المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة الحمد الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري - الغنيمان - جـ ١

[عبد الله بن محمد الغنيمان]

الفصل: ‌ ‌المقدمة الحمد الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم

‌المقدمة

الحمد الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، ولا ند له في أسمائه وصفاته.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى، ودين الحق، فدعا إلى توحيد الله الخالص من كل شائبة شرك، في حقه، أو فعله، أو أسمائه وصفاته، وجاهد في هذا السبيل حتى وضح الحق، واستبان وكمل به الدين، وتمت النعمة، فترك الأمة على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

وسار على نهجه صحابته، فلم يغيروا، أو يبدلوا، بل بذلوا جهدهم في دعوة الخلق إلى عبادة الله وحده، حتى مضوا لسبيلهم.

فصلاة الله وسلامه على عبده ورسوله محمد بن عبد الله، إمام الحنفاء وسيد الأصفياء، ورضي الله عن صحابته أجمعين، وعمن سلك نهجهم إلى يوم الدين.

كمال الهداية وتمام النعمة على هذه الأمة

أما بعد، فقد علم أن الله - تعالى - بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل " وفي جاهلية لا تعرف من الحق رسماً، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكماً "(1) ، وإنما ينتحلون ما تهواه نفوسهم، وما تزينه لهم شياطينهم، وما

(1) انتزاعاً من خطبة " الاعتصام" للشاطبي (ص2) .

ص: 3

وجدوا عليه آباءهم، فجاهدهم وجادلهم باللين والحكمة، وقارعهم بالسنان والحجة، لمن كابر وعاند، وكان نصر الله حليفه، فاستقام أمره، وانتصر على عدو الله، وظهر دينه، فجاء نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وبعد تمام نعمة الله - تعالى - عليه وعلى أمته، وظهور ما جاء به من الحق، ووضوح الطريق، توفاه الله إليه، فقام بعده صحابته بأمره خير قيام، فجاهدوا في الله القريب والبعيد، حتى تحقق ما أخبر به رسولهم صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في "صحيحه" عن ثوبان، قال: قال رسول الله -

صلى الله عليه وسلم: " إن الله زوى (1) لي الأرض فرأيت مشارقها، ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين، الأحمر، والأبيض (2) ، وأني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم (3) ، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة (4) ، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً"(5) .

ففتحت بلاد الروم وفارس في عهد الخليفة الثاني، وأنفقت كنوزها في سبيل الله - تعالى- وواصلت جحافل التوحيد إلى مشارق الأرض ومغاربها، تفتح القلوب إلى معرفة الله وتوحيده قبل البلاد، حتى تمت نعمة الله على أكثر أهل

(1) معناه: جمعها لي فرأيت أقصاها من الشرق ومن الغرب.

(2)

المقصود بالكنزين: كنز الفرس، والروم، الأحمر: الذهب، والأبيض: الفضة.

(3)

أي: يهلكهم جميعاً، ويستولي على بلادهم، وذراريهم، وأموالهم.

(4)

أي: لا أرسل عليهم عذاباً يعمهم، ويستأصلهم.

(5)

"صحيح مسلم"(4/2215) رقم (2889) .

ص: 4

الأرض، فاتجهوا إلى عبادة الله وحده، بعدما كانوا يعبدون كل شيء، وكانت تستعبدهم شياطين الجن والإنس.

ولكن كثيراً من الناس لا يعجبهم ذلك، بل يسوؤهم ويحزنهم.

ومن حكمة الله -تعالى - أن جعل للباطل جنوداً يناصرونه، ويدافعون الحق ويردونه، كما جعل للحق أنصاراً يتفانون في الذياد عنه، والدعوة إليه.

وقد كان ذلك منذ باء إبليس اللعين بالطرد عن رحمة الله، والبعد عن كل خير، فأقسم بعزة الله ليغوين بنى آدم أجمعين، إلا عباد الله المخلصين، كما قال الله تعالى عنه:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (1) .

ومن المعلوم أن الله - تعالى - لم يقبض نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له دينه، وأظهره على من عاداه بالحجج والبراهين، وبقوة القتال لمن وقف في وجهه وعاند الحق، كما قال - تعالى - في آخر ما أنزله الله عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} (2) ، فإذا كان الله قد أكمل لهم دينهم، فلا بد من أنه وضحه لهم بحيث لا يبقى فيه أي التباس أو اشتباه، ولا بد من أنهم فهموه واعتقدوه على ما أريد منهم وعملوا به، ولا بد من الاستغناء به عن كل ما سواه، فلا يحتاجون معه إلى غيره، وأعظم ما يحتاجونه وأشرفه هو معرفتهم ربهم بأسمائه وصفاته، وما يجب له ويستحقه، ويحمد ويمجد به، ويثنى به عليه؛ لأن هذا من أفضل العبادة التي أوجبها الله عليهم، كما قال تعالى:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (3) .

(1) الآيتان 82، 83 من سورة ص.

(2)

الآية 3 من سورة المائدة.

(3)

الآية 180 من سورة الأعراف.

ص: 5

قد أوضح الله ورسوله العقيدة وضوحاً جلياً

فلا بد من إيضاح الواجب لله - تعالى - والممتنع عليه، والجائز عليه، حتى يكونوا على بينة من دينهم، ومعبودهم، لأنه لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من الوحي، إذ هو من الغيب، الذي لا يعلم بالقياس، ولا بالعقل.

وقد بين الله لنا طريقة الأنبياء التي كانوا يدعون بها أممهم، كما قص الله تعالى عنهم في القرآن، فقد اتفقت طريقتهم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحده، وخاتمهم جاء مقتفياً أثرهم في ذلك، فدعا أمته إلى ما دعت إليه الرسل قبله، من توحيد الله ومعرفته، فلم يفارقهم حتى وضح لهم الطريق، واستبان الحق من الباطل.

روى ابن ماجه عن أبي الدرداء، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال:" آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إلا هيه، وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء".

قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تركنا على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء"(1) .

وقال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2)، وقال تعالى:{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3)، وقال تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) .

(1)"سنن ابن ماجه"(1/4) رقم (5) .

(2)

الآية 89 من سورة النحل.

(3)

الآية 64 من سورة النحل.

(4)

الآية 44 من سورة النحل.

ص: 6

فالإيمان بالله وأسمائه وصفاته أعظم الأشياء، وكذلك عبادته، فلا بد أن يبين الكتاب - الذي هو تبيان لكل شيء - ذلك أوضح البيان.

ولا بد أن يدل على أعظم الهدى الذي هو معرفة الله - تعالى - بأسمائه وصفاته، كما أن من أعظم ما وقع فيه الخلاف في الأمة هو في هذا الباب، فلا بد أن يكون قد بينه، لأنه تعالى أخبرنا أنه نزله ليبين لنا ما اختلفنا فيه، ولا بد أن نجد فيه ما يزيل كل شك ولبس؛ لأنه هدى ورحمة، لكن ليس لكل أحد بل للمؤمنين فقط.

وأعظم ما أنزل إلينا هو الإيمان بالله، ومعرفته، وقد أخبرنا تعالى أنه أنزل الكتاب ليبين للناس ما نزل إليهم، فكيف يترك أعظم الأشياء المنزلة إلينا بدون بيان؟

فعلم بهذا ونحوه أن الله - تعالى - بين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للأمة كل ما تحتاج إليه في دينها، ومعرفة ربها، ولم يكل ذلك إلى عقولهم، أو قياساتهم.

قال ابن عباس في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} (1) : " أخبر الله نبيه والمؤمنين، أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً"(2) .

فإذا كان الله - تعالى - قد أكمل لهم الإيمان، فكل ما لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الإيمان ولم يأمر به ويبينه للأمة فهو باطل، وليس من الدين الكامل الذي جاء به.

وأصل الدين وأساسه: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، ومعرفة ما يجب له على عباده.

(1) الآية 3 من سورة المائدة.

(2)

رواه ابن جرير بسنده، انظر " تفسيره"(9/518) ط المعارف.

ص: 7

ولا يجوز لمسلم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يبين ما يعتقده العبد في ربه؛ لأن هذا هو الذي أمر بتبليغه.

قال شيخ الإسلام: " من المحال في العقل والدين أن يكون الرسول الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله، من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه، فإن معرفة هذا أصل الدين، وأفضل الأعمال، فكيف يكون القرآن والرسول والصحابة - وهم أفضل الخلق بعد النبيين - لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟ ".

ومحال أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة، ونحو ذلك، ويترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، وما يعتقدونه في قلوبهم، في ربهم ومعبودهم، مع كون ذلك غاية المعارف، وأشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم"(1) .

ومحال أن يكون الذين كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين يلونهم غير عالمين للحق في باب معرفة الله، وغير قائلين به.

ومعلوم أن من في قلبه حياة ومحبة للعبادة، أنه يحرص أشد الحرص على معرفة ذلك.

وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (2) " خير الناس قرني، ثم الذين

(1) انظر "صحيح مسلم"(12/233) شرح النووي، في الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، وابن ماجه في الفتن، انظر (2/1306) رقم (3956) ، والنسائي في البيعة (7/153) .

(2)

البخاري، انظر "الفتح"(7/2) و (11/244، 543) .

ص: 8

يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" (1) .

بدء الانحراف

لما سيطر حكم الإسلام على أكثر البلاد، في آسيا، وأفريقيا، وغيرهما، دخل تحت حكمه أمم كثيرة، رغبة ورهبة، وكان لها أديان مختلفة، من يهودية، ومجوسية، ونصرانية، ووثنية، وغير ذلك، وقد كان لكثير من هذه الأمم سلطان كبير، مثل المجوس، والرومان، فسلبهم المسلمون ذلك، وكان عند هؤلاء من الكبر والاستعلاء ما يجعلهم يأنفون من كونهم تحت سلطان المسلمين، ولا سيما وقد كانوا يرون العرب من أحقر الأمم، وأقلها شأناً، كما أن اليهود واجهوا الإسلام ورسوله من أول أمره بالعداء، وحاولوا القضاء عليه بأنواع من المكائد، والمؤامرات، ولما يئس هؤلاء جميعاً من قدرتهم في مجابهة الإسلام بالقوة وجهاً لوجه انصرف جهدهم وكيدهم إلى الدسائس، والمؤامرات، والاغتيالات لرجاله العظام.

ودخل في الإسلام ظاهراً من هؤلاء من قصده إفساده، وتمزيق وحدة أهله، ولا بد أن يكون ذلك عن دراسة، وإعمال فكر وتخطيط. وربما يكون هناك جمعيات متعاونة، من المجوس واليهود، والنصارى والهنود، وغيرهم، وقد تكون لكل طائفة مؤسسات تعمل لإفساد عقائد المسلمين؛ لتيقنهم أنه لا يمكن هزيمة المسلمين، إلا بإفساد عقيدتهم، فبدأت آثار تلك المؤامرات تظهر، شيئاً فشيئاً، فقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بأيد مجوسية، وربما بمؤامرة مجوسية يهودية.

ثم قتل الخليفة بعده، بأيد مشبوهة، من غوغاء، يدفعهم بعض دهاة اليهود والمجوس.

(1) الفتوى الحموية، ملخصاً، انظر "مجموع الفتاوى"(5/706) .

ص: 9

ثم ظهر القول بنفي القدر، وأول من عرف بذلك رجل مجوسي يقال له: سيسويه، من الأساورة، وإن كان قد اشتهر أن أول من قال به

معبد الجهني (1) .

ثم أوقدت نار الفتنة بين المسلمين، وقتال بعضهم بعضاً.

ثم خرجت الخوارج بجهلهم، وعتوهم، وتكفيرهم المسلمين، وقتلهم إياهم.

ثم نجم التشيع الشنيع، من قبل يهود ومجوس يوقدون ناره، وأظهروا القول بأن للرسول –صلى الله عليه وسلم وصياً، هو علي بن أبي طالب، ولكن الصحابة تمالؤوا على ظلمه، وكتمان الوصية على حد زعمهم الكاذب.

ولم يزل التشيع يتطور بتطرفه، وتشعبه، حتى صار ملجأ لكل من يريد أن يحارب الإسلام والمسلمين، وظهر فيه القول بأن القرآن مبدل ومحرف، ومزيد فيه، ومنقوص منه، وأن أعظم الصحابة ارتدوا بعد إسلامهم إن لم يكونوا كلهم، ما عدا علي بن أبي طالب ونفراً قليلاً معه.

وقد يصل الضلال ببعضهم والجرأة على الله – تعالى – إلى أن يقول بخيانة جبريل للرسالة، وأنه أرسل إلى علي فعدل بها إلى محمد.

ولم يزل الرفض يبتعد أهله عن الدين والعقل والفطرة إلى يومنا هذا.

ثم ظهر القول بإنكار الصفات لله – تعالى -، وأنه لا يحب أحداً من عباده ولا يحبه أحد، ولا يتكلم، وليس له يد، ولا وجه، ولا شيء مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله.

(1) معبد الجهني البصري: تابعي، كان داعية في ضلال، قال الدارقطني: حديثه صالح ومذهبه رديء. تكلم فيه كثير من السلف من أجل قوله بنفي القدر، قتله عبد الملك سنة ثمانين. انظر " تهذيب التهذيب"(10/225) .

ص: 10

وكان أول من عرف بذلك، رجل يقال له: الجعد بن درهم (1) .

قال شيخ الإسلام: " أصل مقالة تعطيل الصفات، مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في

الإسلام – أعني أن الله ليس على العرش حقيقة، وأن الاستواء بمعنى الاستيلاء، ونحو ذلك – هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه.

وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر، الذي سحر النبي –صلى الله عليه وسلم –" (2) .

وهذه سلسلة يهودية لها سوابق في محاربة الإسلام.

وقال البخاري: " حدثنا قتيبة، حدثني القاسم بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيبة، عن أبيه، عن جده، قال: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط في يوم أضحى

وقال: ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله علواً كبيراً عما يقول ابن درهم، ثم نزل فذبحه".

قال أبو عبد الله: قال قتيبة: " بلغني أن جهماً كان يأخذ الكلام من الجعد بن درهم"(3) .

فتبين أن هذا الإلحاد جاء من قبل اليهود الذين أرادوا إفساد دين الإسلام،

(1) عداده في التابعين، قتله خالد بن عبد الله القسري على الزندقة، يذكر أنه جعل في قارورة ماء وتراباً، فاستحال دوداً، فقال: أنا خلقته. وهو فارسي، قتل سنة 124، انظر " البداية والنهاية"(9/394) .

(2)

" مجموع الفتاوى"(5/20) .

(3)

"خلق أفعال العباد"(ص29-30) ورواه عثمان بن سعيد في "الرد على الجهمية"(ص25) .

ص: 11

كما أن الرفض أول من عرف من دعاته يهودي ماكر حاقد، وهو ابن سبأ، يقال له: ابن السوداء، واسمه: عبد الله بن وهب بن سبأ، من يهود صنعاء، ولا بد أن هؤلاء الأفراد الذين شهروا بدعواتهم المنحرفة، وراءهم من يدعمهم، ويخطط لهم، وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة فاحصة، تبين الأمر بوضوح، وهذا الذي أشرت إليه تدل عليه كثير من الوقائع، والآثار عن السلف، وغيرهم.

فكان هذا هو سبب التفرق الحقيقي، إذ هو تفرق في الاعتقاد، وهو منشأ الخلافات، والحروب الكلامية الممزقة، التي لم تزل تنخر في كيان المسلمين إلى يومنا هذا.

وقد ينضم إلى ذلك عوامل جديدة في كل فترة زمنية، من أنواع الإلحاد ومحاربة الإسلام بأساليب شتى وأسلحة مختلفة، مقروءة ومرئية ومسموعة، ولولا أن الله - تعالى - تكفل ببقاء هذا الدين إلى آخر وقت من الدنيا، لقضي عليه منذ زمن بعيد، وهذا بالإضافة إلى ما هو كامن في طباع البشر مما يبعدهم عن الحق، مثل التقليد، واتباع المألوفات، وما يكون عليه رؤساء القوم وعظماؤهم، كما ذكر الله تعالى عن الأمم السابقة مع أنبيائهم، قال تعالى:

{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ {21} بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (1) .

فهذا يدل على أن الإنسان يصعب عليه ترك المألوف له، كما أن شيخه ومن يعظمه قد يسيطر على توجيهه إلى ما يعتقده، كما هي طريقة المتكلمين حيث يأخذون بآراء شيوخهم ومعظميهم، مع مخالفتها لكتاب الله وسنة رسوله.

ومن ذلك الجهل، واتباع الهوى، كما هو حال أكثر الخوارج، فإنهم

(1) الآيات 20-24 من سورة الزخرف.

ص: 12

جهلوا معاني الكتاب، وأرادوا من عموم الأمة أن لا يكون لهم ذنوب، وإلا أصبح عندهم كافراً مخلداً في النار.

وأما الهوى فبابه واسع، وقد قال الله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (1) .

وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} (2)

إلى غير ذلك من الدوافع نحو الانحراف، وسأذكر شيئا مما ذكره أهل العلم يؤيد ما ذكر هنا:

قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -: " وقد روي أن أول من ابتدع {القول بنفي القدر} بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له: سيسويه، من أبناء المجوس، وتلقاه عنه معبد الجهني"(3) .

وقال الإمام ابن حزم: " الأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام: أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم، حتى إنهم يسمون أنفسهم: الأحرار، والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم، على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة، في أوقات شتى، ففي كل ذلك يظهر الله – سبحانه وتعالى – الحق، وكان من قائمتهم "منقاذ" و"المقنع" و"استابين"،

(1) الآية 23 من سورة الجاثية.

(2)

الآية 50 من سورة القصص.

(3)

"مجموع الفتاوى"(7/384) ، وذكره المقريزي في "الخطط"(3/360) ، وسيأتي، وأما ما ذكره أبو لبابه حسين في كتابه "موقف المعتزلة من السنة" أن معبداً أخذ مقالته عن نصراني من أهل العراق أسلم ثم تنصر، نقلاً عن أدب المعتزلة، ففيه نظر، إذ هو خلاف المشهور.

ص: 13

و"دبابك"(1) وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب "خداشا"، و"أبو مسلم السراج".

فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم واستشناع ظلم (2) علي- رضي الله عنه ثم سلكوا بهم مسالك شتى، حتى أخرجوهم عن الإسلام، فقوم منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلاً ينتظر يدعى المهدي، عنده حقيقة الدين، إذ لا يجوز أن يؤخذ من هؤلاء الكفار.

وقوم خرجوا إلى نبوة من ادعوا له النبوة.

وقوم سلكوا بهم المسلك الذي ذكرنا، من القول بالحلول، وسقوط الشرائع. وآخرون تلاعبوا بهم، فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة.

وآخرون قالوا: بل هي سبع عشرة صلاة، في كل صلاة خمس عشرة ركعة.

وهذا قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكندي: قبل أن يصير خارجياً صفرياً (3) .

(1) هذه الأسماء فيها اختلاف بين النسختين من "الفصل" المحققة والمطبوعة سابقاً، ففي القديمة "ستقادة" و "استاسيس" والملقب بـ " خداش" و "أبو مسلم السراج" ولم يشر المحققان إلى هذا الاختلاف.

(2)

لم يقع على علي بن أبي طالب ظلم من الصحابة كما زعمته الرافضة، وإنما هو شيء اختلق للتشنيع والوصول إلى المقصد الخبيث.

(3)

يجوز أن يكون عبد الله هذا يهودياً، لم يشف حقده ما فعله من إفساده دين من أفسد دينه، فدخل في الخوارج ليروي ظمأ حقده بدماء المسلمين، فالله أعلم.

ص: 14

وقد سلك هذا المسلك أيضاً عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي (1) ، فإنه لعنه الله، أظهر الإسلام ليكيد أهله، فهو كان أصل إثارة الناس على عثمان – رضي الله عنه وحرق علي بن أبي طالب طوائف أعلنوا بإلهيته.

ومن هذه الأصول الملعونة، حدثت الإسماعيلية، والقرامطة، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة، قائلتان بالمجوسية المحضة، ثم مذهب مزدك الموبذ، الذي كان على عهد أنو شروان بن قباذ، ملك الفرس، وكان يقول بوجوب تساوي الناس في النساء، والأموال.

قال أبو محمد: " فإذا بلغ الناس إلى هذين الشعبين أخرجوهم عن الإسلام كيف شاؤوا إذ هذا هو غرضهم فقط"(2) .

وهذا الذي ذكره أبو محمد ابن حزم – رحمه الله – ظاهر في أنه كان هناك جمعيات تنظيمية تخطط لهدم عقيدة المسلمين، بشتى الوسائل.

قال البخاري – رحمه الله تعالى -: " حدثنا محمد بن عبد الله – أبو جعفر البغدادي- قال: سمعت أبا زكريا، يحيى بن يوسف الزمي، قال: كنا عند عبد الله ابن إدريس، فجاءه رجل، فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: أمن اليهود؟ قال: لا، قال: فمن النصارى؟ قال: لا، قال: فمن المجوس؟ قال: لا، من أهل التوحيد، قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء

الزنادقة من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله مخلوق، يقول الله – تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم، فالله لا يكون مخلوقاً، والرحمن لا يكون مخلوقاً، والرحيم لا يكون مخلوقاً.

(1) إن فعل هذين الرجلين يدلنا على أن هناك منظمات تتعاون على حرب الإسلام من اليهود والمجوس وغيرهم، كما أشرت إليه قبل ذلك.

(2)

"الفصل"(2/115-116) وانظر "المحققة"(2/273-274) .

ص: 15

وهذا أصل الزندقة، من قال هذا فعليه لعنة الله، لا تجالسوهم، ولا تناكحوهم" (1) .

وقال أبو سعيد الدارمي – رحمه الله تعالى -: " لم يزل {أهل الباطل} مقموعين أذلة، مدحورين، حتى كان الآن بآخرة، حيث قلت الفقهاء، وقبض العلماء، ودعا إلى البدع دعاة الضلال، فشد ذلك طمع كل متعوذ في الإسلام من أبناء اليهود، والنصارى، وأنباط العراق، ووجدوا فرصة للكلام، فجدوا في هدم الإسلام، وتعطيل ذي الجلال والإكرام، وإنكار صفاته وتكذيب رسله، وإبطال وحيه، إذ وجدوا فرصتهم، وأحسوا من الرعاع جهلاً، ومن العلماء قلة، فنصبوا عندها الكفر للناس إماماً، بدعوتهم إليه، وأظهروا لهم أغلوطات من المسائل، وعمايات من الكلام، يغالطون بها أهل الإسلام، ليوقعوا في قلوبهم الشك، ويلبسوا عليهم أمرهم ويشككوهم في خالقهم، مقتدين بأئمتهم الأقدمين"(2) .

وقال البخاري: " حدثني أبو جعفر، حدثن يحيى بن أيوب، قال: سمعت أبا نعيم البلخي، قال: كان رجل من أهل "مرو" صديقاً للجهم، ثم قطعه وجفاه، فقيل له: لم جفوته؟ فقال: جاء منه ما لا يحتمل، قرأت يوماً آية كذا وكذا – نسيها يحيى- فقال: ما كان أظرف محمداً، فاحتملتها، ثم قرأ سورة طه، فلما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، قال: أما والله لو وجدت سبيلاً إلى حكها لحككتها من المصحف، فاحتملتها، ثم قرأ سورة القصص فلما انتهى إلى ذكر موسى، قال: ما هذا؟ ذكر قصته في موضع فلم يتمها، ثم ذكرها هاهنا فلم يتمها، ثم رمى المصحف من حجره برجليه، فوثبت عليه"(4) .

(1)"خلق أفعال العباد"(ص30) .

(2)

"الرد على الجهمية"(ص259)"عقائد السلف".

(3)

الآية 5 من سورة طه.

(4)

"خلق أفعال العباد"(ص46)، وانظر:"عقائد السلف"(128-129) .

ص: 16

فهذه الوقائع - ومثلها كثير جداً - تدل على حقد دفين على هذا الدين، وأنه دخل في المسلمين الدخيل ذو القلب الموتور، والصدر الموغور، والنفس التي تأكلها نار عداوة الإسلام، ونبي الإسلام، وأن هؤلاء يحاولون اجتثاث الإسلام من قلوب الناس، بالتشكيك في أصوله، وأن كثيراً من علماء السلف علموهم، وعرفوا أن مرادهم صد الناس عن الإسلام، وإفساد عقائدهم: وأن تعاوناً يهودياً، ومجوسياً، ونصرانياً، وإلحادياً لم يزل ينتهز الفرص، جاهداً في إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

ولا شك أن الصراع بين الحق والباطل قديم، وأنه لا يخلو زمان ولا مجتمع من ذلك، وأن الله - تعالى - جعل للباطل هواة ومحبين، ينفقون أموالهم ويبذلون نفوسهم في الدفاع عنه، كما جعل للحق أنصاراً، وهذا أمر ظاهر، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (1) .

وإذا كان الإنسان متظاهراً بمساندة الباطل ونصرته، فأمره أسهل ممن يخفي ذلك، ويتظاهر بالخير والإيمان، وهو من أبعد الناس عنه، وأشدهم عداوة له، وإنما مقصده معرفة مواطن الضعف من الإسلام وأهله، والمداخل التي تنفذ سمومه منها فيهم، ثم يرميهم بكل ما يستطيع.

وربما يكون هناك تنظيمات تلبس لباس العلم والمعرفة، والإصلاح، والتجديد، والمقصود منها القضاء على الدين، وهم ينوعون أساليبهم في كل وقت بما يناسبه، وإن مصائب الإسلام بهؤلاء وأمثالهم، من فجره إلى يومنا هذا تتوالى، وقد وصف ذلك المقريزي- رحمه الله وصفاً مفيداً ألخصه فيما يلي:

قال:

(1) الآية 76 من سورة النساء.

ص: 17

" لما بعث الله محمداً –صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وصف لهم ربهم بما وصف به نفسه، فلم يسأله أحد من العرب بأسرهم، قرويهم وبدويهم، عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه عن أمر الصلاة، وشرائع الإسلام، إذ لو سأله أحد منهم عن شيء من الصفات لنقل، كما نقلت أحاديث الأحكام وغيرها.

ومن أمعن النظر في دواوين الحديث والآثار عن السلف، علم أنه لم يرد قط لا من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة على اختلاف طبقاتهم، وكثرة عددهم، أنه سأل النبي-صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء (1) ، مما وصف الرب- سبحانه- به نفسه في القرآن وعلى لسان نبيه، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا سكوت فاهم مقتنع، ولم يفرقوا بين صفة وأخرى، ولم يتعرض أحد منهم إلى تأويل شيء منها، بل أجروا الصفات كما ودرت بأجمعهم، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به سوى كتاب الله وسنة رسوله.

ومضى عصرهم – رضي الله عنهم على هذا، وحدث القول بنفي القدر في عهد آخرهم.

وكان أول من فاه بذلك معبد الجهني، أخذه عن رجل من الأساورة، يقال له: أبو يونس سيسويه، ويعرف بالأسواري، وتبرأ من هذه المقالة الصحابة. ثم خرجت الخوارج، وكفروا بالذنوب، فقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

وحدث التشيع لعلي، وغلا فيه طائفة بدعوة ابن سبأ اليهودي، فحرقهم في النار، كما أحدث ابن سبأ القول بالوصية لعلي بالإمامة من بعد الرسول –صلى الله عليه وسلم والقول بالرجعية، أي رجعة علي بعد موته، وأن فيه جزءاً من الإلهية.

ومن دعوة هذا اليهودي تشعبت الغلاة من الرافضة، كالإمامية الاثنى عشرية، والإسماعيلية، والقرامطة، والنصيرية، وغيرهم، وهو الذي أثار الفتنة على أمير المؤمنين عثمان حتى قتل، ولم يزل مذهب الرفض يستفحل حتى ملأ الدنيا فساداً.

(1) مقصوده: أنهم لم يسألوا عن مثل اليدين والوجه والنزول والاستواء ونحو ذلك، مما يدل على أنهم فهموا أن هذه الصفات على ظاهرها المفهوم من لغتهم، مع علمهم انتفاء المماثلة فيها لصفات الخلق.

ص: 18

ثم حدث مذهب الجهمية، وتعطيل الرب- تعالى – عن صفاته، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك من العظائم، وعربت كتب الفلاسفة في عهد المأمون، فعظمت الفتنة والضلال.

ثم ظهر الأشعري، وكان أخذ عن الجبائي الاعتزال، ولازمه دهراً طويلاً، ثم سلك طريق ابن كلاب في الصفات، والقدر، وغير ذلك.

وسلك طريقه جماعة من العلماء، مثل الباقلاني، وابن فورك، والاسفراييني، والشيرازي، والغزالي، والشهرستاني، والرازي وغيرهم، ملأوا الدنيا بتصانيفهم، يحتجون، ويدعون أن طريقتهم هي طريقة أهل السنة والجماعة، فانتشر هذا المذهب في البلاد الإسلامية، وجاءت دولة بني أيوب، وكانوا على هذا المذهب، ثم مواليهم الأتراك، وأخذه ابن تومرت إلى المغرب، ونشره هناك، فصار هذا المذهب هو المعروف في الأمصار، بحيث نسى ما عداه من المذاهب، أو جهل، حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة.

حتى جاء تقي الدين –أبو العباس ابن تيمية-، فتصدى للانتصار لمذهب السلف، ورد على الأشاعرة، والرافضة، والصوفية، فافترق الناس فيه فريقان: فريق يقتدي به، ويعول على أقواله، ويرى أنه شيخ الإسلام حقاً، ومن أجل حفاظ أهل الملة الإسلامية.

وآخر يبدعه، ويضلله، ويزري عليه إثبات الصفات وغيرها".

ثم قال المقريزي:

"فهذا- أعزك الله- بيان ما كانت عليه عقائد الأمة من ابتداء الأمر إلى وقتنا، قد فصلت فيه ما أجمله أهل الأخبار، وأجملت ما فصلوا، فدونك طالب العلم تناول ما قد بذلت فيه جهدي، وأطلت بسببه سهري وكدي، في تصفح دواوين الإسلام، وكتب الأخبار فقد وصل إليك صفواً". (1)

(1)"الخطط" للمقريزي ملخصاً (3/309-314) .

ص: 19

وقال أحمد أمين في كلامه على ابن سبأ: "والذي يؤخذ من تاريخه، أنه وضع تعاليم لهدم الإسلام، وألف جمعية سرية لبث تعاليمه، واتخذ الإسلام ستاراً يستر به نياته". (1)

وذكر الطبري: "أن ابن السوداء لما وصل إلى الشام لقي أبا ذر رضي الله عنه فقال له: يا أبا ذر، ألا تعجب لمعاوية، يقول: المال مال الله، ألا إن كل شئ لله، يريد أن يحتجبه دون المسلمين، فذهب أبو ذر إلى معاوية وقال له: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ ". ثم أتى ابن السوداء أبا الدرداء، فقال له أبو

الدرداء: من أنت؟ أظنك - والله - يهودياً. وأتى عبادة بن الصامت فأخذه عبادة، وذهب به إلى معاوية، وقال له: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر". (2)

فإذا كان هذا اليهودي قد طمع بالصحابة، فكيف بغيرهم؟

ومن استقرأ التاريخ يرى أن أعداء الإسلام لم يدخروا وسعاً في محاولة القضاء عليه، إلى يومنا هذا.

كبريات الفرق الإسلامية

كان من نتائج التآمر على عقيدة المسلمين من جهات متعددة، كما سبقت الإشارة إليه، أن انشطر من الأمة الإسلامية عدة فرق، انحرفت عن الطريق الصحيح، الذي رسمه لها نبيها-صلى الله عليه وسلم وأخذت بنيات الطريق، كما سبق في حكم الله القدري الكوني، قال تعالى:{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . (3)

(1)"فجر الإسلام"(ص269) .

(2)

"تاريخ الطبري"(4/283) .

(3)

الآيتان 118، 119 من سورة هود.

ص: 20

روى ابن جرير عن الحسن"قال: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلفين".

وروي عن مجاهد: قال: "ولا يزالون مختلفين" أهل الباطل، "إلا من رحم ربك"أهل الحق". (1)

وقال: "معنى ذلك: ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم، وأهوائهم، على أديان وملل، وأهواء شتى، إلا من رحم ربك، فآمن وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق رسله، وما جاءهم من عند الله". (2)

وقال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة، من إيمان أو كفران، كما قال تعالى:{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} . (3)

وقوله: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم، واعتقاداتهم في مللهم ونحلهم، ومذاهبهم، وآرائهم، إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذي جاءت به رسل الله إليهم، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة، لأنهم الفرقة الناجية". (4)

وقد أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم بوقوع هذا الاختلاف، محذراً منه، فروى أبو داود، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". (5)

(1)"تفسير الطبري"(15/534) ط المعارف.

(2)

المصدر السابق، (ص534) .

(3)

الآية 99 من سور يونس.

(4)

"تفسير ابن كثير"(4/290-291) ملخصاً، ط الشعب.

(5)

"السنن"(5/4) رقم (4596) ، ورواه الترمذي، "التحفة"(7/397)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2/1321) رقم (3991) .

ص: 21

ورواه أيضاً من حديث معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب، افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة". (1)

قال ابن كثير: "روي هذا الحديث في "السنن" و"المسانيد" من طرق يشد بعضها بعضاً". (2)

وأصل الفرق الذي ترجع إليه أربع كما قال طائفة من السلف، وهم الروافض، والخوارج، والقدرية {المعتزلة} ، والمرجئة، وبعض العلماء يجعلها خمساً ويدخل أهل السنة، كما قال أبو محمد بن حزم: "فرق المقرين بملة الإسلام

خمس، وهم: أهل السنة، والمعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، ثم افترقت كل فرقة من هذه على فرق". (3)

ومراده: غير أهل السنة، فإنهم فرقة واحدة، وهم الذين تمسكوا بكتاب الله واتبعوا سنة رسوله-صلى الله عليه وسلم.

وقال الطرطوشي: "اعلم أن علماءنا قالوا: أصول البدع أربعة، وسائر الأصناف الاثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وتشعبوا. وهم: الخوارج: وهي أول فرقة خرجت على علي بن أبي طالب، والروافض، والقدرية، والمرجئة". (4)

(1)"السنن"(5/5) ، والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو مع بعض الاختلاف في اللفظ، وقال: حديث حسن مفسر، انظر "تحفة الأحوذي"(7/399) .

(2)

"تفسير ابن كثير"(4/291) .

(3)

"الفصل"(2/265) .

(4)

"الحوادث والبدع"(ص31) .

ص: 22

ومن هذه الفرق تشعبت سائر الفرق، وقد ألف فيها وفي بيان نحلها مؤلفات قديماً وحديثاً.

وكان من أول هذه الفرق الشيعة، فإنها حدثت في آخر عصر الصحابة، ثم تطور التشنيع إلى الرفض، ومبدأه من ابن سبأ اليهودي، وغيره من المجوس ممن دخل في الإسلام ظاهراً وفي الباطن هم إما يهود ماكرون، أو مجوس موتورون، قصدهم إفساد الدين الإسلامي، كما تقدم.

فكان الرفض في أوله يسمى التشيع، فاشتهروا بالشيعة-أي شيعة علي بن أبي طالب- وكانوا في زمنه ثلاث فرق:

فرقة تقول: إنه إله، وقد صرحوا له بذلك، فحرق الذين تمكن منهم بالنار.

والثانية: الذين يسبون أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما وقد توعد علي رضي الله عنه من فعل ذلك بأن يقيم عليه الحد- قيل: إنه القتل.

والثالثة: المفضلة، الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر، وبقية الصحابة، وقد روي عنه أنه قال:"لا أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته الحد". (1)

ولما خرج زيد بن علي بن الحسين في أوائل المائة الثانية، سأله الشيعة عن أبي بكر وعمر، فترضى عنهما، وبين أنه يتولاهما، تبرأ منه عند ذلك أكثرهم، فقال: رفضتموني. فسموا: الرافضة، والذين اتبعوه سموا زيدية.

وأما القدرية: فأصلهم-فيما يبدو، والله أعلم- من المجوسية المتعاونة مع اليهودية والنصرانية على حرب الإسلام.

(1) انظر: "فضائل الصحابة" للإمام أحمد (1/83) .

ص: 23

وحدثت هذه الضلالة أيضاً في آخر عهد الصحابة- رضي الله عنهم ثم تطورت إلى الاعتزال.

وقد أغتر بهذا المبدأ كثير من الناس، الذين عجزت عقولهم عن استيعاب الإيمان بقدر الله، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وظنوا امتناع الجمع بين ذلك، فنفوا علم الله بالمستقبل، لظنهم أنه لا يحسن أن يأمر من يعلم أنه يعصي أمره ثم يعذبه على ذلك، حيث جعلوا هذا ظلماً لا يجوز، فقابلتهم الجبرية، الذين هم صنو منهم، ثم تطورت إلى التجهم، والتعطيل، بتغذية اليهودية المفسدة في الأرض.

وأما الخوارج: فهم الذين خرجوا عن الحق من جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهم كذلك كان ظهورهم في آخر عهد الصحابة رضي الله عنهم. وهم إنما أتوا من سوء فهمهم للنصوص، ولم يقصدوا مخالفة القرآن، ولكن فهمهم أداهم إلى ما لم يدل عليه القرآن، وهو تكفير أهل الذنوب، والقول بخلودهم في النار، ولابد أنه اندس في صفوفهم من يضللهم من منظمات الموتورين، والحاقدين على دين الله وعباده المؤمنين.

وأما الإرجاء: فإنه وإن كان أخف هذه البدع، ومعتنقوه من أقربهم إلى أهل السنة، ففيه من الضلال والمخالفة لشرع الله تعالى ما هو معروف في مواطنه.

الأشعرية

من نتائج الافتراق والتشتت، برزت الأشعرية، وهي عبارة عن خليط من مذاهب عدة فرق، كالمعتزلة، والكلابية، والجهمية، وقد كان إمام هذه النحلة-أبو الحسن الأشعري- تلميذاً لأبي علي الجبائي، قرأ عليه أصول المعتزلة، ولازمه ما يقرب من أربعين عاماً، ولهذا كان خبيراً بمذاهب المعتزلة، ثم انتقل إلى طريقة

عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهي أقرب إلى مذهب أهل السنة من طريقة

ص: 24

المعتزلة، وجعل يبين فساد مذهب الاعتزال ويرد عليهم، ويوضح فساد أصولهم، وتناقضهم، وبعدهم عن الحق، ومثلهم الرافضة والفلاسفة، ولهذا صار له ذكر حسن وقدر عند المسلمين.

والذين ينتسبون إليه من المتأخرين ليسوا على طريقته، مع أنه لم يكن من أهل السنة المحضة، إذ لم يستطيع أن يتخلص من بعض مسائل أهل الكلام.

قال شيخ الإسلام: "لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإمام أحمد، ونحوه، ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي يذكرها عن أهل السنة والحديث، إما ألفاظ زكريا بن يحيي الساجي، التي وصف بها مذهب أهل السنة، أو ألفاظ أصحاب الإمام أحمد، وما ينقل عن أحمد في رسائله الجامعة في السنة، وإلا فالأشعري لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة، وأصحاب الحديث، وإنما يعرف أقوالهم من حيث الجملة، لا يعرف تفاصيل أقوالهم، وأقوال أئمتهم، وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير.

وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت تامة على سبيل التفصيل.

ولهذا لم يذكر عن أهل السنة في كتاب "مقالات الإسلاميين" إلا جملة مقالاتهم، مع أن لهم في تفاصيل تلك ما ليس لأهل الكلام.

ولا ريب أن للآشعري في الرد على أهل البدع كلاماً حسناً، هو من الكلام المقبول، الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية.

وله أيضاً كلام خالف به بعض السنة هو من الكلام المردود، الذي يذم قائله إذا أصر عليه بعد قيام الحجة" (1) والله يغفر لنا وله.

وقد انتسب إلى الأشعري أكثر العالم الإسلامي اليوم من أتباع المذاهب الأربعة، وهم يعتمدون على تأويل نصوص الصفات تأويلاً يصل أحياناً إلى

(1)"التسعينية"(5/286-287) من الفتاوى المصرية، ملخصاً.

ص: 25

التحريف، وأحياناً يكون تأويلاً بعيداً جداً، وقد أمتلأت الدنيا بكتب هذا المذهب، وادعى أصحابها أنهم أهل السنة، ونسبوا من آمن بالنصوص على ظاهرها إلى التشبيه والتجسيم.

هذا ولابد لعلماء الإسلام-ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقاومة هذه التيارات الجارفة، على حسب ما تقتضيه الحال، من مناظرات، أو بالتأليف، وبيان الحق بالبراهين العقلية والنقلية، وقد يصل الأمر أحياناً إلى شهر السلاح.

وقد أكثر علماء السنة من التأليف في الرد على أهل الأهواء والانحراف، كما ظهر بعض الطوائف المقابلة لتلك البدع كالسالمية والكلابية، الذين تولوا أيضاً الرد على أهل تلك الانحرافات، غير أنهم كثيراً ما يردون البدع ببدع مماثلة لما يرد أو قريباً منها، يزداد من أجل ذلك التباس الحق على كثير من الناس، بخلاف ما إذا كان الرد بما دل عليه كتاب الله- تعالى- وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم كما هو نهج أهل السنة، بالإضافة إلى المعقول الصريح.

ومن كبار علماء السنة الذين ردوا على أهل البدع، الإمام البخاري-رحمه الله تعالى - في كتاب أفرد لذلك سماه "خلق أفعال العباد"، ولم يقتصر فيه على ما يفهم من الاسم، بل رد فيه على الجهمية والقدرية وغيرهم، كما رد على المرجئة في كتاب الإيمان من "الجامع الصحيح"، ورد على الجهمية والمعتزلة ومن سلك طريقهم في كتاب "التوحيد"، الذي ختم به كتابه "الجامع الصحيح"، وسلك فيه طريقاً واضحاً في الرد، إذ اقتصر على ذكر النصوص، من الكتاب والسنة، التي فيها بيان بطلان مذاهب هؤلاء المشار إليهم، فكأنه يقول: هذا كتاب ربنا الذي أنزله علينا وأمرنا باتباعه، وحضنا على تدبره وفهمه، وجعله هدى ونوراً وشفاءً للمؤمنين به، وهذه سنة نبينا الذي كلفنا بطاعته، ومتابعته، وفيهما العصمة عن الخطأ، وهما صريحان في بيان الحق، الذي ضل عنه هؤلاء المبتدعة، ففيهما تكفلا برد ما جاؤوا به، فلا يسع المسلم إلا الأخذ بهما، ورد ما خالفهما، ففيهما الهدى والنور، وفي تركهما الضلال والهلاك، والله-تعالى- لم يكلنا إلى

ص: 26

عقولنا، بل أرسل إلينا رسولاً بين لنا كل ما نحتاج إليه من أمور ديننا، وأنزل عليه كتابه، فيه تبيان لكل شيء فرق فيه بين الحق والباطل، فلسنا نحتاج معه إلى غيره، فإن تمسكنا به أوصلنا إلى الله من أقرب طريق وأهداه، وإن أعرضنا عنه تخطفتنا الشياطين من كل

جانب، كما قال الله -تعالى-:{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ {37} حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} . (1)

الإمام البخاري

هو أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه. (2)

قال النووي: "اتفق العلماء على أنه ولد بعد صلاة الجمعة، لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، سنة أربع وتسعين ومائة، وتوفي ليلة السبت، عند صلاة العشاء ليلة الفطر، سنة ست وخمسين ومائتين، ودفن يوم الفطر بعد الظهر". (3)

طلب العلم من صغره، وتبينت نجابته، وذكاؤه، وفطنته، وحفظه، ونبله من صغره، وقد طوف البلاد مراراً لطلب الحديث، وأخباره مشهورة، واتفق العلماء على جلالته، وإمامته في الحديث، وفقهه، وتميز بذلك عن غيره، وقد كتب في ترجمته كثيراً، في كتب الرجال، والشروح، وأفرد لذكر فضائله وشمائله كتب خاصة، فلا نطيل في ذلك.

وأما كتابه "الجامع الصحيح"فقال النووي-رحمه الله: "اتفق

(1) الآيات 36-38من سورة الزخرف.

(2)

"هدي الساري"(2/250) ، و" تاريخ بغداد"(2/4) .

(3)

" شرح النووي"للبخاري (ص4) .

ص: 27

العلماء على أن أصح الكتب المصنفة: صحيحا البخاري ومسلم، واتفق الجمهور على أن "صحيح البخاري" أصحهما صحيحاً، وأكثرهم فوائد". (1)

قلت: هو كتاب عظيم ونافع جداً لمن قرأه، وتدبره، وقد أودعه من التراجم التي تعين على الفهم الشيء الكثير، وهي تدل على عظيم فقهه في الحديث، ودقة استنباطه، وقد بلغت ثلاثة آلاف وثمانمائة واثنتين وثمانين ترجمة، وتزيد على ذلك في بعض النسخ.

هذا، وقد اعتنى به العلماء عناية فائقة، قراءة، وحفظاً، وتدريساً، وشرحاً.

فحظي بشروح كثيرة جداً، فذكر في "كشف الظنون" ما يقرب من ثمانين شرحاً للبخاري (2) ، وله أكثر من ذلك بكثير.

ومع هذا، فإن كتاب التوحيد منه بحاجة إلى شرح يبين مقاصد البخاري-رحمه الله تعالى - ووجه الرد منه على أهل البدع، لأن غالب من قام بشرحه، على المذهب الأشعري، ولا سيما الشروح المتداولة اليوم، ولهذا تجد أحدهم يوجه الكلام من النصوص، ليتفق مع ما يعتقده، ولو بالتعسف.

وكثير من الصفات التي يثبتها البخاري، مستدلاً عليها بنص من كتاب الله، أو عن رسوله، يحاولون ردها، إما بالتحريف الذي يسمونه تأويلاً، أو بدعوى الإجماع على خلافها، كما ذكر الحافظ-رحمه الله تعالى- عن ابن بطال، في قوله-صلى الله عليه وسلم:"لا شخص أغير من الله".

قال: "أجمعت الأمة على أن الله-تعالى- لا يجوز أن يوصف بأنه شخص". (3)

(1)"شرح النووي"للبخاري (ص7) .

(2)

انظر: "كشف الظنون"(1/545) .

(3)

انظر: "الفتح"(13/400) وسيأتي-إن شاء الله- الكلام عليه وذكر من رواه.

ص: 28

وذكر عن الخطابي: أنه رد وصف الرب تبارك وتعالى بالأصابع، كما في حديث عبد الله بن مسعود في ذكر الحبر الذي سأل رسول الله-صلى الله عليه وسلم ونسب ذلك إلى تخليط اليهود، وتشبيههم، وقال في قوله في الحديث:"فضحك رسول الله-صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقوله" إنه ظن من ابن مسعود، وحسبان، وحاول عكس الأمر، وأن الضحك من جرأة اليهود على التشبيه (1) ، وأمثال ذلك كثير، مما هو خلاف ما أراد إثباته مؤلف الكتاب.

ولذلك أرى من الواجب أن يتولى شرح هذا الكتاب العظيم، الذي ألفه ذلك الرجل السلفي الفاهم للحق تمام الفهم، من هو على نهج المؤلف في العقيدة، ويفهم مقصده، وماذا يريد من إيراده للنصوص.

ولما أعوزني وجود شرح على هذا الوصف، ولم يسعفني من طلبت منه القيام بذلك من مشائخنا، تطفلت على كتب العلماء، وقمت بجمع ما أراه مناسباً لشرح

ما أورده البخاري-رحمه الله تعالى- وأرجو من الله الإمداد بالعون والسداد، فإنه لا يخيب سائله، ولا يحرم آمله، ولست أزعم أنني أفهم من كتاب البخاري-رحمه الله ما لا يفهمه شارحوه، أمثال ابن حجر والعيني والخطابي وابن بطال والقسطلاني وغيرهم، ولكن لكل منهم نهجه الخاص، وعقيدته التي تملي عليه مسلكاً معيناً.

وطريقتي فيه أني:

1-

أذكر نص الحديث بسنده، ثم أتبعه بترجمه لراويه من الصحابة موجزة جداً.

2-

أحاول بيان مراد البخاري-رحمه الله من إيراده النص، وبيان وجه استدلاله بذلك، حسب المستطاع.

(1) انظر: "الفتح"(13/398) . وسيأتي-إن شاء الله - ذكر ذلك في موضعه، وإبطاله بالبراهين المعتمدة على الحق اليقيني، لا ظنون المتكلمين وشكوكهم، والله المستعان.

ص: 29

3-

أعزو الكلام إلى قائله، مبيناً مكانه من المصدر، بالجزء والصفحة، واذكر رقم الآية واسم السورة، ومكان الحديث في المصدر، وأما"صحيح البخاري" فغالباً أعزو ما فيه إلى "الفتح".

4-

لا أتطرق إلى الكلام على رجال السند، إذ هو أمر مفروغ منه، فكل ما في البخاري ثابت، عن المصطفى-صلى الله عليه وسلم، وقد تلقته الأمة بالقبول، فلا يطعن فيه إلا من كان له غرض، أو في قلبه مرض، خلا بعض المعلقات، وقد تولى الحافظ رحمه الله وصل أسانيده، والإجابة عما قيل فيها في كتابه:"تغليق التعليق".

5-

أحاول جهدي بيان مذهب السلف، في أسامي الله -تعالى-، وأوصافه، ومدى تمسكهم بالكتاب والسنة، مستعيناً على ذلك بنقل ما تيسر لي من كلامهم على سبيل الإيجاز.

6-

أحاول رد القول الباطل، أو الضعيف، الذي لا تؤيده النصوص، إذ إن مبنى أوصاف الله -تعالى- على ثبوت النص في ذلك، ولا دخل لقياس وعقل في ذلك، وكل ذلك حسب المستطاع.

ص: 30

قال البخاري - رحمه الله تعالى-:

"باب ما جاء في دعاء النبي-صلى الله عليه وسلم -أمته إلى توحيد الله-تبارك وتعالى"

مقصده بهذا أن يبين أن النبي-صلى الله عليه وسلم قد أوضح ما يجب على المسلم أن يعتقده في حق الله-تعالى- نفياً وإثباتاً، وأوضح ما يجب لله على عباده، من توحيد القصد والنية، لأن قوله:"توحيد الله" يعم أنواع التوحيد، فلم يترك الأمر مشتبهاً، بل بينه، فيجب أن يتبع بيانه في ذلك، فلا يصار إلى رأي متكلم، أو عقل متفلسف، أو قول مؤول.

وقوله: "دعاء النبي-صلى الله عليه وسلم أمته" أي الدعوة التي كلفه الله بها وأمره بإبلاغها.

يعني: أن هذا مقصود الرسالة، فلابد أن يبينه، ويبلغه أمته، البلاغ المبين، بحيث لا يبقى فيه التباس، أو اشتباه.

وقد قام-صلوات الله وسلامه عليه- بهذا الواجب خير قيام، فأوضحه غاية الإيضاح، فلا عذر لمن انحرف عنه، وتلقى توحيده من الفلاسفة والمتكلمين الذين كثر في هذا الباب اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله-تعالى- حجابهم. (1)

وبهذا يبين أن معرفة التوحيد، الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) اقتباس من كلام شيخ الإسلام في أول الحموية، انظر (ص5) بتعليقات محمد عبد الرزاق حمزة.

ص: 31

ودعا أمته إليه، لا يمكن الوصول إليها إلا بما جاء به صلى الله عليه وسلم من كتاب الله- تعالى-، وسنته التي هي شارحة ومبينة لكتاب الله- تعالى-.

والأمة هنا يقصد بها: الأمة المطلقة، أي أمة الدعوة.

1-

"حدثنا أبو عاصم، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس- رضي الله عنهما أن النبي-صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن".

2-

وحدثني عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا الفضل بن العلاء، حدثنا إسماعيل ابن أمية، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول: سمعت ابن عباس يقول: " لما بعث النبي-صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى نحو أهل اليمن، قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم، إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فاخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم، تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك، فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس".

عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، الهاشمي، ابن عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وحبر هذه الأمة، من المكثرين عن النبي-صلى الله عليه وسلم، وجل ما يرويه بواسطة أحد الصحابة، دعا له النبي-صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، فظهرت عليه آثار دعوته-صلى الله عليه وسلم حتى عرف بأنه ترجمان القرآن.

ص: 32

توفي النبي-صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشر سنة، على الراجح.

وقد توفي سنة ثمان وستين في الطائف. (1)

ومعاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، الأنصاري، الخزرجي، من علماء الصحابة وساداتهم، قال له رسول الله-صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح:"والله يا معاذ إني أحبك"(2) .

وقال ابن مسعود: "إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يكن من المشركين، إنا كنا لنشبه معاذاً بإبراهيم، عليه السلام". (3)

شهد العقبة، والمشاهد كلها مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم توفي في الشام بطاعون عمواس، سنة ثماني عشرة، وكان عمره ثمان وثلاثون سنة. (4)

قوله: "بعث معاذاً إلى اليمن" أي أرسله مبلغاً عنه، وداعياً إلى عبادة الله وتوحيده.

"وأصل البعث: إثارة الشيء، وتوجيهه. ويختلف باختلاف ما علق به.

فبعثت البعير: أثرته من مبركه، وسيرته، وقوله تعالى: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ

(1) انظر: "الإصابة"(4/141) ، "تذكرة الحفاظ"(1/37) ، "أسد الغابة"(3/290) ، "أسير أعلام النبلاء"(3/331) ، وغيرها كثير.

(2)

"السنن"(2/180) ، الحديث رقم (1522)، وانظر:"المجتبى"(3/53) .

(3)

انظر: "الإصابة"(6/137) .

(4)

"سير أعلام النبلاء"(1/443) ، "أسد الغابة"(5/194) ، "الإصابة"(6/136) .

ص: 33

اللهُ} (1) أي يخرجهم من الأرض أحياء، ويسيرهم إلى المحشر.

وقوله تعالى: {وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ} (2) أي: توجههم، ومضيهم معك. وقوله تعالى:{فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} (3) أي: قيضه لذلك.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} (4) أي: أرسلناهم لدعوة قومهم إلى الله تعالى، فالبعث ضربان: أحدهما: يتعلق بفعل المخلوق، كبعث البعير، وبعث الإنسان في حاجة.

والثاني: إلهي، وهو قسمان:

الأول: إيجاد الأعيان، والأجناس، والأنواع، من العدم، على غير مثال سابق، وهذا خاص بالله تعالى.

والثاني: إحياء الموتى، وهذا قد أعطى، جل وعلا- بعض من يشاء من عباده شيئاً منه، كعيسى-عليه السلام ليكون آية على صدقه" (5) ولا يقع ذلك إلا بإذن الله تعالى وإرادته.

و"اليمن" اسم البلاد المعروفة الواقعة في الجنوب الغربي من جزيرة العرب.

قال في "القاموس": "اليمن ما كان عن يمين القبلة من بلاد الغور"(6)، وفي "المراصد": "سميت اليمن لتيامنهم إليها، لما تفرقت العرب من مكة، كما سميت

(1) الآية 36 من سورة الأنعام.

(2)

الآية 46 من سورة التوبة.

(3)

الآية 31 من سورة المائدة.

(4)

الآية 36 من سورة النحل.

(5)

"المفردات"للراغب، بتصرف (ص52) .

(6)

" القاموس"(4/279) .

ص: 34

الشام لأخذهم الشمال". (1)

قلت: وفيه نظر، وذلك أن اليمن قديم، قبل وجود مكة على يدي إبراهيم وابنه إسماعيل-عليهما السلام-إلا أن تكون التسمية حادثة. وقال قطرب:"سمى اليمن ليمنه". (2)

قال الحافظ: "كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر، قبل حجة الوداع"(3) ، وعند أهل المغازي، أن ذلك في ربيع الآخر، من سنة تسع، والصحيح ما قاله الحافظ، وقد أشار البخاري-رحمه الله إلى ذلك بقوله: باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع". (4)

وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع، عند منصرفه-صلى الله عليه وسلم من تبوك، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وحكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر" (5) فالله أعلم.

قوله: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب". تقدم-بفتح الدال-لأن ماضيه ثلاثي مكسور العين، ومصدره قدوماً، لأنه يدل على معالجة.

"القوم" الجماعة من الرجال والنساء، أو من الرجال خاصة، وتدخل النساء على التبعية. قاله في "القاموس". (6)

"وأهل الكتاب" هم اليهود والنصارى، "والمقصود هنا اليهود، وكان

(1)"المراصد" 03/1483) .

(2)

"تاج العروس"(9/371) .

(3)

"الفتح"(3/358) .

(4)

انظر: "البخاري"(5/204) .

(5)

انظر: "الفتح"(3/358) .

(6)

انظر: "القاموس"(4/168) .

ص: 35

ابتداء دخولهم اليمن في زمن "أسعد ذي كرب" تبع الأصغر، كما ذكر ذلك ابن إسحاق في السيرة" (1) .

والمقصود بالكتاب: الجنس، والمراد: التوراة، والإنجيل.

وسمى اليهود، والنصارى: أهل الكتاب، لأن الله تعالى أنزل عليهم التوراة والإنجيل، فيهما أوامر الله، ونواهيه، ليعملوا بهما، وهدى من الله ونور يخرجهم من ظلمات الغي والشهوات، قال الله تعالى:{وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ {3} مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} (2) . فتوارثوه جيل عن جيل، ثم إنهم حرفوه، وغيروا فيه وزادوا ونقصوا، فاختلط حقه في باطلهم، ثم نسخه الله تعالى بالقرآن الذي أنزله على خاتم الرسل-صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: "قوله: "إنك تقدم" الخ، كالتوطئة للوصية، لتستجمع همته عليها، لكون أهل الكتاب علم في الجملة، فلا تكون مخاطبتهم كمخاطبة أهل الجهل من عبدة الأوثان"(3) . ولا يدل على أن كل من يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل أغلبهم من عبدة الأوثان، كما هو معلوم.

قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى" اللام للأمر، وإذا اقترنت بالفاء أو الواو فهي ساكنة في الغالب الأكثر.

وقوله: "إلى أن يوحدوا الله تعالى" ذكره في الزكاة بلفظ: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله"(4) .

وفي رواية" "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله

(1)"فتح الباري"(13/348) .

(2)

الآيات 3-4 من سورة آل عمران.

(3)

"الفتح"(3/358) .

(4)

انظر: "الفتح"(3/261) .

ص: 36

فأخبرهم

" الخ (1) .

وفي أخرى: " فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله"(2) .

وفي رواية لمسلم: "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله-عز وجل فإذا عرفوا الله فأخبرهم

"الخ (3) .

وهذه الروايات متفقة في المعنى.

فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: توحيد الله بالعبادة، والبعد عن عبادة ما سواه، وهذا هو الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، الذي قال الله تعالى فيه" {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لَا انفِصَامَ لَهَا} (4) .

والطاغوت: كل ما عبد من دون الله- كما قال مالك رحمه الله (5) سواء كان من البشر، أو من الحجر، أو الشجر، أو الحيوان، أو الأضرحة والعتبات.

والكفر به: الابتعاد عن عبادته، التي هي طلب البركات منه، أو

(1) المصدر نفسه (ص322) .

(2)

المصدر السابق، (ص357) ، (8/64)"الفتح".

(3)

انظر: "مسلم بشرح النووي"(1/199) .

(4)

الآية 256من سورة البقرة.

(5)

قال ابن جرير: " الطاغوت: كل ذي طغيان على الله لمن عبده من دونه، إما بقهره لمن عبده أو بطاعة من العباد له، إنساناً كان ذلك المعبود، أو شيطاناً، أو وثناً، أو صنماً، أو كائناً ما كان من أي شيء" انظر "تفسير الطبري"(5/419) تحقيق: أحمد ومحمود شاكر.

ص: 37