المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفرق بين الأسماء والصفات - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري - الغنيمان - جـ ١

[عبد الله بن محمد الغنيمان]

الفصل: ‌ الفرق بين الأسماء والصفات

بهذا أيضاً‌

‌ الفرق بين الأسماء والصفات

.

1-

فالأسماء تدل على الذات، والصفات تدل على معان قائمة بالذات، وهذه المعاني القائمة بالذات هي الصفات.

2-

وتقدم أن الأسماء مشتقة من الصفات.

وقوله: " أخبروه أن الله يحبه" قد يكون سبب محبة الله له: محبته لهذه السورة، أو لمحبته ذكر صفات الرب عز وجل، وحسن فهمه وعقيدته. في ذلك، أو لمجموع الأمرين، وهو الأولى.

وفيه ثبوت محبة الله - تعالى - لأهل طاعته من عباده، والأدلة عليه كثيرة جداً، فلذلك صار إنكاره ضلالاً بيناً.

قال المازري، ومن تبعه: محبة الله لعباده: إرادته ثوابهم، وتنعيمهم.

وقيل: هي نفس الإثابة، والتنعيم.

ومحبتهم له، لا يبعد فيها الميل منهم إليه، وهو مقدس عن الميل.

وقيل: محبتهم له: استقامتهم على طاعته.

والتحقيق: أن الاستقامة ثمرة المحبة.

وحقيقة المحبة له: ميلهم إليه؛ لاستحقاقه سبحانه المحبة من جميع الوجوه.

قال الحافظ: " وفيه نظر، لما فيه من الإطلاق في موضع التقييد"(1) .

ومقصده من الإطلاق، قوله:" لاستحقاقه- سبحانه - المحبة من جميع الوجوه" لأنه قد يدخل فيه الحب المتضمن للشهوة، ونحو ذلك.

(1)"الفتح"(13/357) .

ص: 64

وقول المازري: إن محبة الله لعباده: إرادته ثوابهم، وتنعيمهم، أو هي نفس الثواب والنعيم، ظاهر البطلان، والنصوص فيه لا تقبل هذا التأويل؛ لكثرتها، وتواطئها على أن الحب فيها هو ما يفهمه المخاطب الذي لم تفسد فطرته بالعقائد المنحرفة عن الحق.

وهذه طريقة أهل التأويل في صفات الله - تعالى - المستلزمة للثواب أو العقاب؛ إما أن يجعلوها إرادة الثواب أو العقاب، أو هي نفس الثواب والعقاب.

ومعلوم أن الثواب والعقاب ونحوهما مخلوق.

والإرادة التي يرجعون المحبة والرحمة ونحوهما من صفات الله -تعالى- إليها، يلزمهم فيها نظير ما فروا منه في المحبة والرحمة، حيث قالوا: إن المحبة هي: الميل إلى المحبوب، فيقال: والإرادة هي: ميل المريد إلى ما يوافقه في إرادته.

وأما تفسيرها بالثواب والعقاب، فيلزم منه أن تكون صفته -تعالى- مخلوقة، ثم نقول: لسنا بحاجة إلى مثل هذا التأويل السخيف البارد؛ لأن الله - تعالى- ليس كمثله شيء في صفاته، كما أنه لا مثل له في ذاته.

ومحبته تبارك وتعالى لعبده المؤمن شيء فوق إنعامه، وإحسانه، وعطائه، وإثابته، فإن هذا أثر المحبة وموجبها، أما هي فأعظم من ذلك، وهي التي يتسابق إليها أنبياؤه وملائكته وأولياؤه، وعباده الصالحون، وكم في كتاب الله وسنة رسوله - من نص صريح بأنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه، كقوله - تعالى - {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) ، وقوله -تعالى- {اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (2) ، {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى

(1) الآية 31 من سورة آل عمران.

(2)

الآية 222 من سورة البقرة.

ص: 65

فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ

الْمُتَّقِينَ} (1) ، {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) ، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (3) ، والآيات في هذا كثيرة.

وأما الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تنص على أن الله يحب عباده المؤمنين فإحصاؤها عسير، كقوله صلى الله عليه وسلم:" لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله"(4)، وقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي"(5) .

وأما محبة العباد لربهم فعجيب إنكارها، إذ هي من الضروريات الثابتة بالشرع، والعقل، والفطرة، وإنكارها إنكار للواقع المحسوس.

كما أن تأويل المحرفين بأنها الاستقامة على الطاعة، كما ذكره المازري، أو أنها إرادتهم أن ينفعهم، كما نقله الحافظ عن ابن التين (6) ، مخالف للشرع، والعقل، والواقع المحسوس، بل قد يؤول ذلك إلى إنكار أصل دين الإسلام؛ لأن مبنى دين الإسلام على شهادة لا إله إلا الله.

ومعنى الإله: المحبوب الذي تألهه القلوب، وتحبه، وتعظمه، وتجله، وتقصده بالإنابة والخضوع والذل، والافتقار إليه، والخوف منه، ورجائه.

فمن أنكر ميل القلوب إليه تعالى بالحب والتأله، فقد أنكر حقيقة الإسلام، وهل الشرك- الذي حرمت الجنة على صاحبه - إلا أن يجعل للمخلوق

(1) الآية 76 من سورة آل عمران.

(2)

الآية 134، 148، من سورة آل عمران، والآية 93 من سورة المائدة.

(3)

الآية 159 من سورة آل عمران.

(4)

رواه صاحبا "الصحيحين"، انظر:"الفتح"(6/111) وأماكن أخرى، و "مسلم"(4/1871، 1872) .

(5)

رواه مسلم في "الزهد"(4/2277) رقم (2965) .

(6)

انظر: " الفتح"(13/357) .

ص: 66

نصيباً مع الله -تعالى- في هذا الحب؟ كما قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} (1) .

فبين - تعالى- أن الذي يحب المخلوق كحب الله أنه مشرك قد اتخذ لله نداً، وأخبر - تعالى- عن هؤلاء أنهم سيقولون لأندادهم وهم في النار:{تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) ، ولا يجوز أن تكون تسويتهم لهم برب العالمين إلا في الحب؛ لأنه لا يمكن أن يقول عاقل إن أحداً من الخلق يساوي الله -تعالى- في الفعل والتصرف.

وقول ابن التين الذي نقله الحافظ: " إن معنى محبة المخلوقين لله: إرادتهم أن ينفعهم"(3) من أبطل الكلام المخالف للواقع وللشرع والعقل ولولا أن هذا مسجل في الكتب المتداولة بين المسلمين، لم يجز ذكره، وهل يوجد أحد من الخلق لا يريد أن ينفعه الله، حتى إبليس، ومن دونه من دعائم الكفر والإلحاد، من الأولين والآخرين؟ بل كلهم يريد أن ينفعهم الله، فهل يقال: إنهم يحبون الله المحبة المأمور بها شرعاً؟ ولا شك أن مثل هذا القول نتيجة نقص العلم بكلام الله وكلام رسوله، ونقص الإيمان بذلك.

"وإلا فإن من تيقن أن الله أصدق القائلين، وأن قوله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وأن قوله الفصل، ليس بالهزل، وأنه الهدى، والنور، والشفاء لما في الصدور من الجهل والشكوك، وأنه -تعالى- أعلم بنفسه وبغيره من خلقه.

وعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق، وأفصح الخلق في النطق

(1) الآية 165 من سورة البقرة.

(2)

الآية 97-98 من سورة الشعراء.

(3)

"الفتح"(13/357) .

ص: 67

والبيان، وأنه أنصح الخلق للخلق- من علم ذلك تيقن أنه قد اجتمع له كمال العلم بالحق، وكمال القدرة على بيانه، وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة، يجب وجود المطلوب على أكمل وجه.

فيجب أن يعلم أن كلام الله ورسوله، أبلغ ما يمكن، وأتم ما يكون وأعظمه بياناً لأمور الدين، من حقوق الله وأسمائه، وصفاته، وغير ذلك.

فمن وقر هذا في قلبه لم يجرؤ على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرها العاقل المنصف، وجدها أبعد شيء عن كتاب الله، وعن صفات الرسول

صلى الله عليه وسلم وعلم أن من سلك هذا المسلك فإنما هو لنقص في علمه، وإيمانه بكلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم (1) .

وقد علم المؤمنون أن محبة العباد لربهم هي حياة القلوب، ونعيم الروح، بل هي أعلى نعيم في الدنيا والآخرة، وهي فوق كل محبة تفترض، ولا نسبة لسائر المحاب إليها، وهي حقيقة لا إله إلا الله، وبتمامها وكمالها تتفاوت منازل العباد عند الله في الدنيا والآخرة، وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أحبوا الله من كل قلوبكم"(2) . يعني: لا يبقى في القلب موضع لغير محبة الله تعالى.

وفي "الصحيحين": مرفوعاً: "ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار"(3) .

وأصل التأله: التعبد، والتعبد هو آخر مراتب الحب، يقال: عبده

(1)"مجموع الفتاوى"(17/129) بتصرف وزيادة.

(2)

رواه ابن إسحاق في "السيرة" مختصرها لابن هشام (2/147) .

(3)

انظر: " الفتح"(1/72) ، (10/463) و "مسلم"(1/66) .

ص: 68

الحب وتيمه: إذا ملكه، وذلله لمحبوبه.

فالمحبة هي حقيقة العبودية، ولا يمكن وجود العبادة التي يريدها الله ويأمر بها عباده بدونها أبداً، بل لا يوجد أي نوع من أنواع العبادة المطلوبة شرعاً بدونها، مثل الإنابة، والخشية، والخوف، والرجاء، والحمد، والشكر، والصبر، والدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، وغير ذلك من أنواع العبادة، فمنكر المحبة في الحقيقة منكر لجميع مقامات الإيمان والإحسان، وهؤلاء المحرفون مثل هذا النص في المحبة، يغالطون أنفسهم. وهذا الحديث يدل على حسن فهم الصحابة لمعاني القرآن، حيث قالوا عن سورة الصمد: أنها صفة الرحمن، ووجه ذلك: أن هذه السورة تضمنت أنواع التزيه لله - تعالى- والتحميد، ونفي النقائص كلها، وإثبات الكمال جميعه، ولهذا عدلت ثلث القرآن - كما تقدمت الاشارة إليه.

(الكلام على معنى أحد وصمد)

فالصمدية تثبت الكمال المنافي لكل نقص وعيب، والأحدية تثبت الانفراد بذلك الكمال، فهي تدل على أنه - تعالى- أحد، ليس من جنس شيء من المخلوقات، " وأنه صمد ليس من مادة، بل هو صمد لم يلد ولم يولد، وإذا نفى عنه أن يكون مولوداً من مادة الوالد؛ فلأن ينفي عنه أن يكون من سائر المواد أولى وأحرى، فإن المولود من نظير مادته أكمل من المولود من مادة أخرى "(1) .

وقال شيخ الإسلام: " وقد فسر السلف الصمد بأنه: الذي لا جوف له، كما فسروه: بأنه السيد الذي يصمه إليه في الحوائج؛ والأول قول أكثر السلف، من الصحابة والتابعين وطوائف من أهل اللغة، والثاني: قول جمهور أهل اللغة، وطوائف من السلف والخلف.

(1)"مجموع الفتاوى"(17/452) .

ص: 69

قال الجوهري: صمده يصمده صمداً إذا قصده، والصمد بالتحريك: السيد؛ لأنه يصمد إليه في الحوائج (1) .

وقوله – تعالى -: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) أدخل اللام في "الصَّمَد" ولم يدخلها في "أحد" لأنه ليس في الموجودات ما يسمى أحداً في الإثبات مفرداً غير مضاف إلا الله –تعالى-، بخلاف النفي وما في معناه، كالشرط، والاستفهام.

قال أهل اللغة: تقول: لا أحد في الدار، ولا تقول: فيها أحد.

وأما "الصَّمَد" فأدخل عليه الألف واللام، ليبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، فإنه المستوجب لغايته على الكمال.

فالمخلوق وإن كان قد يطلق عليه بأنه صمد، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه، فإنه يقبل التجزئة، وهو محتاج إلى غيره، فإن كل ما سوى الله فقير محتاج إلى الله، وليس أحد يصمد كل شيء إليه (3) وهو لا يصمد إلى شيء إلا الله –تعالى-. وليس في المخلوقات شيء إلا ويقبل التجزئة، ويتفرق، وينفصل بعضه من بعض؛ والله سبحانه هو الصمد، الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة ولازمة، لا يمكن عدمها بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه؛ فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه" (4) .

فقوله –تعالى-: " أحد" مع قوله: " لم يكن له كفوا أحد" ينفي المماثلة، والمشاركة.

(1) انظر: " الصحاح"(2/499) وتمامه: " قال:

علوته بحسام ثم قلت له:

خذها حذيف فأنت السيد الصمد

وبيت مصمد –بالتشديد – أي: مقصود ".

(2)

الآيتان 1-2 من سورة الإخلاص.

(3)

الصمود هنا هو: الطلب والقصد والتوجه إلى المصمود إليه بالحاجة.

(4)

"مجموع الفتاوى"(17/237) ملخصاً.

ص: 70

وقوله –تعالى-: "الصمد" يتضمن إثبات جميع صفات الكمال، فالنقائص منتفية عن الله- تعالى-، وكل ما يختص له المخلوق فهو من النقائص التي تنزه ربنا عنها – جلا وعلا-.

وأما ما يوصف به العبد من بعض الكمالات، مثل العلم، والقدرة، والرحمة، ونحو ذلك، فالذي يثبت لله –تعالى- من هذه المعاني يكون على وجه لا يقاربه فيه أحد من الخلق، فضلاً عن أن يماثله فيه.

وقد ثبت أن ما خلقه الله في الجنة من المآكل وغيرها، لا يماثل ما خلقه في الدنيا، وإن اتفقا في الاسم، مع أن كليهما مخلوق، فالخالق- تعالى وتقدس-، أبعد عن مماثلة المخلوقات.

والمعنى الصحيح الذي هو نفي المثل، والشريك، والند، قد دل عليه قوله- سبحانه-:{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (1)، وقوله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) .

وقوله-تعالى-: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (3) ، وأمثال ذلك، فالمعاني الصحيحة لصفات الله نفياً وإثباتاً، ثابتة بالكتاب والسنة، والعقل يدل على ذلك. وقول بعض أهل الكلام: الأحد، والصمد، هو الذي لا ينقسم، ولا يتفرق، أو ليس بمركب، ونحو ذلك من العبارات، إن عني بها أنه لا يقبل التفرق والانقسام فهو حق، وإن عني بها أنه لا يشار إليه بحال، فهذا يمتنع وجوده، وإنما يقدر وجوده في الذهن تقديراً.

وقد علمنا أن العرب حين أطلقوا لفظ الواحد والأحد، نفياً وإثباتاً، لم يريدوا هذا المعنى.

ولهذا لما قالوا الذين جادلوا الإمام أحمد، في نفي الصفات-مستدلين باسم الواحد-: لا تكونون موحدين أبداً حتى تقولوا: كان الله ولا شيء.

(1) الآية 4 من سورة الإخلاص.

(2)

الآية 1 من سورة الإخلاص.

(3)

الآية 65 من سورة مريم.

ص: 71

قال أحمد: "قلنا: نحن نقول: كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلهاً واحداً؟

وضربنا لهم في ذلك مثلاً، فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذع، وكرب، وليف، وسعف، وخوص، وجمار؟ واسمها شيء واحد؟ سميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك الله-وله المثل الأعلى- بجميع صفاته إله واحد.

ولا نقول: إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه قدرة، أو كان ولا علم له، حتى خلق له علماً، ولكن نقول: لم يزل عالماً، قادراً، مالكاً، لا متى، ولا كيف" انتهى (1) .

وقال أيضاً: "ودل قوله-تعالى-: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) على أنه لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ولهذا فسر الصمد بأنه الذي لم يلد، ولم يولد.

فإن الصمد: هو الذي لا جوف له، ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء؛ فلا يأكل ولا يشرب، كما قال –تعالى-:{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} (3) ، وفي قراءة بفتح الياء الأخيرة".

وفسر بعض السلف "الصمد" بأنه الذي لا يخرج منه شيء، وليس مرادهم أنه لا يتكلم، فإنه يقال في الكلام: خرج منه، كما في الحديث: "ما تقرب

(1)"مجموع الفتاوى"(17/449)، وانظر: رد الإمام أحمد، في "مجموع عقائد السلف"(ص91) .

(2)

الآيتان1-2من سورة الإخلاص.

(3)

الآية 14من سورة الأنعام.

ص: 72

العباد إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه" انتهى (1) .

ودل الحديث على استحباب قراءة الآيات التي تشتمل على صفات الله تعالى، خلافاً للمبتدعة الذين يكرهون آيات الصفات عند العامة، وفيه التصريح بأن الله يحب ذلك ويحب من يحبه.

(1) المصدر السابق، والحديث خرجه الترمذي (4/249) ، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة"(ص20) .

ص: 73

"باب قوله -تعالى-: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (1) ".

قال الطبري-رحمه الله تعالى-: "يقول -تعالى ذكره- لنبيه: قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء الرحمن: {ادْعُواْ اللهَ} أيها القوم، {أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} بأي أسمائه-جل جلاله تدعون ربكم فإنما تدعون واحداً، وله الأسماء الحسنى، وإنما قيل ذلك له-صلى الله عليه وسلم لأن المشركين، فيما ذكر- سمعوا النبي-صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: يا ربنا الله، ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فأنزل الله الآية، ثم روي ذلك عن ابن عباس، وعن مكحول"(2) .

قال ابن حجر: "كأنه لمح في هذه الترجمة بهذه الآية إلى ما ورد في سبب نزولها، وهو ما أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف، عن ابن عباس: أن المشركين سمعوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم يدعو: يا الله، يا رحمن، فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد، وهو يدعو إلهين. فنزلت، وأخرج عن عائشة بسند آخر نحوه"(3) .

قلت: يظهر لي أن مقصود البخاري-رحمه الله بالترجمة بهذه الآية، بيان اختصاص الله-تبارك وتعالى بالأسماء الحسنى، وأن أسماءه كاملة المعاني، لا يلحقها نقص، أو عيب، وأن اتصاف المخلوق ببعض ما يتصف الرب تعالى به من المعاني، لا يلزم منه نقص أو عيب في أسمائه وصفاته-تعالى- لأنها حسنى

(1) الآية110من سورة الإسراء.

(2)

"تفسير الطبري"(15/182) .

(3)

"الفتح"(13/360) .

ص: 75

كاملة تناسب عظمته، فلا يتوهم أن في ذلك تشبيهاً كما يتزعمه أهل البدع الذين ظنوا أن مجرد المشاركة في الاسم أو المعاني يفيد التشبيه، فنفوا صفات الله-تعالى- من أجل ذلك.

وأما المخلوق فأسماؤه وصفاته ليست حسنى، ولا كاملة، فهي تناسب ضعفه وعجزه، والذي يوضح مراد البخاري بذلك الحديثان اللذان ذكرهما"لا يرحم من لا يرحم الناس"، وفي الآخر "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، فإذا كان المخلوق يرحم، ويسمى رحيماً، والله-تعالى- يرحم ويسمى رحيماً، فليس ما

يخص الله- تعالى- من هذا الاسم أو الفعل مماثلاً أو مقارباً لما يخص المخلوق، فلا يجوز تأويل أو نفي رحمة الله-تعالى- وغيرها من صفاته، من أجل توهم أن مجرد المشاركة في المعنى يلزم منها التشبيه، والله أعلم.

قال ابن القيم: "أسماؤه-تعالى- كلها مدح وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى وصفاته كلها صفات كمال"(1) .

وما ذكره بعض الشراح: مم أن البخاري ذكر هذا الباب ليكون كالأصل لما بعده من الأبواب، وما بعده كالفرع عليه، وقال: إنه قصد الاسمين المذكورين في الآية، وهما "الله"، "والرحمن"؛ لأنهما خاصان بالله-تعالى-، فليس بظاهر، وهذان الاسمان جاء ذكرهما كثيراً فيما بعد، والظاهر لي - والله أعلم- ما أشرت إليه فيما سبق قبل قليل، يوضح ذلك ما جاء في سبب النزول كما قال الحافظ، "والرحمن" يأتي تابعاً "لله" كغيره من الأسماء الحسنى.

فهو أراد بهذا الباب ما دلت عليه الآيات الأخرى كقوله-تعالى-: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2)، وقوله:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3)، وقوله:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (4) .

(1)"مدارج السالكين"(1/125) .

(2)

الآية 24 من سورة الحشر.

(3)

الآية 180 من سورة الأعراف.

(4)

الآية 8 من سورة طه.

ص: 76

6-

قال: "حدثنا محمد، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، وأبي ظبيان، عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس".

جرير هو: أبو عمرو، جرير بن عبد الله بن جابر البجلي، الأحمسي، وأحمس بطن من بجيلة، وبجيلة وخثعم أخوان، وهما من قحطان، وقيل: من ربيعة بن نزار.

قدم جرير على النبي-صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، فبشر به أصحابه، وبسط له رداءه.

وكان رضي الله عنه صادق الإيمان، صادعاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان يقول كما في "الصحيحين"، وغيرهما:"بايعت النبي-صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم"(1) .

وبعثه النبي-صلى الله عليه وسلم لهدم ذي الخلصة، وهو صنم كبير كان لدوس، فهدمه.

ودعا له النبي-صلى الله عليه وسلم ولخيل أحمس ورجالها.

وكان حسن الوجه، حيث كان يقال له: يوسف هذه الأمة، وكان طويلاً إذا ركب الفرس تكاد تخط رجلاه في الأرض.

نزل الكوفة، فأرسله علي رسولاً إلى معاوية، ثم اعتزل الحروب بينهما وتحول إلى جزيرة ابن عمر، توفى بقرقيسيا سنة إحدى وخمسين، وقيل: بعدها، -رضي

(1) انظر" الفتح"(1/137) وغيره، و"مسلم"(1/75) في "الإيمان" رقم (56) .

ص: 77

الله عنه- (1) .

"قوله: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس" في رواية لمسلم: "من لا يرحم الناس، لا يرحمه الله".

وعند الطبراني: "من لا يرحم من في الأرض، لا يرحمه من في السماء" ورواته ثقات.

ولأبي داود، والترمذي، والحاكم:"ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

وفي الطبري: "من لا يرحم المسلمين لم يرحمه الله"(2) .

قلت: ومعنى هذه الروايات واحد، ففي هذه الأحاديث وأمثالها كثير، دليل على أن الرحمة صفة تقوم بمن يشاء الله من عباده، الذين يريد-جل وعلا- رحمتهم، وتتخلف عن الأشقياء، الذين لا يرحمهم الله -تعالى-.

وقد روى البخاري في " الأدب المفرد"، من حديث أبي هريرة، أن النبي-صلى الله عليه وسلم قال:" لا تنزع الرحمة إلا من شقي"(3) .

وقد علم من دين الرسل، وكتب الله تعالى، أن الله متصف بالرحمة، وليست رحمته ثوابه وجزاءه، كما يقوله أهل التحريف والمؤولة، من الأشعرية وغيرهم.

(1) انظر: "أسد الغابة"(/333) ، و"الاستيعاب"(1/236) ، و"الإصابة"(1/475) ، و"سير أعلام النبلاء"(2/530) .

(2)

"الفتح"(10/440) .

(3)

انظر: "الأدب المفرد"(ص136)، قال محققه: أخرجه الترمذي (25) ، كتاب البر والصلة (16) بابك ما جاء في رحمة المسلمين، وأبو داود، كتاب الأدب (58) ، باب في الرحمة، وأحمد في " المسند" رقم (7988، 9700، 9941، 9946، 1064) وغيرهم، وسنده صحيح.

ص: 78

وقد قال الله-تعالى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (1) .

فعطف الرحمة على الفضل يدل على المغايرة، وفضل الله-تعالى- الذي هو الثواب والجزاء-مخلوق، ليس من صفات الله - تعالى- القائمة به، وإن كان الفضل في الآية غير متعين إرادة الثواب به، بل يجوز أن يراد به التفضل الذي هو فعل الله -تعالى-.

وإذا كان الإجماع حاصلاً بين الأمة، بأن الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء في ذاته المقدسة، فيجب أن تكون صفاته كصفات خلقه؛ لأن الصفة تتبع الموصوف، فصفات الله-تعالى- من الرحمة، والرضا، والغضب، وغير ذلك، تليق بعظمته، وتناسبه، وصفة المخلوق من ذلك وغيره تليق بضعفه، وعجزه وفقره.

وإن من الضلال، والبعد عن كتاب الله، وهدي رسوله، وسبيل المؤمنين حقاً، نفي صفات الله -تعالى- وتعطيله منها اعتلالاً بأنها تفيد التشبيه؛ لأن المخلوق

يوصف بتلك الصفات، وهل هذا إلا مثل من يقول: أنا لا أقر بوجود الله- تعالى- لأن المخلوق موجود؟

وقد تقدمت الإشارة إلى أن مجرد الاشتراك في الاسم أو في المعاني العامة لا يقتضي تشبيهاً، وسيأتي لذلك مزيد إن شاء الله- تعالى-.

(1) الآية 58من سورة يونس.

ص: 79

7-

قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد، قال: كنا عند النبي –صلى الله عليه وسلم – إذ جاءه رسول إحدى بناته تدعوه إلى ابنها في الموت، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم:"ارجع فأخبرها، أن لله أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر، ولتحتسب".

فأعادت إليه الرسول، أنها أقسمت لتأتينها، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم – وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، فدفع الصبي إليه، ونفسه تقعقع كأنها في شن، ففاضت عيناه، فقال له سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ قال:"هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".

أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، الكلبي، حب رسول الله-صلى الله عليه وسلم – وابن حبه ومولاه، وابن مولاته أم أيمن.

أمره رسول الله-صلى الله عليه وسلم – على جيش فيه كبار المهاجرين، والأنصار، منهم أبو بكر وعمر، وقال فيه –صلى الله عليه وسلم:"وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة"(1) .

وفي البخاري، وغيره أنه –صلى الله عليه وسلم – قال له، وللحسن:"اللهم إني أحبهما، فأحبهما"(2) .

وزوجه فاطمة بنت قيس- وهو ابن خمس عشرة سنة، وتوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو ابن تسع عشرة سنة، وفضله عمر- رضي الله عنهما في العطاء على

(1) أخرجه البخاري في مواضع من "الصحيح"، انظر:"الفتح"(7/498، 86) و (11/521) .

(2)

انظر: "الفتح" 7/88، 94) و (10/434) .

ص: 80

ابنه عبد الله، وحين راجعه قال له: إنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – منك.

واعتزل الحروب بين أهل الشام وأهل العراق، ومات بوادي القرى سنة أربع وخمسين، وقيل غير ذلك (1) .

قوله: "إحدى بناته" قال الحافظ: "هي زينب، كما جاء في "مصنف ابن أبي شيبة" (2) .

قلت: يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة بالسند المذكور هنا، قال: "دمعت عين رسول الله-صلى الله عليه وسلم – حين أتي بابنة زينب، ونفسها تقعقع كأنها في شن، قال: فبكى، قال: فقال له رجل: تبكي وقد نهيت عن البكاء

" فذكر بقية الحديث كما ذكره البخاري (3) .

ثم قال الحافظ: "ووجدت في الأنساب للبلاذري، أن عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بنت النبي-صلى الله عليه وسلم – لما مات، وضعه النبي –صلى الله عليه وسلم – في حجره وقال: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء".

وفي "مسند البزار"، عن أبي هريرة، قال: ثقل ابن فاطمة، فبعث إلى النبي-صلى الله عليه وسلم

فذكر نحو الحديث المذكور هنا، فعلى هذا، فالابن هو محسن بن على بن أبي طالب، وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيراً، في حياة النبي-صلى الله عليه وسلم، فهذا أولى أن يفسر به الابن، لكن الصواب أن المرسلة؛ زينب، وأن الولد صبية، كما ثبت في "مسند أحمد" بالسند المذكور، ولفظه: "أتي النبي- صلى الله عليه وسلم بأمامة بنت زينب، ونفسها تقعقع

(1) انظر: "الإصابة"(1/49) تحقيق البجاوي، و"سير أعلام النبلاء"(2/496) وغيرها.

(2)

انظر: "الفتح"(3/156) .

(3)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(3/392) .

ص: 81

كأنها في شن

" وذكر بقية الحديث (1) . ومثله في "معجم الطبراني"، وقد شفاها الله- تعالى- فعاشت زمناً بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتزوجها على ابن أبي طالب، بعد وفاة فاطمة، وقتل وهي عنده، رضي الله عنهم جميعاً"(2) .

قوله: "إن لله ما أخذ، وله ما أعطى"، قال النووي-رحمه الله:"هذا أحسن ما يعزى به" ثم قال: " وهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام؛ لاشتماله على مهمات كثيرة من أصول الدين، وفروعه، والآداب، والصبر على النوازل كلها، والهموم، والأسقام وغير ذلك، ومعنى قوله: "إن لله ما أخذ" أن العالم كله ملك لله –تعالى-، فلم يأخذ ما هو لكم، بل أخذ ما هو له عندكم، في معنى العارية.

ومعنى: "وله ما أعطى" أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه، بل هو له يفعل فيه ما يشاء، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلا تجزعوا فإن من قبض فقد

انقضى أجله المسمى، فمحال تأخره أو تقدمه عنه، فاعلموا ذلك، واصبروا، واحتسبوا ما نزل بكم" (3) .

وقوله: "وكل شيء عنده بأجل مسمى" من فقد محبوب، أو حصول مرغوب، وتصرف في هذا الكون الذي هو بأسه ملك لله يفعل فيه ما يريد، وأجل المسمى: هو المقدر بوقت معين لا يتأخر عنه، ولا يتقدم.

وفي هذه الجملة من الحديث دليل واضح على أن الله تعالى قدر كل شيء وكتبه، وعلم وقته وحاله، وأن الحوادث كلها تقع على تقدير دقيق، لا تتأخر عن ذلك لحظة ولا تتقدم، وهذا أصل عظيم من أصول الدين الإسلامي، يجب

(1) انظر: "المسند "(5/204) .

(2)

"الفتح"(3/156) .

(3)

انظر: "الأذكار"(ص212-213) .

ص: 82

أن يعلم. والإيمان به من أركان الدين لابد منه، والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة.

قوله: "فلتصبر، ولتحتسب" الصبر: حبس النفس عن الجزع، والتسخط، وحبس الجوارح عما نهى عنه الشرع من شق الثياب، وخمش الوجوه ولطمها، والكلام الذي ينافي التسليم لرب العالمين، وما أشبه ذلك مما يدل على تسخط الأقدار، والاعتراض على القضاء الذي قضاه الله قبل وجود الخلق.

والاحتساب: هو نية طلب الثواب من الله على الإيمان بالقدر، والتسليم لأمر الله –تعالى-، والإيمان بوعد الله –تعالى-، فإنه وعد على الصبر الجزاء.

قال ابن القيم: "حقيقة الصبر: أنه خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن، ولا يجمل"(1) .

قوله: "فأعادت إليه الرسول، أنها أقسمت لتأتينها" جاء في بعض الروايات أنها راجعته ثلاث مرات، وإنما ذهب إليها بعد الثالثة.

والحامل لها ما علمت من أن حضور النبي –صلى الله عليه وسلم – فيه الخير والبركة، وأنه يتوقع أن يرفع الله ببركة دعائه وحضوره ما هي فيه وابنتها من ألم وتوجع، وقد حقق الله – تعالى – أملها ورغبتها، فشفا مريضها كما سبق.

ولا يعترض على هذا أن القدر لابد من وقوعه، فكيف يتخلف من أجل الدعاء أو غيره، فإن الله تعالى جعل لكل شيء سبباً، ورتب المسببات على أسبابها، فقدر أن هذا الشيء يقع في وقت معين مع سببه، فالدعاء المأمور به لا يلزم أن يكون قدراً مكتوباً، بل إذا أمر الله عباده بالدعاء، فمنهم من يطيعه فيستجيب له دعاءه إن شاء الله أو يمن عليه بما طلبه، فيدل ذلك على أن المعلوم لله –تعالى- المقدر له هو الدعاء والإجابة.

ومنهم من يعصي أمر الله تعالى فلا يدعو، فلا يحصل ما علق على الدعاء، فيدل على أن المعلوم لله- تعالى – المقدر: عدم الدعاء وما رتب عليه من الإجابة.

فما يحصل بالدعاء قدر الله حصوله بالدعاء لا بدونه، وهو-جل

(1)"عدة الصابرين"(ص12) .

ص: 83

وعلا- يبتلي خلقه بالمصائب، تأديباً لهم، وتكفيراً لذنوبهم، رحمة منه بهم.

قوله: "ونفسه تقعقع كأنها في شن" القعقعة: صوت الشيء اليابس الجاف الخفيف إذا حرك، يعني بذلك: صوت نفسه عند صعوده ونزوله في صدره من شدة الألم.

والشن: بفتح الشين وتشديد النون: القربة الخلقة اليابسة.

قوله: "ففاضت عيناه"أي ذرفت عينا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بالدموع رحمة لهذا الضعيف، وتوجعاً لما نزل به من ألم شديد.

"فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ " كان –صلى الله عليه وسلم – ينهى عن البكاء على الميت، فظن سعد-رضي الله عنه وغيره أن النهي يدخل فيه دمع العين، وحزن القلب، فبين لهم النبي –صلى الله عليه وسلم – أن المنهي عنه هو التسخط من المقدور، ودعوى الجاهلية من العويل والنوح، وتعداد محاسن الميت، وما أشبه ذلك من لطم الوجه وشق الثياب ونحوه، مما يدل على السخط من الواقع، وعدم الصبر.

وأما دمع العين وحزن القلب، فهو من الرحمة للضعفاء التي هي سبب رحمة أرحم الراحمين-جل وعلا-.

قوله: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" أي " الدمع الذي رأيته من أثر الرحمة التي جعلها الله – تعالى – في قلوب عباده، الذين أراد -تعالى –رحمتهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، والإضافة هنا خاصة، أي الذين عبدوه باتباع أمره، واجتناب نهيه، وقد تكون عامة، فإن الكافر قد يرحم الصغير، فيبكي عليه رحمة.

قوله: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء" أي: رحمة الله-تعالى- للمحسنين إلى عباده برحمتهم، والرحماء من صيغ المبالغة، ولهذا قال بعض الشراح:"المعنى: أن الله –تعالى- لا يرحم من عباده إلا كثير الرحمة، فالرحماء جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة"(1) .

(1)"المنهل العذب المورود"(8/277) .

ص: 84

قلت: هذا الحصر لا ينبغي، وإن كان التركيب في الحديث يفيده، ولكن فيما يظهر لي-والله أعلم- أنه غير مقصود؛ للأدلة على أن رحمة الله وسعت كل شيء، وإنما المقصود هنا رحمة خاصة بمن هذه صفتهم.

وهذا القدر من الحديث هو محل الشاهد الذي سيق الحديث من أجله، مع قوله "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" وذلك أن القدر المشترك بين أسماء الله –تعالى- وصفاته، وبين أسماء المخلوقين وصفاتهم في اللفظ والمعنى لا يقتضي المشابهة؛ لأن أسماء الله –تعالى- حسنى، لا يلحقها نقص، ولا عيب، بخلاف أسماء المخلوقين-وإن كان منها الحسن- فليست بحسنى، ولأن الصفات تابعة للموصوف، وكذلك الأسماء، فالرحمة اسمه-تعالى-، والرحمة صفته، والمخلوق يتصف بالرحمة التي يرحم بها، وهي تابعة له في الخلق والمعنى، فهي مخلوقة فيه؛ لأنه مخلوق فصفاته مخلوقة، وهو ضعيف فقير محتاج، وصفاته تناسبه في ذلك مع أنه يسمى "رحيماً" و"راحماً" والله-تعالى موصوف بالرحمة ويسمى "رحيماً"، ولا يكون في ذلك تشبيه؛ لأن المخلوق اسمه وصفته يختص به، والله-تعالى- اسمه وصفته يختصان به، فرحمة الله صفه له عليا، صفة الكمال، وسالمة من كل نقص أو عيب يمكن أن يلحق المخلوق، فليست رحمته-تعالى- عن ضعف أو عجز، بل عن كمال فضله وإحسانه، ولا يجوز أن تؤول بالثواب أو العطاء، أو إرادة ذلك، وما أشبهه مما يقوله أهل التأويل، كما ذكر الحافظ ابن حجر عن شراح البخاري وغيرهم، كقول ابن بطال: "إن المراد برحمته: إرادته تقع لمن سبق في علمه أنه ينفعه، وأما الرحمة التي جعلها في قلوب عباده، فهي من صفات الفعل (1) =

وصفها بأنه خلقها في قلوب عباده، وهي رقة على المرحوم، وهو سبحانه منزه عن

(1) صفات الفعل عند الأشعرية: ما فعله-تعالى- منفصلاً عنه- يعني مخلوقاته التي وجدت بصفة الخلق-وليس هناك اشتباه بين ما يسميه ابن بطال صفات فعل، وبين صفات الله، حتى يلزم ما ذكره.

ص: 85

الوصف بذلك، فتتأول بما يليق به" (1) .

وذكر من هذا النوع أشياء تخالف نصوص كتاب الله، ونصوص سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم – كما هي عادته؛ لأنه- عفا الله عنا وعنه- على المذهب الأشعري الذي يعتمد على تأويل صفات رب العالمين، وإن كان أحياناً يذكر مذهب السلف فيما ينقله، ولكنه لا يتبناه، بل يخلط بينه وبين ما يخالفه.

وهذا المذهب- أعني مذهب الأشعرية الذي عليه أكثر المتأخرين- مخالف لما عليه رسل الله صلى الله عليهم وسلم، ومخالف لكتبه، ولما عليه أتباع الرسل، كما أعترف بذلك بعض كبار علماء هذا المذهب، كالفخر الرازي، والجويني، والغزالي، والشهرستاني، وغيرهم، كما يأتي ذكر ذلك، إن شاء الله-تعالى-.

وهكذا تبرر الأشعرية تأويل صفات رب العالمين بما تعرفه من صفات المخلوقين، فكأنهم لم يعرفوا من الرحمة إلا أنها العطف والرقة على المرحوم، ولا من الغضب إلا أنه غليان دم القلب ثم طلب الانتقام، وما أشبه ذلك، ولهذا لجأوا إلى التحريف الذي يسمونه تأويلاً، وجعلوه واجباً ضرورياً، حتى لا يلزم التشبيه، فيسلم المسلم من التشبيه والتجسيم على ما زعموا.

هذا مع أنهم ينكرون على الفلاسفة تأويلهم نصوص المعاد، وعلى الباطنية تأويلهم الشرائع أشد الإنكار، فما الذي سوغ لهم تأويل نصوص الصفات مع كثرتها ووضوحها؟ وما ادعوه أن العقل يوجب ذلك، بإمكان كل مبطل أن يدعيه.

فليس هناك عاصم من الضلال، إلا الوقوف مع نصوص كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في المقدمة.

(1)"الفتح"(13/358) .

ص: 86

قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن على بن المرتضى اليماني-رحمه الله تعالى-: "الأمر الثاني: وهو النقص في الدين، برد النصوص والظواهر، ورد حقائقها إلى المجاز، من غير حجة قاطعة، تدل على ثبوت الموجب للتأويل، إلا مجرد التقليد لبعض أهل الكلام في قواعد لم يتفقوا عليها، وأفحش ذلك مذهب القرامطة الباطنية في تأويل الأسماء الحسنى كلها، وفيها عن الله-تعالى-، على سبيل التنزيه

له عنها، وتحقيق التوحيد بذلك، ودعوى أن إطلاقها يقتضي التشبيه، حتى قالوا: لا يقال" إنه موجود، ولا معدوم.

فكما أن كل مسلم يعلم أن هذا كفر صريح، فكذلك المحدث الذي طالت مطالعته للآثار، وقد يعلم أن تأويل بعض المتكلمين مثل ذلك.

ومن الضروري ورود أسماء الله الحسنى في كتابه على سبيل التمدح بها والثناء العظيم عليه بها، ألا ترى-مثلاً- أن الرحمن الرحيم متلوان في جميع الصلوات، مذكوران في أكثر محافل المسلمين، مجمعين على أنهما أحسن الثناء على الله- تعالى- متقربين إلى الله-تعالى- بمدحه بهما؟

وكرر-تعالى- التمدح بالرحمة في كتابه أكثر من خمسمائة مرة، باسم الرحمن أكثر من مائة وستين مرة، وباسمه الرحيم أكثر من مائتي مرة، وجمعهما مائة وستين مرة. وجاء الرحيم مقترناً مع التواب مراراً، ومراراً مع الرؤوف، والرأفة أشد الرحمة، مراراً مع الغفور، وهي كثيرة، عرفت منها سبعة وستين موضعاً.

وقد فطر الله العقول على معرفة رحمة الله، وسعة علمه، وكمال قدرته.

فما هو المانع من إثبات صفة الرحمة ونحوها مما أثبته الله ورسوله، مع نفي النقائص المتعلقة بصفات المخلوقين في حياتهم، وكذلك كل صفة يتصف بها الرب-تعالى- ويوصف بها العبد. فإنه –جل وعلا- يوصف بها على أكمل وجه، خالية عن جميع النقائص، والعبد يوصف بها على ما يناسبه، من نقص وضعف، وبهذا فسر أهل السنة نفي التشبيه، ولم يفسروه بنفي الصفات كما فعل المعطلة.

ص: 87

ومما يدل على بطلان التأويل: كون المعتزلة يسخرون من تأويل الأشعرية للحكيم، والأشعرية تسخر من تأويل بعض المعتزلة للسميع البصير، وأهل السنة يسخرون من تأويل الفريقين للرحمن الرحيم، وما أشبههما، والكل يسخر من تأويل القرامطة. فيجب إثبات ما وصف الله به ذاته الكريمة، من غير تأويل، ولا تعطيل.

ولا يجوز القول بأن ظاهر هذه الأسماء كفر، وضلال، وأن الصحابة والسلف الصالح لم يفهموا ذلك، أو أنهم فهموه ولم يقوموا بالواجب من نصح المسلمين وبيان التأويل الحق؛ لأمرين:

الأول: قاطع ضروري، وهو أن العادة توجب أن ما كان كذلك أن يظهر التحذير منه، من رسول الله-صلى الله عليه وسلم – ومن أصحابه، ويتواتر أعظم من تحذيرهم من الدجال الكذاب، ولا يجوز-مع كمال عقولهم وأديانهم- أن يتركوا صبيانهم ونساءهم وعامتهم يسمعون ما ظاهره كفر، منسوباً إلى الله- تعالى- ورسوله ويسكتون عليه، مع بلادة الأكثرين.

ولو تركوا بيان ذلك، ثقة بنظر العقول الدقيق، لتركوا التحذير من فتنة الدجال، فإن بطلان ربوبيته أظهر في العقول من ذلك، ألا ترى أن المتكلمين لما اعتقدوا قبح هذه الظواهر، تواتر عنهم التحذير عنها، وتأويلها، فصنفوا في ذلك، وأيقظوا الغافلين، وعلموا الجاهلين، وكفروا المخالفين، وأشاعوا ذلك بين المسلمين، بل بين العالمين، فكان أحق منهم بذلك سيد المرسلين وقدماء السابقين، وأنصار الدين، لو كان ذلك حقاً.

الثاني: أنه ثبت تحريم الزيادة في الدين، فلا يصح سكوت الشرع عن النص على ما يحتاج إليه، من مهمات الدين، فالإسلام متبع، لا مخترع، ولذلك كفر من أنكر شيئاً من أركان الدين؛ لأنها معلومة ضرورة، فأولى وأحرى أن لا يجيء الشرع بالباطل منطوقاً متكرراً من غير تنبيه على ذلك، لاسيما إذا كان ما سموه باطلاً، هو المعروف في جميع كتب الله، ولم يأت ما يعارضه من طريق شرعي، ولا عقلي، حتى يجب التأويل.

ص: 88

وكثير منهم يزعم أنه ما جاء التصريح بالحق في آية واحدة تكون هي المحكمة التي رد إليها جميع المتشابه، والله-تعالى- ذكر أنه أنزل في كتابه آيات محكمات، ترد إليها المتشابهات، ولم يذكر أن جميع كتابه متشابه، فبطل ما يقولون.

وقد اعترف الرازي- في كتابه "الأربعين"(1) - وهو من أكبر خصوم أهل السنة- أن جميع الكتب السماوية جاءت بصفات الله –تعالى- ولم ينص الله-تعالى- في آية واحدة على أنه منزه عن الوصف بالرحمة والحلم والحكمة، وما أشبه ذلك. والأمر ظاهر وإن لم يعترف به، وهذه الكتب السماوية موجودة.

وهبك تقول: هذا الصبح ليل

أيعمى العالمون عن الضياء" (2)

قلت: دعوى المجاز في اسمه –تعالى- "الرحمن" وغيره من الأسماء الحسنى، من أبطل الدعاوى؛ لأن ذلك يتضمن إنكار حقيقة صفة الرحمة، وهو أعظم من إنكار الكفار لاسمه تعالى "الرحمن"، كما ذكر الله –تعالى- عنهم ذلك، قال –تعالى-:{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (3) .

وقال –تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (4) .

فهؤلاء الذين كفروا بالرحمن، وأنكروه، لم يكفروا بذاته-تعالى- وربوبيته، ولم ينكروا ما يدعيه المؤولة أن معنى اسمه الرحمن هو الإحسان والإنعام إلى خلقه،

(1) كتاب "الأربعين في أصول الدين في علم الكلام".

(2)

" إيثار الحق على الخلق"، بتلخيص وتصرف (ص129-139) .

(3)

الآية 30 من سورة الرعد.

(4)

الآية 60 من سورة الفرقان.

ص: 89

وإنما أنكروا اسمه-تعالى- "الرحمن" أن يسمى به.

وإنكار صفة الرحمة أعظم من إنكار الاسم، وهو من أعظم الإلحاد في أسمائه –تعالى-؛ لأن وضع الاسم مقصود به الدلالة على المعنى المراد منه، وهو الرحمة، كما هو معلوم في جميع أسمائه تعالى.

وتعليلهم لنفي الرحمة عن الله-تعالى- بأنها رقة القلب التي تحمل الميل إلى المرحوم.

جوابه: أن هذه رحمة المخلوق، ووصفه، وأما رب العالمين، فليس كمثله شيء في ذاته وصفاته، فليست رحمته-تعالى- من جنس رحمة خلقه-جل وعلا-.

ومما يعجب منه أن أهل التأويل (1) يجعلون الرحمة بالنسبة للمخلوق حقيقة، وبالنسبة لله-تعالى- مجازاً، فكيف تكون رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء مجازاً، ورحمة المخلوق الضعيف حقيقة؟

وكل العقلاء يدركون آثار رحمة الله –تعالى- في الخلق، كما يدركون آثار ربوبيته أو أعظم، وهذا من أظهر الأشياء وأوضحها.

ومعلوم أن الأسماء التي تسمى الرب –تعالى- بها –وهي كلها حسنى- لها معان يستدل بها عليها؛ لأنها مشتقة من تلك المعاني، وهذه المعاني هي الصفات، وليست أسماؤه تعالى مجرد أعلام، فالرحمن يدل على الرحمة، والعليم يدل على العلم، والحكيم يدل على الحكمة، وهكذا جميع أسمائه تعالى.

(1) أقصد الذين يؤولون الصفات كما هي طريقة أكثر الأشعرية.

ص: 90

قال: باب قول الله-تعالى-: (أنا الرزاق ذو القوة المتين) .

8-

"حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال النبي-صلى الله عليه وسلم: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم، ويرزقهم".

أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري.

وأمه ظبية بنت وهب بن عك، هاجر إلى الحبشة قديماً، ثم قدم على النبي-صلى الله عليه وسلم في خيبر، مع جعفر وأصحابه، وهو من سادات الصحابة وعلمائهم، عرف بالشجاعة والاجتهاد في طلب الخير، وكان قارئاً حسن الصوت، حتى قال فيه النبي-صلى الله عليه وسلم:"لقد أعطي مزماراً من مزامير آل داود"(1)

توفي رضي الله عنه بمكة، وقيل: بالكوفة، سنة اثنتين، أو أربع وأربعين، عن ثلاث وستين سنة (2) .

أما الآية فهكذا قرأها ابن مسعود، وقال: إنه أقرأه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام أحمد بسند صحيح (3) ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حسن صحيح (4) .

(1) انظر: "البخاري"(6/161)"فضائل القرآن".

(2)

انظر: "الاستيعاب"(3/979) ، "أسد الغابة"(3/367) ، "الإصابة"(6/194) .

(3)

انظر: "السند"(1/394) .

(4)

"تفسير ابن كثير"(7/402)، وانظر:"سنن أبي داود"(4/291) وفيه: "إني أنا الرزاق" الخ، ومثله في الترمذي (4/262) .

ص: 91

وهذه الآية مرتبطة بالآية قبلها في المعنى، وهي قوله-تعالى-:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1)، والمعنى: أنه -تعالى- خلق العباد ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، فمن أطاعه في ذلك جازاه أتم الجزاء وأحسنه، ومن أبى وعصاه عذبه أشد العذاب.

وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم" (2) .

فهو-جل وعلا- لم يخلقهم ليستعين بهم أو ليقوى بهم، كما يقصد السادة من عبيدهم.

قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} هذه القراءة المجمع عليها، المتواترة، وقراءة ابن مسعود تتفق معها في المعنى.

والمعنى: أن الله -تعالى- هو المتكفل بأرزاق الخلق وحاجاتهم؛ وأكد الجملة بـ "إن" والضمير؛ لقطع توهم من يعتمد على قوته، أو علمه وصنعته، أو غير ذلك، في أمور الرزق،؛ ليصرف اعتمادهم إلى الله وحده.

{ذُو الْقُوَّةِ} أي القوة العظيمة التي لا تضاهي، ولا تقاس بقوة خلقة مهما بلغت قوتهم، فهو-تعالى- على كل شيء قدير، لا يمتنع عليه شيء.

و {الْمَتِينُ} الشديد القوة، الذي لا يطرأ عليه عجز أو ضعف، تعالى وتقدس، وهذا المروي عن ابن عباس كما ذكره الطبري (3) .

قال ابن الجوزي: "والمتين: الشديد القوة الذي لا تنقطع قوته،

(1) الآيات 56-58 من سورة الذاريات.

(2)

"تفسير ابن كثير"(1/402) .

(3)

انظر: "تفسير الطبري"(27/13) .

ص: 92

ولا يلحقه في أفعاله مشقة" (1) .

ورفع "المتين" على أنه وصف "الرزاق" أو لذو، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بجر "المتين" على أنه صفة للقوة.

وهذه الآية ونظائرها تدل بوضوح على أن الله -تعالى- موصوف بالصفات العليا، كما أنه مسمى بالأسماء الحسنى، فالقوة صفته، والرزاق اسمه، وتقدم أن كل اسم لابد أن يتضمن الصفة، وبذلك وغيره يرد على المنكرين للصفات، كما سبقت الإشارة إليه، والله أعلم.

وأما معنى الحديث: فقال النووي: "قال العلماء: معناه: أن الله -تعالى- واسع الحلم حتى على الكافر الذي ينسب إليه الولد والند، قال المازري: حقيقة الصبر: منع النفس من الانتقام أو غيره، فالصبر نتيجة الامتناع، فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله -تعالى-.

قلت: هذا الكلام فيه نظر فقد جاء في أسمائه تعالى: الصبور، وفي هذا الحديث:" ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله - تعالى - ".

قال القاضي: والصبور من أسماء الله - تعالى -، وهو: الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام، وهو بمعنى الحليم في أسمائه سبحانه وتعالى، والحليم: هو الصفوح مع القدرة على الانتقام" (2) .

قلت: قول المازري: " فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله -تعالى-".

فيه نظر، وذلك أن رسوله صلى الله عليه وسلم أطلق على ربه الصبر، وأنه ما أحد أصبر منه، وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله - تعالى - وأخشاهم له، وأقدرهم على البيان عن

(1)"تفسير ابن الجوزي"(8/44) .

(2)

"شرح النووي على مسلم"(17/146) .

ص: 93

الحق، وأنصحهم للخلق، فلا استدراك عليه، فيجب أن يبقى ما أطلقه صلى الله عليه وسلم على الله - تعالى - بدون تأويل، إلا إذا كان يريد بذلك تفسير معنى الصبر، ولكن الأولى أن يبقى كما قال؛ لأنه واضح ليس بحاجة إلى تفسير.

قوله في الحديث: " اصبر" أفعل تفضيل من الصبر، ومن أسمائه الحسنى "الصبور"، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة (1) .

وقال الزجاج: " أصل الصبر في الكلام: الحبس، يقال: صبرته على كذا صبراً: إذا حبسته، ومعنى الصبر والصبور في اسم الله - تعالى - قريب من معنى الحلم"(2) .

وقال ابن الأثير: " الصبور: هو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام منهم، بل يؤخر ذلك إلى أجل مسمى، فمعنى الصبور في صفة الله - تعالى - قريب من معنى

الحليم، إلا أن الفرق بين الأمرين أنهم لا يأمنون العقوبة في صفة الصبور، كما يأمنون منها في صفة الحليم" (3) .

يقصد أن صفة الحلم أكثر رجاء ورحمة وأوسع لعباده، من صفة الصبور، والله أعلم.

قوله: "على أذى سمعه من الله" لفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره، وضعف أثره من الشر والمكروه، وذكره الخطابي، قال شيخ الإسلام: "وهو كما قال، بخلاف الضرر، فقد أخبر - سبحانه- أن العباد لا يضرونه، كما قال تعالى:{وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً} (4) ، فبين أن

(1)"فتح الباري"(13/361) .

(2)

" تفسير أسماء الله الحسنى"(ص65) .

(3)

"جامع الأصول"(4/183) .

(4)

الآية 176 من سورة آل عمران.

ص: 94

الخلق لا يضرونه، لكن يؤذونه" (1) .

فابن آدم يؤذي الله - تعالى- ويسبه، بإضافة ما يتعالى ويتقدس عنه، مثل نسبة الولد إليه -تعالى- والند، والشريك في العبادة، التي يجب أن تكون خالصة له وحده، ومثل إسناده نعمه وأفعاله إلى غيره، من الدهر، والطبيعة، والكون والمخلوقات، وغير ذلك، ثم يسبون ما أسندوا تلك الحوادث إليه، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادتهم حوادثه، وأهلكتهم كوارث الطبيعة، ويا خيبة الدهر، وهذا زمان سوء، وما أشبه ذلك.

وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة-رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله-تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب ليله ونهاره"(2) .

وأذية الله-تعالى- بنسبة الحوادث، والكوارث إلى الدهر، أو الطبيعة، وتوجيه اللوم والقدح والسب إلى ذلك كثيرة في كلام أهل الأدب وغيرهم، مع أن ذلك

صنع الله وفعله، ولذلك يرجع السبب إليه، تعالى عن قولهم علواً كبيراً، كقول ابن المعتز:

يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحداً

وأنت والد سوء تأكل الولدا

وقال أبي الطيب المتنبي:

قبحاً لوجهك يا زمان فإنه

وجه له من كل قبح برقع (3)

وقول الطرفي:

إن تبتلى بلئام الناس يرفعهم

عليك دهر لأهل الفضل قد خانا

(1)"تيسير العزيز الحميد"(ص542) .

(2)

انظر: "البخاري"(6/166) وتفسير سورة الجاثية (8/574) ، و (10/564) الأدب، و (9/179) التوحيد، و"مسلم"، الأدب (7/45) .

(3)

"ديوان المتنبي"(ص393) .

ص: 95

وقول التهامي:

ليس الزمان وإن حرصت مسالماً

خلق الزمان عداوة الأحرار

وقول الآخر:

وغاض رزقي وعاداني الزمان ولم

ينظر لما بي من العليا ولا حسبي

وقول الحريري:

ولا تأمن الدهر الخؤون ومكره

فكم عالم أخنى عليه ونابه

وقوله أيضاً:

ولما تعامى الدهر وهو أبو الردى

عن الرشد، في إيجابه ومقاصده

تعاميت حتى قيل: إني أخو عمى

ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده

وقوله أيضاً:

ولو أنصف الدهر في حكمه

لما ملك الحكم أهل النقيصة

وقول موفق الدين، عبد الله بن عمر الأنصاري، في تخميسه مقصورة ابن دريد:

يا زمني ماذا العمى

فوقت لي من الرزايا أسهما

يا دهر كم هذي الحقود

والإحن

(1)

وقال تميم بن المعتز:

يا دهر ما أقساك من متلون

في حالتيك وما أقلك منصفاً

أتروح للنكس الجهول ممهداً

وعلى الحر اللبيب سيفاً مرهفاً

وإذا صفوت كدرت شيمة باخل

وإذا وفيت نقضت أسباب الوفا

لا أرتضيك وإن كرمت لأنني

أدري بأنك لا تدوم على الصفا

(1) انظر: " تخميس مقصورة ابن دريد"(ص42) .

ص: 96

زمن إذا أعطى استرد عطاءه

وإذا استقام بدا له فتحرفا

ما قام خيرك يا زمان بشره

أولى بنا ما قل منك وما كفى

وقال عبد الرحيم الاسطنبولي:

أرى الدهر يسعف جهاله

وأوفر حظ به الجاهل

ومثل هذا كثير جداً في أشعار أهل الأدب قديماً وحديثاً، وهو لا يجوز؛ لما دل عليه هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه، وللأحاديث الأخرى الصحيحة الصريحة في النهي عن ذلك، كحديث أبي هريرة الآتي: يقول الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، اقلب ليله ونهاره"(1) .

يعني: أن الدهر-الذي هو الليل والنهار- مخلوق لله مسخر، وهو مؤتمر بأمر الله –تعالى- مطيع له، فإذا سبه الساب، فإن السب يعود إلى فاعل الدهر وخالقه.

ومعلوم أن توجيه الخطاب والملام إلى الأيام والليالي لأنها ظرف لوقوع الحوادث، وما يؤلم، فوجه اللوم إلى الدهر لذلك، وإلا فغالب هؤلاء، إن لم يكن كلهم، لا يعتقدون أن الليل والنهار هو المصرف المدبر، والموجد لما يقع فيه، فرجع اللوم في الحقيقة إلى تلك الحوادث الواقعة في الليل والنهار، فبذلك يعلم أن اللوم والسب يعود إلى مقدرها وموجدها، وهو الله-تعالى- خالق كل شيء، فليحذر المسلم من مجاراة هؤلاء الذين سلكوا طريق أهل الجهل من الكفار، وغيرهم، في القدح في أفعال الله –تعالى-، وسخط أقداره وتدبيراته.

قال ابن الجوزي –رحمه الله تعالى-: "ما رأت عيني مصيبة نزلت بالخلق أعظم من سبهم للزمان، وعيبهم للدهر، وقد كان هذا في الجاهلية، ثم نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – عنه، فقال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" (2) .

(1) سيأتي هذا الباب في قول الله "يريدون أن يبدلوا كلام الله".

(2)

رواه مسلم في الألفاظ من الأدب وغيره (4/1762) رقم الحديث (2246) وله عدة طرق عنده.

ص: 97

ومعناه: أنتم تسبون من فرق شملكم، وأمات أهليكم، وتنسبونه إلى الدهر، والله –تعالى- هو الفاعل لذلك.

وهؤلاء إن أرادوا بالدهر، مرور الزمان، فذلك لا اختيار له، ولا مراد، ولا يعرف رشداً من ضلال، ولا ينبغي أن يلام، فإنه زمان مدبر، ولا يعقل أن يكون ذم هؤلاء يقصد به الزمان الذي لا تصرف له، فلم يبق إلا أن القوم خرجوا عن ربقة الإسلام، ونسبوا القبائح إلى الله –تعالى- فاعتقدوا قصور حكمته، وأنه يفعل ما لا يصلح كما اعتقده إبليس في تفضيل آدم، وهؤلاء لا ينفعهم مع هذا الزيغ اعتقاد إسلام، ولا فعل صلاة، بل هم شر من الكفار" (1) .

قلت: أكثر هؤلاء من الشعراء والأدباء لا يقصدون نسبة القبائح إلى الله –تعالى- من الجور والظلم، وإنما ساروا في ذلك على سبيل المتابعة لأهل الجاهلية والتقليد، بدون تبصر لذلك، والله أعلم.

وكذلك يؤذي ابن آدم ربه بمخالفته أوامره –تعالى- وارتكابه نهيه، والإصرار على ذلك، وأذية رسله، وعباده الصالحين، بعيبهم، وتنقصهم، كما في "مسند الإمام أحمد"، من حديث عبد الله بن مغفل المزني –رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "الله، الله، في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم، فمن أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"(2) .

وقد قال الله –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} (3) .

(1)"صيد الخاطر"(ص490) باختصار وتصرف يسير.

(2)

"المسند"(4/87) .

(3)

الآية 57 من سورة الأحزاب.

ص: 98

قال ابن جرير –رحمه الله تعالى-: "أي الذين يؤذون ربهم بمعصيتهم إياه، وركوبهم ما حرم عليهم"(1) .

وفي قوله: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله" دليل واضح على تسميته –تعالى- بذلك، أعني "الصبور"، كما جاء في حديث الأسماء الحسنى.

قال ابن القيم –رحمه الله تعالى-: "فقد أطلق عليه –تعالى- أعرف الخلق به، وأعظمهم تنزيهاً له، هذه الصفة: "وما أحد أصبر على أذى سمعه من الله "، كما أن ما ورد في الأسماء الحسنى "الصبور" من أمثلة المبالغة، فهو أبلغ من "الصابر" والصبار. ومعنى الصبر معلوم في اللغة، والشرع، والعرف، فلسنا بحاجة إلى تأويلات المتكلمين، التي تبعد عن المعنى المقصود من الخطاب.

وصبر الله –تعالى- لا يماثل صبر المخلوق، بل يختلف عنه من وجوه:

منها: أنه عن قدرة تامة. ومنها: أنه لا يخاف الفوت، والعبد إنما يستعجل لخوف الفوت. ومنها: أنه –تعالى- لا يلحقه بصبره ألم، ولا حزن، ولا نقص بوجه من الوجوه. وظهور أثر هذا الاسم الكريم مشهود في العالم بالعيان، كظهور اسمه –تعالى- الحليم. والفرق بين الصبر والحلم: أن الصبر ثمرة الحلم، وموجبه، والحلم في صفاته –تعالى- أوسع من الصبر، ولهذا جاء في القرآن في مواضع كثيرة، وجاء مقروناً مع اسمه العليم، كقوله –تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2)، وقوله –تعالى-:{وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (3)(4) ، وحلمه –تعالى- من لوازم ذاته.

(1)"تفسير الطبري"(21/44) .

(2)

الآية 51 من سورة الأحزاب.

(3)

الآية 12 من سورة النساء.

(4)

وقد جاء اقترانه باسمه الغفور في مواضع عدة من القرآن كقوله تعالى: {ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم] {سورة آل عمران: آية 155] .

ص: 99

وأما صبره -تعالى- فمتعلق بكفر عباده، وشركهم، ومسبتهم له -تعالى وتقدس- وسائر معاصيهم، وفجورهم، فلا يدعوه ذلك إلى تعجيل عذابهم، بل يصبر عليهم ويمهلهم، ويرفق بهم، ويستصلحهم بحلمه وصبره ونعمه، حتى إذا لم يبق فيهم موضع للصنيعة ولا يصلحون على الإمهال، ولم ينيبوا إليه، لا من باب الإحسان والنعم، ولا من باب البلاء والنقم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر، بعد غاية الإعذار إليهم، وبذل النصيحة لهم، ودعائهم من كل باب.

وهذا كله من موجبات صفة حلمه، وهي صفة ذاتية له لا تزول.

وأما الصبر فإذا زال متعلقه كان كسائر الأفعال التي توجد لوجود الحكمة وتزول بزوالها، فتأمله، فإنه فرق لطيف قل من تنبه له.

وقد أشكل على كثير من العلماء مجيء هذا الاسم في أسماء الله الحسنى، وقالوا: لم يأت في القرآن، فأعرضوا عن الاشتغال به.

ولو أنهم أعطوه حقه لعلموا أن الرب -تعالى- أحق به من جميع خلقه، كما هو أحق باسم العليم، والرحيم، والقدير، والسميع، وسائر أسمائه الحسنى من المخلوقين، وأن التفاوت الذي بين صبره -تعالى- وبين صبرهم، كالتفاوت الذي بين حياته وحياتهم، وعلمه وعلمهم، وهذا في سائر صفاته -تعالى-، ولهذا قال أعرف خلقه به:" لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله" -تعالى- فعلم أرباب البصائر بصبره -سبحانه- كعلمهم برحمته وعفوه وستره، مع أنه صبر مع كمال علم وقدرة، وعظمة وعزة، وهو صبر على أعظم مصبور عليه، فإن مقابلة أعظم العظماء، وملك الملوك، وأكرم الأكرمين، ومن إحسانه فوق كل إحسان بغاية القبح، وأعظم الفجور، وافحش الفواحش، ونسبته -تعالى- إلى كل ما لا يليق به، والقدح في كماله، وفي أسمائه وصفاته، والإلحاد في آياته، وتكذيب رسله عليهم السلام ومقابلتهم بالسب والشتم والأذى، وتحريق أوليائه، وقتلهم وإهانتهم- أمر لا يصبر عليه إلا الصبور الذي لا أحد أصبر منه، ولا نسبة لصبر جميع الخلق من أولهم إلى آخرهم إلى صبره سبحانه وتعالى.

ص: 100

ومما يعين على معرفة صبره -تعالى- وحلمه، والفرق بينهما: تأمل قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1) ،

وقوله -تعالى-: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (2) وقوله -تعالى-: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (3) ، على قراءة فتح اللام.

فأخبر -تعالى- أن حلمه ومغفرته يمنعان زوال السماوات والأرض، فالحلم وإمساكهما أن تزولا هو الصبر، فبحلمه صبر عن معاجلة أعدائه.

وفي الآية إشعار بأن السماوات والأرض تهم وتستأذن بالزوال؛ لعظم ما يأتي به العباد، فيمسكهما بحلمه، ومغفرته، وذلك حبس عقوبته عنهم، وهو حقيقة صبره -تعالى-.

فالذي صدر عنه الإمساك، هو صفة الحلم، والإمساك هو الصبر، وهو حبس العقوبة، ففرق بين حبس العقوبة، وبين ما صدر عنه حبسها، فتأمله" (4) .

قال ابن المنير: "وجه مطابقة الحديث للآية (5) : اشتماله على صفتي الرزق، والقوة الدالة على القدرة، أما الرزق، فواضح من قوله: "ويرزقهم"، وأما القوة فمن قوله: "أصبر" فإن فيه إشارة إلى القدرة على الإحسان إليهم، مع إساءتهم، بخلاف طبع البشر، فإنه لا يقدر على الإحسان إلى المسيء إلا من جهة تكلفه

(1) الآية 41 من سورة فاطر.

(2)

الآيات 88-91من سورة مريم.

(3)

الآية 46 من سورة إبراهيم.

(4)

"عدة الصابرين"(ص236-237) .

(5)

في "الفتح": (مطابقة الآية للحديث) والمناسب ما أثبته.

ص: 101

ذلك شرعاً، وسبب ذلك أن خوف الفوت يحمله على المسارعة إلى المكافأة بالعقوبة، والله -سبحانه- قادر على ذلك حالاً، ومآلاً، لا يعجزه شيء ولا يفوته" (1) .

قلت: ليس عجز الإنسان عن الصبر من أجل خوف الفوت فقط، بل ولأنه لا يستطيعه ولا يتحمله، لأن ذلك يضره في نفسه، أو غير ذلك.

والذي يظهر أن ما أراده البخاري رحمه الله من الحديث، هو البيان بأن الله -تعالى- مسمى بالأسماء الحسنى، ومتصف بالصفات العليا، حقيقة على ما يليق به-تعالى-، وعلى ما يفهم من اللفظ الموضوع للمعنى المتعارف عليه من ظاهر اللغة، الذي أطلقه -تعالى- على نفسه أو أطلقه عليه رسوله، دون تكلف تأويل، أو رجوع إلى اصطلاح متكلم، أو متفلسف، كما بين ذلك قوله:"ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم" فهذا هو حقيقة الصبر المعروف في اللغة، ونصوص الشرع، فلا يجوز العدول عن ذلك بالتأويلات التي تبعد المعنى عن مقصود المتكلم من اللفظ، ودل قوله:"ثم يعافيهم، ويرزقهم" على فضله على عباده بالعافية والرزق، وأن كل ما يقع بأيديهم من رزقه، فهو الذي هيأ أسبابه ويسر طرقه.

وقوله: "ثم يعافيهم ويرزقهم" أي أنه -تعالى- يقابل إساءتهم بالإحسان، فهم يسيئون إليه -تعالى- بالعيب والسب، ودعوى ما يتعالى عنه ويتقدس، وتكذيب رسله ومخالفة أمره، وفعل ما نهاهم عنه فعله، وهو يحسن إليهم بصحة أبدانهم، وشفائهم من أسقامهم، وكلاءتهم بالليل والنهار مما يعرض لهم، ويرزقهم بتسخير ما في السماوات والأرض لهم، وهذا غاية الصبر والحلم والإحسان، والله أعلم.

(1)"فتح الباري"(13/361) .

ص: 102

قال: "باب قول الله -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) ، {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (2) ، و {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (3) ، و {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَاّ بِعِلْمِهِ} (4) ، و {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} (5) .

قال يحيي: الظاهر على كل شيء علماً، والباطن على كل شيء علماً".

أراد البخاري رحمه الله بيان ثبوت علم الله -تعالى- وعلمه -تعالى- من لوازم نفسه المقدسة، وبراهين علمه -تعالى- ظاهرة مشاهدة في خلقه، وشرعه، ومعلوم عند كل عاقل أن الخلق يستلزم الإرادة، ولابد للإرادة من العلم بالمراد، كما قال تعالى:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (6) .

والخالق هو: المبدع بتقدير سابق الوجود في الخارج، وهذا يتضمن تقدير المخلوقات في العلم قبل إيجادها في الخارج، وهو أيضاً يستلزم الإرادة والمشيئة، والإرادة مستلزمة تصور المراد والعلم به.

ووصف نفسه - تعالى- في هذه الآية بأنه (لطيف) يدرك الدقيق، (خبير) يدرك الخفي.

والأدلة على وصف الله بالعلم كثيرة، ولا ينكرها إلا ضال أو معاند مكابر.

وفي هذه الآيات التي ذكرها البخاري مدح الله- سبحانه وتعالى فيها نفسه

(1) الآية 26 من سورة الجن.

(2)

الآية 34 من سورة لقمان.

(3)

الآية 166 من سورة النساء.

(4)

الآية 11 من سورة فاطر، والآية 47 من سورة فصلت.

(5)

الآية 47 من سورة فصلت.

(6)

الآية 14 من سورة الملك.

ص: 103

بأنه عالم الغيب، وأنه استأثر به دون خلقه، فكان ذلك دليلاً على أنه لا يعلم الغيب سواه، فعلمه -تعالى- وسع كل شيء في الماضي، والمستقبل، والحال. وفي الآية الأولى استثنى -تعالى- من ارتضاه من رسله، فأطلعهم على ما يشاء من غيبه، عن طريق الوحي إليهم، وإعلامهم به، وجعل ذلك معجزة لهم، ودليلاً على نبوتهم وصدقهم.

وليس المنجم والكاهن، ومن ضاهاهما، كالضارب بالحصى، والناظر في الكتب والأكف، وما أشبه ذلك، ممن أرتضاه الله من الرسل، حتى يطلعهم على ما يشاء من الغيوب، بل هم مفترون على الله، يصطادون أموال الجهلة من الناس بالتلبيس والحدس والتخمين الكاذب والادعاء الفارغ.

"والغيب" مصدر غاب، إذا استتر عن العين، قال -تعالى-:{أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (1) ، واستعمل في كل غائب عن الحاسة، وعما يغيب عن علم الإنسان، قال -تعالى-:{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (2)، ويقال للشيء: غيب، وغائب، باعتبار تعلقه بالناس.

أما الله -تعالى- فإنه لا يغيب عنه شيء. وقوله -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (3)، أي: ما يغيب عنكم، وما تشهدونه. والغيب في قوله -تعالى-:{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (4) : ما لا يقع تحت الحواس، ولا يقتضيه بدائه العقول، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام" (5) .

(1) الآية 20 من سورة النمل.

(2)

الآية 75من سورة النمل.

(3)

الآية 22 من سورة الحشر.

(4)

الآية 3 من سورة البقرة.

(5)

"المفردات" للراغب (ص366) .

ص: 104

وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} قال الحليمي: "معناه أنه يدرك الأشياء على ما هي عليه، وإنما وجب أن يوصف -عز اسمه- بالعالم؛ لأنه قد ثبت أن ما عداه من الموجودات فعل له، وأنه لا يمكن فعل إلا باختيار وإرادة، والفعل على هذا الوجه لا يظهر إلا من عالم، كما لا يظهر إلا من حي"(1) .

فقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} أي المختص بعلم الغيب، فلا يشاركه فيه أحد.

قال ابن جرير: عالم ما غاب عن أبصار خلقه، فلم يروه {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} فيعلمه أو يريه إياه {إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك (2) .

وقال القسطلاني: "عالم الغيب فلا يطلع على غيبه أحداً من خلقه إلا من ارتضى من رسول لإطلاعه على بعض الغيب؛ ليكون إخباره عن الغيب معجزة له"(3) .

وقوله: و {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الواو ليست من الآية، إنما جاء بها للعطف.

والمعنى: أن علم وقت مجيء الساعة - الذي هو النفخ في الصور- لا يعلمه إلا الله -تعالى- وحده، فهو خاص به -تعالى- لا يشاركه فيه أحد.

قال الخازن: "ومعنى الآية: أن الله عنده علم الساعة، فلا يدري أحد من الناس متى تقوم، في أي سنة، أو أي شهر أو أي يوم، ليلاً أو نهاراً"(4) .

وقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: أنزل القرآن، عالماً بما يترتب على إنزاله من الخير

(1)"المناهج"(1/191) .

(2)

"تفسير الطبري"(29/121) .

(3)

"إرشاد الساري"(10/363) .

(4)

"تفسير الخازن"(5/220) .

ص: 105

والفلاح وغير ذلك، وعالماً بمن يؤمن به ويقبله، ويسعد بذلك، ومن يكفر به ويرده ويشقى بذلك.

أو المعنى: أنزله فيه علمه الذي أراد أن يطلع عليه من يشاء من عباه، من الإيمان به، ومعرفته –تعالى- بأسمائه وصفاته، وما رتب على ذلك من الجزاء في الدنيا والآخرة، ومعرفة حقه، وأمره ونهيه، والآية تدل على كلا المعنيين.

وقال ابن الجوزي: "فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنزله وفيه علمه، قال الزجاج.

الثاني: أنزله من علمه، ذكره أبو سليمان الدمشقي.

الثالث: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه، قال ابن جرير" (1) .

وقال الخازن: "يعني أنه –تعالى- لما قال: لكن الله يشهد بما أنزل إليك، بين صفة ذلك الإنزال، وهو أنه –تعالى- أنزله بعلم تام، وحكمة بالغة.

وقيل: معناه: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله عليك، وأنك مبلغه إلى عباده" (2) .

وقال ابن كثير: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب، من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا أن يعلمه الله به، كما قال –تعالى-:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاء} (3)، وقال –تعالى-:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (4)(5) .

(1)"زاد المسير"(2/257) ، وانظر "تفسير الطبري"(6/31) .

(2)

"تفسير الخازن"(1/625) .

(3)

الآية 255 من سورة البقرة.

(4)

الآية 110 من سورة طه.

(5)

"تفسير ابن كثير"(2/428) .

ص: 106

قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَاّ بِعِلْمِهِ} (1) اقتصر البخاري-رحمه الله تعالى- على محل الشاهد من الآية والآية بتمامها:

{وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَاّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَاّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) .

يخبر –تعالى- العباد بأنه ابتدأ خلقهم بخلق أبيهم آدم من تراب، ثم جعل خلق ذريته من نطفة –من ماء مهين- وجعلهم أزواجاً، أي ذكراً وأنثى، رحمة منه تعالى ولطفاً، ثم أخبر –تعالى- أنه عالم بأطوار خلقهم، لا يخفى عليه شيء من مبتدئه، ووضعه، ونوعه، وعمره، وعمله، وزيادة عمره، ونقصانه، وأن ذلك عنده في كتاب، وهو سهل عليه يسير {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) ، ففي هذه الآية بيان شمول علمه –تعالى- لكل شيء، فلا تكون حياة، ولا موت، ولا حركة، ولا سكون إلا بعلمه وتصريفه ومشيئته.

قوله: {*إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي هو تعالى المختص بعلم الساعة أي وقت مجيئها.

قال ابن جرير –رحمه الله تعالى-: "إلى الله يرد العالمون به علم الساعة، فإنه لا يعلم قيامها غيره"(4) .

ففي هذه الآيات ونحوها دلالة ظاهرة على ثبوت صفة العلم لله، بحيث لا ينكر ذلك إلا معاند مكابر يجادل بالباطل، ليدحض به الحق، أو جاهل قد تناهى جهله، ومن أوجه البيان في ذلك أنه تعالى أضاف العلم إلى نفسه الكريمة، إضافة حقيقية، والمضاف إلى الله –تعالى- إما أن يكون أعياناً قائمة بنفسها، كبيت

(1) الآية 11 من سورة فاطر.

(2)

وقال –تعالى-: {*إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من انثى ولا تضع إلا بعلمه] {سورة فصلت: آية 47] .

(3)

الآية 14 من سورة الملك.

(4)

"تفسير الطبري"(25/2) .

ص: 107

الله، وناقة الله، ورسول الله، وعرش الرحمن، وما أشبه ذلك وهذا النوع من إضافة المخلوق إلى خالقه؛ لتفضيلها على غيرها من المخلوقات.

وإما إضافة معان، كعلم الله وقدرة الله، وحياة الله، وسمع الله وبصره، وما أشبه ذلك، وهذا النوع لا يكون إلا إضافة صفة إلى من تقوم به؛ لأنها لا تقوم بنفسها كما هو معلوم.

ومراد البخاري-رحمه الله في إيراده هذه الآيات إثبات هذه الصفة لله –تعالى -، والرد على من ينكرها من المعتزلة، ونحوهم ممن عميت بصائرهم، فابتعدوا عن الحق، مغترين بعقولهم.

قوله: "قال يحيي: الظاهر على كل شيء علماً، والباطن على كل شيء علماً".

قال الحافظ: "يحيي هو ابن زياد الفراء النحوي المشهور، ذكر ذلك في كتاب "معاني القرآن له" (1) .

قلت: هو يحيي بن زياد بن عبد الله، بن مروان الديلمي، أبو زكريا، المعروف بالفراء، إمام العربية، وصفه مترجموه بأنه كان متديناً ورعاً، وكان ثقة، له مصنفات كثيرة، ضاع أكثرها، توفي سنة 207 سبع ومائتين.

وقول الفراء هذا، جزء من معنى هذين الاسمين الكريمين، وقد كان من عادة السلف أنهم يفسرون الشيء بجزء من معناه، وإلا فهو –تعالى- الظاهر على كل شيء ذاتاً، وقوة وقهراً، وعلماً وحكماً، والباطن على كل شيء إحاطة وقرباً

وعلماً، وقد صح عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه –عن النبي –صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقول: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك

(1)"فتح الباري"(13/362)، وانظر:"معاني القرآن" للفراء (3/132) .

ص: 108

شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" (1) .

فهذا أحسن ما يفسر به هذه الأسماء، وأوضحه، وأقربه إلى معنى الكلام، مع كونه من المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، فلا ينبغي العدول عنه إلى كلام الناس، الذي هو عرضة للخطأ.

(1) انظر: "مسلم"(4/2084) رقم (61) .

ص: 109

9-

قوله: "حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله -تعالى-".

ابن عمر: هو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل، القرشي، العدوي،. وأمه: زينب بنت مظعون الجمحية، ولد سنة ثلاث من البعثة النبوية، وهاجر إلى المدينة وهو ابن عشر سنين، وأول مشاهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، وكان من سادات الصحابة، وعبادهم المجدين، وهو من المكثرين في الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم، عرف بالعزوف عن الدنيا، والاستعداد للآخرة، كما عرف بشدة تمسكه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبع آثاره، له في "الصحيحين" مائتان وثمانون حديثاً، توفي سنة ثلاث وسبعين في مكة، وقد بلغ من العمر سبعاً وثمانين سنة، رضي الله عنه (1) .

"قوله: مفاتيح الغيب" ذكر البخاري ذلك الحديث في الاستسقاء بلفظ "مفتاح" وفي بعض النسخ "مفاتح" وفي تفسير سورة الأنعام وسورة الرعد بلفظ "مفاتح" وفي بعض النسخ "مفاتيح".

والمفاتح جمع مفتح، بكسر الميم، اسم الآلة التي يفتح بها، مثل منجل، ومناجل، وهي لغة قليلة، والمشهور: مفتاح، وجمعه "مفاتيح"، وقد قرأ بها

(1)"الإصابة"(4/181) والرياض النضرة (ص194) .

ص: 110

ابن السميفع، ويطلق المفتاح على ما كان محسوساً مما يحل غلقاً، كالقفل، وعلى ما كان معنوياً، كما جاء في الحديث الذي صححه ابن حبان:"إن من الناس مفاتيح للخير" الخ (1) .

قوله: "مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله"، قد بين هذه الخمس، بأنها: ما يغيض من الأرحام - أي ما ينقص-، وما يكون في الغد من الحوادث والأعمال وغيرها، ومجيء المطر، والمكان الذي يموت به الإنسان، ووقت مجيء الساعة.

وعبر عن هذه الأمور الخمسة بالمفاتيح، لتقريب الأمر من السامع=؛ لأن كل شيء جعل بينك وبينه حجاب، فقد غيب عنك، والتوصل إلى معرفته في العادة من باب الحجاب، فإذا كان المفتاح الذي لا يمكن الوصول إلى ما في داخل الحجاب إلا بمعرفته لا يعلم، فكيف بما في داخل الحجاب؟

ودل الحديث على أن هذه الأمور ليست هي الغيب، وإنما هي منه؛ وأن علم الغيب من خصائص الله تعالى.

وأما ما جاء عن الأنبياء من الأخبار ببعض المغيبات، كإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بما يقع بعده من الفتن؛ والفتوح على أمته؛ وبعض أشراط الساعة، وكإخبار عيسى عليه السلام بما يأكله بنو إسرائيل، وما يدخرونه في بيوتهم، ونحو ذلك، فإن هذا مما استثناه الله تعالى بقوله:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا {27} لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} (2) ، وهو من معجزاتهم التي تدل على صدقهم.

(1)"فتح الباري"(8/291) .

(2)

الآيات 26-28 من سورة الجن.

ص: 111

وبهذا وغيره يتبين ضلال الذين يزعمون أن فريقاً من الناس- ممن يدعون لهم الولاية- أنهم يعلمون الغيب، وكذا الذين يدعون ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعلم الغيب إلا الله -تعالى-، وقد أمره الله أن يعلم الناس أنه لا يعلم الغيب، فقال تعالى:{قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (1) ، فنفى -تعالى- علم الغيب عن الخلق عموماً، من في السماوات كالملائكة، ومن في الأرض كالأنبياء، فكيف يدعى علم ذلك لغيرهم؟

وأما أصحاب الدجل والتمويه، الذين يحتالون على أكل أموال الناس بالباطل، كالذين يزعمون معرفة ما في المستقبل، بواسطة النجوم، أو بقراءة الكف، أو فنجان القهوة، ونحو ذلك، فهؤلاء لا يخفى ضلالهم وكذبهم إلا على أجهل الناس، والمغفلين منهم.

وأما الإخبار عما يسمى "بالطقس" أحوال الجو من أمطار، أو رياح أو غيوم أو صحو أو غير ذلك، فهي توقعات مبنية على مقدمات مستفادة من مراصد

الأحوال الجوية التي تتأثر بالرطوبة واليبوسة ونحو ذلك، ولهذا كثيراً ما يكون الأمر على خلاف ما قالوا.

"وأراد بالغيب في الحديث المذكور: الغيب الحقيقي؛ إذ لبعض الغيوب علامات ومقدمات يستدل بها على شيء من ذلك، وهذا ليس غيباً حقيقياً؛ فالغيب الحقيقي لا يعلمه إلا الله -تعالى-.

ثم الغيب نوعان: أحدهما: ما يتعلق بذات الله -تعالى- وحقائق صفاته.

والثاني: يتعلق بمخلوقاته، وهي كلها لديه معلومة، وقد قال -تعالى-:{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (2) .

(1) الآية 65 من سورة النمل.

(2)

الآية 59 من سورة الأنعام.

ص: 112

فلما كان كل شيء محصى في كتاب كتبه الله -تعالى- عنده، وعلمه محيط وسابق كل شيء، شبه الرسول- صلى الله عليه وسلم ذلك بالمخازن التي لها أبواب، والباب له مفتاح، فإذا كان المفتاح لا يعلمه أحد ولا يصل إليه، فكيف بما وراءه؟

وقد قال -تعالى-: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (1) ، وحصر صلى الله عليه وسلم مفاتيح الغيب بالخمس لأنها تشمل العوامل كلها.

فقوله: "ما تغيض الأرحام" إشارة إلى ما يزيد في النفوس، وما ينقص منها؛ وذكر الأرحام؛ لأن للناس عليها عوائد يعرفونها؛ وتجارب أدركوها، وقد قرر عليها أحكام شرعية، ومع ذلك لا يعلم حقيقتها، ومتى تزيد ومتى تنقص إلا الله -تعالى-، فغيرها مما هو أخفى أولى بأن لا يعلمه الخلق.

وأشار بقوله: "ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله تعالى" إلى أمور العالم العلوي، فذكر منه المطر؛ لأن له مقدمات، وعلامات يستدل بها عليه عادة، أجراها الله -تعالى-، ومع ذلك لا يعلم حقيقة الحال إلا الله -تعالى-، فكيف بما وراء ذلك مما في السماوات وما بينهما، وما يجد هناك من المخلوقات، والحوادث، والأوامر التي يريدها الله -تعالى-، ويأمر بها؟

وأشار بقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (2) ، إلى الحوادث الأرضية، وذكر موضع الموت من الأرض، مع أن العادة قد جرت في الغالب أن الإنسان يموت في الأرض التي يستقر فيها؛ ومع ذلك لا أحد يتيقن أنه يموت في مكانه الذي يعيش فيه، ولا يدري أين موضعه الذي يوارى فيه.

فإذا كان الأمر في مثل هذا غير معلوم، فكيف بالأمور الأخرى التي لا علامات لها، ولا مقدمات يستدل بها عليها؟

(1) الآية 21 من سورة الحجر.

(2)

الآية 34 من سورة لقمان.

ص: 113

وأشار بقوله: "ولا يعلم ما في غد إلا الله" إلى أنواع الزمان، وما فيه من الحوادث والتقلبات الطارئة، وخص منه غداً؛ لأنه أقرب الأزمنة من المخاطب، فإذا خفي ما فيه فما بعده أخفى، وأبعد عن معرفته.

وأشار بقوله: " ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" إلى أمور الدار الآخرة، وذكر منها يوم القيامة؛ لأنه أولها إلى الدنيا، ولا يعلم وقت مجيئه إلا الله، فما بعده أولى بأن لا يعلم، فهذا من أبدع الكلام، وأبلغه، فقد حصر فيه جميع أنواع الغيوب، وأبطل جميع الدعاوى الفاسدة" (1) .

ويقصد بالدعاوى الفاسدة: كل من يدعي شيئاً في علم الغيب، وهذا الحديث إيضاح لقوله -تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2) .

(1) انتهى ملخصاً من "بهجة النفوس"(4/272) .

(2)

الآية 34 من سورة لقمان.

ص: 114

10-

"حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، وهو يقول:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول:(لَاّ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ) .

"كأن سبب هذا القول من عائشة رضي الله عنها ما أخرجه عبد الرزاق في هذا الحديث من طريق مجالد عن الشعبي، قال: لقي ابن عباس كعباً، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم نقول: إن محمداً رأى ربه مرتين، فكبَّر كعب، وقال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، قال مسروق: فدخلت على عائشة، فقلت: هل رأى محمد ربه؟ " فذكر الحديث.

قال النووي-تبعاً لغيره-: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابي إذا قال قولاً، وخالفه غيره منهم، لم يكن ذلك حجة اتفاقاً.

والمراد بالإدراك: الإحاطة، وهو لا ينافي الرؤية.

وهذا عجيب من النووي رحمه الله فإن في "صحيح مسلم" الذي شرحه هو: "قال مسروق: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (1) .

(1) الآية 13 من سورة النجم.

ص: 115

فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: إنما هو جبريل".

وأخرجه ابن مردويه بسند مسلم، فقال:"أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: "لا، إنما رأيت جبريل منهبطاً" (1) .

قلت: أعجب من كلام النووي ما قاله ابن خزيمة رحمه الله فإنه ذكر هذا الحديث بعينه - أعني قول عائشة-: "أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، قال: "رأيت جبريل نزل في الأفق، على خلقه، وهيئته، ساداً ما بين الأفق" ثم بعد أسطر قال:"إن عائشة لم تحك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم ير ربه"(2) .

فهذا ونحوه هو ما غر النووي رحمه الله ودعاه إلى رد قول عائشة من غير تأمل للأدلة؛ والله المستعان.

وكثير من العلماء يذكر الخلاف في أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، "وليس في الأدلة ما يقضي بأنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة صريحاً، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، كما في "صحيح مسلم"، عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى أراه" (3) .

وقد قال -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} (4) ، ولو كان قد رأى ربه بعينه لكان ذكر ذلك أولى، وكذلك قوله -تعالى-:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (5) ، ولو كان رآه لكن ذكر ذلك أولى.

(1)"الفتح"(8/607) .

(2)

انظر: كتاب"التوحيد"، لابن خزيمة (ص226) .

(3)

انظر: "صحيح مسلم"(3/12) بشرح النووي.

(4)

الآية 1 من سورة الإسراء.

(5)

الآية 18 من سورة النجم.

ص: 116

وفي "الصحيحين" عن ابن عباس، في قوله -تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} (1)، قال: هي رؤيا عين، أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به، وهذه رؤيا الآيات؛ لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، حيث صدقه قوم، وكذبه قوم، ولم يخبرهم بأنه رأى ربه بعينه، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه" ا. هـ (2) .

وبهذا تبين أن قول عائشة رضي الله عنها هو الراجح، الذي تؤيده الأدلة -والله أعلم-، وظاهره أن مرادها أنه -تعالى- لا يرى في الدنيا.

قوله: "وهو يقول: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} استدلت عائشة رضي الله عنها بظاهر الآية على نفي الرؤية، وقد قال بذلك بعض المفسرين، كما رواه ابن جرير بسنده، عن السدي، قال: "لا يراه شيء وهو يرى الخلائق" (3) .

وذكر ابن كثير ما رواه ابن أبي حاتم بسنده إلى إسماعيل ابن علية أنه قال: "هذا في الدنيا، وعن هشام بن عبيد الله نحوه"(4) .

وذكر السيوطي: أن الحسن قال مثل ذلك، قال: أخرجه أبو الشيخ، والبيهقي في كتاب: الرؤية (5) .

وبهذه الآية تعلق المعتزلة في نفي رؤية الله -تعالى- في الآخرة، ووجه ذلك أنه جعل متعلق الإدراك البصر، فلما نفاه عنه كان ظاهر ذلك نفي الرؤية. والحق ثبوت رؤية المؤمنين لله -تعالى- في الآخرة، كما تواترت النصوص في ذلك.

(1) الآية 60 من سورة الإسراء.

(2)

"مجموع الفتاوى"(6/580) .

(3)

انظر: "تفسير الطبري"(7/301) قال السيوطي: أخرجه ابن أبي حاتم، "الدر المنثور"(3/335) .

(4)

انظر: "تفسير ابن كثير"(3/303) .

(5)

"الدر المنثور"(3/335) .

ص: 117

والجواب عما استدلوا به: أن الرؤية ثبتت في آيات أخر، كقوله-تعالى-:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1)، وقوله:{كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (2) ، والأخبار بذلك ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل متواترة، كما سيأتي، إن شاء الله -تعالى-.

فيتعين أن المراد بالإدراك المنفي في الآية هو الإحاطة، وبذلك فسره ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف.

قوله: "ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: "ولا يعلم الغيب إلا الله" الضمير في قوله: "إنه يعلم" يعود على محمد صلى الله عليه وسلم أي: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، فقد كذب، لأن علم الغيب يختص بالله -تعالى-، كما قال -تعالى- مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم وأمراً له أن يقول:{قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (3) ، والآيات في هذا كثيرة.

وعلم الغيب من خصائص الرب -تعالى- التي بعث رسله وأنزله كتبه لبيانها، ونفي ذلك عمن سواه -تعالى-.

وأما قول -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) (4)، فهي كقوله -تعالى-:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} (5) ، فهي تبين أن الله -تعالى يطلع من يشاء من رسله على ما يشاء من المغيبات، وذلك بوحيه إليهم، مثل إخباره عما جرى من الأمم الماضية، وما أصيبوا به من

(1) الآية 22-23من سورة القيامة.

(2)

الآية 15 من سورة المطففين.

(3)

الآية 50 من سورة الأنعام.

(4)

الآيتان 26-27 من سورة الجن.

(5)

الآية 255 من سورة البقرة.

ص: 118

العذاب وغيره، كما قال -تعالى-:{تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} (1) ، وكذلك الإخبار عن المستقبل من المعاد، والجنة والنار، التي أطلع الله عليها رسوله فآمن بها المؤمنون، وعرفوها من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إجمالاً.

وأما الإحاطة بالمعلومات كلياتها وجزئياتها ما كان منها، وما يكون، فهذا إلى الله وحده لا يضاف إلى غيره من الخلق، فمن ادعى شيئاً من ذلك لغير الله -تعالى-، فقد أعظم الفرية على الله -تعالى-، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

"فعلم الغيب لله وحده، ولا يقال لغيره: عالم الغيب، ومن أطلع على شيء منه بواسطة الوحي أو غيره، يقال" أطلعه الله عليه، كالإخبار عن حال البرزخ، والحساب، والجنة والنار، وما أشبه ذلك، وما يدعيه المتصوفة في مشايخهم هو من تلاعب الشيطان بهم، وكذا ما يسمونه الكشوف لا أصل له"ا. هـ (2) .

"وقول الداودي: (ما أظن قوله: "من حدثك أن محمداً يعلم الغيب" محفوظاً، وما أحد يدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم من الغيب إلا ما علمه الله تعالى) متعقب بأن بعض من لم يرسخ إيمانه يظن ذلك، حتى ظن بعضهم أن صحة النبوة تستلزم إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المغيبات، كما في مغازي ابن إسحاق، أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ضلت، فقال ابن الصليب: يزعم محمد أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن رجلاً يقول: كذا وكذا، إني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في شعب كذا، قد حبستها شجرة، فذهبوا فجاؤوا بها " فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه

(1) الآية 49 من سورة هود.

(2)

"غاية الأماني" بتصرف، (1/34) .

ص: 119

لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله" (1) .

قلت: قد ادعى كثير من المتصوفة والغلاة أن مشايخهم ومعبوديهم من دون الله -تعالى-، يعلمون الغيوب، وكتبهم مشحونة بذلك، مثل الطبقات الكبرى للشعراني، وجامع الأولياء للنبهاني، وغيرهما من الكتب الخرافية.

(1) القسطلاني، ببعض التصرف (10/365) .

ص: 120

قال: باب قول الله -تعالى-: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} (1) .

أي أن ذلك من أسماء الله -تعالى- التي سمي بها نفسه، ومعناه: السالم من كل نقص وعيب. وسيأتي بيان ذلك.

"قال ابن بطال: غرضه بهذا الباب: إثبات اسمان من أسماء الله -تعالى-، قال الحافظ: وفيما ذكره نظر، ولو سلم له ذلك، فإن وظيفة الشارح بيان وجه تخصيص هذه الأسماء بالذكر (2) دون غيرها، وإفرادها بالترجمة، ويمكن أنه أراد بهذا القدر جميع الآيات الثلاث، في آخر سورة الحشر، فإنها ختمت بقوله تعالى:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} وقد قال في سورة الأعراف: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، وكأنه رحمه الله -تعالى- بعد إثبات القدرة، والقوة، والعلم، أشار إلى أن الصفات السمعية ليست محصورة في عدد معين، بدليل الآية المذكورة. (4) .

أو أراد الإشارة إلى ذكر الأسماء التي تسمى الله -تعالى- بها، وأطلق بعد ذلك على المخلوقين، والسلام ثبت في القرآن (5) ، وفي الحديث "أنه من أسماء الله -تعالى".

(1) الآية 23 من سورة الحشر.

(2)

يعني أنه قصر في بيان وجه إيراد البخاري هذين الاسمين من بين الأسماء الأخرى.

(3)

الآية 180 من سورة الأعراف.

(4)

هي قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ] {سورة الأعراف: آية 180] .

(5)

كما في الآية المترجم بها.

ص: 121

وقد أطلق على التحية الواقعة بين المؤمنين.

والمؤمن يطلق على من اتصف بالإيمان، وقد وقعا معاً من غير تخلل بينهما في الآية المشار إليها، فناسب أن يذكرهما في ترجمة واحدة " (1) ا. هـ.

قلت: ما ذكره من أن السلام أطلق على المخلوقين، كالتحية الواقعة بين المؤمنين، غير ظاهر؛ لأن السلام الذي جعل تحية للمؤمنين اسم من أسماء الله –تعالى-، كما رواه البخاري –رحمه الله تعالى- في "الأدب المفرد"، من حديث أنس، قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "إن السلام اسم من أسماء الله –تعالى-، وضعه الله

في الأرض، فأفشوا السلام بينكم" (2) ، وإسناده صحيح، وترجم به البخاري في الصحيح فقال:{باب: السلام اسم من أسماء الله –تعالى-} (3)

وفي حديث عبد الله بن مسعود المتفق عليه: "إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله

" وسيذكره في الباب. وقال ابن عباس: "السلام اسم الله، وهو تحية أهل الجنة" أخرجه البيهقي في "الشعب" (4) .

ويدل على ذلك حديث المهاجر بن قنفذ، لما سلم على النبي –صلى الله عليه وسلم – لم يرد حتى توضأ، وقال:" إني أن أذكر الله إلا على طهر" رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه (5) .

قال الحافظ: صححه ابن خزيمة وغيره (6) .

(1)"فتح الباري"(13/366) .

(2)

"الأدب المفرد"(ص343) .

(3)

انظر: "الفتح"(11/13) .

(4)

انظر: "الفتح"(11/12) .

(5)

انظر: "سنن أبي داود"(1/23) الحديث السابع عشر، النسائي (1/37) ، ابن ماجه رقم (350) .

(6)

انظر: "الفتح"(11/13) .

ص: 122

قال الخطابي: "وفيه دليل على أن السلام الذي يحيي به الناس بعضهم بعضاً اسم من أسماء الله –تعالى-"(1) .

وقد اختلف في معناه، فنقل عياض أن معناه: اسم الله، أي: كلاءته عليك وحفظه، كما يقال: الله معك ومصاحبك.

وقيل: معناه: أن اسم الله يذكر على الأعمال، توقعاً لاجتماع معاني الخيرات فيها، وانتفاء عوارض الفساد.

وقيل: معناه: السلامة، كما قال تعالى:{فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (2) أن المسلم أعلم من سلم عليه أنه سالم منه، وألا خوف عليه منه (3) .

قلت: هذه المعاني متلازمة؛ لأنه إذا حصل حفظ الله لعبده وكلاءته، وكان معه، فقد حصل له الخير والبركة والسلامة.

قال ابن دقيق العيد: " السلام يطلق على معان، منها السلامة، ومنها التحية، ومنها أنه اسم من أسماء الله –تعالى-، قال: وقد يأتي بمعنى التحية محضاً، وقد يأتي بمعنى السلامة محضاً وقد يأتي متردداً بين المعنيين، كقوله –تعالى-.. (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم)(4) ، فإنه يحتمل التحية والسلامة، وقوله –تعالى-:{وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ {57} سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (5)(6) ا. هـ.

(1)"معالم السنن على هامش السنن"(1/23) .

(2)

الآية 91 من سورة الواقعة.

(3)

"الفتح"(11/13) .

(4)

في الآية قراءتان، في إحداهما: السلم، بمعنى الاستسلام والانقياد، أي استسلم وانقاد لطاعة الله وتوحيده، والأخرى: السلام، وفسرت بالتحية بأن يقول: السلام عليكم.

(5)

الآيتان 57-58 من سورة يس.

(6)

"الفتح"(11/13) .

ص: 123

قلت: يمكن إرجاع هذه الإطلاقات إلى معنى واحد، إذ كلها في الحقيقة تدور على طلب السلامة، والخلاص من الشر والأذى، وهذا ما تضمنته التحية المشروعة بين المسلمين.

فالصواب: أن السلام أسم من أسماء الله –تعالى- كما تقدم، وقد أمر المسلمون أن يفشوه فيما بينهم، فعندما يلقي المسلم على أخيه ذلك، فإنه يذكر الله –تعالى-، طالباً منه السلامة، متوسلاً إليه بذكر اسمه- تعالى- المناسب لطلبه، فكأنه يقول: أنا مسالم لك أيها الأخ محب، وداع لك، وطالب حصول البركة والخير، والسلامة من كل مؤذ، ممن يملك ذلك، متوسلاً إليه في حصول ذلك باسمه السلام.

فتضمن ذلك ثلاثة أشياء:

أحدها: ذكر اسم الله –تعالى-.

الثاني: إعلام المسلم عليه: أنه مسالم له لا يناله منه أذى.

الثالث: طلب السلامة والخير له، وبهذا يظهر أن قول من قال: إنه يطلق على التحية بين المخلوقين، أنه لا يخالف كونه اسماً من أسماء الله، أي أنه ليس قسيماً له، بل التحية الواقعة بين المؤمنين هي ذكر اسم الله –تعالى-، المطلوب به حصول السلامة، وذلك أن السائل يسأل في كل مطلوب من الله بالاسم المناسب لمطلوبه،

كما يعلم ذلك عند تأمل الأدعية الواردة في كتاب الله –تعالى-، وفي أحاديث رسوله –صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

والصواب: أن مراد البخاري- رحمه الله تعالى- بهذه الترجمة: تنزيه الله –تعالى- عن مشابهة المخلوق، وأن اشتراكه – تعالى- مع المخلوق في الاسم، أو في معنى من المعاني، لا يكون فيه تشبيه، نحو اليد، والرجل، والاستواء، والمجيء، والضحك، والسخط، والعلم، والسمع، والبصر، وغير ذلك مما أثبته –تعالى- لنفسه، وأثبته له رسوله: لأنه –تعالى – السلام، أي: السالم من كل عيب ونقص يلحق المخلوق.

ص: 124

"قال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاماَ؛ لسلامته مما يلحق المخلوق من العيب والنقص والفناء، وقال الخطابي: معناه ذو السلام، والسلام في صفة الله تعالى هو: الذي سلم من كل عيب، وبرأ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين، وقد قيل: هو الذي سلم الخلق من ظلمه"ا. هـ (1) .

قلت: هذا القول الأخير لا يخالف الذي قبله، بل كلاهما يدخل في اسمه تعالى: السلام. قال ابن كثير: "السلام من جميع العيوب والنقائص، بكماله في ذاته وصفاته وفي أفعاله"(2) .

فالسلام من الكلمات الجامعة، وحقيقته: البراءة الخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريف هذا اللفظ، فمن ذلك: سلمك الله، وسلم فلان من الشر، ومنه دعاء الرسل على الصراط:"اللهم سلم سلم" وسلم الشيء لفلان، أي: خلص له وحده من ضرر الشركة فيه، قال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ} (3) أي: خالصاً له وحده لا يملكه معه غيره. والسلم ضد الحرب، قال تعالى:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (4) ؛ لأن كل واحد من المتحاربين يسلم من أذى الآخر ويخلص منه، والقلب السليم هو:

النقي من الغل والدغل، الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، فاستقام على حب الله وحسن معاملته، ولذلك ضمن له النجاة من عذابه، والفوز بكرامته.

(1)"زاد المسير"(8/225) .

(2)

"تفسير ابن كثير"(8/105) .

(3)

الآية 29 من سورة الزمر.

(4)

الآية 61 من سورة الأنفال.

ص: 125

والإسلام أخذ من هذا المعنى، فإنه: الاستسلام لله والانقياد له، والتخلص من شوائب الشرك، والبدع المضلة.

والجنة دار السلام، أي: دار السلامة من كل آفة ونقص وشر، فإطلاق السلام على الله تعالى اسماً من أسمائه، أولى من هذا كله، وهو أحق بهذا الاسم من كل مسمى به؛ لسلامته تعالى من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو –تعالى- السلام الحق بكل اعتبار، سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وهم.

وسلام في صفاته من كل عيب ونقص، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، فهو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار، وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه، ونزهه به رسوله، فهو السلام من الصاحبة والولد، والسلام من النظير والكفء والسمي والمماثل، والسلام من الشريك.

ولهذا إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاماً مما يضاد كمالها.

فحياته –تعالى- سلام من الموت والسنة والنوم، وقيوميته وقدرته سلام من الحاجة والتعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شيء عنه أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر أو تفكر، وإرادته –تعالى- سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة، وكلماته –تعالى- سلام من الكذب والخلف والظلم، بل تمت كلماته صدقاً وعدلاً، وغناه – تعالى – سلام من الحاجة إلى غيره في وجه من الوجوه، بل كل ما سواه فقير إليه محتاج، وملكه – تعالى – سلام من منازع فيه أو مشارك، أو معاون مظاهر، أو شافع عنده بدون إذنه، وإلهيته – تعالى – سلام من مشارك له فيها، بل هو الله الذي لا إله إلا هو، وحلمه، وعفوه، وصفحه، ومغفرته، وتجاوزه، سلام من أن تكون عن حاجة، أو ذل، أو مصانعة، كما يكون من غيره، بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه.

ص: 126

وكذلك عذابه، وانتقامه، وشده بطشه، وسرعة عقابه، سلام من أن يكون ظلماً، أو تشفياً، أو غلظة أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله، ووضعه الأشياء مواضعها، فهو يستحق عليه الحمد والثناء، كما يستحق على إحسانه ونعمه.

وقدره وقضاؤه سلام من العبث والجور والظلم.

وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وعدم مصلحة العباد ورحمتهم" (1) .

وهكذا جميع صفاته وأفعاله سلام من كل ما يتوهمه معطل أو يتخيله مشبه، تعالى ربنا السلام عما يضاد كماله.

وأما ذكره "المؤمن" مع السلام فلبيان أن ما تسمى الله به، وأطلق على غيره من خلقه، فإنه لا يكون بينه وبين من أطلق عليه مشابهة، فالله – تعالى – سمى نفسه: المؤمن، ومن اتصف بالإيمان من عباده يسمى: مؤمناً، ولكن الله – تعالى – سالم من النقائص والعيوب التي تلزم الخلق؛ لأنه – تعالى – هو السلام.

وهكذا كل ما يطلق على غيره –تعالى- مما سمى به نفسه أو اتصف به، نحو العزيز، والكريم، والرؤوف، والرحيم، والسميع، والبصير، والعليم. وهو كثير.

فلله- تعالى- ما يليق به من المعاني الكاملة السالمة من النقائص والعيوب، وللمخلوق ما يناسبه ويليق بضعفه، فهو محل كل عيب ونقص. والله أعلم.

المؤمن من أسمائه – تعالى- وهو على أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه، وشهد لهم بأنهم صادقون للدلائل التي دل بها على صدقهم – قضاء وخلقاً – فإنه – سبحانه- أخبر- وخبره الصدق وقوله الحق، أنه لابد أن يري

(1)"بدائع الفوائد" ملخصاً (2/132-136)

ص: 127

عباده من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق، كما قال –تعالى-:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1) فشهد لرسوله أن ما جاء به حق، ووعده أن يري العباد من آياته الفعلية والخلقية: ما يشهد بذلك أيضاً، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل، وهو شهادته- تعالى- على كل شيء، فإن من

أسمائه "الشهيد": الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل هو مطلع على كل شيء وشاهد له، عليم بتفاصيله، وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته " (2) .

وقال ابن الجوزي: "فأما المؤمن ففيه ستة أقوال:

أحدها: أنه الذي أمن الناس ظلمه، وأمن من آمن به عذابه.

الثاني: أنه المجيب.

الثالث: أنه الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه.

الرابع: أنه الذي وحد نفسه؛ لقوله –تعالى-: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} (3) .

الخامس: أنه الذي يصدق عباده وعده.

السادس: أنه الذي يصدق ظنون عباده المؤمنين؛ ولا يخيب آمالهم"أ. هـ (4) .

(1) الآية 53 من سورة فصلت

(2)

"مدارج السالكين"(3/466) .

(3)

الآية 18 من سورة آل عمران.

(4)

"زاد المسير"(8/225) .

ص: 128

قلت: هذه الأقوال كلها حق، ويدل عليها اسمه –تعالى- "المؤمن" فهو المصدق الذي يصدق رسله بما يقيمه من الدلائل التي تدل على صدقهم فيما جاؤوا به وبلغوه عنه –تعالى-، ويصدقهم وعده بنصره إياهم على عدوهم، وبصدق عباده ما أخبرهم به من توفيتهم ما يستحقونه جزاء أعمالهم، ولا يضيع أجر أحد منهم ويؤمنهم من الظلم، فلا يخافون ظلماً ولا هضماً، فهو الذي يجير عباده وينجيهم من المهالك والمخاوف، وهو الذي شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

ص: 129

11-

قال: " حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا مغيرة، حدثنا شفيق بن سلمة قال: قال عبد الله: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فنقول: السلام على الله، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم: " إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

عبد الله، هو عبد الله بن مسعود بن غافل، الهذلي، من أهل السوابق، هاجر قديماً إلى الحبشة، وقد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع غزواته، ولازمه، وخدمه، فكان يقال له: صاحب السواك، والنعل؛ لأنه كان يحمل سواك رسول الله-صلى الله عليه وسلم ونعله.

وفي "الصحيحين" أن أبا موسى قال: " قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما نرى من كثرة دخولهم على رسول الله-صلى الله عليه وسلم ولزومهم له".

وقال حذيفة: " ما نعلم أحداً أقرب سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله-صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مسعود، ولقد علم المحظوظون من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة".

وهو من علماء الصحابة، وفقائهم، توفي في الكوفة، وقيل: في المدينة، سنة اثنتين- أو ثلاث - وثلاثين، وله بضع وستون وسنة ا. هـ. (1)

(1)"الرياض المستطابة" ملخصاً، وانظر:" الإصابة"(4/233) ، و "تهذيب التهذيب"(6/27) ، و "سير أعلام النبلاء"(1/461) .

ص: 130

قوله: "فنقول: السلام على الله"، كأنهم رأوا السلام من قبيل الحمد، والشكر، فجوزوا ثبوته لله - تعالى -، وهو تعالى السلام، والسلام منه بدأ وإليه يعود، إذ هو -تعالى- واهب السلام لعباده، الذي به يسلمون من شرور أنفسهم، وشرور أعدائهم من الجن والإنس، وهو -تعالى- السالم من كل ما فيه نقص أو شين، فلا يطلب له السلام، ولهذا قال معلم الهدى- صلى الله عليه وسلم:" إن الله هو السلام" أي السالم من أن يلحقه حاجة، أو يناله تغير أو آفة، بل هو الكامل في أوصافه العليا، وأسمائه الحسنى، وهو الغني بذاته عن كل ما سواه.

وهذا الجزء من الحديث هو محل الشاهد الذي سيق من أجله؛ لأنه يدل على أن الله -تعالى- سالم من جميع العيوب والنواقص التي تلحق الخلق، فإذا سمى نفسه باسم قد يتسمى به بعض خلقه، أو وصف نفسه بصفة قد يتصف بها بعض خلقه، فالمعاني التي يدل عليها اسمه أو صفته تخصه- تعالى- لا يشاركه فيها المخلوق.

وكل نقص في المخلوق فهو -تعالى- سالم منه، ومتنزه عنه، كما تقدم، فهو السلام المؤمن.

قوله: " التحيات لله، قال في "اللسان": " التحيات لله" معناه" البقاء لله، والسلامة من الآفات كلها التي تلحق العباد من العناء، وأسباب الفناء" (1) .

وكذا قال غيره من أهل اللغة.

وجيء بلفظ الجمع ليدل على أن الله -تعالى- يستحق جميع الكمالات، من العظمة، والبقاء، والملك، والسلامة من الآفات والنقص، وغير ذلك.

قال الخطابي: " لم يكن في تحياتهم شيء يصلح به الثناء على الله -تعالى-،

(1)"لسان العرب"(1/775) المرتب.

ص: 131

فلهذا أبهمت ألفاظها، واستعمل منها معنى التعظيم، فقال:" قولوا: التحيات لله" أي: أنواع التعظيم له" ا. هـ. (1)

وقوله: " لله" يفيد وجوب الإخلاص في العبادة، أي أن ذلك لا يجوز أن يكون لغير الله منه شيء.

"والصلوات" أي جميع العبادات له استحقاقاً بمقتضى العقل، وبالشرع، وذلك مثل الركوع، والسجود، والقيام، والدعاء، وأنواع العبادة له وحده لا شريك له في ذلك.

"والطيبات" أي الأعمال الطيبات له - تعالى- يتوسل بها إليه، وهو -تعالى- لا يقبل إلا طيباً، "وما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله، دون ما لا يليق بصفاته"(2) ، والوصف بالطيب يفيد خلوصها من الشرك، وشوائبه، وسلامتها من البدع.

"السلام" اسم الله -تعالى- الدال على سلامته من كل نقص وعيب، فيدعى الله -تعالى- به؛ ليسلم من ذكر عليه هذا الاسم الشريف، من المكاره والمخاوف.

"عليك أيها النبي" أمرهم أن يفردوه بالسلام، ويقدموه على أنفسهم، لوجوب حقه عليهم، ووجوب محبته التي يجب أن تكون مقدمة على النفس، وما دونها.

والأحاديث متقفة على لفظ الخطاب، وذكر حرف النداء "عليك أيها النبي" وقد عدل بعض الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلى لفظ خطاب الغائب فقالوا:"السلام على النبي" كما ذكره البخاري في الاستئذان (3) ، وابو عوانة في

(1)"فتح الباري"(2/313) ولفظ الخطابي لما ذكر ألفاظ تحياتهم لمعظميهم قال: " وهذه الألفاظ ونحوها مما يتحيا به الناس فيما بينهم لا يصلح شيء منها للثناء على الله- عز وجل، فتركت أعيان تلك الألفاظ، واستعمل منها معنى التعظيم، فقيل: قولوا: التحيات لله، أي الثناء على الله والتحميد وأنواع التعظيم له كما يستحقه ويجب له". "أعلام الحديث"(2/545) .

(2)

المصدر نفسه.

(3)

انظر: "الفتح"(11/56) .

ص: 132

مسنده (1) ، وغيرهما.

وقال عبد الرزاق: " عن ابن جريج، عن عطاء: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسلمون والنبي-صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما مات قالوا: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته"(2) .

وبهذا السند أيضاً: " سمعت ابن عباس، وابن الزبير، يقولان في التشهد في الصلاة: التحيات المباركات لله، الصلوات الطيبات لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته"(3) .

والأولى: اتباع لفظ الحديث كما عليه الجمهور من الصحابة، ومن بعدهم من أهل العلم، وكما أنه لا فرق بين الحاضر معه في وقت حياته، وبين من كان غائباً، فكذلك بعد وفاته.

والنداء لطلب استحضار المنادي في القلب، فيخاطبه كأنه شاهد في قلبه، ومثل هذا معروف في كلام العرب، وأشعارهم، يخاطب أحدهم من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع خطابه، قال حسان بن ثابت- رضي الله عنه في رثائه لرسول الله-صلى الله عليه وسلم:

ما بال عينك لا تنام كأنها

كحلت مآقيها بكحل الأرمد

جزعاً على المهدي أصبح ثاوياً

يا خير من وطيء الحصى لا تبعد

وجهي يقيك لهفي ليتني

غيبت قبلك في بقيع الغرقد

أأقيم بعدك بالمدينة بينهم

يا ليتني صبحت سم الأسود (4)

(1) انظر: " مسند أبي عوانة"(ص229) .

(2)

انظر: " المصنف"(2/204) .

(3)

المصدر نفسه، (ص203) .

(4)

انظر: " ديوان حسان"(ص97) .

ص: 133

وقال امرؤ القيس:

يا أيها الساعي ليدرك مجدنا

ثكلتك أمك هل ترد قتيلاً (1)

وقالت الخنساء في أخيها صخر:

ألا يا صخر إن أبكيت عين

لقد أضحكتني دهراً طويلاً

ي

بكيتك في نساء معولات

وكنت أحق من أبدى العويلا

دفعت بك الجليل وأنت حي

فمن ذا يدفع الخطب الجليلا

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا (2)

وهذا كثير جدا، ولا يحتاج إلى ذكر الشواهد عليه؛ لشهرته، وبهذا وأمثاله يتبين ضلال المغرورين الذين يستغيثون بالأنبياء، والأولياء، ويتعلقون بشبه واهية، مثل استدلالهم بلفظ النداء، والخطاب المذكور في هذا الحديث، على حضور النبي صلى الله عليه وسلم عند كل من يناديه، ويخاطبه؛ ولذلك جوزوا التوجه إليه، ومناداته، في كل ملمة، فضلوا بذلك وأضلوا كثيراً.

مع أن هذه الصيغة هي التي كان النبي-صلى الله عليه وسلم يقولها في تشهده والأمة تبع له، تقول مثل ما كان يقول، كما في شرح الآثر للطحاوي بسنده إلى عبد الله بن الزبير، قال: " إن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتشهد به: بسم الله، وبالله، خير الأسماء، التحيات، الطيبات، الصلوات لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً، ونذيراً، وأن

الساعة آتية لا ريب فيها، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم اغفر لي

(1) انظر: " ديوان امرؤ القيس"(ص178) .

(2)

انظر: " ديوان الخنساء"(ص120)

ص: 134

واهدني" ا. هـ. (1)

وهو أيضاً عند البزار (2) .

قال الحافظ: " فإن قيل: لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة، مع أن الوصف بالرسالة أعم في حق البشر؟

أجاب بعضهم: بأن الحكمة فيه أن يجمع له الوصفين؛ لأنه وصفه بالرسالة في آخر التشهد، وإن كانت الرسالة تستلزم النبوة، لكن الجمع بينهما أبلغ" (3)، ولأنها وجدت في الخارج مقدمة على الرسالة في الوحي كما في قوله -تعالى-:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (4) .

(1)"شرح معاني الآثار"(1/265) .

(2)

انظر: " كشف الأستار"(1/272) .

(3)

انظر: " الفتح"(2/314) .

(4)

الآية 1 من سورة العلق.

ص: 135

قال: "باب قول الله -تعالى-: {مَلِكِ النَّاسِ} فيه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ".

الملك هو: المتصرف بالأشياء حسب إرادته، ومشيئته، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه.

وخص الناس؛ لأنهم الذين يملكون بعض الأشياء، وفيهم ملوك فهو- تعالى- ملك من يملك، وملك الملوك، فدخل غيرهم في المعنى، وملكه - تعالى - دائم لا يزول.

قال الطبري: أخبر أنه ملك الناس "وهو ملك جميع الخلق، إنسهم وجنهم وغير ذلك، إعلاماً منه بذلك من كان يعظم الناس تعظيم المؤمنين ربهم، أنه ملك من يعظمه، وأن ذلك في ملكه وسلطانه، تجري عليه قدرته، وأنه أولى بالتعظيم، وأحق بالتعبد له ممن يعظمه، وتعبد له من الناس" ا. هـ. (1)

قال الراغب: " الملك هو: المتصرف بالأمر والنهي"(2) .

وقال الزجاج: " قال أصحاب المعاني: الملك: النافذ الأمر في ملكه، إذ ليس كل مالك ينفذ أمره وتصرفه فيما يملكه، فالملك أعم من المالك، والله -تعالى- مالك المالكين كلهم، إنما استفادوا التصرف في أملاكهم من جهته -تعالى-"(3) .

(1)"تفسير الطبري"(30/354) .

(2)

"المفردات"(ص472) .

(3)

"تفسير الأسماء الحسنى"(ص30) .

ص: 137

وقال الطبري: " ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب أن الملك من الملك مشتق؛ وأن المالك من الملك (1) مأخوذ، فتأويل قراءة من قرأ "مالك يوم الدين" أن لله الملك يوم الدين خالصاً؛ دون جميع خلقه الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكاً جبابرة، ينازعونه الملك، ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية، فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصغرة الأذلة، وأن له - دونهم ودون غيرهم - الملك والكبرياء، والعزة والبهاء، كما قال- جل ذكره

وتقدست أسماؤه -: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (2) ، فأخبر - تعالى ذكره- أنه المنفرد يومئذ بالملك، دون ملوك الدنيا، الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلى ذلة وصغار، ومن دنياهم في معادهم إلى خسار" (3) .

قوله: " فيه ابن عمر" أي يدخل في هذا الباب حديث ابن عمر، وهو كحديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب سواء، وسيأتي إن شاء الله - تعالى-.

(1) الأول بضم اليم والثاني بكسرها.

(2)

الآية 16 من سورة غافر.

(3)

"تفسير الطبري"(1/148-149) .

ص: 138

12-

قال: " حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد- هو ابن المسيب- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي-صلى الله عليه وسلم قال: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ".

أبو هريرة عرف بكنيته، واختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، وصحح البخاري والنووي وغيرهما من الحفاظ أن اسمه عبد الرحمن بن صخر.

قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً وهو يقسم غنائم خيبر، ثم لازم رسول الله-صلى الله عليه وسلم حضراً وسفراً، فلم يشغله عن ملازمته أهل ولا مال.

وهو أحفظ الصحابة، بل أحفظ الأمة، ولهذا صار هدفاً لأهل الإلحاد بسبب كثرة ما يغضبهم من مروياته.

قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث دهراً. (1)

جاء في "صحيح مسلم" في قصة إسلام أمه، أنه قال:" قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني الله أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب عبدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهما المؤمنين".

قال أبو هريرة: " فما خلق الله مؤمناً يسمع بي، ولا يراني، إلا أحبني"(2) .

ولهذا صار حبه علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق والكفر.

(1) انظر: " تهذيب الأسماء واللغات"(1/270) .

(2)

"صحيح مسلم"(4/1939) .

ص: 139

توفي- رضي الله عنه في المدينة، وقيل: بالعقيق، سنة سبع- أو تسع - وخمسين عن ثمان وسبعين سنة. (1)

قوله: " يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه"، القبض هو: أخذ الشيء باليد وجمعه، والطي هو ملاقاة الشيء بعضه على بعض، وجمعه - ولفه- وهو قريب من القبض، وهذا من صفات الله -تعالى- الفعلية - التي تتعلق

بمشيئته وإرادته، وهي ثابتة بآيات كثيرة وأحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مما يجب الإيمان به؛ لأن ذلك داخل في الإيمان بالله - تعالى-، ويحرم تأويلها المخرج لمعانيها عن ظاهرها، وقد دل على ثبوتها لله -تعالى - العقل أيضاً، فإنه لا يمكن لمن نفاها إثبات أن الله هو الخالق لهذا الكون المشاهد، لأن الفعل لا بد له من فاعل، والفاعل لا بد له من فعل، وليس هناك فعل معقول إلا ما قام بالفاعل، سواءً كان لازماً كالنزول والمجيء، أو متعدياً كالقبض والطي، فحدوث ما يحدثه - تعالى - من المخلوقات تابع لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة به - تعالى -.

وهو -تعالى- حي قيوم، فعال لما يريد، فمن أنكر قيام الأفعال الاختيارية به - تعالى- (2) فإن معنى ذلك أنه ينكر خلقه لهذا العالم المشاهد، وغير المشاهد، وينكر قوله: إنه على كل شيء قدير، فالعقل دل على ما جاء به الشرع. (3)

وما صرح به في هذا الحديث من القبض والطي، قد جاء صريحاً أيضاً في كتاب الله -تعالى-، كما قال -تعالى-:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4)

(1) انظر: " الإصابة"(7/425) ، "سير أعلام النبلاء"(2/578) ، "الاستيعاب"(4/1768) ، "أسد الغابة"(6/318) وغيرها.

(2)

قلنا: الاختيارية؛ لأنها تقع باختياره -تعالى- وإرادته ومشيئته.

(3)

أنصح القارئ بالرجوع في هذه المسألة العظيمة: إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، كدرء تعارض العقل والنقل والرسالة الكمالية، وغيرهما من كتبه.

(4)

الآية 67 من سورة الزمر.

ص: 140

والأحاديث والآثار عن السلف في صريح الآية، والحديث المذكور في الباب، كثيرة وظاهرة جلية، لا تحتمل تأويلاً ولا تحتاج إلى تفسير، ولهذا صار تأويلها تحريفاً وإلحاداً فيها، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - ذكر ما تيسر من ذلك في باب قوله - تعالى-:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .

وقوله: " ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " أي: أنه -تعالى- ينفرد بالملك، فهو الملك حقاً الذي لا منازع له، ولا معاون، ولا ظهير، ولا شريك، وفي ذلك اليوم، عندما يقبض الأرض بيده، ويطوي السماوات بيمينه، ويصبح كل شيء في قبضته، ينادي الذين كانوا ينازعونه في الدنيا ملكه، ويتعدون على سلطانه، من المتكبرين، والمتجبرين، من ملوك الدنيا، وقد انفرد مالك الملك الواحد القهار، ذي

السلطان - وهو منفرد به في كل آن، غير أنه في ذلك اليوم ينكشف جلياً - فيناديهم بما يتضمن توبيخهم وتهديدهم: أين ملوك الدنيا؟ فهل يستطيعون منعاً أو رداً؟ وهل لديهم قوة أو حيلة أو فدى؟ لقد ذهب منهم كل شيء، وبقيت التبعات والذل والحسرات.

قال بعض شراح البخاري: " قوله: {مَلِكِ النَّاسِ} داخل في معنى التحيات لله، أي: الملك لله، وكأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يقولوا التحيات، امتثالاً لأمر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس {1} مَلِكِ النَّاسِ} ".

ثم قال: " وفي الحديث إثبات اليمين صفة لله - تعالى -، من صفات الذات، وليست جارحة خلافاً للمجسمة"(1) .

قلت: قوله: " وليست جارحة" من كلام أهل البدع، الذين عدلوا عما جاء في الكتاب والسنة من الألفاظ إلى ما ابتدعوه من الألفاظ الموهمة للنقص -تعالى الله-، توهماً منهم أن تلك الألفاظ الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله،

(1)"فتح الباري"(13/368) .

ص: 141

يتضمن ظاهرها التشبيه لصفات الخلق، وهذا من ظن السوء بالله وبكتابه وبرسوله، الذي أرداهم فضلوا سواء السبيل، وأضلوا كثيراً من عباد الله.

وقوله: "خلافاً للمجسمة" يقال له: من هم المجسمة الذين تقصدهم؟ وهل تستطيع أن تعين طائفة تؤمن بكتاب الله وسنة رسوله تقول: إن يمين الله جارحة؟ أو أن الله جسم؟ (1) فهؤلاء لا وجود لهم، ولكن مراده: الذين آمنوا بمثل هذا النص على ظاهره، وقالوا: إن لله يدين حقيقتين بدون تأويل، كما هو الواجب على المسلم؛ لأنه صريح النصوص، وأيقنوا أن تأويل اليد واليمين، ونحوها من صفات الله، بالقوة، أو القدرة، أو النعمة، أو ما أشبه ذلك، تحريف كتحريف اليهود الذين حرفوا الكلم عن مواضعه.

فهذا الشارح ومن على نهجه إلى اليوم يسمون هؤلاء مجسمة، ظناً منهم أن من أثبت هذه الصفات على ظاهرها، لزمه أن يكون مجسماً لربه، ومشبهاً له بأجسام الخلق، تعالى الله أن يكون له مثل أو شبيه.

قال شيخ الإسلام: "وليس هناك من أطلق لفظ الجسم، لكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبتها مجسماً، بطريق اللزوم، إذ كانوا يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بالجسم، وذلك أنهم اصطلحوا في معنى الجسم على غير المعنى المعروف في اللغة، فإن الجسم في اللغة هو البدن، وهم يسمون كل ما يشار إليه جسماً، فيلزم على قولهم أن كل ما جاء به الكتاب والسنة وما فطر الله عليه عباده، وما {عليه} سلف الأمة، وأئمتها، تجسيماً، فهم يطلقون لفظ المجسمة والمشبهة، على أتباع السلف"(2) .

(1) الذين نسبوا إلى التجسيم وذكرهم أصحاب المقالات بأسمائهم: هشام بن الحكم، وهشام ابن سالم الجواليقي، ومقاتل بن سليمان، وداود الجواربي، وكلهم رافضة، ما عدا مقاتل بن سليمان فإنه لم يثبت أنه قال بالتجسيم، وليس هو من الرافضة.

(2)

"بيان تلبيس الجهمية"(1/626) .

ص: 142

وقال: " لفظ الجسم لم يتكلم به أحد من الأئمة والسلف، في حق الله - تعالى - لا نفياً ولا إثباتاً، ولا ذموا أحداً ولا مدحوه بهذا الاسم، ولا ذموا مذهباً ولا مدحوه بهذا الاسم، وإنما تواتر عنهم ذم الجهمية، الذين ينفون الصفات، وذموا طوائف منهم، مثل المشبهة، وبينوا مرادهم بالمشبهة"(1) .

قال الحافظ: " الذي يظهر لي أنه أشار {بهذه الترجمة} إلى ما قاله شيخه نعيم بن حماد: " يقال للجهمية: أخبرونا عن قول الله -تعالى- بعد فناء خلقه، {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فلا يجيبه أحد، فيرد على نفسه:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم، أفهذا مخلوق؟ " (2)

قلت: يظهر لي أن مراده بهذا الباب كالباب الذي قبله، أن هذا الاسم الكريم (الملك) من أسماء الله الحسنى، وقد أطلق على بعض خلقه، ولم يكن في ذلك

تشبيه، إذ المعنى الذي يختص به الله -تعالى- لا يشاركه فيه أحد من خلقه، فهو مالك الملك، وله الملك التام المطلق، وهو الذي يهب للمخلوق الملك، مع أن ملك المخلوق ناقص يناسب نقصه، قال -تعالى-:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) .

وأما التوفيق بين الحديث، والترجمة فظاهر، وهو أن الناس الذين يوجد

(1) نفس المصدر (1/47)، ومراد السلف بالمشبهة: الذين يمثلون صفاته تعالى بصفات خلقه، نحو اليد والوجه، فيجعلون يده تعالى كيد المخلوق، ووجهه كوجه المخلوق، تعالى الله عن ذلك.

(2)

"الفتح"(13/368) .

(3)

الآية 26 من سورة آل عمران.

ص: 143

منهم الملوك والجبابرة، والذين يذل لهم ويخضع بعض العباد، وقد يصرفون لهم ما هو خالص حق الله من العبادة، هؤلاء ملك له، تحت قهره، آخذ بنواصيهم، يتصرف فيهم كيف يشاء، ويظهر ذلك جلياً لكل أحد، يوم يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ فيعرف قدرهم وقدر ملكهم الذي أورثهم الذل والصغار، والله أعلم.

ص: 144

قال: " باب قول الله -تعالى-: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (2) ، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} (3) ، ومن حلف بعزة الله، وصفاته".

{العزيز} هو الذي له العزة التامة، والقوة الكاملة، فلا يعجزه شيء، القاهر لكل شيء فلا يمتنع من قوته شيء، المنيع الذي لا ينال ولا يغالب.

"فالعزة تتضمن القوة، ولله القوة جميعاً، يقال: عز يعز - بفتح العين- إذا اشتد وقوى، ومنه الأرض العزاز - الصلبة الشديدة - ويعز يعز - بكسر العين- إذا امتنع ممن يرومه، ويعز يعز - بضم العين - إذا غلب وقهر.

فأعطوا أقوى الحركات - وهي الضمة- لأقوى المعاني، وهو الغلبة والقهر للغير، وأضعفها - وهي الفتحة - لأضعف هذه المعاني، وهو كون الشيء في نفسه صلباً، والحركة المتوسطة - وهي الكسرة - للمعنى المتوسط، وهو القوي الممتنع عن غيره، ولا يلزم منه أن يقهر غيره، ويغلبه.

(1) الآية 4 من سورة إبراهيم، والآية 60 من سورة النحل، والآية 26، 42 من سورة العنكبوت أيضاً، والآية 27 من سورة الروم، والآية 9 من سورة لقمان، والآية الثانية من سورة فاطر، والآية الأولى من سورة الحديد، والآية الأولى من سورة الحشر، والأخيرة منها، والآية الأولى من سورة الصف، والآية الثالثة من سورة الجمعة.

(2)

الآية 180 من سورة الصافات.

(3)

الآية 8 من سورة المنافقون.

ص: 145

والعز ضد الذل، والذل أصله الضعف والعجز، فالعز يقتضي كمال القدرة، ولهذا يوصف به المؤمن، ولا يكون ذماً له، بخلاف الكبر.

قال رجل للحسن البصري: إنك متكبر، فقال:" لست بمتكبر، ولكني عزيز".

وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (1) .

وقال ابن مسعود: " ما زلنا أعزة، منذ أسلم عمر"(2) .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم أعز الإسلام بأحد هذين الرجلين، عمر بن الخطاب، أو أبي جهل بن هشام"(3) .

وفي بعض الآثار: " إن الناس يطلبون العزة في أبواب الملوك، ولا يجدونها إلا في طاعة الله عز وجل ".

وفي الحديث: " اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك".

وقال بعضهم: " من أراد عزاً بلا سلطان، وكثرة بلا عشيرة، وغنى بلا مال، فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة".

فالعزة من جنس القوة" اهـ (4) .

قال الحافظ: " العزيز الذي يقهر ولا يقهر، فإن العزة التي لله -تعالى- هي الدائمة الباقية وهي العزة الحقيقية الممدوحة، وقد تستعار العزة للحمية والأنفة، فيوصف بها الكافر والفاسق، وهي صفة مذمومة، ومنه قوله -تعالى-:{أخذته العزة بالإثم} (5)، وأما قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ

(1) الآية 8 من سورة المنافقون.

(2)

رواه البخاري وغيره، انظر:" الفتح"(7/41) .

(3)

قال الهيثمي: رواه الطبراني في "الكبير" و "الأوسط"، انظر:"مجمع الزوائد"(9/61) .

(4)

"طريق الهجرتين"(ص109)

(5)

الآية 206 من سورة البقرة.

ص: 146

الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (1)، فمعناه: من كان يريد أن يعز، فليكتسب العزة من الله، فإنها لا تنال إلا بطاعته، ومن ثم أثبتها لرسوله وللمؤمنين، فقال -تعالى-:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} (2) ، وقد ترد العزة بمعنى الصعوبة، كقوله -تعالى-:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (3) ، وبمعنى الغلبة ومنه {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (4)، وبمعنى القلة: كقولهم: شاة عزوز، إذا قل لبنها، وبمعنى الامتناع، ومنه قولهم: أرض عزاز، بفتح أوله مخففا" ا. هـ (5) .

{الحكيم} هو الذي يضع الأشياء مواضعها التي يحسن أن توضع فيها، ولا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، وهذا من أسمائه -تعالى- الحسنى التي كثر ذكرها، في القرآن، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو -تعالى- موصوف بالحكمة، وقد دل على ذلك شرعه -تعالى- وخلقه، فمن الضلال إنكار ذلك، وكفى بالمرء ضلالاً أن ينفي عن الله -تعالى- ما وصف به نفسه، ووصفه به رسله.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ} " أصل التسبيح عند العرب: التنزيه لله عن إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبري من ذلك، كما قال أعشى بني ثعلبة:

أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر

أي: سبحان الله من فخر علقمة، أي تنزيها لله مما أتي علقمة من الافتخار على وجه التكبر منه لذلك" (6) .

(1) الآية 10 من سورة فاطر.

(2)

الآية 8 من سورة المنافقين.

(3)

الآية 128 من سورة التوبة.

(4)

الآية 23 من سورة ص.

(5)

"الفتح"(13/369) وذكر أن هذا كلام الراغب، ولكن الحافظ تصرف فيه وغير وزاد ونقص، ولهذا أضفته إليه.

(6)

ابن جرير الطبري في "تفسيره"(1/211) .

ص: 147

وقال أيضاً: " وسبحان: اسم مصدر، لا تصرف له، ومعناه: نسبحك"(1) .

وفي "تاج العروس": " وسبحانه: تنزيها لله عن كل ما لا ينبغي أن يوصف به، قال الزجاج: سبحان في اللغة: تنزيها لله عز وجل عن السوء"(2) .

فالتسبيح: تنزيه الله - تعالى- عما لا يليق بعظمته، مأخوذ من السبح، وهو الإبعاد والسرعة في السير، يقال: فرس سبوح، إذا كانت تسرع في السبح الذي هو السير والجري، ومنه قوله -تعالى-:{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} فسرت بالخيل، وبالسفن، وبالنجوم، وكلها تسبح وتبعد في سبحها.

وقوله {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} أي ذي العزة وصاحبها، فرب هنا بمعنى ذي وصاحب، والعزة صفته، فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وأخذ اسمه تعالى "العزيز" منها.

وقوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} أي: تنزيها وتقديساً لذي العزة التي لا ترام، عن الذي يصفه به المشركون، من أن له صاحبة أو ولداً، أو شريكاً، أو ولياً من الذل، أو أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه، أو أن أحداً يتصرف في ملكه بدون إرادته ومشيئته.

وتنزيهاً لذي العزة التي غلب بها كل شيء عما يقوله المعطلون لصفاته، حيث أنكروها أو أولوها تأويلاً يؤول إلى إنكارها، وتنزيهاً له -تعالى- عما يقوله المحرفون الملحدون في صفاته الظانون بالله ظن السوء، حيث توهموا أن اتصافه -تعالى- بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي التشبيه، فحرفوا صفاته عما أراده بناء على أوهامهم الباطلة.

(1) المصدر نفسه (1/221) .

(2)

"تاج العروس"(2/156) .

ص: 148

وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي: لله القوة والغلبة والقهر.

والعزة من صفات ذاته -تعالى- التي لا تنفك عنه، بعزته وقهر بها كل شيء، وكل عزة حصلت لخلقه فهي منه، وكل من كان إليه أقرب وله أطوع كانت عزته أتم وأكمل من غيره، ولهذا قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وسبب نزول هذه الآية الكريمة قول رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول الذي ذكره الله عنه: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} (1) ، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما (2)، يقصد بالأعز: نفسه وذويه، وبالأذل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وقوله: "ومن حلف بعزة الله وصفاته". وصفاته: من عطف العام على الخاص، ومراده: أنه قد ثبتت النصوص بالحلف بعزة الله وبصفاته، نحو كلماته، وقد تقرر في دين الإسلام، أنه لا يحلف بغير الله -تعالى- وأن الحلف بغيره شرك كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حلف بغير الله، فقد كفر أو أشرك"(3) وعند أبي داود، "من حلف بغير الله فقد أشرك"(4) .

وعنده أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون"(5) .

(1) الآية 8 من سورة المنافقون.

(2)

انظر: البخاري مع"الفتح"(8/644) ، و"مسلم"(4/1998) .

(3)

رواه الترمذي وقال: حسن، انظر: الترمذي مع "تحفة الأحوذي"(2/371) .

(4)

"السنن"(3/570) ، ورواه أحمد في "مسنده"(2/34) .

(5)

"السنن"(3/569) .

ص: 149

وفي"الصحيحين" عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب، يحلف بأبيه، فقال:"ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً بالله أو ليصمت"(1) .

وبهذا يتبين أن الحلف بقدرة الله وعزته وسائر صفاته، أنه كالحلف به-تعالى-، وأن صفاته ليست مخلوقة؛ لأنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، ولا منفصلة عنه-تعالى-.

وبهذا يظهر مراد البخاري رحمه الله بهذا الباب وهو إثبات الصفات لله -تعالى-، والرد على من أنكرها كالمعتزلة، ومن تابعهم، وقد تقدم الكلام في ذلك.

قال الحافظ: "والذي يظهر أن مراد البخاري بالترجمة: إثبات العزة لله، راداً على من قال: إنه عزيز بلا عزة، كما قالوا: العليم بلا علم"(2) .

قلت: لا يقصد إثبات العزة بخصوصها، بل مع سائر الصفات كما هو ظاهر.

قوله: "وقال أنس: عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تقول جهنم: قط قط وعزتك".

وقال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: يبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة، فيقول: رب أصرف وجهي عن النار، لا أسألك غيرها".

قال أبو سعيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: "لك ذلك وعشرة أمثاله".

وقال أيوب: "وعزتك، لا غنى بي عن بركتك".

هذه المعلقات قد رواها موصولة، فحديث أنس سيذكره في هذا الباب

(1) انظر: "البخاري مع الفتح"(11/530) ، و"مسلم"(4/1239) .

(2)

"الفتح"(13/370) .

ص: 150

موصولاً، وحديث أبي هريرة يأتي كذلك، وقد تقدم أيضاً في الرقاق، وقول أيوب عليه السلام قد رواه في الوضوء، وفي أحاديث الأنبياء.

والمراد من هذه الأحاديث هنا ظاهر، إذ فيها الحلف بعزة الله-تعالى- ولا يحلف إلا بالله أو بصفاته، ولكن حديث أبي هريرة لم يذكر محل الشاهد منه، وإنما أشار إليه، وهو قول الرجل يخاطب رب العالمين:"وعزتك، لا أسألك غيرها".

ص: 151

13-

قال: "حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا حسين المعلم، حدثني عبد الله بن بريدة، عن يحيي بن يعمر، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " أعوذ بعزتك، الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون".

قوله: "كان يقول" يدل على أنه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم مراراً، لما يفهم من لفظة "كان".

وقوله: "أعوذ بعزتك" أعوذ: هو الالتجاء والاعتصام، وحقيقته: الهرب من المخوف إلى المجير العاصم، فالعائذ بالله -تعالى- قد هرب مما يخافه ويؤذيه، أو يهلكه، إلى ربه ومالكه العزيز الذي لا يغالب، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويجير من احتمى به.

فالاستعاذة هي: الالتجاء إلى الله، والاحتماء من شر كل ذي شر، والعوذ يكون لدفع الشر، واللوذ يكون لطلب الخير، كما قال بعض الشعراء:

يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به فيما أحاذره

وعزة الله -تعالى- صفته، كما تقدم، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بالله وأتقاهم له -يتعوذ بصفاته تعالى؛ لأن ذلك من عبادة الله، بل هو من أفضلها، امتثالاً لقوله -تعالى-:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . ومثل الاستعاذة بصفات الله -تعالى- الحلف بها، كما مر قريباً.

وقوله: "الذي لا إله إلا أنت" أي أنت الإله الحق، الذي تجب عبادته على عباده، وكل تأله لغيره فهو ضلال، يوجب الشقاء الأبدي، والخلود في النار، فلذلك لا أتوجه بتألهي إلا إليك يا رب، فلا إله لي غيرك، فبك أعوذ، وإليك ألوذ.

ص: 152

"الذي لا يموت" أي فأنت -يا إلهي- الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، لا مبدأ لوجودك ولا منتهى لبقائك، وأنت الغني بذاتك عن كل ما سواك، والخلق كلهم فقراء إليك، وكانوا عدما قبل إيجادك إياهم، وهم عرضة للأمراض، والآفات والتغيرات والفناء، وأنت يا رب الباقي وحدك، والخلق كلهم يموتون، فلا رب سواك يتصرف بالخلق كيف يشاء، ويغير ولا يتغير، -جل وعلا-.

قوله: "والجن والإنس يموتون" المقصود بذكر الجن والإنس: جنس الخلق، والمعنى: أن الخلق كلهم يموتون، ولا يبقى إلا الحي القيوم، كما قال-تعالى-:

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (1) ، وسمى الجن جناً لاستتارهم عن أعين الناس، من الاجتنان، كما قال-تعالى-:{يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (2) ، وأما الإنس فسموا بذلك لأن بعضهم يأنس ببعض غالباً، أو أنهم يرون ويأنسون، أي يحس بهم ويشاهدون، وذكر الجن والإنس لا ينفي عن الملائكة الموت؛ لأن هذا خاص قصد به الجن والإنس، أو على ما تقدم ذكر الجنس، والمقصود عموم الخلق. وقد جاء ما يدل على هلاك عموم الخلق كقوله-تعالى-:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} (3) .

وقد قيل: إن الملائكة يدخلون في الجن؛ لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، والله أعلم.

(1) الآيتان 26، 27من سورة الرحمن.

(2)

الآية 27 من سورة الأعراف.

(3)

الآية الأخيرة من سورة القصص.

ص: 153

14-

قال: "حدثنا ابن أبي الأسود، حدثنا حرمي، حدثنا شعبة، عن قتادة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى في النار

" ح

وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، ح.

وعن معتمر، سمعت أبي، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قد قد، بعزتك وكرمك، ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة".

أنس هو ابن مالك بن النضير بن ضمضم، الأنصاري، الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المكثرين من الرواية عنه؛ قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو ابن عشر سنين، فأتت به أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضت عليه أن يخدمه، فقبل ذلك النبي-صلى الله عليه وسلم فلازم النبي في السفر والحضر عشر سنين، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يكثر ماله وولده، وأن يدخل الجنة، قال أنس:"قد رأيت أثنين، وأنا أرجو الثالثة".

توفي في البصرة سنة ثلاث وتسعين، وله مائة وثلاث سنوات، وهو آخر من مات في البصرة من الصحابة. (1) .

(1)"الإصابة"(1/127) .

ص: 154

قوله: "لا يزال يلقى فيها" الضمير "فيها" يعود إلى جهنم، والمعنى أنه يستمر إلقاء من يستحق النار فيها، وهي تطلب الزيادة منهم، قال الله-تعالى-:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (1) .

قال ابن كثير: "يخبر -تعالى- أنه يقول لجهنم: هل امتلأت؟ وذلك أنه وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين، فهو -سبحانه- يأمر بمن يأمر به إليها، ويلقى {فيها} وهي تقول: هل من مزيد؟ أي: هل بقي شيء تزيدني؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث"(2) .

يقصد بالأحاديث مثل هذا الحديث، فإن ظاهره أن الاستفهام لطلب الزيادة، وهو الصحيح الذي يدل على ظاهر القرآن، والأحاديث الصحيحة.

قوله: "حتى يضع فيها رب العالمين قدمه"، في رواية:"حتى يضع رب العزة فيها قدمه" وهذه الرواية هي المناسبة لهذا الباب، ولكن البخاري اكتفى بالإشارة إليها على عادته، وفي رواية أبي هريرة:"يقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها"، وفي رواية:"حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ"، وفي أخرى:"حتى يضع رجله، فتقول: قط قط" وهذه الروايات كلها في البخاري، واتفق معه مسلم عليها (3) .

وعند الدارقطني في "الصفات": "فأما النار فيلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ -ثلاث مرات- حتى يأتيها تبارك وتعالى فيضع قدمه عليها، فتنزوي، وتقول: قدني قدني"(4) .

(1) الآية 30 من سورة ق.

(2)

"تفسير ابن كثير"(7/381) .

(3)

انظر"مسلم"(4/2187، 2188) .

(4)

"الصفات"(ص14، 17) .

ص: 155

وفي رواية: "لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار تبارك وتعالى فيها قدمه، فهناك تنزوي"(1) .

وأخرج حديث أنس هذا أبو نعيم في "المستخرج" بلفظ: "حتى يضع الله فيها قدمه"(2) .

ففي مجموع هذه الروايات البيان الواضح بأن القدم والرجل-وكلاهما عبارة عن شيء واحد -صفة لله- تعالى- حقيقة على ما يليق بعظمته.

كما فيها إبطال تأويل المؤولة، نحو قولهم: "إن القدم: عبارة عن إذلال جهنم إذا بلغت في الطغيان، وقولهم: إن المراد بالقدم: الفرط السابق من المعذبين، أي يضع الله فيها ما قدمه لها من أهل العذاب، وقولهم: المراد بالقدم: قدم بعض المخلوقين، وقولهم: يجوز أن يكون مخلوقاً اسمه القدم، وقولهم: المراد بالقدم: الأخير من أهل النار، وقولهم: إنه اسم مكان عصي الله فيه، فيلقى في النار.

وقول الداودي: إن المراد بالقدم: قدم صدق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم والإشارة بذلك إلى شفاعته، وقال بعضهم: إن المراد بالقدم: قدم إبليس، إلى غير ذلك من السخافات المضحكة، الدالة على ضلال قائليها.

وزعم ابن الجوزي، وابن فورك: أن لفظ الرجل محرف من بعض الرواة عن القدم، وذهب مرة إلى تحريف المسمى بالتأويل، فقال: يحتمل أن يراد بالرجل: الجماعة" (3) ، فهذه التأويلات الباردة يكفي العاقل المنصف مجرد ذكرها عن تكلف ردها بالدليل لظهور بطلانها، فهي في الحقيقة تحريف للكلام الواضح البين، كتحريف اليهود حينما قيل لهم: "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة" فدخلوا يزحفون على أعجازهم وقالوا: حبة حنطة.

(1)"الصفات" للدارقطني (ص15)

(2)

"الفتح"(13/370) .

(3)

انظر: "الفتح"، فقد ذكر جميع هذه التأويلات، وسكت عليها (8/596) .

ص: 156

فبطلان قول هؤلاء المعطلة -الذين جعلوا صفات الله-تعالى- نوعاً من المخلوقات، وحاولوا إبطالها بالتأويلات البعيدة السخيفة-واضح وظاهر، وذلك من وجوه:

"الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حتى يضع، ولم يقل: حتى يلقى {فيها} كما في قوله: "لا يزال يلقى في النار".

الثاني: أن قوله: "قدمه" لا يفهم منه هذا {الذي قالوه} لا حقيقة، ولا مجازاً، كما تدل عليه الإضافة.

الثالث: أن أولئك المؤخرين، إن كانوا من الأصاغر المعذبين، فلا وجه لانزوائها واكتفائها بهم، فإن ذلك إنما يكون بأمر عظيم، وإن كانوا من الأكابر المجرمين، فهم في الدرك الأسفل من النار، وفي أول المعذبين، لا في أواخرهم.

الرابع: أن قوله: "فينزوي بعضها إلى بعض" دليل على أنها تنضم على من فيها فتضيق بهم، من دون أن يلقى فيها شيء.

الخامس: أن قوله: "لا يزال يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها قدمه" جعل وضع القدم الغاية التي إليها ينتهي الإلقاء، ويكون عند ذلك الانزواء، فيقتضي أن تكون الغاية أعظم مما قبلها، وليس في قول {هؤلاء} المعطلة معنى للفظ {قدمه} إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر، والأول أحق به من الآخر" (1) .

يضاف إلى ذلك: أن هذا الكلام الواضح البين الذي إذا سمعه السامع لم يتبادر إلى ذهنه إلا ظاهره اللائق بجلال الله-تعالى-؛ فلو كان ظاهره غير مراد للمتكلم، وأن المراد منه ما ذكره هؤلاء المحرفون، لصار إلى الألغاز والتعمية أقرب، ولا يكون المتكلم بذلك قد أدى ما وجب عليه من البلاغ والبيان؛ وهذا

(1)"مختصر الفتاوى المصرية"(ص647) .

ص: 157

من أبطل الباطل.

وقد علم أن المتكلم بهذا الكلام أفصح الناس وأقدرهم على الإيضاح والبيان لما يريد، وهو أيضاً أنصحهم لأمته، وأعلمهم بالله وبما يجب له، وما يمتنع عليه، وهو أيضا أحرصهم على إيصال الخير والنفع إلى الخلق، ودفع الشر عنهم، فيستحيل مع هذه الأمور أن يكون ظاهر كلامه باطلاً يدل على الكفر والتشبيه -كما زعم المعطلة المؤولة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِبًا} (1) ، فظهر بذلك بطلان قول المعطلة، والحمد لله رب العالمين.

قال أبو سعيد الدارمي: "وما دعوى المعطل بأن القدم: أهل الشقوة الذين تقدم في علم الله أنهم يلقون في جهنم، واستدلاله بما روي عن ابن عباس، في قوله-تعالى-:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} (2) قال: ما قدموا من أعمالهم.

فيقال: من المشهور عن ابن عباس، أنه قال:"الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله"، وهذا صحيح مشهور عن ابن عباس (3) ، ودعوى المعطل أنها لا تمتلئ حتى يلقى الله فيها الأشقياء، الذين هم قدم الجبار-عند أهل التأويل- دعوى باطلة، وهل استزادت إلا بعد مصير الأشقياء إليها؟ أفيلقيهم فيها ثانية؟ أو أنه -تعالى- حبس عنها الأشقياء، وألقى فيها السعداء، فلما استزادت ألقى فيها أهل الشقوة؟

وأما ردهم الحديث بقوله - تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ

(1) الآية 5 من سورة الكهف.

(2)

الآية الثانية من سورة يونس.

(3)

رواه أبو سعيد الدارمي في "الرد على المريسي"(ص425) ، "مجموع عقائد السلف"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (2/282) ، وابن جرير في "التفسير"(5/398) .

ص: 158

أَجْمَعِينَ} (1)، قالوا: إن جهنم لا تمتلئ بغير الجن والإنس، ومن زعم غير ذلك فقد كفر.

فيقال: إن هذه الآية لا تخالف قوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (2)، ويصح في الكلام أن يقال للممتلئ: استزاد، كما يمتلئ الرجل من الطعام، والشراب، وهو يقدر أن يستزيد، ويقال: امتلأ المسجد من الناس، وفيه فضل وسعة، وامتلأ الوادي ماء، وهو يحتمل أكثر مما فيه، وكما في الحديث:"يخرج المهدي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً" وفي الأرض سعة لأكثر من ذلك، فكذلك جهنم تمتلئ بما يلقى فيها من الجن والإنس، وتقول هل من مزيد؟ لفضل فيها، غضباً لله-تعالى- على الكفار، حتى يفعل الجبار بها ما أخبر به رسوله، من وضعه قدمه فيها كما يشاء، وكما عنى رسول الله، فحينئذ تقول: حسبي حسبي، ولها خزنة يدخلونها غير معذبين بها، وفيها حيات، وعقارب.

وقال-تعالى-: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ {30} وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَاّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (3) .

فقوله-تعالى-: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (4) ، لا يخالف هذه الآية، كما أنه لا يخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"يضع الجبار فيها قدمه"، وإذا كانت جهنم لا تضر الخزنة الذين يدخلونها، ويقومون عليها، فكيف يستنكر وضع رب العالمين عليها قدمه؟ " (5) .

وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن كلامها حقيقة، فلا وجه للعدول عن ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي

لا يدخلني إلا الضعفاء؟ وقالت النار: ما لي يدخلني

(1) الآية 119 من سورة هود.

(2)

الآية 30 من سورة ق.

(3)

الآيتان 30و31من سورة المدثر.

(4)

الآية 119 من سورة هود.

(5)

رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي، ملخصاً بتصرف.

ص: 159

الجبارون، والمتكبرون؟ " (1) أخرجاه في "الصحيحين".

وفي "مسند الإمام أحمد" بسند فيه عطية العوفي- وهو ضعيف- عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكلت اليوم بثلاثة، بكل جبار، وبمن جعل مع الله إلهاً آخر، وبمن قتل نفساً بغير نفس، فينطوي عليهم، فيقذفهم في غمرات جهنم"(2) .

وفيه أيضاً من طريق ابن لهيعة -وفيه كلام معروف- عن عائشة- رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج عنق من النار، فينطوي عليهم، ويتغيظ عليهم، ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة، وكلت بمن دعا مع الله إلهاً آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد، فتنطوي عليهم، وتطرحهم في غمرات جهنم"(3) .

وقد ذكر ابن رجب أحاديث بهذا المعنى (4) ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن حجراً كان يسلم عليه (5) ، كما صح أن الصحابة كانوا يسمعون تسبيح الطعام وهم يأكلون، ومن المشهور حنين الجذع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عليه حين تركه، فكيف يستنكر كلام جهنم؟

قوله: "فينزوي بعضها إلى بعض" أي يلتئم بعضها على بعض، وتتضايق على من فيها، فلا يبقى فيها متسع لغير من فيها.

(1) انظر: "البخاري مع الفتح"(13/434) ، (8/595) ، و"مسلم"(4/2186) .

(2)

"المسند"(3/40) .

(3)

"المسند"(6/110) .

(4)

انظر: "التخويف من النار"(ص130) .

(5)

انظر: "فتح الباري"(13/371) .

ص: 160

قوله: "وتقول: قد قد" بفتح القاف، وسكون الدال، وفي رواية:"قط قط" وهو اسم فعل، ومعناه: حسبي وكفاني ما ألقي في، فلا متسع لغيرهم، أي قد امتلئت.

قوله: "بعزتك وكرمك" هذا محل الشاهد من الحديث لما ترجم به، وهو قسم من النار بعزة الله وكرمه، أنها قد امتلأت، وأصبحت ليس فيها متسع، وقد تقرر عند المسلمين أن القسم بغير الله لا يجوز.

قوله: "لا يزال يلقى فيها، وتقول" هذا القول من جهنم حقيقة، فالله-تعالى- ينطقها بكلام مسموع منها، كما ينطق-جل وعلا- الجوارح وغيرها، والله على كل شيء قدير، وأمور الآخرة أعظمها على خلاف ما يعرفه الناس في الدنيا، والقسم بأسماء الله وصفاته قسم به-تعالى-والمقصود أن الله تعالى متصف بالصفات، فأراد أن يبين ذلك بما ثبت منها في كتاب الله-تعالى- ومنها العزة، وبالأحاديث التي تبين ذلك وتوضحه، وقد تقدم البحث فيها في الباب الأول.

قال الحافظ: "يؤخذ منه مشروعية الحلف بكرم الله، كما شرع الحلف بعزة الله"(1) .

قوله: "ولا تزال الجنة تفضل، حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة".

أي أن أهل الجنة الذين يدخلونها ينتهون، وفيها فضل مساكن لم يصبها أحد؛ لعظم سعتها، قال الله-تعالى-:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (2)، وقال-تعالى-:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (3) .

(1)"الفتح"(13/371) .

(2)

الآية 133 من سورة آل عمران.

(3)

الآية 21 من سورة الحديد.

ص: 161

وقد وعد الله -تعالى- الجنة والنار أن يملؤهما من الجنة والناس، ومما يشاء، فأما النار: فإن الله -تعالى- لا يدخل فيها إلا من يستحقها، ولا يظلم أحداً، ولسعتها أيضاً يتنهي أهلها دخولاً فيها مع كثرتهم، وهي تطلب الزيادة، وتسأل الله وعده، فعند ذلك يضع عليها -تعالى- قدمه، فتتضايق على أهلها، فينزوي بعضها إلى بعض -أي تجتمع- فتصبح ليس فيها موضع لأحد، فيحصل بذلك ملؤها.

وأما الجنة: فإن الله -تعالى- يخلق لها خلقاً جديداً فيسكنهم فضلها، أي المساكن التي فضلت عمن دخلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لا راد لفضله، ولا مانع لعطائه.

ص: 162

قال: "باب قول الله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} (1)

قال القرطبي: "بالحق-أي بكلمة الحق- يعني: قوله: كن"(2) .

ومثله قال القسطلاني، ثم قال: " وقال ابن عادل في لبابه: قيل: الباء بمعنى اللام، أي إظهاراً للحق؛ لأنه جعل صنعه دليلاً على وحدانيته، فهو نظير قوله - تعالى -:{مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} (3) .

وقال الخازن: " يعني إظهاراً للحق، فعلى هذا تكون الباء بمعنى اللام، لأنه جعل صنعه دليلاً على وحدانيته، وقيل: خلقها بكمال قدرته، وشمول علمه، وإتقان صنعه، وكل ذلك حق.

وقيل: خلقها بكلامه الحق، وهو قول "كن" وفيه دليل على أن كلام الله - تعالى- ليس بمخلوق؛ لأنه لا يخلق مخلوق بمخلوق" (4) .

(1) الآية 73 من سورة الأنعام.

(2)

"تفسير القرطبي"(6/19) .

(3)

الآية 191 من سورة آل عمران، "هدي الساري"(10/369) .

(4)

"تفسير الخازن"(2/147) .

ص: 163

وقال ابن الجوزي: " فيه أربعة أقوال:

أحدها: خلقهما للحق. والثاني: خلقهما حقاً.

والثالث: خلقهما بكلامه، وهو الحق.

والرابع: خلقهما بالحكمة" (1) .

قلت: هذه الأقوال ليس فيها اختلاف، وهي داخلة في معنى الآية، إلا أن الطبري جعل القول الثاني والرابع قولاً واحداً، كما سيأتي، وهو الأظهر.

وقال ابن جرير: " واختلف أهل التأويل في قوله: " بالحق": فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي خلق السماوات والأرض حقاً وصواباً، لا باطلاً وخطأ، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} (2) ، وأدخلت الباء والألف، كما في

قولك: فلان يقول بالحق، يعني أنه يقول الحق، أي يصيب في قوله، فالحق صفة للقول، فخلق السماوات والأرض حكمة من حكم الله -تعالى-، والله موصوف بالحكمة في خلقهما، وخلق ما سواهما من سائر الخلق.

وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السماوات والأرض بكلامه، وقوله لهما:{اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} (3) فالحق في هذا الموضع معنى به كلامه.

(1)"زاد المسير"(3/67) .

(2)

الآية 27 من سورة ص.

(3)

الآية 11 من سورة فصلت.

ص: 164

واستشهد لذلك بقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} (1) ، فالحق هو قوله وكلامه، فالله -تعالى- خلق الأشياء بكلامه وقوله، فما خلق به الأشياء فهو غيرها، فكلام الله -تعالى- الذي خلق الخلق غير مخلوق" (2) .

قلت: وبهذا يظهر مراد البخاري - رحمه الله تعالى - فقول الله -تعالى- حق، وهو صفة له، وما وجد بقوله فهو غير القول، بل هو المفعول المخلوق، فقوله -تعالى- الذي خلق به الأشياء، لا يجوز أن يكون مماثلاً لها، فلا بد من التفريق بين قوله الذي هو صفته، وبين مفعولاته التي وجدت بقوله، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في باب: ما جاء في تخليق السماوات والأرض وهو -تعالى- خلق السماوات والأرض وغيرهما بقوله لها: كوني، كما قال -تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (3) .

قال الحافظ: " كأنه أشار بهذه الترجمة إلى ما ورد في تفسير هذه الآية، أن معنى قوله: {بالحق} أي بكلمة الحق، وهو قوله: {كن} ويدل عليه ما في أول الحديث، "وقولك الحق" فكأنه أشار إلى أن القول {في الحديث} الكلمة، وهي "كن" والله أعلم"(4) .

وقال ابن المرتضى: " هذا إشارة من البخاري إلى مذهب أهل السنة في إثبات الحكمة"(5) .

(1) الآية 73 من سورة الأنعام.

(2)

"تفسير الطبري"(11/458-459) تحقيق: محمود شاكر، ملخصاً.

(3)

الآية 11 من سورة فصلت.

(4)

"الفتح"(13/371) .

(5)

"إيثار الحق على الخلق"(ص205) .

ص: 165

قلت: هذا لا ينافي ما ذكرنا، فيجوز أن يقصد المعنيين، ولكنه في الأول أظهر وأليق بمراد البخاري؛ لأن القول بنفي الحكمة في خلق الله وفعله، ظاهر البطلان.

قال البخاري: " الفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث؛ لقوله تعالى:{خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) .

قلت: يريد بذلك التفريق بين ما هو صفة لله تعالى، وبين ما هو مفعول له مخلوق.

وقال الراغب: " أصل الحق: المطابقة والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه على استقامة، والحق يقال على أوجه:

الأول: يقال لموجد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا قيل في الله -تعالى- هو الحق، قال -تعالى-:{ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} (2) ، {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (3) .

الثاني: يقال لما وجد بمقتضى الحكمة، ولهذا يقال: فعل الله -تعالى- كله حق، قال -تعالى-:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَاّ بِالْحَقِّ} (4) .

الثالث: الاعتقاد المطابق لما عليه الشيء في نفسه، كما في الحديث:" ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق"، قال الله -تعالى-:{هَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (5) .

(1)"خلق أفعال العباد"(ص210) ضمن "العقائد السلفية".

(2)

الآية 62 من سورة الأنعام.

(3)

الآية 32 من سورة يونس.

(4)

الآية 5 من سورة يونس.

(5)

الآية 213 من سورة البقرة.

ص: 166

الرابع: الفعل والقول الواقع بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب، قال الله -تعالى-:{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (1) .

قلت: يأتي أيضاً موصوفا به دين الله وشرعه، وأمره، كما في قوله -تعالى-:{وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (2) أي: وعده أن يبعثكم ويجازيكم. وقال -تعالى- {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} (3) ، {بِالْحَقِّ مِن رَّبِّك} (4) ، {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} (5) .

قال الحليمي: " الحق" ما لا يسمع إنكاره، ويلزم إثباته والاعتراف به.

ووجود الباري -تعالى- أول ما يجب الاعتراف به، ولا يسع جحده، إذ لا مثبت تظاهرت عليه الدلائل البينة مثل ما تظاهرت على وجود الباري جل جلاله" (6) .

وقال أيضاً: " الحق في الأسماء الحسنى معناه - كما قال ابن برجان: الواجب الوجود بالبقاء الدائم، الجامع للخير والمجد، والمحامد كلها، والثناء الحسن، والأسماء الحسنى والصفات العليا.

(1) الآية 13 من سورة السجدة، "المفردات"(ص125) بتصرف.

(2)

الآية 53 من سورة يونس.

(3)

الآية 71 من سورة آل عمران.

(4)

الآية 147 من سورة البقرة، والآية 60 من سورة آل عمران.

(5)

الآية 149 من سورة البقرة.

(6)

"المنهاج"(1/188) .

ص: 167

ومعنى واجب الوجود: أنه اضطر جميع الموجودات إلى معرفة وجوده، وهو الذي أوجدها، قال -تعالى-:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) . ولما أظهر جملة المخلوقات التي خلقها بالحق وللحق قال -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} (2) .

فالله -تعالى- هو الحق المبين، ووجوده الحق، وقوله الحق، وصفاته الحق، وأسماؤه الحق" ا. هـ. (3)

(1) الآية 6 من سورة الحج.

(2)

الآية 44 من سورة العنكبوت.

(3)

"المنهاج"(1/369) .

ص: 168

15-

قال: " حدثنا قبيصة؛ حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن سليمان، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو من الليل: اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض، لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، قولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت، وأعلنت، أنت إلهي، لا إله لي غيرك".

حدثنا ثابت بن محمد، حدثنا سفيان بهذا وقال:" أنت الحق، وقولك الحق".

كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الدعاء بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام في تهجده، كما بينه ابن خزيمة، حيث قال:

"باب ذكر الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمد بهذا التحميد بعد أن يكبر" ثم ساق بالسند إلى ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر: اللهم لك الحمد " الخ. (1)

قوله: "اللهم لك الحمد " الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، و"ال" فيه للاستغراق، والاستقصاء، أي جميع الحمد واجب ومستحق لله تعالى، فهو المحمود على صفاته، وأسمائه، وعلى نعمه، وأياديه، وعلى خلقه وأفعاله، وعلى أمره وحكمه، وهو المحمود أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

(1)"صحيح ابن خزيمة"(2/184) .

ص: 169

وأما الشكر: فلا يكون إلا على الصفات المتعدية، ويكون بالقلب واللسان والجوارح، قال تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (1) .

وقال الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

قوله: " أنت رب السماوات والأرض " أي: أنت مالكهما ومن فيهما، والمتصرف بهما بمشيئتك، وأنت موجدهما من العدم، فالملك لك، وليس لأحد معك اشتراك أو تدبير، تباركت وتعاليت.

قوله: " لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن" أي: أنت الذي أقمتهما من العدم، والقائم عليهما بما يصلحهما ويقيمهما، فأنت الخالق الرازق، المالك المدبر، المحيي المميت، الغني عن كل شيء، وكل من سواك فقير إليك، ومصيره إليك كما أنك أنت الذي أوجدته، فلك الحمد.

وفي رواية "قيام" وفي أخرى "قيوم"، وكلها من أبنية المبالغة.

"والقيم معناه: القائم بأمور الخلق، ومدبرهم، ومدبر العالم في جميع أحواله.

والقيوم: هو القائم بنفسه مطلقاً، لا بغيره، ويقوم به كل موجود، حتى لا يتصور وجود الشيء ولا دوام وجوده إلا به.

وقال النوربشتي: معناه: أنت الذي تقوم بحفظهما، وحفظ من أحاطتا به واشتملتا عليه، وقال " من" تغليباً للعقلاء على غيرهم" اهـ (2) .

قوله: " لك الحمد أنت نور السماوات والأرض " قال الحافظ: أي

(1) الآية 13 من سورة سبأ.

(2)

من القسطلاني (10/369) .

ص: 170

منورهما، وبك يهتدي من فيهما" (1) .

وقال القاضي عياض: " معناه: ذو النور، أي خالقه.

وقيل: منور الدنيا بالشمس والقمر والنجوم.

وقيل: منور قلوب عباده المؤمنين بالهداية والمعرفة " (2) .

قلت: هذا تأويل باطل كما سيأتي بيان بطلانه.

قال شيخ الإسلام في جواب من قال: إنه يجب تأويل قوله: " الله نور السماوات والأرض " قطعاً. قال: " لا نسلم أنه يجب تأويله، ولا نسلم أن ذلك لو وجب قطعي، بل جماهير المسلمين لا يتأولون هذا الاسم، وهذا مذهب السلفية وجمهور الصفاتية من أهل الكلام والفقهاء والصوفية وغيرهم، وهو قول أبي سعيد ابن كلاب، ورد على الجهمية تأويلهم " اسم النور" وكذا الأشعري" ا. هـ (3) .

وقد نص الله -تعالى- في كتابه أنه نور السماوات والأرض، وزاد ذلك رسول الله _صلى الله عليه وسلم_إيضاحاً وبياناً، كما في هذا الحديث وغيره.

وقد أخبر -تعالى-: أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره، وصحت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يحتجب بالنور، فإذا كانت الأرض تشرق من نوره، فهو - جلا وعلا- نور، كما قاله رسوله:" أنت نور السماوات والأرض".

وقال -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (4) وقال -تعالى-: {وَأَشْرَقَتِ

(1)"الفتح"(3/4) .

(2)

"المشارق"(2/31) .

(3)

"مجموع الفتاوى"(6/379) .

(4)

الآية 35 من سورة النور.

ص: 171

الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (1) .

وفي الحديث الذي رواه ابن إسحاق في السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة "(2) .

وقال ابن مسعود: " إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه"(3) .

وفي حديث أبي ذر في "صحيح مسلم" قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنَّى أراه" وفي رواية "رأيت نوراً" (4) .

وفي حديث أبي موسى في "صحيح مسلم" قال: قام فينا رسول الله بخمس كلمات، فقال:"إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"(5) .

السبحات هي: نوره وبهاؤه وجلاله.

(1) الآية 69 من سورة الزمر.

(2)

انظر: "مختصر السيرة" لابن هشام (1/420)، وقال شيخ الإسلام: رواه الطبراني وغيره، انظر:"مجموع الفتاوى"(6/387) .

(3)

رواه الدارمي في "الرد على بشر"(ص449) ، وابن منده في "الرد على الجهمية"(ص99)، قال ابن القيم: رواه الطبراني في "المعجم" وفي "السنة". انظر: "اجتماع الجيوش"(ص6) .

(4)

انظر: "مسلم"(1/161) .

(5)

"مسلم"(1/162) .

ص: 172

فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه -تعالى- احتجب عن المخلوقات بحجابه النور، وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، ومعلوم أن بصره لا يفوته شيء، ولا يستره ساتر، ولا يحول دونه حائل.

وفي الترمذي عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل"(1) .

فقد جاءت النصوص "بتسمية الرب نوراً، وبأن له نوراً مضافاً إليه، وبأنه نور السماوات والأرض، وبأن حجابه النور، فهذه أربعة أنواع:

فالأول: يطلق عليه -تعالى- اسماً له، فإنه النور الهادي.

والثاني: يضاف إليه كما تضاف إليه حياته، وسمعه وبصره، وعزته وقدرته وعلمه، ومرة يضاف إليه وجهه الكريم، وأخرى يضاف إلى ذاته المقدسة: فإضافته إلى وجهه -تعالى- كقوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بنور وجهك " وقوله: "نور السماوات والأرض من نور وجهه".

وإضافته إلى ذاته المقدسة كقوله -تعالى-: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (2) .

(1) انظر: " تحفة الأحوذي: (7/401) وقال: حسن، ورواه أحمد بسند صحيح، انظر: "المسند" (2/176) ، وانظر: تحقيق أحمد شاكر (10/127) ، وأخرجه الحاكم وصححه الذهبي. انظر: "المستدرك" (1/10) ، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (1/107) .

(2)

الآية 69 من سورة الزمر.

ص: 173

وكما في حديث عبد الله بن عمرو: " أن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره" الحديث.

ويضاف نوره -تعالى- إلى السماوات والأرض، كقوله:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) .

وقوله في هذا الحديث: " أنت نور السماوات والأرض ". وكذا حجابه النور كقوله: " حجابه النور - أو النار-" كما في حديث أبي موسى" اهـ. (2)

وقال -تعالى-: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (3) على القول بأن الضمير يعود إلى الله -تعالى-.

قال ابن القيم: " إضافة النور إلى الله -تعالى- على أحد وجهين:

إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله.

فالأول: كقوله عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (4) فهذا يكون يوم القيامة، تشرق بنوره -تعالى- إذا جاء لفصل القضاء بين عباده.

ومنه قوله في الدعاء المشهور: " أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني، لا إله إلا أنت"(5) .

وفي الأثر الآخر: " أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات "(6) .

(1) الآية 35 من سورة النور.

(2)

من "الصواعق" ملخصاً (359) .

(3)

الآية 35 من سورة النور.

(4)

الآية 69 من سورة الزمر.

(5)

هو الحديث المتقدم ذكره، قال في " الفتح الكبير": خرجه الطبراني. انظر لفظه فيه (1/235) .

(6)

تقدم تخريجه قبل قليل.

ص: 174

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت لنور وجهه، كما أخبر الله -تعالى- أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.

الوجه الثاني: ما ذكر في قوله -تعالى-: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (1) ، وقد اختلف على من يعود الضمير في {نوره} ، فقيل: على محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: على المؤمن، والصحيح عوده على الله -تعالى-.

والمعنى: مثل نور الله في قلب عبده المؤمن، وأعظم عباده نصيباً من هذا النور رسوله صلى الله عليه وسلم.

فهذا النور يضاف إلى الله -تعالى- على أن معطيه لعبده، وواهبه، كما يضاف إلى العبد؛ لأنه محله وقابله" اهـ (2) .

فالله -تعالى- سمى نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، ودينه نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه في الآخرة نوراً يتلألأ، قال -تعالى-:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَاّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3)، قال أبي بن كعب:" بدأ الله بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن"(4) .

وفسر بكونه منور السماوات والأرض، وبأنه هادي أهل السماوات والأرض، وهذا لا يمنع أنه -تعالى- في نفسه نور، فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسر - بفتح السين - من الأسماء، أو بعض أنواع ذلك المفسر، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات له.

(1) الآية 35 من سورة النور.

(2)

"اجتماع الجيوش" بتلخيص وتصرف (ص6) .

(3)

الآية 35 من سورة النور.

(4)

رواه ابن جرير في "تفسيره"(18/135) .

ص: 175

فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وأما النور الذي هو وصفه فهو قائم به، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد الأسماء الحسنى، كما دلت على ذلك النصوص، فلا يجوز تحريف ذلك بالتأويلات الباطلة.

وأما الأنوار القائمة بأعيان مشاهدة قائمة بأنفسها، فلم تأت إضافتها إلى الله -تعالى- أبداً، فلا يقال لأنوار المصابيح، أو نور الشمس أو القمر أو الكواكب، إنها نور الله.

والحديث تضمن ثلاثة أمور شاملة عامة للسماوات والأرض:

وهي: ربوبيتهما، وقيوميتهما، ونورهما.

فكونه - سبحانه - رباً لهما، وقيوماً لهما، ونوراً لهما، أوصاف له -تعالى-، وآثار هذه الأمور الثلاثة قائمة بهما.

فأثر الربوبية: الخلق والإيجاد، وأثر القيومية: صلاحهما، وانتظامهما، وأثر نوره -تعالى- استنارة السماوات، وإشراق الأرض بنوره يوم القيامة.

وأما صفة الربوبية والقيومية، والنور، فهي قائمة به - تعالى - كما أن صفة الرحمة، والقدرة، والإرادة، والرضا، والغضب، قائمة به -تعالى- والرحمة الموجودة في العالم، والإحسان، والخير، والنعمة، والعقوبة، آثار تلك الصفات.

وهكذا علمه -تعالى- القائم به هو صفته، وأما علوم عباده فمن آثار علمه، وقدرتهم من آثار قدرته.

وبذلك يعلم أن قول المعطلة: " كل عاقل يعلم بالبديهة أنه الله - سبحانه - ليس هو هذا النور الفائض من جرم الشمس والقمر والمصابيح، فلا بد من حمل قوله: " أنت نور السماوات والأرض" على معنى أنه منور السماوات والأرض، أو هادي أهل السماوات والأرض " يعلم أنه باطل من جنس تحريفاتهم لسائر صفات الله، كما هو نهجهم.

ص: 176

ونحن نقول لهم أيضاً: أسأتم الظن بكلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حيث فهمتم أن حقيقته ومدلوله أنه سبحانه هو هذا النور الواقع على الحيطان، وغيرها، وهذا الفهم الفاسد هو الذي أوجب لكم إنكار حقيقة نوره - تعالى - وجحده.

فجمعتم بين الفهم الفاسد، وإنكار المعنى الحق.

وليس ما ذكرتم هو نور الرب -تعالى- القائم به، الذي هو صفته، وإنما هو مخلوق له منفصل عنه، فإن هذه الأنوار المخلوقة، تكون في محل دون محل، فنور الشمس والقمر ينور بعض الأرض لا جملتها، ولا ينور السماوات.

فمن ادعى أن نور الشمس والقمر ونحوهما، هو المراد بقوله -تعالى-:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أنت نور السماوات والأرض " فقد كذب على الله ورسوله (2) .

قوله: " وقولك الحق " أي أنت قلته حقاً، فهو صفتك. وما قاله الله -تعالى- فهو صدق وحق، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، لا في خبره، ولا في حكمه وتشريعه، ولا في وعده ووعيده.

وهذه الجملة هي محل الشاهد من الحديث، حيث وصف قوله -تعالى- بأنه الحق، فلا يجوز أن يكون مخلوقاً، كما تزعم الفرق الضالة من المعتزلة وغيرهم.

قال سفيان في "تفسيره": " إن كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، وكلامه أعظم من خلقه؛ لأنه يقول للشيء: كن فيكون، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله"(3) .

وقال أبو ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله -تعالى-

(1) الآية 35 من سورة النور.

(2)

هذا مقتبس من كلام شيخ الإسلام. انظر: " مجموع الفتاوى"(6/374) .

(3)

"خلق أفعال العباد " للبخاري (ص124) ، "مجموع عقائد السلف".

ص: 177

عطائي كلام، وعذابي كلام، وإذا أردت شيئاً فإنما أقوله له: كن، فيكون" (1) .

والذين أراد البخاري رحمه الله الرد عليهم من الجهمية والمعتزلة ونحوهم، ينكرون أن يكون لله -تعالى- كلام تكلم به يكون صفة له؛ لأن هذا - بزعمهم - يقتضي أن يكون جسماً حادثاً؛ لأن الكلام - زعموا - من الصفات الدالة على حدوث من قام به؛ لما فيه من الترتيب، والتقديم والتأخير، والتعاقب. ولما رأوا اتفاق الرسل على إثبات الكلام لله -تعالى- وأن القرآن مملوء بذلك، قالوا: إن الله متكلم، بمعنى أنه خالق الكلام.

ثم جاءت الأشعرية، فقالوا: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وليس لله كلام منطوق به، مسموع منه، كما سيأتي - إن شاء الله - تفصيل ذلك في أبواب الكلام.

وهم بذلك يتفقون مع المعتزلة على إنكار ثبوت الكلام لله حقيقة، كما أنهم يوافقونهم في المعنى على أنه مخلوق، وعلى هؤلاء جميعاً اتجه الرد فيما قصده البخاري وغيره من أهل السنة.

ومعلوم "أن: الإيمان الذي جاءت به الرسل عن الله -تعالى- وجاء به خاتمهم مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، هو أن كلام الله صفة له غير مخلوق، وأن القرآن، والتوارة، والإنجيل، وغيرها من كتب الله، هي كلامه.

وكلام الله لا يكون مخلوقاً منفصلاً عنه، كما لا يكون كلام المتكلم منفصلاً عنه، فإن من أنكر ذلك فقد جحد كلام الله الذي هو رسالته، وأنكر حقيقة ما أخبرت به الرسل، وعلمته أممها، وألحد في أسماء الله وآياته، ومثله بالمعدوم، والميت، فإن الحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، ونحو ذلك، صفات

(1) نفس المصدر (ص131) .

ص: 178

كمال، والله -تعالى- أحق بكل كمال، فيمتنع أن يثبت للمخلوق كمال إلا والخالق أحق به، كما يمتنع أن يتنزه المخلوق عن نقص إلا والخالق أحق بتنزهه منه؛ لأنه هو الذي أعطى الكمال للكاملين.

ومن لم يتصف بصفات الكمال، من الحياة، والعلم، والسمع، والبصر، والقدرة، والكلام، وغير ذلك:

فإما أن يكون قابلاً للاتصاف بذلك ولم يتصف به.

أو غير قابل للاتصاف به.

فإن قبله ولم يتصف به، كان موصوفاً بصفات النقص، كالموت، والجهل، والعمى، والصمم، والعجز، والبكم.

فإن لم يقبل الاتصاف بهذه الصفات، كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها.

فالحيوان الذي يكون تارة سميعاً، وتارة أصم، وتارة بصيراً، وتارة أعمى، وتارة متكلماً، وتارة أخرس، أكمل من الجماد الذي لا يقبل لا هذا، ولا هذا، فمن لم يصف الله -تعالى- بصفات الكمال، لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص، أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص (1) .

قوله: "ووعدك الحق" أي: لا بد من وقوعه، على ما وعدت، فلا خلف فيه ولا تبديل.

"ولقاؤك حق" أي: لا بد للميعاد من ملاقاتك، فتجازيهم على أعمالهم، واللقاء يتضمن الرؤية، والمعاينة، كما سيأتي – إن شاء الله تعالى -.

"والجنة حق، والنار حق" أي: ثابتتان، موجودتان، كما أخبرت بذلك أنهما معدتان لأهلهما، فهما دار البقاء، وإليهما مصير العباد.

(1)"مجموع الفتاوى"(12/355) .

ص: 179

"والساعة حق" أي مجيء يوم القيامة حق لا مرية فيه، فهو ثابت لا بد منه، وهي نهاية الدنيا، ومبدأ الآخرة، وفي ضمن هذه الأخبار: الإخبار عن إيمانه بما ذكر، إيماناً لا يتزعزع، والساعة يعبر بها عن البعث، أي الساعة التي يبعث الله فيها الموتى من قبورهم أحياء، فيجمعهم بعد تفرق أجزائهم وتشتتها، بل واستحالتها تراباً، وهباء، وغير ذلك.

فيجمعهم، ويحييهم، كما كانوا في الدنيا، ويجازيهم بعد حسابهم، وحشرهم. وأدخلت الألف واللام في الساعة؛ لأنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها، وأنها مقصود بها قصد الساعة التي وصفت، قاله الطبري (1) .

"اللهم لك أسلمت" أي: أذعنت لأمرك، وانقدت له، وخضعت لحكمك.

" وبك آمنت" أي: صدقت، وعملت بمقتضى ذلك، بعد تحققي بالإيمان بك.

"وعليك توكلت" أي: اعتمدت عليك، ووكلت أموري إليك، راضياً بما قضيته لي، بعد أن فعلت الأسباب التي جعلتها إليّ، دينية كانت، أو دنيوية.

فالتوكل: هو الاعتماد على الله -تعالى- والثقة به، وفعل الأسباب التي رتبت عليها الأشياء، والتي يستطيع العبد فعلها، وهو من أفضل العبادة، بل جاء ما يدل على أنه شرط في حصول الإيمان، كما في قوله -تعالى-:{وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (2) .

(1) انظر: "تفسيره"(11/324) ، ولكثرة ما أخبروا بها ووصفت لها، وخوفوا بقربها صارت معلومة لهم، فأدخلت عليها الألف واللام لذلك.

(2)

الآية 23 من سورة المائدة.

ص: 180

"وإليك أنبت" أي: رجعت إليك طائعاً منقاداً، مذعناً، خاضعاً لك في جميع أموري.

"وإليك حاكمت" أي: كل من أبى قبول الحق، أو جحده، حاكمته إليك وجعلتك الحكم بيني وبينه مجانباً بذلك حكم كل طاغوت، من قانون وضعي، أو كاهن أو غيره، مما يتحاكم إليه البشر، من الأوضاع الباطلة شرعاً.

وقدم صلات هذه الأفعال كلها لإرادة التخصيص والحصر، أي: أخصك - يا رب- وحدك فيما ذكر، ولا أعدو ذلك بحال من الأحوال.

في هذا الحديث قدم الثناء على الله -تعالى- بأن له الحمد، وبما ذكر من صفاته، ثم توس إليه، -تعالى- بإيمانه بأن قوله حق، ووعده حق، إلى آخر ما ذكر، وأنه مذعن لأمره، منقاد لطاعته، وأنه معتمد عليه، وبه يخاصم وإليه يحاكم، ثم بعد ذلك سأل حاجته، وهي أن يغفر له ما قدم من خطأ، أو تقصير، وما أخر، وما أسر، وما أعلن.

ثم ختم ذلك بأنه لا مفزع، ولا ملجأ له، غير ربه -تعالى- فهو إلهه الذي يعبده بما ذكر، ويخاف عقابه - ويؤمل فضله ونواله، فقال:" أنت إلهي لا إله لي غيرك" فلا أتوجه إلى سواك، إذ كل مألوه غيرك باطل ودعوته ضلال ووبال، وهذا هو التوحيد الذي جاءت به رسل الله، وفرضه -تعالى- على عباده.

قوله: " فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وأسررت، وأعلنت".

أصل الغفر: الستر مع الوقاية، ومنه المغفر؛ لأنه يستر الرأس ويقيه من السلاح.

"ما قدمت" أي: قبل وقتي هذا.

"وما أخرت" أي: بعد وقتي هذا.

أي: اغفر لي ما عملت من الذنوب،

ص: 181

وما سأعمله، وما ظهر منها لأحد من خلقك، وما خفي عنهم، ولم يعلمه غيرك.

وقوله في الرواية الأخرى: " أنت الحق، وقولك الحق، " فيها البيان بأن اسم الحق يقع على ذات الله -تعالى- اسماً، كما سبق بيانه، ويقع على صفاته، كما في قوله:" وقولك الحق".

وفي هذا الحديث وأمثاله دليل على وقوع الذنوب من الأنبياء، إذ لو لم يكن له ذنب كيف يسأل المغفرة؟ وقد قص الله -تعالى- ما وقع لبعض الرسل من

المخالفات، وهذه مسألة مشهورة عند العلماء، وقد ألف فيها مؤلفات خاصة، وقد اتفق أهل السنة على أن ما يبلغونه من أمر الله وشرعه أنهم معصومون فيه من الخطأ، وأما وقوع الذنوب منهم ففيه الخلاف، وقد بالغ بعض الناس، وكفر من قال بوقوع الذنب منهم، وهذا جهل من قائله.

ص: 182

قال شيخ الإسلام: " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغون عن الله -تعالى-، وبهذا يحصل المقصود من البعثة، ولو لم تقع منهم الذنوب لفاتهم ما في التوبة من محبة الله وفرحه، ورفع درجة التائب، وكون التائب بعد التوبة أفضل منه قبلها، مع ما في القول بأن الذنوب لا تقع منهم من تكذيب لكتاب الله، وأخبار رسوله، أو تحريف لها، ومن اعتقد أن كل من لم يكفر، ولم يذنب، أفضل من كل من آمن بعد كفره، أو تاب بعد الذنب، فهو مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن من المعلوم أن الصحابة أفضل من أبنائهم الذين ولدوا في الإسلام.

وقد قال -تعالى- في أفضل الرسل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} لما نزلت قال الصحابة: يا رسول الله، هذا لك، فما لنا؟ فأنزل – عز وجل:{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} .

وتوبة الأنبياء واستغفارهم أدلته كثيرة، فكيف يقال: إنه لم يكن لهم ما يوجب التوبة والاستغفار، ولا تفضل الله عليهم بمحبته، وفرحه بتوبتهم، ومغفرته لهم ورحمته، واعتراف جليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى التوبة والاستغفار دليل على صدقه، ورفعته، وتواضعه، وعبوديته لله تعالى – والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية وقد قال –صلى الله عليه وسلم:" اللهم اغفر خطئي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي"(1) .

قال: " باب: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} "(2)

يريد بهذه الترجمة بيان أن هاتين الصفتين – السمع والبصر- ثابتتان لله بالكتاب والسنة، وإجماع أتباع الرسل، وبالعقل، والفطرة، وبيان أن الله -تعالى- لم يزل بصفاته، وبيان أن المنكر لهاتين الصفتين قد ضل عن كتاب الله، وسنة رسوله، واتبع غير سبيل المؤمنين أتباع الرسل.

قال القسطلاني: " وقد علم بالضرورة من الدين، وثبت في الكتاب والسنة، بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله، أن الباري -تعالى- حي سميع بصير، وانعقد إجماع أهل الأديان – بل جميع العقلاء- على ذلك"(3) .

"فالسمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، ونحوها، صفات كمال لا نقص فيها، فمن اتصف بها أكمل ممن لا يتصف بها، والنقص في انتفائها لا في ثبوتها بإجماع العقلاء، والقابل للاتصاف بها كالحيوان أكمل، ممن لا يقبل الاتصاف بها كالجماد"(4)

قلت: الحامل على إنكار ذلك هو الجهل بالله -تعالى- والقياس الفاسد؛ حيث قاسوا ذلك على ما يعرفون من أنفسهم بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء إلى عصب الصماخ، والبصر عبارة عن وقوع أشعة الإبصار على جسم مقابل.

قالوا: هذا لا يكون إلا من جوارح وأجسام.

(1) انظر: " منهاج السنة"(1/227-228) ملخصاً.

(2)

الآية 134 من سورة النساء.

(3)

"إرشاد الساري"(10/370) .

(4)

"مجموع الفتاوى"(6/88) .

ص: 183

فيقال لهم: هذه صفة أسماعكم وأبصاركم، أما رب العالمين فصفاته تابعة لذاته، وذاته ليس لها نظير أو شبيه، فكذلك صفاته تعالى.

وكيفية صفاته -تعالى- مجهولة للخلق، ويكفينا أن نعلم أنه -تعالى- متصف بما وصف به نفسه ووصفته به رسله حقيقة، وأنه في ذلك ليس له مثل، كما قال -تعالى-:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .

قال الحافظ: " قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب الرد على

من قال: إن معنى "سميع بصير" عليم، قال: ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء، ولا يراها، والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتاً، ولا يسمعها، ولا شك أن من سمع وأبصر، أدخل في صفة الكمال، ممن انفرد بأحدهما دون الآخر.

فصح أن كونه سميعاً بصيراً، يفيد قدراً زائداً على كونه عليماً.

وكونه سميعاً بصيراً يتضمن أنه يسمع بسمع، ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليماً أنه يعلم بعلم، ولا فرق بين إثبات كونه سميعاً بصيراً، وبين كونه ذا سمع وبصر، وهذا قول أهل السنة قاطبة" (1)

وقال البيهقي: " السميع من له سمع يدرك به المسموعات، والبصير من له بصر يدرك به المرئيات، وكل منهما في حق الباري صفة قائمة بذاته"(2) .

وقد تكاثرت الأدلة من كتاب الله -تعالى- ومن سنة رسوله –صلى الله عليه وسلم على إثبات السمع والبصر صفتين لله -تعالى- حقيقتين على ما يليق بعظمته -تعالى- قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (3) ، {وَكَانَ اللهُ

(1)"الفتح"(13/373) .

(2)

"الاعتقاد"(ص58) .

(3)

الآية 58 من سورة النساء.

ص: 184

سَمِيعًا بَصِيرًا} (1) ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (2) ، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (4) ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (6) ، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (7) ، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (8) .

في آيات كثيرة قد ذكر الله -تعالى- في القرآن السمع والبصر، واصفاً بهما نفسه، فيما يقرب من مائة آية، مرة يجمع بين السمع والبصر، ومرة بين السمع والعلم، ومرة يذكر البصر وحده متعلقاً بعمل العباد، كقوله:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (9) ، {وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (10) .

وقد تقرر في الفطر والعقول، أن عدم السمع والبصر، والأرجل والأيدي، نقص وعيب يمتنع معه دعوة الفاقد لذلك؛ لامتناع كونه إلهاً، إذ الإله يجب أن يكون سميعاً بصيراً حياً قادراً، كاملاً، لا نقص فيه، ولا عيب، قال –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ

(1) الآية 134 من سورة النساء.

(2)

الآية 61 من سورة الحج.

(3)

الآية 1 من سورة الإسراء.

(4)

الآية 75 من سورة الحج.

(5)

الآية 20 من سورة غافر.

(6)

الآية 11 من سورة الشورى.

(7)

الآية 56 من سورة غافر.

(8)

الآية 1 من سورة المجادلة.

(9)

الآية 265 من سورة البقرة.

(10)

الآية 20 من سورة آل عمران.

ص: 185

لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {194} أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (1) .

وقال -تعالى- عن خليله إبراهيم في دعوته أبيه إلى الله -تعالى- {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} (2) .

وأما سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم فقد جاءت موافقة لما في كتاب الله ومبينة له، وهي كثيرة جداً، نكتفي بذكر يسير منها بالإضافة إلى ما ذكره البخاري في الباب.

فمن ذلك ما رواه أبو داود بسنده على شرط مسلم، عن أبي هريرة أنه قرأ قول الله -تعالى-:{وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (3) فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه، وقال:" رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم يقرأ ويضع إصبعيه"(4) . قال البيهقي عقب روايته لهذا الحديث: " والمراد بالإشارة في هذا الخبر: تحقيق الوصف لله – عز وجل – بالسمع والبصر، فأشار إلى محل السمع والبصر منا لإثبات صفة السمع والبصر لله -تعالى-، وأفاد هذا الخبر أنه سميع بصير، له سمع وبصر، لا على معنى أنه عليم، إذ لو كان بمعنى العلم لأشار في تحقيقه إلى القلب؛ لأنه محل العلوم منا"(5) .

ثم ذكر البيهقي لحديث أبي هريرة هذا شاهداً، من حديث عقبة بن عامر، سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: " إن ربنا سميع بصير،

(1) الآيتان 194، 195 من سورة الأعراف.

(2)

الآية 42 من سورة مريم.

(3)

الآية 134 من سورة النساء.

(4)

انظر: " سنن أبي داود"(5/97) .

(5)

"الأسماء والصفات"(ص179) ملخصاً.

ص: 186

وأشار بيده إلى عينيه" (1) قال الحافظ: سنده حسن (2)، وروى اللالكائي عن ابن عباس أنه قرأ قوله –تعالى-:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} فأشار بيده إلى عينيه (3) .

قال ابن خزيمة: " نحن نقول: لربنا عينان يبصر بهما ما تحت الثرى، وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السماوات، وما بينهما من صغير وكبير، لا يخفى

عليه خافية، فهو تعالى يرى ما في جوف البحار ولججها، كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه" (4) .

فالسمع والبصر من الصفات الثابتة لله -تعالى- بقوله عن نفسه، ويقول رسوله –صلى الله عليه وسلم، وبالعقل، والفطرة، وإجماع أهل العلم والإيمان، ولم ينكر ذلك إلا شواذ الطوائف المارقة من الحق، كالجهمية، وإخوانهم من بعض المعتزلة، وليس معهم على ذلك إلا التحذلق، والكلام الفارغ من الحق والمعنى الصحيح، أو التوهم بأن إثبات الصفات يقتضي التشبيه، حيث توهموا أن صفات الله كصفات خلقه، تعالى الله.

قوله -تعالى-: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، "كان" هنا تدل على الدوام والاستمرار الذي يعم جميع الأوقات، كما قال علماء النحو:" إن "كان" تستعمل بمعنى: بقي على حاله، واستمر شأنه، وسيستمر من غير انقطاع، ولا تقيد بزمن، نحو: كان الله غفوراً رحيماً"(5) .

قال ابن جرير: " إن الله لم يزل {سميعاً} بما تقولون، وتنطقون، وهو سميع لذلك منك إذا حكمتم بين الناس، ولما تحاورونهم به.

(1) هذا الحديث لم أجده في "الصفات" المطبوع، فيكون في النسخة التي نقل منها الحافظ.

(2)

"الفتح"(13/373) .

(3)

"شرح أصول اعتقاد أهل السنة"(2/411) .

(4)

كتاب "التوحيد"(ص50) .

(5)

"النحو الواضح"(1/549) ، وانظر " " المقتضب للمبرد" (4/119) .

ص: 187

{بصيراً} بما تفعلون فيما ائتمنتم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، وما تقضون به بينهم من أحكامكم، بعدل تحكمون أو جور، لا يخفى عليه شيء من ذلك، حافظ ذلك كله، حتى يجازي محسنكم بإحسانه، ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله" (1)

قوله: " قال الأعمش، عن تميم، عن عروة، عن عائشة، قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، فأنزل الله -تعالى- على النبي –صلى الله عليه وسلم: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} ".

هذا الحديث رواه أحمد في "المسند" موصولاً (2) ، وابن ماجه في "السنن"(3) ، والنسائي (4) ، وكلهم بأتم مما ذكر البخاري.

ولفظهم: " أنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة – وللنسائي- خولة – إلى النبي –صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت، وما أسمع ما تقول، فأنزل الله:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية.

ورواه ابن ماجه في كتاب الظهار من "السنن" بأتم مما هنا (5) .

قال ابن عبد البر: " روينا من وجوه عن عمر بن الخطاب، أنه خرج ومعه الناس فمر بعجوز، فاستوقفته، فجعل يحدثها وتحدثه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست الناس على هذه العجوز، فقال: ويلك! أتدري من هذه؟

(1)"تفسير الطبري"(8/494) بتحقيق محمود شاكر.

(2)

انظر: " المسند"(6/46)، وانظر:" الفتح الرباني "(18/298) .

(3)

انظر: " سنن ابن ماجه "(1/67) .

(4)

"المجتبى "(6/168) .

(5)

انظر: " سنن ابن ماجه"(1/666) .

ص: 188

هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة التي أنزل الله فيها:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} والله لو أنها وقفت إلى الليل ما فارقتها إلا لصلاة، ثم أرجع إليها " (1) .

قال ابن كثير: ورواه ابن أبي حاتم، وساقه بسنده (2) .

قوله: " وسع سمعه الأصوات" أي: استوعبها وأدركها فلا يفوته منها شيء وإن خفي، فحينما ذكرت المرأة قصتها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم وقال لها:" قد حرمت عليه" جعلت تقول – بصوت منخفض يخفى على عائشة مع قربها منها-: بعدما

كبرت سني ظاهر مني؟ إلى الله أشكو حال صبية إن ضممتهم إليَّ جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا. فهذه مجادلتها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الله –تعالى- بقوله:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} وهذا من أبلغ الأدلة على اتصاف الله –تعالى- بالسمع، وهو أمر معلوم بالضرورة من الدين، لا ينكره إلا من ضل عن الهدى.

وقول عائشة هذا يدل على أن الصحابة – رضي الله عنهم، آمنوا بالنصوص على ظاهرها الذي يتبادر إلى الفهم، وأن هذا هو الذي أراده الله منهم ومن غيرهم من المكلفين ورسوله، إذ لو كان هذا الذي آمنوا به واعتقدوه خطأ لم يقروا عليه ولبين لهم الصواب، ولم يأت عن أحد منهم تأويل هذه النصوص عن ظواهرها، لا من طريق صحيح ولا ضعيف، مع توافر الدواعي على نقل ذلك مما يبين قطعاً أن الذي أريد منهم، ومن كل مؤمن، هو ظاهر الخطاب، وهذا واضح لمن تأمل النصوص، وعرف حال الصحابة.

وبهذا يتبين بطلان التأويل، وأنه سلوك غير سبيل الرسول –صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتابعين لهم، إلى نهاية الدنيا.

(1)"الاستيعاب"(4/1831) بتحقيق البجاوي.

(2)

انظر: " تفسير ابن كثير"(8/60) مطبعة الشعب.

ص: 189

16-

قال: " حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي عثمان، عن أبي موسى، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: " اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، تدعون سميعاً بصيراً قريباً" ثم أتى علىّ، وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: " يا عبد الله ابن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة" أو قال:" ألا أدلك به".

قوله: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا" هذا مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، فكان يكبر إذا علا نشزاً، ويسبح إذا هبط في منخفض من الأرض، وقد بوب البخاري رحمه الله على الأمرين في الجهاد والدعوات من "صحيحه"، فقال: باب التسبيح إذا هبط وادياً، وبعده: باب التكبير إذا علا شرفاً.

قال المهلب: " تكبيره صلى الله عليه وسلم عند الارتفاع، استشعار لكبرياء الله - عزوجل -، وعندما تقع عليه العين من عظيم خلق الله أنه - أكبر من كل شيء.

والتسبيح في الأماكن المنخفضة استشعار بتنزيهه -تعالى - عن صفة السفل والانخفاض" (1) .

وفيه دليل على علو الله -تعالى- فوق كل شيء، وأنه لا يجوز أن يكون شيء من خلقه فوقه، تعالى وتقدس، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله -تعالى-.

قوله: " فقال: " اربعوا على أنفسكم" أي: ارفقوا بأنفسكم، فلا تكلفوها

(1)"فتح الباري"(6/136) .

ص: 190

برفع أصواتكم، فإنه لا حاجة إلى ذلك، فإن من تكبرونه وتسبحونه سميع بصير، يسمع الأصوات الخفية كما يسمع الجهرية، ويرى الأشياء وإن دقت، فلا يخفى عليه شيء.

قوله: " فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً" قال صاحب "القاموس": "الصمم: انسداد الأذن، وثقل السمع، بحيث لا يسمع الأصوات إلا إذا كانت مرتفعة عالية"(1) .

وقيل: هو انسداد الأذن، وذهاب سمعها.

قوله: " غائباً" أي: ليس بعيداً ومستور الرؤية والسمع عنكم، فيحتاج إلى المناداة ورفع الأصوات كما قال -تعالى-:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2) .

ولهذا قال: " تدعون سميعاً بصيراً قريباً" وهذه صيغ مبالغة لله؛ لأن له -تعالى- تمام الكمال من هذه الصفات، فلا يفوت سمعه أي حركة وإن خفيت، فيسمع دبيب النملة على الصفاة الصماء في ظلمة الليل، وأخفى من ذلك، كما أنه -تعالى- لا يحجب بصره شيء من الحوائل، فهو يسمع نغماتكم وأصوات أنفاسكم وجميع ما تتلفظون به من كلمات، ويبصر حركاتكم، وهو معكم قريب من داعيه، وهو أيضاً مع جميع خلقه باطلاعه وإحاطته، وهم في قبضته، ومع ذلك هو على عرشه عال فوق جميع مخلوقاته، ولا يخفى عليه خافية في جميع مخلوقاته مهما كانت، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله - في مكانه.

قوله: " قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة" الكنز هو: المال النفيس المحفوظ، والجمع والادخار يسمى: كنزاً.

(1) انظر " القاموس"(4/140) .

(2)

الآية 186 من سورة البقرة.

ص: 191

وكنز الجنة: الأعمال الصالحة الفضيلة، التي يقبلها الله ويرضاها، فيحفظها ويدخرها لصاحبها، فيكون سبباً في دخوله الجنة ورفع منزلته فيها، وهو دليل على تفاضل الأعمال، والأدلة على ذلك كثيرة جداً.

ومعنى هذه الكلمة: لا تحول من حالة إلى أخرى، ولا انتقال من أمر إلى آخر، ولا قوة على ذلك، ولا قدرة إلا بالله، فهو المعين عليه والمهيئ لأسبابه والموجد لها، فهي استسلام لله، وإذعان لقدرته وإرادته، وإقرار بأنه لا يقع حركة أو سكون إلا بمشيئته - جلا وعلا-.

ص: 192

17-

قال: " حدثنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، أخبرني عمرو، عن يزيد، عن أبي الخير، سمع عبد الله بن عمرو، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ قال: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي من عندك مغفرة، إنك أنت الغفور الرحيم ".

عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي، السهمي، أبو محمد، أسلم قديماً، وكان من أفاضل الصحابة وعبادهم، ومن العلماء المكثرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عن حافظ الأمة أبي هريرة رضي الله عنه قوله:" ما كان أحد أكثر مني حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب"(1) .

ومع ذلك فالمروي عنه أقل بكثير من المروي عن أبي هريرة، وقد قيل: إن السبب في ذلك أن عبد الله سكن مصر، والوارد إليها من الناس قليل، وأبو هريرة سكن المدينة، وهي مجمع الناس.

قيل: إنه توفي في مصر، وقيل: في الطائف، وقيل: في مكة، وقيل: في فلسطين، سنة ثلاث وستين؛ أو خمس وستين، عن اثنتين وسبعين سنة، رضي الله عنه، وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

وأما أبو بكر فهو: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، القرشي، كان أبيض نحيفاً خفيف العارضين، وهو أفضل من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم الصحابة بالله ورسوله، وهو أول من أسلم من الرجال، ولسرعته إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة قبوله لقوله سمي: الصديق، وهو رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وصاحبه في الغار، كما قال الله

(1) رواه البخاري، انظر "الفتح"(1/206) .

ص: 193

-تعالى-: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (1) ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمن الناس عليه، وأنه لو اتخذ من الناس خليلاً لاتخذ أبا بكر خليلاً، كما ثبت في "الصحيحين"، وأخبر أنه أحب الناس إليه من الرجال، وأن ابنته عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه من النساء.

أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤم الناس في مرض موته، ولما روجع في ذلك غضب، وقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.

وفضائله كثيرة، وقد كتب فيه مؤلفات، توفي رضي الله عنه سنة ثلاث عشرة من الهجرة، ودفن جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .

قوله: " إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً" الظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه.

"وهذا يدل على أن الإنسان لا ينفك عن الذنوب، والتقصير في حقوق الله، كما في الحديث: " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" (3) ؛ لأنه أطلق هذا الظلم ولم يقيده، أو يخصصه بزمن دون آخر، أو بحالة دون حالة، فلو كان هناك حالة أو زمن من عمر الإنسان لا يكون فيه ظلم ما صح هذا الإطلاق، ولا صار مطابقاً للواقع"(4) .

قوله: " ولا يغفر الذنوب إلا أنت " تقدم معنى الغفر في اللغة، والمقصود محو الذنوب ووقاية تبعاتها، وهذا لجوء إلى التوحيد، وأنه لا مفر ولا ملجأ يفزع

(1) الآية 40 من سورة التوبة.

(2)

"أسد الغابة"(3/309) .

(3)

رواه ابن ماجه في "السنن"، "الزهد"(2/1420) الحديث (4251) ، والترمذي (4/70) ، وأحمد في "المسند"(3/98) .

(4)

"شرح العمدة" لابن دقيق العيد (2/78) .

ص: 194

إليه في غفران الذنوب، ووقاية شرها إلا الله وحده، ولا طريق يسلك لذلك إلا الانطراح بين يدي رب العالمين، والافتقار إليه، والتوجه بكلية العبد إليه، وإخلاص الدعاء له وحده، رغبة ورهبة، كما قال -تعالى-:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) .

فعلم العبد بأنه لا يغفر الذنوب إلا الله يضطره إلى اللجوء إليه -تعالى- والإخلاص له، وليس هناك طريق للنجاة إلا هذا الطريق، ولهذا قيل:" إن التوحيد مفزع أولياء الله، وأعدائه" أما أولياء الله فأمرهم ظاهر، وأما أعداؤه: فكانوا إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدعاء لله وحده، كما ذكر الله عنهم في القرآن، ونظر العقل يؤدي إلى هذا دائماً.

قوله: " فاغفر لي من عندك مغفرة" أي أنه لا حيلة لي ولا خلاص إلا بأن تمن علي أنت وحدك بالمغفرة، فتستر ذنوبي، وتعفو عني، وتقيني ما يترتب عليها من تبعات وشرور.

وقال: " من عندك" ليبين الاختصاص، أي أن المغفرة منك وحدك تفضل بها عليّ، بدون استحقاق، بل هي محض جودك وكرمك.

وقوله: " إنك أنت الغفور الرحيم" ختم هذا الدعاء، بهذين الاسمين الكريمين، لمناسبتهما للمطلوب، فالغفور يناسب طلب المغفرة.

والرحيم يناسب طلب التفضل والجود، وهو قريب من الأول، وهذا من معاني دعاء الله بأسمائه الحسنى.

" وقد جمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله والتوسل إلى ربه عز وجل بفضله وجوده، وأنه المنفرد بغفران الذنوب، ثم

(1) الآية 135 من سورة آل عمران.

ص: 195

سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معاً، وهكذا أدب الدعاء، وأدب العبودية" (1) .

والمقصود من الحديث في هذا الباب أن المدعو لا بد أن يكون سميعاً يسمع دعوة الداعي إذا دعاه، بصيراً بحاله فيوصل إليه ما طلب بقدرته، وإلا تكون دعوته ضلال وسدى، ففي الدعاء واستجابة الله، -تعالى- لعبده الداعي برهان على أنه سميع، بصير، قادر، حي، عليم، وقد قال الله -تعالى- فيمن يدعو من لا يسمع ولا يبصر:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (2)

وقال -تعالى- عن خليله إبراهيم في دعوته لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} (3) .

" وقد قال ابن عقيل: قد ندب الله -تعالى- إلى الدعاء، وفي ذلك معان:

أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى.

الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى.

الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى.

الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى.

الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى.

السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى.

(1)"الوابل الصيب"(ص118) .

(2)

الآيتان 5، 6 من سورة الأحقاف.

(3)

الآية 42 من سورة مريم.

ص: 196

ومن يقول بالطبائع، يعلم أن النار، لا يقال لها: كفي، ولا النجم يقال له: أصلح مزاجي، لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً، فشرع الدعاء، وصلاة الاستسقاء، ليبين كذب أهل الطبائع" (1) .

و"فعل السمع يراد به أربعة معان:

أحدها: سمع إدراك، ومتعلقه الأصوات.

الثاني: سمع فهم، وعقل، ومتعلقه المعاني.

الثالث: سمع إجابة وإعطاء ما سئل.

الرابع: سمع قبول، وانقياد.

فمن الأول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} ، و {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} (2) .

ومن الثاني: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} (3)، أي: سمع فهم وعقل، ومن الثالث: سمع الله لمن حمده، ومن الرابع: قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي: قابلون له، ومنقادون، فسمع الإدراك يتعدى بنفسه، وسمع القبول يتعدى باللام، وبمن، ولإجابته بمن" (4) .

(1)"شرح الطحاوية"(ص457) الطبعة الثالثة.

(2)

الآية 181 من سورة آل عمران.

(3)

الآية 104 من سورة البقرة.

(4)

"بدائع الفوائد"(2/75) .

ص: 197

18-

قال: " حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، حدثني عروة - أن عائشة رضي الله عنها حدثته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن جبريل عليه السلام ناداني، قال: " إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك".

اختصر البخاري هذا الحديث هنا - فذكر الشاهد منه، وقد ذكره بتمامه في بدء الخلق، ولفظه: " قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟

قال: " لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت - وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئاً"(1) .

ففي هذا الحديث البيان الواضح في أن الله -تعالى- يسمع أقوال عباده، وأنه لا يخفى عليه -تعالى- من ذلك شيء.

(1) انظر: " البخاري مع الفتح"(6/312) .

ص: 198

وصفة السمع والبصر من الصفات اللازمة لله -تعالى- وقد-تعالى- تقدم بيان ثبوت ذلك له -تعالى- عقلاً، وشرعاً، وفطرة، وأن من أنكر ذلك عرف به وأعلم إن كان جاهلاً، وإلا حكم عليه بالكفر؛ لإنكاره الحق الواضح، الواجب اعتقاده والإيمان به؛ لأنه أنكر ما ثبت، وتواترت عليه كتب الله، وجاءت به جميع رسله، فهو أمر ضروري.

ص: 199

قال: " باب قول الله -تعالى-: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} (1) ".

هذا الخطاب الكريم، وأمثاله كثير في كتاب الله -تعالى- عام شامل، يجب أن يفهم على عمومه، كما يجب أن يفهم مراد الله -تعالى- فيه، وفي غيره من خطاباته -تعالى-.

"وقد اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله -تعالى- على كل شيء قدير، كما في نصوص القرآن الكريم، وغيره من كتب الله -تعالى- وما وجد من أفراد مسائل وقع الخلاف فيها، فهو بسبب عدم فهم النصوص، كقول من يدخل في هذا العموم، الممتنع لذاته، مثل الجمع بين الضدين، ككون الشخص ميتاً حياً في آن واحد، والجمع بين الحركة والسكون، والسواد والبياض، وما أشبه ذلك.

وكذا من لا يدخل ذلك في هذا العموم، فلا يكون ذلك داخلاً عندهم في عموم القدرة.

والحق أن الممتنع لذاته ليس شيئاً، ولا وجود له في الخارج، بل لا يتصوره الفكر ثابتاً في خارج الذهن، ويمتنع تحققه في الأعيان وتصوره في الأذهان، إلا على وجه التمثيل، فهو ليس بشيء، لا في الأعيان، ولا في الأذهان، فلا يصلح أن يقال: إنه خارج من هذا العموم، أو داخل فيه؛ لأن هذا يجعل له وجوداً ولو في الفرض، فيوقع في الشبه والشكوك، بل يقال:{إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا ليس بشيء.

وأما المعدوم، فليس بشيء أيضاً في الوجود الخارج، ولكنه شيء في

(1) الآية 65 من سورة الأنعام.

ص: 201

التصور والذهن، وما علم الله -تعالى- أنه سيكون، فهو شيء في التقدير، والعلم والكتاب، وإن لم يكن شيئاً في الخارج كما قال الله -تعالى-:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) .

فلفظ الشيء في الآية يتناول ما وجد، وما يتصوره الذهن موجوداً، ولا يستثنى من ذلك شيء، لا أفعال العباد، ولا أفعاله -تعالى-، سواء المتعدية، أو اللازمة،

كما قال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) .

فجمع في الآية بين النوعين من الأفعال، المتعدية واللازمة.

والقدرة تتعلق بكل ما تتعلق به المشيئة، فإن ما شاء الله كان، ولا يكون شيء إلا بقدرته -تعالى-: ولهذا قال -تعالى-: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} (3) . {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4)

والشيء في الأصل، مصدر شاء، يشاء، شيئاً، كنال، ينال، نيلاً، ثم وضعوا المصدر موضع المفعول، فسموا "المشاء" شيئاً، كما سموا المنال: نيلاً، فقالوا: نيل المعدن، كما يسمى المقدور: قدرة، والمخلوق: خلقاً، فقوله تعالى:{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: على كل ما يشاء، فمنه ما قد شاءه فوجد، ومنه ما لم يشأه {فلم يوجد} وهو شيء في العلم، بمعنى أنه قابل لأن يشاءه.

(1) الآية 82 من سورة يس.

(2)

الآية 4 من سورة الحديد، انتهى من "مجموع الفتاوى" ملخصاً (8/7-11) .

(3)

الآية 29 من سورة الشورى.

(4)

الآية 120 من سورة المائدة، المصدر السابق (ص383) .

ص: 202

فهذا العموم يتناول ما كان شيئاً في الخارج، والعلم، وما كان في العلم فقط، بخلاف ما لا يجوز أن تتناوله المشيئة، وهو الحق -تعالى- وصفاته، أو الممتنع لنفسه، فإنه غير داخل في العموم، ولهذا اتفق الناس على أن الممتنع لنفس ليس بشيء" اهـ (1) .

(1) المصدر السابق (ص383) .

ص: 203

19-

قال: " حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثنا معن بن عيسى، حدثني عبد الرحمن ابن أبي الموالي، قال: سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن، يقول: أخبرني جابر بن عبد الله، السلمي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر - ثم تسميه بعينه - خيراً لي، في عاجل أمري وآجله - قال: أو: في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري- فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به".

جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، الأنصاري الخزرجي، من أكابر علماء الصحابة، والحريصين على تحصيل العلم، فقد ذكر له عدة رحلات في طلب الحديث، منها: أنه رحل من المدينة إلى مصر من أجل حديث واحد، كما ذكره البخاري في "صحيحه" معلقاً، وكان حافظاً مكثراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مفتي المدينة في زمانه، له مناقب كثيرة.

قال الواقدي: توفي سنة ثمان وسبعين، وقال صاحب الحلية: سنة سبع وسبعين. قيل: إنه عاش أربعاً وتسعين سنة، رضي الله عنه وعن سائر صحابة رسول

ص: 204

الله صلى الله عليه وسلم (1) .

قوله: " يعلمنا الاستخارة" أي: صلاتها ودعاءها، وهذا من تمام شفقته على أمته، وحرصه على حصول الخير لهم، ودفع كل شر عنهم، وبمثل هذا يعلم أنه صلى الله عليه وسلم ما كان ليترك باب ما يعتقدونه في ربهم، من الإيمان بأسمائه وصفاته، وما يجب له، وما يمتنع عليه، ما كان ليترك ذلك بدون إيضاح وبيان لا يحصل معه أي التباس أو اشتباه، وهذا واضح جلي من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن حاله، وهو موجب الرسالة، ومن حالة أصحابه أيضاً.

الاستخارة: طلب الخير من أحد الأمرين، الفعل لما هم به، أو الترك، وهي مشروعة في عامة الأمور، كما يدل عليه هذا الحديث، لا يخرج من عموم ذلك إلا الواجب، والمحرم، أما المستحب والمكروه، ففيهما تفصيل، يذكر في كتب الآداب الشرعية، وكتب الفروع.

وقوله: " كما يعلمنا السورة من القرآن " بيان لشدة الاهتمام بها والاعتناء، وهذا من محاسن الإسلام الظاهرة لكل عاقل، وقد كان العرب قبل ذلك إذا هم أحدهم بالأمر ذهب يستقسم بالأزلام، أو ذهب يزجر الطير ليستدل بطيرانه أو نعابه على ما سيحصل له في المستقبل، أو ذهب إليه الكهنة وإخوان الشياطين، وهذا كله رجم بالغيب، وشرك بالله، فعوضه الإسلام عن ذلك بالفزع إلى من بيده أزمة الأمور كلها، ومن يملك الخير والشر، فيقدمون بين يدي ذلك ركعتين، لتكونا وسيلة بين يدي الطلب، ثم يتوجهون إلى ربهم بهذا الدعاء، الذي فيه التوسل إليه -تعالى- بأسمائه وصفاته، وتوحيد الطلب والنية والقصد.

وقوله: " ليركع" أمر بالركوع، ويحمل على الندب؛ للأدلة الدالة على عدم الوجوب.

(1) انظر: " سير أعلام النبلاء"(3/189) ، و "الإصابة"(1/213) ، و "أسد الغابة"(1/256) و "الاستيعاب"(1/219) .

ص: 205

قوله: " من غير الفريضة" يدل على عدم حصول سنة الاستخارة بالدعاء عقب صلاة الفرض، بل لابد أن تكون بركعتين غير الفريضة، ثم يدعو بهذا الدعاء.

قوله: " اللهم إني أستخيرك" أي: أطلب منك بيان وتيسير ما هو خير لي.

قوله: " بعلمك" أي: أسألك وأتوسل إليك بصفتك، صفة العلم، أن ترشدني إلى الخير فيما أريد، فإنك عالم به لا يخفى عليك شيء.

وهذا صريح في إثبات صفة العلم لله -تعالى- ودعائه به، والأدلة عليه لا حصر لها، كما سبقت الإشارة إليه.

وقوله: " وأستقدرك" أي: أسألك أن تجعلني قادراً على فعل ما أريد، وتهيء أسباب ذلك لي.

وقوله: "بقدرتك" وهذا سؤال لله -تعالى- بصفته التي هي القدرة، أي: أنت القادر الذي لا يعجزه شيء، فأسألك بهذه القدرة العظيمة أن تنيلني ما أريد، وهذا هو محل الشاهد من الحديث للباب، كما هو ظاهر.

ثم عاد إلى التوسل بهاتين الصفتين، بقوله:" فإنك تقدر ولا أقدر" الخ، يعني: لك القدرة الكاملة الشاملة، فأسألك بها، كما أني أسألك بفقري إليك وعجزي، فليس لي قدرة على شيء حتى تجعلني قادراً عليه، وتيسر لي أسبابه، وأنت تعلم عواقب الأمور، وما تؤول إليه، بل لا يخفى عليك شيء في الماضي، والحاضر، والمستقبل، فعلمك شامل لكل شيء، ولا علم لي بشيء من ذلك إلا ما علمتني.

وقوله: " وأنت علام الغيوب" أي: ذلك خاص بك، لا يعلمه سواك.

قوله: " ثم يسميه بعينه" ظاهر في أنه يتلفظ به معيناً له باسمه؛ ليكون بذلك أقوى على اجتماع العزم على طلبه.

ص: 206

"في عاجل أمري وآجله" أي: في دنياي وآخرتي.

"أو في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري" شك من الراوي: هل قال الأول أو الثاني؟ والمعنى واحد.

وقوله: " فاقدره لي، ويسره لي" اقض به لي، واجعلني قادراً على الحصول عليه، وسهل لي أسبابه بحيث أناله بلا مشقة وكلفة، وفي هذا: أنه لا يحصل شيء إلا بسبب.

"ثم بارك لي فيه " اجعل فيه بركة تنميه وتزيده، وفيما يترتب عليه.

"اللهم إن كنت تعلم أنه شر لي، في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري- أو قال: عاجل أمري وآجله- فاصرفني عنه" أي: هيئ الأسباب التي تصرف قلبي وتثني عزمي عن فعله.

"واقدر لي الخير حيث كان" أي: قدر لي فعل ما فيه خير لديني ودنياي، في أي مكان، وفي أي وقت.

"ثم رضني به" أي: اجعلني رضياً به، قانعاً، ناعم البال، مستغنياً عن خلقك، مستعيناً به على طاعتك، وشاكراً لك منقاداً لأمرك.

ومراد البخاري: إثبات صفة القدرة لله -تعالى- وأن قدرته -تعالى- عامة لكل مقدور، والرد على القدرية نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم، الذين يقيدون قدرة الله -تعالى- بما اخترعوه من عند أنفسهم، ولهذا اقتصر على هذا القدر من الآية، أي القادر على كل شيء.

فالله -تعالى- يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا مانع له، ولا يقدر غيره أن يمنعه مراده " فهو قادر على كل مقدور".

وكل ممكن يكون مقدوراً له، فما من ممكن في نفسه إلا والله قادر عليه.

وأما الممتنع لنفسه، فإنه ليس بشيء عند جميع العقلاء، إن تنازعوا في المعدوم

ص: 207

الممكن مثل إيمان الكافر: هل هو شيء أو لا؟ فأما الممتنع لنفسه: فلم يقل أحد إنه شيء في الخارج، والممتنع هو: ما لا يمكن وجوده في خارج الذهن، مثل كون الشيء موجوداً معدوماً (1) ، فإنه لا يعقل ثبوت ذلك، وكذا كون الشيء أسود كله وأبيض كله، وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين، والممتنع يراد به الممتنع لنفسه مثل هذه الأمور، ويراد به الممتنع لغيره مثل ما علم الله أنه لا يكون، وأخبر أنه لا يكون، وكتب ذلك، فهذا ممتنع، لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله متخلفاً عن معلومه، وخبره بخلاف الواقع، تعالى عن ذلك، ولكن هو ممكن بنفسه والله قادر عليه، كما قال -تعالى-:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} (2)، وقال -تعالى-:{وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (3)، وقال -تعالى-:{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (4) ، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (5) .

وأمثال ذلك مما يخبر -تعالى- أنه لو شاء لفعله، فإن هذه الأمور التي أخبر أنه لو شاء لفعلها يلزم أنها ممكنة مقدورة له، فإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مقدور له ممكن، لكنه لا يقع، وقد علم الله أنه لا يؤمن، مع كونه مستطيع الإيمان، كمن علم أنه لا يحج مع استطاعته الحج.

(1) ومن ذلك قول بعض الملاحدة: هل يقدر الله أن يخلق مثل نفسه؟ فهذا ممتنع لنفسه، وإنما يورده جاهل لا يتصور ما يقول، أو ملبس معاند يريد إفساد عقائد عوام المؤمنين، أو التشكيك في قدرة الله -تعالى-.

(2)

الآية 4 من سورة القيامة.

(3)

الآية 18 من سورة المؤمنون.

(4)

الآية 13 من سورة السجدة.

(5)

الآية 118 من سورة هود عليه السلام.

ص: 208

قال الله -تعالى-: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (1)

وحقيقة الأمر هو ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه أنه على كل شيء قدير، وهذا هو ما يعتقده أهل السنة المثبتون للقدر" (2) .

(1) الآية 28 من سورة الأنعام.

(2)

"منهاج السنة"(2/118-122) ملخصاً ببعض التصرف.

ص: 209

"فعند أهل السنة أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً، فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب خلق مثل نفسه، وأمثال ذلك"(1) .

قال: " باب مقلب القلوب" وقول الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} (2) .

قال الراغب: " تقليب الشيء: تغييره من حال إلى حال، والتقليب: التصرف، وتقليب الله القلوب والبصائر: صرفها من رأي إلى رأي "(3) .

قال ابن عباس: " لما جحد المشركون ما أنزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء، وردت عن كل أمر "(4) .

وقال مجاهد: "ونحول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية، فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة"(5) .

قال الحافظ: " المراد بتقليب القلوب: تقليب أعراضها، وأحوالها، لا تقليب ذات القلب"(6) .

أخبر -تعالى- أنه يعاقب من لا يقبل الحق، أو يرده أول ما يبلغه بتقليب القلب، وتركه يعمه في ضلاله وغيه، كما في هذه الآية المذكورة في الباب، وكما في قوله -تعالى-:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (7) ، وفي هذا بيان أن الله -تعالى- إذا منع فضله الإنسان، بالهداية، أنه يكون منحرفاً ضالاً.

(1) المصدر السابق (1/213) .

(2)

الآية 110 من سورة الأنعام.

(3)

"المفردات"(ص411) .

(4)

رواه الطبري، انظر:" التفسير"(12/43، 41) .

(5)

المصدر نفسه (12/44) .

(6)

"الفتح"(11/527) .

(7)

الآية 5 من سورة الصف.

ص: 211

ومراد البخاري رحمه الله وصف الله -تعالى- بأنه المنفرد بالتصرف في خلقه حتى قلوب العباد التي تنطوي على آرائهم، ونياتهم، وما يخططون لمستقبلهم، حيث يرى كثير منهم أو أكثرهم في الظاهر أنهم أحرار في أفكارهم، وما يريدونه، والواقع أن الله - تعالى- هو الذي يصرفهم في ذلك، فلا قدرة لهم إلا بعد مشيئته،

وبهذا يشير البخاري رحمه الله إلى تمام قدرة الله التي سبق ذكرها في الباب قبل هذا، حيث بين بهذا أن الله هو المتصرف بالقلوب، فإن شاء جعلها مريدة للخير، وإن شاء جعلها مريدة للشر وبذلك يعلم أنه لا قدرة لأحد على شيء إلا بعد أن يجعله الله قادراً عليه، خلافاً لما يقوله الضالون عن الحق، من أهل البدع والانحراف.

ص: 212

20-

قال: " حدثنا سعيد بن سليمان، عن ابن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن عبد الله، قال: " أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: لا، ومقلب القلوب".

ذكر البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب القدر، بلفظ:" كثيراً ما كان النبي-صلى الله عليه وسلم يحلف" لا، ومقلب القلوب" (1) .

وذكر عن ابن عمر - أيضاً -: " كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا، ومقلب القلوب"(2) .

وفي رواية ابن ماجه: " كان أكثر أيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ومصرف القلوب"(3) .

قال الحافظ: " في هذا الحديث دليل على أن أعمال القلب، من الإرادات والدواعي وسائر الأعراض، بخلق الله -تعالى- وفيه جواز تسمية الله -تعالى- بما ثبت من صفاته على الوجه الذي يليق به"(4) .

ففي هذا الحديث، وما هو نحوه من الدلائل، أن الله -تعالى- هو الذي يتولى قلوب العباد يصرفها كيف يشاء، وهذا من تمام ملكه، فلا ينازعه أحد في التدبير والتصرف، ولا يقع في الوجود إلا ما أراده، وبهذا يعلم مدى حاجة العبد إلى ربه، وأنه لا غنى له عنه طرفة عين، فلا بد له من هدايته وتوفيقه، وإلا ضل

(1) انظر: " البخاري مع الفتح"(11/513) .

(2)

انظر: المرجع السابق (ص523) .

(3)

انظر: " سنن ابن ماجه"(1/677) رقم (2092) .

(4)

"فتح الباري"(11/527) .

ص: 213

وتاه في مهامه نهايتها الهلاك، والعذاب المؤبد، وهذا لا ينافي تكليف العباد بالأعمال التي يترتب عليها الجزاء، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى - في موضعه.

وفي " صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين، من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه

كيف يشاء" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك" (1) .

(1) انظر: " مسلم"، كتاب القدر، (4/2045) رقم الحديث (2654) .

ص: 214

قال: " باب إن لله مائة اسم إلا واحدة ".

مراده بهذا الباب: وجوب إثبات أسماء الله -تعالى- على ما ورد في كتاب الله، وعن رسوله، وأن ذلك من التوحيد الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا أمته إلى الإيمان به، ووجوب اعتقاده، قال الله -تعالى-:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (1) ، وقال - جل وعلا - {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2)، وقال تبارك وتعالى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (3) .

فهذه الآيات وغيرها مما في معناها، تدل على وجوب الإيمان بما لله -تعالى- من الأسماء الحسنى، الدالة على عظيم جلاله، وسمعة أوصافه، فكل اسم من أسمائه دال على كمال عظمته، وبذلك كانت حسنى، أما الأسماء التي لا تدل على صفات الكمال، فليست بحسنى، وكذلك إذا اشتركت دلالتها بين الكمال والنقص، أو دلت على مجرد علم محض، مثل إبراهيم، وزيد، فلا تكون حسنى حتى تدل على كمال الصفة التي اشتق منها الاسم، مثل "العليم" فإنه يدل على أن له علماً عاماً محيطاً بجميع الأشياء، لا يخرج عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، ومثل "القدير" الدال على قدرته التي لا يعجزها شيء، و"الرحيم" الدال على رحمته العظيمة التي وسعت كل شيء.

(1) الآية 180 من سورة الأعراف.

(2)

الآية 110 من سورة الإسراء.

(3)

الآية 24 من سورة الحشر.

ص: 215

وهكذا كل أسمائه - جلا وعلا - وهذا تفصيل وبيان للباب الثاني من الكتاب، ولكونها حسنى أوجب على عباده دعاءه بها، كما يأتي في الباب بعد هذا، وتوعد الملحدين بها.

فيدعى بكل مطلوب بما يناسبه منها، فقال: اللهم اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، وتب عليّ إنك عفو كريم، والطف بي يا لطيف، وارزقني يا رزاق، وهكذا.

"قوله: " إن لله مائة اسم إلا واحدة" التأنيث في لفظة "واحد" نظراً إلى التسمية أو الكلمة، كما يقول النجاة: " الكلمة اسم أو فعل أو حرف".

وقال ابن مالك: " أنت باعتبار معنى التسمية، أو الصفة، أو الكلمة"(1) .

وفي بعض روايته: " إلا واحداً".

قال ابن عباس: {ذو الجلال} : العظمة، {البر} : اللطيف".

في رواية: " ذو الجلال: العظيم"، فيكون "العظيم" تفسيراً لـ" ذو"، وعلى الأولى تفسيراً لـ" الجلال".

فذو الجلال: صاحب العظمة، الذي لا تقاس عظمته بشيء من خلقه - جل وعلا-.

وأما "البر" فهو: المحسن غاية الإحسان إلى خلقه، من غير استحقاق ولا مقابل، فهو بليغ الإحسان إلى خلقه، وإحسانه شامل لهم.

وأما " اللطيف" فهو: العالم بالخفيات، ودقائق الأمور، وغوامضها، والله أعلم.

(1)"فتح الباري"(11/219) .

ص: 216

وقال الزجاج: " اللطيف": المحسن إلى عباده في خفاء وستر، من حيث لا يعلمون" (1) .

(1)"تفسير الأسماء الحسنى"(ص44) .

ص: 217

21-

قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة".

{أحصيناه} حفظناه.

" قال جماعة من العلماء: الحكمة في قوله: " مائة إلا واحداً" بعد قوله: " تسعة وتسعين" أن يقرر ذلك في نفس السامع، جمعاً بين جهتي الإجمال والتفصيل، أو دفعاً للتصحيف الخطي، أو اللفظي"(1)

قوله: " إن لله تسعة وتسعين اسماً" هذا لا يقصد به حصر أسماء الله -تعالى- في هذا العدد المذكور، وإنما قصد الإخبار عما يترتب على إحصائها وجزائه، كما تقول: عندي مائة كتاب أعددتها للإعارة، فلا ينفي أن يكون عندك كتب غيرها، فالتقييد بهذا العدد عائد إلى الأسماء الموصوفة بهذه الصفة، وهي قوله:" من أحصاها دخل الجنة" فهذه الجملة محلها النصب صفة " لتسعة وتسعين"، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء، والمعنى " إن لله أسماء بقدر هذا العدد، من أحصاها دخل الجنة".

فأسماء الله -تعالى-، لا تدخل تحت حصر، ولا تحد بعدد، بدليل ما رواه الإمام أحمد في " المسند"، حدثنا يزيد، أنبأنا ابن مرزوق، حدثنا أبو سلمة الجهني (2) ، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قال

(1)" الفتح"(11/219) .

(2)

يزيد هو: ابن هارون، إمام حافظ مشهور. وابن مرزوق هو: فضيل بن مرزوق الأغر الرقاشي الكوفي، من رجال مسلم، وأبو مسلمة وأبو سلمة هو موسى بن عبد الله أو ابن عبد الرحمن.

ص: 218

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أصاب أحداً قط هم، ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً"(1) سنده صحيح.

قال ابن كثير: " أخرجه الإمام أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" بمثله"(2) .

فهذا يدل على أن لله أسماء غير التسع والتسعين.

وقوله في الحديث: " أو استأثرت به في علم الغيب عندك" معناه: انفردت بعلمه فلم تطلع عليه أحداً، لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً.

وقسم أسماء الله -تعالى- في هذا الحديث ثلاثة أقسام:

أحدها: ما سمى به نفسه، فأظهره لمن شاء، من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزله في كتبه.

والثاني: أنزله في كتبه، أو في بعضها، فتعرف به إلى عباده.

والثالث: استأثر به في علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، ولهذا قال:"أو استأثرت به في علم الغيب عندك " أي: جعلته من الغيب الذي لا يعلمه غيرك، وليس المراد أنه -تعالى- انفرد بالتسمي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزلها في كتبه، وهو ثبوت ما دلت عليه من المعاني اللائقة بعظمته، لا مجرد التسمية.

(1)"المسند"(1/391، 452)، وانظر:" الفتح الرباني"(14/262) .

(2)

انظر: " تفسير ابن كثير"(3/517) ط الشعب.

ص: 219

ومن الأدلة على عدم حصرها فيما ذكر: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: " فيفتح عليّ من محامده ما لا أحسنه الآن" وتلك المحامد، هي الثناء عليه -تعالى- بما له من أسماء حسنى وصفات عليا.

ومن الأدلة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: " لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"(1) وأحسن الثناء ما كان بأسمائه الحسنى وصفاته العلية.

وبهذا يتبين أن الأسماء الحسنى غير محصورة في العدد المذكور، وإنما خص ذكر هذا العدد لما رتب عليه من الحكم، وهو:" من أحصاها دخل الجنة "، فليس في الحديث حصر أسماء الله -تعالى- ولا يدل على أنه ليس لله اسم غير هذه التسع والتسعين، وإنما أريد به الإخبار بدخول الجنة لمن أحصاها، لا الإخبار بحصرها،

وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، كما ذكره الحافظ، ونقل النووي الاتفاق على ذلك (2) .

قال شيخ الإسلام: " والصواب الذي عليه جمهور العلماء: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصها دخل الجنة " معناه: أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة، ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون اسماً، فإن في الحديث الآخر الذي رواه أحمد وأبو حاتم في "صحيحه":" أسألك بكل اسم هو لك" الحديث، وفي "الصحيحين":" لا أحصي ثناء عليك" ولو أحصى جميع أسمائه، لأحصى صفاته، فكان يحصي الثناء عليه؛ لأن صفاته يعبر عنها بأسمائه" (3) .

قوله: " من أحصاها دخل الجنة" اختلف في المقصود من الإحصاء، وربما فهم من صنيع البخاري أنه يرى أن إحصاءها هو حفظ ألفاظها، كما فهم

(1) رواه "مسلم" في كتاب الصلاة (1/352) ، و "أبو داود" في الوتر (2/134) وغيرهما.

(2)

انظر: " فتح الباري"(11/220) .

(3)

"درء تعارض العقل والنقل"(3/332) .

ص: 220

من ذلك الحافظ ابن حجر، وعندي فيه نظر، وذلك أن عادة البخاري التي سار عليها في كتابه هذا، أنه إذا جاء لفظ في الحديث، وفي القرآن لفظ يوافقه في اللفظ والاشتقاق، أنه يذكره وإن كان لا يوافقه في المعنى، وأمثلة ذلك كثيرة:

فهو في قوله: " أحصيناه: حفظناه" يشير إلى قوله -تعالى-: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} ، قال الأصيلي:" إحصاؤها: العمل بها، لا عدها وحفظها؛ لأن ذلك قد يقع للكافر والمنافق، كما في حديث الخوارج: " يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" (1) .

وذكر العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - لإحصائها ثلاث مراتب:

"الأولى: إحصاء ألفاظها، وعددها. والثاني: فهم معانيها ومدلولها.

الثالثة: دعاؤه -تعالى- بها، كما قال:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .

والدعاء نوعان:

1-

دعاء ثناء وعبادة.

2-

ودعاء مسألة وطلب، وكلا النوعين ورد بهما القرآن بكثرة.

فلا يثنى عليه -تعالى- إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، كما لا يسأل إلا بها، ويسأل بها في كل مطلوب بما يناسبه ويقتضيه من الأسماء الحسنى، والصفات العلية الكريمة، كما تقدمت الإشارة إليه.

وهذا من أعظم الوسائل إلى الله -تعالى-، وأنفعها، ولهذا جاءت أدعية الرسل مطابقة لذلك" (2) .

(1)"فتح الباري"(11/226) .

(2)

انظر: " بدائع الفوائد"(1/164) .

ص: 221

وبهذا يتبين أن إحصاءها الموعود عليه دخول الجنة، يتضمن حفظها وفهمها، ودعاء الله بها، والله أعلم.

قال أبو عمر الطلمنكي: " من تمام المعرفة بأسماء الله -تعالى- وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المعرفة بالأسماء والصفات، وما تتضمنه من الفوائد، وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماً لمعاني الأسماء ولا مستفيداً بذكرها ما تدل عليه من المعاني"(1) .

(1)"فتح الباري"(11/226) .

ص: 222

قال: " باب: السؤال بأسماء الله -تعالى-، والاستعاذة بها".

السؤال: هو الطلب بذل وخضوع وافتقار، والاستعاذة هي: العوذ والاحتماء بمن يدفع المكروه، ويرفع البلاء بعد نزوله، وهما من أفضل أنواع العبادة، فالبخاري رحمه الله أراد بهذا الباب أن يبين معنى دعاء الله -تعالى- بأسمائه الذي أمر الله به، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بينه.

قال ابن بطال: " مقصود بهذه الترجمة: تصحيح القول بأن الاسم هو المسمى، فلذلك صحت الاستعاذة بالاسم، كما تصح بالذات"(1) .

قلت: هذا بعيد عن مقصود البخاري، وإنما مقصوده بيان كيفية دعاء الله وعبادته بأسمائه التي أمر أن يدعى بها ويعبد، بقوله -تعالى-:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله، وأمره، كما في الأحاديث التي ذكرت في هذا الباب وغيرها.

وأما مسألة: هل الاسم هو المسمى، أو غيره؟ فهي من بدع الكلام، التي حدثت بعد القرون المفضلة، والتي اختلط فيها الحق بالباطل.

والبخاري رحمه الله من أبعد الناس عن مثل ذلك.

قال ابن جرير الطبري رحمه الله: " وأما القول في الاسم: أهو المسمى أم هو غيره؟ فإنه من الحماقات الحادثة، التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام فيستمع، فالخوض فيه شين، والصمت عنه زين، وحسب امرئ من العلم به والقول أن ينتهي إلى قوله - جل ثناؤه- الصادق، وهو قوله -تعالى-: {قُلِ ادْعُواْ

(1)"الفتح"(13/379) .

ص: 223

اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (1) وقوله: {وللهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) .

"وكان سبب حدوث هذه المسألة، أن الجهمية قالوا: إن الاسم غير المسمى، وأسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق؛ لأن الله -تعالى- وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق، فإذا كانت أسماؤه غيره، فهي مخلوقة. فرد عليهم السلف، واشتد

نكيرهم عليهم؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلام الله غير مخلوق، فهو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء.

فكان مراد الذين يقولون: الاسم غير المسمى {من أهل السنة} هو هذا.

ولهذا روي عن الشافعي، والأصمعي، وغيرهما، أنهم قالوا: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة" (3) .

وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال:

أحدها: ما ذكره ابن بطال، وإليه ذهب كثير من المنتسبين إلى السنة كأبي القاسم الطبري اللالكائي، والبغوي، وغيرهما.

قال البغوي: " والاسم هو المسمى، وعينه، وذاته، قال الله -تعالى-:{إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} (4) .

فأخبر أن اسمه يحيى، ثم نادى الاسم، فقال:{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (5) .

(1) الآية 110 من سورة الإسراء.

(2)

الآية 180 من سورة الأعراف، " عقيدة الطبري"(ص12) .

(3)

"مجموع الفتاوى"(6/187) .

(4)

الآية 7 من سورة مريم.

(5)

الآية 12 من سورة مريم.

ص: 224

وقال -تعالى-: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} (1) ، وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسميات.

وقال -تعالى-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وقال: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَام} .

والقول الثاني: أن الاسم غير المسمى.

والثالث: أن الاسم للمسمى، وهذا القول دل عليه الكتاب والسنة، قال -تعالى-:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2)، وقال -تعالى-:{قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (3)، وقال -تعالى-:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (4)، وقال -تعالى-:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (5) .

ومن السنة هذا الحديث: " إن لله تسعة وتسعين اسماً".

وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب"(6) .

هذا مذهب أكثر أهل السنة.

فلا يطلقون بأنه المسمى، ولا غيره، بل يفصلون، حتى يزول اللبس.

فإذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟ قالوا: ليس هو نفس المسمى، ولكن يراد به المسمى.

(1) الآية 40 من سورة يوسف.

(2)

الآية 180 من سورة الأعراف.

(3)

الآية 110 من سورة الإسراء.

(4)

الآية 8 من سورة طه.

(5)

الآية 24 من سورة الحشر.

(6)

رواه البخاري، انظره مع "الفتح في التفسير"(8/640) ، وفي "المناقب"(6/544) ، ومسلم في "الفضائل"(4/1828) رقم (2354) ورقم (2355) .

ص: 225

وإن أريد بأنه غيره: كونه بائناً عنه، فهو باطل؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلامه صفة له، قائمة به، لا تكون غيره.

واسم الله -تعالى- في مثل إذا قيل: " الحمد لله" أو "بسم الله" يتناول ذاته وصفاته، لا ذاتاً مجردة عن الصفات، ولا صفات مجردة عن الذات. وقد نص الأئمة على أن صفاته، داخلة في مسمى أسمائه، فلا يقال: إن علمه وقدرته زائدة عليه.

ومن قال من أهل السنة: إن الصفات، زائدة على الذات، فمراده: أنها زائدة على ما أثبته أهل التعطيل، الذين أثبتوا ذاتاً مجردة عن الصفات؛ لأنه ليس في الوجود ذات مجردة عن الصفات، كما لا يمكن وجود صفات بلا ذات، تقوم بها، فتخيل وجود أحدهما دون الآخر من الهوس.

ثم إن الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى، ليس مرادهم أن مجرد اللفظ هو الذات، التي وضع لها هذا الاسم، فإن هذا لا يقوله عاقل.

كما أن الذين قالوا أن الاسم غير المسمى، لم يريدوا أن مجرد اللفظ غير الذات، فإن هذا لا جدال فيه.

وما ذكره البغوي رحمه الله محتجاً به على أن الاسم هو المسمى، فهو لا يدل على ما قاله.

فقوله -تعالى-: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ثم قال {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} فاللفظ الذي هو "الياء والحاء والياء" ليس هو ذات المسمى به، فمن زعم ذلك فقد كابر.

فالمقصود نداء المسمى لا نداء اللفظ، والمتكلم لا يمكنه نداء من يريد مناداته إلا بذكر اسمه، إلا أن يكون ذلك بالإشارة.

ص: 226

وأما قوله -تعالى-: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} (1) .

فليس المراد: أنكم تعبدون الأوثان المسماة، فهم معترفون بذلك.

بل المراد: نفي ما كانوا يعتقدونه فيها من الإلهية، والواقع أنه ليس فيها شيء من ذلك.

فإذا عبدوها معتقدين ثبوت إلاهيتها، مسمينها آلهة، لم يكونوا في حقيقة الأمر عبدوا إلا أسماء ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، وليس فيها من معنى الإلهية شيء، فعبادتهم لما تصوروه في أنفسهم من معنى الإلهية وعبروا عنه بألسنتهم.

وهذا التصور خيالي، لا حقيقة له، فهم لم يعبدوا في الحقيقة إلا ذلك الخيال الفاسد، الذي تصوروه، وسموه إلهاً، فكان مجرد تسمية فقط، ليس له من معنى الإلهية شيء.

وأما قوله -تعالى-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فالمراد به، تسبيحه -تعالى- وتنزيهه عما لا يليق به، معتقداً ذلك بقلبه، متلفظاً باسمه بلسانه، قائلاً:" سبحان ربي الأعلى" والمراد المسمى بهذا الاسم، فتسبيح الاسم هو تسبيح المسمى.

ومن قال: المراد بتسبيح الاسم، أنك لا تسمي به غير الله، ولا تلحد في أسمائه، فهذا المعنى مما يستحقه اسم الله -تعالى- وهو داخل في المراد بالآية، ولكن المقصود المعنى الأول، والله أعلم.

وأما قوله -تعالى-: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} فالمعنى: أن البركة تكتسب، وتنال بذكر اسمه.

(1) الآية 40 من سورة يوسف.

ص: 227

ولو كان لفظ الاسم يراد به المسمى، لكفى قوله: تبارك ربك؛ لأن نفس الاسم عندهم هو الرب، فيكون بذكر الاسم تكرار.

وبهذا يتبين أن الشبه التي دعت كثيراً من العلماء إلى القول بأن الاسم هو المسمى أنها باطلة، وهي: أن الله -تعالى- وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق، فإذا قيل: إن أسماء الله غيره، لزم أن تكون مخلوقة (1) .

(1) هذا البحث من منتصف صفحة (193) كله مقتبس من رسالة شيخ الإسلام في الموضوع المثبتة في المجلد السادس من "الفتاوى" انظر: (ص185) .

ص: 228

22-

قال: " حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا جاء أحدكم فراشه، فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات، وليقل باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".

العبد الصادق العبودية، لا ينفك عن عبادة ربه، في أمور حياته كلها، في خروجه من بيته، وفي دخوله، وفي أكله وشربه، وفي نومه ويقظته، وفي مقارفته لأهله، ومعاملته للناس، ولذلك أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا النوع من العبادة، في هذا الحديث وغيره، عند النوم، والاستيقاظ منه، وهو من عبادة الله ودعائه بأسمائه.

قوله: " فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات" صنفة الثوب: طرفه من الداخل، لما في الرواية الأخرى:" داخلة إزاره" ولو فعل ذلك بغير طرف ثوبه حصل المقصود، والحكمة في ذلك إزالة ما لعله يكون فيه مما يؤذيه، وأمر بأن يكون ذلك ثلاث مرات، للمبالغة، وليكون ذلك وتراً، إذ الوتر معتبر في الشرع.

"وليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه" لما كان النوم نوعاً من الموت، وقد يموت فيه حقيقة، لجأ إلى ربه بذكر اسمه، داعياً ومتبركاً به، وسائلاً به المغفرة، وهي ستر الذنوب، والعفو عنها، إن أمسك نفسه - أي قبضها في النوم - فلم يردها إلى بدنها.

قال -تعالى-: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ

ص: 229

لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .

"وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " أي: إن رددتها إلى بدنها، فاحفظها من الشياطين، والضلال، والمؤذيات، بحفظك وحمايتك، التي تحمي بها أولياءك الذين تتولى حفظهم من كل مضر ومؤذ.

ففي هذا الحديث مشروعية ذكر الله -تعالى- عند النوم؛ ليكون موته الأصغر على اسمه، فيدخل بذلك في العمل بقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .

وفيه الاستسلام لله، والافتقار إليه، وسؤاله ما لا غنى له عنه، وهذا كله من عبادة الله تعالى ودعائه بأسمائه، فهو تفسير لقوله -تعالى-:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، وهذا هو وجه ذكر البخاري له، ولما يأتي من الأحاديث.

(1) الآية 42 من سورة الزمر.

(2)

الآية 162 من سورة الأنعام.

(3)

الآية 180 من سورة الأعراف.

ص: 230

23-

قال: " حدثنا مسلم، حدثنا شعبة، عن عبد الملك، عن ربعي، عن حذيفة رضي الله عنه: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، قال:" اللهم باسمك أحيا وأموت، وإذا أصبح قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور".

حذيفة هو ابن اليمان، واسم اليمان: حسل، أو حسيل، وهو عبسي.

كان من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الفقهاء النجباء أهل الفتوى، وصح عنه أنه قال:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن أقع فيه" ولهذا اختص بمعرفة الفتن، كما أنه عرف بصاحب السر، حيث أسر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء المنافقين، وأمره أن يكتم ذلك، وسأله رجل عن أشد الفتن فقال:" أن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تختار" توفي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين (1) .

" إذا آوى إلى فراشه" أي: رجع إليه بعد عمل النهار.

"اللهم باسمك أحيا وأموت" أي ذاكراً اسمك في حياتي، مطمئناً به قلبي، إذ لا راحة لي ولا اطمئنان إلا بذكر اسمك، ولا حياة نافعة إلا بذلك. وعلى ذكر اسمك يا رب أموت، متوسلاً به إليك أن تتولاني، وتحفظني في جميع أحوالي.

" وإذا أصبح قال: " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور".

النوم نوع من الموت، واليقظة حياة، وهو نعمة من الله على عباده حتى

(1) انظر: " الاستيعاب"(1/334) ، "الرياضي المستطابة"(ص49) .

ص: 231

ترتاح أبدانهم، وأفكارهم، وقد ينام الإنسان فلا ترجع إليه روحه، فإذا استيقظ سالماً، قد رجع إليه نشاطه وقوته، استوجب ذلك شكر الله -تعالى- والثناء عليه، فناسب قوله بعد يقظته:" الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا" أي: أرجع إلينا أرواحنا بفضله ومنته.

والنشور: هو البعث بعد الموتة الكبرى، فمصيرنا إلى ربنا، حتى يجازينا على أعمالنا كما وعدنا.

ففي هذا الحديث كالذي قبله، ذكر اسم الله -تعالى- عند النوم، والتوسل به، والثناء عليه بأن له الحمد، وهذا من الدعاء بأسماء الله الحسنى.

ص: 232

24-

قال: " حدثنا سعد بن حفص، حدثنا شيبان، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل قال: باسمك نموت ونحيا، فإذا استيقظ قال: الحمد لله، الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور".

أبو ذر الغفاري: اختلف في اسمه، واسم أبيه، وصحح الحفاظ أنه جندب بن جنادة، كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، غير أنه ذهب إلى قومه فتأخرت هجرته، ففاتته غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم الأولى، وكان عازفاً عن الدنيا، راغباً بما عند الله، وقصة إسلامه في "الصحيحين"، وكان من الحنفاء قبل أن يسلم، له أخبار كثيرة، ومناقب شهيرة، توفي في الربذة سنة اثنتين وثلاثين، رضي الله عنه (1) .

هذا الحديث ليس فيه زيادة على الذي قبله، إلا قوله:" من الليل"، والأول يدخل فيه نوم الليل والنهار.

(1) انظر: " الاستيعاب"(1/252) ، و "الرياض المستطابة"(ص272) .

ص: 233

25-

قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله، فقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً".

هذا نوع آخر من الدعاء بأسماء الله -تعالى-.

"باسم الله" أي: أفعل ذلك، ذاكراً اسم الله، عابداً ربي بهذا الذكر، ومتبركاً به.

"اللهم جنبنا الشيطان" أي: أبعدنا عنه، فلا يشاركنا، ولا يحضرنا.

"وجنب الشيطان ما رزقتنا" أي: أبعد الشيطان عن الرزق الذي تقدره لنا من الولد، في هذا الاتصال.

ولا بد من الصدق في ذلك من القلب، والرغبة، والإيمان، والثقة بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يحصل الموعود، وهو عدم مضرة الشيطان للمولود.

والمقصود، ذكر الله -تعالى- عند مقاربة الزوجة، والاستعاذة به من الشيطان، أن يشاركه أو يحضره، أو يضر المولود بحال من الأحوال.

وهذا كما تقدم من بيان معنى قوله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .

ص: 234

26-

قال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا فضيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت النبي-صلى الله عليه وسلم قلت: أرسل كلابي المعلمة؟ قال: " إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله، فأمسكن فكل، وإذا رميت بالمعراض فخزق فكل".

عدي بن حاتم هو: أبو طريف، الجواد بن الجواد، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع، بسبب كثرة كتابة أخته، فأسلم، وقد فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وهو ممن ثبت الله قومه على الإسلام - حين ارتد الناس - بسببه، شهد فتوح العراق، وساهم فيها.

وكان شريفاً فاضلاً، جواداً عابداً، روي عنه أنه يقول:" ما دخل عليّ وقت صلاة إلا وأنا مشتاق إليها " ومن أقواله: " كثرة الكلام أوضع شيء لمقادير الرجال، وأمضى الأشياء عندي رد السؤال بغير نوال"، له أخبار كثيرة وفضائل، توفي في الكوفة سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك، وكان عمر طويلاً، قيل: كان عمره لما مات مائة وعشرون سنة، رضي الله عنه (1) .

وأما الحديث، فيدل على نوع آخر من أنواع عبادة الله -تعالى- بذكر اسمه على الصيد، والكلاب المعلمة هي: التي تقبل التعليم، فإذا أمرت فعلت، وإذا نهيت انتهت، فإذا أرسلها صاحبها أمسكت الصيد له، وليس لنفسها، فلا تأكل منه.

ومفهوم الحديث: أنه إذا لم يذكر اسم الله -تعالى- عند الإرسال

(1)"الاستيعاب"(3/1057) ، و "أسد الغابة"(3/392) ، و "الإصابة"(2/468) .

ص: 235

أنه لا يأكل مما أمسكت الكلاب المعلمة، وكذا إذا لم يخزق المعراض - وهو السهم - أي لم يجرح، ولم يصب الصيد بحده، بأن أصابه بعرضه، فإنه لا يأكل؛ لأن الصيد حينئذ يكون وقيذة.

ص: 236

27-

قال: " حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: سمعت هشام بن عروة يحدث: عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قالوا: يا رسول الله، إن هنا أقواماً حديثاً عهدهم بشرك، يأتونا بلحمان، لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: "اذكروا أنتم اسم الله وكلوا".

في هذا الحديث أن ذكر اسم الله على الذبيحة شرط في حل الأكل منها، وأنه إذا كان ظاهر الذابح الإسلام، لا يلتفت إلى الاحتمال بأنه ذبحها على غير اسم الله، أو أنه لا يعرف الحكم، وما أشبه ذلك.

وقوله صلى الله عليه وسلم: " اذكروا اسم الله وكلوا" ليس معناه أن ذكر اسم الله -تعالى- عند الأكل يجعلها حلالاً إذا كانت قد ذبحت على غير اسم الله -تعالى-، ولكن أمرهم بذكر اسم الله عند الأكل؛ لأنه الذي يلزمهم، ومطيباً بذلك قلوبهم، ومشيراً بذلك إلى إطراح الشك، إذ الأصل خلافه، وهو أن ظاهر الذابح الإسلام.

وهذا الحديث يدل على نوع آخر من عبادة الله -تعالى- بذكر اسمه على الذبيحة، وعلى الأكل، فهو من جنس ما تقدم.

ص: 237

28-

قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: " ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين، يسمي ويكبر".

الأضحية هي: النسك الذي يذبح تقرباً إلى الله، - في الوقت المحدد له.

والكبش: هو الذكر من الضأن.

وقوله: " يسمي ويكبر " يعني عند الذبح، يقول: بسم الله، والله أكبر، أي: أذبح بسم الله متقرباً إليه عبادة له.

فهذا - أيضاً - من عبادة الله -تعالى- ودعائه بذكر اسمه -تعالى- في النسك الذي هو من أفضل القرب إلى الله -تعالى-.

ص: 238

29-

قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، عن جندب، أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، صلى ثم خطب، فقال: " من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله ".

جندب هو: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي العلقي، نسبة إلى علقة بن عبقر بن أنمار، سكن الكوفة، ثم البصرة، وتوفي بعد الستين، رضي الله عنه (1) .

والمراد من الحديث قوله: " فليذبح باسم الله" أي: ذاكراً اسم الله على الذبيحة، عبادة له بذكر اسمه وبالذبح له، متقرباً إليه بذلك، كما أمر الله -تعالى- عباده بأن يخلصوا ذلك له وحده {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} (2) .

وقال -تعالى-: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) .

(1) انظر: " الاستيعاب"(1/256) ، و "الرياض المستطابة"(ص46) .

(2)

الآيتان 162، 163، من سورة الأنعام.

(3)

الآية 2 من سورة الكوثر.

ص: 239

30-

قال: " حدثنا أبو نعيم، حدثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله".

المقصود بالحلف: تأكيد الخبر بذكر اسم الله العظيم، يوقع بالكاذب العقوبة، ففي ضمن ذلك: أن المحلوف به مطلع على حقيقة الأمر، ولذلك صار الحلف بغير الله شركاً؛ لما في الحديث الذي رواه الترمذي:" من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"(1)

(1) انظر: " سنن الترمذي"(3/45)، وقال بعد ذكره: هذا حديث حسن، وفيه أن ابن عمر سمع رجلاً يحلف بالكعبة، فقال: لا يحلف بغير الله

ثم ذكره.

ورواه أحمد في "المسند"(2/125) وهو صحيح.

ورواه الحاكم في " المستدرك"(4/297)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

ورمز له في حاشية الذهبي (خ م) يعني عند البخاري ومسلم، وليس كذلك.

ورواه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/29) .

ص: 240

قال: " باب: ما يذكر في الذات، والنعوت، وأسامي الله عز وجل " وقال خبيب: وذلك في ذات الإله. فذكر الذات باسمه -تعالى-.

قال الحافظ: "أي: ما يذكر في ذات الله ونعوته، من تجويز إطلاق ذلك عليه، كإطلاق أسمائه عليه، أو منعه، لعدم ورود النص"(1) .

وقال عياض: " ذات الشيء: حقيقته، وقد استعمل أهل الكلام الذات، بالألف واللام، وغلطهم أكثر النحاة، وجوزه بعضهم، لأنها ترد بمعنى النفس وحقيقة الشيء، واستعمال البخاري لها على أنها حقيقة الشيء على ما استعملها المتكلمون في حق الله -تعالى-، ولهذا قال: ما جاء في الذات والنعوت، ففرق بينهما على طريقة المتكلمين"(2) .

وقال الراغب: " ذات تأنيث "ذو"، وهي كلمة يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس، والأنواع، ولا يستعمل شيء منها إلا مضافاً، وقد استعاروا الذات، فجعلوها عبارة عن عين الشيء، جوهراً كان أو عرضاً، واستعملوها مفردة، ومضافة {وأدخلوا عليها} الألف واللام، وأجروا مجرى النفس، والخاصة، وليس ذلك من كلام العرب"(3) .

وقال ابن برهان: " إطلاق المتكلمين الذات في حق الله -تعالى- من جهلهم؛ لأن ذات تأنيث ذو، وهو - جلت عظمته - لا يصلح له إلحاق تاء

(1)"الفتح"(13/381) .

(2)

"مشارق الأنوار"(1/273) ملخصاً.

(3)

"المفردات"(ص182) بتصرف.

ص: 241

التأنيث. وقولهم: الصفات الذاتية، جهل منهم أيضاً؛ لأن النسب إلى ذات: ذوى" (1) .

وقال الكندي: " ذات بمعنى: صاحبة، تأنيث ذو، وليس لها في اللغة مدلول غير ذلك، وإطلاق المتكلمين وغيرهم الذات بمعنى النفس خطأ عند المحققين"(2) .

قال الحافظ: " وتعقب بأن الممتنع: استعمالها بمعنى صاحبة، أما إذا قطعت عن هذا المعنى، واستعملت بمعنى الاسمية، فلا محذور؛ لقوله -تعالى-:{إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (3) أي بنفس الصدور.

وقد حكى المطرزي: كل ذات شيء، وليس كل شيء ذات، وأنشد ابن فارس: فنعم ابن عم القوم في ذات ماله إذا كان بعض القوم في ماله وفر (4)

وقال النووي: " مرادهم بالذات: الحقيقة، وهذا اصطلاح للمتكلمين، وقد أنكره بعض الأدباء عليهم، وقال: لا يعرف ذات، لي لغة العرب، بمعنى حقيقة، وإنما ذات، بمعنى صاحبة، وهذا الإنكار منكر، بل الذي قاله الفقهاء والمتكلمون صحيح، وقد قال الإمام أبو الحسن الواحدي، في أول سورة الأنفال في قوله -تعالى-:{فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} (5) .

قال أبو العباس أحمد بن يحيى، ثعلب:{ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي: الحالة التي بينكم، فالتأنيث عنده للحالة، وهو قول الكوفيين.

(1)"الفتح"(13/382) .

(2)

نفس المرجع.

(3)

المرجع المذكور.

(4)

"الفتح"(13/382) .

(5)

الآية الأولى من سورة الأنفال.

ص: 242

قال: وقال الزجاج: معنى {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} حقيقة وصلكم، والبين: الوصل.

قال الواحدي: فذات عنده بمعنى النفس، كما يقال:" ذات الشيء ونفسه"(1) .

قلت: وهذا الذي ذكره النووي هو ما يقصده البخاري رحمه الله ولهذا قال: " فذكر الذات باسمه -تعالى- " أي: أقام الذات مقام اسمه -تعالى-.

قال الحافظ: " واستعمال البخاري لها، دال على أن المراد بها: نفس الشيء - على طريقة المتكلمين - في حق الله -تعالى-، ففرق بين النعوت، والذات"(2) .

وقال شيخ الإسلام: " لفظ ذات تأنيث ذو، وذلك لا يستعمل إلا فيما كان مضافاً إلى غيره، فهم يقولون: فلان ذو علم، وذو قدرة، ونفس ذات علم وقدرة، وحيث جاء في القرآن أو لغة العرب، لفظ "ذو"، ولفظ "ذات" لم يجيء إلا مقروناً بالإضافة، كقوله -تعالى-: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُم} ، وقوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وقول خبيب: " وذلك في ذات الإله" ونحو ذلك.

لكن لما صار النظار، يتكلمون في هذا الباب، قالوا: إنه يقال: إنها ذات علم وقدرة، ثم إنهم قطعوا هذا اللفظ عن الإضافة، وعرفوه، فقالوا:" الذات" - وهو لفظ مولد - ليس من لفظ العرب العرباء، ولهذا أنكره طائفة من أهل العلم، كأبي الفتح ابن برهان، وابن الدهان، وغيرهما، وقالوا: ليست هذه اللفظة عربية.

(1)"تهذيب الأسماء واللغات"(2/113) القسم الثاني.

(2)

"الفتح"(13/382) .

ص: 243

ورد عليهم آخرون، كالقاضي، وابن عقيل، وغيرهما.

وفصل الخطاب: أنها ليست من العربية العرباء، بل من المولد، كلفظ الموجود، والماهية، والكيفية، ونحو ذلك.

فهذا اللفظ يقتضي وجود صفات، تضاف الذات إليها، فيقال: ذات علم، وذات قدرة، وذات كلام، فإنه لا يمكن وجود شيء قائم بنفسه في الخارج، لا يتصف بصفة ثبوتية أصلاً" (1) .

وقال ابن القيم: " وأصل هذه اللفظة، هو تأنيث "ذو"، بمعنى صاحب، فذات كذا: صاحبة كذا، في الأصل.

ولهذا لا يقال: ذات الشيء، إلا لما له صفات، ونعوت تضاف إليه، فكأنه يقول: صاحبة هذه الصفات، والنعوت.

ولهذا أنكر جماعة من النحاة على الأصوليين قولهم: " الذات"، وقالوا: لا مدخل للألف واللام هنا، كما لا يقال:"الذو"، في ذو. وهذا إنكار صحيح.

والاعتذار عنهم: أن لفظة الذات في اصطلاحهم، قد صارت عبارة عن نفس الشيء، وحقيقته، وعينه.

فلما استعملوها استعمال النفس، والحقيقة، عرفوها باللام، وجردوها من الإضافة، وهذا أمر اصطلاحي، لا لغوي.

فإن هذا اللفظ يقال لما هو منسوب إليه، أو من جهته، كجنب الشيء.

فإذا قالوا: هذا في جنب الله، لا يريدون إلا ما ينسب إليه، وفي سبيله، ومرضاته وطاعته، لا يريدون غير هذا.

فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات، على النفس، والحقيقة، ظن من ظن أن هذا هو المراد بمثل قوله: " ثلاث كذبات في ذات الله،

(1)"مجموع الفتاوى"(6/98-99) .

ص: 244

وقوله: " وذلك في ذات الإله"، وهذا غلط، بل الذات هنا كالجنب، في قوله:{يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: فرطت في نفس الله وحقيقته، ويحسن أن يقال: فرط في ذات الله، كما يقال: قتل في ذات الله، وصبر في ذات الله؟ " (1) .

وبهذا يتبين أن هذا الإستعمال صحيح لا ينكر؛ لأنه أمر اصطلاحي على معنى مفهوم معين.

وبعض الناس يظن أن إطلاق الذات على الله -تعالى- كإطلاق الصفات، أي أنه وصف له، فينكر ذلك بناء على هذا الظن، ويقول: هذا ما ورد. وليس الأمر كذلك، وإنما المراد التفرقة بين الصفة، والموصوف.

وقد تبين مراد الذين يطلقون هذا اللفظ، أنهم يريدون نفس الموصوف وحقيقته، فلا إنكار عليهم في ذلك، كما وضحه كلام شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم.

قال القسطلاني: "والظاهر جواز إطلاق لفظ "ذات"، لا بالمعنى الذي أحدثه المتكلمون، ولكنه غير مردود، إذا عرف أن المراد النفس؛ لثبوت لفظ النفس في القرآن "(2) .

وأما "النعوت" فهو جمع نعت، وهو الوصف، يقال: نعت فلاناً نعتاً، أي وصفه وصفاً، وزنه ومعناه واحد، ومنه الحديث:" لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها، كأنه يراها"(3) .

(1)"بدائع الفوائد"(2/7) ببعض التصرف.

(2)

"إرشاد الساري"(10/379) .

(3)

رواه البخاري في كتاب النكاح، انظر "البخاري مع الفتح"(9/338) .

ص: 245

وأما الأسامي، فهي جمع اسم، وتجمع أيضاً على أسماء.

قوله: " فذكر الذات باسمه -تعالى- أي: ذكر الله بلفظ الذات، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره، فصار دليلاً على جواز ذلك.

واعترض على استدلال البخاري بذلك؛ لأن خبيباً لم يرد الحقيقة، والنفس، وإنما يعني بقوله:" وذلك في ذات الإله" أي: في سبيله وطاعته.

والجواب: أن إطلاق لفظ الذات على الله -تعالى- جائز في الجملة؛ لورود الآثار، فيكون ذلك أصلاً للجواز، ففي الحديث الصحيح المتفق عليه:" أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله"(1) .

وفي حديث ابن عباس: " تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله"(2) .

قال الحافظ: سنده جيد.

وقال أبو الدرداء: " لا تفقه كل الفقه، حتى تمقت الناس في ذات الله ".

قال الحافظ: إسناده ثقات، إلا أنه منقطع" (3) .

وقد تقدمت الإشارة إلى الفرق بين الأسماء والصفات في الباب الأول.

وقد ذكر البخاري رحمه الله قصة خبيب وأصحابه، في كتاب المغازي، وهي مشهورة، فنكتفي بنص ما ذكره البخاري هنا.

(1) رواه البخاري، انظره مع "الفتح"(4/410) ، (5/246) ، ومواضع أخر عدة، ومسلم في "الفضائل".

(2)

قال في "كشف الخفا": رواه أبو نعيم في "الحلية"، وابن أبي شيبة في "العرش"(ص311)(4/1840) .

(3)

"الفتح"(13/383) .

ص: 246

31-

قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية، الثقفي - حليف لبني زهرة، وكان من أصحاب أبي هريرة- أن أبا هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة، منهم خبيب الأنصاري فأخبرني عبيد الله بن عياض، أن ابنة الحارث أخبرته، أنهم حين اجتمعوا، استعار منها موسى يستحد بها، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه، قال خبيب الأنصاري:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً

على أي شق كان لله في مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزع

فقتله ابن الحارث، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم يوم أصيبوا".

ص: 247

قال: " باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} (1) وقوله - جل ذكره -: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (2) ".

المراد بالنفس في هذا: الله -تعالى-، المتصف بصفاته، ولا يقصد بذلك ذاتاً منفكة عن الصفات، كما لا يراد به صفة الذات كما قاله بعض الناس، وسيأتي بيان ذلك من كلام السلف.

قال ابن جرير - رحمه الله تعالى -: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} أن تسخطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قبل لكم به " (3) .

وقال: " ويخوفكم الله من نفسه، أن تركبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن إلى الله مرجعكم، فاتقوه واحذروا أن ينالكم عقابه، فإنه شديد العقاب"(4) .

وقال ابن خزيمة: "أول ما نبدأ به من ذكر صفات خالقنا: ذكر نفسه، جل ربنا عن أن تكون نفسه، كنفس خلقه، وعز عن أن يكون عدماً لا نفس له "(5) .

(1) الآية 28 من سورة آل عمران.

(2)

الآية 116 من سورة المائدة.

(3)

"تفسير الطبري"(6/321) بتحقيق: محمود شاكر.

(4)

المرجع المذكور (6/317) .

(5)

كتاب "التوحيد"(ص5) .

ص: 249

ثم ذكر بعض النصوص في ذلك كقوله -تعالى- {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله -تعالى-: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} ثم ذكر ما رواه البخاري في هذا الباب، وحديث ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى صلاة الصبح وجويرية جالسة في المسجد رجع حين تعالى النهار، قال: " لم تزالي جالسة بعدي؟ "

قالت: نعم. قال: " لقد قلت بعدك أربع كلمات، لو وزنت بهن لوزنتهن (1) : سبحان الله العظيم وبحمده. عدد خلقه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، وزنة عرشه"(2) .

وذكر أيضاً حديث محاجة موسى لآدم، وفيه: "قال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته، واصطنعك لنفسه

" (3) ثم قال: "فالله - جل وعلا- أثبت في آي من كتابه أن له نفساً، وكذلك قد بين على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن له نفساً" (4) .

وفي "صحيح مسلم" في حديث أبي ذر الطويل: " يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا"(5) .

وفي "السنن" عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من

(1) يعني: لو وزنت هذه الأربع بما قلتيه منذ فارقتك لوزنتهن. رواه مسلم في كتاب الذكر.

(2)

كتاب "التوحيد"(ص7) رواه مسلم، كتاب "الذكر" رقم (2726)(4/2090) .

(3)

كتاب "التوحيد"(ص9) وهو في "الصحيحين"، انظر: "الفتح (6/441) ، و (8/434) ، و (11/505) ، ومسلم (4/2043، 2044) .

(4)

كتاب "التوحيد"(ص8) .

(5)

"صحيح مسلم"(4/1994) .

ص: 250

عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (1) .

وتقدم ذكر حديث ابن مسعود في "المسند" مرفوعاً: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك"(2) .

فهذه النصوص واضحة في أن المراد بالنفس هو الله -تعالى- كما قلنا.

ولا يخالف ذلك ما قاله ابن خزيمة والأئمة؛ لأن مقصودهم إثبات ما أثبته الله من غير تعرض له بتأويل أو تمثيل، تعالى الله عن الأمثال والأنداد، والتمسك بالنصوص التي قالها الله ورسوله، مع الإعراض عما يقوله أهل التأويل، وأصحاب

الوساوس الشيطانية، التي تعود على النصوص بالإبطال، وحسب المسلم أن يسعه ما وسع السلف الصالح من الصحابة، ومن سلك طريقهم.

وليس معنى ذلك الإعراض عن معاني النصوص، كما يتوهمه بعض الناس من مذهب السلف، ويعبرون عنه بالتفويض.

بل المقصود إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، مع فقه المعنى اللائق بعظمة الله -تعالى- وفهمه، على ما دل عليه قوله -تعالى-:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ونحوها من الآيات المحكمات، والأمر في هذا واضح لمن تمسك بالكتاب والسنة.

روى ابن جرير، عن مجاهد، في قوله -تعالى-:{إن الساعة آتية أكاد أخفيها} (3) .

(1)"سنن أبي داود"(2/134) ، والترمذي (5/187) رقم (3562) ، والنسائي (3/249) ، وابن ماجه (1/373) رقم (1179) ، ورواه مسلم في "صحيحه"(1/352) رقم (222) .

(2)

"المسند"(5/267)، (6/153) تحقيق: أحمد شاكر.

(3)

الآية 15 من سورة طه.

ص: 251

قال: من نفسي. وأصله عن ابن عباس.

وروي عن أبي صالح: {أكاد أخفيها} قال: يخفيها من نفسه.

وعن قتادة: {أكاد أخفيها} - وهي في بعض القراءات: " أخفيها من نفسي"(1) -: "لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن الأنبياء المرسلين"(2) .

وقال ابن كثير: " أكاد أخفيها" قال الضحاك: عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: "أكاد أخفيها من نفسي"، يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً، وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس، "من نفسه"، وكذا قال مجاهد وأبو صالح، ويحيى بن رافع.

وقال السدي: ليس أحد من أهل السماوات والأرض، إلا وقد أخفى الله عنه علم الساعة، وهي في قراءة ابن مسعود:" إني أكاد أخفيها من نفسي"(3) .

وقال ابن جرير في قوله -تعالى-: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، يقول: إنك يا رب لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لا أنطق به ولم أظهره بجوارحي، فكيف بما نطقت به وأظهرته بجوارحي، لو كنت قد قلت للناس:

{اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} كنت قد علمته، لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما نطقت به؟ {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، لأني إنما أعلم من الأشياء ما علمتنيه" (4) .

(1) هي قراءة ابن مسعود، كما سيأتي عن ابن كثير وابن عباس.

(2)

"تفسير ابن جرير"(16/149) طبعة الحلبي.

(3)

"تفسير ابن كثير"(5/272) طبعة الشعب.

(4)

"تفسير ابن جرير الطبري"(11/238) تحقيق: محمود شاكر.

ص: 252

وقال في قوله -تعالى-: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} " أنعمت عليك - يا موسى - هذه النعم، ومننت عليك هذه المنن، اجتباء مني لك، واختباراً لرسالاتي، والبلاغ عني، والقيام بأمري ونهيي"(1) .

وقال ابن كثير: "أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي كما أريد وأشاء"(2) .

وقال ابن سعيد الدارمي: "وادعى المعارض: أن الله لا يوصف بالضمير، والضمير منفي عن الله، وهي كلمة خبيثة قديمة، من كلام جهم، عارض بها جهم قول الله تعالى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، يدفع بذلك أن يكون الله -تعالى- سبق له علم في نفسه من الخلق وأعمالهم قبل أن يخلقهم.

فرد عليه بعض العلماء، وقالوا: كفرت بها من ثلاثة أوجه:

الأول: أنك نفيت عن الله العلم السابق في نفسه قبل حدوث الخلق.

الثاني: أنك استجهلت المسيح ابن مريم عليه السلام بأنه وصف ربه بأن له خفايا علم في نفسه، إذ يقول:{وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} .

الثالث: أنك طعنت به على محمد صلى الله عليه وسلم إذ جاء به مصدقاً لعيسى..

قال أبو سعيد: "وقول جهم هذا أصل كبير في تعطيل النفس والعلم السابق، ويرد عليه بقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، فذكر المسيح أن لله علماً سابقاً في نفسه، يعلمه الله، ولا يعلمه هو".

ثم روى عن أبي البحتري أنه قال: " لا يقولن أحدكم: اللهم أدخلني مستقر رحمتك، فإن مستقر رحمته نفسه"(3) .

(1)"تفسير الطبري"(16/168) مطبعة الحلبي.

(2)

"تفسير ابن كثير"(4/287) طبعة الشعب.

(3)

نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي، (ص550)"عقائد السلف"، ملخصاً بتصرف.

ص: 253

وقال الراغب: " نفسه: ذاته، وهذا وإن كان قد حصل - من حيث اللفظ - مضاف، ومضاف إليه، يقتضي المغايرة، وإثبات شيئين من حيث العبارة، فلا شيء من حيث المعنى سواه، سبحانه عن الاثنوية من كل وجه"(1)

قال الحافظ: قال البيهقي: والنفس في كلام العرب على أوجه:

منها: الحقيقة، كما يقولون في نفس الأمر، وليس للأمر نفس منفوسة.

ومنها: الذات، قال: وقد قيل في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} إن معناه: تعلم ما أكنه، وما أسره، ولا أعلم ما تسره عني" (2) ، "وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله -تعالى-: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} أي: إياه.

وحكى صاحب "المطالع" في قوله -تعالى-: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ثلاثة أقوال:

أحدها: لا أعلم ذاتك.

ثانيها: لا أعلم ما في غيبك.

ثالثها: لا أعلم ما عندك، وهو بمعنى قول غيره: لا أعلم معلومك أو إرادتك، أو سرك، أو ما يكون منك" (3) .

"قال ابن بطال: في هذه الآيات والأحاديث، إثبات النفس لله -تعالى- وللنفس معان، والمراد بنفس الله -تعالى- ذاته، وليس بأمر مزيد عليه، فوجب أن يكون هو"(4) .

(1)"المفردات"(ص511) .

(2)

"الفتح"(13/384) . ذكر الحافظ كلام البيهقي بالمعنى، فصار أحسن من كلام البيهقي، ولهذا آثرته، وهو في "الأسماء والصفات"(ص286) .

(3)

"الفتح"(13/384) .

(4)

المرجع نفسه.

ص: 254

وقال شيخ الإسلام: "ونفسه هي ذاته المقدسة"(1) .

وقال أيضاً: "ويراد بنفس الشيء: ذاته، وعينه، كما يقال: رأيت زيداً نفسه، وعينه، وقد قال -تعالى-:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، وقال:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال: {ويحذركم الله نفسه} .

وفي الحديث: "سبحان الله رضا نفسه"، وفي الآخر:" إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي".

فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء: الله نفسه التي هي ذاته، المتصفة بصفاته، ليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات.

وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات.

كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ" (2) .

(1)"مجموع الفتاوى"(14/196) .

(2)

"مجموع الفتاوى"(9/292-293) ، باختصار قليل.

ص: 255

32-

قال: " حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وما أحد أحب إليه المدح من الله ".

هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع متعددة، فتقدم في تفسير سورة الأنعام، وفيه:"ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه"(1) . "فذكر النفس ثابت في هذا الحديث، وإن كان لم يقع في هذه الطريق، لكنه أشار إليه، كعادته، فإنه رحمه الله كثيراً ما يترجم ببعض ما ورد في طرق الحديث الذي يورده"(2) .

قلت: وهذه الجملة من الحديث المذكورة في التفسير هي محل الشاهد، فهو يشير إليها.

وسيأتي الكلام - إن شاء الله - في الغيرة بعد أربعة أبواب غير هذا، وتقدم الكلام في النفس ما فيه الكفاية.

قوله: "من أجل ذلك حرم الفواحش " الحرام هو: الممنوع، وتحريم الله -تعالى- للشيء، هو منعه منه شرعاً، أو قدراً، فالشرع نحو ما في هذا الحديث، وهو كثير جداً، أي أمثلته.

وأما القدر فكقوله - تعالى -: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ

(1) انظر: " الفتح"(8/295) .

(2)

"الفتح"(13/385) .

ص: 256

لا يَرْجِعُونَ} (1)، وقوله:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} (2) .

والفواحش: جمع فاحشة، وهي: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، في الشرع، أو في العقل، أو في العرف.

قوله: " وما أحد أحب إليه المدح من الله " كلمة "أحد" لا يوصف بها في الإثبات شيء من الأعيان إلا الله -تعالى-، ولكنها تستعمل في غير الله، في النفي وما في معناه، كالشرط، والاستفهام، وتستعمل في أول العدد، كأحد اثنين وأحد

عشر، ولهذا لم يجيء في القرآن استعمالها لغير الله، إلا في غير الموجب، أو في الإضافة، كقوله -تعالى-:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ}

قال أهل اللغة: " تقول: لا أحد في الدار، ولا تقل: فيها أحد"(3) .

والمدح: هو الثناء الحسن، قال الجوهري:"المدح: الثناء الحسن، وقد مدحه وامتدحه، بمعنى، وكذلك المدحة، والمديح، والأمدوحة"(4) .

وفي كليات أبي البقاء، بعدما ذكر قول الجوهري قال:" وقيل: المدح: الثناء باللسان على الجميل مطلقاً، سواء كان من الفواضل، أو من الفضائل، وسواء كان اختيارياً، أو غير اختياري، ولا يكون إلا قبل النعمة"(5) .

فالمدح: " ذكر محاسن الممدوح، والإخبار عنها على سبيل الثناء والتعظيم بذلك، فإن اقترن بالحب والإرادة، فهو حمد؛ لأن الحمد هو: ذكر محاسن المحمود، والإخبار عنها، مع حبه وإجلاله، وتعظيمه، فهو خبر يتضمن الإنشاء"(6) .

(1) الآية 95 من سورة الأنبياء.

(2)

الآية 12 من سورة القصص.

(3)

"مجموع الفتاوى"(17/137) .

(4)

انظر: "الصحاح"(1/403) .

(5)

"الكليات"(4/277) .

(6)

"بدائع الفوائد"(2/93) .

ص: 257

ومدح الإنسان نفسه نقص يلام عليه، وكذلك طلبه من الناس، وتكلفه لذلك يدل على نقصه، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المدح ولا سيما في الوجه؛ لأن ذلك مظنة الفتنة والاغترار، وقد يكون المدح بالكذب، وربما حمله المدح على ظلم من لم يمدحه.

وفي "صحيح مسلم" عن همام بن الحارث أن رجلاً جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه - وكان رجلاً ضخماً - فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب"(1) .

وروى ابن ماجه عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إياكم والتمادح فإنه الذبح"(2) وسنده حسن، وفي ذلك أحاديث كثيرة.

قال النووي: " قال العلماء: الجمع بين هذه الأحاديث وما جاء دالاً على الجواز - أي جواز المدح - أن النهي محمول على المجازفة في المدح، والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه الفتنة، من إعجاب ونحوه، إذا سمع المدح، وأما من لا يخاف عليه ذلك؛ لكمال تقواه، ورسوخ عقله، ومعرفته، فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة"(3) .

أما الله -تعالى- فلكماله المطلق مدح نفسه؛ لأنه أهل المدح والثناء، ولأن الخلق لا يقدرون على مدحه بما يستحق، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"(4) .

(1)"مسلم"(4/1297) ، و "ابن ماجه"(2/1232) رقم (3742) .

(2)

"السنن"(2/1232) رقم (3743) .

(3)

"شرح مسلم"(18/126) .

(4)

سبق تخريجه قريباً.

ص: 258

قال النووي: " حقيقة مدح العباد لله -تعالى- هو مصلحة للعباد؛ لأنهم يثنون عليه سبحانه فيثيبهم، فينتفعون، وهو سبحانه غني عن العالمين، لا ينفعه مدحهم، ولا يضره تركهم ذلك، وفيه تنبيه على فضل الثناء عليه سبحانه وتسبيحه، وتهليله، وتحميده، وتكبيره، وسائر الأذكار"(1) .

(1)"شرح مسلم"(15/77) .

ص: 259

33-

قال: " حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه - وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش - إن رحمتي تغلب غضبي".

قوله: " لما خلق الخلق " يجوز أن يكون المراد تقدير ذلك وكتابته قبل وجوده وظهوره، ويجوز أن يكون المراد جنس الخلق، فيكون المراد وجوده مخلوقاً.

قوله: "كتب في كتابه" يجوز أن يكون المعنى: أمر القلم أن يكتب، كما قال الحافظ. ويجوز أن يكون على ظاهره بأن كتب -تعالى- بدون واسطة، ويجوز أن يكون قال:" كن" فكانت الكتابة، ولا محذور في ذلك كله، وقد ثبت في "سنن الترمذي " و"ابن ماجه" في هذا الحديث:" إن الله عز وجل لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي"(1) .

ولا يصح أن يراد بالكتابة: الحكم الذي قضاه، نظير قوله -تعالى-:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} ؛ لقوله: " فهو عنده فوق العرش".

وكتابته -تعالى- ذلك؛ لتأكيد هذا الحكم، وإخبار عباده به؛ حتى يؤمنوا به ويعملوا على مقتضاه، أو لحكمة الله أعلم بها، وليس خوفاً من النسيان -تعالى الله -.

قوله: "وهو يكتب على نفسه " جملة حالية يقصد بها بيان أن كتابته

(1) انظر: " سنن الترمذي"(5/210) ، و "ابن ماجه"(2/1435) الحديث رقم (4295) .

ص: 260

-تعالى- لم يحمله عليها أحد، وإنما وقعت بمحض إرادته، تفضلاً منه، وجوداً على خلقه كتبه على نفسه، كما قال -تعالى-:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} .

وقوله: "وهو وضع عنده على العرش" وضع: بفتح الواو، وسكون الضاد، أي موضوع، وكذا جاء في: الجمع بين "الصحيحين"، للحميدي (1) ، وضبط أيضاً بفتح الضاد، على أنه فعل ماض، وبضم الضاد أيضاً، والأول أظهر وأشهر. وقوله:"عنده على العرش" أي أنه -تعالى- وضع الكتاب عنده فوق عرشه،

وسيأتي في باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} بهذا اللفظ: "عنده فوق عرشه". وذلك للاهتمام به، حيث وضعه على عرشه الذي استوى عليه.

كما يدل على أن الله على العرش، مستو عليه، كما قال -تعالى- عن نفسه في مواضع كثيرة من كتابه، وأخبرت به رسله، ويدل على علوه -تعالى-، وسيأتي ذكر ذلك مستوفى -إن شاء الله - في موضعه.

وما نقله الحافظ - عفا الله عنا وعنه - عن شراح كتاب البخاري من تأويل هاتين اللفظتين بالتأويلات الباطلة، المبنية على فساد العقيدة، سيأتي ردها - إن شاء الله - هناك بالبراهين.

قوله: " إن رحمتي تغلب غضبي" الرحمة والغضب كلاهما من أوصاف الله -تعالى-، ولكن الرحمة أوسع وأشمل، فرحمته تعالى وسعت كل شيء، كما قال عن حملة العرش، ومن حوله من الملائكة في دعوتهم للمؤمنين، أنهم يقولون:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (2)، وقال -تعالى-:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (3) وهذه هو معنى غلبها للغضب.

(1) قاله الحافظ ابن حجر في "الفتح"(13/385) .

(2)

الآية 7 من سورة غافر.

(3)

الآية 156 من سورة الأعراف.

ص: 261

وفي هذه النصوص ونحوها كثير أبلغ دليل على ثبوت صفة الرحمة لله -تعالى-، وكذا صفة الغضب، وبذلك يتبين بطلان قول أهل التأويل في هذه الصفة الكريمة من صفات ربنا تبارك وتعالى، وقولهم:" إن الرحمة: رقة القلب، وهي تدل على الضعف والخور في طبيعة الراحم، وتألمه على المرحوم" وهذا قول باطل بالنسبة إلى صفة الله -تعالى-، وبيان ذلك على وجوه:

الأول: أن هذا وصف رحمة بعض المخلوقين من النساء ونحوهن.

وقد علم التفاوت العظيم بين الخالق -تعالى- والمخلوق؛ بالشرع والعقل، والإجماع، وقد تقرر أن الصفة تتبع الموصوف في الكمال، وضده، كما تقدم.

الثاني: أن الضعف والخور مذموم، وهو نقص، وأما الرحمة فممدوحة، كما قال -تعالى-:{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (1) ، مع نهيه -تعالى- عباده عن

الوهن، والحزن، قال -تعالى-:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} (2) ، وحثهم على الرحمة، وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:" من لا يرحم لا يرحم"، وقوله:" لا تنزع الرحمة إلا من شقي"، وقوله:" الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

ومستحيل أن يقول: لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي.

ولما كانت الرحمة في حق كثير من الناس، تقارن الضعف والخور، ظن من غلط في ذلك أنها كذلك مطلقاً.

الثالث: أن أسماء الله -تعالى- حسنى، لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه، وصفاته عليا عن النقص أيضاً، والله -تعالى- قد تمدح بهذه الأسماء والصفات، لأنها تدل على الكمال، فمن المحال أن يلحقها ما يلحق رحمة المخلوق.

(1) الآية 17 من سورة البلد.

(2)

الآية 139 من سورة آل عمران.

ص: 262

34-

قال: " حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، سمعت أبا صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله -تعالى-: " أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من منهم، وإن تقرب إلىّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".

هذا الحديث من الأحاديث القدسية، وهي: ما يذكره الرسول صلى الله عليه وسلم مضافاً إلى الله -تعالى- أنه قاله، ولكنه غير متعبد بتلاوته، ولا هو معجز متحدى به كالقرآن.

والظن يأتي بمعنى العلم واليقين، كقوله -تعالى-:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1) .

ويأتي واسطة بين الشك والعلم، أو بمعنى الشك، كقوله -تعالى- عن الكفار {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} (2) . والقرائن تبين ذلك وتحدده.

فقوله: " أنا عند ظن عبدي بي "، قال صاحب "المرعاة":"يجوز أن يكون على ظاهره، والمعنى: أنا أعامله على حسب ظنه بي، وأفعل به ما يتوقعه مني، من خير أو شر، والمراد: الحث على تغليب الرجاء على الخوف، وحسن الظن بالله -تعالى- على ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله".

(1) الآية 46 من سورة البقرة.

(2)

"المرعاة"(2/414) الطبعة الحجرية.

ص: 263

ويجوز أن يكون المراد بالظن: العلم الموقن، ويكون المعنى: أنا عند علمه بي ويقينه بأن مصيره إليّ، وحسابه عليَّ، وأن ما قضيت به له أو عليه، من خير أو شر، لا مرد له، لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت" (1) .

وقال الحافظ: " أنا عند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أعمل به ما ظن أن أعامله به، وقال الكرماني: وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على

الخوف، وكأنه أخذه من أن العاقل يختار لنفسه وقوع الخير، وهو مقيد بالمحتضر، لما في الحديث:" لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله"(2) .

قلت: قول الحافظ هذا خلاف ظاهر الحديث، إذ هو خبر عن الله -تعالى- أنه عند ظن عبده به، يعني أنه -تعالى- يفعل بعبده ما ظنه العبد أنه يفعله به، وقد جاءت أحاديث مصرحة بذلك، كما في "المسند" من حديث واثلة بن الأسقع، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" قال الله: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله"(3) ، ورواه ابن حبان، وهذا لفظه، وفي هذا أحاديث كثيرة.

وقال في "المفهم": "معنى: "أنا عند ظن عبدي بي" ظن الإجابة عند الدعاء، والقبول عند التوبة، والمغفرة عند الاستغفار، والإثابة على العمل، إيماناً بوعده -تعالى-؛ لما في الحديث "ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة" (4) .

ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في العمل، موقناً بأن الله يقبله، ويغفر له؛ لأنه وعد بذلك، وهو لا يخلف وعده.

(1)"المرعاة"(2/414) الطبعة الحجرية.

(2)

"فتح الباري"(13/385-386) .

(3)

انظر: " المسند"(3/491) و (4/106)، وانظر:" موارد الظمآن"(ص184) .

(4)

رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انظر "السنن"(5/180) قلت: هو ضعيف؛ لأن في سنده صالح المري.

ص: 264

هذا إذا أتى بالعبادة بشروطها، فإن اعتقد أن الله لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فهذا هو اليأس، وهو من الكبائر، وأما ظن المغفرة مع الإصرار على الذنوب، فهو محض الجهل، والغرور. (1)

والحديث معناه واضح كما تقدم، وما ذكره صاحب المفهم من معناه، ووراء ذلك معنى أدق، وهو قرب الله من عبده المنيب إليه، وخير ما يفسر به كلام الرسول صلى الله عليه وسلم كلامه، ولكن لا يعارض النصوص الكثيرة المحذرة من عذاب الله -تعالى- وعقابه، فالأمر كما قال -تعالى-:{نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {49} وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (2) ، وحسن الظن يكون مع حسن العمل،

وقد تشعر الإضافة في قوله: " عبدي" بحسن العمل، أي أنه عبد الله، وليس للشيطان أو للدنيا أو غيرهما. والله أعلم.

قوله: " وأنا معه إذا ذكرني" أي: معه بالإجابة، والتوفيق، وبسماع كلامه، وإثابته عليه، أو بحسب ما قصد في ذكره، ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم، فهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في مثل قوله -تعالى-:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (3) .

ومعية الله -تعالى- بالنسبة لعباده نوعان:

معية عامة للخلق كلهم، كما قال -تعالى-:{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (4) .

وقال -تعالى-: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (5)، ومن مقتضى هذه المعية: اطلاعه -تعالى-

(1) من "الفتح"(13/385-386) .

(2)

الآيتان 49، 50 من سورة الحجر.

(3)

الآية 46 من سورة طه.

(4)

الآية 7 من سورة المجادلة.

(5)

الآية 4 من سورة الحديد.

ص: 265

وعلمه بكل شيء، ومراقبته، وشهوده أفعال عباده، فتفيد الخوف منه -تعالى-.

والنوع الثاني: المعية الخاصة، وهي المذكورة في هذا الحديث، ونحوه، كقوله -تعالى-:{إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (1)، وقوله:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (2)، ومن مقتضى هذه المعية: النصر والتأييد والهداية والحماية.

و"معيته -تعالى- لخلقه، لا تخالف علوه، واستواءه على عرشه، فكل ذلك حق على ظاهره، وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة، كما جمع بينهما في قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا

كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) . فأخبر -تعالى- أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال:"والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه"(4) .

وذلك أن كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت، فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال.

فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ويقال: هذا المتاع معي؛ لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك.

فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة.

(1) الآية 128 من سورة النحل.

(2)

الآية 40 من سورة التوبة.

(3)

الآية 4 من سورة الحديد.

(4)

رواه أبو داود في باب في الجهمية (5/53) ، والترمذي (5/97) ، وابن ماجه (1/69) الحديث رقم (193) ، وقد صححه ابن القيم، وأبطل حجج المضعفين له، انظر:" تهذيب السنن"(7/91) .

ص: 266

ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (1)، دل ظاهر الخطاب أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف أنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.

وقوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (2) حق على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية: الاطلاع والنصر والتأييد، ومثل ذلك قوله {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (3)، وقوله:{إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (4) " (5) ، وسيأتي لذلك بقية.

قوله: "فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" أي: إن ذكر ربه سراً في نفسه، فإن الله -تعالى- يذكره سراً في نفسه، من غير اطلاع أحد من خلقه على ذلك.

وهذا هو محل الشاهد من الحديث، حيث أثبت النفس لله -تعالى- على ما سبق توضيحه.

قوله: "وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" الملأ: الجماعة، والمعنى: أن العبد إذا ذكر ربه ظاهراً في جماعة يسمعون ذكره لربه، فإن الله -تعالى- يذكره ويثني عليه في جماعة أفضل من الجماعة الذين ذكر العبد ربه فيهم؛ لأن الذين يذكر الله عبده فيهم في الملأ الأعلى عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

(1) الآية 4 من سورة الحديد.

(2)

الآية 40 من سورة التوبة.

(3)

الآية 46 من سورة طه.

(4)

الآية 128 من سورة النحل.

(5)

"مجموع الفتاوى"(5/102-104) ملخصاً.

ص: 267

وهذا من أقوى أدلة القائلين بتفضيل الملائكة على صالحي بني آدم، وهي مسألة مشهورة، والراجح فيها: أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أفضل من الملائكة، وتفضيل فرد من النوع لا يلزم منه تفضيل النوع كله على الآخر، والله أعلم.

قوله: " وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".

قرب الله -تعالى- من عابده وداعيه، ثبت في نصوص كثيرة، كقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"(2) .

فالعبد إذا قرب إلى الله -تعالى- بالتوجه والمحبة، وإخلاص العمل، والصدق في ذلك، فإن الله -تعالى- يقرب إليه أكثر من قربه، فكلما زاد قرب العبد إلى ربه بالطاعة والإنابة والحب والإخلاص، زاد قرب الله إليه، حتى يكون قلب العبد بين يدي ربه، كأنه يشاهده بعينيه، وهو -جل وعلا- على عرشه.

قال شيخ الإسلام: " فكلما تقرب العبد باختياره قدر شبر، زاده الرب قرباً إليه، حتى يكون كالمتقرب إليه بذراع، فكذلك قرب الرب من قلب العابد، وهو ما يحصل في قلب العبد من معرفة الرب، والإيمان به، وهو المثل الأعلى"(3) .

وبهذا يتبين أن معنى قوله: " إذا تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً" أن العبد إذا تقرب إلى ربه بطاعته والإقبال عليه، أن الرب تعالى يزيده قرباً إليه، جزاءً من جنس عمله، وأكثر من قرب العبد الذي حصل باختياره.

(1) الآية 186 من سورة البقرة.

(2)

رواه مسلم،:(1/350) ، وأبو داود (1/545) ، والنسائي (2/226) .

(3)

"مجموع الفتاوى"(5/510) .

ص: 268

وقال: "فإذا قرب العبد من ربه بالإنابة إليه، قرب الرب إليه، فيدنو قلبه من ربه، وإن كان بدنه على الأرض، ومتى قرب أحد الشيئين من الآخر، صار الآخر إليه قريباً بالضرورة، وإن قدر أنه لم يصدر من الآخر تحرك بذاته، كما أن من قرب من مكة، قربت مكة إليه"(1) .

وقال أيضاً: "ومن الناس من غلط فظن أن قربه -تعالى- من جنس حركة بدن الإنسان إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى.

والإنسان يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه، فيجد نفسه تقرب من نفوس كثير من الناس، من غير أن ينصرف عمن هي قريبة منه، وكذلك يجد نفسه تبعد بعيداً عن بعض النفوس بعداً غير ما يقوم بالبدن" (2) .

وقال أيضاً: " وليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كمل العبد عبودية ربه قرب إليه -تعالى-؛ لأنه - سبحانه - بر، جواد، محسن، يعطى العبد ما يناسبه، فكلما عظم فقره إليه، كان أغنى له، وكلما عظم ذله له، كان أعز له، فإن النفس- لما فيها من أهوائها المتنوعة، وتسويل الشيطان لها - تبعد عن الله -تعالى- حتى تصير ملعونة بعيدة عن الرحمة، واللعنة هي: البعد عن الله ورحمته.

ومن أعظم ذنوب العبد: علوه في الأرض، ونسيانه ربه، ولهذا لما كان السجود هو غاية سفول النفس، صار أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وكذلك الذكر المتضمن للإقبال على الله، والخضوع له " (3) .

(1)"مجموع الفتاوى"(5/509) .

(2)

المرجع المذكور ببعض التصرف (ص247) .

(3)

المرجع المذكور بتصرف (ص238) .

ص: 269

"وقوله: من تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً

" إلخ، هذا قربه -تعالى- من عابده، وأما قربه من داعيه فكما في الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) ، وقربه تعالى من عابده وداعيه قرب خاص، أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه"(2) .

"فالداعي والساجد تتوجه روحه إلى الله -تعالى-، والروح لها عروج يناسبها فتقرب من الله -تعالى- بلا ريب، بحسب تخلصها من الشوائب، فيكون الله عز وجل منها قريباً، قرباً يلزم منه قربها.

ويكون منه قرب آخر، كقربه عشية عرفة، وفي جوف الليل، وإلى من تقرب منه شبراً، تقرب منه ذراعاً" (3) .

قلت: وبهذا يتبين أن قربه -تعالى- من عباده نوعان:

أولهما: قربه -تعالى- من قلوب المؤمنين، وقرب قلوبهم منه، وهذا أمر معروف لا يجهل، فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة به تعالى، وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، وهذا متفق عليه بين الناس، لم ينكره منهم أحد.

والثاني: ما دل عليه هذا الحديث - الذي نحن بصدد شرحه - ونحوه، مثل قربه عشية عرفة، وقربه آخر الليل، كما ثبتت بذلك النصوص، وهذا القرب ينكره أكثر المتكلمين، من الجهمية، والمعتزلة، والأشعرية، وإنكاره منكر.

(1) الآية 186 من سورة البقرة.

(2)

"بدائع الفوائد"(3/8) ملخصاً.

(3)

"مجموع الفتاوى"(5/241) .

ص: 270

قال شيخ الإسلام: "وقربه - سبحانه - ودنوه من بعض مخلوقاته، لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة، قال -تعالى-:{وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (1) .

والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته، وهو القول المعروف للسلف، والأئمة، وهو قول الأشعري، وغيره من الكلابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وأما

دنوه نفسه، وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، وهو مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر" (2) .

وقوله: "وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" الهرولة: السرعة في المشي، بين المشي والعدو، وهو تمثيل لكرم الله وجوده على عبده، وأنه إذا أقبل إليه، فهو - سبحانه - أسرع إقبالاً وتفضلاً على عبده، من غير مقابل يناله من العبد، بل هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، ويؤخذ من الحديث: عظم فضل الله وكرمه، وعظم فضل الذكر.

(1) الآية 52 من سورة مريم.

(2)

"مجموع الفتاوى" باختصار (5/460-466) .

ص: 271

قال: "باب قول الله -تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) .

أراد البخاري بهذا الباب؟ إثبات صفة الوجه لله -تعالى- وهو ثابت لله -تعالى- في آيات وأحاديث كثيرة، سيأتي ذكر شيء منها.

قال ابن كثير: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} إخبار بأنه الدائم الباقي، الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} أي: إلا إياه" (2) .

قلت: قوله: " فعبر بالوجه عن الذات" لا يقصد نفي صفة الوجه عن الله -تعالى-، وإنما مراده: أن الذات تابعة للوجه، فاكتفى بذلك.

وقد ذكر البخاري رحمه الله هذه الآية في التفسير، وأعقبها بقوله:" إلا ملكه، ويقال: إلا: ما أريد به وجهه"(3) . ولم يذكر غير هذا، فقد يقال: إن هذا تأويل سلك البخاري فيه طريق أهل التأويل، وليس الأمر كذلك.

قال الحافظ: " في رواية النسفي (4) : وقال معمر

فذكره، ومعمر هذا هو أبو عبيدة {معمر} بن المثنى، وهذا كلامه في مجاز القرآن، لكنه بلفظ:

(1) الآية 88 من سورة القصص.

(2)

"تفسير ابن كثير "(6/272) .

(3)

انظر: " الفتح "(8/505) .

(4)

النسفي من رواة الصحيح عن البخاري.

ص: 273

إلا هو، وكذا نقله الطبري عن بعض أهل العربية، وكذا ذكره الفراء" (1) .

قلت: الذي في كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيده، يخالف ما ذكره البخاري، وزعم الحافظ أنه كلامه. فإنه قال على الآية:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} مجازه: إلا هو، وما استثنوه من جميع فهو منصوب" (2) ، وكذا ما ذكره الفراء في "معاني القرآن" فإنه قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} إلا هو، قال الشاعر:

أستغفر الله ذنباً لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل

أي: " إليه أوجه عملي"(3) .

وبهذا يتبين أن الأمر ليس كما قال الحافظ؛ لأن ما ذكره البخاري يختلف عما ذكره الفراء وأبو عبيدة، لفظاً ومعنىً.

قال الحافظ: " قال ابن التين: قال أبو عبيدة: {إِلَاّ وَجْهَهُ} إلا جلاله، وقيل: إلا إياه، تقول: أكرم الله وجهك، أي: أكرمك الله".

وقوله: ويقال: " إلا ما أريد به وجهه" نقله الطبري - أيضاً - عن بعض أهل العربية، ووصله ابن أبي حاتم من طريق خصيف، عن مجاهد مثله، ومن طريق سفيان الثوري قال: إلا ما ابتغي به وجه الله من الأعمال الصالحة" اهـ (4) .

وفي "الدر المنثور": " وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} إلا ما أريد به وجهه.

(1)"الفتح"(8/505) .

(2)

"مجاز القرآن"(2/112) .

(3)

"معاني القرآن"(2/314) .

(4)

"الفتح"(8/505) .

ص: 274

وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} قال: إلا ما أريد به وجهه.

وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن سفيان: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} قال: إلا ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة " (1) .

"قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} بعد قوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ {86} وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {87} وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2) .

فإن ذكر ذلك بعد نهيه عن الإشراك، وأن يدعو معه إلهاً آخر، وقوله:{لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} يقتضي في أظهر الوجهين، وهو أن كل شيء هالك إلا ما كان لوجهه من الأعيان، والأعمال.

روي عن أبي العالية قال: إلا ما أريد به وجهه.

وعن جعفر الصادق: إلا دينه، ومعناهما واحد" (3) .

قال ابن كثير: "وقال مجاهد والثوري " في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} أي: إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في "صحيحه" كالمقرر له.

وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله عز وجل من الأعمال الصالحة، المطابقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

والقول الأول مقتضاه: أن كل الذوات فانية وهالكة وزائلة إلا ذاته -تعالى-، فإنه الأول، والآخر، الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء" (4) .

(1)"الدر المنثور"(6/447) .

(2)

الآيات 86- 88 من سورة القصص.

(3)

"مجموع الفتاوى"(2/427) .

(4)

"تفسير ابن كثير"(6/272) .

ص: 275

والقول الأول هو ما ذكرناه عنه في أول الباب.

فعلى هذا لا يكون قوله: " ما أريد به وجهه" تأويلاً للوجه الذي هو صفة لله -تعالى-، بل هو من المعاني المستنبطة من الآية، كما يشير إليه سياق الآية، فإنه -تعالى- يقول:{وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {87} وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) .

وأما قوله: " إلا ملكه" فهذا تأويل بعيد، وهو مخالف لصنعه هنا، حيث ذكر الآية ثم أتبعها بحديث جابر، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:" أعوذ بوجهك". فهذا ظاهر جداً في أنه أراد إثبات الوجه صفة لله -تعالى-.

ومما يدل على بطلان ذلك: أن الأشياء كلها ملك لله -تعالى-، فهل يجوز أن يقال: كل شيء هالك إلا كل شيء؟ بخلاف قوله: إلا ما أريد به وجهه، فإن هذا مما تدل عليه الآية عن طريق المفهوم - مع بقائها نصاً - في إثبات الوجه لله -تعالى- والله أعلم.

(1) الآيتان 87، 88 من سورة القصص.

ص: 276

35-

قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو، عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} (1) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " أعوذ بوجهك"، فقال: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بوجهك"، قال {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أيسر".

يخوف الله -تعالى- عباده إن لم يطيعوه، ويعبدوه وحده لا شريك له، ويتبعوا رسوله، بأنه قادر على أن يرسل عليهم عذاباً من السماء، كما أرسل على قوم لوط وقوم شعيب، وغيرهم، أو نوعاً آخر مما يشاء.

وهو كذلك قادر بأن يبعث العذاب من تحتهم، إما بخسف أو زلازل، وبراكين، أو غير ذلك مما يشاء، كما قال -تعالى-:{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (2) ، وعندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التهديد من الله -تعالى- عاذ بوجه ربه الكريم أن يكون ذلك.

قال الحافظ: " وقد روى ابن مردويه، من حديث ابن عباس، ما يفسر به حديث جابر، ولفظه: " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين، دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والخسف من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم، وأبي أن يرفع عنهم الأخريين".

(1) الآية 65 من سورة الأنعام.

(2)

الآيتان 16، 17 من سورة الملك.

ص: 277

فيستفاد من هذه الرواية: المراد بقوله: " مِّن فَوْقِكُمْ، أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ "، ويستأنس له بقوله -تعالى-:{أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (1) . وقد وقع أصرح من ذلك، عند ابن مردويه، من حديث أبي بن كعب، قال: في قوله -تعالى-: {عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} قال: الرجم، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: الخسف.

وروى ابن أبي حاتم، من طريق السدي، عن شيوخه: أن المراد العذاب من فوق: الرجم، ومن تحت: الخسف.

وأخرج ابن عباس: " أن المراد بالفوق: أئمة السوء، وبالتحت: خدام السوء " انتهى (2) .

وذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآية أحاديث وآثاراً كثيرة.

قلت: في هذه الآية الكريمة التي ترجم بها البخاري، والحديث الذي ذكره، دليل واضح على وجوب الإيمان بوجه الله الكريم، وقد جاءت نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله تثبت ذلك، ولم يزل أهل العلم والإيمان يسألون ربهم بوجهه الكريم، ويدعونه بأن يرزقهم النظر إليه في الجنة.

ولم ينكر ذلك إلا الجهمية، ومن شايعهم على مذهبهم الفاسد.

قال الله -تعالى-: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (3) .

و"ذو" في الآية: وصف للوجه، فوصف -تعالى- وجهه الكريم بأنه ذو الجلال والإكرام، وهذا يبطل دعوى أن المراد بالوجه: الذات، كما يبطل دعوى كونه زائداً في الكلام.

(1) الآية 68 من سورة الإسراء.

(2)

"الفتح"(8/292) .

(3)

الآيتان 26، 27 من سورة الرحمن.

ص: 278

وفي "صحيح مسلم" عن أبي موسى الأشعري، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال:" إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"(1) سبحات وجهه هي: نوره، وبهاؤه، وجلاله.

وقال أبو سعيد الدارمي رحمه الله: " حدثنا سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: " اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم".

حدثنا موسى بن إسماعيل، وغيره، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال: النظر إلى وجه الله -تعالى- (2) .

حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي شهاب الحناط، عن خالد بن دينار، عن حماد بن جعفر، عن ابن عمر، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم " أن أهل الجنة إذا بلغ النعيم منهم كل مبلغ، وظنوا أن لا نعيم أفضل منه، تجلى لهم الرب، فنظروا إلى وجه الرحمن، فنسوا كل نعيم عاينوه، حين نظروا إلى وجه الرحمن".

وذكر ابن إسحاق في "السيرة" حديثاً طويلاً - فيه: " أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين"(3) .

(1) انظر: " مسلم"(1/162) رقم (293) .

(2)

رواه مسلم في "صحيحه" بلفظ: " النظر إلى الله تعالى "، انظر:(1/163) الحديث رقم (180) .

(3)

ذكره ابن كثير في "تاريخه"(3/196) .

ص: 279

قال أبو سعيد: "وعلى تصديق هذه الآثار، والإيمان بها، أدركنا أهل الفقه والعلم"(1) وذكر أحاديث في ذلك.

وقد تكاثرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بوجه الله -تعالى- كما في هذا الحديث الذي ذكره البخاري، وكما في " الموطأ"، و"مسند أحمد" أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول:" أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات"(2) وفي هذا أحاديث كثيرة.

وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم سؤاله لذة النظر إلى وجه الله الكريم، كما في الحديث السابق وغيره.

وبذها يتبين أن إثبات الوجه والإيمان به متعين، وأنه داخل في الإيمان بالله -تعالى- وهو كسائر صفات الله الثابتة، يجب معرفتها والإيمان بها بدون تأويل، أو تشبيه، بل على ما يجب لله من الإجلال والتعظيم، ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، ولا في أفعاله - تعالى وتقدس - عن ظنون أهل الانحراف والزيغ

من المؤولين والمعطلين الذين جعلوا أنفسهم هي الأصل، فقاسوا عليها ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر عنه رسوله، فحرفوا وعطلوا.

(1) الرد على بشر المريسي (ص518)" عقائد السلف".

(2)

" الموطأ"(2/950- 951) مرسل، و "المسند"(2/419) وهو حسن.

ص: 280

قال: " باب قول الله -تعالى- {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (1) - تغذى- وقوله - جل ذكره-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (2) ".

ققد دل كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم صراحة، وإجماع أهل العلم بالله والإيمان به، على أن الله -تعالى- موصوف بأن له عينين، حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته.

وقد جاء ذكر العين وصفاً لله -تعالى- في القرآن مفردة، مضافة إلى الضمير المفرد، كما جاءت مجموعة، مضافة إلى ضمير الجمع، كما في هاتين الآيتين اللتين ذكرهما البخاري. ولم يأت ذكر العين وصفا لله -تعالى- في القرآن مثناة، ولكن جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث إذا صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجب الإيمان بما دل عليه، والعمل به.

قال ابن القيم: " ذكر العين مفردة، لا يدل على أنها عين واحدة، ليس إلا كقولك: افعل هذا على عيني، لا يريد له أن له عيناً واحدة.

ولما أضيفت العين إلى اسم الجمع، ظاهراً أو مضمراً، حسن جمعها مشاكلة للفظ، كقوله -تعالى-:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (3) ، وقوله -تعالى- {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (4)

(1) جزء من الآية 39 من سورة طه.

(2)

جزء من الآية 14 من سورة القمر.

(3)

جزء من الآية 14 من سورة القمر.

(4)

جزء من الآية 37 من سورة هود.

ص: 281

وهذا نظير لفظ اليد المضافة إلي المفرد، كقوله:{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (1) ، و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (2) ، ولما أضيفت إلى ضمير الجمع جمعت، كقوله -تعالى-:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} (3) .

وقد جاء في كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر العين مضافة إلى الله -تعالى- مفردة، ومجموعة.

وجاءت السنة بإضافتها إليه -تعالى- مثناة، كما قال عطاء: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن العبد إذا قام في الصلاة، قام بين عيني الرحمن، فإذا التفت قال له ربه: إلى من تلتفت؟ إلى خير لك مني ".

وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن ربكم ليس بأعور" صريح بأنه ليس المراد إثبات عين واحدة، فإن ذلك عور ظاهر، تعالى الله عنه.

وهل يفهم من قول الداعي: " اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام" أنها عين واحدة ليس إلا، إلا ذهن أقلف، وقلب أغلف؟

وقد استدل السلف على إثبات العينين لله -تعالى- بقوله - جل وعلا - {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وممن صرح بذلك أبو الحسن الأشعري في الإبانة، والموجز، والمقالات" (4) .

قوله -تعالى-: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} فسر البخاري "تصنع" بتغذى، من التغذية، يقال: صنعت الفرس، إذا أحسنت القيام عليه (5) .

(1) جزء من الآية مفتتح سورة الملك.

(2)

جزء من الآية 26 من سورة آل عمران.

(3)

الآية 71 من سورة يس.

(4)

" مختصر الصواعق"(ص24) ط الإمام.

(5)

" الفتح"(13/389) .

ص: 282

قال ابن كثير: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله -تعالى- وقال قتادة: تغذى على عيني.

وقال معمر بن المثنى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بحيث أرى.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "يعني: أجعله في بيت الملك، ينعم ويترف، غذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة"(1) .

وأسند ابن جرير هذه الأقوال، وروى عن ابن جريج: أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت، ثم في البحر. واختار قول قتادة.

وقال: " وعنى بقوله: {عَلَى عَيْنِي} بمرأى مني، ومحبة، وإرادة"(2) .

قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، قال ابن جرير:" يقول - جل ثناؤه-: تجري السفينة التي حملنا نوح فيها، بمرأى منا، ومنظر"(3) .

قلت: وكذا قال غيره من المفسرين، ومن لازم الرؤية والنظر وجود العين، ففي هاتين الآيتين، وغيرهما من نصوص كتاب الله وحديث رسوله كثير، إثبات العينين

لله -تعالى- اللتين ينظر بهما إلى ما يريد، ولا يحجب نظره حاجب، وقد تقدم وجه الجمع والإفراد في ذلك.

وقال الأزهري: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} قال أصحاب النقل والأخذ بالأثر: الأعين: يريد به العين، قال: وعين الله لا تفسر بأكثر من ظاهرها، ولا يسع أحداً أن يقول: كيف هي، أو ما صفتها؟ - ذكره عن ابن الأنباري-" (4) .

(1)"تفسير ابن كثير"(5/278) ط الشعب.

(2)

"تفسير الطبري"(16/162-163) ط الحلبي.

(3)

المرجع السابق (27/64) .

(4)

انظر: " تهذيب اللغة"(3/205) .

ص: 283

36-

قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله، قال: ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور - وأشار بيده إلى عينه - وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية".

الدجال: الكذاب، ودجله: سحره وكذبه؛ لأنه يدجل الحق بالباطل، أي: يغطيه، وهو رجل من اليهود، يخرج في آخر هذه الأمة، كما جاءت الأحاديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو علي القالي: عن ابن دريد: " كل شيء غطيته فقد دجلته، ومنه اشتقاق دجلة، كأنها غطت الأرض إذا فاضت عليها ".

والدجال من هذا الاشتقاق؛ لأنه يغطي الحق بالباطل.

وقال قوم: سمي بذلك لأنه يغطي الأرض بكثرة جموعه.

وقال آخرون: " يغطي على الناس بكفره"(1) .

وقال الحافظ: الدجال: فعال، بفتح أوله، والتشديد، من الدجل، وهو التغطية، وسمي الكذاب دجالاً، لأنه يغطي الحق بباطله.

وقال ثعلب: " الدجال: المموه"(2) .

قوله: " إن الله لا يخفى عليكم" المؤمن بالله وبأوصافه التي تعرف بها إلى عباده، لا يخفى عليه رب العالمين، فهو -تعالى- {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، ليس له كفؤ ولا ند، فلا يمكن أن يشابه المخلوق الضعيف، المحتاج

(1)"البارع"(ص35) .

(2)

"الفتح"(13/91) .

ص: 284

الناقص، وكل مخلوق له صفة الضعف والحاجة والنقصان، ولا بد، تعالى عن مشابهة خلقه علواً كبيراً.

قوله: " إن الله ليس بأعور" هذه الجملة هي المقصودة من الحديث وفي هذا الباب، فهذا يدل على أن لله عينين حقيقة؛ لأن العور فقد أحد العينين، أو ذهاب نورها.

قال في " القاموس": " العور: ذهاب حس إحدى العينين

والرديء من كل شيء، والضعيف الجبان البليد الذي لا يدل، ولا يندل، ولا خير فيه " (1) .

وعلى كل: العور نقص وعيب في الاتفاق، والمقصود أنه في اللغة هو ذهاب ضوء إحدى العينين.

ولهذا صار هذا الحديث من الأدلة الواضحة على إثبات تثنية العين لله -تعالى-، ويزيد ذلك وضوحاً إشارته صلى الله عليه وسلم إلى عينه لتحقيق الوصف، يعني أن لله عينين سالمتين من كل عيب كاملتين، بخلاف الدجال الفاقد لإحدى عينيه، وذلك من أعظم الأدلة على كذبه.

وقال ابن المنير: " وجه دلالة الحديث على إثبات العين لله، من حديث الدجال من قوله: " إن الله ليس بأعور" من جهة أن العور عرفاً: عدم العين، وضد العور ثبوت العين، فلما نزعت هذه النقيصة لزم ثبوت الكمال بضدها، وهو وجود العين"(2) .

قلت: الحديث فيه إثبات العينين لله -تعالى-، لا عين واحدة، كما قد يتوهمه كلامه.

وقوله: " عرفاً " بل هو لغة قبل العرف.

(1)"القاموس"(2/97) .

(2)

"الفتح"(13/390) .

ص: 285

"وقال شهاب الدين السهروردي في كتاب العقيدة له: أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله، الاستواء، والنزول، والنفس، واليد، والعين، فلا يتصرف فيها بتشبيه، ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله، ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى".

" قال الطيبي: هذا هو المذهب المعتمد، وبه يقول السلف الصالح ".

وقال غيره: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، من طريق صحيح، التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك، ولا المنع من ذكره.

ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه، وينزل عليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} ثم يترك هذا

الباب، فلا يميز ما يجوز نسبته إليه مما لا يجوز، مع حضه على التبليغ عنه بقوله:"ليبلغ الشاهد الغائب" حتى نقلوا أقواله، وأفعاله، وأحواله، وصفاته، وما فعل بحضرته.

فدل على أنهم اتفقوا على الإيمان بها، على الوجه الذي أراده الله منها.

ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، بقوله -تعالى-:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم، فقد خالف سبيلهم، وبالله التوفيق" انتهى (1) .

قال الإمام ابن خزيمة: " بين النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عينين، فكان بيانه موافقاً لبيان محكم التنزيل".

ثم ذكر بسنده حديث أبي هريرة، وقرأ قوله -تعالى- {إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه، وإصبعه التي تليها على عينه"(2) .

(1) المرجع المذكور.

(2)

كتاب "التوحيد"(ص42، 43) .

ص: 286

قوله: " كأن عينه عنبة طافية " أي: قد ذهب ماؤها، فهي ضامرة ملتوية؛ ولهذا جاءت الأحاديث بوصفه بأنه ممسوح العين، كما في "سنن أبي داود" عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إني قد حدثتكم عن الدجال، حتى خشيت أن لا تعقلوا، إن المسيح الدجال رجل قصير، أفحج، جعد، أعور، مطموس العين، ليست بناتئة، وجحراء، فإن لبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور"(1) .

في هذا بيان أن عينه - قبحه الله - قد ذهب ماؤها، فضمرت، وبقيت سادة مكانها، لم تكن غائرة، ولا ناتئة مرتفعة، وهذا هو وصف العنبة إذا ذهب ماؤها.

(1)"سنن أبي داود"(4/496) .

ص: 287

37-

قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، أخبرنا قتادة، قال: سمعت أنساً رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب، إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: كافر".

الإنذار: هو الإخبار مع التخويف، وفي قوله:" ما من نبي " عموم يشمل جميع النبيين، وهو يدل على عظم فتنته وخطره.

وقوله: " الأعور الكذاب" تقدم أن الأعور: من عميت إحدى عينيه بآفة، فأصبح لا يرى إلا بعين واحدة.

ووصف بأنه الكذاب؛ لعظم كذبه، حيث يزعم أنه رب الناس، مع ظهور كذبه، وهو يتدرج في كذبه، فأولا: يدعي أنه مصلح، ثم يدعي أنه نبي، ثم يدعي أنه إله، وهذا أعظم الكذب، وأبينه.

وقد عين رسول الله صلى الله عليه وسلم عينه العوراء، أنها اليمنى، كما في حديث عبد الله ابن عمر، الذي قبل هذا وغيره.

واعلم أن المتكلمين من المعتزلة، والأشعرية، ونحوهم، يزعمون أن من أثبت لله عينين، ويدين، ووجهاً، ونحو ذلك مما جاءت به النصوص، من أثبت ذلك على ظاهر اللفظ، أنه يثبت جوارح، تشبه جوارح الخلق على حد زعمهم، تعالى الله وتقدس عن زعمهم، وظنهم السيء في الله ورسوله، حيث ظنوا أن ظاهر وصف الله نفسه، وظاهر وصف رسوله إياه يقتضي التشبيه، ولهذا تجد الذين تلقوا هذا الفكر، وتأثروا به، من الذين يشتغلون بالحديث، إذا جاء ذكر ذلك قالوا: مثلاً: إثبات صفة اليد لا من حيث الجارحة، إثبات صفة الوجه لا من حيث الجارحة، ونحو ذلك كما يقوله البيهقي في كتابه " الأسماء

ص: 288

والصفات" وسائر شراح الحديث الذين لا يجرؤون على رد النصوص، فهم عندما يتكلمون على مثل هذه النصوص يبادرون إلى نفي الجارحة، كما قال بعض زعمائهم ما يلي:

"زعم قوم، أن لله عينا، يريدون: كجارحة العين من الإنسان، وأرادوا التركيب، واحتجوا بقوله -تعالى-:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (1) ، و {اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (2) ، و {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (3) .

قال أبو سعيد الدارمي - رحمه الله تعالى - في الرد عليه: " أما ما ادعيت أن قوماً يزعمون أن لله عيناً، فإنا نقوله؛ لأن الله -تعالى- قاله، ورسوله.

وأما زعمك أنهم يثبتون جارحة كجارحة العين من الإنسان، على التركيب، فهذا كذب، ادعيته علينا عمداً، وأنت تعلم أن أحداً لم يقله، ولكنك تريد التشنيع، ليكون هنالك مقبولاً لدى الجهال، والكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، فمن الذي قال: إنها جارحة مركبة؟ اذكره، فإن قائله كافر.

وكم تشنع بما تقرر من قولك: جسم مركب، وجوارح، وأجزاء، وأبعاض، تريد أن يكف المؤمنون، عن وصف الله -تعالى- بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصف به رسوله.

ونحن لم نصف الله بجسم كأجسام المخلوقين، ولا بعضو، ولا بجارحة، لكنا نصفه بما يغيظك من هذه الصفات، التي أنت ودعاتك لها منكرون، فنقول: إنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ذو الوجه الكريم، والسمع السميع، والبصر البصير" (4) .

(1) جزء من الآية 39 من سورة طه.

(2)

جزء من الآية 37 من سورة هود.

(3)

الآية 48 من سورة الطور.

(4)

نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي، بتصرف (ص545-546)" عقائد السلف".

ص: 289

وقوله: " إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور" اشتملت هذه الجملة على تأكيد وصف الدجال الكذاب، بأنه أعور العين، أي أنه ناقص، معيب، قد لحقه الضر لفقد إحدى عينيه، فمثله محال أن يكون إلهاً، لأنه فقير محتاج إلى غيره، بالإضافة إلى النقص والعيب الذي فيه، وقد جاء بأعظم الكذب والبهتان، حيث ادعى أنه إله، يتوجه إليه، بطلب الإسعاد، وصرف الشقاء.

كما اشتملت هذه الجملة من الحديث على وصف الله -تعالى- بكمال العينين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:" وإن ربكم ليس بأعور".

فهذا بيان واضح بوصف الله -تعالى- بأن له عينين كاملتين، على ما يليق بعظمته.

قال النووي: " هذه علامة بينة تدل على كذب الدجال، دلالة قطعية، بديهية، يدركها كل أحد"(1) .

قوله: " مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية: " يقرأه كل مؤمن، كاتب، وغير كاتب".

قال النووي: " والصحيح الذي عليه المحققون: أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقية، جعلها الله آية، وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره، وكذبه وإبطاله، يظهرها الله -تعالى- لكل مسلم كاتب، وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا امتناع في ذلك "(2) .

وهذا من رحمة الله بعباده، حيث أظهر علامات كذبه، إظهاراً لا يخفى إلا على من أريد فتنته، وعمي قلبه، وأشرب بحب الباطل، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

(1)"شرح مسلم "(18/60) .

(2)

"شرح مسلم "(18/60) .

ص: 290

قال: " باب قول الله -تعالى-: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} (1) .

قال ابن جرير: " يقول -تعالى- ذكره: هو المعبود الخالق، الذي لا معبود تصلح له العبادة غيره، ولا خالق سواه، البارئ الذي برأ الخلق فأوجدهم بقدرته، المصور خلقه كيف شاء، وكيف يشاء"(2) .

ومراد البخاري بهذا: بيان أن الله -تعالى- متصف بأنه الخالق، البارئ، المصور في الأزل، والأبد، فهو الخالق قبل وجود المخلوق، وهو البارئ قبل وجود المبري، وهو المصور قبل وجود المصوَّر، فهو -تعالى- لم يزل بصفاته ولا يزال، كما يريد أيضاً بيان أن الخلق الذي هو وصفه -تعالى- غير المخلوق، خلافاً لأهل البدع الذين يشير بهذا إلى الرد عليهم.

قال الزجاج: " أصل الخلق في الكلام: التقدير، يقال: خلقت الشيء خلقاً، إذا قدرته، كما قال زهير:

لأنت تفري ما خلقت وبعض

القوم يخلق ثم لا يفري

يعني: أنك إذا قدرت الأمر مضيت في عزمك وفعلته، ولست ممن يقدر الأمر ثم لا يعزم على فعله، بل ينثني عن ذلك.

فالخلق في اسم الله -تعالى- هو: ابتداء تقدير النشء.

فاله -تعالى- خالقها، ومنشئها، وهو متممها، ومدبرها، فتبارك الله أحسن الخالقين. {البارئ} يقال: برأ الله الخلق إذا فطرهم.

والبرء: خلق على صفة، فكل مبروء مخلوق، وليس كل مخلوق مبروءاً، لأن البرء من تبرئة الشيء من الشيء، كما يقال: برأت من المرض، ومن الدين.

(1) الآية 24 من سورة الحشر.

(2)

"تفسير الطبري"(18/56) .

ص: 291

فإذا فصل بعض الخلق من بعض، سمي فاعله بارئاً.

فهو المعنى الذي به انفصلت الصورة بعضها من بعض، فصورة زيد مفارقة لصورة عمرو، وصورة حمار مفارقة لصورة فرص، فتبارك الله خالقاً بارئاً.

{المصور} أي: مصور كل صورة، لا على مثال احتذاه - ولا رسم ارتسمه، -تعالى- عن ذلك علواً كبيراً " (1) .

أي أنه لم يتقدمه أحد فعل ذلك، لا تقديراً، ولا إظهاراً وإيجاداً.

وقال الحافظ: " قال الطيبي: قيل: الألفاظ الثلاثة مترادفة، وهو وهم.

فإن {الخلق} : من الخلق، وأصله التقدير المستقيم، ويطلق على الإبداع، وهو إيجاد الشيء على غير مثال، كقوله -تعالى-:{خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وعلى التكوين، كقوله -تعالى-:{خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} و {البارئ} من البرء، وأصله خلوص الشيء عن غيره، إما على سبيل الخلوص منه، كبرء الرجل من مرضه، والمديون من دينه.

أو على سبيل الإنشاء، كبرء الله النسمة.

و {المصور} مبدع صور المخترعات، ومرتبها على حسب مقتضى الحكمة، فالله -تعالى- خالق كل شيء، بمعنى أنه موجده من أصل، ومن غير أصل، وبارئه، بحسب ما تقتضيه الحكمة، من غير تفاوت، ولا اختلاف، ومصوره في صورة يترتب عليها خواصه ويتم بها كماله.

فالتقدير يقع أولاً، ثم الإحداث على الوجه المقدر يقع ثانياً، ثم التصوير بالتسوية يقع ثالثاً " (2) .

(1)"تفسير أسماء الله الحسنى" ببعض التصرف (ص26-27) .

(2)

"فتح الباري"(13/391) ملخصاً.

ص: 292

وبهذا يتبين الفرق بين هذه الأسماء الثلاثة:

فالخالق: مبدع الأشياء على غير مثال سابق.

والبارئ: موجد الأشياء، ومظهرها إلى الوجود، من أصل ومن غير أصل.

والمصور: الذي خص كل مخلوق بما يميزه عن الآخر، وما تحصل به مصلحته، كما قال تعالى:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1) . ويظهر أن "البارئ" أخص من "الخالق" كما تقدم في كلام الزجاج ما يشير إلى ذلك، وإذا أضيف الخلق إلى الإنسان، فمعناه التقدير، ويأتي بمعنى الكذب.

(1) الآية 50 من سورة طه.

ص: 293

38-

قال: " حدثنا إسحاق، حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا موسى - هو ابن عقبة- حدثني محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن أبي سعيد الخدري، في غزوة بني المصطلق، أنهم أصابوا سبايا، فأرادوا أن يستمتعوا بهن، ولا يحملن، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: " ما عليكم أن لا تفعلوا، فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة"، وقال مجاهد: عن قزعة، سمعت أبا سعيد، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليست نفس مخلوقة، إلا الله خالقها ".

"العزل": هو إنزال الماء خارج فرج المرأة، خوفاً أن تحمل.

قال الحافظ: " هو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج"(1) .

"قوله: ما عليكم أن لا تفعلوا " أي: لا يضركم عدم العزل؛ لأن ما قدره الله -تعالى- من الخلق، فلا بد من وجوده، عزل الإنسان أو لم يعزل، يوضحه ما في رواية مسلم فقال:"لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون"(2) .

وفي قصة الرجل الذي سأل عن العزل عن جاريته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن ذلك لن يمنع شيئاً أراده الله "(3) .

قال الحافظ: " وفي رواية: " لا عليكم أن لا تفعلوا " أي: لا حرج عليكم أن لا تفعلوا العزل، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل، فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل.

(1)"الفتح"(9/305) .

(2)

"مسلم مع النووي"(10/10) .

(3)

"مسلم مع النووي"(10/10) .

ص: 294

ولو أراد نفي الحرج عن العزل لقال: " لا عليكم أن تفعلوا "(1) .

وفي مسلم لما ذكر هذا الحديث "قال محمد" وقوله: " لا عليكم" أقرب إلى النهي" ومحمد هذا هو ابن حاتم. وفيه أيضاً: " وقال ابن عون: فحدثت به الحسن، فقال: والله لكأن هذا زجر" (2) .

قوله: " فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة" هذا يبين عدم فائدة العزل؛ لأن كل نفس قدر الله -تعالى- خلقها، لا بد أن يخلقها، عزلتم أم لا، وما لم يشأ خلقها لا يقع ولو لم يعزلوا، فإن كان الله أراد أن يخلق في تلك المقارنة وذلك الوقت، فلا بد من وجود ذلك ولو حرصتم كل الحرص على عدم الإنزال في الرحم، فلا غالب على أمره، وهو الخالق وحده.

وهذا هو وجه استدلال البخاري في الحديث، فإن الله -تعالى- هو الخالق البارئ المصور وحده، وأن كلا من الأب والأم، لا دخل لهما في ذلك، بل الله -تعالى- هو الذي يقدر خلق هذا المخلوق شاء الناس ذلك أو لم يشاؤوا، وأنه، هو بارئ النسمة من الذكر والأنثى، أو مما يشاء، والخلق كلهم لا يستطيعون فعل شئ من ذلك.

وهو -تعالى- المصور لهذا الإنسان السوي من نطفة متساوية الأجزاء، لو اجتمع عليها أمهر الأطباء، بكل ما أوتوا من علوم وآلات وإمكانيات، لم يستطيعوا أن يصوروا منها شيئاً حياً، فتبارك الله أحسن الخالقين.

فإن قيل: قد يتحكم الإنسان بالحمل إما بالعقاقير أو بوسائل أخرى.

فجوابه: أن ذلك من تقدير الله -تعالى-، ولا يمكن أن يكون شيء خارجاً عن مشيئته وتقديره، وإذا أراد أن يخلق مخلوقاً فلا بد من وجوده، وإن استعملت الوسائل المانعة لذلك.

(1)"الفتح"(9/307) .

(2)

"مسلم مع النووي"(10/11) .

ص: 295

"قال ابن بطال: الخالق في هذا الباب، يراد به: المبدع المنشيء لأعيان المخلوقين، وهو معنى لا يشارك الله فيه أحد ".

"وقال الكرماني: " معنى قوله: إلا وهي مخلوقة، أي مقدرة الخلق، أو معلومة الخلق عند الله -تعالى- لابد من إبرازها إلى الوجود" (1) .

قال شيخ الإسلام: والذي عليه جماهير المسلمين من السلف والخلف: أن الخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الخالق، والمخلوق مفعوله، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بأفعال الرب وصفاته، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ برضاك من سخطك،

وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (2) فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه.

وقد استدل أئمة السنة كأحمد وغيره، على أن كلام الله غير مخلوق، بأنه استعاذ به، فكذلك معافاته ورضاه غير مخلوقة؛ لأنه استعاذ بهما، والعافية القائمة ببدن الإنسان مخلوقة، فإنها نتيجة معافاته " (3) .

وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بسط ذلك وإيضاحه في محله.

(1)"الفتح"(13/392) .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

"مجموع الفتاوى"(6/229-230) .

ص: 296

قال: " باب قول الله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ".

أراد رحمه الله بهذه الترجمة بيان ما أثبته الله -تعالى- لنفسه، من صفة اليدين، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على ظاهر ما نطقت به النصوص المتنوعة الدلالة في ذلك، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.

قال الله -تعالى-: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} (2) .

وقال -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3) .

وقال -تعالى-: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (4) ، {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (5) ، {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في آيات كثيرة وقد ذكر البخاري في ذلك عدة أحاديث.

(1) الآية 75 من سورة ص.

(2)

الآية 64 من سورة المائدة.

(3)

الآية 67 من سورة الزمر.

(4)

جزء من الآية 10 من سورة الفتح.

(5)

فاتحة سورة الملك.

ص: 297

39-

قال: " حدثني معاذ بن فضالة، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجمع الله المؤمنين يوم القيامة، كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا.

فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناك، ويذكر لهم خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا نوحاً، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا إبراهيم -خليل الرحمن - فيأتون إبراهيم، فيقول: لست

هناكم، ويذكر خطاياه التي أصابها، ولكن ائتوا موسى، عبداً آتاه التوراة وكلمه تكليماً فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا عيسى، عبد الله ورسوله، وكلمته، وروحه، فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمد صلى الله عليه وسلم عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

فيأتوني، فانطلق، فاستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن

ص: 298

يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تطعه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة.

ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فاحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة.

ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فاحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة.

ثم أرجع فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود.

قال النبي –صلى الله عليه وسلم: يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة.

ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة.

ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة".

هذا حديث الشفاعة المشهور، وقد ذكره البخاري في أماكن متعددة من جامعه.

والمقصود هنا: قوله: "خلقك الله بيده" حيث جعل ذلك ميزة لآدم من بين الخلق، فدل على أن اليد هنا على ظاهرها، يد حقيقة، ولو كانت كما يقول أهل التأويل: إنها القدرة، لم يكن لآدم اختصاص بذلك، إذ الخلق كلهم مخلوقون بقدرة الله -تعالى-.

ص: 299

قوله: " يجمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك " قال الحافظ: " هكذا للجميع، وأظن أول هذه الكلمة لام – أي لذلك – والإشارة ليوم القيامة – أو لما يذكر بعد.

وعند مسلم: " يجمع الله المؤمنين، يوم القيامة، فيهتمون لذلك، وفي رواية "يلهمون لذلك" (1) .

ومعنى: يهتمون ويلهمون متقارب، أي أنهم يعنون بسؤال الشفاعة، وإزالة الكرب الذي هم فيه، أو أن الله -تعالى- يلهمهم سؤال ذلك، والإلهام: أن يلقي الله -تعالى- في النفس أمراً يحمل على فعل الشيء أو تركه" (2) .

قوله: " فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا " هذا هو الذي يهتمون له – أو يلهمونه – أي لو طلبنا مما هو موجود معنا من الرسل الذين لهم مقام عند الله من يشفع لنا عند ربنا! ليريحنا من عناء هذا الموقف وكرباته، فيحاسبنا ربنا، ويجزينا بأعمالنا، وما نستحق، ثم نصير إلى منازلنا.

قوله: " فيأتون آدم" إلى عيسى، وكلهم يعتذر، ويذكر لهم ذنبه.

فآدم – عليه السلام – يقول: نهاني عن الأكل من الشجرة فعصيته. ونوح – عليه السلام – يقول: دعوت على قومي، فأغرقوا، وسألت ما ليس لي به علم. وإبراهيم – عليه السلام – يقول: كذبت ثلاث كذبات، مع أنهن في سبيل الله، وهن: قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وقوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: للظالم العنيد لما سأله عن زوجته، قال:" إنها أختي"؛ لأنها أخته في الإسلام، ولو قال: إنها زوجته، لأخذها منه ذلك الظالم.

(1)"الفتح"(13/394) .

(2)

"شرح النووي على مسلم"(3/53) .

ص: 300

وموسى – عليه السلام – يقول: قتلت نفساً بغير حق، ولم يذكر لعيسى عليه السلام ذنباً، وهذا كله مع قول عيسى عليه السلام:" ولكن ائتوا محمداً، عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر" يدل على وقوع الذنوب من الأنبياء، وهؤلاء المذكورون هم أفضل الأنبياء، وهي مسألة مشهورة، ولا خلاف أن الكفر بعد النبوة غير واقع منهم، كما أنه لا خلاف في عصمتهم فيما يبلغونه عن طريق القول. وأما الفعل، فقد يقع منهم السهو أو النسيان، أو الخطأ الذي لا يقرون عليه، كما أنهم محفوظون من الذنوب، التي تزري بفاعلها، وتسقط مروءته.

وأما الصغائر فجائز وقوعها منهم، كما دل عليه هذا الحديث في الجملة، وغيره من النصوص الكثيرة، والله أعلم.

وقد تطرف بعض شراح الكتاب وزعم أن من قال بهذا أنه كافر.

ويدل على عظم الأمر، كيف اعتذر من هم أفضل البشر عن الشفاعة معتلين بذنوب أكثر الخلق لا يعدها ذنوباً، وهم قد تابوا منها، واستغفروا ربهم فغفر لهم، وهذا يدل على عظم الله، وعظيم قدره في قلوبهم، وعلى صعوبة الموقف بين يدي الله وشدته، فهل يفهم هذا من يهرع إلى قبور الموتى يطلبون منهم ما لا يطلبه أولو العزم من الرسل من الله -تعالى-؟

وقول كل واحد منهم: " لست هناكم" أي: لست كما تظنون أني أستطيع أن أشفع لكم، فليس ذلك عندي.

قوله: " فأنطلق، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه " يدل على أنه –صلى الله عليه وسلم يقصد مكاناً معيناً، يرى فيه ربه، وسيأتي في باب الرؤية في هذا الحديث " فاستأذن على ربي في داره " وقد قيل: إن المراد بداره هنا الجنة، فالله أعلم.

قوله: " فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً " صريح في أن الرسول –صلى الله عليه وسلم يرى ربه عياناً في ذلك الموقت، وسيأتي ذلك – إن شاء الله تعالى -.

ص: 301

قوله: " فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع" أي: أن الله -تعالى- يمهل له في السجود، فيبقى ساجداً وقتاً طويلاً، يسبح ربه، ويمجده، ويثني عليه، ويحمده، فلا يرفع رأسه من سجوده حتى يأمره الله -تعالى- برفعه، ثم يأذن له -تعالى- بأن يطلب من ربه مراده، وقد علم الله مقصده، ولهذا قال له: اشفع تشفع، وهذا كله من رحمته -تعالى-، فهو الذي ألهم عباده طلب الشفاعة من الأنبياء، وهو الذي أذن في الشفاعة وقبلها، وحقيقة الأمر هو إرادة الله -تعالى- رحمة الخلق وإراحتهم من عناء الموقف، وإظهار كرامة محمد –صلى الله عليه وسلم للخلق في ذلك الموقف العظيم، وإلا فالشفاعة كلها لله.

قوله: " فأحمد ربي بمحامد علمنيها " قد تقدم أن هذا يدل على عدم حصر أسماء الله الحسنى، في تسع وتسعين؛ لأن هذه المحامد بأسمائه الحسنى وصفاته

العليا، وقد جاء في الرواية الأخرى:" فيفتح الله عليّ من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن ".

قوله: " ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة" أي: أن الله –تعالى- يعين له من يشفع فيهم، وهذا من الأدلة الواضحة على أن الرسول –صلى الله عليه وسلم لا يشفع فيمن يريد، بل لمن يأذن الله له في الشفاعة فيهم، وبذلك يتبين أن الشفاعة لله جميعاً، كما صرحت بذلك آيات من كتاب الله –تعالى-:{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) .

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ {22} وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا

(1) الآيتان 43 و 44 من سورة الزمر.

ص: 302

الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) .

بهذه الآية يتبين أن المدعو يجب أن يكون مالكاً لما يدعى من أجله، وإلا كانت دعوته ضلالاً مبيناً، فإن لم يكن مالكاً يكون مشاركاً للمالك، فإن انتفى الأمران، يكون معاوناً وظهيراً مساعداً للمالك، فإن لم يكن ذلك، فلا أقل من أن يكون شافعاً مقبول الشفاعة عند من يملك المطلوب، فنفى الله -تعالى- عن المدعوين من دونه هذه الأمور الأربعة، وبين أن الشفاعة لا تنفع إلا بعد إذنه، وهو – جل وعلا – لا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي عمله، وهم أهل الإخلاص، ومتابعة الرسول وهو -تعالى- لا يرضى عن المشرك، الذي يدعو غير الله -تعالى-.

فيجب على العاقل الذي تعز عليه نفسه أن لا يغتر بما اغتر به كثير من الناس الذين يعتمدون على الشفاعة، مع ما هم فيهم من المعاصي، فأفضل الشفعاء يحد الله له حداً، يقول: هؤلاء أشفع فيهم.

قوله: " فأقول: يا رب، ما بقي إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود" أي: أن أهل التوحيد الذين استحقوا دخول النار بذنوبهم قد خرجوا منها بالشفاعة التي حقيقتها رحمة الله إياهم، بواسطة الشفاعة؛ ليظهر كرامة الشافع كما تقدم، وبقى من نص القرآن على أنه من أهل النار، الذين لا تنالهم شفاعة الشافعين.

قوله: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة

" إلى قوله: " ما يزن برة" يدل على أن مجرد قول: لا إله إلا الله، من دون أن يقوم في القلب شيء من الإيمان، لا ينفع، ولا يخرج من النار، فالمقصود بالخير: الإيمان الذي يقوم في القلب، وإن قل.

كما أنه يدل دلالة واضحة على تفاوت الإيمان وتفاضله، وأن أهل الكبائر من المؤمنين يدخل من يدخل منهم النار ثم يخرجون منها، والله أعلم.

(1) الآيتان 22 و 23 من سورة سبأ.

ص: 303