166.
(2)
ينظر ابن أبي شيبة 5/ 167 ح 13116، وسنن البيهقي 5/ 66.
(3)
التمهيد 3/ 153.
(4)
كذا في الفتح 9/ 166، وقد أخرجه النسائي في الكبرى 3/ 289 ح 5409 من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة.
(5)
شرح معاني الآثار 2/ 269، والبزار 2/ 167 ح 1443 - كشف.
(6)
ابن حبان 9/ 440 ح 4132.
قال لأبي عاصم: أنت أمليت علينا مِن الرقعة ليس فيه عائشة. فقال: دع عائشة حتى أنظر فيه. وهذا إسنادٌ صحيح لولا هذه القصة، لكنه شاهد قوي. وأخرج الدارقطني (1) عن أبي هريرة مثله، وفي إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف (2)، لكنه يعتضد (أ) بحديثي (ب) ابن عباس وعائشة. وجاء عن الشعبي ومجاهد مرسلًا مثله، أخرجهما ابن أبي شيبة (3). وأخرج الطحاوي (4) من طريق عبد الله بن محمد بن أبي بكر. قال: سألت أنسًا عن نكاح المحرم، فقال: لا بأس به، هل هو إلا كالبيع. وإسناده قوي، وكأن أنسًا لم يبلغه حديث عثمان، والله أعلم.
815 -
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به (جـ) الفروج". متفق عليه (5).
هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري:"أحق ما أَوفيتم من الشروط أن توفوا به مَا استحللتم به الفرج (د) ". والمراد أن أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح؛
(أ) في ب: معتضد.
(ب) في جـ: بحديث.
(جـ) زاد بعده في الأصل: من.
(د) في البخاري: الفروج.
_________
(1)
الدارقطني 3/ 263.
(2)
تقدمت ترجمته في 3/ 116.
(3)
الفتح 9/ 166.
(4)
شرح معاني الآثار 2/ 273.
(5)
البخاري، كتاب النكاح، باب الشروط في النكاح 9/ 217 ح 5151، ومسلم، كتاب النكاح، باب الوفاء بالشروط في النكاح 2/ 1035 ح 1418.
لأن أمره أحوط، وبابه أضيق.
الحديث فيه دلالة على أن الشروط المذكورة في عقد النكاح يلزم الوفاء بها، وظاهره سواء كان الشرط عرضًا (أ) أو مالًا، حيث كان الشرط للمرأة؛ لأن استحلال الفرج إنما يكون فيما يتعلق بها أو ترضَى به لغيرها، وللعلماء في ذلك تفصيل وخلاف. قال الخطابي (1): الشروط في النكاح مختلفة؛ فمنها مَا يجب الوفاء به اتفاقًا، وهو ما أمر الله به؛ من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث، ومنها ما لا يوفى به اتفاقًا، كسؤال طلاق أختها؛ كما ورد النهي عنه (2)، ومنها ما اختلف فيه؛ كاشتراط ألا يتزوج عليها، أو لا يتسرى، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله، وعند الشافعية الشروط في النكاح على ضربين؛ منها ما يرجع إلى الصداق، فيجب الوفاء به، وما يكون خارجًا عنه فيختلف الحكم فيه، فمنه ما يتعلق بحق الزوج وسيأتي بيانه، ومنه ما يشترطه العاقد لنفسه خارجًا عن الصداق، وبعضهم يسميه الحلوان. فقيل: هو للمرأة مطلقًا. وذهب إليه الهادي وأبو طالب فقالوا: ما شرط لغيرها مع مهرها استحقته لا الغير، إلا أن تبرع به من بعد. وهو قول عطاء وجماعة من التابعين، وبه قال الثوري وأبو عبيد. وقيل: هو لمن شرطه. قاله مسروق وعلي بن الحسين. وقيل: يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء. وقال الشافعي: إن وقع في نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجًا عنه لم يجب. وقال مالك: إن
(أ) في ب: غرضا.
_________
(1)
ينظر الفتح 9/ 217، 218.
(2)
تقدم ح 645.
وقع في حال العقد فهو من جملة المهر، أو خارجًا عنه فهو لمن وهب له. وفيه حديث عبد الله بن [عمرو] (أ) مرفوعًا:"أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عِدَة قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن [أعطيه] (ب)، وأحق ما أكرم به الرجل ابنته أو أخته" أخرجه النسائي (1) من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. [وأخرج](جـ) البيهقي (2) من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن عروة عن عائشة نحوه، وقال الترمذي (3) بعد إخراجه (د): والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة؛ منهم عمر، قال: إذا تزوج الرجل المرأة وشرط ألا يخرجها لزم. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق؛ كذا قال، والنقل في هذا غريب عن الشافعي، وروى في "البحر" هذا القول عن عمر، ومعاوية، ثم عمر بن عبد العزيز، وشريح، وأحمد، وأبي الشعثاء (4)، ولها الفسخ إن لم يف لها بالشرط، والظاهر من قول الشافعية أن المراد بالشروط هي (هـ) التي لا
(أ) في النسخ: "عمر". والمثبت من مصدر التخريج.
(ب) في الأصل: أعطته. وعند النسائي: أعطاه.
(جـ) في الأصل: وأخرجه.
(د) في ب، جـ: تخريجه.
(هـ) ساقطة من: ب.
_________
(1)
النسائي 6/ 120.
(2)
البيهقي 7/ 248.
(3)
الترمذي 3/ 434 عقب ح 1127.
(4)
ينظر عبد الرزاق 6/ 226 - 229، ح 10606، 10608، 10610 - 10612، 10615، 10617، وابن أبي شيبة 4/ 199، 200.
تنافي النكاح، بل تكون من مقتضياته ومقاصده، كاشتراط العِشرة بالمعروف والإنفاق والكسوة والسُّكنَى، وألا يقصر في شيء من حقها من قسمةٍ ونحوها، وكشرطه عليها ألا تخرج إلا بإذنه ولا تمنعه نفسها، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه، ونحو ذلك، وأما شرط ينافي مقتضى النكاح؛ كألا يقسم لها، أو لا يتسرى عليها أو لا ينفق، أو نحو ذلك فلا يجب الوفاء به، بل إن وقع في صلب العقد لغا وصح النكاح بمهر المثل، وفي وجه يجب المسمى ولا أثر للشرط، وفي قول [للشافعي] (أ): يبطل النكاح. قال الترمذي (1): وقال علي رضي الله عنه: سبق شرط الله شرطها. قال: وهو قول الثوري، وبعض أهل الكوفة، والمراد في الحديث الشروط الجائزة لا المنهي عنها. انتهى. وقد اختلف عن عمر فروى ابن وهب (2) بإسنادٍ جيد عن عبيد (ب) بن السباق، أن رجلًا تزوج امرأة فشرط لها ألا يخرجها من دارها، فارتفعوا إلى عمر فوضع الشرط، وقال: المرأة مع زوجها. قال أبو عبيد (3): تضادت الروايات عن عمر في هذا، وقد قال بالقول الأول عمرو بن العاص وطاوس والأوزاعي، وقال الليث والثوري والجمهور بقول علي:
(أ) في الأصل: الشافعي.
(ب) كذا في النسخ والفتح، وفي مصادر التخريج: سعيد بن عبيد بن السباق، وينظر التمهيد 18/ 169.
_________
(1)
الترمذي 3/ 434 عقب ح 1127 ولفظه: شرط الله قبل شرطها.
(2)
سعيد بن منصور في سننه 1/ 183 ح 670، ومن طريقه البيهقي 7/ 249، عن ابن وهب به، وسحنون في المدونة 2/ 197 من طريق ابن وهب.
(3)
الفتح 9/ 218.
حتى لو كان صداق مثلها مائة مثلًا فرضيت بخمسين على ألا يخرجها، فله إخراجها ولا يلزمه إلا المسمَّى. وقالت الحنفية: لها أن ترجع عليه بما نقصته له مِن الصداق، وهو مقتضى قول الهَدويَّة. وقال الشافعي: يصح النكاح ويلغو الشرط، ويلزمه مهر المثل. وعنه، يصح وتستحق الكل. قال أبو عبيد: والذي نأخذ به أنا نأمره بالوفاء بشرطه من غير أن [نحكم](أ) عليه بذلك. قال: وقد أجمعوا على أنها لو اشترطت عليه ألا يطأها لم يجب الوفاء بذلك الشرط، فكذلك هذا. وهذا يقتضي حمل الحديث على الندب، ويؤيد حمله على الندب قوله في حديث بريرة:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"(1). والوطء والإسكان وغيرهما من حقوق الزوج، إذا شرط عليه إسقاط شيء منها كان شرطًا ليس في كتاب الله، فيبطل. وقد تقدم في البيوع الإشارة إلى حديث:"المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرَّم حلالًا"(2). وحديث: "المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق"(3) وأخرج الطبراني في "الصغير"(4) بإسنادٍ حسن عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم مبشر (ب) بنت البَراء بن معرور فقالت: إني شرطت لزوجي ألا أتزوج بعده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا لا يصلح".
(أ) في الأصل: يحكم.
(ب) في ب، جـ: ميسر. وينظر الإصابة 8/ 300.
_________
(1)
تقدم ح 626.
(2)
تقدم ح 704.
(3)
ابن الجارود 2/ 205 - 207 ح 637 - غوث المكدود، والدارقطني 3/ 27، والحاكم 2/ 49، 50.
(4)
الطبراني 2/ 138.
816 -
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام، ثم نهى عنها. رواه مسلم (1).
الحديث فيه دلالة على (أ) أنه قد وقع الترخيص بنكاح المتعة، ثم نهي عنه من بعد وصار ذلك محرمًا، ونكاح المتعة هو النكاح المؤقت إلى أمد مجهول أو معلوم، وغايته إلى خمسة وأربعين يومًا، ويرتفع النكاح بانقضاء الوقت المذكور في المنقطعة الحيض، والحائض بحيضتين، والمتوفى عنها بأربعة (ب) أشهر وعشر، ولا يثبت لها مهر بل المشروط، ولا تثبت لها نفقة، ولا توارث، ولا عدة، إلا الاستبراء بما ذكر، ولا نسب يثبت به إلا أن يشترط، وتحرم المصاهرة بسببه، كذا ذكر في كتب الإمامية، وقد ذهب إلى نسخها والقول بالتحريم الجمهور من السلف والخلف بعد أن وقع الترخيص في ذلك، وقد روي تحريمها بعد الترخيص في ستة مواطن؛ الأول: خيبر كما سيأتي في حديث علي (2). الثاني: عمرة القضاء. قال عبد الرزاق في "مصنفه"(3) عن (جـ معمر، عن الحسن، قال جـ): ما حلت المتعة قط إلا ثلاثًا في عمرة القضاء، ما حلت قبلها ولا بعدها. وشاهده ما رواه ابن حبان في
(أ) ساقطة من: ب، جـ.
(ب) في ب، جـ: أربعة.
(جـ - جـ) كذا في النسخ. وفي مصدر التخريج: عن معمر والحسن قالا. وفي التمهيد 10/ 107، والتلخيص الحبير 3/ 155، والفتح 9/ 169: عن معمر عن عمرو عن الحسن قال.
_________
(1)
مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة 2/ 1022 ح 18 - 1405.
(2)
سيأتي ح 817، 818.
(3)
مصنف عبد الرزاق 7/ 503 ح 14040.
"صحيحه"(1) من حديث سَبرة بن معبد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضينا عمرتنا قال لنا: "ألا تستمتعون مِن هذه النساء". قال المصنف رحمه الله تعالى في "فتح الباري"(2): أما عمرة القضاء فلم يصح الأثر فيها؛ لكونه من مرسل الحسن، ومراسيله ضعيفة؛ لأنه كان يأخذ عن كل أحد. وعلى تقدير ثبوته، فلعله أراد أيام خيبر؛ لأنهما كانا في سنة واحدة. هذا كلامه وقد عرفت تصحيح ابن حبان لذلك. الثالث: عام الفتح، رواه مسلم (3) من حديث سبرة بن معبد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن متعة النساء يوم الفتح. وفي لفظ له (4): أمرنا بالمتعة عام الفتح حتى دخلنا مكة ثم لم نخرج حتى نهانا عنها. وفي لفظ له (5): ثم (أ) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة". الرابع: عام أوطاس كما ذكره المصنف هنا. قال السهيلي (6): من قال: عام أوطاس فهو موافق لمن قال: عام الفتح؛ لأنهما في عام واحد. وفيه نظر؛ لأن الفتح كان في شهر رمضان، وأوطاس في شهر (ب) شوال، وقد عرفت من سياق مسلم للرواية أنهم ما خرجوا من مكة
(أ) ساقطة من: ب، جـ.
(ب) ساقطة من: ب، جـ.
_________
(1)
ابن حبان 9/ 454 ح 4147.
(2)
الفتح 9/ 170.
(3)
مسلم 2/ 1026 ح 25 - 1406.
(4)
مسلم 2/ 1025 ح 22 - 1406.
(5)
مسلم 2/ 1025 ح 21 - 1406.
(6)
الروض الأنف 6/ 558، 559.
إلا وقد حرمت عليهم، فهذه رخصة متأخرة، وتعقبها نسخ آخر، وهذا ظاهر الرواية، إلا أنه يحتمل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس؛ لتقاربهما، ولم يكن في الحديث تصريح بأنهم تمتعوا بالنساء في غزوة أوطاس، مع أنه يبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن وقَع التصريح قبلها في غزوة الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة، فتقرر الرخصة والتحريم في غزوة الفتح من غير معارض. الخامس، غزوة تبوك، رواه الحازمي (1) من طريق عباد بن كثير، عن ابن عقيل، عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، حتى إذا كنا عند الثنية مما يلي الشام جاءنا نسوة تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن، فأخبرناه فغضب، وقام فينا يخطبنا، فحمد الله وأثنى عليه ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ ولم نعد، ولا نعود فيها أبدًا، فسميت ثنية (أ) الوداع. وهذا الإسناد ضعيف، ولكن يؤيده ما أخرجه إسحاق بن راهويه، وابن حبان (2) من طريقه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل ثنية الوداع، رأى مصابيح وسمع نساء يبكين، فقال:"ما هذا؟ ". فقالوا: يا رسول الله، نساء كانوا يتمتعون منهن. فقال:"هدم المتعةَ النكاحُ والطلاقُ والميراثُ". وأخرجه البيهقي (3) أيضًا.
(أ) في ب: بثنية.
_________
(1)
الاعتبار ص 140.
(2)
ابن حبان 9/ 456 ح 4149.
(3)
البيهقي 7/ 207.
قال المصنف (1) رحمه الله: ليس في القصة ما يدل على أنهم وقع منهم الاستمتاع منهن في تلك الحال، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديمًا وجاءت النسوة على ما ألِفن منهم فوقع التوديع حينئذ، أو أنه وقع من البعض بناء على الرخصة المتقدمة ولم يبلغه النهي فاستمر على الرخصة، فلذلك قرن بالغضب؛ لتقدم النهي، وحديث جابر من رواية عباد (2)، وهو متروك، وحديث أبي هريرة من رواية مؤمل بن إسماعيل (3) عن عكرمة بن عمار (4)، وفيهما مقال.
السادس: حجة الوداع، رواه أبو داود (5) مِن طريق الربيع بن سَبرة وقال: أشهد على أبي أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عنها في حجة الوداع. والرواية عنه بأنها في غزوة الفتح، وهي أصح وأشهر، فإن كان حديثًا محفوظًا فليس في سياق الحديث أنه وقع الترخيص في حجة الوداع ثم نهى عنها، وإنما فيها النهي، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد إعادة النهي ليشِيع ويسمعه من لم يسمعه قبل ذلك، ويحتمل أن يكون قد انتقل ذهن أحد الرواة من الفتح إلى حجة الوداع، فإن أكثر الروايات عن سَبرة في الفتح. وقال الماوردي (6): يحتمل أن يكون التحريم تكرر والرخصة مرة واحدة، ويحتمل أنها أبيحت
(1) الفتح 9/ 170.
(2)
تقدمت ترجمته في 2/ 39.
(3)
تقدمت ترجمته في 3/ 52.
(4)
تقدمت ترجمته في 2/ 67.
(5)
أبو داود 2/ 233 ح 2072.
(6)
الفتح 9/ 170.
مرارًا؛ ولهذا قال في المرة الأخيرة: "إلى يوم القيامة". قال النووي (1): الصَّواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين، وكانت مباحة قبل خيبر، ثم حرمت فيها، ثم أبيحت عام الفتح، وهو عام أوطاس، ثم حرمت تحريمًا مؤبدًا، ولا مانع من تكرير الإباحة. ونقل غيره عن الشافعي، أن المتعة نسخت مرتين، ويدل عليه حديث ابن مسعود (2) في سبب الإذن (أفي المتعة أ)؛ أنهم كانوا إذا غزوا اشتدت عليهم العزبة؛ فأذن لهم في الاستمتاع، فلعل النهي كان يتكرر في كل موطن بعد الإذن، فلما وقع في المرة الأخيرة أنها حرمت إلى يوم القيامة لم يقع بعد ذلك إذن والله أعلم. وكذا أخرج ابن عبد البر (3) من حديث سهل بن سعد بلفظ: إنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة ثم نهى عنها. فلما فتحت خيبر وسع عليهم من المال ومن السبي، فناسب النهي عن المتعة لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة الله على التوسعة بعد الضيق، أو كانت الإباحة إنما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بعد ومشقة، وخيبر بخلاف ذلك؛ لأنها بقرب المدينة، فوقع النهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدم إذن فيها، ثم لما عادوا إلى سفرة بعيدة المدة وهي غزاة الفتح، وشقت عليهم العزوبة أذن لهم في
(أ - أ) في ب: بالمتعة.
_________
(1)
شرح مسلم 9/ 181.
(2)
أحمد 1/ 420، والبخاري 8/ 276، 9/ 117، ح 4615، 5075.
(3)
التمهيد 10/ 109، 110.
المتعة، لكن مقيدا بثلاثة أيام فقط دفعًا للحاجة، ثم نهاهم بعد انقضائها عنها كما سيأتي، وهكذا يجاب (أ) عن كل سَفْرة ثبت فيها النهي بعد الإذن، وأما حجة الوداع فالذي يظهر أن الذي وقع فيها النهي مجردًا -إن ثبت الخبر في ذلك- لأن الصحابة حجوا فيها بنسائهم بعد أن وسع عليهم فلم يكونوا في شدة ولا طول عزبة، وإلا فحديث سَبرة المروي في ذلك وقع عليه الاختلاف في تعيين الغزوة، والحديث واحد في قصة واحدة فيتعين الترجيح، والطريق التي أخرجها مسلم مصرحة بأنها في زمن الفتح أرجح، فتعين المصير إليها.
فإذا عرفت ما ذكر فجميع هذا المروي مقرر لنسخ حكمها، وأن ذلك منهي عنه محرم، وذهب إلى القول ببقاء الرخصة، وأن ذلك غير منسوخ؛ جماعة من الصحابة هم؛ عبد الله بن العباس، وأسماء بنت أبي بكر، وجابر ابن عبد الله، وابن مسعود، ومعاوية، وعمرو بن حُريث، وأبو سعيد، وسلمة [ومعبد](ب) ابنا أمية بن خلف، قال ابن حزم: ورواه جابر عن الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ومدة أبي بكر ومدة عمر إلى قرب آخر خلافته. قال: وروي عن عمر أنه إنما أنكرها إذا لم يشهد عليه عدلان فقط. وقال بها من التابعين طاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وسائر فقهاء مكة. قال: وقد تقصينا الآثار بذلك في كتاب "الإيصال". انتهى كلامه في
(أ) زاد بعده في الأصل: و.
(ب) في الأصل: وسعيد.
"المحلى"(1)، فأما ابن عباس؛ فروى الترمذي (2) ذلك وقال: كان يُجوِّز نكاح المتعة ثم رجع عنه. وعقد الترمذي لذلك بابًا مفردًا، وفي إسناده موسى بن عبيدة الرَّبَذي (3)، منسوب إلى الرَّبَذة لسكونه فيها، وهو ضعيف. وقد أخرجه البخاري (4) في باب النهي عن نكاح المتعة عن أبي جمرة الضبعي، أنه سأل ابن عباس عن متعة النساء فرخص [فيها] (أ). فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة؟ قال: نعم. وقد أخرجه الإسماعيلي في "مستخرجه"(5) بلفظ الجهاد بدل الحال الشديد. وفي كتاب "غرر الأخبار"(5) أخرجه عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: ما تقول في المتعة فقد أكثر الناس فيها حتى قال فيها الشاعر، قال: وما قال الشاعر؟ قال:
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه
…
يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
وهل ترى رَخْصَة (ب) الأطراف آنسة
…
تكون مثواك حتى مصدر (جـ) الناسِ
(أ) في الأصل: فيه.
(ب) في حاشية ب: الرخص بفتح الراء المهملة بعدها خاء ساكنة وصاد مهملة الشيء الناعم، وأصابع رخصة غير كزة. كذا في القاموس. من خط المؤلف.
(جـ) في جـ: يصدر.
_________
(1)
المحلى 11/ 141، 142.
(2)
الترمذي 3/ 430 ح 1122.
(3)
موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي، ضعيف. ولا سيما في عبد اللَّه بن دينار، وكان عابدًا. التقريب ص 552، وتهذيب التهذيب 10/ 356، وينظر ما تقدم في 3/ 231.
(4)
البخاري 9/ 167 ح 5116.
(5)
التلخيص 3/ 158.
قال: وقد قال الشاعر فيه؟ قلت: نعم. قال: فكرهَها، أو نَهَى عنها.
وأخرج الخطابي (1) عن سعيد بن جبير مثل هذا، وقال: قال ابن عباس: سبحان الله، والله ما بهذا أفتيت، وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا لمضطر. وأخرج البيهقي (2) عن ابن شهابٍ قال: ما مات ابن عباس حتى رجع عن هذه الفتيا. و [ذكره](أ)[أبو](ب) عوانة في "صحيحه"(3) أيضًا. وروى عبد الرزاق في "مصنفه"(4) عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباسٍ: كان يراها حلالًا ويقرأ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} (5). قال: وقال ابن عباسٍ: في حرف أبي بن كعب: (إلى أجل مسمى)(6). قال: وكان يقول: يرحم الله عمر، ما كانت المتعة إلا رحمة مِن الله رحم الله بها عباده، ولولا نهي عمر ما احتيج إلى الزنى أبدًا. وذكر ابن عبد البر (7) عن الليث بن [سَعد] (جـ) عن بكير بن الأشج عن [عمار] (د) مولى الشريد:
(أ) النسخ: ذكر. والمثبت يقتضيه السياق.
(ب) في الأصل: ابن.
(جـ) في الأصل: سعيد.
(د) في ب: عمارة. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر الثقات للعجلي ص 353.
_________
(1)
معالم السنن 3/ 191.
(2)
التلخيص 3/ 158.
(3)
مسند أبي عوانة 3/ 23.
(4)
عبد الرزاق 7/ 498 ح 14022.
(5)
الآية 24 من سورة النساء.
(6)
ينظر تفسير الطبري 6/ 588.
(7)
التمهيد 10/ 115.
سألت ابن عباس عن المتعة؛ أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا نكاح ولا سفاح. قلت: فما هي؟ قال: المتعة كما قال الله. قلت: هل عليها حيضة؟ قال: نعم. قلت: يتوارثان؟ قال: لا. وأخرج النسائي (1) من طريق مسلم القري، قال: دخلت على أسماء بنت أبي بكر فسألتها عن متعة النساء، فقالت: فعلناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما جابر ففي "مسلم"(2) من طريق أبي نضرة عنه: فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عنها عمر فلم نعد لها. وأما ابن مسعود ففي "الصحيحين"(3) عنه، قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننكح المرأة إلى أجل بالشيء. ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (4). وأما معاوية فأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(5) عن ابن جريج عن عطاء قال: أول من سمعت منه المتعة صفوان بن (أ) يعلى بن أمية قال: أخبرني يعلى أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف (ب) فأنكرت ذلك عليه، فدخلنا على ابن عباسٍ فذكرنا له ذلك، فقال: نعم. وأما عمرو بن حريث فوقعت الإشارة إليه فيما رواه مسلم (6) من طريق أبي الزبير: سمعت جابرًا يقول: كنا نستمتع بالقبضة من الدقيق
(أ) زاد في النسخ: أبي. والمثبت من مصدر التخريج. وينظر تهذيب الكمال 13/ 218.
(ب) في ب: في الطائف.
_________
(1)
النسائي في الكبرى 3/ 326 ح 5540.
(2)
مسلم 2/ 1023 ح 17 - 1405.
(3)
البخاري 9/ 117 ح 7075، ومسلم 2/ 122 ح 11 - 1404.
(4)
الآية 87 من سورة المائدة.
(5)
عبد الرزاق 7/ 496 ح 14021.
(6)
مسلم 2/ 1023 ح 16 - 1405.
والتمر الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهانا عنها عمر في شأن عمرو بن حُرَيث. وأما معبد وسلمة ابنا أمية فذكر [عمر بن شبة](أ) في "أخبار المدينة" بإسناده، أن سلمة بن أمية بن خلف استمتع بامرأة، فبلغ ذلك عمر، فتوعده على ذلك (1). وأخرج عبد الرزاق (2) قصة معبد، وأما رواية جابر (3) عن الصحابة فالظاهر أنه عنى بذلك ما فهم من قوله: تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. فإن فيه ما يدل على أن ذلك شائع بين الصحابة.
وذهب إلى القول ببقاء الإباحة؛ ابن جريج فقيه مكة والباقر والصادق والإمامة، محتجين بقوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} . فإنه فسرها ابن عباسٍ بنكاح المتعة، والقراءة بزيادة:(إلى أجل مسمى) مصرحة بالمراد. وأجاب الجمهور بما تقدم من النسخ بعد الإباحة كما تظافر بذلك روايات الإباحة، فإنها مقرونة بالنسخ، وكذا مَا تقدم عن ابن عباسٍ من الرجوع وغيره من الصحابة. وقال البخاري (4): بين علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ. وأخرج ابن ماجه (5) عن عمر بإسناد صحيح أنه خطب، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثًا ثم حرمها، والله لا أعلم
(أ) في النسخ: عمرو بن شيبة. وينظر تهذيب الكمال 21/ 386، وسير أعلام النبلاء 12/ 369.
_________
(1)
انظر تاريخ المدينة 2/ 719.
(2)
عبد الرزاق 7/ 499 ح 14027.
(3)
مسلم 2/ 1023 ح 15 - 1405.
(4)
البخاري 9/ 167 عقب حديث 5119.
(5)
ابن ماجه 1/ 631 ح 1963.
[أحدًا يتمتع](أ) وهو محصن إلا رجمته بالحجارة. وروى الطبراني في "الأوسط"(1) من طريق إسحاق بن راشد [عن الزهري](ب) عن سالم قال: [أُتي](جـ) ابن عمر فقيل له: إن ابن عباس يأمر بنكاح المتعة. فقال: معاذ الله، ما أظن ابن عباسٍ يفعل هذا. قيل: بلى. قال: وهل كان ابن عباس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غلامًا صغيرًا. ثم قال ابن عمر: نهانا عنها (د) رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كنا مسافحين. إسناده قوي. وروى الدارقطني (2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هدم المتعة الطلاقُ والعدةُ والميراثُ". وإسناده حسن. وأخرج [أبو](هـ) عوانة في "صحيحه"(3) عن ابن جريج أنه قال لهم في البصرة: اشهدوا أني قد رجعت عن حل المتعة. بعد أن حدثهم ثمانية عشر حديثًا أنه لا بأس بها. ومع هذا فكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا قال الأوزاعي فيما رواه الحاكم في "علوم الحديث"(4): يترك من قول أهل الحجاز خصر. [فذكر منها](و)
(أ) في الأصل: أحدا تمتع. وفي ب: أن أحدا تمتع.
(ب) ساقط من النسخ، والمثبت من مصدر التخريج. وينظر ترجمة الزهري في تهذيب الكمال 26/ 419.
(جـ) ساقط من النسخ، والمثبت من مصدر التخريج.
(د) ساقطة من: ب.
(هـ) في الأصل: ابن.
(و) في الأصل: فذكرها.
_________
(1)
الأوسط 9/ 119 ح 9295.
(2)
الدارقطني 3/ 259.
(3)
مسند أبي عوانة 3/ 31 عقب الحديث 4087.
(4)
معرفة علوم الحديث ص 65.
متعة النساء من قول أهل مكة، وإتيان النساء في أدبارهن من قول أهل المدينة.
وذهب زفر إلى أنه إذا وقع العقد إلى أجل أنه يصح العقد ويلغو التوقيت. وذهب ابن زياد إلى أنهما إن شرطا مدة لا يعيشان إليها صح العقد؛ إذ القصد الدوام. وقريبٌ من هذا ما ذكره الفقيه أحسن النحوي أن التوقيت بالموت لا يضر بالعقد، قال: لأنه غاية النكاح.
قال الإمام المهدي (1): قالوا: إباحتها قطعية فلا تنسخ بالظني. قال الإمام يحيى: بل ظني. قلت: وفيه نظر؛ إذ لم يسمع بمن أنكرها من الأصل. انتهى كلامه. وأنت خبير بأن الراوين لإباحتها رووا نسخها إلا القليل، وذلك إما قطعي في الطرفين، أو ظني في الطرفين جميعًا، والله سبحانه أعلم.
وقال في " [نهاية] (أ) المجتهد"(2): إنها تواترت الأخبار بالتحريم، إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم. قال الإمام المهدي في "البحر" (3): مسألةٌ: وتحريمها ظني لأجل الخلاف، [وإن صح] (ب) رجوع من أباحها لم تصر قطعية على خلاف بين الأصوليين. فرعٌ:[قيل](جـ): ولا
(أ) في الأصل: غاية.
(ب) في الأصل: وأوضح.
(جـ) ساقطة من: الأصل، ب.
_________
(1)
البحر 4/ 22.
(2)
الهداية تخريج أحاديث البداية 6/ 502، 506.
(3)
البحر 4/ 23.
يعتبر في المتعة من أجازها من أحكام النكاح إلا الاستبراء. أبو جعفر: بل يعتبر الولي والشهود. قلنا: أدلتهم وفعلهم يقتضي عدم الاعتبار. انتهى.
وأراد بقوله: على خلاف بين الأصولين. هو ما اشتهر من الخلاف في انعقاد الإجماع بعد الخلاف المستقر أم لا ينعقد؟ والمراد أنه لا يكون إجماعًا قطعيًّا، ولكن هذا مبني على اعتبار الخلاف، وقد عرفت فيما تقدم أن المبيحين إنما بنوا على الأصل لما لم يبلغهم الدليل الناسخ، وليس مثل هذا من باب الاجتهاد، وإنما هم معذورون لجهل الناسخ، والمسألة لا اجتهاد فيها بعد ظهور النص، والله أعلم.
817 -
وعن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة في عام خيبر. متفق عليه (1).
الحديث في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر. بالمعجمة أوله والراء آخره، هكذا لجميع أصحاب الزهري، إلا ما رواه عبد الوهاب الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن مالك في هذا الحديث، فإنه قال: حنين. بمهملة أوله ونونين، أخرجه النسائي والدارقطني (2)، ونبها على أنه وهْم تفرد به عبد الوهاب، وأخرجه الدارقطني (3) من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد فقال: خيبر. على الصواب.
(1) البخاري كتاب الذبائح، باب لحوم الحمر الإنسية 9/ 653 ح 5523، ومسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة
…
2/ 1027 ح 1407.
(2)
النسائي 6/ 126، والدارقطني كما في التلخيص 3/ 155.
(3)
علل الدارقضي 4/ 117.
وقوله: في عام خيبر. وكذا: زمن خيبر. الظاهر أنه ظرف للمتعة ولتحريم لحوم الحمر الأهلية، وحكى البيهقي (1) عن الحميدي أن سفيان بن عيينة كان يقول: قوله: في خيبر. يتعلق بالحمُر الأهلية لا بالمتعة. قال البيهقي: وما قاله محتمل. يعني في روايته هذه، وأما غيره فصرح أن الظرف يتعلق بالمتعة. وقد صرح بذلك البخاري في غزوة خيبر في (أ) كتاب المغازي (2)، وكذا في الذبائح (3) من طريق مالك بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية. وهكذا أخرجه مسلم (4) من رواية ابن عيينة أيضًا، وأخرجه البخاري (5) في ترك الحيل في رواية [عبيد](1) الله بن عمر، عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وكذا أخرجه مسلم (6)، وزاد من طريقه فقال: مهلًا يا بن عباس. ولأحمد (7) من طريق معمر بسنده أنه بلغه أن ابن عباس رخص في متعة النساء، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية. وأخرجه مسلم (8) من رواية يونس بن يزيد عن الزهري،
(أ) في الأصل: عبد.
_________
(1)
البيهقي 7/ 202.
(2)
البخاري 7/ 481 ح 4216.
(3)
البخاري 9/ 653 ح 5523.
(4)
مسلم 2/ 1027 ح 30 - 1407.
(5)
البخاري 12/ 333 ح 6961.
(6)
مسلم 2/ 1028 ح 31 - 1407.
(7)
أحمد 1/ 142.
(8)
مسلم 2/ 1028 ح 32 - 1407.
والدارقطني (1) عن مالك ويونس وأسامة بن زيد، ثلاثتهم عن الزهري، مثل ما أخرجه مسلم (2) في الذبائح من طريق مالك. وأما السهيلي (3) فذكر أن ابن عيينة رواه عن الزهري بلفظ: نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر وعن المتعة بعد ذلك، أو: في غير ذلك. قال المصنف (4) رحمه الله تعالى: وهذا الذي ذكره لم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد وابن أبي عمر والحميدي وإسحاق (5) في "مسانيدهم" عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاري من طريقه، إلا أن منهم من زاد لفظ: نكاح المتعة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وإبراهيم بن موسى والعباس بن الوليد. وأخرجه مسلم (6) عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب، جميعًا عن ابن عيينة [بمثل لفظ مالك، وكذا أخرجه سعيد بن منصور (7) عن ابن عيينة](أ)، لكن قال:"زمن" بدل "يوم". قال السهيلي (8): ويتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال؛ لأن فيه النهي عن
(أ) ساقط من النسخ، والمثبت من الفتح 9/ 168.
_________
(1)
علل الدارقطني 4/ 107، والفتح 9/ 168.
(2)
مسلم 3/ 1537 ح 1407.
(3)
الروض الأنف 6/ 557. وفيه. "نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر وعن المتعة. فمعناه على هذا اللفظ: ونهى عن المتعة بعد ذلك، أو في غير ذلك اليوم. فهو إذا تقديم وتأخير". انتهى.
(4)
الفتح 9/ 168.
(5)
أحمد 1/ 79، والحميدي 1/ 22 ح 37. وينظر الفتح 9/ 168.
(6)
مسلم 2/ 1027 ح 30 - 1407.
(7)
سعيد بن منصور 1/ 218 ح 848.
(8)
الروض الأنف 6/ 557.
نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أهل السير ورواة الآثار. قال: والذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزهري. وهذا الذي قاله سبقه إليه غيره في النَّقل عن ابن عيينة؛ فذكر ابن عبد البر (1) من طريق قاسم بن أصبغ أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر. قال المصنف (2) رحمه الله تعالى: ثم راجعت "مسند الحميدي" من طريق قاسم بن أصبغ عن أبي إسماعيل السُّلمي عنه فقال بعد سياق الحديث: قال ابن عيينة: يعني أنه نَهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر؛ ولا يعني [نكاح](أ) المتعة. قال ابن عبد البر: وعلى هذا أكثر الناس. وقال البيهقي (3): يشبه أن يكون كما قال؛ لصحة الحديث في أنه صلى الله عليه وسلم رخص فيها بعد ذلك ثم نَهَى عنها، فلا يتم احتجاج عليٍّ إلا إذا وقع النهي أخيرًا؛ لتقوم له الحجة على ابن عباسٍ. وقال أبو عوانة (4) في "صحيحه": سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها، وإنما نهى عنها يوم الفتح. انتهى. والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر كما أشار إليه البيهقي، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليًّا لم تَبلغه الرخصة فيها يوم الفتح؛ لوقوع النهي عنها عن قرب، ويمكن أن يكون علي
(أ) في الأصل: بنكاح.
_________
(1)
التمهيد 10/ 101، 102.
(2)
الفتح 9/ 169.
(3)
معرفة السنن 5/ 342.
(4)
مسند أبي عوانة 3/ 30.
رضي الله عنه فهم من الترخيص فيها يوم الفتح توقيت الترخيص وهو أيام شدة الحاجة مع العزوبة، وبعد مضي ذلك فهي باقية على أصل التحريم المتقدم، فتقوم له الحجة على ابن عباسٍ، وإن كان ابن القيم ذكر في "الهدي"(1) أن الصحابة لم يكونوا يستمتعون باليهوديات، يعني فيقوى أن النهي لم يقع يوم خيبر؛ إذ لم يقع هناك نكاح متعة، إلا أنه قد يمكن أن يكون هناك مشركات غير كتابيات، فإن أهل خيبر كانوا يصاهِرون الأوس والخزرج قبل الإسلام، فلعله كان مِن نساء الأوس والخزرج هناك من استمتعوا منهن، فلا يرد الاعتراض. وهذا ما يتعلق بتصحيح هذه الرواية، وقد تقدم الكلام في الحديث الأول على النسخ، والله أعلم.
818 -
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له. رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه (2).
وفي الباب عن علي رضي الله عنه أخرجه الأربعة إلا النسائي (3).
حديث ابن مسعود صححه أيضًا ابن القطان، وابن دقيق العيد على شرط البخاري، وأخرجه عبد الرزاق (4) من طريق أخرى، وأخرجه أيضًا من
(1) زاد المعاد 3/ 460.
(2)
أحمد 1/ 448، والنسائي، كتاب الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثًا والنكاح الذي يحلها به 6/ 149، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في المحل 3/ 428 ح 1120.
(3)
أبو داود، كتاب النكاح، باب التحليل 2/ 234 ح 2076، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في المحل 3/ 427، 428 ح 1119، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب المحلل والمحلل له 1/ 622 ح 1935.
(4)
عبد الرزاق 6/ 269 ح 10793.
طريق أخرى إسحاق بن راهويه في "مسنده"(1)، وأخرجه الحاكم في "المستدرك". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: والعمل عليه عند أهل العلم؛ منهم عمر بن الخطاب، وعثمان، وعبد الله بن عمر (2)، وهو قول الفقهاء من التابعين، ولفظه في رواية أحمد والنسائي: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والموتشمة (أ) والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله. وحديث علي في إسناده مجالد وهو ضعيف، وقد صححه ابن السكن وأعله الترمذي، ولفظه عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لعن الله المحلل والمحلل له". وأخرجه الترمذي (3) عن جابر من طريق مجالد وحكم عليه بالوهم. ورواه أحمد والبيهقي وإسحاق والبزار، وابن أبي حاتم في "العلل"(4) من حديث أبي هريرة، وحسنه البخاري. ورواه ابن ماجه والحاكم (5) من حديث الليث عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر، (ب [ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له"] ب). وأعله أبو زرعة وأبو حاتم بأن الصواب رواية الليث عن سليمان بن عبد الرحمن
(أ) في جـ: المتوشمة. وهي إحدى ألفاظ رواية أحمد.
(ب - ب) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
ينظر التلخيص 3/ 170.
(2)
ينظر مصنف عبد الرزاق 6/ 265، 266 ح 10776 - 10778.
(3)
الترمذي 3/ 427، 428 ح 1119.
(4)
أحمد 14/ 42 ح 8287، والبيهقي 7/ 208، والبزار 2/ 167 ح 1442 - كشف، وابن أبي حاتم 1/ 413 ح 1237.
(5)
ابن ماجه 1/ 622 ح 1936، والحاكم 2/ 199.
مرسلًا، وحكى الترمذي (1) عن البخاري أنه استنكره. وقال أبو حاتم (2): ذكرته ليحيى بن بكير فأنكره إنكارًا شديدًا. وقال: إنما حدثنا به الليث عن سليمان، ولم يسمع الليث من مشرح شيئًا. قال المصنف رحمه الله تعالى (3): وقع التصريح بسماعه في رواية الحاكم، وفي رواية ابن ماجه عن الليث: قال لي مشرح. ورَوَاه ابن قانع في "معجم الصحابة"(4) مِن رواية عبيد بن عمير (5) عن [أبيه عن جده](أ)، وإسناده ضعيف.
الحديث فيه دلالة على تحريم التحليل؛ لأن اللعن إنما يكون على فعل محرم، والمحرم منهي عنه، والنهي يقتضي فساد العقد، فإن اللعن وإن كان للفاعل فهو لأجل فعله الذي هو التحليل، إذ تعليق الحكم على وصف يصح أن يكون علة للحكم يقتضي التعليل، وللتحليل صور؛ منها أن يقول في العقد: إذا أحللتها فلا نكاح. وهذا يشبه نكاح المتعة للتوقيت؛ ومنها أن يقول: إذا أحللتها طلقتها. ومنها أن يكون مضمرًا عند العقد بأن يتواطأا على التحليل، ولا يكون النكاح الدائم هو المقصود، ولم يشرطا عند العقد ذلك. فالصورة الأولى باطلة، والظاهر أنه متفق عليه بين من حرم نكاح
(أ) في الأصل: ابنه.
_________
(1)
علل الترمذي (274).
(2)
علل ابن أبي حاتم 1/ 411 ح 1223، وفيه من قول أبي زرعة.
(3)
التلخيص 3/ 171.
(4)
معجم الصحابة 2/ 229.
(5)
عبيد بن عمير بن قتادة، قاص أهل مكة، ذكر البخاري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره مسلم فيمن ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معدود في كبار التابعين، ولأبيه عمير بن قتادة صحبة ورواية، وشهد الفتح. ينظر الاستيعاب 3/ 1018، 1219، والإصابة 4/ 724، 5/ 60.
المتعة. والصورة الثانية يصح العقد ويلغو الشرط في أقوى احتمالين عند الهدوية. وهو قول المؤيد بالله والحنفية، قالوا: إنه لا دليل على بطلانه. وَلِمَا ذكره في "الشفاء" أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانًا تزوج بفلانة وما نراه تزوجها إلا ليحللها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصْدَقَ؟ ". قيل: نعم. فقال: "أشْهَدَ؟ ". قيل: نعم. قال: "ذهب الخداع"(1). وهذا وإن كان ظاهره في مضمر التحليل، ولكنه يفهم من الجواب ما يعم هذه الصورة والصورة الأولى، إلا أنها خرجت بدليل تحريم نكاح المتعة. وأما الصورة الثالثة فذهبت الهدوية وأبو حنيفة والشافعي إلى صحتها؛ لما ذكر. وذهب مالك وأحمد وإسحاق والنخعي وداود والهادي إلى بطلانها؛ لعموم اللعن. قال الإمام المهدي: قلنا: قرره قوله صلى الله عليه وسلم: "ذهب الخداع". وفعل عمر ولم ينكر. قال الإمام المؤيد بالله: وحديث اللعن يتناول المؤقت جمعًا بين الأدلة. قال الإمام يحيى: أو يصح العقد ويتناولهما اللعن؛ لمنافاة المروءة. قلت: وفيه نظر. انتهى.
وجه التنظير ما أشرنا إليه أن ذلك الحديث يقتضي النهي، والنهي [يقتضي](أ) الفساد، وإذا سلمنا التناول لزم الفساد، ويمكن الجواب عنه بأن ذلك إنما يستقيم إذا كان النهي لذات المنهي عنه، أو لوصف [مقارب](ب)، وأمَّا إذا كان لوصف مفارقٍ فلا يقتضي الفساد، وهو هنا كذلك؛ حيث
(أ) في الأصل: مقتضى.
(ب) في الأصل: مقارن.
_________
(1)
ينظر علل ابن أبي حاتم 1/ 427.
جعل العلة فيه منافاة المروءة. وقال في " [نهاية] (أ) المجتهد"(1): سبب اختلافهم؛ اختلافهم في مفهوم اللعن؛ فمن فهم [منه](ب) التأثيم فقط، قال: النكاح صحيح. ومَن فهم من التأثيم فساد العقد تشبيهًا بالنهي الذي يدل على فساد المنهي [عنه](جـ)، قال: النكاح فاسد. انتهى. وعلى ما قررناه أولًا أن اللعن يقتضي النهي، فلا يصح ما ذكر، والله أعلم.
وقال المصنف رحمه الله تعالى (2): استدلوا بهذا الحديث على بطلان النكاح إذا شرط الزوج أنه إذا نكحها بانت منه، أو شرط أن يطلقها ونحو ذلك، وحملوا الحديث على ذلك، ولا شك أن إطلاقه يشمل هذه الصورة وغيرها، لكن روى الحاكم والطبراني [في الأوسط] (د) (3) من طريق [أبي] (هـ) غسان عن عمر بن نافع عن أبيه قال: جاء رجل إلى [ابن](و) عمر، [فسأله](ز) عن رجل طلق امرأته ثلاثًا فتزوجها أخ له [عن](جـ) غير مؤامرة ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا، إلَّا نكاح رغبة، كنا نعد هذا
(أ) في الأصل: غاية.
(ب) في الأصل: منا.
(جـ) ساقطة من: الأصل.
(د) ساقط من: الأصل.
(هـ) في النسخ: ابن. والمثبت من مصدري التخريج. وينظر تهذيب الكمال 26/ 470.
(و) ساقط من النسخ، والمثبت من مصدري التخريج.
(ز) في الأصل: يسأله.
(ح) في الأصل: من.
_________
(1)
الهداية في تخريج أحاديث البداية 6/ 511.
(2)
التلخيص الحبير 3/ 171.
(3)
الحاكم 2/ 199، والطبراني 6/ 223، 9/ 48 ح 6246، 9102.
سفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي مثل هذا عن عثمان وعلي وابن عباسٍ وابن عمر، وهي نصوص فيما إذا قصد الزوج التحليل من غير مواطأة بينه وبين المطلق ولا المرأة، وأن هذا من التحليل الملعون صاحبه، وأن من شرط النكاح أن يكون نكاح رغبة في الزوجة. وقد أخرج هذه الآثار عن الصحابة، وأخرج عن التابعين وتابع التابعين كذلك ابن القيم في كتاب "إغاثة اللهفان"(1)، وأن التحليل يشمل ما كان الإضمار من الزوج وحده، أو من المطلق، أو من المرأة، ومَن أراد الاستيفاء فليرجع إليه. وقال ابن حزم (2): ليس الحديث على عمومه في كل محلل، إذ لو كان كذلك لدخل فيه كل واهب وبائع ومزوج، فصح أنه أراد به بعض المحللين وهو من [أحل](أ) حرامًا لغيره بلا حجة، فتعين أن يكون ذلك فيمن شرط ذلك؛ لأنهم لم يختلفوا في الزوج إذا لم ينو تحليلها للأول ونوته هي، أنها لا تدخل في اللعن، فدل على أن المعتبر الشرط، والله أعلم. انتهى.
وهذا الحديث يعارض ما تقدم من الحديث في التحليل ويعارض رواية "البحر" عن عمر الصحة، والله أعلم.
821 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله". رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات (3).
الحديث فيه دلالة على أنه يحرم على الزوجة أن تزوج بمن ظهر زناه،
(أ) ساقطة من: الأصل.
_________
(1)
إغاثة اللهفان 1/ 296 - 300.
(2)
المحلى 11/ 489.
(3)
أحمد 2/ 324، وأبو داود، كتاب النكاح، باب في قرله تعالى:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً} 2/ 227 ح 2052.
ولعل الوصف بالمجلود بناءً على الغالب في حق من ظهر منه الزنى، وكذلك الرجل يحرم عليه أن يتزوج بالمرأة الزانية التي ظهر زناها، وهذا موافق لقوله تعالى:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (1).
ومعنى قوله: "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله". يعني أنه لا يرغب الزاني في نكاح الصالحة الطيبة مِن الزنى، وإنما يرغب في نكاح فاسقة خبيثة من شكله، والفاسقة الزانية لا يرغب في نكاحها الصلحاء، وإنما يرغب فيها من كان في صفتها، كما قال الله تعالى:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} . فنكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية، [ورغبته](أ) فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنى -محرم عليه محصور، لما فيه من التشبه بالفساق وحضور موقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة، وأنواع المفاسد ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة (ب) الزواني! وقد نبه الله سبحانه على ذلك بقوله:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (2). وعن عائشة رضي الله عنها أن الرجل إذا زنى بامرأة ليس له أن يتزوجها لهذه الآية، وإذا باشرها كان زانيًا (3). وذهب ابن عباسٍ (4) إلى جوازه وشبهه بمن
(أ) في الأصل: ورغبة.
(ب) في ب، جـ: بزواجه.
_________
(1)
الآية 3 من سورة النور.
(2)
الآية 32 من سورة النور.
(3)
سعيد بن منصور في سننه 1/ 225 ح 897، وابن أبي شيبة 4/ 251، والبيهقي 7/ 156.
(4)
ينظر سنن سعيد بن منصور 1/ 224، 225 ح 886 - 893، وابن أبي شيبة 4/ 248، والسنن الكبرى للبيهقي 7/ 155.
سرق ثمر شجرة ثم اشتراه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال: "أوله سفاح وآخره نكاح، والحرام لا يحرم الحلال"(1).
وقوله: "لا ينكح". يحتمل النهي، فيكون مجزومًا، ويحتمل الخبر و "لا" للنفي، فيكون مرفوعًا، والمعنى واحد إذا كان الخبر في معنى النهي، ويكون أبلغ في تأدية ذلك المعنى، كما أن: رحمك الله. أبلغ من: ليرحمك الله. وإذا كان خبرًا محضًا مستعملًا في معناه، فمعناه أن عادة الزاني الجارية المستمرة أن ينكح مثله، وعلى المؤمن ألا يدخل نفسه تحت هذه العادة، ويصون نفسه عن هذه النقيصة.
822 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: طلق رجل امرأته ثلاثًا فتزوجها رجل ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فأراد زوجها الأول أن يتزوجها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعن ذلك أ) فقال:"لا، حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول". متفق عليه، واللفظ لمسلم (2).
الرجل اسمه رفاعة، بكسر الراء المهملة، ابن سموءل، بفتح المهملة وبكسرها وفتح الميم وسكون الواو بعدها همزة ثم لام، متفق على تسميته في جميع الروايات، و [القرظي](ب)، بضم القاف وفتح الراء المهملة والظاء
(أ - أ) ساقط من: ب، جـ.
(ب) ساقط من: الأصل.
_________
(1)
ابن ماجه 1/ 649 ح 2015، والدارقطني 3/ 268 من حديث ابن عمر مقتصرا على قوله:"لا يحرم الحرام الحلال".
(2)
البخاري، كتاب الطلاق، باب من جوز الطلاق الثلاث 9/ 362 ح 5261، ومسلم، كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا
…
2/ 1055 ح 1433/ 115.
المعجمة، منسوب إلى قريظة من الخزرج، والمرأة اسمها تميمة بنت وهب من بني قريظة، كذا في "الموطأ"(1) مرسلًا، وأخرجه الطبراني (2) والدارقطني في "الغرائب" موصولًا، وتميمة بالمثناة من فوق، واختلف هل التاء مفتوحة مكبرًا أو مضمومة مصغرًا؟ والثاني أرجح. وقيل: اسمها سهيمة (أ) بسين مهملة مصغرًا. أخرجه أبو نعيم (3) وكأنه تصحيف، وعند ابن منده (4)[أميمة](ب) بهمزة في أول الاسم، وسمى أباها (جـ) الحارث، والراجح هو الأول، واسم الزوج الآخر عبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي، وهذا متفق عليه في جميع الروايات عن هشام بن عروة (د) أن الزوج الأول اسمه رفاعة والثاني عبد الرحمن، وكذا في رواية سعيد بن أبي عروبة (5)، أن تميمة بنت أبي عبيد القرظية كانت تحت رفاعة فطلقها، فخلف عليها عبد الرحمن بن
(أ) في جـ: سهية.
(ب) في النسخ: اسمه. والمثبت من الفتح 9/ 464.
(جـ) زاد بعده في النسخ: أبا. والمثبت من الفتح 9/ 464، وينظر أسد الغابة 7/ 26.
(د) زاد بعده في الأصل: بايع.
_________
(1)
الموطأ 2/ 531 ح 17.
(2)
الطبراني في الأوسط 7/ 269 ح 7469.
(3)
الفتح 9/ 464، وترجم لها أبو نعيم باسم "أميمة" و "تميمة"، ولم يذكر ترجمة لها باسم "سهيمة" في النسخة التي بين أيدينا، وكذلك لم يعزه ابن الأثير لأبي نعيم في ترجمته لسهيمة. ينظر معرفة الصحابة 5/ 190، 201، وأسد الغابة 7/ 156.
(4)
ينظر أسد الغابة 5/ 26.
(5)
ذكره ابن الأثير في أسد الغابة 7/ 44.
الزبير، وتسميته لأبيها لا ينافي ما تقدم أن اسمه وهب، فلعل اسمه وهب وكنيته أبو عبيد، وقد وقع عند [ابن](أ) إسحاق في "المغازي"(1) مقلوبًا، فجعل الزوج الأول عبد الرحمن والثاني رفاعة، والمحفوظ ما اتفق عليه الجماعة عن هشام، وقد وقع لامرأة أخرى قريب من هذه القصة في رواية النسائي (2) عن عبيد الله بن العباسِ مصغرًا، أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو من زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء فقال: إنها كاذبة، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول. فقال:"ليس ذلك لها حتى تذوق عسيلته". ورجاله ثقات، لكن اختلف فيه على سليمان بن يسار. وعبيد الله بن العباس وُلد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في سماعه. واسم زوج الغميصاء هذه عمرو بن حزم، أخرجه الطبراني وأبو مسلم الكجي وأبو نعيم في "الصحابة"(3) عن عائشة أن [عمرو](5) بن حزم طلق الغميصاء [فتزوجها](جـ) رجل قبل أن يمسها، فأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول، الحديث. ولم يأت التصريح باسم الزوج الثاني، ووقع لثالثة
(أ) في الأصل: أبي.
(ب) في الأصل: عمر.
(جـ) في الأصل: فزوجها.
_________
(1)
أبو نعيم في "معرفة الصحابة" 5/ 201 ح 7590 من طريق ابن إسحاق به.
(2)
النسائي 6/ 148، وفي الكبرى 3/ 353 ح 5606، وفيه عبد الله بن عباس بدلا من عبيد الله بن عباس. وذكره المزي في تحفة الأشراف 7/ 220، في مسند عبيد الله بن عباس. وينظر الفتح 9/ 465.
(3)
الطبراني 24/ 350 ح 869، وأبو نعيم 5/ 284 ح 7823، كلاهما أخرجه من طريق أبي مسلم الكجي.
قصة أخرى مع رفاعة النضري رجل آخر غير الأول، والزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير أيضًا أخرجه مقاتل بن حيان في "تفسيره"، ومن طريقه ابن شاهين في "الصحابة" (1) عن أبي موسى في قوله تعالى:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2). قال: نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عقيل النضرية كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها، فطلقها طلاقًا بائنًا فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ثم طلقها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه طلقني قبل أن يمسني، فأرجع إلى ابن عمي زوجي الأول؟ قال:"لا". الحديث. وهذا إن كان محفوظًا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى، وأن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق، فتزوج كلا منهما عبدُ الرحمن بن الزبير، فطلقها قبل أن يمسها، فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص، وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما، ظنًّا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب، فقال: اختلف في أمر رفاعة على خمسة أقوال، ووقعت لأبي ركانة قصة أخرى فيما أخرجه أبو داود (3) مِن حديث ابن عباسٍ قال: طلق عبد يزيد أم ركانة ونكح امرأة مِن مزينة فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة -لشعرة أخذتها من رأسها- ففرق بيني وبينه. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: "طلقها وراجع أم ركانة". ففعل. فقد يحتج بها في مسألة العنين.
وقوله: "من عسيلتها". تصغير العسل، وأنث المصغر لأن العسل
(1) ينظر الفتح 9/ 465، والإصابة 2/ 492.
(2)
الآية 230 من سورة البقرة.
(3)
سيأتي ح 887.
مؤنث، كذا قال [الفراء](أ)، وقال: وأحسب التذكير لغة. وقال الأزهري (1): إنه يذكر ويؤنث. وقيل: إن العرب تؤنث ما حقرته. وقيل: التأنيث هنا باعتبار المعنى المجازي، لما كان مراده بالعسيلة الوطأة إشارة إلى أنها تكفي في المقصود مِن تحليلها للزوج الأول. واختلف ما المراد بالعسيلة؛ فقيل: المراد بها إنزال المني، وأن التحليل لا يكون إلا بذلك. وذهب إليه الحسن البصري. وقال الجمهور من العلماء: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة، وهو تغييب الحشفة من الرجل في فرج المرأة، ويكفي منه ما يوجب الحد، ويحصل به تحصين الشخص، ويوجب كمال الصداق، ويفسد الحج والصوم. قال الأزهري (1): الصواب أن معنى العسيلة حَلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة، وأنث لشبهها بالعسل. وقال الداودي: صغرت لشدة شبهها بالعسل. وقال أبو عبيد: العُسيلة لذة الجماع. والعرب تسمي كل شيء تستلذه عَسلًا.
فالحديث دَل على ما ذهب إليه الجمهور على هذا الوجه، ويؤيد ذلك أنه لو كان المعتبر الإنزال لكفى إذا حصَل قبل الإيلاج، والحسن يوافق أنه لا يكفي ولكنه يقال عليه: إنه مَا ذاق أحدهما عسيلة الآخر. وهو المعتبر، وذهب سعيد بن السيب إلى أنه يحصل التحليل بالعقد الصحيح. قال ابن المنذر (2): أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول إلا سعيد بن
(أ) في الفتح 9/ 466: القزاز.
_________
(1)
تهذيب اللغة 2/ 94، وينظر الفتح 9/ 466.
(2)
الإشراف على مذاهب أهل العلم 1/ 178، 179.
المسيب. ثم ساق سنده الصحيح عنه، قال: يقول الناس: لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني. وأنا أقول: إذا تزوجها صحيحًا لا يريد بذلك إحلالها للأول، فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور (1). قال ابن المنذر: ولا نعلم أحدًا وافقه عليه (أ) إلا طائفة من الخوارج، ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن انتهى. ومِن هذا يؤخذ ضعف نقل أبي جعفر النحاس في "معاني القرآن"(2)، وتبعه عبد الوهاب المالكي في "شرح الرسالة" عن سعيد بن جبير، ولا يعرف سند ذلك عن سعيد بن جبير في شيء من المصنفات، وحكى مثل ذلك ابن الجوزي عن داود.
وقول (ب) المصنف: هذا لفظ مسلم. يعني وأما البخاري فساقه بألفاظ؛ منها في باب (3): إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة زوجًا غيره فلم يمسها، عن عائشة أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها فتزوجت آخر، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أنه لا يأتيها وأنه ليس معه إلا مثل هدبة، فقال:"لا حتى [تذوقي] (جـ) عسيلته [و] (د) يذوق عسيلتك". وفي باب من قال
(أ) ساقطة من: الأصل، ب.
(ب) في ب: هو قول. وفي جـ: قال.
(جـ) في الأصل: تذوق.
(د) في الأصل: أو.
_________
(1)
ابن أبي شيبة -كما في الفتح 9/ 467، سعيد بن منصور في سننه 2/ 49 ح 1989.
(2)
معاني القرآن 1/ 206.
(3)
البخاري 9/ 464 ح 5317.
لامرأته: أنت علي حرام (1). بلفظ: ولم يكن معه إلا مثل الهدبة فلم يقربني إلا هَنَةً -وهي بفتح الهاء والنون الخفيفة: المرة الواحدة الحقيرة- واحدة، ولم يصل مني إلى شيء، أفأحل لزوجي الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحلين لزوجك الأول". الحديث. وفي أوائل الطلاق (2): وإنما معه مثل الهدبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا" الحديث. وفي باب اللباس (3)، أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزَّبير القرظي، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر، فشكت إليها وأرتها خضرة بجلدها فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والنساء ينصر بعضهن بعضًا، قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات، لجَلدُها أشد خضرة من ثوبها. قال؛ أي عكرمة: وسمع أنها قد أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء ومعه ابنان له مِن غيرها، قالت: والله ما لي إليه ذنب إلا أن ما معه ليس بأغْنَى عني مِن هذه. وأخذت هُدبة مِن ثوبها، فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشز تريد رفاعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإن كان ذلك فلا تحلين له، أو: لا تصلحين له، حتى يذوق من عسيلتك". قال: وأبصر معه ابنين له (أ) فقال: "بنوك هؤلاء؟ " قال: نعم. قال: "هذا الذي تزعمين ما تزعمين! فوالله لهم أشبه به من الغراب بالغراب". وذكره في غير هذه المواضع أيضًا.
(أ) ساقطة من: ب.
_________
(1)
البخاري 9/ 371 ح 5265.
(2)
البخاري، 9/ 361 ح 5260.
(3)
البخاري 10/ 281، 282 ح 5825.