المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المراد بالبدهيّات: البداهة أول كل شيء، وما يفجأ من الأمر، والبديهة: - البدهيات في القرآن الكريم

[فهد الرومي]

الفصل: ‌ ‌المراد بالبدهيّات: البداهة أول كل شيء، وما يفجأ من الأمر، والبديهة:

‌المراد بالبدهيّات:

البداهة أول كل شيء، وما يفجأ من الأمر، والبديهة: المعرفة يجدها الإِنسان في نفسه من غير إعمالٍ للفكر ولا علمٍ بسببها.

والبديهة قضية اعترفَ بها ولا يحتاج في تأييدها إلى قضايا أبسط منها مثل أنصاف الأشياء المتساوية متساوية 1.

وقد عَدَّ ابن حزم رحمه الله تعالى من معارف النفس ما أدركت بحواسها الخمس ثم عَدَّ الإدراك السادس علمها بالبديهيات ومَثَّلَ لذلك بعلمها أن الجزء أَقل من الكُلَّ، وأنَ الضِّدين لا يجتمعان، وأنه لا يكون فعل إلا لفاعل، وغير ذلك، ثم وصفها بأنها أوائل العقل التي لا يختلف فيها عقل.. وليس يدري أحد كيف وقع العلمُ بها.. وأنها ضرورات أوقعها الله في النفس، ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات، ولا يصح شيء إلا بالرد إليها، فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقن وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط إلا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب ومن بعد، فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس وأمكن للفهم، وكلما بعدت المقدمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفَهِم القوي الفَهْم والتمييز2.

1 المعجم الوسيط ج1 ص 44.

2 الفصل في الملل والأهواء والنحل: ابن حزم، ج1 ص (5-7) بتصرّف.

ولمزيد تفصيل في مذهب ابن حزم في ذلك انظر مقال (العقل والحقيقة) للأستاذ أبي عبد الرّحمن ابن عقيل، مجلّة الفيصل العدد 215ص 48-50.

ص: 13

وقال الجرجاني: "البديهي: هو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب، سواء احتاج إلى شيء آخر من حدسٍ أو تجربة أو غير ذلك أو لم يحتج، فيرادف الضروري. وقد يراد به ما لا يحتاج توجه العقل إلى شيء أصلاً فيكون أخص من الضروري كتصور الحرارة والبرودة، وكالتصديق بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان "1، وقيل البدهي هو الذي يفرض نفسه فرضاً على العقل ولا يترك له أدنى مجال للشك2.

وينبغي أن نُفَرِّقَ هنا بين البدهيات والمسَلَّمَات، فقد عَرَّفَ الجرجاني المُسَلَّمَات بأنها " (قسم من المقدمات الظنية) وهي قضايا تُسَلَّمُ من الخصم ويبنى عليها الكلام لدفعه سواء كان مسلمة بين الخصمين أو بين أهل العلم كتسليم الفقهاء مسائل أصول الفقه "3.

ويبدو أن العلاقة بين البدهيات والمُسَلَّمَات علاقة عموم وخصوص، فكل بدهية مُسَلَّمَة وليست كل مُسَلَّمَة بدهية فالبدهيات أخص من المُسَلَّمَات.

ومن أمثلة المُسَلَّمَات الاحتجاج على الخصم بما لا يجد بُدَّاً من التسليم به فحين احتج إبراهيم على المَلِك بأنَّ الربَّ هو الذي يُحيي ويُميت، كابَرَ وأَنكر التسليم بذلك فغالط وادعى أنه يُحيي ويُميت فَرَدَّ عليه إبراهيم عليه السلام بقضية مُسَلَّمَة لا يستطيع معها المكابرة {فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} 4، فلم يستطع الملك إنكار هذه القَضية {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر} 5.

1 التعريفات للجرجاني: ص53.

2 معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية: جلال الدين سعيد، ص75.

3 التعريفات: الجرجاني، ص 241.

4 سورة البقرة: من الآية 258.

5 سورة البقرة: من الآية 258.

ص: 14

ومن أمثلة ذلك الاحتجاج بالمبدأ وهو مُسَلَّمٌ لإثبات المعاد على من ينكره {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1.

ومثل هذا المسائل والقضايا وإن كانت مُسَلَّمَة إلا أنها تحتاج إلى نَظَرٍ وكَسْبِ ولا يجدُها الإِنسان في نفسه من غير إعمالٍ للفكر ولا عِلْمٍ بسببها مما هو خاَص بالبدهيات.

ولعله يظهر بهذا النوعُ الذي نريد دراسته هنا من القضايا التي تناولها القرآن الكريم وهي القضايا التي يستغرب التالي للقرآن والمتدبرُ لمعانيه النَصَّ عليها في القرآن مع أنَّ حصولها لا يتوقف على نظر وكَسْب ولا يختلف فيها عقل، فقوله تعالى:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} 2. بعد قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} ، قضية بدهية لا يحتاج إدراكُها بعد تَوجّه العقل إلى شيء أصلا.

وكذا قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْه} 3، فإنَّ ذِكْرَ طيران الطير بجناحيه مما يدعو إلى السؤال عن السِّرِّ في النص على ذلك مع أنه من البَدَهيّ أنَّ الطير لا يطير إلا بجناحيه فيكفي في إدراك ذلك مجرد ذكره دون ذكر آلة طيرانه فهذا لا يحتاج إلى أكثر من توجه العقل.

والبدهيات – فيما أحسب - تنقسم من حيث مصدر البداهة إلى قسمين:

أولهما: ما جاءت بداهته من حيث أنَّ النص الثاني نتيجة بدهية للنص الأول مثل: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 4، حيث قال بعدها:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} 5، وهي نتيجة حسابية لا تحتاج إلى أكثر من

1 سورة يس الآيتين 78- 79.

2 سورة البقرة: آية 196.

3 سورة الأنعام آية 38.

4 سورة البقرة: آية 196.

5 سورة البقرة: آية 196

ص: 15

تَوَجّه العقل ويستند إدراكها إلى النصر الأول مع التوجه العقلي الأولي لإدراكها.

ثانيهما: ما جاءت بداهته من التوجه العقلي الأَوَّلِيّ دون استناد إلى نصٍ سابقٍ كمقدمة له، مثل:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (المؤمنون:15) ، فإنَّ إدراك هذا الأمرَ البدهي معلوم لا يحتاج إلى أكثر من توجه العقل تَوَجّهاً أَوَلِيَّاً حتى ولو لم يسبقه نصر يقرره أو يؤدي إليه بالضرورة.

ونستطيع أن نذكر بعد هذا أنًا نريد بالبدهيات في القرآن الآيات التي يذكر فيها لازم ما سبقه من كلام أو آلته أو نتيجة حسابية لعددين لا يحتاج جمعُهما لغير توجه العقل توجها أوليَّاً.

وقد يعتقد كثير من الناس أنَّ البدهيات بهذا المعنى لم ترد في القرآن إلا قليلاً والحق أنها وردت شي كثير من الآيات يمر عليها كثير من التالين للقرآن من غير أن يكون في إدراك معناها جسأة1 توقفهم- ولو هنية- للتأمل والتفكر فيمرون عليها سريعا وكأن قوة ظهور معناها عامل على سرعة تجاورها، وحصان حق هذه الآيات أن نقف عندها طويلا، لا لاستظهار معناها هذا قد كفيناه، وإنَّما للتدبر والتفكر في سِرِّ إظهار معناها هذا الظهور وحكمةِ ذلك.

ولكثير من المفسرين وقفات عند مثل هذه الآيات طويلة عند بعضهم، وقصيرة عند آخرين وهم حين يتناولونها فإنَّمَا يتناولونها آحاداً من غير مقارنة بينها أو دراسة لموضوعها، ونَجدُ أنَّ مثل هذه الوقفات تظهر عند المهتمين في تفاسيرهم بالبلاغة واللغة، ولهذا فإنه ينبغي أن نبين صلة البدهيات بعلم البلاغة.

1 جسأ: جسئا وجسوءا وجسأة: يبس وصلب وخشن. (المعجم الوسيط ج1 ص 122) .

1 مفتاح العلوم للسكاكي، ص 196.

ص: 16