الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا القول: هو الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأما القول الأول فهو ضلال بين، حيث لم يفرق قائله بين ما يجب على الخالق - تعالى - وما يجب على المخلوق.
"و
الفروق بين الخالق والمخلوق
لا تخفى إلا على من عميت بصيرته"
منها: أن الرب- تعالى - غنى بنفسه عن كل ما سواه، ويمتنع أن يكون محتاجاً إلى غيره، بوجه من الوجوه، وأما الخلق فسادتهم وملوكهم ومن دونهم محتاجون إلى غيرهم، حاجة ضرورية.
ومنها: أن الرب - تعالى - وإن كان يحب الأعمال الصالحة، ويفرح بتوبة التائبين، فهو الذي يخلق ذلك، وييسره، فلا يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته، والمخلوق كثيراً ما يحصل له ما يحبه بغير فعله بل بفعل غيره.
ومنها: أن الرب- تعالى - أمر العباد بما يصلحهم، ونهاهم عما يفسدهم.
قال قتادة: " إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً عليهم، بل أمر بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم" بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه هو، وينهاه بخلاً عليه.
ومنها: أنه - سبحانه - هو المنعم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهو المنعم بإيجاد القدرة والحواس، وغير ذلك مما يحصل به العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده، والمخلوق لا يقدر على شيء من ذلك.
ومنها: أن نعمه - تعالى - على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قدر أن العبادة جزاء لنعمه لم نقم بشكر قليل منها، فكيف والعبادة من نعمه؟
ومنها: أن العباد لا يزالون مقصرين في حقه، محتاجين إلى عفوه، ومغفرته،
فلن يدخل أحد الجنة بعمله (1) ، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة ربه، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} (2) .
فمن ظن أنه قائم بما يجب عليه، وأنه غير محتاج إلى مغفرة ربه وعفوه وهدايته وتوفيقه، فهو ضال" (3) .
والمقصود من الحديث هنا: بيان أن حق الله على عباده هو عبادته – تعالى – الخالصة من الشرك، وهي: طاعته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، فلا يخالف ما جاء عن الله، أو جاء عن رسوله، لغرض أو منفعة عاجلة أو آجلة، وغير ذلك.
ومن ذلك – يعني حق الله على عباده-: اتباع ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله من غير تحريف، ولا إلحاد فيه، ولهذا ترجم على هذا الحديث في كتاب الرقاق بقوله: باب من جاهد نفسه في طاعة الله.
ومراده: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم قد بين ما يجب لله على عباده من عبادته باتباع أمره، واجتناب نهيه، وعبادته بأسمائه وصفاته، وتنزيهه عن مشابهة المخلوق، وما يستحقه من فعل ذلك.
(1) في" صحيح مسلم" عن جابر، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله"(4/2171) رقم الحديث (2817) . وأخرجه البخاري في عدة مواضع من "صحيحه" من حديث أبي هريرة وعائشة. انظر: "الفتح"(11/294) .
(2)
الآية 45 من سورة فاطر.
(3)
"مجموع الفتاوى"(1/216) .
4-
"حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري: " أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، وكأن الرجل يتقالها، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن ".
زاد إسماعيل بن جعفر، عن مالك، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سعيد: أخبرني أخي قتادة بن النعمان، عن النبي –صلى الله عليه وسلم.
أبو سعيد الخدري هو: سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن الأبجر –وهو خدرة- الذي ينسب إليه، أنصاري خزرجي، بايع تحت الشجرة، وغزا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم غزوات عدة، وكان أبوه من شهداء أحد. وأبو سعيد من علماء الصحابة وفقهائهم، والمكثرين الحديث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم.
توفي رضي الله عنه سنة أربع وسبعين (1) .
قوله: " أن رجلاً سمع رجلاً" السامع هو أبو سعيد راوي الحديث، والقاريء هو قتادة، كما بينه البخاري بقوله:"زاد إسماعيل" الخ. وقد جاء مصرحاً به في مسند أحمد، ولفظه:
"بات قتادة بن النعمان يقرأ من الليل كله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فذكر ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم، فقال- صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده: لتعدل نصف القرآن أو ثلثه" (2) .
(1)"الإصابة"(3/78) ، "أسد الغابة"(2/365) .
(2)
"المسند"(3/15)، وانظر:"الفتح الرباني"(18/346) .
"وقتادة هو أخو أبي سعيد لأمه، وكانا متجاورين في السكن"(1)
قوله: " وكأن الرجل يتقالها" بتشديد اللام، أي: يعدها قليلة بالنسبة إلى غيرها من سور القرآن "يقال": تقلل الشيء واستقله وقاله: إذا رآه قليلاً. والمراد أنه رآها قليلة في العمل، لا أنه عدها ناقصة" (2) .
قوله: " والذي نفسي بيده" كان-صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحلف بهذه الصيغة، وقد ذكر البخاري- رحمه الله – في الأيمان والنذور في باب: كيف كانت يمين النبي-صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث بهذا اللفظ.
وقد روى الطبراني، وابن ماجة، عن رفاعة بن عرابة:" كان النبي –صلى الله عليه وسلم إذا حلف قال: والذي نفسي بيده".
وروى ابن أبي شيبة، عن أبي سعيد: كان النبي-صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في اليمين قال: " لا والذي نفس أبي القاسم بيده". ورواه ابن ماجه من وجه آخر، بلفظ:"كانت يمين رسول الله التي يحلف بها – أشهد عند الله- والذي نفسي بيده"(3) .
قلت: وحديث أبي سعيد رواه أبو داود في "السنن"(4) .
فقوله: " والذي نفسي بيده" أي روحي، وحياتي وموتي، يتصرف في كيف يشاء. وسيأتي، إن شاء الله تعالى – الكلام على صفة اليد، وأنها من صفات الله الثابتة قطعاً، وأنها يد حقيقية تليق بعظمة الرب وقدره، تعالى وتقدس عن مشابهة الخلق، وعن الظنون السيئة التي أوجبت لأصحابها تعطيل الله- تعالى- عن
(1)"فتح الباري"(9/61) .
(2)
"المنهل العذب المورود"(8/113) .
(3)
"فتح الباري"(11/526) .
(4)
انظر: الحديث رقم (3264) .
صفاته، ودعتهم إلى الإلحاد في أسمائه وصفاته.
قوله: " إنها لتعدل ثلث القرآن " عدل الشيء بفتح العين: ما عادله من غير جنسه، والعدل بكسر العين: المثل، تقول: عندي عدل شاتك، أو عدل مالك، إذا كان عندك شاة مثل شاة من تخاطبه، ومال مثل ماله، فإن أردت ما يعادل ذلك من غير جنسه فتحت العين، ذكر ذلك بعض أهل اللغة. (1)
ومعنى كونها تعدل ثلث القرآن: أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: ثلث منه الأحكام وبيان الحلال من الحرام.
وثلث منه الوعد والوعيد، والجزاء، وما وقع بمن كذب الله ورسله، وما سيقع بهم في الآخرة، وكذا من أطاعه.
وثلث منه في أسماء الله تعالى وصفاته. وهذه السورة خالصة في الأسماء والصفات، قاله أبو العباس ابن سريج، وغيره من السلف.
واعتراض ابن عبد البر على هذا: بأن في القرآن آيات كثيرة اشتملت على أكثر مما في هذه السورة من التوحيد، كآية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وأول سورة الحديد، قد أجاب عنه القرطبي في شرحه لمسلم: بأن سورة الإخلاص قد اشتملت على اسمين من أسماء الله متضمنين جميع أوصاف الكمال، ولم يوجدا في غيرها من السور، وهما "الأحد" و"الصمد".
" والقرآن باعتبار معانيه ثلاثة أقسام: توحيد، وقصص، وأمر ونهي، وكله كلام الله تعالى، والكلام إما إنشاء، وإما إخبار.
فالإنشاء: هو الأمر والنهي، وما يتبع ذلك كالإباحة.
والإخبار: أما عن الخالق - تعالى -، أو عن المخلوق، فالإخبار عن الخالق
(1) انظر: " ترتيب اللسان"(3/707) .
هو التوحيد وما يتضمنه من أسماء الله وصفاته.
والإخبار عن المخلوق، هو القصص، وهو الخبر عما كان، وما يكون.
و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هي صفة الرحمن خالصة لذلك، وبهذا الاعتبار عدلت ثلث القرآن؛ لما فيها من التوحيد، الذي هو ثلث معاني القرآن، وليس معنى ذلك أنه يكتفي بها عن سائر القرآن، بمعنى أن من قرأها ثلاثاً كفاه عن قراءة القرآن؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم قال:" إنها تعدل ثلث القرآن ".
وقد تقدم أن عدل الشيء- بالفتح- يطلق على ما ليس من جنسه، كما قال تعالى:{أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} فجعل الصيام عدل الكفارة، وهما جنسان.
فثواب قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وإن كان يعدل ثواب قراءة ثلث القرآن في القدر، فلايلزم أن يكون مثله في النوع والصفة؛ لأنها لا تغني عما اشتمل عليه القرآن من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وسائر ما يحتاج إليه العباد. فالناس محتاجون إلى جميع القرآن، ومنتفعون به لا تغني عنها سورة الإخلاص، وإن كانت تعدل ثلث القرآن " (1) .
وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة على تفاضل كلام الله – تعالى -، وصافته، وهو المأثور عن السلف، وعليه أئمة الفقهاء وغيرهم، ونصوص الكتاب والسنة تؤيد ذلك.
قال الله – تعالى –: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (2) فأخبر- تعالى – أنه يأتي بخير منها أو مثلها، فدل على أن الآيات تتماثل مرة، وتتفاضل أخرى، والتوراة، والإنجيل والقران كلها كلام الله – تعالى – وقد أجمع
(1)"مجموع الفتاوى"(17/207-208) بتصرف.
(2)
الآية 106 من سورة البقرة.
المسلمون على أن القرآن أفضلها، كما قال - تعالى - {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (1) أي هو المؤتمن، والشاهد، والحاكم، على ما سبقه من الكتب.
وأما الأحاديث فكثيرة، من جملتها هذا الحديث، ومن تأمل كلام السلف، ومن سار على نهجهم، علم أن هذا من الأمور المستقرة في نفوسهم، ولم يعرف من السلف من قال: لا يكون كلام الله بعضه أشرف من بعض؛ لأنه كله من صفات الله، وإنما حدث ذلك لما ظهرت البدع من المعتزلة، والجهمية، ومن سلك طريقهم، الذين اختلفوا في القرآن، وجعلوه عضين.
وتفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه - سواء كان خبراً أو إنشاء - أمر معلوم بالفطرة، والشرع، فليس الخبر المتضمن حمد الله والثناء عليه بأسمائه الحسنى، كالخبر المتضمن لذكر إبليس، وفرعون وأبى لهب، ونحوهم، وإن كان الكل كلاماً عظيماً تكلم الله به.
وكذلك ليس الأمر بالتوحيد، والإيمان بالله ورسله، والنهي عن الشرك وقتل النفس بغير حق، والزنا، وغير ذلك مما أمرت به الشرائع كلها، أو حرمته، كالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، أو الأمر بالإنفاق على الحامل، والنهي عن قول:"راعنا" وإن كان لكل واجباً.
وليس تفاضل الكلام باعتبار نسبته إلى المتكلم به، فإنه سبحانه واحد، ولكن باعتبار معانيه التي يتكلم بها، وباعتبار ألفاظه المبينة لمعانيه.
قال شيخ الإسلام: " الكلام له نسبتان: نسبة إلى المتكلم به، ونسبة إلى المتكلم فيه، فهو يتفاضل باعتبار النسبتين، وباعتبار نفسه أيضاً، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} كلاهما كلام الله - تعالى -، وهما مشتركان من هذه
(1) الآية 48 من سورة المائدة.
الجهة، ولكنهما متفاضلان من جهة المتكلم فيه، المخبر عنه، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كلام الله وخبره الذي يخبر عن نفسه، وصفته التي يصف بها نفسه، وكلامه الذي يتكلم به عن نفسه.
و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} كلام الله الذي يتكلم به عن بعض خلقه، ويصف به حاله، فهما من هذه الجهة متفاضلان" (1) .
ولا يلزم من كثرة الحروف أفضلية ذلك، كما توهمه بعض العلماء؛ لأن الفضل يتبع تفاضل المعاني.
فحروف الفاتحة لقارئها بكل حرف حسنة أعظم من حسنات {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}
فلا يلزم من مماثلة الشيء مساواته في الفضل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه لو أنفق من جاء بعد السابقين مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحد السابقين إلى الإسلام، ولا نصيفه"(2) .
قال شيخ الإسلام: " فإذا قرأ الإنسان {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حصل له من الثواب بقدر ثلث القرآن، لكن لا يلزم أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل بقراءة ثلث القرآن؛ لأن الإنسان يحتاج إلى ما يحصل له من ثواب الأمر والنهي والقصص، وغير ذلك، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا تسد مسد ذلك، ولا تقوم مقامه، مع أن فضل القراءة والذكر والدعاء وغير ذلك، يختلف باختلاف حال الإنسان، فالقراءة بتدبر أفضل من القراءة بلا تدبر، والصلاة بخشوع وحضور
قلب، أفضل من الصلاة بدون ذلك، فإذا كانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يعدل
(1)" مجموع الفتاوى"(17/57) .
(2)
رواه البخاري في "فضائل الصحابة" ولفظه: " لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" انظر: " الفتح"(7/21) ، ورواه مسلم في "الفضائل"(4/1967) .
ثوابها ثواب ثلث القرآن، فلا بد من اعتبار التماثل في سائر الصفات، وإلا فقراءة غيرها مع التدبر والخشوع أفضل من قراءتها مع الغفلة والجهل.
والناس متفاضلون في فهم هذه السورة، وما اشتملت عليه، كما هم متفاضلون في فهم سائر القرآن" (1) .
وهذا الحديث يدل أيضاً على تعدد صفات الرب تعالى، وتفاضلها؛ لأن القرآن كله، وكلامه من صفاته.
والتفاضل إنما يقع بين شيئين فصاعداً، إذ الواحد لا يعقل فيه شيء أفضل من شيء، وقد دلت النصوص الكثيرة على تعدد أسمائه تعالى وصفاته، وأن لها معاني متعددة، وهذا المعنى هو الذي قصده البخاري بهذا الحديث، فيما ظهر لي، ولا شك أن فضل هذه السورة لما اشتملت عليه من أوصاف الله تعالى، ولهذا أعقب ذلك بأن ترجم بقوله تعالى:{قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) .
وقال الحافظ: " مراده ما فيه من التصريح بلفظ الأحدية في وصفه تعالى، كما في الذي بعده"(3) .
وقول ابن بطال: " ومذهب الأشعري، وأبي بكر بن الطيب الباقلاني، وابن أبي زيد، والداودي، وأبى الحسن القابسي، وجماعة علماء السنة: أن القرآن لا يفضل بعضه بعضاً، إذ كله كلام الله وصفته، وهو غير مخلوق، ولا يجوز التفاضل إلا في المخلوقات ".
ومثله قول ابن الدراج: "أجمع أهل السنة على أن ما ورد مما ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره، ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض، إذ هو
(1)" مجموع الفتاوى"(17/138-140) بتلخيص وتصرف.
(2)
الآية 110 من سورة الإسراء.
(3)
"الفتح"(13/355) بالمعنى.
كله كلام الله، وصفة من صفاته" (1) .
فهذا النقل عمن ذكرهم، والزعم بأن هذا مجمع عليه من أهل السنة هو بحسب ظن هؤلاء- يعني ابن بطال ومن يقول ذلك - لأنهم ظنوا: أن هذا القول الذي هو عدم المفاضلة لازم لمن يقول: إن القرآن كلام الله، فهو من صفاته، والتفاضل لا يكون إلا في المخلوقات، والقرآن عندهم غير مخلوق.
وهو ظن خطأ، فلم ينقل عن أحد من السلف أنه نفى المفاضلة بين آيات القرآن وسوره، ونحن نطالب مدعي الإجماع على نفي ذلك بالدليل، ولن يجد ذلك، والنصوص من الكتاب والسنة تبطل هذه الدعوى كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وابن بطال -عفا الله عنا وعنه- كثيراً ما يدعي الإجماع على مسائل، الحق خلافها، كما ستأتي الإشارة إلى بعضها، إن شاء الله تعالى.
(1) انظر"مجموع الفتاوى"(17/73) .
5-
"حدثنا محمد، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو، عن ابن أبي هلال، أن أبا الرجال محمد بن عبد الرحمن حدثه، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن- وكانت في حجر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم فقال:"سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ " فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم "أخبروه أن الله يحبه".
عائشة بنت أبي بكر الصديق، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيبته، كانت فقيهة ربانية، وعالمة بأشعار العرب وأنسابهم، وأيامهم.
أكثرت عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم الرواية، فلذلك صارت مرجعاً للصحابة في كثير من أمور الدين، فهي من حفاظ الصحابة وعلمائهم.
روى عنها خلق كثير من الصحابة والتابعين.
ولدت-رضي الله عنها سنة أربع من البعثة النبوية، وتزجها رسول الله-صلى الله عليه وسلم بعد موت خديجة-رضي الله عنها بثلاث سنوات، ودخل بها في المدينة، وهي أبنة تسع سنوات، وتوفي عنها ولها من العمر ثماني عشرة سنة، ومات-صلى الله عليه وسلم وهي حاضنته على صدرها.
مناقبها كثيرة، توفيت في المدينة سنة سبع-أو ست- وخمسين، وقيل: ثمان
وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت في البقيع، رضي الله عنها (1) .
قوله: "بعث رجلاً على سرية" هذا غير الرجل المتقدم ذكره في باب الجمع بين السورتين في ركعة واحدة؛ للفروق الواضحة بين القصتين.
والسرية قطعة من الجيش، يقال: خير السرايا أربعمائة رجل، وفي "اللسان""ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة، سميت سرية؛ لأنها تسري ليلاً في خفية؛ لئلا ينذر بهم فيحذر الأعداء ويمتنعوا"(2) .
قوله: "فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال ابن دقيق العيد: يدل على أنه كان يقرأ بغيرها، والظاهر أنه كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مع غيرها في ركعة واحدة، ويختم بها في تلك الركعة، وإن كان اللفظ يحتمل أن يكون يختم بها في آخر ركعة يقرأ فيها السورة"(3) .
وقوله: " لأنها صفة الرحمن" قال ابن دقيق العيد: "يحتمل أن يراد: أن فيها ذكر صفة الرحمن، كما إذا ذكر وصف، فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصف، وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف، ويحتمل أن يراد به غير ذلك، إلا أنه لا يختص ذلك بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ولعلها خصت بذلك لاختصاصها بصفات الرب-تعالى- دون غيرها"(4) .
قلت: يريد بيان قول الصحابي لها بما ذكر، أنها خالصة لذكر وصف الرحمن تعال وتقدس.
(1) انظر: "الحلة"(2/43) ، "أسد الغابة"(7/188) ، "الاستيعاب"(4/1881) ، "الإصابة"(4/359) ، "سير أعلام النبلاء"(2/135) .
(2)
"ترتيب اللسان"(2/141) .
(3)
"شرح العمدة"(1/246) .
(4)
المصدر نفسه (1/247) .
وقوله: إلا أنه لا يختص ذلك بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . يعني أن أوصاف الرحمن-تعالى- موجودة في آيات كثيرة من القرآن.
وهذه السورة وسائر سور القرآن هي صفة الرحمن؛ لأنها كلامه، وكلامه من صفاته، ولكن تميزت هذه السورة بأنها خالصة لذكر أوصاف الرحمن-تعالى- وهذ هو المتبادر إلى الفهم من مراد الصحابي-رضي الله عنه أي أنها خالصة لوصف الرحمن-تعالى- دون غيره.
"قال ابن التين: إنما قال: لأنها صفة الرحمن؛ لأن فيها أسماؤه مشتقة من صفاته. وقال غيره: يحتمل أن الصحابي قال ذلك مستنداً إلى شيء سمعه من النبي-صلى الله عليه وسلم إما بالنص، أو بالاستنباط. وروى البيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس-رضي الله عنهما أن اليهود أتوا النبي-صلى الله عليه وسلم فقالوا: صف لنا ربك؟
فأنزل الله-عز وجل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخرها، فقال:"هذه صفة ربي-عز وجل"(1)
وفي الحديث حجة لمن أثبت أن لله صفات، وهو قول الجمهور، وشذ ابن حزم فقال:" هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام، من المعتزلة، ومن تبعهم، ولم يثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، فإن اعترضوا بحديث الباب، فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال، وفيه ضعف، وعلى تقدير صحته فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} صفة الرحمن، كما في هذا الحديث، ولا يزاد عليه، بخلاف الصفة التي يطلقونها، فإنها في لغة العرب لا تطلق إلا على جوهر، أو عرض"(2) .
وسعيد متفق على الاحتجاج به، فلا يلتفت إلى تضعيفه،
(1) انظر" الأسماء والصفات" للبيهقي (ص279) ، وفيه تسمية بعضهم، وقد ذكر عدة أحاديث بمعناه.
(2)
انظر: "الفصل"(2/284) ، وقد أطال الكلام على هذا المعنى، واحتج بأشياء لا تدل على مراده.
وكلامه الأخير مردود، باتفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال الله تعالى:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1)، وقال تعالى:{لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) ، والأسماء المذكورة فيها صفات، ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته" (3) .
قلت: كلام ابن حزم رحمه الله باطل، ولا حجة له فيما ذكر، لأن الصفة: مصدر وصفت الشيء أصفه وصفاً، وصفة، مثل: وعد، وعداً، وعدة.
فإذا قيل: إن الله بكل شيء عليم، وهو رحمن رحيم، وعلى كل شيء قدير، فالمعاني القائمة بالرب - تعالى - التي دل عليها هذا الكلام، من العلم، والرحمة والقدرة، هي الصفات المقصودة، وإنكار ذلك مكابرة، أو عناد وضلال، وإلحاد.
وقد دلت نصوص كتاب الله -تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والفطرة والعقل على ذلك، قال الله تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} (4) .
وقال - تعالى -: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (5)، وقال -تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (6) . وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (7) .
وقال - تعالى-: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (8) .
(1) الآية 180 من سورة الأعراف.
(2)
الآية 8 من سورة طه.
(3)
"فتح الباري"(13/356-357) .
(4)
الآية 255 من سورة البقرة.
(5)
الآية 166 من سورة النساء.
(6)
الآية 58 من سورة الذاريات.
(7)
الآية 8 من سورة المنافقون.
(8)
الآية 7 من سورة غافر.
وفي الحديث الصحيح: " اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك"(1) .
وفي حديث عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق"(2) .
وفي "صحيح البخاري" في قصة أيوب: " قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك"(3) .
وقال البخاري: " باب الحلف بعزة الله وصفاته، وكلماته"، وقال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أعوذ بعزتك، وقال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يبقى رجل بين الجنة والنار، فيقول: يارب، اصرف وجهي عن النار، لا وعزتك
لا أسألك غيرها. ثم ذكر حديث أنس: " لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط، وعزتك". (4)
وفي هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه: " لأنها صفة الرحمن".
وقال الله - تعالى -: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (5) وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته.
فثبت بهذه النصوص، وغيرها كثير، أن لله صفات، وأن كل اسم تسمى الله به يدل على الصفة؛ لأن الأسماء مشتقة من الصفات.
وبهذا يتبين بطلان قول المعتزلة، الذين ينفون أن يكون لله علم وقدرة ومشيئة، ويجعلون هذه الصفة هي الأخرى، أو الصفة هي الموصوف، كما يتبين
(1) هو حديث جابر، انظر "البخاري"(2/50) وسنن " أبي داود" رقم (1538) ، والترمذي رقم (480) ، وسيأتي.
(2)
انظر: " سنن النسائي"(3/54، 55) في السهو في باب نوع آخر من الدعاء.
(3)
"صحيح البخاري" كتاب التهجد، باب (20) ، (1/54) وفي مواضع أخرى، وسيأتي.
(4)
"الصحيح"، كتاب الأيمان والنذور، باب (12) ، (8/114) ، وسيأتي ذلك.
(5)
الآية 180 من سورة الصافات.