الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: البدهية العادية
…
النوع الثالث: البدهية العادية:
فقد تدل جُملة في آية قرآنية على أمر بدهي لا يختلف فيه اثنان، أو تكون الجملة الثانية معلومة قطعا من الجملة الأولى بحيث توجب العادة ذلك.
وبهذا يظهر أن البداهة هنا قد تكون في جملة واحدة وقد تكون في جملتين.
ويظهر أيضا نوعٌ من التداخل في بعض البدهيات من هذا النوع مع البدهية اللغوية وذلك أن بدهيتها وإن كانت راجعة إلى العادة، فإن اللغة قد صبغتها بصبغتها فهي بدهية عادية لغوية فمثلا في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام:{مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} 1. فمن المعلوم لغة وعادة أنَّ كل أحد كان في المهد صبيا.
وقد بذلتُ ما في وسعي لتصور تقسيم لهذا النوع من البدهيات فظهر لي ما أُدركُ أنَّه بحاجة إلى زيادة استيعاب واستقصاء وإعادة فكر، وتقليب نظر وما أرسمه على كل حال ليس إلا خطوة في طريق جديد وطويل. أما ما ظهر لي من الأقسام فهي:
- القسم الأول: الجمع بين الشيء ولازمه.
- القسم الثاني: الجمع بين الشيء وآلته.
- القسم الثالث: إثبات الشيء ونفي نقيضه.
- القسم الرابع: الأمر بالشيء والنهي عن نقيضه.
- القسم الخامس: الجملة الخبرية القطعية الثبوت.
وسأكتفي هنا بذكر مثال واحد لكل قسم منها:
1 سورة مريم: آية 29.
* القسم الأول: الجمع بين الشيء ولازمه:
ومثاله قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ} 1.
فمن المعلوم أنَّ قتل النبيين لا يكون بحق مطلقا لمن لازم يقتلون النبيين أن يكون بغير الحق، إذ لا يجوز أن يُقتل نبي بحقٍ أبدا 2.
فقيل: معناه بغير الحق في اعتقادهم، ولأن التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمهم، وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل كما في عكسه كقوله:{قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَق} 3 لزيادة معنى التصريح بالصفة، كذا قال الرازي في مسائله4، وقال بنحوه الزمخشري5، وأبو حيان6، والآلوسي7 وابن عاشور8، وعلى هذا فاللام عندهم في (الحق) للعهد.
وقيل إنها للجنس والمراد بغير حق أصلا لأن لام الجنس المبهم كالنكرة، ويؤيده ما في آل عمران {بِغَيْرِ حَق} (الآية21) ، فيفيد أنه لم يكن حقا باعتقادهم أيضا، قال بهذا الآلوسي، وقال:"إنه الأظهر"9. وقيل: قوله {بِغَيْرِ حَق} تأكيد؛ لأن قتل النبيين لا يكون إلا بغير حق، فهو كقوله: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 10، {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْه} 11. وأمثاله 12.
1 سورة البقرة: الآية 61.
2 تفسير البسيط: الواحدي، ج3 ص977.
3 سورة الأنبياء: الآية 112.
4 مسائل الرازي وأجوبتها: محمد أبي بكر الرازي ص6.
5 الكشاف: ج1 ص 72.
6 البحر المحيط: ج1 ص237.
7 روح المعاني: الآلوسي، ج1 ص276.
8 التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور، ج1 ص508.
9 روح المعاني: الآلوسي، ج1 ص 276.
10 سورة الحج: آية 46.
11 سورة الأنعام: الآية 38.
12 تفسير البسيط: الواحدي، ج3 ص 977.
*القسم الثاني: الجمع بين الشيء وآلته:
كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} 1.
وكلِ طائر إنما يطير بجناحيه فهما آلة طيرانه التي لا يطير بدونهما فما الفائدة إذاً من ذكر الجناحين؟
قال بعضهم: "إن ذكر الجناحين للتأكيد كقَولهم: "نعجة أنثى"، وكما يقال: "كلمته بفمي، ومشيت إليه برجلي"2.
وقيل: فائدةُ ذلك نفي توهم المجاز فإنه يقال: "طار فلان شي أمر كذا إذا أسرع فيه، وطار الفرس إذا أسرع الجريَ".
قال أبو حيان: "ألا ترىَ إلى استعارة الطائر للعمل في قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه} 3. وقولهم: "طار لفلان كذا في القسمة: أي سهمه، وطائر السعد والنحس) ، وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران.
واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب "فجاء ذكر الجناحين ليتمحض هذا الكلام في الطير"4.
ومن فوائد ذكر الجناحين زيادةُ التعميم والإحاطة كأنه قال: جميع الطيور الطائرة 5.
1 سورة االأنعام: آية 38.
2 البحر المحيط: ج4 ص 119. وتفسير الرازي: ج12 ص 212. ومسائل الرازي: ص84. والروض الريان: ج1 ص46.
3 سورة الإسراء: الآية 13.
4 البحر المحيط: ج4 ص 119. وانظر تفسير الرازي: ج12 ص 212. ومسائل الرازي: ص 85. وفتح الرحمن بتفسير القرآن: العُليمي، ص 76. وتلخيص تبصرة المتذكر: الكواشي، ج1 ص 42.
5 مسائل الرازي وأجوبتها: ص 85. والكشاف: ج2 ص12– 13.
* القسم الثالث: إثبات الشيء ونفي نقيضه:
ومثاله قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} 1، فإن الموت والحياة متضادان لا يرتفعان معا ولا يلتقيان فنفيُ أحدهما إثبات للآخر، وعلي هذا يكفي وصفهم بأنهم أموات لنعلم أنهم غيرُ أحياء إلا أنه هنا نفى الحياة وهو معلوم من وصفهم أولاً بالموت.
وفائدةُ ذلك بيان أنها أموات لا يعقب موتها حياة، احترازا عن أموات يعقب موتها حياة، كالنطف والبيض والأجساد الميتة، وذلك أبلغ في موتها كأنه قال:"أموات في الحال غير أحياء في المآل"2، قال الفخر الرازي:"الإِله هو الحي الذي لا يحصل عقيب حياته موت، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها الحياة"3.
وقال الرازي: "والوجه الثاني: أَنَّ هذا الكلام مع الكفار الذين يعبدون الأوثان وهم في نهاية الجهالة والضلالة، ومن تكلم مع الجاهل الغر الغبي فقد يحسن أن يُعَبِّرَ عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة، وغرضه منه الإِعلام بكون ذلك المخاطب في غاية الغباوة، وإنه إنما يعيد تلك الكلمات لكون ذلك السامع في نهاية الجهالة، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة"4.
قلت: وفي هذا مبالغة لأن المخاطبين ليسوا على هذه الدرجة الموصوفة من الغباء وعدم الفهم بل كانوا يدركون ذلك ويفهمونه ويعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، ولكنه التقليد الأعمى والعناد المستكبر، وقد بين الله ذلك في آيات كقوله سبحانه في سورة الشعراء على لسان إبراهيم عليه السلام مخاطبا قومه
1 سورة النحل: الآية 21.
2 مسائل الرازي: ص172. والبحر المحيط: ج5 ص482. وتفسير أبي السعود: ج5 ص 106.
3 التفسير الكبير: الفخر الرازي، ج20 ص15_ 16.
4 التفسير الكبير: الفخر الرازي، ج20 ص 16.
حين قالوا: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} . فلم يثبتوا ذلك أو يدعو بل بينوا إنه مجرد التقليد {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 1، ولعل الأصوب أن يقال: إن في هذا الأسلوب تنزيلا لهم منزلة من لا يفهم باعتبار عدم استجابتهم لنداء الحق.
ومن الأجوبة على ذلك قولهم: إنه إنما قال: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} ليعلم أنه أراد أمواتا في الحال لا أنها ستموت كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 2 3.
* القسم الرابع: الأمر بالشيء والنهي عن نقيضه:
وذلك كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 4.
فالبيان يضاد الكتمان فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهياً عن الكتمان، فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان؟
ذكر العلماء وجوهاً لهذا، منها:
1-
أن المراد من البيان: ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل، والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المُعَطِّلة5.
1 سورهَ الشعراء: الآيات 71- 74.
2 سورة الزمر: الآية 30.
3 أسئلة الرازي وأجوبتها: ص 172.
4 سورة آل عمران: من الآية 187.
5 التفسير الكبير: الفخر الرازي ج9 ص 130.
2-
وقيل: معناه لتبيننه في الحال وتداومون على ذلك البيان ولا تكتمونه في المستقبل1.
3-
وقيل: إن الضمير الأول للكتاب، والثاني لنعت النبي صلى الله عليه سلم وذكره فإنه قد سبق ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قبيل هذا 2.
4-
وقيل: فائدته التأكيد 3.
* القسم الخامس: الجملة الخبرية القطعية الثبوت:
ونريد بها الجملة التي تفيد معلومة لا يختلف فيها اثنان ولا تحتاج إلى تقرير وتبقى الحكمة في إيرادها.
وذلك كقوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} 4. وذلك أنه من المعلوم قطعاً أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضرا معهم فما فائدة هذا الإخبار؟
قلنا: إنَّ معرفة الحوادث لا تكون إلا بطرق أربعة:
1) القراءة.
2) الرواية.
3) المشاهدة.
4) الوحي.
وقد كانوا يعلمون قطعاً أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من أهل القراءة ولا من أهل الرواية إذ لم يخالط أهل الكتاب ولم يتلق عنهم علما، وهم ينكرون الوحي إليه صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا المشاهدة وهي مستحيلة فنفاها تهكما بهم إذ أنكروا الوحي
1 مسائل الرازي: ص 39. وفتح الرحمن: ص 102.
2 مسائل الرازي: ص 39.
3 المرجع السابق: وفتح الرحمن: ص 102.
4 سورة آل عمران: الآية 44.
إليه مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية، والمقصود تحقيق كون الإخبار بهذه القصة وغيرها عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل: إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاء لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء ونظيره في قصة موسى {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ} 1 {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّور} 2 وفي قصة يوسف {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} 3 4.
وبعد:
فلعلك تلاحظ أن ما قدمتُه ليس إلا إشارات سريعة لبحر واسع، لعلم طريف، كل جزء منه يحتاج إلى وقفة طويلة، بل وقفات ننظر فيها، ونتفكر، ونتأمل ونتدبر، هذا البناء المتماسك، والصرح العظيم، الذي لا نرى فيه عوجا ولا أَمْتَا، ما أجمله، وما أبدعه، وما أعظمه، ذلكم أنه كلام العزيز الخبير الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وإنها لدعوة أوجهها إلى من آتاه الله علما واسعا وفهما ثاقبا في البلاغة وأسرارها أن يخوض عباب هذا البحر فيستخرج لنا من كنوزه ويكشف لنا عن درر من درره ويكفي هذا البحث شرف هذه الدعوة والله المستعان.
1 سورة القصص: الآية 44.
2 سورة القصص: الآية 46.
3 سورة يوسفْ: الآية 102.
4 روح المعاني. للآلوسي ج3 ص 158. وانظر الكشاف: ج1 ص 189. والبحر المحيط: ج2 ص 458. ومسائل الرازي: ص 32. وفتح الرحمن: 88.