المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: البدهية اللغوية - البدهيات في القرآن الكريم

[فهد الرومي]

الفصل: ‌ثانيا: البدهية اللغوية

للمؤمنين وكانوا على هذين العددين (ثلاثة وخمسة)1.

2-

أنَّ العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر يحب الوتر2. وأقل عدد وتر يكون بينه مناجاة هو الثلاثة ثم الخمسة.

3-

أنه قصد أنْ يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى المتخالين للشورى، والمندبون لذلك ليسوا بكل أحد، وإنما هم طائفة مجتباة من أًولي النُّهى والأحلام، ورهط من أهل الرأي والتجارب، وأول عددهم الاثنان، فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال وحكم الاستصواب3.

وهناك أقواله أخرى4 يغني عنها ما ذكرته.

1 الكشاف: ج4 ص 74، والبحر المحيط: ح8 ص235، التحرير والتنوير: محمد الطاهر ابن عاشور، ج28 ص 26. مسائل الرازي: ص339. الروض الريان: ج2 ص 477. فتح الرحمن: ص 555.

2 الروض الريان ج2 ص 477، وفتح الرحمن: ص555.

3 الكشاف: ج4 ص 74.

4 انظر الروض الريان ج2 ص477.

ص: 35

‌ثانياً: البدهية اللغوية

النوع الثاني: البدهية اللغوية:

وأقصد بها البدهيةَ الدَّالٌ على بدهيتها المدلولُ اللغوي لكلمةٍ أو جملةٍ سابقة والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها:

1-

قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} 5.

قال في لسان العرب: "الصَوْب: ُ نزول المطر، ثم قال: والصَيِّبُ: السحاب ذو الصوب" وقال أبو إسحاق: "الصيب هنا المطر"6 وقال أبو حيان: "الصيب: المطر.. والسحاب أيضا "7.

5 سورة البقرة: من الآية 19.

6 لسان العرب: مادة (صوب) ، ج1 ص 534.

7 البحر المحيِط: أبو حيان، ج1 ص 83.

ص: 35

(قلت) وسواء كان الصيِّبُ المطر أو السحاب فإنَّ من المعلوم أَنهما من السماء فما الفائدة من قوله {مِنَ السَّمَاءِ} وهو معلوم من المدلول اللغوي لكلمة {صَيِّبٍ} وللعلماء في ذلك أقوال منها:

1) قال الزمخشري: " (فإن قلت) قوله {مِنَ السَّمَاءِ} ما الفائدة في ذكره والصيب لا يكون إلا من السماء، (قلت) الفائدة فيه أنه جاء بالسماء مُعَرَّفَة فنفى أن يتصوب من سماء أي من أفُقٍ واحد من بين سائر الآفاق لأن كل أفق من آفاقها سماء كما أنَّ كل طبقة من الطباق سماء في قوله: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} 1. والمعنى: إنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء"2.

وقد ضَعَّفَه ابنُ عاشور في تفسيره واستبعده معللا ذلك بأنه لم يُعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسمٍ كلي ذي أَفرادٍ دون اسم كلِّ ذي أجزاء فيُحتاج لتنزيل الأجزاء منزلةَ أَفراد الجنس ولا يُعرف له نظير في الاستعمال.3

2) وهو ما ذهب إليه ابن عاشور بعد استبعاده للقول السابق حيث قال: "فالذي يظهر لي إنْ جَعَلْنَا قولَه {مِنَ السَّمَاءِ} قيداً للصيِّب: أنَّ المرادَ من السماء أعلى الارتفاع، والمطر إذا كان من سَمْتٍ مقابل وكان عالياً كان أَدْوَم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريباً من الأرض غير مرتفع"4.

3) وهو أيضا لابن عاشور حيث قال: "والظاهر أن قوله {مِنَ السَّمَاءِ} ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرئ القيس:

كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ

1 سورة فصلت: الآية 12.

2 الكشاف: الزمخشري، ج1 ص 41. وانظر مسائل الرازي وأجوبتها: ص4.

3 التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور ج1 ص304.

4 التحرير والتنوير: ابن عاشور ج1 ص304.

ص: 36

إذ قد عَلِمَ السامعُ أنَّ السيلَ لا يحط جلمودَ صخرٍ إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير"1.

4) وهو رأي للألوسي، فبعد أن ذكر ما أوردناه أولاً قال:"وعندي أن الذكر (يعني ذكر السماء) يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإِشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم، وذلك أبلغ في الإِيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} 2. وكثيراً ما نجد أنَ المرءَ يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك"3.

(قلتُ) ولا يمنع من اعتقاد صحة هذه الأقوال جميعاً، فذكر السماء بعد ذكر الصيب فيه إشارة إلى نزوله من آفاق السماء ومن ارتفاع، وهو وصف كاشف لزيادة استحضار الصورة، وبيان أن العذابَ جاء من فوق رؤوسهم فهي معاني لا تعارض بينهما. وبلاغةُ القرآن قد تدل عليها وعلى ما هو أكثر منها، وهكذا كلما كشفت طائفةُ وجهاً بلاغياً انكشف لطائفة أخرى وجهٌ آخر يُعلن للناس أنَّ بلاغة القرآن متجددة وأن معينها لا ينضب.

2-

قوله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 4. وقوله {مُفْسِدِينَ} بدهية لغوية إذ يدل عليه المدلول اللغوي لقوله: {وَلا تَعْثَوْا} ، والعثو: أشد الفساد5، فكأنه قال: (ولا تفسدوا في الأرض مفسدين) .

1 التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور ج1 ص304.

2 سورة الحج: الآية 19.

3 روح المعاني. الآلوسي، 1ج ص171.

4 سورة البقرة الآية60.

5 الكشاف: الزمخشري ج1 ص 72. تفسير البسيط: الواحدي، ج3 ص957.

ص: 37

وقد أجاب الرازي في مسائله بأن معناه: "ولا تعثوا في الأرض بالكفر وأنتم مفسدون بسائر المعاصي"1.

ومنهم من تحاشى ذلك ففسر العثو بغير الفساد، فنقل أبو حيان عن ابن عباس وأبي العالية معناه:"ولا تسعوا" وقال قتادة: "ولا تسيروا"

وقيل معناه:" لا تخالطوا المفسدين" وقيل معناه: "لا تتمادوا في فسادكم" وقيل: "لا تطغوا"2.

وقد أشار ابن عاشور إلى علة أخرى لتفسير العثو بمعنى غير الفساد حيث قال: "وفي الكشاف جعل معنى لا تعثوا: لا تتمادوا في فسادكم، فجعل المنهي عنه هو الدوام على الفعل، وكأنه يأبى صحة الحال المؤكدة للجملة الفعلية، فحاول المغايرة بين {وَلا تَعْثَوْا} وبين {مُفْسِدِينَ} تجنباً للتأكيد، وذلك هو مذهب الجمهور، لكن كثيرا من المحققين خالف ذلك واختار ابنُ مالك التفصيلَ فإن كان معنى الحال هو معنى العامل جعلها شبيهة بالمؤكدة لصاحبها كما هنا. وخص المؤكدة لمضمون الجملة الواقعة بعد الاسمية نحو زيد أبوك عطوفا 3. وقد اختار ابن عاشور نفسه أنَّ {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة لعاملها4.

3-

قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 5.

والبدهية هنا أن كلمة {إِلَهَيْنِ} مثنى وهو يدل على التثنية ومع هذا قال بعده {اثْنَيْنِ} وقد جَلا الزمخشريُّ في كشافه الوجه البلاغي لهذا الأسلوب فقال: "فإن قُلْتَ: إنَّما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين فقالوا: "عندي رجال ثلاثة، وأفراس أربعة" لأن المعدود عارٍ عن الدلالة على العدد

1 مسائل الرازي وأجوبتها: ص5.

2 البحر المحيط: أبو حيان، ج1 ص 231.

3 التحرير والتنوير: ابن عاشور، ج1 ص 498.

4 المصدر السابق ج1 ص231.

5 سورة النحل: الآية 51.

ص: 38

الخاص، وأما رجل ورجلان، وفرس وفرسان، فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال:(رجل واحد ورجلان اثنان) فما وجه قوله: {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} ؟ قلتُ: الاسم الحامل لمعنى الإِفراد والتثنية دال على شيئين: على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أًريدت الدلالة على أن المَعْنِيَّ به منهما والذي يُساق إليه الحديث هو العدد شُفعَ بما يُؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به ألا ترى أنك لو قلت:(إنما هو إله) ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وخيل إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية"1.

وذكر الرازي وجوها مختلفة لذلك مال إلى أحدها فقال: "الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً، فمن أراد المبالغة في التنفير عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سببا لوقوف العقل على ما فيه من القبح" ثم ذكر قولا آخر هو أنَّ قوله: {إِلَهَيْنِ} لفظ واحد يدل على أمرين: ثبوت الإله، وثبوت التعدد، فإذا قيل: لا تتخذوا إلهين، لم يعرف من هذا اللفظ أنَّ النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو مجموعهما فلما قال:{لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} ثبت أن قوله: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} نهي عن إثبات التعدد فقط"2. وذكر وجوها أخرى يكفي منها ما ذكرناه.

4-

قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} 3. ومن المعلوم أنَّ السقف لا يخر إلا من فوق، وأجاب الرازي على هذا القول: "وجوابه من وجهين:

الأول: أنْ يكون المقصود التأكيد.

الثاني: ربما خَرَّ السقفُ ولا يكون تحته أحد فلما قال: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} دلَّ هذا الكلام

1 الكشاف: الزمخشري، ج2 ص 331-332.

2 التفسير الكبير: الرازي، ج20 ص 47-48.

3 سورة النحل: الآية 26.

ص: 39

على أنهم كانوا تحته، وحينئذ يفيد هذا الكلام أنَّ الأبنية قد تهدمت وهم ماتوا تحتها"1. وقال بهذا ابن حيان في تفسيره2.

5-

قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} 3.

والإسراء من السُّرى كالهُدى وهو سير عامة الليل4، وإذا كان الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل هنا.

وقف كثير من المفسرين عند هذا المعنى وكأنهم اتفقوا على التعليل بأنه أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليلَ مدة الإِسراء، وأنه أُسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة5.

ومال ابن عاشور في تحريره إلى أنه ذكر الليل للتوسل بذكره إلى تنكيره المفيد للتعظيم. فتنكير (ليلاً) للتعظيم بقرينة الاعتناء بذكره مع علمه من فعل "أَسْرَى"، وبقرينة عدم تعريفه، أي هو ليلٌ عظيم باعتبار جعله زمنا لذلك السّرى العظيم، فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم، ألا ترىَ كيف احتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغه خاصة في قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} 6، إذ وقعت ليلة القدر غير منكرة 7.

1 التفسير الكبير: الرازي ج20 ص 20.

2 البحر المحيط: أبو حيان، ج5 ص 485.

3 سورة الإسراء: من الآية الأولى.

4 القاموس المحيط: الفيروز آبادي، ص 1669مادة السري.

5 الكشاف: ج2 ص 350. والتفسير الكبير: الفخر الرازي، ج20 ص 146. ومسائل الرازي: محمد بن أبي بكر الرازي، ص 182. والبحر المحيط: ج6 ص5. والروض الريان: ج1 ص 207.

6 سورة القدر: الآيتان 1-2.

7 التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور ج15 ص11-12.

ص: 40

ومنهم من قال إنَّ ذكر الليل على سبيل التأكيد1.

وذكر الفيروز آبادي قولا لم أجد من قال به سواه، وهو أن المراد بأسرى بعبده سَيَّره2 أي سَيَّره ليلاً.

ومع كثرة القائلين بالأول إلا أننا نجد أحمد بن المنير قد تعقب الزمخشري فيما ذهب إليه من أن ذكر الليل بلفظ التنكير لتقليل مدة الإسراء فقال: "وقد قرن الإسراء بالليل في موضع لا يليق الجواب عنه بهذا كقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} 3، وكقوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} 4. فالظاهر والله أعلم أنَّ الغرض من ذكر الليل، وإن كان الإسراء يفيده تصوير السير بصورته في ذهن السامع، وكأن الإسراء لما دل على أمرين: أحدهما السير، والآخر كونه ليلا أريد إفراد أحدهما بالذكر تثبيتا في نفس المخاطب وتنبيها على أنه مقصود بالذكر"5.

ولعل فيما ذكرته من أمثلة- وهي قليل من كثير- ما يغني ويكفي في بيان هذا النوع من البدهيات.

وإني لاعتقد أنه لو تصدى أحد لجمع البدهيات اللغوية في القرآن الكريم ودرسها دراسة بلاغية شاملة لجاءت في رسالة علمية عالية مفيدة.

1 البحر المحيط. ج6 ص5. والقاموس المحيط: ص 1669. والتحرير والتنوير: ج15 ص 11. وقد علق على هذا بقوله: "على أن الإفادة كما يقولون خير من الإعادة" وفي هذا إيحاء إلى ترجيح القول الأول.

2 القاموس المحيط الفيروز آبادي ص1669.

3 سورة هود: الآية 81. وسورة الحجر: الآية65.

4 سورة الدخان: الآية 23.

5 الانتصاف أحمد بن منير حاشية الكشاف للزمخشري ج2 ص 750.

ص: 41