المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري - الغنيمان - جـ ١

[عبد الله بن محمد الغنيمان]

الفصل: ‌ يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة

40-

قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "

‌ يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة

، سحاء الليل والنهار" وقال:" أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده". وقال: " عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان، يخفض، ويرفع".

جاء في أول هذا الحديث في تفسير سورة هود: " أنفق أنفق عليك"(1) . وسيأتي كذلك، في باب قوله -تعالى-:{يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} .

وهو عند مسلم بلفظ: " إن الله قال لي: أنفق أنفق عليك" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمين الله ملأى" إلى آخره (2) .

وسيأتي في باب " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء " بلفظ: " إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه عل الماء، وبيده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض" وهو أبلغ في الدلالة على إثبات اليدين لله -تعالى- مما ها هنا.

وقد اضطرب أهل التأويل في تأويلهم اليد اضطراباً يدل على أنهم على باطل.

والعاقل المنصف يعجب إذا رأى ما كتبه ابن حجر في شرحه لهذا الباب،

(1) انظره مع الفتح (8/352) .

(2)

انظر: " مسلم"(2/691) الحديث رقم (37) ، و (ص690) الحديث رقم (36) .

ص: 304

فإنه ذكر بعض أقوال أئمة الأشعرية، ثم قال:" واليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة، اجتمع لنا منها خمسة وعشرون ومعنى"(1)

والنصوص في هذا الباب جاءت معينة معنى واحداً لا غير، هو يدا الله الكريمتان، وما عدا ذلك فهو بهتان عظيم.

قوله: " يد الله ملأى" ذكرنا أنها عند مسلم، وعند البخاري في مواضع غير هذا، بلفظ "يمين الله " بدل:" يد الله"، قال الحافظ:" يتعقب بهذه الرواية على من فسر اليد بالنعمة، وأبعد منه من فسرها بالخزائن "(2) .

قلت: هذا التفسير باطل، ولا يصح أن يسمى تفسيراً، وإنما هو تحريف للكلام عن مواضعه، كفعل اليهود، كما سيأتي بيان ذلك - إن شاء الله تعالى -.

و"ملأى" بفتح الميم، وسكون اللام، وهمزة، مع القصر، أي أنها: شديدة الامتلاء بالخير.

قوله: " لا يغيضها " أي: لا ينقصها، يقال: غاض الماء يغيض، إذا نقص.

قوله: " سحاء" بفتح السين والحاء المشددة، ممدوداً، أي دائمة الصب.

"الليل والنهار" منصوبان على الظرفية، أي: يد الله دائمة السح في الليل والنهار.

قوله: " أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ " استدلال، وإيضاح لكثرة نفقته تعالى، وتنبيه لمن له بصيرة إلى ذلك.

قوله: " فإنه لم يغض ما في يده" أي: هذا الإنفاق الهائل، المستمر الدائم بدون توقف، لم ينقص ما في يده -تعالى-؛ لأن بيده الخير كله لا مانع لما أعطى، ولا معطي لمن منعه، وإذا أراد شيئاً قال له: كن، فيكون.

قوله: "وعرشه على الماء" قال الحافظ: " مناسبة ذكر العرش هنا: أن

(1) انظر " فتح الباري"(13/394) .

(2)

"الفتح"(13/395) .

ص: 305

السامع يتطلع من قوله: " منذ خلق السماوات والأرض " ماذا كان قبل ذلك؟ فذكر أن عرشه قبل خلق السماوات والأرض، كان على الماء " (1) .

قوله: " وبيده الأخرى، الميزان، يخفض ويرفع" الميزان: العدل، الذي به يرفع من يكون أهلاً لأن يرفع، ومن هو موضع له، فيتفضل عليه برفعه بالإيمان وقبول الحق، بأن يحبب إليه الإيمان، ويزينه في قلبه، ويكره إليه الكفر والفسوق، والعصيان، ويجعله من الراشدين، وهذا أعظم الرفع. ويخفض من ليس أهلاً

لذلك، بأن يمنع فضله عنه، ويكله إلى نفسه، فيضل، ويتولاه عدوه فيصبح خاسراً، وهذا أعظم الخفض؛ لأنه يصير إلى أسفل سافلين، في جهنم - نعوذ بوجه الله منها - وأمور الدنيا تبع لذلك.

"قال الطيبي: يجوز أن يكون "ملأى" و"لا يغيضها" و"سحاء" و"أرأيتم" أخبار مترادفة ليد الله، ويجوز أن تكون الثلاثة أوصافاً "لملأى" ويجوز أن يكون "أرأيتم" استئنافاً فيه معنى الترقي، كأنه لما قيل: "ملأى" {خشي} إيهام جواز النقصان، فأزيل بقوله: " لا يغيضها" وقد يمتلئ الشيء ولا يغيض، فقيل: "سحاء" إشارة إلى الفيض - وهو كثرة العطاء - وقرنه بما يدل على الاستمرار، من ذكر الليل والنهار، ثم أتبعه بما يدل على أن ذلك ظاهر غير خاف على ذي بصر وبصيرة، بقوله: " أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض" وهذا الكلام إذا أخذته بجملته أبان عن زيادة الغنى، وكمال السعة والجود، والبسط في العطاء"(2) .

قلت: الاستدلال بهذا الحديث على ثبوت اليدين لله -تعالى- حقيقة، ظاهر جداً، وسيأتي تقرير ذلك - إن شاء الله - في آخر الباب.

(1) المصدر المذكور.

(2)

"الفتح"(13/395) .

ص: 306

41-

قال: " حدثنا مقدم بن محمد، قال: حدثني عمي، القاسم بن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك" رواه سعيد عن مالك.

القبض: " إمساك الشيء بجميع كف اليد، فقبض اليد على الشيء: جمعها بعد تناوله"(1)، فقبض الشيء هو: جمعه في الكف.

فقوله: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرض" أي يجمعها بيده، فتكون في قبضته، كما قال -تعالى-:{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

وقوله: " وتكون السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك" أي أنه -تعالى- يطوي السماوات بيده اليمنى، والأرض مقبوضة بيده الأخرى، وأنه يهزهن ثم يقول - يعظم نفسه-: أنا الملك - أي: الذي يتصرف في كل شيء كيف يشاء، ولا يشاركه في ذلك أحد، ولهذا جاء فيه: أنه -تعالى- إذا قبضهن، يهزهن، ويقول:" أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الدنيا؟ ".

وهذا الحديث مطابق لقوله -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .

وفيه الدليل الواضح على ثبوت اليدين لله -تعالى-، وهو نص لا يقبل تأويلاً، ولهذا صارت تأويلات المعطلين ليدي رب العالمين، شبه اللعب في كلام الله وكلام رسوله، الذي يترفع عنه العقلاء، فضلاً عن أهل التقى.

(1) انظر: " المفردات" للراغب (ص391) .

(2)

الآية 67 من سورة الزمر.

ص: 307

42-

قال: " وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقبض الله الأرض ".

تقدم تفسير القبض، وهذا الحديث مر في باب قوله -تعالى-:{مَلِكِ النَّاسِ} .

ص: 308

43-

قال: " حدثنا مسدد، سمع يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني منصور، وسليمان، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضيين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (1) ".

وقال يحيى بن سعيد، وزاد فيه فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله:" فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً له".

(1) الآية 67 من سورة الزمر.

ص: 309

44-

قال: " حدثنا عمر بن حفص عن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، سمعت إبراهيم قال: سمعت علقمة يقول: قال عبد الله: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضيين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أن الملك، أنا الملك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ".

هذا الحديث يدل على عظمة الله -تعالى- حيث يضع السماوات كلها على إصبع من أصابع يده الكريمة العظيمة، وعدد المخلوقات المعروفة للخلق بالكبر والعظمة، وأخبر أن كل نوع منها يضعه -تعالى- على إصبع، لو أراد تعالى - لوضع السماوات والأرضيين ومن فيهن على إصبع واحدة من أصابع يده - جل وعلا-.

وهذا من العلم الموروث عن الأنبياء المتلقى عن الوحي من الله -تعالى-، ولهذا صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وأعجبه ذلك وسر به، ولهذا ضحك حتى بدت نواجذه، تصديقاً له، كما قال عبد الله بن مسعود، ولا التفات إلى قول من تبنى التعطيل، وصار نصيبه من معرفة هذه الأوصاف الكريمة العظيمة - التي تعرف الله بها إلى عباده - هو ما يعرفونه من أنفسهم، فحملهم ذلك على تعطيل الله -تعالى- من هذه الأوصاف، مرة برد هذه النصوص والطعن في رواتها بلا حجة سوى

روايتهم لها، ومرة بتأويلها التأويل الباطل الذي يخرجها عن مراد المتكلم بها {قل ءأنتم أعلم أم الله} .

ص: 310

هذا وقد تنوعت النصوص من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على إثبات اليدين لله -تعالى- وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض بهما وتثنيتهما، وأن إحداهما يمين، كما مر، وفي نصوص كثيرة، والأخرى شمال كما في "صحيح مسلم"(1) ، وأنه -تعالى- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل (2) ، وأنه -تعالى- يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيمينه فيربيها لصاحبها (3) ، وأن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين (4) ، وغير ذلك مما هو ثابت عن الله ورسوله، وسأذكر شيئاً يسيراً من ذلك - إن شاء الله - وبعضه يكفي المؤمن المريد للحق.

وهذا الذي أشرت إليه كله يمنع تأويل اليدين بالنعمة، أو القوة، أو الخزائن، أو القدرة، أو غير ذلك، ويجعل التأويل في حكم التحريف، بل هو تحريف.

وقد آمن المسلمون بهذه النصوص، على ظاهرها، وقبلوها، ولم يتعرضوا لها بتأويل تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وأئمة الهدى، بل وكل من قبل ما جاءت به الرسل، وآمن به.

قال الإمام ابن خزيمة معلقاً على هذا الحديث: " معناه أن الله - جل وعلا - يمسك ما ذكر في الخبر على أصابعه، على ما في الخير سواء، قبل تبديل الله الأرض غير الأرض؛ لأن الإمساك على الأصابع غير القبض على الشيء، وهو مفهوم في اللغة التي خوطبنا بها؛ لأن الإمساك على الشيء بالأصابع، غير القبض

(1) سيأتي ذكره بعد قليل.

(2)

سيأتي تخريجه.

(3)

سيأتي ذكره بعد قليل.

(4)

سيأتي ذكره في هذا الباب

ص: 311

على الشيء" (1) .

قال الحافظ في شرحه لهذا الحديث: " زاد ابن خزيمة، عن محمد بن خلاد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن الأعمش، فذكر الحديث، قال محمد: عدها علينا يحيى بأصابعه. وكذا أخرجه أحمد في السنة، عن يحيى بن سعيد، وقال: وجعل يحيى يشير بأصبعه يضع إصبعاً على إصبع، حتى أتى على آخرها، قال: ورواه الخلال في كتاب السنة، عن أبي بكر المروزي، عن أحمد، وقال: ورأيت أبا عبد الله يشير بإصبع إصبع"(2) .

قلت: تبعوا في ذلك ما وقع من الحبر الذي حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يشير بأصابعه، ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أقره، وصدقه.

فهذه النقول عن هؤلاء المذكورين من السلف، تدل على أنهم فهموها على ظاهرها، وأنها أصابع حقيقة.

قال عبد الله ابن الإمام أحمد: " قال أبي: قال يحيى: قال: فضيل بن عياض

فضحك رسول الله تعجباً وتصديقاً، سمعت أبي يقول: حدثني يحيى بن سعيد، بحديث سفيان، عن الأعمش، ومنصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله يمسك السماوات على إصبع".

قال أبي: وجعل يحيى يشير بأصابعه، وأراني أبي كيف جعل يحيى يشير بأصابعه، يضع إصبعاً إصبعاً حتى أتى على آخرها" (3) .

وفي الترمذي عن ابن عباس، قال: " مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا يهودي، حدثنا، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم، إذا

(1) كتاب "التوحيد"(ص79) .

(2)

"فتح الباري"(13/397) .

(3)

كتاب "السنة"(ص54) .

ص: 312

وضع السماوات على ذه، والأراضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ - وأشار محمد بن الصلت - أبو جعفر - بخنصره أولاً، ثم تابع حتى بلغ الإبهام - فأنزل الله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح" (1) .

ورواه ابن جرير في "تفسيره"، وسنده حسن (2) .

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: " حدثني أبي، حدثنا حسين بن حسن، حدثنا أبو كريبة، عن عطاء عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، قال: كيف تقول يا أبا القاسم، يوم يجعل الله السماء على ذه - وأشار بالسبابة - والأرضيين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلائق على ذه- وجعل يشير بأصابعه -؟ فأنزل الله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .

حدثني عبد الله بن عمر، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: مر يهودي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا يهودي خوفنا، فقال: يا أبا القاسم، كيف بيوم تكون الأرضون على هذه، والسماوات على هذه، والماء على هذه، والخلق على هذه؟ - يعني أصابعه - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) .

فمثل هذه الأحاديث هى مستند السلف في الإشارة بالأصابع، تحقيقاً لإثبات أصابع الرحمن - جل وعلا - وقدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)"سنن الترمذي"(5/49) .

(2)

انظر: " تفسير الطبري"(24/26) .

(3)

كتاب "السنة"(لعبد الله ابن الإمام أحمد (ص55) .

ص: 313

وهذه النصوص التي فيها ذكر الأصابع تدل دلالة قاطعة - عند المؤمنين الذين يحكمون الشرع - على ثبوت اليدين لله - تعالى -، وقد تنوعت الدلائل على ذلك - كما أشرنا إليه آنفا - من ذكر الأصابع، والقبض، والبسط، والتثنية، وذكر اليمين والشمال.

ففي "الموطأ" و"الترمذي" و"سنن أبي داود ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تبارك وتعالى خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريته"(1) ورواه أحمد.

وفي "الترمذي" و"سنن أبى داود" مرفوعاً: " أن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة، قبضها من جميع الأرض "(2)

وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً، في حديث طويل في خلق آدم، وفيه:" فقال الله له: ويداه مقبوضتان، اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين، مباركة، ثم بسطها، فإذا فيها ذريته "(3) .

وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ "(4) .

وفيه أيضاً عنه مرفوعاً، "قال: يأخذ الله عز وجل سماواته، وأرضيه،

(1)"الموطأ"(2/898- 899) ، و "الترمذي" في التفسير رقم (3077) ، و "سنن أبي داود" في السنة رقم (4703) ، و "المسند"(1/324) .

(2)

"الترمذي" رقم (2948) في التفسير، و "أبو داود" في السنة، في القدر، رقم (4693) .

(3)

"سنن الترمذي" في التفسير في باب: من سورة المعوذتين، رقم (3365) ، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص67) .

(4)

"مسلم"(4/2148) رقم (2788) .

ص: 314

بيديه، فيقول: أنا الله - ويقبض أصابعه، ويبسطها - أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " (1) ورواه أحمد.

وفيه أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين عند الله؛ على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا "(2) .

وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما تصدق أحد بصدقة، من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه، أو فصيله"(3) .

وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل"(4) .

وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ينزل الله في السماء الدنيا، لشطر الليل، أو لثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ أو يسألني فأعطيه؟ ثم يبسط يديه تبارك وتعالى يقول: من يقرض غير عدوم، ولا ظلوم "(5) .

(1)"صحيح مسلم" الموضع المذكور، وانظر:" المسند"(2/72، 87، 88) .

(2)

"مسلم"(3/1458) رقم (1827) .

(3)

"مسلم"(2/702) رقم (1014) .

(4)

انظر: " البخاري مع الفتح"(3/278) و (13/415) ، و "مسلم"(2/702) ، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص61-63) .

(5)

"مسلم"(1/176) ، وابن خزيمة في "التوحيد" عن عبد الله بن مسعود (ص58) .

ص: 315

وفيه من حديث المغيرة بن شعبة في سؤال موسى ربه عن أدنى أهل الجنة منزلة، "رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن"(1) .

وفي "الصحيحين" مرفوعاً من حديث أبي سعيد الخدري، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلاً لأهل الجنة"(2) . وفيهما من حديث أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" واحتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا، خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم: أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ "(3) .

وفي رواية لمسلم: " احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته

" (4) .

وروى البيهقي في " الأسماء والصفات" بسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله -تعالى- آدم وذريته، قالت الملائكة: يا رب، خلقتهم يأكلون ويشربون، وينكحون، ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال الله -تعالى-: لا أجعل من خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له: كن، فيكون"(5) .

(1)"مسلم"(1/176) ، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص69-70) .

(2)

"البخاري مع الفتح "(11/372) ، و "مسلم"(4/2151) رقم (2792) .

(3)

"البخاري مع الفتح"(11/505) ، و "مسلم"(4/2042) .

(4)

"مسلم "(4/2043) .

(5)

" الأسماء والصفات "(ص317) .

ص: 316

وروى بسند حسن، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلق الله -تعالى- جنة عدن، وغرس أشجارها بيده، فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون"(1) .

ورواه ابن جرير موقوفاً (2) ، وذكره الحافظ ابن كثير، عن ابن أبي الدنيا مرفوعاً (3) .

وقال ابن جرير في قوله -تعالى-: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يقول -تعالى- ذكره -: والأرض كلها قبضته في يوم القيامة {والسماوات} كلها {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ثم روى عن ابن عباس، قال:" ما السموات السبع، والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم".

وروى عن ربيعة الجرشي قال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} قال: " ويده الأخرى خلو ليس فيها شيء".

وعن ابن عباس، قوله:{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} يقول: قد قبض الأرضين والسموات جميعاً بيمينه، ألم تسمع أنه قال:{مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} يعني: الأرض والسماوات جميعاً؟ قال ابن عباس: وإنما يستعين بشماله المشغولة يمينه.

وعن الحسن: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: " كأنها جوزة بقضها وقضيضها".

حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - يخطب الناس،

فمر بهذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ

(1) المصدر المذكور (ص318) .

(2)

"تفسير الطبري "، مفتتح الجزء (18) .

(3)

"تفسير ابن كثير"(5/455) ط الشعب.

ص: 317

الْقِيَامَةِ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأخذ السموات، والأرضين السبع فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما - كما يقول الغلام بالكرة -: أنا الله الواحد، أنا الله العزيز" حتى لقد رأينا المنبر، وإنه ليكاد أن يسقط به (1) .

وذكر أحاديث وآثاراً في هذا.

والأحاديث والآثار عن السلف في ذلك كثيرة.

وروى ابن ماجه - قال في "الزوائد": وسنده صحيح، والإمام أحمد، عن النواس بن سمعان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه"(2) .

وبهذا - وغيره كثير لم نذكره - يعلم خطأ الخطابي، وفريق أهل التأويل، قطعاً، حيث يقول:"لم يقع ذكر الإصبع في القرآن، ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة، حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع، بل هو توقيف أطلقه الشارع، فلا يكيف، ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم من قول الحبر، فيحتمل الرضا والإنكار، وأما قول الراوي: "تصديقاً له" فظن منه وحسبان"(3) .

ونحن نجيبه بما أجاب به عبد الله بن مسعود، لما قيل له: إن المنع من تعليق التميمة ليس في كتاب الله.

فنقول: بلى، إن ذكر الأصابع قد وقع في القرآن؛ لأن الله -تعالى- يقول فيه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه} ، وقد أتانا صلى الله عليه وسلم بذكر الأصابع،

(1)"تفسير الطبري"(24/27-28) .

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/72) رقم (199) ، و "المسند"(4/182) ، والآجري في الشريعة (ص317) ، والحاكم (4/321) ، وابن أبي عاصم في "السنة"(1/98) ، وذكر عدداً من الأحاديث بهذا اللفظ.

(3)

من "الفتح"(13/398) .

ص: 318

وذكر الكف، وذكر اليمين، والشمال، واليدين، مرة مثناة، ومرة منصوص على أنها واحدة، وأنه

يفعل بها كذا وكذا، وأن الأخرى فيها كذا، كما تقدمت النصوص بذلك، وهو تبع لأهل الكلام – المذموم- ينكر وصف الله -تعالى- باليدين حقيقة، مع أن القرآن قد جاء بذلك صراحة، كما قال -تعالى- {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (2) ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (3) . وهو مع ذلك لا يقبله؛ لأنه على خلاف تلقاه عن أهل البدع، ولهذا نراه – عفا الله عنا وعنه – يحاول رد النصوص بدون حجة، وكل ما يمكن أن يعتمد عليه هو – وكل من سلك مسلكه من أهل التأويل – ادعاؤهم أن العقل بخلاف ذلك، وأنه محال في العقل، وهو أمر غير منضبط، كما سنشير إليه – إن شاء الله – ودعوى بدون برهان.

قوله: " ولا حديث مقطوع به "، هذا عجيب من الخطابي، الذي كثر اشتغاله بالحديث تأليفاً، ورواية، وشرحاً لمتونه، وأسانيده، ثم يقول هذا القول، الذي هو عنوان لأهل البدع، فهم كلما ألجأتهم الحجج إلى المضائق رموها بهذه الدعوى " أنها أدلة غير مقطوع بها".

فإذا كانت أحاديث الرسول –صلى الله عليه وسلم مع ثبوت أسانيدها غير مقطوع بها، فما هي الحجج المقطوع بها في نظر هؤلاء؟ هل هي أقوال أقوام متهمين على الدين الإسلامي، وتحوم حولهم شكوك كثيرة؟ كالجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وبشر المريسي، وأحمد بن أبي دؤاد، وابن الثلجي ونحوهم، فإن هؤلاء هم سلف متأخري الأشعرية في تأويلاتهم.

وإننا نربأ بالخطابي أن يسلك هذا المسلك المنحرف عن الهدى.

(1) الآية 75 من سورة ص.

(2)

الآية 67 من سورة الزمر.

(3)

الآية 64 من سورة المائدة.

ص: 319

وهذا دليل على ضعف مسلك التأويل في هذه النصوص، وأنه غير مقنع.

ثم هو يقصد بقوله: غير مقطوع به، عدم التواتر؛ لأنه لا يقبل من الحديث في باب الصفات إلا ما كان في القرآن، أو تواتر عن الرسول –صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد علم أن القرآن جاء بصفة اليدين لله صراحة

ومعلوم أن الصحابة ومن سلك نهجهم لم يفرقوا بين أصول الدين وفروعه في الثبوت، ومعظم الدين الإسلامي ثبت بأخبار الآحاد

وهذه الصفات التي ينكرها هؤلاء، قد ثبتت في أحاديث مقطوع بصحتها عند أهل العلم، وإذا صح الحديث وجب قبوله، والعمل به، والإيمان بما دل عليه، وحرمت مخالفته

ولا فرق بين كونها في العمليات، أو الاعتقادات، خلافاً لأهل البدع الذين يفرقون بين ذلك

ومعلوم أن الذي جاء بهذه النصوص – في الصفات – هو الذي جاء بالأمر بعبادة الله، وتحريم الشرك، وبيان عدد ركعات الصلوات الخمس، وأنصباء الزكاة، وبيان واجبات كثيرة، ومحرمات كثيرة، لم يأت تفصيلها في القرآن، ولا في أخبار متواترة، فلماذا يقبل هذا، ويرد ذاك؟ إن هذا التفريق فعل الذين جعلوا دينهم شيعاً، وآمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وقد تقدم ما فيه كفاية لمن قصده الحق من ذكر النصوص في هذه المسألة، وغيرها من مسائل الصفات نظيرها، وقد يكون أوضح منها دليلاً كما سيأتي بعض ذلك

وقوله: " وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة، حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع" حقيقة هذا الكلام: أن اليد ليست يداً، حتى يلزم ثبوت الأصابع، ومعلوم أن الله –تعالى- خاطبنا باللغة العربية، وبألفاظ معلومة المعاني للمخاطبين، فالمخاطبون بهذه النصوص، علموا أن المراد بها ما دلت عليه بظاهرها

ص: 320

وكذلك المخاطب أراد منهم ذلك، ولهذا لم يأت عنه –صلى الله عليه وسلم ولا من طريق ضعيف، أنه قال: لا تعتقدوا ظاهرها، ولا سيما وظاهرها عند الخطابي وفريقه كفر وتشبيه فهل يعقل أن الله ورسوله يخاطبان العباد بما ظاهره الكفر، ثم لا يبين ذلك لهم، ويحذرهم من اعتقاده؟ ولو كان لهذه النصوص معنى عند رسول الله غير ظاهرها لبينه؛ لأنه واجب عليه بمقتضى الرسالة

والصحابة سمعوا هذه النصوص، ورووها، ولم يسألوا عن معان لها غير ظاهرها، فلما سكتوا دل ذلك على أنهم علموا أن المراد بها هو الظاهر، فوجب علينا أن نسكت حيث سكتوا، وأن نقبل ونسلم كما قبلوا وسلموا لها بدون تأويل ونحن نسأل هؤلاء: مَنْ مِنَ المسلمين الذين يعتد بقولهم، قال: إن يد الله جارحة؟ وهل جاء ذلك، ولو بحديث ضعيف؟ إن هذا لا وجود له، ولكنها الأوهام، والإتجاهات الفاسدة، وإرادة التشنيع على أتباع الرسل

ونحن – بحمد الله وله المنة – وكل من تلقى عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، وفهم المراد – نعتقد مطمئنين أن لله يدين حقيقتين لهما أصابع يضع عليها السموات والأرض وما شاء يوم القيامة، وإن زعمت أنوف الأشعرية، وإمامنا في ذلك رسولنا محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – وأصحابه، وأتباعه إلى يوم القيامة، وهو معلم الخير والهدى

قال الإمام أحمد: " الحديث عندنا على ظاهره، كما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره"(1)

(1)"طبقات الحنابلة"(1/242)

ص: 321

ويقصد بالكلام فيه: التأويل الذي يخرجه عن ظاهره وقال البربهاري (1) : " إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، ولا يقبلها، أو ينكر شيئاً من أخبار رسول الله –صلى الله عليه وسلم فاتهمه على الإسلام، لأنا إنما عرفنا الله ورسوله، وعرفنا القرآن، والخير والشر، بالآثار"(2)

وقال: " واعلم أنها لم تكن زندقة، ولا كفر، ولا شكوك، ولا بدعة، ولا ضلالة، ولا حيرة في الدين، إلا من الكلام وأهل الكلام، والجدل، والمراء،

والخصومة وكيف يجترئ الرجل على المراء، والخصومة، والجدال، والله يقول:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَاّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3) "

وقال أيضاً: " واعلم إنما جاء هلاك الجهمية، من أنهم فكروا في الرب – عز وجل – فأدخلوا: لم، وكيف، وتركوا الأثر، ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم، فجاؤوا بالكفر عيانا، لا يخفى أنهم كفروا، وكفروا الخلق، واضطرهم الأمر إلى أن قالوا بالتعطيل"(4)

وقال: " إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يردها، ويريد غيرها، فاتهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع"(5) وقال القاضي، أبو الحسين محمد بن أبي يعلي: "قرأت على المبارك، عن علي بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المالكي، حدثنا أبي،

(1) هو شيخ الحنابلة في وقته الحسن بن علي بن خلف، كان شديد الإنكار على أهل البدع، وكان حافظاً ثقة، وأصولياً متقناً، له تصانيف كثيرة مفقودة، توفي سنة 329 "شذرات الذهب"(2/319)

(2)

"طبقات الحنابلة"(2/25)

(3)

المرجع المذكور (ص27)

(4)

المرجع المذكور (ص30)

(5)

المرجع المذكور (ص36)

ص: 322

حدثنا محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن يعقوب ابن زوران – لفظاً – حدثنا أبو العباس أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله الفارسي، الاصطخري، قال: قال أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل – وذكر العقيدة إلى أن قال – "وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، ويوعيها ما أراد، وخلق آدم بيده، على صورته، والسموات والأرض يوم القيامة في كفه، ويضع قدمه في النار، فتنزوي" وذكر عقيدة طويلة جامعة (1) .

وقال الحسن بن علي بن خلف البربهاري: " وكل ما سمعت من الآثار شيئاً لم يبلغه عقلك، نحو قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم: " قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن" وقوله: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا، وينزل يوم عرفة، وينزل يوم القيامة، وأن جهنم لا يزال يطرح فيها، حتى يضع عليها قدمه، وقوله للعبد: إن مشيت إليَّ هرولت إليك، وقوله: خلق الله آدم على صورته، وقول الرسول –صلى الله عليه وسلم: " رأيت ربي في أحسن صورة" (2) ، وأشباه هذه الأحاديث، فعليك بالتسليم،

والتصديق، والتفويض (3) والرضا، ولا تفسر شيئاً من هذه بهواك (4) ، فإن الإيمان بهذا واجب، فمن فسر شيئاً من هذا بهواه، أو رده، فهو جهمي" (5) .

وهذا الذي ذكره الإمام أحمد، والبربهاري، هو مذهب السلف، الذين تلقوا عن الرسول –صلى الله عليه وسلم ولم يزل السلف يوصي بعضهم بعضاً بالتمسك به، والتحذير ممن يخالفه؛ لأنه الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

(1)"طبقات الحنابلة"(1/24-29)

(2)

هذه رؤية منام كما هو مصرح به في الرواية.

(3)

المقصود بالتفويض: تفويض الحقيقة، والكيف، فهو يوكل إلى الله -تعالى- فإن الخلق لا علم لهم بذلك.

(4)

مراده التفسير: التأويل، وتعيين معنى لا يدل عليه اللفظ إلا بتكلف أو بغرابة.

(5)

"طبقات الحنابلة"(2/23) .

ص: 323

وقوله: " بل هو توقيف أطلقه الشارع، فلا يكيف، ولا يشبه "، يعني أن لفظ اليد الثابت بكتاب الله، وبالسنة، توقيف أطلقه الشارع، فلا يوقف له على معنى، فهو – عنده- لا يدل على ما وضعت له كلمة "يد" في اللغة، ومضمون ذلك أن آيات الصفات وأحاديثها لا يعلم لها معان تطابق ألفاظها، وتؤخذ منها، ويلزم على هذا أن الشارع خاطب الناس بما ظاهره غير مقصود، ولا مطلوب منهم الإيمان بظاهره، بل قد يكون ظاهره باطلاً وكفراً، فمعنى قوله:" لا يكيف، ولا يشبه" أي: لا يثبت لها معنى مطابقاً للفظها في وضع اللغة، فلا يوصف الله –تعالى- باليد الحقيقية التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله –صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا تشبيه، فهذه النصوص في هذا الباب ونحوه فيها تشبيه لله –تعالى- عند هؤلاء، ولهذا صار تأويلها متعيناً.

فضاعت النصوص التي تعرف الله بها إلى عباده بين مردود (1) ومؤول.

وقوله: " ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي"، جوابه: أنه قد تقدم من ذكر بعض النصوص التي تبطل هذا الهراء، والقول الجائر، أن الخطابي – عفا الله عنا وعنه – بهذا القول إنما يشنع في الحقيقة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم، والله المستعان.

وقوله: " فإن اليهود مشبهة، وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه، ولا تدخل في مذاهب المسلمين "، ونحن لا نبرئ اليهود من الباطل، ولكن نقول: إن الحق يجب أن يقبل ممن قاله، سواء كان من اليهود أو من غيرهم.

وهو لم يبين هذه الألفاظ التي تدخل في باب التشبيه على حد قوله.

(1) القاعدة عند الخطابي: أن الأحاديث الموافقة للقرآن، أو المتواترة، هي التي تقبل في الصفات، أما ما عدا ذلك، فإنه لا يثبت به صفة لله -تعالى-، وهذه القاعدة أخذت من كلامه، كما سبق قوله في الأصابع إنه لم يثبت فيه حديث.

ص: 324

ولكن نعلم من طريقته أن كل من أثبت لله من الصفات ما ينكره هو ومن سلك نهجه، أنهم يسمونه مشبهاً، ولو كان متمسكاً بالكتاب والسنة، فعنده من أثبت لله يداً حقيقية فهو مشبه، وكذلك الوجه، والرجل، والأصابع، والعينين، ونحو ذلك. وقوله:" وأما ضحكه –صلى الله عليه وسلم من قول الحبر، فيحتمل الرضا، والإنكار".

فجوابه: أن الحق الذي لا نشك فيه أنه لا يحتمل إلا الرضا، والموافقة؛ لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم لا يضحك من الباطل والكفر الذي هو تشبيه رب العالمين بالخلق، كما هو مقتضى مذهب الخطابي.

ومقتضى الإيمان بالرسول –صلى الله عليه وسلم يمنع من أن يكون ضحكه من أجل التشبيه الذي يقوله اليهودي – كما زعم الخطابي – عفا الله عنا وعنه -.

إن ما يقوله هؤلاء في الحقيقة قلب للحقائق، حتى تسلم عقيدة الأشعرية من معاول النصوص، التي تأتي على أسسها بالاقتلاع (1) ، ولو استطاع كثير منهم الرد على الله ورسوله لفعلوا، ولكن كما يقول الله -تعالى-:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (2)

وأما قوله: " وأما قول الراوي: " تصديقاً له، فظن وحسبان" يعني: أن عبد الله بن مسعود ظن ظناً أخطأ الحق، وأبعد عن الصواب، حيث خالف عقيدة أهل الكلام، فيرد قوله.

(1) قال ابن خزيمة: " وقد أجل الله قدر نبيه، عن أن يوصف الباري بحضرته بما ليس من صفاته، فيسمعه فيضحك عنده، ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلم به ضحكاً حتى تبدو نواجذه؛ وتعجباً لقائله، لا يصف النبي –صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته" كتاب "التوحيد"(ص76) .

(2)

الآية 18 من سورة الأنبياء.

ص: 325

ونحن نقول: أيهما أولى عند الله، وعند المؤمنين، بالفهم عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم: صحابته الذين عايشوه، وتربوا بين يديه، ونقلوا لنا ديننا عنه، أم الخطابي وذووه؟

ولو سلم ذلك لأمكن كل مبطل أن يقول في أي نص جاء عن الرسول –صلى الله عليه وسلم وصحابته كقولك هذا: إنه ظن وحسبان، وأن الصواب خلافه، فتبطل الشريعة كلها. تقدم ذكر الآيات الدالة صراحة على وصف الله -تعالى- باليدين.

قال أبو سعيد الدارمي – رحمه الله: " حدثنا أحمد بن يونس، عن فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، أنه قال: " ضحك من قول الحبر، تعجباً لما قال، وتصديقاً له" (1) .

"وقد تواتر في السنة مجيء اليد – وصفاً - لله-تعالى- فعلم من ذلك أن لله -تعالى- يدين مختصتين به، ذاتيتين له، كما يليق بجلاله، وأنه -تعالى- خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه – سبحانه – يقبض الأرض، ويطوي السموات بيده اليمنى، وأن {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) .

ومعنى بسطهما: بذل الجود، وسعة العطاء، لأن العطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها.

فإذا قيل: هو مبسوط اليد، فهم منه يد حقيقة، وكان ظاهره الجود والبذل.

وقد اعتمد أهل التأويل، في تأويلهم اليد، أنها النعمة والعطية، تسمية للشيء باسم سببه، كما يسمى المطر والنبات: سماء، ومن ذلك قولهم: لفلان عندي أياد، وقول أبي طالب لما فقد النبي –صلى الله عليه وسلم:

يا رب رد راكبي محمداً رده عليَّ واصطنع عندي يداً

وقول عروة بن مسعود لأبي بكر يوم الحديبية: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.

وقد تكون اليد بمعنى القدرة، تسمية للشيء باسم مسببه، لأن القدرة هي تحرك اليد، يقال: فلان له يد في كذا وكذا، أي له قدرة، ومنه قول زياد

(1) الرد على بشر المريسي (ص418)"عقائد السلف"، ورواه ابن خزيمة في "التوحيد"(2/182) .

(2)

الآية 64 من سورة المائدة.

ص: 326

لمعاوية: " إني قد أمسكت العراق بإحدى يدي، والأخرى فارغة " يريد نصف قدرته. وقد يضاف الفعل إلى اليد إضافته إلى الشخص نفسه؛ لأن غالب الأفعال تكون بها، فصار ذكر اليد إشارة إلى أنه فعل بنفسه، كما قال –تعالى-:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (1) .

وتقول العرب: " يداك أوكتا، وفوك نفخ" توبيخاً لكل من جر إلى نفسه شراً، لأن أول من قيل له ذلك، فعل بيديه وفمه.

ولذلك قالوا في مثل قوله -تعالى-: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي: نعمته في الدنيا الآخرة، واللفظ كناية عن نفس الجود، من غير أن يكون هناك يد حقيقة، بل هذه اللفظة صارت حقيقة في العطاء والجود.

وقالوا في قوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) أي: خلقته أنا، وليس هناك يد حقيقية، ونحو هذه التأويلات.

والجواب: أننا لا ننكر لغة العرب التي نزل بها القرآن، وأن ما ذكر معروف في اللغة، ولكن ننكر تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وصفاته.

فإن لفظ "اليدين" بصيغة التثنية، لم يستعمل في النعمة، ولا في القدرة؛ لأن من لغة العرب استعمال الواحد في الجمع، كقوله –تعالى-:{إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) .

ولفظ الجمع في الواحد كقوله -تعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} (4) ، والقائل واحد.

ولفظ الجمع في الإثنين كقوله -تعالى-: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (5) .

(1) الآية 182 من سورة آل عمران.

(2)

الآية 75 من سورة ص.

(3)

الآية 2 من سورة العصر.

(4)

الآية 173 من سورة آل عمران.

(5)

الآية 4 من سورة التحريم.

ص: 327

أما استعمال لفظ الواحد في الإثنين، والاثنين في الواحد، فلا أصل له في اللغة؛ لأن هذه الألفاظ عدد، وهي نصوص في معناها، لا يتجوز بها، فلا يجوز أن تقول: عندي رجل، وأنت تريد اثنين، ولا عندي رجلان، وأنت تريد واحداً، ولا عندي رجلان، وأنت تريد الجنس؛ لأن اسم الواحد يدل على الجنس، والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد.

فقوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد.

ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية.

ولا يجوز أن يكون كما قالوا: لما خلقت أنا؛ لأن العرب إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفاعل.

كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} (1) ، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (2)، ومن هذا قوله -تعالى-:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ً} (3) .

أما إذا أضيف الفعل إلى الفاعل، وعدى الفعل إلى اليد بحرف الجر كقوله -تعالى-:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإنه يكون نصاً في أنه فعل ذلك بيديه.

ولهذا لا يجوز لمن تكلم، أو مشى، أن يقول: فعلت ذلك بيدي، ولكن يقال: فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: " فعلت" كاف في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة كان قوله:{بيدي} زيادة لا فائدة فيها، ولا تجد في كلام العرب أن فصيحاً يقول: فعلت هذا بيدي، إلا وأنه فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يقول ذلك وهو ليس له يد" (4) .

(1) الآية 10 من سورة الحج.

(2)

الآية 182 من سورة آل عمران.

(3)

الآية 71 من سورة يس.

(4)

"مجموع الفتاوى"(6/363-366) .

ص: 328

وأما تعليله لإنكاره إثبات اليد لله -تعالى- والأصابع، بأن اليد المتعارف عليها هي الجارحة، وذلك ممتنع على الله -تعالى-.

فالجواب: أن هذا ممتنع لو كانت اليد التي أثبتها الله لنفسه من جنس أيدي المخلوقين، أما إذا كانت يداً تناسب ذاته وتليق بعظمته، فما هو المانع من ذلك في العقل والشرع؟ وما هو الموجب لتلك التمحلات؟

وكل ما يذكر أهل التأويل إنما يدل على امتناع وصفه –تعالى- بما يستحقه المخلوق، وخصائص المخلوقين منفية عنه –تعالى-، وكل ما أثبت لله –تعالى- من الصفات فهي كمال، وفقدها نقص –تعالى- عنه.

ثم هل يجوز مع كثرة ما في كتاب الله، وسنة رسوله، من ذكر اليد، دالاً على الحقيقة، مثل ذكر خلق آدم بيديه، وأنهما مبسوطتان، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، وأن السموات مطويات بيمينه، وأن بيده الملك، وفي السنة ما لا يحصى إلا بمشقة، مثل ذكر الأصابع، والقبض، والبسط، واليمين، والشمال، وأن يديه كلتاهما يمين، ثم لا يبين الرسول –صلى الله عليه وسلم أن هذا غير مراد منه الظاهر والحقيقة، مع حضه لنا على الفهم؟ وهل يجوز أن يفهم صحابته والتابعون لهم من هذه النصوص غير الحق المراد منها، ولا يعرف الحق فيها إلا جهم بن صفوان – بعد انقراض عهد الصحابة – وبشر بن غياث- وأشباههما ممن هو مغموص عليه في النفاق؟ مع أن الرسول –صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كيف يقضون الحاجة، وكيف يأكلون ويشربون، وينامون، ويدخلون بيوتهم ويخرجون، حتى أنزل الله –تعالى- عليه في آخر ما أنزل:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (1)، والرسول –صلى الله عليه وسلم يقول:" تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك"(2) .

(1) الآية 3 من سورة المائدة.

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 329

هل يجوز – مع هذا كله وغيره – أن يترك الكتاب المنزل عليه، وسنته الغراء، مملوءان بما يزعم أهل التأويل أن ظاهره تشبيه وتجسيم، ومن اعتقد ظاهره – بزعمهم- فهو ضال مشبه لله ومجسم، ثم لا يبين ذلك ولا يوضحه، بل يكثر من ذكر ما يؤيد الظاهر بكل صراحة؟ إنه لا يعتقد ذلك ويقوله إلا ضال في دينه لم يعرف ما أنزل الله على رسوله، ولم يعرف الرسول حق المعرفة.

قال ابن القيم: " واطراد لفظ اليد في موارد استعمالها، وتنوع ذلك، يوجب أن تكون اليد حقيقة، كقوله -تعالى-:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) ، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) .

فلو كان المراد: القدرة، أو النعمة، لم يستعمل منه لفظ "يمين"، كما في الحديث "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين"(4) ، فلا يصح أن تكون يد القدرة، والنعمة، وقوله:" يقبض الله سماوات بيده، والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك"(5) فالهز والقبض، وذكر اليدين، يمنع ذلك.

ولما ذكر ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم جعل يقبض يديه ويبسطهما، تحقيقاً للصفة، لا تشبيهاً لها، كما أنه –صلى الله عليه وسلم لما قرأ قوله -تعالى-:{وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (6) وضع إصبعه على عينه والأخرى على أذنه؛ تحقيقاً لصفة السمع والبصر.

(1) الآية 75 من سورة ص.

(2)

الآية 64 من سورة المائدة.

(3)

الآية 67 من سورة الزمر.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

الآية 134 من سورة النساء.

ص: 330

وقوله –صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله آدم قبض بيديه، وقال: اختر، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين ففتحها، فإذا فيها أهل اليمين من ذريته"(1) .

وقوله –صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل"(2) اهـ.

وقد تقدمت الإشارة إلى بعض النصوص في ذلك.

فاقتران الطي والقبض، والإمساك باليد، جعل تأويلها بالقدرة والنعمة تحريفاً باطلاً.

قال الإمام ابن خزيمة: " نحن نقول: الله – جل وعلا- له يدان، كما أعلمنا الباري في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه المصطفي –صلى الله عليه وسلم ونقول: كلتا يدي ربنا يمين، على ما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم ونقول: إن الله – عز وجل – يقبض الأرض بإحدى يديه، ويطوي السماء بيده الأخرى "(3) .

فمن أثبت لله -تعالى- يدين، وأثبت لهما أصابع، على ما جاء في النصوص الصحيحة، لا يكون مشبهاً، بل يكون متبعاً لكتاب الله وسنة رسوله، مطيعاً لله ورسوله في ذلك؛ لأنه أثبت لله ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله –صلى الله عليه وسلم.

والله -تعالى- ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أوصافه؛ لأن الوصف تابع للموصوف.

وقال البغوي: " الإصبع المذكورة في الحديث صفة، من صفات الله – عز وجل – وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل، في صفات الله -تعالى-، كالنفس، والوجه، والعين، واليد والرجل، والإتيان، والمجيء،

(1) مضى تخريجه.

(2)

"مختصر الصواعق"(ص337) .

(3)

كتاب "التوحيد"(ص83) .

ص: 331

والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح.

قال الله -تعالى- لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (1) ، وقال – عز وجل – {ولتصنع على عيني} (2)، وقال – سبحانه وتعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} (3)، وقال – عز وجل:{ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (4)، وقال تعالى:{بل يداه مبسوطتان} (5)، وقال – جل وعلا-:{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (6)، وقال -تعالى-:{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (7)، وقال -تعالى-:{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} (8)، وقال – سبحانه وتعالى:{وجاء ربك والملك صفا صفاً} (9) ، وقال –

تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (10)، وقال -تعالى-:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (11) .

وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر"(12) ، وروى أنس، عن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع

(1) الآية 41 من سورة طه.

(2)

الآية 39 من سورة طه.

(3)

الآية 88 من سورة القصص.

(4)

الآية 27 من سورة الرحمن.

(5)

الآية 64 من سورة المائدة.

(6)

الآية 75 من سورة ص.

(7)

الآية 67 من سورة الزمر.

(8)

الآية 210 من سورة البقرة.

(9)

الآية 22 من سورة الفجر.

(10)

الآية 5 من سورة طه.

(11)

الآية 59 من سورة الفرقان.

(12)

سيأتي شرحه، إن شاء الله.

ص: 332

رب العزة فيها قدمه"، وفي رواية أبي هريرة: " حتى يضع الله رجله" (1) ، وفي حديث أبي هريرة في آخر من يخرج من النار "فيضحك الله منه، ثم يأذن له في دخول الجنة" (2) ، وفي حديث جابر: " فيتجلى لهم يضحك" (3) ، وفي حديث أنس وغيره: " لله أفرح بتوبة عبده، من أحدكم يسقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة" (4) .

فهذه ونظائرها صفات لله -تعالى-، ورد بها السمع، يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها، معرضاً فيها عن التأويل، مجتنباً التشبيه، معتقداً أن الباري – سبحانه وتعالى لا يشبه شيء من صفاته صفات خلقه، كما لا تشبه ذاته ذوات خلقه، قال -تعالى-:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (5) .

وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، تلقوها جميعاً بالإيمان والقبول، وتجنبوا فيها التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله – عز وجل.

قال سفيان بن عيينة: " كل ما وصف الله -تعالى- به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله -تعالى- ورسوله ".

وقال الزهري: " على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم".

وقال بعض السلف: " قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم"(6) .

ومراده بقوله: " ووكلوا العلم فيها إلى الله " علم الكيفية، وأما ما يفهم منها في الوضع اللغوي في ظاهر ومعلوم، وكذا ما ذكره عن سفيان أنها لا تفسر، أي تؤول وتطلب معرفة كيفيتها.

(1) تقدم، وهو في "مسلم" رقم (2848) .

(2)

متفق عليه، وسيأتي، إن شاء الله.

(3)

رواه مسلم في " الإيمان " رقم (191) .

(4)

انظره في "مسلم"(4/2104) رقم (2747) .

(5)

الآية 11 من سورة الشورى.

(6)

"شرح السنة "(1/168-171) .

ص: 333

وهذا كثير في أقوال العلماء والسلف من أهل السنة.

وقال ابن القيم: "ورد لفظ اليد في القرآن، والسنة، وكلام الصحابة والتابعين، في أكثر من مائة موضع، وروداً متنوعاً، متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقة، من الإمساك، والطي، والقبض، والبسط، والمصافحة، والحثيات، والنضح باليد، والخلق باليدين، والمباشرة بهما، وكتب التوارة بيده، وغرس جنة عدن بيده، وتخمير طينة آدم بيده، ووقوف العبد بين يديه، وكون المقسطين عن يمينه، وقيام رسول الله –صلى الله عليه وسلم يوم القيامة عن يمينه، وتخيير آدم بين ما في يديه، فقال: " اخترت يمين ربي"، وأخذ الصدقة بيمينه، يربيها لصاحبها، وكتابته بيده على نفسه: أن رحمته تغلب غضبه، وأنه مسح ظهر آدم بيده، ثم قال له – ويداه مقبوضتان – "اختر"، فقال: " اخترت يمين ربي"، وكلتا يديه يمين مباركة، وأن يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وبيده الأخرى القسط، يرفع ويخفض، وأنه خلق آدم من قبضه قبضها من جميع الأرض، وأنه يطوي السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يطوى الأرض باليد الأخرى، وأنه خط الألواح التي كتبها لموسى بيده"(1) .

(1)"مختصر الصواعق"(ص348) .

ص: 334

قال: " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا شخص أغير من الله".

وقال عبيد الله بن عمرو بن عبد الملك: لا شخص أغير من الله.

الغيرة - بفتح الغين - وإسكان الياء - وهي في اللغة مأخوذة من التغير الحاصل من الأنفة، والحمية.

والشخص: هو ما شخص وبان عن غيره.

ومقصد البخاري أن هذين الاسمين يخبر بهما عن الله -تعالى- وصفاً له؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أثبتهما لله، وهو أعلم الخلق بالله -تعالى-.

قال النووي: " قال العلماء: الغيرة بفتح الغين، وأصلها المنع، والرجل غيور على أهله، أي: يمنعهم من التعلق بأجنبي بنظر، أو حديث، أو غيره، والغيرة صفة كمال"(1) .

قال الحافظ: " وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم غيرة الله في قوله: " إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله " (2) .

ومعناه: أن الله يغار إذا انتهكت محارمه، وليس انتهاك المحارم هو غيرة الله؛ لأن انتهاك المحارم فعل العبد، ووقوع ذلك من المؤمن أعظم من وقوعه من غيره.

وغيرة الله -تعالى- من جنس صفاته التي يختص بها، فهي ليست مماثلة لغيرة المخلوق، بل هي صفة تليق بعظمته، مثل الغضب، والرضا، ونحو ذلك من خصائصه التي لا يشاركه الخلق فيها.

(1)"شرح مسلم "(10/132) .

(2)

"الفتح"(9/319) .

ص: 335

وقد تقرر أنه -تعالى- ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته، وأفعاله، ولكن لابد من الاشتراك في ألفاظ الأسماء التي تضاف إلى الله صفات له، وبين ألفاظ الأسماء التي يوصف بها العباد؛ لأنه لا يمكن معرفة ما غاب عنا إلا بمعرفة ما شهدناه، فنعتبر بعقولنا الغائب بالشاهد.

فلولا أنا نجد من أنفسنا جوعاً، وعطشاً، وشبعاً، ورياً، وحباً، وبغضاً، ولذةً، وألماً، ورضاً، وسخطاً، لم نعرف حقيقة ما نخاطب به إذا وصف لنا وأخبرنا به عن غيرنا.

ولو لم نعلم ما في المشاهد من الحياة، والقدرة، والعلم، والكلام، لم نفهم ما نخاطب به من ذلك في الغائب.

فلا بد فيما شهدناه، وما غاب عنا، من قدر مشترك، هو مسمى اللفظ.

وقد أخبرنا عن نعيم الآخرة، وعذابها مما يؤكل، ويشرب، ويفرح، ويحزن، وينعم، ويؤلم، فلولا معرفتنا بما يشبه ذلك في الدنيا، لم نفهم ما وعدنا به من ذلك، مع علمنا أن حقائق ما في الآخرة ليست كحقائق ما في الدنيا، كما قال ابن عباس في تفسير قوله -تعالى-:{وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} : " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء "(1) ، ولكن بين ما في الدنيا، وما في الآخرة، مشابهة واشتراك من بعض الوجوه. وبذلك نفهم المراد، فنحب النعيم، ونرغب فيه، ونكره المؤلم، وننفر عنه، فنعرف معنى العسل، واللبن، والحرير، والذهب، ونفرق بينهما؛ لما عرفناه من نظيرها في الشاهد، وإن كانت حقائقها فيما هي عليه لا يعلمها إلا الله -تعالى-، كما قال - جل وعلا -:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (2) .

(1) رواه ابن جرير في "تفسيره" انظر (1/393-394) بتحقيق: محمود شاكر.

(2)

الآية 17 من سورة السجدة.

ص: 336

فإذا كان هذا في صفات المخلوق، فكيف في صفات الخالق - جل وعز - فإنها أشد مباينة، مثال ذلك: إذا قال نفاة الصفات: النزول، والاستواء، من صفات الأجسام، فإنه لا يعقل إلا لجسم مركب، والله منزه عن ذلك.

فيقال لهم: وكذلك الحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والكلام، هي من صفات الأجسام، فإنه لا يعقل من يسمع، ويبصر، ويريد، ويعلم، ويقدر، ويتكلم، ويكون حياً، إلا الجسم.

فإن قالوا: سمعه ليس كسمعنا، وعلمه ليس كعلمنا، وبصره ليس كبصرنا، وكذا البقية.

قيل: فكذلك نزوله، واستواؤه، وغضبه، وفرحه، وحبه، وغيرته، وسائر صفاته، والذين يؤولون النصوص في ذلك، مخالفون لها، ومتناقضون.

قوله: " وقال عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك: " لا شخص أغير من الله" قال الحافظ: " يعني أن عبيد الله بن عمرو، روى الحديث المذكور، عن عبد الملك، بالسند المذكور فقال:" لا شخص" بدل كلمة " لا أحد" وقد وصله الدارمي، ثم ذكر سنده، وساقه أبو عوانة - يعقوب الإسفرائيني - في "صحيحه" عن محمد بن عيسى العطار، عن زكريا بتمامه، وقال في المواضع الثلاثة:" لا شخص".

قال الإسماعيلي - بعد أن أخرجه -: من طريق عبيد الله بن عمرو القواريري، وأبي كامل - فضيل بن حسين الجحدري - ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثلاثتهم عن أبي عوانة - الوضاح البصري - بالسند الذي أخرجه {به} البخاري، ولكن قال في المواضع الثلاثة:" لا شخص" بدل " لا أحد".

ثم ساقه من طريق زائدة بن قدامة عن عبد الملك كذلك.

فكأن هذه اللفظة لم تقع في رواية البخاري في حديث أبي عوانة، عن

ص: 337

عبد الملك، فلذلك علقها عن عبيد الله بن عمرو.

قلت: وقد أخرجه مسلم، عن القواريري، وأبى كامل، كذلك" ا. هـ (1) .

ولفظ مسلم، بعد ذكر السند:" قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة" (2) .

ورواه الإمام أحمد في "المسند" بهذا اللفظ (3) ، قال عبد الله ابن الإمام أحمد بعد ذكره، قال عبيد الله القواريري: ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث.

وبهذا يتبين خطأ ابن بطال في قوله: " أجمعت الأمة على أن الله -تعالى- لا يجوز أن يوصف بأنه شخص، لأن التوقيف لم يرد به " ا. هـ ذكره الحافظ (4) .

وهذه مجازفة ودعوى عارية من الدليل، فأين هذا الإجماع المزعوم؟ ومن قاله؟ سوى المتأثرين ببدع أهل الكلام، كالخطابي، وابن فورك، وابن بطال- عفا الله عنا وعنهم-

وقوله: " لأن التوقيف لم يرد به " يبطله ما تقدم من ذكر ثبوت هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرق صحيحة لا مطعن فيها.

(1)"الفتح"(13/400) .

(2)

"صحيح مسلم "(2/1136) رقم (1499) .

(3)

"المسند"(4/248) ورواه الدارمي في "سننه"(2/73)

(4)

انظر: " الفتح"(13/400) .

ص: 338

وإذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب العمل به، والقول بموجبه سواء كان في مسائل الاعتقاد، أو في العمليات، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم إطلاق هذا الاسم - أعني الشخص - على الله -تعالى- خبراً، فيجب اتباعه في ذلك على من يؤمن بأنه رسول الله، وهو صلى الله عليه وسلم أعلم بربه وبما يجب له وما يمتنع عليه -تعالى- من غيره من سائر البشر.

وتقدم أن الشخص في اللغة: ما شخص، وارتفع، وظهر.

قال في "اللسان": " الشخص كل جسم له ارتفاع وظهور"(1) .

والله -تعالى- أظهر من كل شيء، وأعظم، وأكبر، وليس في إطلاق الشخص عليه محذور على أصل أهل السنة الذين يتقيدون بما قاله الله ورسوله.

(1) انظر: " لسان العرب"(2/281) المرتب.

ص: 339

45-

قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل التبوذكي، حدثنا أبو عوانة، حدثنا عبد الملك، عن وراد كاتب المغيرة، عن المغيرة، قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة ".

نكتفي بما تقدم من كلام على معنى الحديث، ونذكر موجزاً من الكلام مما فيه فائدة، وتقدم معنى الغيرة، وأنها صفة كمال، كما تقدم أنا لا يمكن أن نفهم ما خوطبنا به إلا بواسطة المعلوم لنا في الشاهد المشارك له في المعنى في الجملة، وإن كان البون شاسعاً.

قال النووي: " أخبر صلى الله عليه وسلم أن سعداً غيور، وأنه أغير منه، وأن الله أغير منه، وأنه من أجل ذلك حرم الفواحش، فهذا تفسير لمعنى غيرة الله -تعالى-، أي: أنها منعه سبحانه وتعالى الناس من الفواحش"(1) .

ققلت: ليس هذا هو غيرة الله -تعالى- ولكنه مقتضى الغيرة، كما يوضحه قوله:" ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش" فبين أن تحريم الفواحش، والمنع منها، ليس هو الغيرة، وإنما هو من آثارها.

قوله: " لو رأيت رجلاً مع امرأتي، لضربته بالسيف غير مصفح" أي:

(1)"شرح مسلم"(10/132) .

ص: 340

لضربته بحد السيف لا بصفحه، يعني: لقتله بدون توقف، وقد أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأخبر أنه أغير من سعد، وأن الله أغير منه، وأما قول القرطبي وغيره: إن قوله: " ولا أحد أحب إليه العذر من الله " إشارة إلى الإنكار على سعد، فغير صحيح، بل مدلول الحديث خلافه، ولا بد من الغيرة، والذي لا غيرة له ديوث، والديوث لا يدخل الجنة، كما في "سنن النسائي"(1) وغيرها.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني" الخ.

قوله: " ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن" أي: من أثر غيرة الله: منع عباده من قربان الفواحش، وهي: ما عظم وفحش في النفوس الزاكية والعقول السليمة مثل الزنا.

والظاهر: يشمل ما فعل علناً، وما باشرته الجوارح وإن كان سراً.

والباطن: يشمل ما في السر، وما انطوت عليه القلوب.

قوله: " ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين".

العذر: هو طلب العفو عن فعل سابق مع الاعتراف بالذنب والندم على وقوعه منه، ويراد به الإعذار، وهو إقامة البينات، والحجج، وإيضاح طريق الخير والشر، وكلاهما يدخل فيما ذكر، والمبشرون والمنذرون هم الرسل، وفي رواية مسلم:" بعث المرسلين مبشرين ومنذرين" وفي رواية له أيضاً: " ولذلك أنزل الكتب والرسل".

قال عياض: المعنى: بعث المرسلين للإعذار والإنذار لخلقه، قبل

(1)"المجتبي"(5/80) ، رواه أحمد في "المسند"(2/134) وفي سنده عبد الله بن يسار، روى له النسائي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وبقية رجاله ثقات مشهورون.

ص: 341

أخذهم بالعقوبة، وهو كقوله -تعالى-:{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) .

قوله: " ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة" هذا لكماله المطلق، فهو -تعالى- يحب من عباده أن يثنوا عليه ويمدحوه على فضله وجوده، ومن أجل ذلك جاد عليهم بكل نعمة يتمتعون بها، ويرضى عنهم إذا حمدوه عليها.

ومهما أثنوا عليه ومدحوه لا يمكن أن يصلوا إلى ما يستحقه من المدح والثناء، ولهذا مدح نفسه كما تقدم، فوعد الجنة ليكثر سؤاله، والثناء عليه من عباده ومدحه، ويجهدوا في ذلك غاية ما يستطيعون؛ لأن الجنة هي منتهى الإنعام.

(1) من "الفتح"(13/400) .

ص: 342

قال: " باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ} (1) "" فسمى الله -تعالى- نفسه شيئاً، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً، وهو صفة من صفات الله، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} (2) ".

يريد بهذا أن يطلق على الله -تعالى- أنه شيء، وكذلك صفاته، وليس معنى ذلك أن "الشيء" من أسماء الله الحسنى، ولكن يخبر عنه -تعالى- بأنه شيء، وكذا يخبر عن صفاته بأنها شيء؛ لأن كل موجود يصح أن يقال: إنه شيء.

قال الحافظ: " الشيء يساوي الموجود، لغةً، وعرفاً، وأما قولهم: فلان ليس بشيء فهو على طريق المبالغة في الذم، فلذلك وصف بصفة العدم"(3) .

وقال: " أي: إذا جاءت استفهامية، اقتضى الظاهر أن تسمى باسم ما تضاف إليه، فعلى هذا صح الاستدلال بها على تسمية الله -تعالى- شيئاً.

واسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك الشيء هو الله.

ويصح أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: الله أكبر شهادة والله أعلم " (4) .

وقوله -تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} قال الحافظ: " الاستدلال بهذه الآية للمطلوب، ينبني على أن الاستثناء متصل، فإنه يقتضي اندراج المستثنى في المستثنى منه، وهو الراجح، على أن لفظ شيء يطلق على الله -تعالى- وهو الراجح أيضاً ". (5)

(1) الآية 19 من سورة الإنعام.

(2)

الآية 88 من سورة القصص.

(3)

"الفتح"(13/402) .

(4)

نفس المصدر.

(5)

نفس المصدر.

ص: 343

قال الإمام عبد العزيز الكناني، في محاجته لبشر المريسي، لما سأله بشر عن القرآن: أهو شيء أم ليس بشيء؟ قال: " فقلت لبشر: سألت عن القرآن، هو شيء أم غير شيء؟ فإن كنت تريد أنه شيء، إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، فنعم هو شيء.

وإن كنت تريد أن الشيء اسم له، وأنه كالأشياء فلا.

فإن الله أجرى كلامه على ما أجراه على نفسه، إذ كان كلامه من ذاته، ومن صفاته، فلم يتسم بالشيء، ولم يحمل الشيء اسماً من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء، وأنه أكبر الأشياء، إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، وتكذيباً للزنادقة، ومن تقدمهم ممن جحد معرفته، وأنكر ربوبيته، من سائر الأمم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (1) ، فدل على نفسه أنه شيء، لا كالأشياء، وأنزل في ذلك خبراً خاصاً مفرداً، لعلمه السابق أن جهماً وبشراً، ومن قال بقولهما، سيلحدون في أسمائه وصفاته، ويشبهون على خلقه، ويدخلونه وكلامه في الأشياء المخلوقة، فقال عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (2) ، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة، بهذا الخبر، تكذيباً لمن ألحد في كتابه، وافترى عليه، وشبهه بخلقه. وعدد أسماءه في كتابه، ولم يتسم بالشيء، ولم يجعل الشيء اسماً من أسمائه" (3) .

ونقل الحافظ عن ابن بطال: " أن الآيات والآثار المذكورة في هذا الباب ترد على من زعم أنه لا يجوز أن يطلق على الله -تعالى- أنه شيء، كما صرح به

(1) الآية 19 من سورة الأنعام.

(2)

الآية 11 من سورة الشورى.

(3)

"الحيدة"(ص24-25) مطابع القصيم.

ص: 344

عبد الله الناشيء المتكلم (1) وغيره.

كما ترد على من زعم أن المعدوم شيء، وقد أطبق العقلاء على أن لفظ "شيء" يقتضي إثبات موجود، وعلى أن لفظ " لا شيء" يقتضي نفي موجوده، إلا ما تقدم من إطلاقهم "ليس بشيء" في الذم" (2) .

وهذا الذي ذكره الحافظ عن ابن بطال واضح، وقد تقدم ما يدل عليه.

(1) هو: أبو العباس عبد الله بن محمد الناشيء الشاعر المتكلم - يعرف بابن شرشير، أصله من الأنبار، وأقام ببغداد مدة طويلة، ثم خرج إلى مصر، وتوفي بها سنة ثلاث وتسعين ومائتين. "الشذرات"(2/214) .

(2)

"الفتح"(13/402-403) .

ص: 345

46-

قال: " حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: " أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا - لسور سماها-".

سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلب بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري، من مشاهير الصحابة، ذكر ابن حبان أن اسمه حزن، فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشرة سنة وعمر طويلاً، فكان آخر من مات في المدينة من الصحابة، على أحد الأقوال، رضوان الله عليهم أجمعين، وله أحاديث كثيرة في كتب الحديث، مات سنة إحدى وتسعين من الهجرة (1) .

هذا الحديث مختصر من قصة الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل من أصحابه: إن لم يكن لك بها حاجة، فزوجنيها يا رسول الله، قال له صلى الله عليه وسلم:" أمعك شيء تعطيها إياه؟ قال: لا، قال: التمس ولو خاتماً من حديد، فلما لم يجد، قال له: هل معك شيء من القرآن؟ - أي: هل تحفظ شيئاً منه؟ - قال: نعم سورة كذا، وسورة كذا، لسور سماها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " زوجتكها على ما معك من القرآن" أي يكون تعليمه لها ما معه من سور القرآن صداقاً لها.

والمقصود هنا أنه أطلق الشيء على القرآن، بقوله:" أمعك شيء من القران؟ " وهو صفة من صفات الله -تعالى- والصفة لها حكم الموصوف، فيصح إطلاق ذلك على الله -تعالى-.

وقد تقم في كلام عبد العزيز الكناني " أن لفظ الشيء يطلق على القرآن

(1)"الإصابة"(2/87) ، "الاستيعاب"(2/94) .

ص: 346

إثباتاً لوجوده، وحقيقته، ونفياً لعدمه، وليس لفظ الشيء اسماً له، كما أنه يطلق على الله -تعالى- كذلك.

وأن الله أجرى كلامه على ما أجره على نفسه، إذ كان كلامه من ذاته، ومن صفاته، فلم يتسم بالشيء، ولم يجعل الشيء اسماً من أسمائه، ولكنه دل على نفسه

أنه شيء، وأنه أكبر الأشياء، إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، وتكذيباً للزنادقة ومن تقدمهم، ممن جحد معرفته وأنكر ربوبيته من سائر الأمم" (1) .

(1) انظر: " الحيدة"(ص24) .

ص: 347

قال: " باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (1) ، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) ".

قال الأزهري: " العرش في كلام العرب: سرير الملك يدل على ذلك سرير ملكة سبأ، سماه الله - جل وعز- عرشاً، فقال:{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (3) .

قلت: والعرش في كلام العرب - أيضاً -: سقف البيت، وجمعه عروش، ومنه قول الله - جل وعز -:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} (4) .

قال الكسائي: {عَلَى عُرُوشِهَا} على أركانها.

وقال غيره من أهل اللغة: على سقوفها، أراد أن حيطانها قائمة، وقد تهدمت سقوفها، فصارت في قرارها، وانقعرت الحيطان من قواعدها، فتساقطت على السقوف المتهدمة قبلها" (5) .

"وقال الليث: العرش: السرير للملك، والعرش، والعريش: ما يستظل به.

قال: وعرش الرجل: قوام أمره، فإذا زال قوام أمره، قيل: ثل عرشه" (6) .

وقال الجوهري: " العرش: سرير الملك، وعرش البيت: سقفه، والعرش،

(1) الآية 7 من سورة هود.

(2)

الآية 129 من سورة التوبة.

(3)

الآية 23 من سورة النمل.

(4)

الآية 259 من سورة البقرة.

(5)

"تهذيب اللغة"(1/413) .

(6)

المصدر نفسه (1/415) .

ص: 349

والعريش: ما يستظل به، وعرش القدم: ما نتأ في ظهرها، وفيه الأصابع، وعرش البئر" طيها بالخشب، بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة قدر قامة، فذلك الخشب هو العرش، والجمع عروش.

وعرش يعرش ويعرش عرشاً، أي: بنى بناء من خشب" (1) .

ويظهر مما ذكره أهل اللغة: أن العرش اسم للسرير المرتفع العظيم، الذي يجلس عليه الملك، ويطلق على السقف وعرش الرب - جل وعلا - له المعنيان فهو محل استوائه تعالى، وهو سقف المخلوقات.

قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (2) قال ابن جرير: " يقول -تعالى-: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض، وما فيهن".

ثم روى عن مجاهد: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئاً.

وروى بسنده عن قتادة: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} ينبئكم ربكم تبارك وتعالى كيف كان بدء خلقه، قبل أن يخلق السموات والأرض.

ثم روى حديث أبي رزين العقيلي: " قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا، قبل أن يخلق خلقه؟ قال: " كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء".

وفي رواية: " قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ " الخ (3) .

(1)"الصحاح"(3/1010) .

(2)

الآية 7 من سورة هود.

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/11، 12)، والترمذي في "التفسير" من "سننه" (4/351) وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه في "السنن"(1/64) رقم (182) والطبري أيضاً في "التاريخ"(1/19) .

ص: 350

ثم روى عن ابن عباس، أنه سئل:" وكان عرشه على الماء، على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح"(1) .

وقال الترمذي: " حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس (2) ، عن عمه أبي رزين، قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا، قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء، ما تحته هواء،

وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء"، قال أحمد: " قال يزيد: العماء، أي ليس معه شيء" (3) .

قال أبو عبيد: " العماء في كلام العرب، السحاب الأبيض"، قال الأصمعي وغيره، هو ممدود.

وقال الحارث بن حلزة اليشكري:

وكأن المنون تردي بنا أعـ

ـصم ينجاب عنه العماء

يقول: هو في ارتفاعه، قد بلغ السحاب ينشف عنه، يقول: نحن في عزنا مثل الأعصم، فالمنون إذا أرادتنا، فكأنما تريد أعصم.

وإنما تأولنا هذا الحديث، على كلام العرب المعقول عنهم، ولا ندري كيف كان ذلك العماء، وما مبلغه، والله أعلم.

وأما العمى في البصر، فإنه مقصور، وليس هو من معنى الحديث في شيء " ا. هـ (4) ، نقل هذا الكلام الأزهري، ثم قال: "قلت: وقد بلغني، عن أبي الهيثم- ولم يعزه لي إلى ثقة - أنه قال في تفسير هذا الحديث، ولفظه: أنه كان في عمى مقصور، قال: وكل أمر لا تدركه القلوب بالعقول، فهو عمى، والمعنى: أنه كان حيث لا تدركه عقول بنى آدم، ولا يبلغ كنهه وصف.

(1)"تفسير الطبري"(15/245-249) بتحقيق محمود شاكر.

(2)

قال الترمذي: هكذا يقول حماد بن سلمة: وكيع بن حدس.

(3)

"سنن الترمذي"(4/351) .

(4)

"الغريب"(2/8-9) .

ص: 351

قلت أنا (1) : والقول عندي، ما قاله أبو عبيد، أنه العماء، ممدود، وهو السحاب، ولا يدري كيف ذلك العماء، بصفة تحصره، ولا نعت يحده، ويقوى هذا القول قول الله - جل وعز -:{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} (2) فالغمام معروف في كلام العرب.

إلا أنا لا ندري كيف الغمام الذي يأتي الله عز وجل يوم القيامة في ظلل منه، فنحن نؤمن به، ولا نكيف صفته، وكذلك سائر صفات الله عز وجل " ا. هـ (3) .

فعلى ما ذكره يزيد بن هارون، وأقره الترمذي، يكون المعنى: ليس مع الله شيء، فيدل على أن الله -تعالى- كان، ولم يكن معه شيء، كما سيأتي في حديث عمران، - إن شاء الله تعالى -.

وعلى قول من فسر العماء بالسحاب الرقيق، ورجحه الأزهري، لا يدل على قول الفلاسفة الدهرية، بقدم العالم، وتبنى مذهبهم الماديون اليوم، وذلك أن الله -تعالى- أخبرنا في كتابه، بابتداء الخلق، وإعادته كما قال -تعالى-:{وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده} (4) ، كما أخبر بخلق السماوات، والأرض وما بينهما في ستة أيام، في مواضع كثيرة من كتابه -تعالى- (5) .

(1) القائل هو الأزهري.

(2)

الآية 210 من سورة البقرة.

(3)

"تهذيب اللغة"(3/246) .

(4)

الآية 27 من سورة الروم.

(5)

انظر: " نقض تأسيس الجهمية"(1/154) .

ص: 352

وقوله: {وهو رب العرش العظيم} (1) أي: هو -تعالى- المالك للعرش، الذي هو أكبر المخلوقات، وأعظمها، وهو المتصرف فيه، وهو عرشه الذي استوى عليه، فاختاره لذلك.

فالإضافة تقتضي اختصاصاً للعرش من بين المخلوقات، فهو -تعالى- رب كل مخلوق، فإضافة العرش إليه - تعالى - ووصفه بأنه عظيم، يدل على خصوصية للعرش، ليست لغيره من سائر المخلوقات، كما يدل على أنه -تعالى- مالك لكل ما دون العرش بطريق الأولى. والمتصرف فيه كيف يشاء.

قال ابن جرير: " وإنما عنى بوصفه - جل ثناؤه - نفسه بأنه " رب العرش العظيم" الخبر عن جميع ما دونه، أنهم عبيده، وفي ملكه وسلطانه؛ لأن العرش إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه ذو العرش، دون سائر خلقه، وأنه الملك العظيم، دون غيره، وأن من دونه، في سلطانه وملكه، جار عليه حكمه وقضاؤه"(2) .

وقال ابن كثير: " وهو رب العرش العظيم" أي: هو مالك كل شيء، وخالقه؛ لأنه رب العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات، وجميع المخلوقات، من السماوات والأرضين، وما فيهما، وما بينهما، تحت العرش، مقهورون بقدرة الله -

تعالى -، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل" (3) .

"قال - جل وعلا-: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} (4)، وقال - جلت عظمته-:{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (5)، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} (6) ، وقال

(1) آخر آية سورة التوبة.

(2)

"تفسير الطبري"(14/587) بتحقيق محمود شاكر.

(3)

"تفسير ابن كثير"(4/179-180) ط الشعب.

(4)

الآية 15 من سورة البروج.

(5)

الآية 75 من سورة الزمر.

(6)

الآية 7 من سورة غافر.

ص: 353

تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1) .

وأقوال أهل التفسير {متفقة} على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه، والطواف به، كما خلق في الأرض بيتاً، وأمر بنى آدم بالطواف به، واستقباله في الصلاة.

وفي الآيات المتقدمة دلالة على صحة ما ذهبوا إليه " ا. هـ (2) .

والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعين لهم، في ذكر العرش ووصفه، وأن الله -تعالى- مستو عليه، كثيرة جداً، وسيأتي طرف يسير منها، - إن شاء الله تعالى -.

ففي "الصحيحين" عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد"(3) .

"وقال ابن مسعود في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال: العرش على الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه"(4) .

وقال سليمان التيمي: لو سئلت: أين الله؟ لقلت: في السماء، فإن قال: أين كان عرشه قبل السماء؟ لقلت: على الماء، فإن قال: فأين كان عرشه قبل خلق الماء؟ قلت: لا أعلم.

قال البخاري: " وذلك لقوله -تعالى-: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} يعني: إلا بما بين"(5) .

(1) الآية 17 من سورة الحاقة.

(2)

" الأسماء والصفات" للبيهقي (ص392)، والمفروض أن يقول: خلقه الله واستوى عليه وأمر ملائكته الخ. ولكن أبي عليه المذهب ذلك.

(3)

"البخاري مع الفتح"(7/123) ، و"مسلم"(4/1915) .

(4)

"خلق أفعال العباد"(ص43) .

(5)

المصدر نفسه (ص37) .

ص: 354

وقال أبو نصر السجزي في "الإبانة": " وأئمتنا، كسفيان، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، والفضيل، وبن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، متفقون على أن الله - سبحانه - فوق العرش، وعلمه بكل مكان، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما يشاء"(1) .

والنصوص في ذكر العرش، وأن الله -تعالى- مستو عليه، كثيرة جداً.

وآمن الصحابة وأتباعهم بذلك، على ما دلت النصوص عليه ظاهراً، دون تأويل أو تحريف، وبلا تشبيه ولا تمثيل، كما سيأتي بعض ذلك، - إن شاء الله تعالى -.

قوله: " قال أبو العالية: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ارتفع، {فسواهن} خلقهن وقال مجاهد: {استوى} : علا على العرش".

هذا الذي ذكره البخاري عن أبي العالية، ومجاهد، هو الذي يقوله ويعتقده عامة السلف من الصحابة وأتباعهم إلى اليوم.

وهو الحق الذي دلت عليه النصوص، وجاءت تعبيراتهم في ذلك في أربعة ألفاظ، ما ذكره البخاري هنا، وثالثها "صعد"، ورابعها "استقر"، وسوف أذكرها مع أسانيدها إليهم:

قال ابن جرير: " حدثت، عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} يقول: ارتفع إلى السماء"(2) .

وروى اللالكائي بسنده، عن بشر بن عمر، قال: سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : ارتفع " (3) .

(1) نقلاً عن "سير أعلام النبلاء"(17/650) .

(2)

"تفسير الطبري"(1/429) بتحقيق محمود شاكر.

(3)

"شرح أصول اعتقاد أهل السنة"(3/397) .

ص: 355

قال ابن عبد البر: " الاستواء: الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل فقال:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (1)، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (2) .

وقال الشاعر:

فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد خلق النجم اليماني فاستوى

وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى؛ لأن النجم لا يستولي.

وقد ذكر النضر بن شميل -وكان ثقة مأموناً، جليلاً في علم الديانة، واللغة - قال: "حدثني الخليل - وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال؟ قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه، إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (3) ، فصعدنا إليه، فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلاماً، فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه سألكم

متاركة لا خير فيها، ولا شر، قال الخليل:

(1) جزء من الآية 44 من سورة هود.

(2)

الآية 28 من سورة المؤمنون.

(3)

الآية 11 من سورة فصلت.

ص: 356

هو من قول الله عز وجل: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (1) " (2) ا. هـ.

قال البغوي: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال الكلبي، ومقاتل: استقر.

وقال أبو عبيدة: صعد".

ثم قال: " وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء، وأما أهل السنة، فيقولون: الاستواء على العرش صفة لله -تعالى- بلا كيف، يجب على العبد الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل "(3) .

وقال البخاري: " حدثت عن يزيد بن هارون، قال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى، على خلاف ما يقر في قلوب العامة، فهو جهمي"(4) .

ومراده: أن الاستواء من الأمور الواضحة، التي يفهمها عامة المسلمين إذا كانوا من أهل اللغة العربية.

كما أن مراد البغوي في قوله: " ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل ": علم الكيفية، وأما معناه في اللغة، فهو معلوم ظاهر، كما يأتي في كلام الإمام مالك، وشيخه ربيعة، وأم سلمة.

قال ابن جرير: الاستواء في كلام العرب يأتي على وجوه:

منها: انتهاء شباب الرجل، وقوته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل.

ومنها: استقامة ما كان فيه أود، من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره، إذا استقام بعد أود، ومنه قول الطرماح بن حكيم:

طال على رسم مهدد أبده وعفا واستوى به بلده

(1) الآية 63 من سورة الفرقان.

(2)

"التمهيد"(7/131، 132) .

(3)

"تفسير البغوي"(2/237) .

(4)

"خلق أفعال العباد "(ص127) مجموعة عقائد السلف.

ص: 357

يعنى استقام به.

ومنها: الإقبال على الشيء، يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسؤوه بعد الإحسان إليه.

ومنها: الاحتياز، والاستيلاء، كقولهم: استوى على المملكة، بمعنى: احتوى عليها، وحازها.

ومنها: العلو، والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به: علوه عليه" (1) .

قلت: قد أنكر أهل اللغة المعنى الثالث، والرابع، مما ذكره ابن جرير في الاستواء المعدى بعلى.

قال ابن القيم: "ولفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله به وأنزل به كلامه نوعان، مطلق، ومقيد.

فالمطلق: ما لم يوصل معناه بحرف، مثل قوله:{ولما بلغ أشده واستوى} ، وهذا معناه: كمل وتم، استوى الزرع واستوى الطعام.

وأما القيد: فثلاثة أضرب:

أحدها: مقيد بإلى، كقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} (2) ، واستوى فلان إلى السطح، وقد ذكر تبارك وتعالى هذا المعدى بإلى في موضعين من كتابه، في البقرة في قوله -تعالى-:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ، والثاني في سورة حم السجدة، قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} وهذا بمعنى العلو والارتفاع، بإجماع السلف.

(1)"تفسير الطبري"(1/429) بتحقيق محمود شاكر.

(2)

الآية 29 من سورة البقرة، والآية 11 من سورة فصلت.

ص: 358

الثاني: مقيد بعلى، كقوله -تعالى-:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} (1)، وقوله:

{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (2)، وقوله:{فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} (3) ، وهذا معناه - أيضاً - العلو والارتفاع والاعتدال، بإجماع أهل اللغة.

الثالث: المقرون بواو المعية، التي تعدي الفعل إلى المفعول معه، نحو: استوى الماء والخشبة، بمعنى: ساواها.

فهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، ليس فيها "استولى" البتة، ولا نقله أحد من أئمة اللغة، الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخرو النحاة، ممن سلك طريق المعتزلة، والجهمية.

والذين قالوه، لم يقولوه نقلاً، فإن ذلك مجاهرة بالكذب، ولكن قالوه استنباطاً وحملاً منهم للفظة " استوى" على "استولى" ولذلك لما سمع أهل اللغة ذلك أنكروه غاية الإنكار.

قال ابن الأعرابي - وقد سئل هل يصح أن يكون استوى بمعنى استولى؟ - فقال: لا تعرف العرب ذلك - وهو من أكابر أئمة اللغة-" ا. هـ (4) .

قال ابن جرير: " وأولى المعاني بقول الله - جل ثناؤه-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ} : علا عليهن، وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سماوات، والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم، من كلام العرب، في تأويل قول الله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} الذي هو بمعنى العلو، والارتفاع، هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك - أن يكون إنما علا

(1) الآية 13 من سورة الزخرف.

(2)

الآية 44 من سورة هود.

(3)

الآية 29 من سورة الفتح.

(4)

"مختصر الصواعق"(ص320) ببعض التصرف.

ص: 359

وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى تأويله بالمجهول، المستكره، ثم لم ينج مما هرب منه.

فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: " استوى ": أقبل، أفكان مدبراً عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها، علو ملك، وسلطان، لا علو انتقال وزوال، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً، إلا لزم في الآخر مثله" (1) .

قوله: " فقل: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال" هو من جنس كلام أهل البدع، فلا ينبغي، وهو خلاف الظاهر من النصوص، بل هو من التأويل الباطل.

قال ابن القيم: " نقل معنى الاستواء، كنقل لفظه، بل أبلغ، فإن الأمة كلها تعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربه بأنه استوى على عرشه، من يحفظ القرآن منهم، ومن لا يحفظه، كما قال مالك، وأئمة السنة: الاستواء معلوم، غير

مجهول، كما أن معنى السمع، والبصر، والقدرة، والحياة، والإرادة، وسائر ما أخبر به -تعالى- عن نفسه معلوم، وإن كانت كيفيته غير معلومة للبشر، فإنهم لم يخاطبوا بالكيفية، ولم يرد منهم العلم بها.

فإخراج الاستواء عن حقيقته المعلومة، كإنكار لفظه، بل أبلغ، وهذا مما يعلم أنه مناقض لما أخبر الله به ورسوله، فإن فهم معنى اللفظ هو المراد منه، وهو المقصود بالذات، لا اللفظ، فإن اللفظ مقصود قصد الوسائل للتعريف بالمراد، فإذا انتفى المعنى، وكانت إرادته محالاً - كما زعموا - لم يبق لذكر اللفظ فائدة، بل كان تركه أنفع من الإتيان به، فإن الإتيان به يحصل منه إيهام التشبيه، ويوقع الأمة في اعتقاد الباطل - على حد زعمهم - ولا ريب أن هذا إذا نسب إلى آحاد الناس كان ذمة أولى من مدحه، فيكف يجوز أن ينسب إلى من في كلامه الهدى، والشفاء؟ ومن المتفق عليه أنه لا يجوز أن يتكلم الله ورسوله

(1)"تفسير الطبري"(1/430) بتحقيق محمود شاكر.

ص: 360

بالشيء ويريد خلاف ظاهره" (1) .

وقال - أيضاً-: " وظاهر الاستواء: العلو، والارتفاع، كما نص عليه جميع أهل اللغة، وأهل التفسير المقبول، فلا يحتمل استواء الرب تبارك وتعالى على عرشه المعدى بعلى، المعلق بالعرش، المعرف بالألف واللام، المعطوف على خلق السماوات والأرض بثم مطرداً في " موارده" بهذا الأسلوب، لا يحتمل إلا معنى واحداً، لا معنيين، ولا كما يقول صاحب "العواصم والقواصم" (2) :

إذا قال لك المجسم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3)، فقل:" استوى على العرش" يستعمل على خمسة عشر وجهاً، فأيها تريد؟

فيقال له: كلا والذي استوى على العرش، لا يحتمل هذا اللفظ معنيين ألبتة، والمدعي للإحتمال عليه الدليل، والأصل عدم الاشتراك والمجاز، ولم تذكر على دعواك دليلاً، ولم تبين الوجوه المحتملة، مع ذكر الدليل عليه.

والمقصود: أن استواء الرب -تعالى- على عرشه، المختص به، الموصول بأداة "على" نص في معناه، لا يحتمل سواه" ا. هـ (4) .

وقال الحافظ: " نقل أبو إسماعيل الهروي، في كتابه: الفاروق، بسنده إلى داود ابن علي بن خلف، قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي - يعني يحيى بن زياد اللغوي- فقال له رجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5)، فقال: هو على العرش، كما أخبر، قال: يا أبا عبد الله إنما معناه: استولى، فقال: اسكت، لا يقال: استولى على شيء، إلا أن يكون له مضاد.

(1)"مختصر الصواعق"(ص331-332) .

(2)

هو ابن العربي المالكي.

(3)

الآية 5 من سورة طه.

(4)

"مختصر الصواعق" ملخصاً (ص332-334) .

(5)

الآية 5 من سورة طه.

ص: 361

ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي، سمعت ابن الأعرابي يقول: أرادني أحمد بن أبي دؤاد، أن أجد له في لغة العرب {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) بمعنى استولى، فقلت: والله ما أصبت هذا.

وقال غيره: لو كان بمعنى استولى، لم يختص بالعرش؛ لأنه غالب على جميع المخلوقات" ا. هـ (2) .

وروى اللالكائي بسنده من طريق الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3)، قالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر.

وروى عن مالك، جاء إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء، كموجدته من مقالته، وعلاه الرحضا- يعنى العرق- قال: وأطرق القوم، وجعلوا ينظرون ما يأتي منه فيه، فسري عن ذلك، فقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به فأخرج.

وذكر بسنده عن ابن عيينة، قال: سئل ربيعة، عن قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق".

(1) ورواه اللالكائي في "شرح أصول السنة"(2/399) .

(2)

"الفتح"(13/406) ، وذكر آثاراً كثيرة بهذا المعنى فليراجع.

(3)

"شرح أصول السنة" اللالكائي (2/398) .

(4)

"شرح أصول السنة"(2/398) .

ص: 362

وذكر البيهقي بسنده، عن الأوزاعي، قال:" كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة، من صفاته"(1) .

قال الحافظ: سنده جيد (2) .

وقال: " وأخرج الثعلبي، من وجه آخر، عن الأوزاعي، أنه سئل عن قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) . فقال: هو كما وصف نفسه"(4) .

"قال أبو الأثرم، في كتاب "السنة": حدثنا إبراهيم بن الحارث - يعني العبادي- حدثني الليث بن يحيى، سمعت إبراهيم بن الأشعث، قال أبو بكر - هو صاحب الفضيل - سمعت الفضيل بن عياض، يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف؛ لأن الله وصف نفسه فأبلغ، فقال:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) فلا صفة أبلغ مما وصف الله عز وجل نفسه، وكل هذا النزول، والضحك، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع، كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم فيه كيف، وكيف، وإذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء.

وقال الخلال: وأنبأنا محمد بن علي الوراق: حدثنا أبو بكر الأثرم، حدثني محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك، قيل

له: كيف نعرف ربنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه بحد، فقال أحمد: هكذا هو عندنا.

(1)" الأسماء والصفات "(ص408) .

(2)

"الفتح"(13/406) .

(3)

الآية 5 من سورة طه.

(4)

"الفتح "(13/406) .

(5)

سورة الإخلاص كاملة.

ص: 363

وأخبرني حرب بن إسماعيل، قال: قلت لإسحاق - يعني ابن إبراهيم - هو على العرش بحد؟ قال: نعم بحد.

وذكر عن ابن المبارك، قال: هو على عرشه، بائن من خلقه، بحد.

وأخبرنا المروزي، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: قال الله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ، إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء، في أسفل الأرض السابعة، وفي قعور البحار، ورؤوس الآكام، وبطون الأودية، وفي كل موضع، كما يعلم علم ما فوق السماوات السبع، وما فوق العرش، أحاط بكل شيء علماً، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات البر والبحر، ولا رطب ولا يابس، إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه، فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره" (2) .

ومعنى قولهم: "بحد" أنه -تعالى- بائن من خلقه، غير حال فيهم، ولا مخالط لهم - تعالى وتقدس - وقد قيدوا الحد، بأنه لا يعلمه إلا هو -تعالى- وهو قريب من قول الإمام مالك وغيره:" الاستواء معلوم، والكيف مجهول"، فبين أن كيفية استوائه -تعالى- على العرش مجهولة للعباد، ولكنه لم ينف ثبوت ذلك في نفس الأمر، فكذلك قولهم: له حد لا يعلمه إلا هو، والله أعلم.

قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي - رحمه الله تعالى - في رده على بشر المريسي: " والله -تعالى- له حد، لا يعلمه غيره، ولا يجوز أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن نؤمن بالحد، ونكل علم ذلك إلى الله -تعالى-، ولمكانه حد، وهو على عرشه، فوق سماواته، فهذان حدان"(3) .

وقال عبد العزيز بن يحيى المكي الكناني، صاحب " الحيدة في الرد على الزنادقة والجهمية": " زعمت الجهمية في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ

(1) الآية 5 من سورة طه.

(2)

درء تعارض العقل والنقل" (2/24، 34-35) .

(3)

رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي (ص382)" مجموع عقائد السلف "

ص: 364

اسْتَوَى} (1) أنما

المعنى: استوى، كقول العرب: استوى فلان على مصر، استوى فلان على الشام، يريد: استولى عليها.

فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه؟ فإذا قال: لا.

قيل له: فمن زعم ذلك؟ فمن قوله: من زعم ذلك، فهو كافر.

يقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك أن الله تبارك وتعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض، ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض.

قال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (2) ، فأخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، وقال -تعالى-:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3)، وقال:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ} (4) .

فأخبر أنه استوى على العرش، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان على العرش فيها، قبل خلق السماوات، والأرض، ليس الله بمستول عليه، إذ كان: استوى على العرش، معناه عندك: استولى.

فإنما استولى بزعمك في ذلك الوقت لا قبله " ثم ذكر حديث عمران الآتي وحديث أبي رزين المتقدم، ثم قال:

" فقال الجهمي: أخبرني كيف استوى على العرش؟ أهو كما يقال: استوى فلان على السرير، فيكون السرير قد حوى فلاناً وحده إذا كان عليه؛ لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا؟

(1) الآية 5 من سورة طه.

(2)

الآية 7 من سورة هود.

(3)

الآية 4 من سورة السجدة.

(4)

الآية 29 من سورة البقرة.

ص: 365

فيقال له: أما قولك: كيف استوى؟ فإن الله لا يجري عليه كيف، وقد أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى، فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم، باستوائه على العرش، وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى؛ لأنه لم يخبرهم

كيف ذلك، ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت، وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون.

فآمنوا بخبره عن الاستواء، ثم ردوا علم "كيف استوى" إلى الله.

ولكن يلزمك - أيها الجهمي- أن تقول: إن الله محدود، وقد حوته الأماكن، إذا زعمت في دعواك، أنه في الأماكن، لأنه لا يعقل شيء في مكان، إلا والمكان قد حواه، كما تقول العرب: فلان في البيت، والماء في الجب، فالبيت قد حوى فلاناً، والجب قد حوى الماء.

ويلزمك اشنع من ذلك؛ لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى، وذلك أنهم قالوا: إن الله عز وجل في عيسى، وعيسى بدن إنسان واحد، وكفروا بذلك، وأنتم تقولون: إنه في كل مكان، وفي بطون النساء كلهن، و {في} بدن عيسى، وأبدان الناس كلهم.

ويلزمك أيضاً أن تقول: إنه في أجواف الكلاب، والخنازير، لأنها أماكن، وعندك أن الله في كل مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً" (1) .

وقال أبو الحسن الأشعري في "الإبانة": " إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه، كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2)، وقال -تعالى-:{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} (3) ، فالسموات فوقها العرش، فلما كان

(1)"درء تعارض العقل والنقل"(6/115-118) .

(2)

الآية 5 من سورة طه.

(3)

الآية 16 من سورة الملك.

ص: 366

العرش فوق السموات قال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} لأنه مستو على العرش، الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس ذا قال:{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش، الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال:{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (1) ، ولم يرد أن القمر يملأهن جميعاً، وأنه فيهن جميعاً.

ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا، نحو السماء، لأن الله عز وجل مستو على العرش، الذي هو فوق السماوات، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض.

ولو كان كما تقوله المعتزلة، والجهمية، أن معناه: استولى، وملك، وقهر، لم يكن هناك فرق بين العرش، والأرض السابعة، ولكان مستوياً على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش، والأقذار" (2) ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وقال الباقلاني - وهو من أئمة الأشاعرة -: " فإن قال قائل: أتقولون: إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبرنا في كتابه، فقال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3)، وقال:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4)، وقال:{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (5) .

(1) الآية 16 من سورة نوح.

(2)

"الإبانة"(ص85-87) ملخصاً.

(3)

الآية 5 من سورة طه.

(4)

الآية 10 من سورة فاطر.

(5)

الآية 16 من سورة الملك.

ص: 367

ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان، وفمه، وفي الحشوش، والمواضع التي نرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا، وشمائلنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه، وتخطئة قائله" (1) .

وقال شيخ الإسلام: " وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول: إن السموات تقله، أو تظله، لما في ذلك من احتياجه إلى مخلوقاته، فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إليه، كاحتياج المحمول، إلى حامله، فإنه كافر؛ لأن الله غني عن العالمين - حي، قيوم - الغنى المطلق، وما سواه فقير إليه.

مع أن أصل الاستواء على العرش، ثابت بالكتاب، والسنة، واتفاق سلف الأمة، وأئمة السنة، بل ثابت في كل كتاب، أنزل على كل نبي أرسل" (2)

وذكر عن أبي عمرو الطلمنكي: أنه قال: " قال أهل السنة، في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) : أن الاستواء من الله على عرشه المجيد، على الحقيقة، لا على المجاز "(4) .

وقال ابن عبد البر في شرح حديث النزول: " وفيه دليل على أن الله في السماء، على العرش من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله في كل مكان، وليس على العرش.

(1)"التمهيد"(ص260) .

(2)

"مجموع الفتاوى "(2/188) .

(3)

الآية 5 من سورة طه.

(4)

"مجموع الفتاوى "(3/261) .

ص: 368

ومن الدليل على صحة ما قاله أهل الحق، قول الله -تعالى-:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ".

قال شيخ الإسلام: " وفي الفقه الأكبر، المروي عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله قال: " من قال: لا أعرف ربي في السماء، أم في الأرض، فقد كفر؛ لأن الله -تعالى- يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سماواته.

قلت: فإن قال: أنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري، العرش في السماء، أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه -تعالى- في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل.

وفي لفظ: سألت أبا حنيفة: عمن يقول: لا أعرف ربي، في السماء، أم في الأرض؟ قال: قد كفر؛ لأن الله -تعالى- يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وعرشه فوق سبع سماوات.

قال: فإنه يقول: على العرش استوى، ولكن لا يدري العرش في الأرض، أو في السماء؟ قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر".

ثم قال: " ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة، عند أصحابه؛ أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي، في السماء، أم في الأرض.

فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول: ليس في السماء، أو ليس في السماء ولا في الأرض؟

واحتج على كفره بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: وعرشه فوق سبع سموات، وبين بهذا أن قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى

(1)"التمهيد "(7/129) .

(2)

الآية 5 من سورة طه.

ص: 369

الْعَرْشِ اسْتَوَى} يبين أن الله فوق السماوات، فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش.

ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى، ولكن توقف في كون العرش في السماء، أم في الأرض؛ قال: لأنه أنكر أنه في السماء، لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل.

وهذا تصريح من أبي حنيفة رحمه الله بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء.

واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى، لا من أسفل.

وقد جاء اللفظ الآخر صريحاً عنه بذلك، فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر" (1)

وكلام العلماء من أهل السنة من السلف وأتباعهم في هذا الموضوع كثيرة جداً، فنكتفي بهذا الطرف اليسير؛ لأن العاقل المنصف، الذي يريد الحق، ويطلبه إذا بان له الدليل، كفاه اليسير، وأما من ضل وعاند فلا يفيده البيان والإكثار من الكلام، والله الهادي، وهو المستعان.

قوله: " وقال ابن عباس: المجيد: الكريم، والودود: الحبيب. يقال: حميد مجيد، كأنه فعيل من ماجد، محمود من حمد ".

قول ابن عباس انتهى عند قوله: يقال. قال الحافظ: " وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: المجيد الكريم، وبه - أي بالسند - عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} . قال: الودود: الحبيب"(2) .

(1)"مجموع الفتاوى"(8/47-49) .

(2)

"الفتح"(13/408) .

ص: 370

وذكر السيوطي أنه خرجه ابن جرير، وقال المنذر، والبيهقي في "الصفات" في الموضعين" (1) .

قلت: يقصد البخاري رحمه الله أن العرش أضيف إلى الله -تعالى- الإضافة الدالة على المصاحبة، والاختصاص، حيث قال:{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} أي: صاحب العرش، فدل ذلك على اختصاص العرش المذكور بالله -تعالى- دون سائر المخلوقات، والمجيد قرئ بالرفع صفة لذو، الذي هو الله -تعالى- وقرئ بالجر صفة للعرش.

قال ابن جرير: " قرأ عامة قراء المدينة ومكة، وبعض الكوفيين، بالرفع، رداً على قوله:{ذُو الْعَرْشِ} ، على أنه صفة الله - تعالى ذكره - وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة خفضاً، على أنه من صفة العرش.

والصواب من القول: أنهما قراءتان، معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب" (2) .

قال أبو حيان: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} خص العرش بإضافة نفسه، تشريفاً للعرش، وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات" (3) .

و"المجيد" فسره ابن عباس بالكريم، وقد جاء في القرآن وصف العرش بأنه كريم، قال -تعالى-: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ

الْكَرِيمِ} (4) ، فوصف العرش بأنه كريم لسعته وحسنه، وهو في وصف الله: الجواد، واسع العطاء، كثير الخير، حميد الصفات.

(1)"الدر المنثور"(8/471)، وانظر:" الطبري"(30/138، 139) .

(2)

"تفسير الطبري"(30/139) .

(3)

"البحر المحيط"(8/452) .

(4)

الآية 116 من سورة المؤمنون.

ص: 371

قال في "القاموس": {المجيد} الرفيع العالي، والكريم، والشريف الفعال" (1) .

قوله: {الودود} الحبيب، تقدم أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس بسند متصل، الود: خالص الحب وصافيه.

وفي القاموس: " الودود" كثير الحب، وقد تقدم الكلام في صفة المحبة.

" الْوَدُودُ " فعول من الود، قال الله عن شعيب عليه السلام:{إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (2)، وقال -تعالى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (3) ، فقرنه بالرحيم في موضع، وبالغفور في موضع.

قال أبو بكر بن الأنباري: {الْوَدُود} معناه: المحب لعباده، من قولهم: وددت الرجل أوده، وداً، ووداً، ووداً.

ويقال: وددت الرجل، وداداً، ووداداً، وودادة.

وقال الخطابي: هو اسم مأخوذ من الود، وفيه وجهان:

أحدهما: أن يكون فعولاً في محل مفعول، كما قيل: رجل هيوب، بمعني مهيب، وفرس ركوب، بمعنى مركوب. والله سبحانه وتعالى مودود في قلوب أوليائه؛ لما يعرفونه من إحسانه إليهم.

والوجه الآخر: أن يكون بمعنى الود، أي أنه تعالى يود عباده الصالحين.

قال -تعالى-: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (4) فسرت بأنه يحبهم، ويحببهم إلى عباده.

(1)(1/336) .

(2)

الآية 90 من سورة هود.

(3)

الآية 14 من سورة البروج.

(4)

الآية 96 من سورة مريم.

ص: 372

ويؤيده الحديث الصحيح: " إذا أحب الله عبداً نادى: يا جبريل، أني أحب فلاناً، فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً، فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض " وسيأتي - إن شاء الله تعالى -.

والأكثرون على ما ذكره ابن الأنباري، أنه فعول بمعنى فاعل، أي هو الواد، كما قرنه بالغفور، الذي يغفر، وبالرحيم هو الذي يرحم (1) .

وقوله: " يقال: حميد مجيد، كأنه فعيل من ماجد، محمود من حمد" قال الحافظ: " أصل هذا قول أبي عبيدة، في مجاز القرآن، في قوله: عليكم أهل البيت أي: محمود ماجد"(2) .

قال الكرماني: " غرضه منه، أن مجيداً بمعنى فاعل، كقدير بمعنى قادر، حميداً بمعنى مفعول، فلذلك قال: " مجيد من ماجد، حميد من محمود، قال: وفي بعض النسخ: محمود من حميد، وفي أخرى: من حمد، مبنى للفاعل، والمفعول أيضاً، وذلك لاحتمال أن يكون حميد بمعنى حامد، ومجيد بمعنى ممجد، ثم قال: وفي عبارته تعقيد" (3)

قال الحافظ: " قلت: وهو في قوله: " محمود من حمد" وقد اختلفت الرواة فيه، والأولى فيه ما وجد في أصله، وهو كلام أبي عبيدة "(4) .

"فالحميد الذي له من الصفات، وأسباب الحمد، ما يقتضى أن يكون محموداً، وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه.

(1)"النبوات"(ص71-72) ملخصاً.

(2)

"الفتح"(13/408) .

(3)

"شرح الكرماني على البخاري"(25/129) .

(4)

"الفتح"(13/408) .

ص: 373

والمحمود: من تعلق به حمد الحامدين، والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله، فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود، فمن أحببته ولم تثن عليه لم تكن حامداً له.

وهذا الثناء والحب، يتبع الأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال، والإحسان إلى الغير، فإن هذه هي أسباب المحبة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع وأكمل، كان الحمد والحب أتم وأعظم.

والله - سبحانه - له الكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجه، والإحسان كله له ومنه، فهو أحق بكل حمد، وبكل حب، فهو أهل أن يحب لذاته، ولصفاته، ولأفعاله، ولأسمائه، ولإحسانه، ولكل ما صدر منه.

والمجد مستلزم للعظمة، والسعة، والجلال، كما يدل عليه موضوعه في اللغة" (1) .

يقال: استمجد المرخ والعفار؛ لكثرة النار فيهما.

قال ابن القيم: " ومن أسمائه -تعالى- ما هو دال على جملة أوصاف عديدة، لا يختص بصفة معينة، بل هو دال على معناه، لا على معنى مفرد، نحو المجيد، العظيم، الصمد، فإن المجيد: من اتصف بصفات متعددة، من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا، فإنه موضوع في اللغة للسعة، والكثرة، والزيادة، فمنه: استمجد المرخ والعفار، وأمجد الناقة علفاً، ومنه {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} صفة للعرش، لسعته وعظمته وشرفه"(2) .

(1)"جلاء الأفهام"(ص187) .

(2)

"بدائع الفوائد "(1/160) .

ص: 374

47-

قال: " حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين، قال: " إني عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم، فقال:" اقبلوا البشرى يا بنى تميم" قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن، فقال:" اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قبلنا، جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال:" كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء" ثم أتاني رجل، فقال: يا عمران، أدرك ناقتك، فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها، فإذا السراب ينقطع دونها، وايم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم".

عمران، هو أبو نجيد، بضم النون وفتح الجيم، ابن حصين، الخزاعي، البصري، أسلم عام خيبر، سنة سبع، وشهد ما بعدها من غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من فضلاء الصحابة، وكانت الملائكة تسلم عليه مواجهة، وكان مجاب الدعوة، بعثه عمر إلى أهل البصرة يفقههم، وكان الحسن البصرى يحلف بالله ما قدمها مثله، اعتزل الناس في الفتنة، فلم يشهد شيئاً من حروبها، مات في البصرة سنة اثنتين وخمسين، رضي الله عنه (1) .

قوله: إني عند النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية التي ذكرها في بدء الخلق: " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب (2) .

(1)"الرياض المستطابة"(ص219) .

(2)

انظر: " البخاري مع الفتح"(6/286) .

ص: 375

ويظهر أن هذه الواقعة في المدينة، في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكرها البخاري في آخر المغازي، في ذكر الوفود على النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: " اقبلوا البشرى يا بني تميم" وفي رواية: " أبشروا يا بني تميم"، والمراد بهذه البشرى: الخير العظيم الذي يترتب على الإسلام، والنجاة من العذاب العظيم الذي يترتب على عدم الدخول في الإسلام، وذلك في الدنيا والآخرة.

قال الحافظ: " والمراد بهذه البشارة: أن من أسلم نجا من الخلود في النار، ثم بعد ذلك يترتب جزاؤه على وفق عمله، إلا أن يعفو الله"(1) .

"وتميم: اسم رجل، وهو تميم بن مر بن إد بن طابخة - واسم طابخة- عمرو بن إلياس بن مضر، والتميم في اللغة: الشريد"(2) . " قالوا: بشرتنا فأعطنا" يظهر أنهم ما فهموا مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بما أراده بالبشرى، أو أن رغبتهم في العاجلة، فعلقوا بها آمالهم، فقدموا ذلك على التفقه في الدين، والإقبال على تفهم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم، كما في الرواية الأخرى، وغير لون وجهه حيث استشعر قلة فقههم في الدين، ورغبتهم في الآخرة، والله أعلم.

"فدخل ناس من أهل اليمن " تقدم ذكر اليمن، وسبب تسميته في شرح حديث معاذ، "فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم" البشرى: اسم من البشير، وهي الإخبار بما يسر ويفرح غالباً، وسميت بذلك لأنه يظهر أثرها على بشرة الوجه.

قال الحافظ: " أي: اقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا بالجنة، إذا أخذتم به"(3) . ويؤخذ من هذا: أنه ينبغي - بل يتعين - قبول ما جاء عن الله ورسوله،

(1)"الفتح"(13/409) .

(2)

انظر: " نهاية الأرب"(ص188، 322) .

(3)

"الفتح"(6/288) .

ص: 376

بدون توقف أو استفسار، أو طلب للعلة والسبب؛ لأن قول بني تميم:" بشرتنا فأعطنا" لا يدل بظاهره على أنهم لم يقبلوها، ومع ذلك جعل عدم فهمهم للمقصود وطلبهم لأمر عاجل، عدم قبول للبشرى.

قوله: " جئناك لنتفقه في الدين" الفقه هو الفهم، أي: فهم المراد، أي: أننا قد آمنا بك، وبما جئت به، وأتينا إليك لتفهمنا ديننا الذي جئت به، وتعلمنا ما نعتقده، ونعمل به، وهذا من توفيق الله لعبده؛ أن يهتم بالتفقه في دينه، حتى يعبد ربه على علم وبصيرة.

قله: " ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان "؟ الإشارة في قوله: " هذا" تعود إلى شيء مشاهد، حاضر، موجود، وهو هذا الخلق المرئي، من السماوات والأرض، وما بينهما، وما فيهما، والمعنى: جئنا نسأل عن مبدأ خلق هذه المخلوقات المشاهدة، وهذا هو الظاهر.

قال الحافظ: " كأنهم سألوا عن أحوال هذا العالم، وهو الظاهر، ويحتمل أن يكونوا سألوا عن أول جنس المخلوقات"(1) .

قلت: الاحتمال الثاني بعيد، بل باطل، كما يأتي بيانه في كلام شيخ الإسلام، وقوله في الحديث:" عن أول هذا الأمر" برده؛ لأن الإشارة إلى المخلوقات المشاهدة كما تقدم، وجوب السؤال يدل على أنهم سألوا عن مبدأ هذا العالم المشاهد، والأمر يطلق ويراد به المأمور، ويراد به المصدر، الذي هو حكم الأمر، والأول هو المراد هنا قطعاً.

وقد رد شيخ الإسلام احتمال كونهم سألوا عن أول جنس المخلوقات من وجوه كثيرة، وبين أن ذلك باطل، وذكر أن الحديث روي بثلاثة ألفاظ:

أحدها: المذكور هنا: " كان الله ولم يكن شيء قبله".

والثاني: " كان الله، ولم يكن شيء معه".

(1)"الفتح"(6/288) .

ص: 377

والثالث: " كان الله ولم يكن شيء غيره".

ثم قال: " لا بد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قال أحدها؛ لأن المجلس كان واحداً، وسؤالهم وجوابهم في ذلك المجلس، وعمران الذي روى الحديث لم يبق في المجلس إلى انقضائه، بل ذهب لما أخبر بذهاب راحلته، وهو أخبر بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرو هذا الحديث غيره، فدل ذلك على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال واحداً من هذه الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، فيكون ما قاله: هو لفظ "القبل"؛ لما في "صحيح مسلم"، من قوله صلى الله عليه وسلم: " أنت الأول فليس قبلك شيء" (1) .

وأكثر أهل الحديث يرويه بهذا اللفظ، وهو ذكر الجمل الثلاث بالواو، وهي:

1-

" قوله: كان الله، ولم يكن شيء قبله ".

2-

" وكان عرشه على الماء".

3-

" وكتب في الذكر كل شيء".

ولم يذكر شيئاً منها بثم، وإنما جاء ذلك في خلق السماوات والأرض.

والواو، لا تفيد الترتيب، على الصحيح، فلا يكون في ذلك ذكر أول المخلوقات، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش، والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقاً، ولكن المقصود أن جوابه لأهل اليمن، عند بدء خلق السموات والأرض، وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء ما خلقه الله قبل ذلك.

ويدل على ذلك، أنه أخبر عن تلك الأشياء بما يدل على وجودها، ولم يتعرض لابتداء خلقها، وذكر السموات والأرض بما يدل على خلقها، سواء قال:" خلق السموات والأرض" أو قال: " وثم خلق السموات والأرض" فعلى التقديرين، أخبر بخلق ذلك، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن.

فتبين أنه لم يكن مقصوده الإخبار عن أول جنس المخلوقات، بل ولا الإخبار عن خلق العرش والماء، وإنما مقصوده الإخبار عن بدء خلق السموات

(1) انظر: " صحيح مسلم"(4/2084) الحديث رقم (2713) .

ص: 378

والأرض وما بينهما، حين كان عرشه على الماء" (1)

وقد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء "(2) .

ولما كان شيخ الإسلام يقرر هذا، وهو أن الله لم يزل فعالاً لما يريد، ويرد على من يقول: المعنى: كان الله ولا شيء معه، أي: لا مخلوق، ولا فعل، ولا مفعول، ثم صار يخلق ويفعل بعد أن لم يكن يفعل ويخلق، وهذا هو قول الجهمية، والمعتزلة.

لما كان يقرر ذلك، ويرد قول الجهمية والمعتزلة، ظن كثير ممن لم يفهم مراده ولم يعرف مذهب أهل السنة في هذه المسألة، زن أنه يقول بقدم العالم؛ لأنه يقول بحوادث لا أول لها، لأنهم يسمون أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بإرادته: حوادث.

وما علم هؤلاء أن لازم قولهم، أشنع، وأفظع، وهو أن الرب -تعالى- كان معطلاً عن الفعل، ثم صار فعالاً لأفعاله بعد أن لم يكن كذلك.

مع أن ما قاله شيخ الإسلام هو مذهب السلف، مثل الإمام أحمد والدارمي والبخاري وغيرهم.

قال الإمام أحمد في رده على الجهمية: " فلما ظهرت عليه الحجة، قال: إن الله يتكلم، ولكن كلامه مخلوق.

قلنا: وكذا بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق.

(1)"مجموع الفتاوى"(18/216-222) بتصرف.

(2)

"صحيح مسلم"(4/2044) رقم (2653) .

ص: 379

ففي مذهبكم: قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم، حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلاماً.

وقد جمعتم بين كفر، وتشبيه، وتعالى الله عن هذه الصفة.

بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان، ولا يتكلم حتى خلق الكلام، ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم، حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه القدرة، ولا نقول: إنه كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول: إنه كان ولا عظمة له، حتى خلق لنفسه عظمة.

فقال الجهمية - لما وصفنا الله بهذه الصفات -: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى، حين زعموا أن الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته.

قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره، متى قدر، ولا كيف.

فقالوا: لا تكونوا موحدين أبداً، حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء.

فقلنا: نحن نقول: قد كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته؟

وضربنا لهم مثلاً في ذلك، فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذع، وكرب، وليف، وسعف، وخوص، وجمار، واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله - وله المثل الأعلى - بجميع صفاته، إله واحد.

ولا نقول: إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق له قدرة، والذي ليس له قدرة هو عاجز.

ص: 380

ولا نقول: قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى خلق له علماً، والذي لا يعلم هو جاهل" (1) .

بين الإمام - رحمه الله تعالى - أنه -تعالى- لم يزل متكلماً، قادراً، فعالاً لما يريد، فلم يكن قبل وجود الخلق معطلاً عن الفعل، كما هو مقتضى قول الذين أنكروا وجود حوادث لا أول لها، وزعموا أن هذا قول الفلاسفة الدهرية، وفي الواقع هو قول السلف، وهو الذي دلت عليه نصوص الشرع، وأيده العقل، وإن كان كل مفعول معين حادث بعد أن لم يكن، وأما فعل الله الذي هو صفته فلم يزل، فلا أول له.

فمفعولات الله -تعالى- باعتبار أعيانها لها مبدأ فهي كائنة بعد العدم.

أما باعتبار كون الفعل صفة من صفات الله -تعالى-، وإن لم يكن متعلق موجود، فهو لا أول له.

قال الإمام أبو سعيد الدارمي رحمه الله: " والله -تعالى وتقدس اسمه - كل أسمائه سواء، لم يزل كذلك، ولا يزال، لم تحدث له صفة ولا اسم لم يكن، كذلك كان خالقاً قبل المخلوقين، ورازقاً قبل المرزوقين، وعالماً قبل المعلومين، وسميعاٌ قبل أن يسمع أصوات المخلوقين، بصيراً قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة"(2) .

والمقصود أن الله سبحانه وتعالى لم يزل فعالا لما يريد، وأنه لم يكن معطلاً عن الفعل حتى خلق هذا الكون المشهود، الذي سأل عن مبدئه أهل اليمن، قال شيخ الإسلام:

" لا نزاع بين أهل الملل أن الله - سبحانه - كان قبل أن يخلق هذه الأمكنة والأزمنة، وأن وجوده لا يجب أن يقارن هذه الأزمنة والأمكنة"(3) .

قوله: " كان الله، ولم يكن شيء قبله " تقدم في كلام شيخ الإسلام أن هذا اللفظ هو الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وأن اللفظين الآخرين رويا بالمعنى، وهما " لم يكن

شيء غيره " و" لم يكن شيء معه"، وأيد ذلك بأنه من معنى قوله - تعالى -:{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) .

(1)"الرد على الجهمية"(ص90-92) عقائد السلف.

(2)

نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي.

(3)

"نقض التأسيس"(1/562) .

(4)

الآية 3 من سورة الحديد.

ص: 381

فقوله -تعالى-: {هُوَ الأَوَّلُ} هو الذي ليس قبله شيء، كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:" اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، ليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"(1) .

وأما قول الحافظ: " قضية الجمع بين الروايتين، تقتضي حمل هذه على رواية: "ولا شيء غيره"، لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق"(2)

فيقال له: هذا لو احتمل أن يكون الحديث صدر منه صلى الله عليه وسلم في مقامين، أما إذا كان في مجلس واحد، والراوي واحد، وقد أخبر أنه لم يبق إلى نهاية المجلس، بل قام لما سمع هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم ولحق براحلته، فلا بد أن اللفظ الذي سمعه أحد هذه الألفاظ الثلاثة، والآخران رويا بالمعنى، فأصبح الجمع لا وجه له.

وحمل هذه الرواية على رواية " ولا شيء غيره" بلا دليل، حمل عليه التعصب للمذهب، وإلا فالواجب حملها على المعروف من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الموافق لكلام الله -تعالى- كما تقدمت الإشارة إليه.

وأما قوله: إن هذه المسألة من مستشنع ما ينسب لابن تيمية، فقد تقدم أن هذا هو مذهب السلف، وأن ما يريد ترجيحه الحافظ هو مذهب الجهمية والمعتزلة، والأشعرية، من أهل البدع، والله أعلم.

وكلمة "كان" هنا تفيد الأزلية، والأزلية هي: ما لا بداية له.

قال الطيبي: " لفظة كان في الموضعين - يعني " كان الله" و"كان

(1) تقدم تخريجه.

(2)

"الفتح"(13/410) .

ص: 382

عرشه على الماء"- بحسب حال مدخولها، فالمراد بالأول: الأزلية والقدم، وبالثاني الحدوث بعد العدم"(1) .

"وقال ابن عباس: "كان ولا يزال" ولم يقيد كونه بوقت دون وقت، ويمتنع أن يحدث له غيره، صفة، بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره - سبحانه- فهو المستحق لغاية الكمال، وذاته هي المستوجبة لذلك الكمال المطلق، وهو المحمود على ذلك، أزلاً وأبداً، ولا يحصي الخلق ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه"(2) .

وقال الراغب: " كان عبارة عما مضى من الزمان، وفي كثير من وصف الله -تعالى- تنبئ عن معنى الأزلية، قال: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (3) ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (4) ، وما استعمل منه في جنس الشيء متعلقاً بوصف له هو موجود فيه، فتنبيه على أن ذلك الوصف لازم له، قليل الانفكاك منه، نحو قوله في الإنسان: {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} (5) ، وإذا استعمل في الزمان الماضي، فقد يجوز أن يكون المستعمل فيه على حالته، ويجوز أن يكون قد تغير، نحو: كان فلان كذا ثم صار كذا"(6) .

ومعنى قوله: "كان الله، ولم يكن شيء قبله" أنه -تعالى- هو الأول قبل كل شيء، الذي لا يتصور لأوليته مبدأ، حتى يمكن أن يتصور قبله شيء، بل هو الأول بلا بداية، كما أنه الآخر بلا نهاية، فما من غاية يقدرها العقل إلا وأزليته -تعالى- قبلها، بلا غاية محدودة، والأزل معناه عدم الأولية، فليس الأزل

(1)"الفتح"(13/410) .

(2)

"مجموع الفتاوى"(18/232-233) .

(3)

الآية 26 من سورة الفتح، والآية 40 من سورة الأحزاب.

(4)

الآية 27 من سورة الأحزاب، والآية 21 من سورة الفتح.

(5)

الآية 67 من سورة الإسراء.

(6)

"المفردات في غريب القرآن "(ص444) .

ص: 383

شيئاً محدوداً، فلو قدر أن الأرض كلها وعاء مملوء ذرات، وبعد مليون سنة تفنى ذرة واحدة فقط، لفنيت الذرات كلها، والأزل باق، بل لو فرض أضعاف أضعاف ذلك بالملايين، والمقصود بذلك التقريب إلى الفهم فقط، وإلا فالأزل ليس له بداية أبداً.

قوله: " وكان عرشه على الماء" أي: وقت خلق السموات والأرض كان عرشه على الماء، والمراد هنا الإخبار بكون العرش على الماء، عند ابتداء خلق السموات والأرض.

قال ابن خزيمة: " معنى قوله: "وكان عرشه على الماء" كقوله: {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (1) ، يعني: أن "كان" هنا لا تدل على أن ذلك أمر قد مضى، وانقضى، بل تدل على ثبوته، فهو كان، ولا يزال على ما كان، و"ليس معنى ذلك أن شيئاً من مفعولاته قديم معه، بل هو خالق كل شيء، ولك شيء سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، مع أنه -تعالى- لم يزل بصفاته خالقاً فعالاً لما يريد".

ومن المعلوم أن الخلق صفة كمال، كما قال -تعالى-:{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} (2) ، فلا يجوز أن ينفك عن هذه الصفة، ولكن كل مخلوق محدث، مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم، ولا شك أن هذا أبلغ في الكمال، من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل.

وأما جعل المفعول المعين مقارناً له -تعالى- أزلاً وأبداً، فهو باطل عقلاً وشرعاً، ولا يقوله إلا جاهل أو معطل.

"والأدلة على بدء خلق الأفلاك، وخلق الزمان - الذي هو مقدار حركة الفلك - كثيرة، أخبرت بها الرسل، كما أخبرت أنها خلقت من مادة موجودة قبلها، وفي زمان قبل هذا الزمان، فإن الله -تعالى- أخبر أنه خلق السموات

(1) كتاب "التوحيد"(ص103) .

(2)

الآية 17 من سورة النحل.

ص: 384

والأرض وما بينهما في ستة أيام، وسواءً قيل: إن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المعروفة بطلوع الشمس وغروبها، أو أنها أكبر منها، وأن كل يوم قدره ألف سنة.

والحق أن تلك الأيام، التي خلقت فيها السموات والأرض غير هذه الأيام، وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك، وأن تلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السماوات والأرض.

وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (1) فخلقت من الدخان.

وقد جاءت الآثار عن السلف، أنها خلقت من بخار الماء، وهو الماء الذي كان العرش عليه، قبل وجود هذا الخلق، كما قال -تعالى-:{وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (2) .

فأخبر -تعالى- أنه خلق السماوات والأرض في مدة، ومن مادة، ولم يذكر القرآن أنه خلق شيئاً من لا شيء، ولا يعارض هذا بقوله -تعالى-:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (3) ؛ لأنه تعالى قد أخبر أنه خلقه من نطفة" (4) ، وخلق أباه من تراب، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الملائكة خلقت من نور، والجن من النار.

وهذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد، وهو دليل على عظم العرش، وأن له شأناً غير شأن السماوات والأرض، وأن وجوده قبل وجودهما.

وقوله: " ثم خلق السماوات والأرض " نص في ذلك؛ لأن "ثم" تفيد الترتيب مع التراخي، أي: ترتيب خلق السماوات والأرض على وجود العرش والماء.

ولا شك أن العرش والماء مخلوقان، ولم يذكر الله - جل وعلا- لنا وقت خلق العرش والماء، كما لم يذكر لنا أن له مخلوقات قبلهما، ولكن النصوص من الوحي، والفطرة والعقل السليم، تدل على أن الله -تعالى- لم يزل يفعل ما يشاء، ويتكلم

(1) الآية 11 من سورة فصلت.

(2)

الآية 7 من سورة هود.

(3)

الآية 9 من سورة مريم.

(4)

"مجموع الفتاوى"(18/235) بتصرف.

ص: 385

بما يشاء، وهذا من الكمال الواجب له، والذي يليق به -تعالى-.

وما يقوله المتكلمون من المعتزلة، والأشاعرة، ومن تبعهم، من أن هذا الكون المشاهد لنا، وما يتصل به من السموات والأرض، وكذلك العرش والماء، هو مبدأ فعله وخلقه، وليس قبله شيء من مفعولاته، يخالف كماله الواجب له -تعالى-.

فإنه وصفه -تعالى- بأنه لم يكن قادراً على الفعل والكلام ونحوهما من صفات الكمال، ثم صار قادراً على ذلك، فيه نقص يجب أن ينزه عنه، وقدرته التامة الكاملة التي هي من لوازم ذاته -تعالى- تفيد خلاف هذا القول، وهي من أظهر صفات الكمال، ولا يجوز أن تقيد صفاته -تعالى- وأفعاله بوقت دون وقت.

وباليقين العقلي يمتنع أن يكون قادراً بعد أن لم يكن كذلك، إلا بأمر جعله قادراً، ومن المحال أن يؤثر فيه شيء غيره، فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض استحال كونه قادراً، بعد أن لم يكن كذلك.

كما يمتنع أن يكون عالماً بعد أن لم يكن كذلك، وأن يكون سميعاً بصيراً، بعد أن لم يكن، أما المخلوق المفعول، مثل الإنسان، فإنه كان غير عالم، ولا قادر، فجعله الله عالماً قادراً.

وقوله: " وكتب في الذكر كل شيء" الكتابة هنا أضيفت إلى الله -تعالى- ولا يتعين منه أنه -تعالى- باشر الكتابة بنفسه، بل يجوز أن يأمر بذلك ما يشاء.

وقد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحاً ذلك، كما في حديث عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"(1) .

والمقصود بالذكر هنا: محل الكتابة، وهو اللوح المحفوظ.

(1) رواه أبو داود في "السنن"(5/76) رقم (4700) .

ص: 386

"والمراد أنه -تعالى- كتب كل ما أراد إيجاده من تلك الساعة التي جرت فيها الكتابة إلى قيام الساعة.

ولفظة "كل شيء" يعم في كل موضع بحسب ما سيقت له، كما في قوله -تعالى-:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} و {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} و {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .

و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} و {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} (1) .

وقوله: " فإذا السراب ينقطع دونها" أي يشاهدها من خلق السراب، فهو ينقطع بينه وبينها لبعدها، فيراها مرة، وأخرى يكاد يخفيها السراب.

وقوله: " وايم الله " قيل معناه: يمين الله، فهو قسم مشهور عند العرب، وفيه لغات عدة.

وقوله: " لوددت أنها ذهبت، ولم أقم" يقول: إن رغبتي والأحب إليَّ أني بقيت في مجلسي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعلم منه الإيمان والعلم، ولم أقم في طلب راحلتي، بل أتركها مؤثراً ما أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غذاء القلب والروح، على راحلتي، وهذا شأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم - في حرصهم على التعلم منه، والبحث عن الهدى والخير، ولهذا حفظوا كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما فعله، والبحث عن الهدى والخير، ولهذا حفظوا كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما فعله، حتى نقلوا لنا تحرك شعر لحيته وهو يصلي، وغير ذلك، فجزاهم الله خيراً، وقاتل من يبغضهم وينتقصهم.

(1)"مجموع الفتاوى"(18/233) .

ص: 387

48-

قال: " حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض - أو القبض- يرفع، ويخفض".

قد تقدم هذا الحديث في باب قول الله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وتقدم الكلام عليه، وما هنا يختلف عن الماضي في سنده، وفي بعض ألفاظه، على عادة المؤلف رحمه الله إذا كرر الحديث، فلا بد أن يأتي بما يغاير السابق، أما في السند والمتن، أو في أحدهما، إلا إذا تيسر له ذلك، وهو نادر.

والذي تقدم فيه "يد الله ملأى" وما هنا " إن يمين الله ملأى".

وما تقدم فيه " وقال: أرأيتم"، وهنا كلمة "قال" ليست موجودة.

وما تقدم فيه " فإنه لم يغض ما في يده"، وما هنا " فإنه لم ينقص ما في يمينه"

وما تقدم فيه "وقال: عرشه على الماء "، وهنا لفظة "قال" غير موجودة.

وما تقدم " وبيده الأخرى الميزان"، وهنا "وبيده الأخرى الفيض - أو القبض-" هذا في المتن، وأما السند فهو غير المتقدم.

والمقصود قوله: " وعرشه على الماء" أي أنه -تعالى- لما خلق السماوات والأرض، كان عرشه على الماء، فوجود العرش والماء سابق وجود السماوات والأرض بزمن طويل جداً -تعالى- الله أعلم بمقداره.

ص: 388

49-

قال: " حدثنا أحمد، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: جاء زيد بن حارثة، يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اتق الله وأمسك عليك زوجك" قال (1) أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله -تعالى- من فوق سبع سماوات".

وعن ثابت: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ نزلت في شأن زينب وزيد بن حارثة".

زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر الحافظ في "الإصابة" نقلاً عن الكلبي بسنده، قال:" زارت سعدى أم زيد قومها وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر، على أبيات بني معن، فاحتملوا زيداً وهو غلام يفعة، فأتوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، ثم جاء والده حارثة، وعمه كعب، يريدان فداءه، فطلبا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول الله: " ادعوه فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني، فوالله ما أنا بالذي أختار على من أختارني " فاختار زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له والده وعمه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟ فقال: إني رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً.

(1) في بعض نسخ البخاري: قالت عائشة.

ص: 389

لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك خرج به إلى المحجر، وقال: اشهدوا أن زيداً ابني، عند ذلك طابت نفس والده وعمه.

وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، ثم لم يتلاءما، فطلقها زيد، فزوجها الله -تعالى- نبيه؛ لحكمة ذكرها الله -تعالى- في القرآن.

قال ابن عمر: " إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن:{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} (1) .

كان زيد هو الأمير في غزوة مؤتة، واستشهد فيها رضي الله عنه" (2) .

قوله: " جاء زيد بن حارثة يشكو" أي: جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو زوجه زينب ويستشيره في طلاقها؛ لأنها كانت تترفع عليه، وتقابله ببعض الكلام غير المناسب؛ لحدة كانت فيها، كما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال:" جاء زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله، إن زينب اشتد عليَّ لسانها، وأنا أريد أن أطلقها؟ فقال له: " اتق الله، وأمسك عليك زوجك" (3) .

وهذا منقطع، وقد ذكر كثير من المفسرين والمؤرخين آثاراً موضوعة، مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب، وبعضها ضعيف، لا يثبت به حكم.

ثم استغل تلك الأخبار بعض أعداء الرسل، من زنادقة وكفار ملاحدة، متقدمون، ومتأخرون، واغتر بذلك كثير من الجهلة.

(1) الآية 5 من سورة الأحزاب، ورواه البخاري، انظره مع الفتح (8/517) .

(2)

"الإصابة"(2/599-601) .

(3)

"الفتح"(8/524) .

ص: 390

وقد بين الله -تعالى- المقصود من زواج رسوله صلى الله عليه وسلم بزينب بقوله: {فلما قض زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً} (1) .

المعنى: لما فرغ زيد منها وطابت نفسه عنها، وطلقها، أمرناك بتزوجها؛ لئلا يبقى في قلوب المؤمنين حرج في تزوج زوجات أدعيائهم، الذين تبنوهم، فصاروا يدعون إليهم، فيقال: ابن فلان، وليس ابناً له، إذا فارقوهن.

وهذا إمعان في إبطال هذا التبني، الذي كان معروفاً في الجاهلية الأولى كما عرف في الجاهلية الحاضرة، حيث أمر الله -تعالى- إمام المسلمين وقدوتهم بذلك، وكان زيد بن حارثة قد تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدمت الإشارة إليه، فكان يدعى بزيد بن محمد، فأبطل الله -تعالى- ذلك بقوله:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (2) .

فهو -تعالى- يعلم عباده أن أدعياءهم الذين هم مواليهم، ودعوهم أبناء لهم، أنهم ليسوا لهم بأبناء؛ لأنهم أبناء رجال آخرين.

وقد أوحى الله -تعالى- إلى رسوله بأنه سوف يتزوج زينب، أوحى الله بذلك إليه قبل أن يطلقها زيد، فلما جاء يشكوها إليه، ويستشيره في طلاقها، قال له:" اتق الله يا زيد، وأمسك عليك زوجك" فعاتبه الله -تعالى-: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي

(1) الآية 37 من سورة الأحزاب.

(2)

الآيتان 4 و 5 من سورة الأحزاب.

ص: 391

فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (1) . الآية.

والذي كان صلى الله عليه وسلم يخفيه، هو كراهيته لزواجها؛ خوفاً من قالة الناس أنه تزوج زوجة ابنه.

قال ابن حجر: " والحاصل: أن الذي كان يخفيه هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان الجاهلية عليه، من أحكام التبني، بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابناً {له} ، ووقوع ذلك من إمام المسلمين؛ ليكون أدعى لقبولهم.

وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية، والله أعلم " (2) .

يشير إلى ما ذكره بعض المفسرين من أقوال باطلة، وقصص موضوعة مكذوبة.

قوله: "قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه".

أي: لو قدر على سبيل الفرض الممتنع شرعاً كتم شيء من الوحي، لكان في هذه الآية، ولكنه غير واقع بل ممتنع شرعاً.

وهذه الآية من أعظم الأدلة لمن تأملها على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله - تعالى - يخبر عما وقع في نفسه من خشية الناس، فبلغه كما قال الله -تعالى- مع ما تضمنه من لومه، بخلاف حال الكذاب، فإنه يتجنب كل ما يمكن أن يكون فيه عليه غضاضة، ومثل ذلك قوله -تعالى-:{عَبَسَ وَتَوَلَّى} إلى آخر الآيات ونظائرها في القرآن.

وقوله: " فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ".

(1) الآية 37 من سورة الأحزاب.

(2)

"الفتح"(8/524) .

ص: 392

الفخر: هو ذكر المحاسن، وعدها، مباهاة بها غيره.

قال الجوهري: " الفخر: الافتخار، وعد القديم"(1) .

فزينب رضي الله عنها تعتد بأن زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم كان بأمر الله له بذلك، وأنه من أعظم فضائلها، وأنه لا يساويها في ذلك من أزواجه أحد.

قوله: " تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سماوات".

هذا القدر من الحديث هو محل الشاهد، وهو ثبوت علو الله -تعالى- وتقرره لدى المؤمنين، فهو أمر مسلم به بين عموم المسلمين، بل بين عموم الخلق إلا من غيرت فطرته، لهو من الصفات المعلومة بالسمع، والعقل، والفطرة، عند كل من لم تنحرف فطرته.

وأما الاستواء على العرش فهو من الصفات المعلومة بالسمع، لا بالعقل، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام (2) ، وغيره من الأئمة.

ومعنى قولها: " وزوجني الله" أي: أمر رسوله بأن يتزوجها بقوله -تعالى-: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا} وتولى -تعالى- عقد زواجها عليه.

وقوله في الرواية الأخرى: " نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش".

آية الحجاب هي قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} إلى آخر الآية. (3)

قوله: " وأطعم عليها يومئذ خبزاً ولحماً".

أي: صنع وليمة لزواجه بها، من

(1)"الصحاح"(2/779) .

(2)

انظر: " مجموع الفتاوى"(5/227) .

(3)

الآية 53 من سورة الأحزاب.

ص: 393

الخبز، واللحم، وهذا النوع من الطعام هو أعلى ما يمكن في زمنه صلى الله عليه وسلم.

قوله: " تقول: إن الله أنكحني في السماء".

هو كقولها السابق: " وزوجني الله من فوق سبع سماوات "، وكثير ما تأتي "في" بمعنى "على" أي: إن زواجي صدر من الله -تعالى- حيث أمر رسوله به، وتولى عقد نكاحها عليه، والله في السماء.

فإما أن تكون "في" بمعنى على، أو يراد بالسماء العلو، وكلاهما صحيح مستقيم جاءت به النصوص، قال -تعالى-:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} (1) وقال -تعالى-: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء} (2) .

ولما كان مستقراً في نفوس المخاطبين أن الله -تعالى- هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله:" أنه في السماء" أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء ولهذا قالت:" من فوق سبع سماوات ".

وكذلك الجارية، لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:" أين الله؟ قالت: في السماء"(3) إنما أرادت: العلو، وإذا قيل: العلو، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله -تعالى-.

وكذلك إذا قيل: العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق، وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك، وكان المراد أنه عليها، كما قال:{فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} (4)، وقال:{وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (5)، وقال:{فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ} (6)، ويقال: فلان في الجبل، وفي

(1) جزء من الآية 15 من سورة الحج.

(2)

رواه مسلم وغيره.

(3)

رواه مسلم وغيره.

(4)

الآية 2 من سورة براءة.

(5)

جزء من الآية 71 من سورة طه.

(6)

الآية 137 من سورة آل عمران.

ص: 394

السطح، وإن كان على أعلى شيء منه، فإن حرف "في" يتعلق بما قبله، وبما بعده، فيكون بحسب المضاف إليه.

ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الماء في الإناء، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الكتاب، وكون العرش والجنة في السماء، فإن لكل نوع من هذه خاصة يتميز بها عن غيره.

ص: 395

50-

قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد؛ عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي".

قوله: " قضى الله الخلق" قضي: يأتي بمعنى حكم، وأمر، وقدر، وفرغ، وأمضى، وأتقن، ومعناها هنا: فرغ من خلق المخلوقات، فهو نحو قوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أو فرغ من تقدير الخلق، ويدل لذلك الرواية الآتية في آخر الكتاب " قبل أن يخلق الخلق".

وتقدم هذا الحديث في باب قول الله،:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} وقد غاير بين سنده هنا وهناك، وفي متنه بعض الاختلاف، ففي الرواية المتقدمة " لما خلق الله الخلق " وهنا " إن الله لما قضى الخلق"، وهناك "كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش، وهنا "كتب عنده، فوق عرشه" وهناك " إن رحمتي تغلب غضبي"، وهنا "سبقت غضبي".

وقد مضى شرحه، والمقصود هنا، قوله:" عنده، فوق عرشه، " هذان ظرفان مختصان بالمكان، وقد أضيفا إلى الله -تعالى-، فلا بد أن هذه الإضافة تقتضي تخصيصاً للعرش على غيره من السماوات والأرض.

"فإضافة العرش إلى الله إضافة مخصوصة، وقد قال -تعالى-: {عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1) ، فإذا كان العرش مضافاً إلى الله في هذه الآية ونحوها إضافة اختصاص، فذلك يوجب أن يكون بينه وبين الله -تعالى- من النسبة ما ليس لغيره، فما يذكره الجهمية من الاستيلاء، والقدرة، وغير ذلك، أمر مشترك بين العرش، وسائر المخلوقات"(2) .

وما في هذا من قوله: " عنده فوق عرشه"، والآيات نحو {ذُو الْعَرْشِ} ، و {عَرْشَ رَبِّكَ} ينفي أن يكون الثابت من الإضافة هو القدر المشترك بين سائر

(1) الآية 17 من سورة الحاقة.

(2)

"نقض التأسيس"(1/570-577) .

ص: 396

المخلوقات، كما تقوله الجهمية وأتباعهم، ويوجب اختصاصاً للعرش بالله ليس لغيره من سائر

339

المخلوقات، وقد علم المسلمون أنه استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، كما أخبرهم ربهم بذلك، ونبيهم صلى الله عليه وسلم.

وما نقله الحافظ عن الخطابي أن معنى "فوق العرش" أي: " عنده علم ذلك فهو لا ينساه، ولا يبدله" هو من تخبطات أهل التأويل، ويقال له: وهل علم الله يختص بهذا الكتاب، فهو الذي لا ينساه، ولا يبدله، وأما سائر الكون فليس عنده علمه أو ينساه ويبدله؟ إن الأجدى بالخطابي ومن يشتغل بالحديث أن يتبع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحمله على المذاهب الباطلة، بل يجب أن يصونه عن مثل هذه التحريفات الباردة. والحق أن قوله:"عنده فوق عرشه" على ظاهره، وأن كل تأويل له عن ظاهره، تبديل للمعنى الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نؤمن إيماناً يقيناً قاطعاً - وكل المؤمنين- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص على عقيدة المسلمين، وعلى تنزيه الله -تعالى- من هؤلاء المحرفين لكلامه، وهو كذلك أقدر على البيان والإيضاح منهم، وهو كذلك أعلم بالله، وما يجب له وما يمتنع عليه من هؤلاء المتخبطين.

فهذا كتاب خاص، وضعه عنده فوق عرشه، مثبتاً فيه ما ذكر؛ لزيادة الاهتمام به، ولا ينافي ذلك أن يكون مكتوباً أيضاً في اللوح المحفوظ.

وهو كتاب حقيقة، كتبه -تعالى- كما ذكر لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم حقيقة، وهو عند الله حقيقة، فوق عرشه حقيقة، والمقصود أن الله، -تعالى- مستو على عرشه على الحقيقة، وعرشه فوق مخلوقاته كلها عالٍ عليها.

ص: 397

51-

قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثني محمد بن فليح، قال: حدثني أبي، حدثني هلال، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها " قالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك؟ قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".

قوله: " من آمن بالله ورسوله " هذا هو الأساس الذي يبنى عليه العمل، فلا بد من الإيمان بالله ورسوله أولاً قبل العمل، فكل عمل مشروط لصحته أن يكون العامل مؤمناً، قال الله -تعالى-:{ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة} (1) .

وقال -تعالى-: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه} (2) .

وقد ذكر الله -تعالى- عن رسله الذين أرسلهم إلى الناس أنهم دعوهم إلى الإيمان بالله، وعبادته وحده، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل

(1) الآية 40 من سورة غافر.

(2)

الآية 94 من سورة الأنبياء.

ص: 398

الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله " كما سبق، وتقدم حديث معاذ، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وقال له: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " الخ.

والإيمان بالله -تعالى- يدخل فيه الإيمان بأنه المالك لكل شيء، المتصرف كيف يشاء، وأنه الإله الحق، الذي يجب أن يعبد وحده، لا شريك له في ذلك، لا ملك ولا نبي، ولا أحد من الخلق مهما علت منزلته، وحسنت عبادته.

ويدخل فيه الإيمان بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وأن يثبت له ما أثبته لنفسه، وأثبت له رسله، من غير تحريف ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

قوله: " وأقام الصلاة" إقامة الصلاة: الإتيان بها على وفق أمر الله -تعالى- وأمر رسوله، كاملة في أفضل أوقاتها.

قوله: " وصام رمضان" الصيام في اللغة: هو الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص، عن أشياء مخصوصة، من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، تعبداً لله تعالى.

قال الحافظ: وسقط ذكر الحج، على أحد الرواة؛ لأنه قد جاء ذكره في الترمذي، والحديث لم يذكر لبيان الأركان، فيجوز أنه اقتصر على ذكر البعض، لأنه هو المتكرر غالباً، وأما الزكاة فلا تجب إلا على من له مال، بشرطه، والحج لا يجب إلا مرة على التراخي" (1) .

والمقصود من الحديث: أن من حصل له الإيمان بالله، وما يلزم له، من إيمان برسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، وبقضاء الله وقدره، مع التزام ما شرعه الله لعباده من الأمر، والنهي، وجاهد في سبيل الله، مع ما ذكر، استحق دخول الجنة على الله، ولا بد أن يوفي الله -تعالى- بذلك.

(1)"الفتح"(6/12) .

ص: 399

قوله: " كان حقاً على الله أن يدخله الجنة" قد تقدم الكلام على حق العباد على الله، في حديث معاذ، في الباب الأول، وهو حق أحقه الله -تعالى- على نفسه كما قال -تعالى-:{كتب ربكم على نفسه الرحمة} (1) .

قال الحافظ: " ليس معنى ذلك، أنه لازم له، لأنه لا آمر له، ولا ناهي يوجب عليه، ويلزمه المطالبة به، وإنما معناه إنجاز ما وعد به من الثواب، وهو لا يخلف الميعاد"(2) .

قلت: لا يلزم من كونه حقاً واجباً، أن يكون له آمر وناه يوجب عليه ذلك، بل هو -تعالى- الذي أوجبه على نفسه، فلا بد من وقوعه، كما أخبر -تعالى-.

قوله: " هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها" الهجرة في اللغة هي: الترك، والمفارقة. والمقصود بها هنا: الانتقال من بلد الشرك والكفر إلى بلد الإسلام، وهي واجبة على المسلم إذا خاف الفتنة في دينه، أو منع من ممارسة شعائر دينه، وإعلانه ظاهراً.

وتكون الهجرة بالنية والقصد، وتكون باللسان، وبالبدن.

قال الراغب: " الهجر، والهجران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، قال -تعالى-:{واهجروهن في المضاجع} (3) كناية عن عدم قربهن.

وقال تعالى: {إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} (4) ، فهذا هجر بالقلب واللسان.

وقوله: {واهجرهم هجراً جميلاً} (5) يحتمل الثلاثة، وقوله: {والرجز

(1) الآية 54 من سورة الأنعام.

(2)

"الفتح"(13/413) .

(3)

الآية 34 من سورة النساء.

(4)

الآية 30 من سورة الفرقان.

(5)

الآية 10 من سورة المزمل.

ص: 400

فاهجر} (1) ، حث على المفارقة بالوجوه كلها.

والمهاجرة في الأصل: مصارمة الغير، ومتاركته، من قوله عز وجل:{والذين هاجروا وجاهدوا} (2)، وقوله:{للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} (3)، وقوله:{ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله} (4)، وقوله:{فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله} (5)، فالظاهر منه: الخروج من دار الكفر، إلى دار الإيمان، كمن هاجر من مكة إلى المدينة" (6) .

ويدخل في ذلك هجران المعاصي، والشهوات، والأخلاق الذميمة، وجميع المعاصي ورفضها واجتنابها.

قال ابن القيم: " وللعبد في كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب، والمحبة، والعبودية، والتوكل، والإنابة، والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، وصدق اللجاء. وهجرة إلى رسوله –صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته، الظاهرة، والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفضيل محاب الله، ومرضاته، ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه"(7) .

وسبيل الله: طاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه، واتباع رسوله – صلى الله عليه وسلم.

(1) الآية 4 من سورة المدثر.

(2)

الآية 218 من سورة البقرة.

(3)

الآية 8 من سورة الحشر.

(4)

الآية 100 من سورة النساء.

(5)

الآية 89 من سورة النساء.

(6)

"المفردات"(536-537) .

(7)

"طريق الهجرتين"(ص7) .

ص: 401

قوله: " أو جلس في أرضه التي ولد فيها" وفي رواية: " في بيته".

والمعنى: أنه بقي في بلده يعبد ربه، ولا يشرك به شيئاً، ولم يهاجر إلى المدينة النبوية، وذلك أن الهجرة كانت فرضاً على كل قادر، فلما فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأصبحت جزيرة العرب كلها دار إسلام، إلا القليل، نسخت الهجرة لأجل ذلك، ولكن حكمها باق إلى يوم القيامة.

قال الحافظ: " فيه تأنيس لمن حرم الجهاد، وأنه ليس محروماً من الجر، بل له من الإيمان والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة، وإن قصر عن درجة المجاهدين"(1) .

قوله: " فقالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك؟ " رأوا أن هذا فيه بشارة للمسلمين، وتسهيل عظيم عليهم، في عدم لزوم الهجرة، فإن ترك الوطن، والأهل والأقارب، والمألوفات، كل ذلك يشق على النفس، ولا يقوى عليه كل أحد.

قال الحافظ: " الذي خاطبه بذلك هو معاذ بن جبل – كما في رواية الترمذي- أو أبو الدرداء، كما وقع عند الطبراني، وأصله في النسائي، لكن فيه: فقلنا"(2) .

قوله: " إن في الجنة مائة درجة " جاء في رواية الترمذي، عن معاذ، " قلت: يا رسول الله، ألا أخبر الناس؟ قال:" ذر الناس يعملون، فإن في الجنة مائة درجة"(3) .

فظهر أن المراد: لا تبشر الناس بما ذكر من دخول الجنة، لمن آمن وعمل الأعمال المفروضة عليه، فيقفوا عند ذلك، ولا يتجاوزوه إلى ما هو أفضل منه من الدرجات التي تحصل بالجهاد، وهذه هي النكتة في قوله: " أعدها الله

(1)"الفتح"(6/12) .

(2)

"الفتح"(6/12) .

(3)

انظر "السنن للترمذي"(4/82) .

ص: 402

للمجاهدين"، وفي هذا تعقب على بعض شراح المصابيح، في قوله: " سوى النبي –صلى الله عليه وسلم بين الجهاد في سبيل الله، وبين عدمه، وهو الجلوس في الأرض التي ولد فيها؛ لأن التسوية ليست على عمومها، وإنما هي في أصل دخول الجنة، لا في تفاوت الدرجات " (1) .

وهذه الدرجات للمجاهدين في سبيل الله خاصة، ولا ينفي هذا وجود درجات أخر لغير المجاهدين في الجنة، كما جاء في "سنن أبي داود" و"الترمذي" و"صححه": يقال لصاحب القرآن: " اقرأ وارتق، ورتل، كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها"(2) وعدد آيات القرآن ست وثلاثون ومائتان وستة آلاف، على اختلاف في ذلك.

ولهذا قال: " أعدها الله للمجاهدين في سبيله، قال ابن القيم: " يجوز أن تكون هذه المائة من جملة الدرج، ويجوز أن تكون نهايتها هذه المائة " (3) ، ورجح الأول.

"الجهاد: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس"(4) ، وتدخل كلها في الجهاد في سبيل

الله، ويشملها قوله -تعالى-:{إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم} (5) ونحوها من الآيات.

(1)"الفتح"(6/12) .

(2)

انظر " سنن أبي داود"(2/153) ، و "الترمذي"(4/248) ، "فضائل القرآن "(رقم 2915) .

(3)

"حادي الأرواح"(ص6) .

(4)

"المفردات"(ص101) .

(5)

الآية 218 من سورة البقرة.

ص: 403

وقال الحافظ: " الجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة، يقال: جهدت جهاداً، بلغت المشقة، وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق".

فأما مجاهدة النفس، على تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم تعليمها.

وأما مجاهدة الشيطان، فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات.

وأما مجاهدة الكفار، فتقع باليد، والمال، واللسان، والقلب.

وأما مجاهدة الفساق: فباليد، ثم اللسان، ثم القلب" (1) .

قوله: " كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض " المقصود بالدرجة: المنزلة المعدة لمن يستحقها من أهل الإيمان، والعمل، ودرجات الجنة كثيرة، كما تقدمت الإشارة إليه، ولا شك أن كل درجة تختلف عن التي دونها بما فيها من أنواع النعيم والحسن.

وهذا التفاوت العظيم في الدرجات لتفاوت أعمال العاملين في الإيمان، والمقاصد، والخشية، والإخلاص، والمحبة، والإنابة، والجد، وكثرة العمل، وغير ذلك.

قال الحافظ: " عند الترمذي: ما بين كل درجتين مائة عام، وللطبراني: خمسمائة عام، فإن كانتا محفوظتين، كان اختلاف العدد بالنسبة إلى اختلاف السير، وفي رواية للترمذي: لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم"(2) .

وقال ابن القيم: لا تناقض بين تقدير ما بين الدرجتين، لاختلاف السير في السرعة، والبطء، والنبي –صلى الله عليه وسلم ذكر هذا تقريباً للأفهام" (3) .

(1)"الفتح" ج6 فاتحته.

(2)

المصدر نفسه (ص12-13) .

(3)

"حادي الأرواح"(ص61) .

ص: 404

قوله: " فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس"، الفردوس: اسم يطلق على جميع الجنة، ويطلق على أفضلها وأعلاها، كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات.

قال -تعالى-: {أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (1) .

وقال -تعالى-: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً} (2) .

وأصل الفردوس: البستان، والفراديس: البساتين، قال الليث: الفردوس: الجنة ذات الكروم، يقال: كرم مفردس، أي معرش.

وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة بالأشجار، واختاره المبرد، وقال: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب.

وقال مجاهد: هو البستان بالرومية واختاره الزجاج، وقال: حقيقته: البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين" (3) .

وفي "اللسان": " الفردوس: البستان؛ قال الفراء: هي عربي، قال ابن سيده: الفردوس: الوادي الخصيب عند العرب، وهو بلسان الروم: البستان"(4) ، وذكر نحو ما تقدم.

قوله: " فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة" قال الحافظ: " المراد بالأوسط

(1) الآيتان 10 و 11 من سورة المؤمنون.

(2)

الآية 107 من سورة الكهف.

(3)

"حادي الأرواح"(ص74-75) .

(4)

"لسان العرب"(2/1069) .

ص: 405

هنا: الأعدل والأفضل، كقوله -تعالى-:{وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} (1) ، فعلى هذا فعطف الأعلى عليه للتأكيد.

وقال الطيبي: المراد بأحدهما: العلو الحسي، وبالآخر: العلو المعنوي.

وقال ابن حبان: المراد بالأوسط: السعة، وبالأعلى: الفوقية " (2) .

قلت: الظاهر أن المراد أن الفردوس، هو وسط الجنة، وهو أعلاها، على ظاهر النص، يعني: أن الجنان الأخرى عن جوانبه، ومن تحته، وهو أعلاها، ويدل على

ذلك قوله: " وفوقه عرش الرحمن " فليس فوق الفردوس إلا عرش الرحمن - جل وعلا-، كما يدل عليه أيضاً قوله:" ومنه تفجر أنهار الجنة "؛ لأن الأنهار عادة تنبع من الأعلى، والله أعلم.

قوله: " وفوقه عرش الرحمن " هذه الجملة هي المقصود من سياق الحديث؛ لأنه يدل على أن أعلى مخلوق هو العرش، وليس فوق العرش مخلوق، ولكن الرحمن - جل وعلا- فوقه.

قال ابن خزيمة: " فالخبر يصرح أن عرش ربنا - جل وعلا - فوق جنته، وقد أعلمنا عز وجل أنه مستوٍ على عرشه، فخالقنا عالٍ فوق عرشه، الذي هو فوق جنته"(3)

وذكر بسنده، عن عبد الله بن مسعود:" قال: ما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش، ويعلم أعمالكم"(4) .

(1) الآية 143 من سورة البقرة.

(2)

"الفتح"(6/13) .

(3)

كتاب " التوحيد"(ص104) .

(4)

كتاب " التوحيد"(ص105) .

ص: 406

وذكر له طرقاً عدة، وهو صحيح، ورواه البيهقي عن أبي ذر مرفوعاً، قريباً من لفظه. (1)

وعلو الله -تعالى- واستواؤه على عرشه، مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ومن تبعهم، ولم يخالف فيه إلا من هو منهم على الإسلام، أو مغرور بالتقليد لمن يحسن به الظن.

" وأول من ابتدع بأن الله -تعالى- ليس فوق العرش في الإسلام هو الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وشيعتهما، وهم عند أئمة المسلمين من شرار أهل الأهواء، وقد أطلق السلف من القول بتكفيرهم ما لم يطلقوه على أحد، وقالوا: نحكي كلام اليهود، والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، كما

قال عبد الله بن المبارك، وقالوا: اتفق المسلمون، واليهود، والنصارى، على أن الله -تعالى- فوق العرش، وقالت الجهمية: ليس الله فوق العرش" (2) .

(1) انظر: " الأسماء والصفات"(ص401) .

(2)

"نقض التأسيس"(1/127) .

ص: 407

52-

قال: " حدثنا يحيى بن جعفر، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم - هو التيمي - عن أبيه، عن أبي ذر، قال: " دخلت المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس؛ فلما غربت الشمس قال: يا أبا ذر، هل تدري أين تذهب هذه؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب تستأذن في السجود، فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، ثم قرأ:(ذلك مستقر لها) في قراءة عبد الله".

قوله: " أتدري أين تذهب هذه؟ " هذا الأسلوب من التعليم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمله مع أصحابه، وهو من الأساليب التي ترسخ المعلومات في الذهن؛ لأن المسئول يبقى بعده يتطلع إلى الجواب بإقبال ولهف، فإذا ورد عليه الجواب وهو بهذه الحال، ثبت في قلبه، ورسخ لديه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.

قوله: " ذلك مستقر لها" هذا تفسير لقوله -تعالى-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (1)، قال ابن كثير: " فيه قولان: أحدهما: أن المراد: مستقرها المكاني، وهو تحت العرش مما يلي الأرض، من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش، هي وجميع المخلوقات؛ لأنه سقفها، وليس بكرة، كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة، وإنما هو قبة ذات قوائم، تحمله الملائكة، وهو فوق العالم، مما يلي رؤوس الناس، فالشمس إذا كانت في قبة الفلك، وقت الظهيرة، تكون أقرب ما تكون إلى العرش، فإذا استدارت في فلكها الرابع، إلى مقابلة هذا

(1) الآية 38 من سورة يس.

ص: 408

المقام، وهو وقت نصف الليل، صارت أبعد ما تكون من العرش، فحينئذ تسجد، وتستأذن في الطلوع، كما جاءت بذلك الأحاديث " ثم ذكر هذا الحديث بطرقه، ثم قال: " والقول الثاني: أن المراد بمستقرها" هو منتهى سيرها، وهو يوم القيامة، يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتكور، وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا مستقرها الزماني"(1) .

قوله: " تستأذن في السجود، فيؤذن لها" أي: تطلب من الله الإذن في مواصلة سيرها في حالة سجودها، فيأذن الله -تعالى- لها إلى الوقت الذي تستأذن، ثم لا يؤذن لها، فتبقي في مكانها، ثم يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فينعكس سيرها، حيث تطلع على الناس من المغرب، ولا بد أن تطلع على كل الناس من مغربها، وعند ذلك يؤمنون، ولكن لا ينفعهم إيمانهم، كما أخبر الله -تعالى- بذلك، وهذا إيذان بانقضاء هذه الدار.

قال الكرماني: " القراءة المشهورة المتواترة هي: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وقراءة عبد الله بن مسعود: ذلك مستقرها"(2) .

هكذا قال، والذي في "البخاري": مستقر لها، ولم يقرأ بها أحد من القراء.

قال ابن كثير: " قرأ ابن مسعود، وابن عباس: (والشمس تجري لا مستقر لها) أي: لا قرار لها، ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً، لا تفتر، ولا تقف"(3) .

فعلى هذا يكون لابن مسعود فيها قراءتان، وافقه ابن عباس على إحداهما، وهما شاذتان.

وقد ذكر البخاري رحمه الله هذا الحديث في بدء الخلق، وفيه " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش".

(1)"تفسير ابن كثير"(6/562-563) .

(2)

الكرماني (25/633) .

(3)

"تفسير ابن كثير "(6/563) .

ص: 409

وسيأتي في آخر الباب بعد هذا، وفيه، " قال: مستقرها تحت العرش"، وذكر أيضاً هذين اللفظين في تفسير سورة يس، وبذلك تظهر مناسبة الحديث للباب، فذكره لأجل ما فيه من قوله: " تذهب حتى تسجد تحت العرش"، وقوله: " مستقرها تحت العرش" في غير هذه الرواية هنا.

قال الحافظ: " وأخرجه النسائي بلفظ: " تذهب حتى تنتهي تحت العرش، عند ربها" (1) ، وهو واضح في أن سجودها في أرفع ما تكون، وأقرب ما تكون إلى العرش، ومعلوم أنها دائماً تحت العرش، ولكن سجودها في مكان معين من

مسيرها، وهو دليل واضح على العرش، وارتفاعه العظيم، وهذا هو مراد البخاري رحمه الله من الحديث، ومعلوم أن الله -تعالى- فوق العرش كما سبق.

قال الحافظ: " قوله: تحت العرش" قيل: معناه: هي حين محاذاتها، ولا يخالف هذا قوله تعالى:{وجدها تغرب في عين حمئة} (2)، فإن المراد بها: نهاية مدرك البصر إليها حال الغروب، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد الغروب".

قال: " وفي الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها: غاية ما تنتهي إليه في الارتفاع، وذلك أطول يوم في السنة ".

وقيل: مستقرها: منتهى أمرها، عند انتهاء الدنيا.

وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش: أنها تستقر تحته استقراراً لا نحيط به نحن، وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق سيرها ودورانها فيه.

قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار: وقوعه في كل ليلة ويوم عند سجودها، ومقابل الاستقرار: المسير المعبر عنه بالجري " انتهى (3) .

(1)"الفتح"(8/541) .

(2)

الآية 86 من سورة الكهف.

(3)

"الفتح" ملخصاً (8/542) .

ص: 410

وقال أيضاً: " وظاهر الحديث: أن الشمس هي التي تسير، وتجري.

وقال ابن العربي: أنكر قوم سجودها، وهو صحيح ممكن، وتأوله قوم على ما هي عليه من التسخير الدائم، ولا مانع من أن تخرج عن مجراها، فتسجد ثم ترجع.

قلت: إن أراد بالخروج: الوقوف، فواضح، وإلا فلا دليل على الخروج" اهـ. (1)

قلت: وكونها تسجد تحت العرش لا يقتضي مفارقتها لفلكها وانتظامها في مسيرها بالنسبة للأرض، فهي دائمة الطلوع على جزء من الأرض، والأوقات بالنسبة إلى أهل الأرض تختلف بمقدار سيرها.

ومعلوم أن تعاقب الليل والنهار واختلافهما يترتب على مسيرها، فربما يقول قائل: أين سجودها تحت العرش؟ ومتى يكون؟ وسيرها مستمر، وبعدها عن الأرض لا يختلف في وقت من الأوقات كما أن سيرها لا يتغير، كما هو مشاهد.

والجواب: أنها تسجد كل ليلة تحت العرش، كما أخبر به الصادق المصدوق، وهي طالعة على جانب من الأرض، مع سيرها في فلكها، وهي دائماً تحت العرش، في الليل والنهار، بل وكل شيء من المخلوقات تحت العرش، لكنها في وقت من سيرها، وفي مكان معين، يصلح سجودها، الذي لا يدركه الخلق، ولكن علم بالوحي، وهو سجود يناسبها على ظاهر النص.

أما التسخير: فهي لا تنفك عنه أبداً. والله أعلم.

قال شيخ الإسلام: " فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنها تسجد كل ليلة تحت العرش، فقد علم اختلاف حالها بالليل والنهار، مع كون سيرها

(1)"الفتح"(6/299) .

ص: 411

في فلكها من جنس واحد، وأن كونها تحت العرش لا يختلف في نفسه، وإنما ذلك اختلاف بالنسبة والإضافة، علم أن تنوع النسب والإضافة لا يقدح فيما هو ثبات في نفسه لا مختلف" (1) .

يعني: أن اختلاف السير يكون بالنسبة لمن في الأرض، فهي تطلع على جانب منها وتغرب عن جانب آخر، مع أن سيرها في فلكها ليس فيه هذا الاختلاف، فلا يختلف سجودها باختلاف الليل والنهار؛ لأن هذا الاختلاف يكون بالنسبة إلى من في الأرض، وبالإضافة إليهم، أما هي فسجودها في مكان معين من سيرها، وفي وقت معين لا يختلف.

ثم قال رحمه الله: " ومن هنا يظهر الجواب عما ذكره ابن حزم، وغيره في حديث النزول (2)، حيث قالوا: قد ثبت أن الليل يختلف بالنسبة إلى الناس، فيكون أوله ونصفه وثلثه بالمشرق قبل أوله، ونصفه وثلثه بالمغرب، قالوا: فلو كان

النزول هو النزول المعروف، للزم أن ينزل في جميع أجزاء الليل، إذ لا يزال في الأرض ليل، قالوا: أو لا يزال نازلاً وصاعداً، وهو جمع بين الضدين.

وهذا إنما قالوه لتخيلهم من نزوله -تعالى- ما يتخيلونه من نزول أحدهم، وهذا عين التمثيل، ثم إنهم بعد ذلك جعلوه كالواحد العاجز منهم، الذي لا يمكنه أن يجمع من الأفعال ما يعجز غيره عن جمعه.

وقد جاءت الأحاديث بأنه يحاسب خلقه يوم القيامة، كل منهم يراه مخلياً به، ويناجيه، لا يرى أنه متخلياً لغيره، ولا مخاطباً لغيره" (3) .

وسيأتي - إن شاء الله تعالى - إيضاح الرد على شبههم هذه وغيرها في

(1)"بيان تلبيس الجهمية"(2/228) .

(2)

سيأتي شرحه - إن شاء الله تعالى -، وهذا الكلام محله شرح حديث النزول، ولكن لشدة ارتباطاه بما ذكر في سير الشمس أحببت إثباته هنا.

(3)

"بيان تلبيس الجهمية"(2/228) .

ص: 412

شرح الحديث.

وفي "صحيح مسلم"، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله -تعالى-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قال: " مستقرها تحت العرش"(1) .

وهذا يعين المقصود بالمستقر، وأنه: الموضع الذي تسجد فيه لربها، وتستأذن بمواصلة سيرها، وأن هذا يكون كل ليلة بالنسبة إلينا، ويجوز أن يكون بالنهار بالنسبة لغيرنا كأمريكا مثلاً.

وقد روى مسلم هذا الحديث مبسوطاً مبيناً، حيث قال بعد ذكر السند:" عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً: " أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك، حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك، حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي، أصبحي طالعة من

مغربك، فتصبح طالعة من مغربها" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها، لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً"(2) .

وقد ذكر الله -تعالى- في كتابه أن الشمس والقمر يسجدان له تعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (3) .

(1)"صحيح مسلم"(1/39) .

(2)

"صحيح مسلم"(1/138)، وانظر:" شرح النووي"(2/195) .

(3)

الآية 18 من سورة الحج.

ص: 413

53-

قال: " حدثنا موسى، عن إبراهيم، حدثنا ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، أن زيد بن ثابت.

وقال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن ابن السباق، أن زيد بن ثابت حدثه، قال: أرسل إلىَّ أبو بكر، فتتبعت القرآن، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (1) حتى خاتمة براءة ".

زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان، النجاري، الأنصاري، أبو سعيد، ويقال: أبو خارجة، قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو ابن إحدى عشرة سنة.

وكان يكتب الوحي، قال الشعبي: غلب زيد الناس على اثنتين، الفرائض، والقرآن، وكان أحد أصحاب الفتوى من الصحابة.

وقال مسروق: " قدمت المدينة، فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم"، وفضائله كثيرة، توفي سنة 4، وقيل: 51، وقيل: 55، وقيل غير ذلك" (2) .

ومقصود البخاري رحمه الله من هذا الحديث: هو ذكر العرش في الآية الكريمة، حيث قال تعالى:{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (3) .

(1) الآية 128 من سورة براءة.

(2)

"تهذيب التهذيب"(3/399) .

(3)

آخر آية من سورة براءة.

ص: 414

قال الإمام ابن جرير - رحمه الله تعالى -: " يقول - تعالى ذكره - فإن تولى، يا محمد، هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك، من قومك، فأدبروا عنك، ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله، وما دعوتهم إليه من النور والهدى، فقل:{حَسْبِيَ اللهُ} يكفيني ربي {لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} لا معبود سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت، وإليه وإلى نصره استندت، فإنه ناصري، ومعيني، على من خالفني وتولى عني ومن غيركم من الناس، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي يملك ما دونه، والملوك كلهم مماليكه، وعبيده.

وإنما عنى بوصفه - جل ثناؤه - نفسه بأنه رب العرش العظيم: الخبر عن جميع ما دونه أنهم عبيده، وفي ملكه، وسلطانه؛ لأن العرش العظيم إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه ذو العرش، دون سائر خلقه، وأنه المالك العظيم، دون غيره، وأن من دونه في سلطانه، وملكه، جار عليه حكمه وقضاؤه" (1) .

وقال ابن كثير: " وهو رب العرش العظيم" أي: هو مالك كل شيء، وخالقه؛ لأن العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السماوات والأرضيين وما فيهما وما بينهما، تحت العرش، مقهورون بقدرة الله -تعالى-، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل" (2) .

وثبت عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن (3) .

وقد تقدم أن تخصيصه -تعالى- العرش بأنه ربه، وإضافته إليه -تعالى- يدل على أمر زائد على ما في المخلوقات غيره من السماوات والأرض بأنه ربها.

(1)"تفسير الطبري"(11/77-78) بتحقيق محمود شاكر.

(2)

"تفسير ابن كثير"(4/179-180) ط الشعب.

(3)

انظر: المصدرين السابقين.

ص: 415

وكذلك وصفه إياه بأنه عظيم وكريم ومجيد، وهذه الأوصاف والإضافة لم تأت في غير العرش من المخلوقات؛ وهذا لأنه تعالى اختاره لقربه، واستوائه عليه.

قوله: " حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره" يعني: أنه ما وجدها مكتوبة، مثبتة بالكتابة، إلا عند أبي خزيمة.

وليس معنى ذلك أنه لم يحفظها إلا أبو خزيمة، فإن زيداً وأُبياً، وأبا بكر، وغيرهم من الصحابة، كانوا يحفظون القرآن كله، وهو يريد من كتبها عن الرسول صلى الله عليه وسلم بدون واسطة.

قال الحافظ: " قوله: لم أجدها مع أحد غيره" أي: مكتوبة؛ لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة.

ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما زيد كان يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة.

ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها، كما تذكرها زيد، وفائدة التتبع: المبالغة في الاستظهار، والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الخطابي: هذا مما يخفى معناه، ويوهم أنه كان يكتفي في إثبات الآية بخبر الشخص الواحد، وليس كذلك، فقد اجتمع في هذه الآية زيد بن ثابت، وأبو خزيمة، وعمر".

ثم علق الحافظ على كلام الخطابي بقوله:

"وكأنه ظن أن قولهم: لا يثبت القرآن بخبر الواحد، أي: الشخص الواحد، وليس كما ظن، بل المراد بخبر الواحد: خلاف التواتر، فلو بلغت رواة

ص: 416

الخبر عدداً كثيراً، وفقد شيئاً من شروط المتواتر (1) ، لم يخرج عن كونه خبراً لواحد.

والحق أن المراد بالنفي: نفي وجودها مكتوبة، لا نفي كونها محفوظة" (2) .

ثم ذكر أحاديث تؤيد ما قال.

وقال في موضع آخر: " والذي يظهر أن الذي أشار إليه أنه فقده، فقد وجودها مكتوبة، لا فقد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده، وعند غيره، ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن: " فأخذت أتتبعه، من الرقاع والعسب" (3)

وقال أيضاً: " والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة - بالكنية- والذي وجد معه الآية من سورة الأحزاب خزيمة.

وأبو خزيمة، قيل: هو ابن أوس بن يزيد بن أحرم، مشهور بكنيته، دون اسمه، وقيل: هو الحارث بن خزيمة.

وأما خزيمة، فهو ابن ثابت ذو الشهادتين" (4)

(1) من كون الناقلين عدداً كثيراً، يمتنع تواطؤهم على الكذب، من أول السند إلى نهايته.

(2)

"فتح الباري"(9/15) .

(3)

"الفتح"(8/518) .

(4)

"الفتح"(9/15) .

ص: 417

54-

قال: " حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب: " لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم ".

قوله: " يقول عند الكرب" الكرب - بفتح الكاف، وسكون الراء - قال الأزهري:"هو: الغم الذي يأخذ النفس، يقال: كربه الغم، وإنه لمكروب النفس، والكربة الاسم، والكريب: المكروب"(1) .

وقال الجوهري: " الكربة بالضم: الغم الذي يأخذ بالنفس، وكذلك الكرب، على مثال الضرب، تقول منه: كربه الغم، إذا اشتد عليه، والكرائب: الشدائد، الواحدة: كريبة"(2) .

قوله: " كان يقول عند الكرب" كان: تدل على كثرة وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن لفظة "كان" تدل على الاستمرار غالباً.

وقوله: " لا إله إلا الله " الإله هو: المعبود الذي تأله القلوب، وتذل له، وتحبه، وتعظمه، وتخافه، وترجوه، فالإله هو الذي يقصد بالخوف والرجاء، مع الذل والتعظيم، وكلما زاد الخوف والرجاء، والذل والتعظيم، صارت العبادة أكمل.

(1)"تهذيب اللغة"(10/205) .

(2)

"الصحاح"(1/211) .

ص: 418

قال شيخ الإسلام: " الإله هو: الذي يؤله، فيعبد، محبة وإنابة، وإجلالاً وإكراماً"(1) .

فقوله: " لا إله إلا الله " أي: لا أتوجه بقلبي عابداً وخاضعاً، متذللاً، خائفاً، راجياً، إلا إلى الله وحده، فهو إلهي، ومعبودي، الذي يملك نفعي وضري، وبإخلاص التأله له كمال حياتي، وسعادتي، وفي عدم ذلك الشقاء والهلاك.

"فالعبد كلما كان أذل لله، وأعظم افتقاراً إليه، وخضوعاً له، كان أقرب إليه وأعز له، وأعظم لقدره عنده، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله تعالى، فأما المخلوق

فكما قيل: احتج لمن شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن لمن شئت تكن أميره.

فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق: إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو بشربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته؛ ليكون الدين كله لله، لا يشرك به شيء.

والرب -تعالى- أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، وهو -تعالى- يعلم ما يصلح عبده، ويقدر على ذلك، ويريده، رحمة منه وفضلاً، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريداً، راحماً، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء" (2) .

قوله: " العليم الحليم" أي: هو تعالى العظيم بكل شيء، فيعلم حالي. وما نزل به، ويعلم أسبابه، وما يترتب عليه، لا يخفى عليه خافية، فعلمه محيط بكل شيء.

(1)"مجموع الفتاوى"(1/22) .

(2)

"مجموع الفتاوى"(1/39-40) .

ص: 419

وهو -تعالى- حليم لا يعجل بالعقوبة لمن يستحقها، بل يعفو ويتجاوز، وحلمه عن علم وحكمة، فله -تعالى- الكمال المطلق قال -تعالى-:{قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَاّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً {42} سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {43} تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1) .

وكثيراً ما يأتي وصفه -تعالى- بالحلم مقروناً بالمغفرة، مما يدل على أن الحلم هو: عدم المعاجلة لمن استحق العقوبة، وأنه -تعالى- يحلم على عباده، ويغفر لهم جرائمهم، ولهذا أخبر -تعالى- أنه لو يؤاخذ الناس بظلمهم وما كسبت أيديهم ما ترك على ظهر الأرض من دابة، قال -تعالى-:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} (2)

قوله: " لا إله إلا الله رب العرش العظيم " كرر التوسل بإلهيته تعالى، والتبري من كل ما سواه من مألوه، وهذا أعظم الوسائل إلى الله -تعالى-، وهو إخلاص العبادة والتوجه إلى الله بصدق، ورغبة، ورهبة.

ولهذا صار إخلاص التأله والدعاء لله وحده، مفزع جميع العقلاء من المؤمنين والكفار، في كل كرب وشدة، كما ذكر الله -تعالى- هذا المعنى عن السابقين من الكفار، وغيرهم من أهل الإيمان.

قال تعالى: {لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {63} قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ

(1) الآيات من 42- 44 من سورة الإسراء.

(2)

الآية 61 من سورة النحل.

ص: 420

كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} (1)، وقال -تعالى- عن الطاغية الجبار:{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلَاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2)، وقال -تعالى-:{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} (3)، وقال -تعالى- عن نبيه يونس عليه السلام:{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَاّ إِلَهَ إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (4) ، وهذا كثير في القرآن، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك.

قوله: " لا إله إلا الله رب السماوات والأرض، ورب العرش الكريم" هذا تكرير للتوسل إلى الله -تعالى- بألوهيته، وربوبيته، فبدأ بما يدل على إخلاص التأله له -تعالى-، ثم توسل باسميه الكريمين: العليم والحليم، ثم بأنه رب العرش العظيم، ثم بأنه رب السماوات والأرض، ورب العرش الكريم.

فاشتمل هذا الدعاء العظيم على التوجه إلى الله -تعالى- بأنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.

والربوبية نوعان: عامة، وخاصة، فهو -تعالى- رب كل شيء ومليكه، المتصرف فيه كيف يشاء، وهو القائم على كل مخلوق بما يصلحه، ويربيه، {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، وقد جمع النوعين في هذا الحديث، فتوسل بأنه رب

العرش العظيم الكريم، وبأنه رب السماوات والأرض، والرب هو: المالك المتصرف، القائم على كل مربوب بما يحتاجه من تربية في شؤون حياته كلها.

والمقصود من الحديث: قوله: " رب العرش العظيم" وقوله: " رب العرش

(1) الآيتان 63 و 64 من سورة الأنعام.

(2)

الآية 90 من سورة يونس.

(3)

الآية 8 من سورة الزمر.

(4)

الآية 87 من سورة الأنبياء.

ص: 421

الكريم" وكلاهما وصف للعرش، وصف بأنه عظيم، وبأنه كريم، والعظمة تدل على الكبر، والسعة، والكرم يدل على الحسن، والجمال، والسعة أيضاً.

قال الكرماني: "وصف العرش بالعظمة، هو من جهة الكمية، وبالكرم، أي: الحسن من جهة الكيفية، فهو ممدوح ذاتاً وصفة، وخص بالذكر لأنه أعظم أجسام العالم، فيدخل الجميع تحته دخول الأدني تحت الأعلى، وذكر لفظ " الرب" من بين سائر الأسماء الحسنى؛ ليناسب كشف الكروب، الذي هو مقتضى التربية، ولفظ "الحليم"؛ لأن كرب المؤمن غالباً إنما هو على نوع تقصير أو غفلة في الطاعات"(1) .

وربوبيته -تعالى- للعرش، مع وصفه بأنه عظيم وكريم، تفيد تخصيصاً له عن غيره من السماوات والأرض، وذلك لأنه قد خصه بقربه، واستوائه -تعالى- عليه، ذكر شيخ الإسلام، عن أبي عمرو الطلمنكي – وهو من أئمة أهل السنة – أنه قال: " وأجمعوا – يعني أهل السنة والجماعة – على أن لله عرشاً، وعلى أنه مستوٍ على عرشه، وعلمه، وقدرته، وتدبيره بكل ما خلقه.

قال: فأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (2) ، ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه، كيف شاء. قال: وقال أهل السنة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) : الاستواء من الله -تعالى- على عرشه المجيد، على الحقيقة، لا على المجاز. واستدلوا بقول الله -تعالى-: {فإذا استويت أنت ومن معك على

(1)"شرح الكرماني على البخاري"(21/149) .

(2)

الآية 4 من سورة الحديد.

(3)

الآية 5 من سورة طه.

ص: 422

الفلك} (1) ،

وبقوله: {لتستوا على ظهوره} (2)، وبقوله:{واستوت على الجودي} (3)، إلا أن المتكلمين من أهل الإثبات في هذا على أقوال:

فقال مالك – رحمه الله تعالى -: إن الاستواء معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

وقال عبد الله بن المبارك، ومن تابعه من أهل العلم، وهم كثير: إن معنى استوى على العرش: استقر. وهو قول القتيبي.

وقال غير هؤلاء: استوى، أي: ظهر.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: استوى بمعنى: علا.

وتقول العرب: استويت على ظهر الفرس، بمعنى: علوت عليه، واستويت على سقف البيت، بمعنى: علوت عليه.

ويقال: استويت على السطح، بمعناه.

فقوله تعالى: {استوى على العرش} بمعنى: علا على العرش.

وقول الحسن (4) ، وقول مالك، من أنبل جواب وقع في هذه المسألة، وأشده استيعاباً، لأن فيه نبذ التكييف، وإثبات الاستواء المعقول، وقد ائتم أهل العلم بقوله واستجودوه، واستحسنوه" (5) .

ثم تكلم على فساد قول من تأول استوى بمعنى استولى، وقد مضى ما يغني عن ذكره.

(1) الآية 28 من سورة المؤمنون.

(2)

الآية 13 من سورة الزخرف.

(3)

الآية 44 من سورة هود.

(4)

الحسن يقول: معنى استوى: ارتفع.

(5)

إلى هنا ينتهي كلام الطلمنكي.

ص: 423

ثم قال: " وقال الثعلبي: قال الكلبي، ومقاتل:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يعني: استقر، قال: وقال أبو عبيدة: صعد.

وقيل: استولى، وقيل: ملك، واختار هو (1) ما حكاه عن الفراء وجماعة أن معناه: أقبل على خلق العرش، وعمد إلى خلقه، قال: ويدل عليه قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (2) أي: عمد إلى خلق السماء.

وهذا من أضعف الوجوه (3) ، فإنه قد أخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السماوات، والأرض، وكما مر في حديث عمران:" كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض ".

فإذا كان العرش مخلوقاً، قبل خلق السماوات والأرض، فكيف يكون معنى استوائه عليه، بعد خلق السماوات والأرض، هو عمده إلى خلقه، مع أنه لا يعرف في اللغة "استوى" بمعنى: عمد إلى فعل كذا، لا حقيقة، ولا مجازاً، لا في النثر، ولا في النظم.

ومن قال: استوى، بمعنى عمد، ذكره في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (4) ؛ لأنه عدى بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا، وقصدت إلى كذا، ولا يقال: عمدت على كذا، ولا قصدت عليه، مع أن هذا أيضاً غير معروف في اللغة، ولا هو قول أحد من مفسري السلف، بل المفسرون من السلف بخلاف ذلك.

(1) يعني الثعلبي، وهذه الأقوال منقولة من تفسيره، وهو يجمع فيه بين المتناقضات، وليس لديه تميز لمذهب السلف.

(2)

الآية 11 من سورة حم فصلت.

(3)

بل هو باطل مخالف للنصوص الواضحة، وقد تقدم بيان بطلانه. وهذا الذي اختاره الثعلبي هو قول الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الأشعرية وغيرهم من أهل البدع.

(4)

الآية 11 من سورة حم فصلت.

ص: 424

وإنما هذا القول وأمثاله ابتدع في الإسلام، لما ظهر إنكار أفعال الرب -تعالى- التي تقوم به، ويفعلها بقدرته، ومشيئته، واختياره، فصار كل يفسر القرآن على ما يوافق قوله، واعتقاده.

وأما السلف فأقوالهم في هذا الباب متفقة، وإن اختلفت عباراتهم، فمقصودهم واحد، وهو إثبات علو الله واستوائه على عرشه.

فإن قيل: إذا كان الله لا يزال عالياً على المخلوقات، فكيف يقال: ثم ارتفع إلى السماء وهي دخان؟ أو يقال: ثم علا على العرش؟

فالجواب: أن هذا كما أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يصعد، وروي:" ثم يعرج" وكما أخبر أنه يجيء لفصل القضاء بين عباده، وهو سبحانه لم يزل فوق، فإن صعوده من جنس نزوله ومجيئه، وهو –تعالى- في نزوله ومجيئه، لا يصير شيء من المخلوقات فوقه، فهو سبحانه يصعد، وإن لم يكن منها شيء فوقه.

فإن قيل: فإذا كان إنما استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فقبل ذلك: هل كان على العرش، أو لم يكن؟

قيل: الاستواء علو خاص، فكل مستوٍ على شيء عال عليه، وليس كل عال على شيء مستو عليه، ولهذا لا يقال لكل ما كان عالياً على غيره: إنه مستو عليه، ولكن كل ما قيل: إنه استوى على كذا، فهو عالٍ عليه.

والذي أخبر الله -تعالى- أنه كان – خلق السماوات والأرض – الاستواء، لا مطلق العلو، مع أنه يجوز أنه كان مستوياً عليه قبل خلق السماوات والأرض، لما كان عرشه على الماء، ثم لما خلق هذا العالم كان عالياً على العرش، ولم يكن مستوياً عليه، ثم استوى عليه بعد ذلك (1) . والأصل أن علوه على المخلوقات، وصف لازم له، كما أن عظمته وكبرياءه

(1) أو يقال: إن الاستواء بعد خلق السماوات والأرض، استواء خاص غير الذي قبل ذلك.

ص: 425

وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعل يفعله سبحانه بمشيئته وقدرته، ولهذا قال فيه: ثم استوى" (1) .

وقال ابن عبد البر: " وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى. فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد.

ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا، إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله – عز وجل – إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم.

ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه " (2) .

وقد تقدم ذكر بعض ما قاله السلف والأئمة في ذلك، في أول الباب، والجواب عما اعتمده أهل التأويل.

(1)"مجموع الفتاوى"(5/519-523) ببعض التصرف.

(2)

"التمهيد"(7/131) .

ص: 426

55-

قال: " حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي: " يصعقون يوم القيامة فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش".

56-

" وقال الماحشون: عن عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي-صلى الله عليه وسلم قال: " فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش".

"الصعق: غشي يلحق من سمع صوتاً شديداً أو يرى شيئاً هائلاً مفزعاً"(1) .

وفي الأبي: " الصعق، والصعقة، والصاعقة، والهلاك، والموت، وقيل: كل عذاب مهلك، وهو أيضاً: الغشية تعتري من فزع لسماع صوت {مفزع، أو رأى مهولاً} (2) " وقد اختلف في هذا الصعق المذكور في هذا الحديث: أهو نفخة الصور للبعث، أو غيرها؟

فقيل: أنها نفخة البعث؛ لأن النفخة الأولى، لا يحس بها الأموات، وإنما هي لموت من كان حياً، وإنهاء الدنيا، وابتداء الآخرة.

ولكن يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أو حوزي بصعقة الطور" ومعلوم أن موسى عليه السلام قد مات، فلا يجوز أن يكون المعنى:" فلا أدري: هل موسى مات، أم جوزي عن الموت بصعقة الطور".

وقد اختلف في النفخ في الصور: هل هو مرتان أو ثلاث؟

(1)"الفتح"(6/444) .

(2)

" شرح الأبي على مسلم"(6/167) .

ص: 427

قال الإمام ابن جرير – رحمه الله – في قوله تعالى: {وله الملك يوم ينفخ في الصور} (1)

اختلف في الصور في هذا الموضع.

فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان، إحداهما لفناء من كان حياً على الأرض، والثانية لنشر كل ميت، واعتلوا لقولهم ذلك، بقوله:{ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} (2)

وقال على قوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} (3) .

اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: {فإذا نفخ في الصور} من النفختين، أيهما عنى بها؟ فقال بعضهم: عنى بها النفخة الأولى.

ثم ذكر عن ابن عباس: قال: فذلك في النفخة الأولى، فلا يبقى على الأرض شيء. وروي ذلك أيضاً عن السدي.

ثم ذكر القول الثاني: أن المراد بذلك النفخة الثانية، وروي ذلك عن ابن مسعود وغيره" (4) وهذا الذي ذكره الطبري – رحمه الله – يدل على أن النفخ في الصور مرتين، الأولى لموت من كان حياً على وجه الأرض، والثانية لبعث الموتى. وعليه يكون الإشكال في الحديث ظاهراً، وسيأتي ذكر ألفاظ الحديث في "البخاري" و"مسلم".

(1) الآية 73 من سورة الأنعام.

(2)

الآية 68 من سورة الزمر.

(3)

"تفسير الطبري"(11/462) بتحقيق محمود شاكر.

(4)

"تفسير الطبري"(18/54) ط الحلبي.

ص: 428

وقد أجاب القرطبي عن الإشكال بقوله: " المعنى: فلا أدري: أبعثه الله قبلي؟ تفضيلاً له، من هذا الوجه، كما فضل بالدنيا بالتكليم، أو كان جزاء له بصعقة الطور قدم بعثه على بعث الأنبياء، الآخرين، بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل؟ "(1)

فعي هذا يكون المعنى في قوله: " أو جوزي بصعقة الطور" أي قدم بعثه عليَّ جزاء له بما حصل من صعقته في الطور، وهذا غير صحيح؛ لأمور عدة:

منها: أن الحديث على هذا يصبح فيه تكرار لا معنى له، إذ لا يكون المعنى على قول القرطبي:" فلا أدري أبعث قبلي؟ أو جوزي ببعثه قبلي بصعقة الطور".

ومنها: أن ظاهر الحديث يرد هذا؛ لأن قوله: " فلا أدري أبعث قبلي؟ أم جوزي بصعقة الطور؟ " ظاهره: فلا أدري أصعق فبعث قبلي؟ أم أنه لم يصعق، وإنما جوزي عن الصعق بصعقة الطور؟ ولهذا لم يقتنع القرطبي بهذا الجواب، فذكر جواباً آخر – سيأتي- ثم قال:

وقال شيخنا أحمد بن عمر: وظاهر حديث النبي –صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية، نفخة البعث، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولهذا قال بعض العلماء: يحتمل أن يكون موسى – عليه السلام – ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل بما صح من النصوص بذكر موته.

قال: وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع، بعد النشر، حين تنشق السماوات والأرض، قال: فتستقل الأحاديث والآيات، والله أعلم.

ثم قال: قال شيخنا أبو العباس: وهذا يرده ما جاء في الحديث أنه عليه

(1) التذكرة (1/208) ، وهو أخذ هذا عن الحليمي كما في المنهاج، انظر: الورقة 214 من المخطوطة، وانظر المطبوع (1/432) .

ص: 429

السلام حين يخرج من قبره يلقى موسى، وهو متعلق بالعرش، وهذا عند نفخة البعث.

قلت: وسيأتي ما يوضح ذلك في روايات الحديث التي أذكرها، - إن شاء الله -.

ثم قال: " قال شيخنا أحمد بن عمر: والذي يزيح هذا الإشكال – إن شاء الله تعالى – أن الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم، أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين، مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا.

وإذا كان هذا في الشهداء، كان الأنبياء بذلك أحق، وأولى، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، صعق كل من في السماوات والأرض، إلا من شاء الله، فأما

صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق" (1) .

قلت: وحاصل هذا الجواب: أن الصعقة المذكورة في الحديث هي الأولى، وأن الصعق يكون للأرواح، كل ذلك باطل؛ لأنه سيأتي أن الحديث ينص على أنها نفخة البعث، ومعلوم أن الأرواح لا تموت، فكيف يكون صعق غير الأنبياء موت مع أنه زعم أن الصعق للأرواح، وكل ذلك يفتقر إلى دليل، والأدلة خلافه.

ولهذا قال ابن القيم: " وحمل الحديث على هذا لا يصح، لأنه –صلى الله عليه وسلم تردد: هل أفاق موسى قبله، أو لم يصعق، بل جوزي بصعقة الطور؟

فالمعنى: لا أدري: أصعق أم لم يصعق؟

وقد قال في الحديث: " فأكون أول من يفيق"، وهذا يدل على أنه –صلى الله عليه وسلم يصعق فيمن يصعق، وأن التردد حصل في موسى، هل صعق وأفاق قبله من صعقته، أو لم يصعق؟

(1)"التذكرة"(1/208-209) .

ص: 430

ولو كان المراد به: الصعقة الأولى، وهي صعقة الموت، لكان – صلى الله عليه وسلم قد جزم بموته، وتردده: هل مات موسى، أو لم يمت، وهذا باطل؛ لوجوه كثيرة، فعلم أنها صعقة فزع، لا صعقة موت، والآية لا تدل على أن الأرواح كلها تموت، عند النفخة الأولى، وإنما تدل على أن من لم يذق الموت قبلها يموت، وأما من مات، أو من لم يكتب عليه الموت، فلا يموت " (1) .

وقال السفاريني: " وصعق الأرواح عند النفخ في الصور، لا يلزم منه موتها. ففي "الصحيحين": " أن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟ ".

فهذا صعق في موقف القيامة، إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذ، يصعق الخلائق كلهم، قال تعالى:{فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} (2) .

ولو كان هذا الصعق موتاً، لكانت موتة أخرى " (3)

ثم ذكر كلام ابن القيم السابق، وقال ابن القيم بعد ما قرر أن هذا الصعق المذكور، إنما هو في الموقف، إذا جاء رب العالمين – جل وعلا – لفصل القضاء بين عباده.

قال: " فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله في الحديث: " إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش"؟ قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي، حديث في حديث، فركب بين اللفظين، فجاء هكذا، والحديثان هكذا أحدهما:

(1)"الروح"(ص36) .

(2)

الآية 45 من سورة الطور.

(3)

"لوامع الأنوار البهية"(2/38) .

ص: 431

" أن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق".

والثاني: " أنا أول من تنشق عنه الأرض، يوم القيامة "، فدخل على الراوي هذا الحديث في الحديث الآخر، وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يقول ذلك " (1) .

قلت: وهذا احتمال بعيد جداً، ويحتاج إلى دليل، ولا وجود له، إذ لا يجوز تخطئة الراوي بمجرد إشكال يعرض للإنسان في لفظ الحديث، فما قال ابن القيم – رحمه الله – هنا غير صحيح، وسيتبين ذلك عند ذكر روايات الحديث.

فلفظ حديث أبي سعيد في "البخاري": " لا تخيروا الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري: أكان فيمن صعق؟ أم حوسب بصعقته الأولى "(2) ثم رواه في أماكن متعددة من "صحيحه" بألفاظ متقاربة، ليس فيها:" فأكون أول من تنشق عنه الأرض" إلا في هذا الموضع.

ولكن في رواية أبي هريرة: أنه –صلى الله عليه وسلم قال: " لا تفضلوا بين أولياء الله، فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات، ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم

ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري: أحوسب بصعقته يوم الطور، أم بعث قبلي؟ " (3) .

قال الحافظ: " وقع في رواية: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الثانية "، وفي أخرى: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة" (4) .

ورواه في "التفسير" بسند آخر، مختصراً، ولفظه: " إني أول من يرفع

(1)"الروح"(ص37) .

(2)

انظر: " البخاري مع الفتح "(5/70) .

(3)

انظر: " الفتح"(6/451) .

(4)

"الفتح"(6/444) .

ص: 432

رأسه، بعد النفخة الأخيرة، فإذا أنا بموسى، متعلق بالعرش، فلا أدري، أكذلك كان، أم بعد النفخة" (1) ثم ذكره معلقاً في الموضع نفسه بلفظ:" فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش" ورواه مسلم، ولفظه:" لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات، ومن في الأرض، إلا من شاء الله – قال- ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، أو في أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري: أحوسب بصعقة يوم الطور، أو بعث قبلي؟ ".

ثم رواه بسند آخر – وفيه: " فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق"(2) .

وأما حديث أبي سعيد المتقدم، في ذكر الانشقاق، فقد رواه أيضاً الإمام أحمد، فقال: حدثنا وكيع عن سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: " لا تخيروا بين الأنبياء، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأفيق، فأجد موسى متعلقاً بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري: أجزي بصعقة الطور، أو أفاق قبلي؟ "(3) .

وذكر الحافظ أن في رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة – عند ابن مردويه-: "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأنفض التراب عن رأسي، فآتي قائمة

العرش فأجد موسى قائماً عندها، فلا أدري أنفض التراب عن رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله" (4) .

فهذه الرواية تدل على أن الصعق المذكور هو النفخة الثانية في الصور، فإن قوله في رواية أبي هريرة: " فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات

(1)"الفتح"(8/551) .

(2)

"مسلم"(4/1844) رقم (2373) .

(3)

"المسند"(3/33) .

(4)

"الفتح"(6/445) .

ص: 433

ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بالعرش" وفي الرواية الأخرى:" إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش"، وفي أخرى:" إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الثانية ".

وفي رواية مسلم: " ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث".

فهذا واضح وصريح في أن المقصود: البعث من الموت الحاصل بنفخ الصور النفخة الثانية، وبه يتبين أن ما قاله القرطبي وغيره مما سبق ذكره، وكذا ما ذهب إليه ابن القيم، كله غير صحيح كما سبق، وكذا قول الحليمي في "المنهاج":"أن ظاهر الحديث أن هذه صعقة غشي يوم القيامة، لا صعقة الموت، الحادث عن نفخ الصور"(1) مردود بما صرحت به الروايات المذكورة.

الصواب ما نصت عليه هذه الروايات من أن موسى عليه السلام يبعث قبل نبينا –صلى الله عليه وسلم، وأما تردده: أأصابه الصعق فبعث قبله، أو كان ممن استثنى الله – تعالى-، أو جوزي عن الصعق بصعقة الطور، كل ذلك يقتضي أنه بعث قبله.

ولكن يبقى الإشكال في أن النفخة التي استثنى الله -تعالى- منها هي الأولى، ومعلوم أن موسى عليه السلام قد مات قبلها، فكيف يصح استثناؤه منها؟

فيقال: وكذا نبينا –صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء لا ينالهم ذلك، وإنما ينال من كان حياً في ذلك الوقت، ويكون الأقرب ما قاله الحليمي: " أن المعنى: إذا نفخ في الصور

مرة أخرى، كنت أول من بعث، فأجد موسى مبعوثاً قبلي، فلا أدري: أفضل بذلك على سائر الخلق، أو أن ذلك جزاء له بصعقة الطور؟ " (2) .

(1) انظر: " المنهاج" المخطوط رقم 214، وانظر: المطبوع (1/432) وهو كثير التحريف.

(2)

انظر: " المنهاج" الورقة 214، أو المطبوع (1/432) وهذا معنى كلامه وليس لفظه.

ص: 434

وهذا بناء على أن النفخ في الصور مرتان، وهو الذي تؤيده الأدلة الصحيحة، كما مر في هذه الروايات السابقة.

قال الحافظ: " ثبت في "صحيح مسلم" أنهما نفختان، ولفظه في أثناء حديث مرفوع: " ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً، ثم يرسل الله مطراً كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون".

وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه: " بين النفختين أربعون"، وفي ذلك دلالة على أنهما نفختان فقط، والتغاير في كل منهما باعتبار من يسمعهما، فالأولى: يموت بها كل من كان حياً، ويغشى على من لم يمت ممن استثنى الله تعالى، والثانية: يعيش بها من مات، ويفيق بها من غشي عليه" (1) .

وقد ذهب إلى أنها ثلاث نفخات بعض العلماء، كالحافظ ابن كثير، وحمل قوله تعالى:{ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض} على أنها نفخة الفزع، وممن ذهب إلى ذلك القرطبي وابن العربي وغيرهما، وعمدتهم في ذلك حديث الصور، حيث صرح فيه أن النفخات ثلاث، ولكنه حديث ضعيف مضطرب، كما بينه الحافظ ابن حجر – رحمه الله – فلا يعتمد عليه لذلك، وآية الزمر واضحة الدلالة في أن النفخ في الصور مرتين.

وأما قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض} فالظاهر أنها النفخة الأولى، ذكرها بمقدماتها، ومما يدل على أنها نفختان فقط: قوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة (6) تتبعها الرادفة} .

قوله: " فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش " وفي رواية أبي هريرة: " آخذ بالعرش" أي: أنه –صلى الله عليه وسلم يجد موسى عليه السلام بعد ما بعث، ممسكاً بأحد قوائم العرش، والمراد بالعرش: عرش رب العالمين.

(1) انظر " فتح الباري"(11/369-370) و (6/446)، وانظر: الحديث الذي يشير إليه في "صحيح مسلم"(4/2258، 2259) رقم (2940)، وانظر: حديث أبي هريرة في "البخاري مع الفتح"(8/551، 689) ، وفي "مسلم"(4/2270) رقم (2955) .

ص: 435

ففي هذا فضل لموسى عليه السلام، حيث بعث قبل نبينا –صلى الله عليه وسلم وهذه القبلية إما مجرد فضيلة خصه الله بها كما خص بالتكليم، وإما جزاء بالصعقة التي أصابته، يوم سأل ربه الرؤية عندما تجلى الله -تعالى- للجبل، والله أعلم.

ومما تقدم من النصوص التي ذكرها البخاري – رحمه الله – هنا وغيرها، يعلم أن الله -تعالى- خص العرش من بين مخلوقاته، بأنه استوى عليه، وأنه فوق جميع المخلوقات، وأنه له حملة، ويوم القيامة، وأنه -تعالى- تعبد من شاء من ملائكته بأن يحفوا به، ويطوفوا به، وأن حملته ومن حوله من الملائكة يسبحون الله -تعالى- ويستغفرون للمؤمنين، وأنه أول المخلوقات المعلومة لنا، فقد أخبر تعالى أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض، كما قال -تعالى-:{وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} (1) .

وأنه- تعالى – كان ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض.

وقد تقدم ذكر حديث عبد الله بن عمرو: " إن الله قدر مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء" وهو في "صحيح مسلم".

كما في هذه النصوص، وصف العرش بأنه عظيم، وأنه كريم، وأنه مجيد.

وكثيراً ما يمدح الله -تعالى- نفسه بأنه ذو العرش، كما قال -تعالى-:{قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً (42) سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً (43) تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده لكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} (2) .

(1) الآية 7 من سورة هود.

(2)

الآيات 42و 43و 44 من سورة الإسراء.

ص: 436

وقال -تعالى-: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (1)، وقال – جل وعلا-:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ {14} ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} (2)، وقال -تعالى-:{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (3) ، إلى غير ذلك.

كما جاء في الحديث الصحيح ما يدل على أنه أثقل الأوزان، كما في قوله –صلى الله عليه وسلم لجويرية:" لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته"(4) .

كما في النصوص المتقدمة أنه سقف أعلى الجنان، وهي الفردوس، وأن له قوائم، وغير ذلك مما بينته النصوص التي جاءت بها الرسل، وكل ذلك يدل على أن الله فوق العرش مستوٍ عليه، وقد اتفق على هذا الأنبياء كلهم، وذكر في كل كتاب أنزل على كل نبي، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من جميع الطوائف، إلا من ضل الحق واتبع غير سبيل المؤمنين من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم.

(1) الآية 15 من سورة غافر.

(2)

الآيتان 14 و 15 من سورة البروج.

(3)

الآية الأخيرة من سورة براءة.

(4)

"صحيح مسلم"(4/2090) .

ص: 437

قال: " باب قول الله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (1)، وقوله - جل ذكره-:{من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب} (2) .

قال الأزهري: في عرج: " قال الله - جل وعز -: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، أي: تصعد، يقال: عرج، يعرج، عروجاً.

وقوله - جل وعز -: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (3)، قال قتادة: ذي المعارج: ذي الفواضل، والنعم، وقيل: معارج الملائكة، وهي مصاعدها التي تصعد وتعرج فيها، ذكر ذلك أبو إسحاق.

وقال الفراء: ذي المعارج، من نعت الله؛ لأن الملائكة تعرج إلى الله، فوصف نفسه بذلك (4) .

وقال الليث: عرج يعرج، عروجاً، ومعروجاً، قال: والمعرج: المصعد، والمعرج: الطريق الذي تصعد فيه الملائكة.

(1) الآية 4 من سورة المعارج.

(2)

الآية 10 من سورة فاطر.

(3)

الآية 3 من سورة المعارج.

(4)

انظر: " معاني القرآن " للفراء (3/184) .

ص: 439

قال: والمعراج: يقال: شبه السلم، أو درجة، تعرج فيه الأرواح، إذا قبضت" (1) .

وقال الجوهري: " عرج في الدرجة، والسلم، يعرج، عروجاً: إذا ارتقى.

والمعراج: السلم، ومنه: ليلة المعراج، والجمع: معارج، ومعاريج" (2) .

وقال الراغب: " العروج: ذهاب في صعود، قال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (3) ، {فظلوا فيه يعرجون} (4) ، والمعارج: المصاعد، قال: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (5) ، وليلة المعراج، سميت لصعود الدعاء فيها، إشارة إلى قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} (6) ".

قوله: سميت، لصعود الدعاء فيها، يعني: المعارج سميت لذلك، ولا يعني ليلة المعراج.

وقال الطبري، في قوله -تعالى-:{ولو فتحنا عليهم باباً من السماء} (7) : " وأما قوله: {يعرجون} ، فإن معناه: يرقون فيه، ويصعدون، يقال منه: عرج يعرج، عروجاً: إذا رقي وصعد"(8) .

(1)"تهذيب اللغة"(1/355) .

(2)

"الصحاح"(1/328) ..

(3)

الآية 4 من سورة المعارج.

(4)

الآية 14 من سورة الحجر.

(5)

الآية 3 من سورة المعارج.

(6)

"المفردات"(ص329) .

(7)

الآية 14 من سورة الحجر.

(8)

"تفسير الطبري"(14/11) ط. الحلبي.

ص: 440

وقال في قوله -تعالى-: {ذي المعارج} : يعني: ذا العلو، والدرجات، والفواضل والنعم" – ثم روى ذلك عن ابن عباس، وقتادة، وروى عن مجاهد، قال: معارج السماء.

ثم قال: " وقوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} : يقول –تعالى ذكره- تصعد الملائكة، والروح – وهو جبريل – عليه السلام {إليه} يعني: إلى الله – جل وعز- والهاء في قوله: {إليه} عائدة على اسم الله "(1) .

قوله: {والروح} هو: جبريل هذا هو الظاهر من سياق الآية، فيكون من عطف الخاص على العام.

وقوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} قال مجاهد: " العمل الصالح يرفع الكلم الطيب".

قال الحافظ: " وصله الفريابي من رواية ابن نجيح، وأخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " الكلم الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائض الله فمن ذكر الله، ولم يؤد فراضه، رد كلامه" (2) ورواه ابن جرير. (3)

قلت: أثر مجاهد، رواه ابن جرير في "تفسيره"، ولفظه: " الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه، فمن ذكر الله في أداء فرائضه، حمل عليه ذكر

الله، فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه، رد كلامه على عمله، فكان أولى به ".

(1)"تفسير الطبري"(29/70) .

(2)

"الفتح"(13/416) .

(3)

"تفسير الطبري"(22/121) ط. الحلبي، وانظر:" الأسماء والصفات"(ص426) .

ص: 441

وقال ابن جرير: {إليه يصعد الكلم الطيب} يقول -تعالى ذكره -: إلى الله يصعد ذكر العبد إياه وثناؤه، وأداء فرائضه، والانتهاء إلى ما أمر به " (1)

ثم روى عن ابن مسعود أنه قال: " إذا حدثناكم بحديث، أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله -تعالى-، إن العبد المسلم، إذا قال: سبحان الله وبحمده، الحمد لله، لا إله إلا الله والله أكبر، تبارك الله، أخذهن ملك، فجعلهن تحت جناحيه، ثم صعد بهن إلى السماء، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة، إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الرحمن - ثم قرأ عبد الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) ".

ثم روى قول مجاهد الذي ذكره البخاري، وروى عن الحسن، وقتادة:" لا يقبل الله قولاً إلا بعمل، من قال وأحسن العمل، قبل الله منه"(3) .

ومقصود البخاري بهذا الباب: ذكر بعض الأدلة على علو الله -تعالى-، وبيان أن ذلك ثابت بكتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالعقل، والفطرة، فقد فطر الله تعالى العباد على الإيمان بذلك، وآمن الصحابة به، واتبعهم عليه كل من سلك طريق الرسل.

فالإيمان بعلو الله -تعالى- وفوقيته، فطري عقلي شرعي، ومن خالف ذلك فقد انحرف عن طريق الرسل، وسلك في ذلك غير سبيل المؤمنين.

ولبيان أن الإيمان بذلك فطري، عقلي، ذكر قول أبي ذر، قبل أن يسلم، أنه قال لأخيه:" أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء " كما يأتي بيانه.

(1)"تفسير الطبري"(22/120) .

(2)

المرجع السابق.

(3)

"الطبري"(22/121) .

ص: 442

ومعلوم أن الخبر، لا يأتي إلا من مخبر، والمخبر الذي يرسل الرسل بأوامره، ونواهيه، هو الله – جل وعلا – وهو في السماء، أي في العلو، بائن من خلقه.

وهذه المسألة من كبار مسائل العقيدة الإسلامية، ومع ظهورها، وكثرة الأدلة عليها وتنوعها، واتفاق الرسل والكتب وأتباع الرسل عليها، ضل فيها طوائف كثيرة كالجهمية، والمعتزلة، وأكثر الأشعرية، ولا يزال على الضلال فيها خلق كثير ممن يتبنى مذهب الأشعرية، والماتريدية، معتقدين أن ذلك الضلال هو الحق وأنه مذهب أهل السنة، وأن أدلة كتب الله ووحيه إلى رسله ظواهر تدل على التشبيه بظاهرها، فلهذا يجب صرفها عن ذلك الظاهر.

ويرى هؤلاء من اعتقد ما دل عليه القرآن والسنة بظاهرهما، أنه مشبه ومجسم، مع أن العقل والفطر السالمة من الانحراف، يتفقان على ما دل عليه وحي الله -تعالى-، ولهذا ترمي الأشعرية كل من اعتقد علو الله واستواءه على عرشه على الحقيقة، بالتشبيه، والتجسيم، وأحياناً يصرحون بكفرهم كما هو عقيدتهم في قرار نفوسهم، ومع هذا ترى كثيراً منهم رافعاً عقيرته داعياً إلى الاتفاق والوئام، وهذا لن يكون أبداً ما دام في الأرض معتقد للحق؛ لأنه لا اتفاق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، وكيف يكون اتفاق مع من يرى أن من اعتقد ما دلت عليه النصوص الصريحة، الواضحة الكثيرة، أنه ضال ومشبه؟ كما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.

قوله: " وقال أبو جمرة: عن ابن عباس، لما بلغ أبا ذر مبعث النبي –صلى الله عليه وسلم فقال لأخيه: أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء ".

هذا التعليق قد تقدم تاماً موصولاً، في " المناقب"، وفي "الفضائل"(1) .

ومقصوده من ذلك: بيان أن علو الله -تعالى- على خلقه، أمر مفطور عليه الخلق، ومعلوم بالعقل، والوحي جاء مؤيداً لذلك، وموضحاً له.

(1) انظر: " الفتح"(6/549) و (7/173) .

ص: 443

57-

قال: " حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".

"يتعاقبون": التعاقب: إتيان فريق، عقب فريق، ثم يعود الأول، بعد إتيان الثاني.

وإنما يكون التعاقب بين طائفتين، أو رجلين، ومنه: تعقيب الجيوش، بأن يرسل طائفة من الجيش إلى مدة، ثم يرسل مكانهم طائفة أخرى، ويرجع الأولون.

والضمير في قوله "فيكم" يعود إلى المخاطبين، وهم الأمة المستجيبة للرسول –صلى الله عليه وسلم.

والأظهر أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة، كما قاله القرطبي، وأيده الحافظ، بأنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل، غير حفظة النهار، وبغير ذلك. (1)

"ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر" أي: يجتمع في صلاة العصر الهابطون ليبيتوا مع العباد، والذين كانوا معهم في النهار، فالفريقان يحضران صلاة العصر، وصلاة الفجر، فيصعد الذين صحبوا العباد بالنهار،

(1) انظر: " الفتح"(2/34-35) .

ص: 444

عقب صلاة العصر، ويبقى الذين يبيتون معهم ليلاً، ثم بعد اجتماع الفريقين أيضاً في صلاة الفجر يصعد الذين باتوا مع العباد، ويبقى الذين نزلوا في صلاة الفجر من السماء. والله -تعالى- يسأل كل فريق عن العباد، كيف تركتم عبادي، أي: على أي حال تركتموهم؟ - وهو جل وعلا – أعلم من الملائكة المصاحبين لهم بهم، ولكن يسأل –تعالى- الملائكة عنهم؛ لإظهار كرامتهم، فضلاً منه، وإحساناً إليهم، وبهذا يعلم أهمية المحافظة على هاتين الصلاتين في الجماعة.

قوله: " ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم – وهو أعلم – كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم، وهم يصلون".

تقدم معنى العروج، وأنه: الصعود، والارتفاع، والذهاب إلى العلو، وهذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لأن السؤال حصل بعد صعودهم، حيث يصلون إلى المكان المحدد لهم، والله –تعالى- فوقهم، وهو –تعالى- يخاطبهم بذلك، بدون واسطة، كما هو ظاهر النص، ولو كان ذلك بوحي لم يكن هناك فرق بين كونهم في السماء، أو في الأرض.

وهذا الحديث يتفق في المعنى مع قوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وكأن البخاري يشير بذلك إلى تفسيرها، وأن عروج الملائكة المذكور في هذا الحديث، داخل في مدلولها.

ودل قوله: " وهم أعلم بهم" أن المقصود من السؤال: إظهار كرامة المؤمنين من بني آدم، بطاعتهم لربهم، وعبادتهم إياه، والتنويه بفضلهم عند الملائكة الذين في السماء، والملائكة المسؤولون فهموا من الله-تعالى- ما أرادوه، ولهذا قالوا في الجواب:" تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".

وفي هذا دليل على أن من جلس في مصلاه، يذكر الله ويدعوه، أنه في صلاة، لأن الملائكة يحضرون الصلاة معهم، وبعد الفراغ منها يصعدون.

ص: 445

قال الحافظ: " ويستفاد منه أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عنها وقع السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين؛ لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة، بورك في رزقه، وفي عمله.

ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما، والاهتمام بهما.

وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره.

وفيه الإخبار بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان.

وفيه الإخبار بما نحن فيه، من ضبط أحوالنا، حتى نتيقظ، ونتحفظ في الأوامر والنواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا، وسؤال ربنا عنا.

وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا، لنزداد فيهم حباً، ونتقرب إلى الله -تعالى- بذلك.

وفيه كلام الله -تعالى- مع الملائكة، وغير ذلك من الفوائد " (1) .

وفيه كثرة الملائكة، وأن لكل منهم وظائف مكلفون بها، وبيان نصحهم لبني آدم، وحبهم الخير لهم، وأن استقرارهم في السماء، وإنما ينزلون إلى الأرض حسب أوامر الله لهم.

(1)"الفتح"(2/37) .

ص: 446

58-

قال: " وقال خالد بن مخلد: حدثنا سليمان، حدثني عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل ".

" الصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله، على وجه القربة، كالزكاة، لكن الصدقة –في الأصل – تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب، وقد يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبها الصدق في فعلها "(1) .

وسميت صدقة، من الصدق؛ لأنه تدل على صدق إيمان المتصدق غالباً.

قوله: " بعدل تمرة" بفتح العين، قال القاضي عياض:" العدل – بالفتح – المثل وما عادل الشيء، وكافأه، من غير جنسه، وبالكسر: ما عادله من جنسه وكان نظيره، وقيل: الفتح والكسر لغتان فيها، وهو قول البصريين"(2) .

والمعنى: من تصدق بقدر تمرة، أو بقيمتها.

قوله: " من كسب طيب " أي: تصدق بمال حلال، جيد، وإن كان قليلاً.

" ولا يصعد إلى الله إلا الطيب" تقدم هذا الحديث في الزكاة بسند

(1)"المفردات " للراغب (ص278) .

(2)

"المشارق"(2/69) .

ص: 447

متصل غير هذا، وفيه "ولا يقبل الله إلا الطيب"(1) .

فالذي يقبله الله -تعالى- يصعد إليه، فيبارك به لصاحبه، وينميه.

وهذه الجملة من الحديث هي المقصود منه هنا، حيث دل على علو الله -تعالى- وأنه فوق، وما قبله الله من الأعمال، فإنه يصعد إليه، وقد تقدم أن الملائكة تصعد إلى الله -تعالى- وتعرج إليه، والصعود والعروج سواء في المعنى، كما تقدم في كلام ابن جرير.

وقد اختار البخاري بعض النصوص في هذا الباب، التي فيها ذكر الصعود والعروج ونحوهما؛ لوضوح الدلالة في ذلك على علو الله –تعالى- كما أنه نوع

الأدلة في ذلك كما تقدم للإيضاح، وأدلة علو الله -تعالى- كثيرة جداً ومتنوعة، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.

قوله: " فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه"، أي: أن الله -تعالى- يقبلها من صاحبها، فيأخذها بيده اليمنى، وكلتا يديه يمين، فينميها لصاحبها، ويبارك فيها، ويعتني بها عناية بالغة، كما يعتني أحدنا بأغلى ما لديه من المال، وأنفسه، وهو ولد الفرس، الذي يعد لمدافعة الأعداء وقتالهم، وحماية الأعراض، والنفوس، والأموال، حتى يصير ما هو بقدر التمرة – لشدة عناية الله تعالى به – مثل الجبل.

وقد تخبط شراح الحديث ممن سلك طريق الأشاعرة، في شرح هذه الجملة، وجاؤوا بما ليس له وجه، مع أن المتكلم به قد أعطي من الفصاحة والبيان والنصح للسامع، والحرص على وصول الخير إليه، ما ليس عليه مزيد، فيجب أخذ كلامه على ظاهره، والإيمان به، وإحسان الظن به، فهو – صلوات الله وسلامه عليه – أقدر على إيضاح ما يريد من هؤلاء، كما أنه –صلى الله عليه وسلم أعلم بالله منهم، فليس

(1) انظر: " الفتح"(3/378) .

ص: 448

كلامه بحاجة إلى تلك التأويلات الباردة (1) ، والتمحلات المتكلفة، كالتي ذكر ابن حجر – عفا الله عنا وعنه -.

(1) انظر: بعض ما قاله هؤلاء المؤولة في "فتح الباري"(3/280) .

ص: 449

59-

ثم ذكر حديث ابن عباس: في دعاء الكرب.

وقد تقدم في الباب قبل هذا، وفيه اختلاف في سنده ومتنه، كما هي عادته.

والمقصود منه هنا قول: " رب العرش العظيم" وقوله: " رب العرش الكريم"، وقد تقدم أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، وليس فوقه مخلوق، وقد وصفه -تعالى- بأنه عظيم، وبأنه كريم، وأضافه -تعالى- إليه مما يدل على أن له خصوصية دون غيره من السماوات والأرض، كما تقدم.

وقد أخبرنا -تعالى- بأنه استوى عليه فهو من دلائل علوه -تعالى- فوق خلقه.

ص: 450

60-

قال: " حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن ابن أبي نعم – أو أبي نعم، شك قبيصة -، عن أبي سعيد، قال: بعث إلى النبي –صلى الله عليه وسلم بذهيبة، فقسمها بين أربعة ".

وحدثني إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن أبيه، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، قال:" بعث علي، وهو في اليمن، إلى النبي –صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها، فقسمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم أحد بني مجاشع، وبين عيينة بن بدر الفزاري، وبين علقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وبين زيد الخيل الطائي، ثم أحد بني نبهان، فتغيظت قريش، والأنصار، فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا –؟ قال: " إنما أتألفهم"، فأقبل رجل، غائر العينين، ناتيء الجبين، كث اللحية، مشرف الوجنتين، محلوق الرأس، فقال: يا محمد: اتق الله، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم: " فمن يطيع الله إذا عصيته؟ فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني؟ " فسأل رجل من القوم قتله – أراه خالد بن الوليد – فمنعه النبي –صلى الله عليه وسلم فلما ولى، قال النبي –صلى الله عليه وسلم: " إن من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويعدون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ".

أرسل النبي –صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى اليمن، يدعو الله -تعالى- ويقبض الزكاة من أصحابها، ويقضي في المنازعات، وكان ذلك قبل حجة الوداع، كما ذكره البخاري في آخر المغازي، ثم إن علياً وافى رسول الله –صلى الله عليه وسلم بمكة، في حجة الوداع راجعاً من اليمن، وكان قد أرسل بذهيبة، تصغير

ص: 451

ذهبة، أي قطعة من الذهب، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين هؤلاء الأربعة المذكورين رجاء إسلامهم، وكانوا رؤساء قبائلهم، فإذا أسلموا، أسلم تبعاً لهم خلق كثير، ولهذا أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم المال ترغيباً لهم في الإسلام، وتأليفاً لقلوبهم عليه، كما بينه صلى الله عليه وسلم في جوابه للصحابة، الذين قالوا:" يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا".

وقوله: " في تربتها" أي: أنها لم تخلص من ترابها، فليست ذهباً خالصاً؛ لأنها مختلطة بالتراب.

قيل: أنها من الخمس، واستبعد ابن حجر أن يكون من أصل الغنيمة، ويمكن أن تكون زكاة.

قوله: " فتغيظت قريش، والأنصار " من الغيظ، أي غاظها ذلك، حيث لم يعطهم منها، وفي رواية:" فغضبت" من الغضب.

"فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا" الصناديد: جمع صنديد، وهو: الرئيس، وفي "القاموس": الصندد {بفتح الصاد، وإسكان النون، وكسر الدال الأولى} (1) : السيد، الشجاع، أو الحليم، أو الجواد، أو الكريم " اهـ.

قوله: " إنما أتألفهم" أي: أعطيهم ليألفوا الدين، ويجتمعوا على حبه، والرغبة فيه، فأرغبهم فيه على طريق الإحسان إليهم بالدنيا حتى يصل إلى قلوبهم، فيحبوه ويرغبوا فيه، أو لأجل ما يتحصلون عليه من الدنيا، ثم بعد ذلك لما يرجونه من جزاء الله وثوابه في الآخرة.

والتأليف من الإلف، وهو الإجتماع والالتئام مع الحب.

والمعنى: إني أعطيهم؛ ليكون ذلك داعياً لهم إلى حب الإسلام، والرغبة فيه والإجتماع عليه، حتى يكونوا من أنصاره، ويتبعهم على ذلك أقوامهم وعشائرهم،

(1) ما بين المعقوفتين من حاشية "القاموس"(1/309) .

ص: 452

فيحصل بذلك عز الإسلام، ونصره، فهذا العطاء مما يحبه الله ويثيب عليه، وهو من الإنفاق في سبيل الله -تعالى- بل من أفضله.

ووصفه الرجل المعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أمور اتفقت فيه، وليست هذه الأوصاف الظاهرة في هذا الهالك مذمومة لذاتها.

وقوله: " فمن يطيع الله إذا عصيته؟ " يعني: أنه صلى الله عليه وسلم هو أحق الناس وأولاهم بطاعة الله -تعالى- وتقواه.

وهذا هو الضلال؛ أن يتصور الإنسان الطاعة معصية، فهذا الرجل المعترض تصور أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم معصية، وأنه من الجور، فنصب نفسه آمراً بتقوى الله، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم:" اتق الله" مع أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تقوى، ومن أعظم الطاعات له، فهو يعطي الله، ولنصر دينه، وهداية عباده.

قوله: " فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني" أي يأمنني الله -تعالى- على الرسالة التي أرسلني بها إلى الأرض، ولا تأمنني أنت أيها المعترض، ومن على شاكلتك ممن ضل طريق الرشد، لا تأمنوني على حطام الدنيا أن أضعه حيث يجب أن يوضع، على وفق أمر الله -تعالى-.

والرواية التي ذكرها في "المغازي": "فقال: ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً"(1) .

وهذا اللفظ أظهر، وأوضح في المقصود، من الرواية المذكورة هنا.

قال الحافظ: " وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة، لكنه جرى على عادته في إدخال الحديث في الباب، للفظة تكون في بعض طرقه هي المناسبة

(1) انظر "الفتح"(8/67) .

ص: 453

لذلك الباب، يشير إليها، ويريد بذلك شحذ الأذهان، والبعث على كثرة الاستحضار" (1) .

قلت: ولا يخلو اللفظ المذكور من الدليل على المقصود، الذي هو علو الله -تعالى-؛ لأن قوله:" فيأمنني على أهل الأرض" يدل على أن الآمن الذي هو الله -تعالى- في السماء.

ومعنى قوله: " من في السماء" أي: الله الذي في السماء، و"في" هنا بمعنى "على" كما ذكر البيهقي، عن أبي بكر، أحمد بن إسحاق الضبعي:" أن العرب قد تضع "في" بموضع "على" قال الله -تعالى-: {فسيحوا في الأرض} (2)، وقال:{ولأصلبنكم في جذوع النخل} (3) ومعناه: على الأرض، وعلى جذوع النخل.

فكذلك قوله: " في السماء" أي: على العرش، فوق السماء، كما صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم " (4) .

وهذا الحديث مثل قول الله -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ً} (5) .

فإما أن تكون "في" بمعنى "على" كما تقدم، أو يقصد بالسماء: العلو، أي: أأمنتم من في العلو، وكلاهما صحيح سائغ في اللغة والمعنى.

(1)"الفتح"(13/418) .

(2)

الآية 2 من سورة التوبة.

(3)

الآية 71 من سورة طه.

(4)

" الأسماء والصفات "(ص421) .

(5)

الآيتان 16 و 17 من سورة الملك.

ص: 454

قوله: " فسأله رجل من القوم قتله، أراه خالد بن الوليد، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم " أي: استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقد تقدم في المناقب أن السائل هو عمر بن الخطاب. (1)

قال الحافظ: " لا تنافي بين الروايتين، إذ يجوز أن يكون كل واحد منهما طلب ذلك"(2) .

وقد جاء أن سبب منعه من قتله، خوف أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، فيصير بذلك تنفيراً عن الدخول في الإسلام.

قوله: " إن من ضئضئ هذا، قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم" قال في "النهاية": "الضئضئ: الأصل، يقال: ضئضئ صدق، وضؤضؤ صدق، يريد أن يخرج من نسله وعقبه "(3)

وفي "اللسان": "الضئضئ، والضؤضؤ: الأصل، والمعدن"(4) .

والمقصود، الإخبار بأنه يأتي من جنس هذا الرجل الضال، قوم يسلكون مسلكه، يقرأون القرآن، ولكن لا يصل إلى قلوبهم، فهم لا يفهمونه على ما أريد، بل يضعونه في غير موضعه؛ لأنهم ضالون، وجاهلون، ولهذا يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، أي: يخرجون من الإسلام بسرعة وسهولة، غير متأثرين به، كأنهم لم يدخلوه، وهذا يدل على أنهم دخلوا في الإسلام، ولكن لم يتمكن

الإيمان في قلوبهم، ولم يفهموه على وجهه، ولهذا صار من أوصافهم: أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون الكفار عباد الأوثان، ومن أجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم:" لئن أدركتهم، لأقتلنهم قتل عاد" أي لا أبقي منهم

(1) انظر: "الفتح"(6/618) .

(2)

المرجع السابق (6/618) .

(3)

"النهاية"(3/69) .

(4)

"لسان العرب"(2/503) المرتب.

ص: 455

أحداً، يشير بذلك إلى قوله -تعالى- في وصف هلاك عاد:{فهل ترى لهم من باقية} (1) ولم يرد أنه يقتلهم بالشيء الذي قتلت به عاد بعينه.

ويحتمل أن يكون من الإضافة إلى الفاعل، ويراد به:" القتل الشديد القوي، ويكون في ذلك إشارة إلى وصفه بالشدة والقوة، ويؤيده أنه وقع في طريق أخرى "قتل ثمود" (2) .

(1) الآية 8 من سورة الحاقة.

(2)

قاله الحافظ في "الفتح"(6/377) .

ص: 456

61-

ثم ذكر حديث أبي ذر الذي تقدم في الباب قبل هذا فقال:

"حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ؟ قال:: " مستقرها تحت العرش".

قد تقدم شرحه والشاهد منه هنا: أن الشمس في ارتفاعها، وأبعد ما تكون عن الأرض التي عليها المخاطبين آنذاك، تكون تحت العرش، فالمخلوقات كلها تحته، والله -تعالى- فوق العرش، فهو عالٍ على خلقه كلهم وفوقهم.

في هذا الباب والذي قبله قصد البخاري - رحمه الله تعالى - إثبات علو الله، واستواءه على العرش، كما هو ثابت في نفس الأمر، وتضافرت عليه أدلة الوحي، والعقول والفطر، وكما هو مذهب السلف من الصحابة، وأتباعهم إلى اليوم.

والنصوص التي ذكرها البخاري ظاهرة الدلالة على ذلك، وهي نزر يسير جداً من النصوص الكثيرة المتنوعة في ذلك.

قال ابن أبي العز: " ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر.

ولا ريب أن الله - سبحانه - لما خلق الخلق، لم يخلقهم في ذاته المقدسة، فإنه الأحد الصمد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته.

ولو لم يتصف - سبحانه - بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه، غير مخالط للخلق؛ لكان متصفاً بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق.

ص: 457

فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية، حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها.

قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو، والفوقية، لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم أنه موجود قائم بنفسه، ليس وجوده ذهنياً، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، يتعين أن يكون متميزاً عن خلقه، عالياً عليهم.

وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة، أن ما كان وجوده خارج الأذهان، فهو إما أن يكون داخلاً في الخلق، أو بائنا منهم خارجاً عنهم.

وإنكار ذلك إنكار لما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية، بلا ريب، فلا يستدل بدليل على وجوده، إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين.

وإذا كانت صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص، ولا تستلزم نقصاً، ولا محذور فيها، ولا تخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقتها يكون عين الباطل والمحال، الذي لا تأتي به شريعة أصلاً، فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده -تعالى-، وتصديق رسله، والإيمان بكتابه، وما جاء به رسوله، إلا بذلك؟

فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة، المتنوعة في الدلالة، على علو الله -تعالى- على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً:

أحدها: التصريح بالفوقية، مقروناً بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات، كقوله -تعالى-:{يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (1) .

(1) الآية 50 من سورة النحل.

ص: 458

الثاني: ذكر الفوقية، مجردة عن الأداة، كقوله -تعالى-:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (1)

الثالث: التصريح بالعروج إليه، كقوله -تعالى-:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:" فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم" كما تقدم.

الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله -تعالى-:{إليه يصعد الكلم الطيب} (3) .

الخامس: التصريح برفعه -تعالى- بعض خلقه إليه، كقوله -تعالى-:{بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} (4)، وقوله:{إني متوفيك ورافعك} (5) .

السادس: التصريح بالعلو المطلق، الدال على جميع مراتب العلوم، ذاتاً وقدراً، وشرفاً، كقوله -تعالى-:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (6)، وقوله -تعالى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (7)، وقوله -تعالى-:{إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (8) .

(1) الآية 18 و 61 من سورة الأنعام.

(2)

الآية 4 من سورة المعارج.

(3)

الآية 10 من سورة فاطر.

(4)

الآية 158 من سورة النساء.

(5)

الآية 55 من سورة آل عمران.

(6)

الآية 255 من سورة البقرة.

(7)

الآية 23 من سورة سبأ.

(8)

الآية 51 من سورة الشورى.

ص: 459

السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله -تعالى-:{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1)، وقوله:{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (2) ، وهو كثير.

الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات، بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله -تعالى-:{إن الذين عند ربك} (3)، وقوله -تعالى-:{وله من في السموات والأرض ومن عنده} (4) ، ففرق تعالى بين من عنده عموماً، وبين من عنده من الملائكة، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله لما خلق الخلق كتب كتاباً، فهو عنده فوق عرشه".

التاسع: التصريح بأنه -تعالى- في السماء، كقوله تعالى:{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (5) ، وتقدم أن ذلك، على وجهين، إما أن تكون "في" بمعنى "على" أو يراد بالسماء العلو، لا يجوز غير ذلك.

العاشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله -تعالى-: كقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يستحي من عبده، إذا رفع إليه يديه، أن يردهما صفراً"(6) .

الحادي عشر: التصريح بالاستواء، مقروناً بأداة "على" مخصوصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات.

(1) الآية الأولى من سورة الزمر.

(2)

الآية 2 من سورة غافر.

(3)

آخر آية من سورة الأعراف.

(4)

الآية 19 من سورة الأنبياء.

(5)

الآية 16 من سورة الملك.

(6)

أخرجه أبو داود في "السنن"(2/165) رقم (1488) ، والترمذي في الدعوات (5/217) ، وابن ماجه في "السنن"(2/1271) الحديث رقم (3865) .

ص: 460

الثاني عشر: التصريح بنزوله -تعالى- كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل.

الثالث عشر: الإشارة الحسية إليه في العلو، كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع، حيث قال:" إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فرفع إصبعه إلى السماء، وقال: اللهم اشهد"(1) .

الرابع عشر: سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ "أين الله؟ " وإخباره عمن قال: " الله في السماء" بأنه مؤمن (2) .

الخامس عشر: اتفاق الكتب المنزلة من الله والرسل على أن الله فوق عباده عال عليهم، كما قال -تعالى- عن فرعون:{وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً} (3) ؛ لأن موسى عليه السلام أخبر فرعون أن الله في السماء، فقال هذا القول ليموه على السذج أتباع كل ناعق بدون بصيرة.

السادس عشر: عروج النبي صلى الله عليه وسلم إليه -تعالى- وإخباره أنه تردد بينه -تعالى- وبين موسى، يطلب التخفيف من عدد الصلوات" (4) .

وقد غلط أكثر المتكلمين في مسمى السماء، حيث ظنوا أن السماء يقصد به مكان معين محاط، فتوهموا أن من قال: إن الله في السماء، أن مكاناً يحيط به أو يحويه - تعالى وتقدس-.

(1) رواه مسلم في "صحيحه" وغيره، انظر:"مسلم"(2/890) الحديث رقم (1218) ، وهو حديث جابر الطويل في صفة الحج.

(2)

انظر: " صحيح مسلم"(1/382) الحديث رقم (537) .

(3)

الآيتان 36 و 37 من سورة غافر.

(4)

"شرح الطحاوية" بتصرف (ص256-260) الطبعة الثالثة.

ص: 461

قال شيخ الإسلام: " من توهم أن كون الله في السماء أن السماء تحيط به، أو تحويه، فهو كاذب أن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه.

وما فهم هذا أحد من النصوص، ولم ينقل عن أحد، ولو سئل سائر المسلمين: هل تفهمون من قول الله ورسوله: إن الله في السماء، أن السماء تحويه؟ لبادروا إلى القول: بأن هذا شيء ما خطر بالبال.

فمن الضلال أن يجعل ظاهر نصوص الكتاب والسنة في ذلك دالة على الباطل والتشبيه.

بل عند الناس قولك: إن الله في السماء، وقولك: الله فوق العرش، سواء، إذ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى: أن الله في العلو، لا في السفل.

وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السموات، والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله، لا نسبة له إلى عظمة الله تعالى.

فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقاً يحصره أو يحويه؟ وقد قال -تعالى-: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (1)، وقال -تعالى-:{فسيروا في الأرض} (2)، بمعنى: على الأرض، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازاً، وهذا يعلمه من عرف حقائق الحروف" (3) .

وعلو الله -تعالى- ظاهر جداً، وقد تقدم أن البخاري رحمه الله أشار بما ذكره في هذا الباب، إلى أن علو الله -تعالى- وفوقيته ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطر.

أما ثبوته بالكتاب والسنة فواضح.

(1) الآية 71 من سورة طه.

(2)

الآية 137 من سورة آل عمران، والآية 36 من سورة النحل.

(3)

"مجموع الفتاوى"(5/106) .

ص: 462

وأما الإجماع: فأشار إليه بقصة زينب: أنها كانت تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: " زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات" فهذا يدل

على الإجماع؛ لأن ذلك متقرر عندهم، ولم ينكر ذلك أحد، بل يذكر في كل مناسبة، ومن ذلك هذا الذي قالته زينب، فالإجماع عليه ظاهر، والإجماع لا يكون على خلاف المعقول، ومن أيمان العرب قولهم:" لا والذي يراني من فوق سبعة أرقعة"(1) .

وأما الفطرة، فأشار إليها بما ذكره عن أبي ذر أنه قال لأخيه، قبل أن يسلم:" أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يأتيه الخبر من السماء" أي: يأتيه الخبر من الله الذي في السماء؛ لأنه يقول للناس: أنا رسول الله إليكم.

قال شيخ الإسلام: " تبين وجوب إثبات العلو لله -تعالى- من وجوه:

أحدها: أن القرآن، والسنن المستفيضة، المتواترة، وغير المتواترة، وكلام السابقين والتابعين وأهل القرون الثلاثة، مملوء بما فيه إثبات العلو لله، وأنه مستوٍ على عرشه، بأنواع من الدلالات.

فالله -تعالى- يخبرنا تارة، أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش.

وتارة يخبر بعروج الأشياء، وصعودها، وارتفاعها إليه، كقوله -تعالى-:{بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} (2) ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (3) ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (4) ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} # (5) .

(1) انظر: " أيمان العرب" للنجيرمي (ص15) .

(2)

الآية 158 من سورة النساء.

(3)

الآية 55 من سورة آل عمران.

(4)

الآية 4 من سورة المعارج.

(5)

الآية 10 من سورة فاطر.

ص: 463

وتارة يخبر بنزولها منه، أو من عنده، كقوله -تعالى-:{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ} (1) ، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} (2) ،

{حم {1} تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (3) ، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (4) .

وتارة يخبر بأنه العلي الأعلى، كقوله -تعالى-: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (5)، وقوله -تعالى-: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (6) .

وتارة يخبر بأنه في السماء، كقوله -تعالى- أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (7) ، فذكر السماء دون الأرض، وكقوله صلى الله عليه وسلم:" ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء؟ " وقوله للجارية: " أين الله؟ " قالت: في السماء، قال:" اعتقها، فإنها مؤمنة" ولم يعلق ذلك بألوهية أو غيرها، كما في قوله -تعالى- وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله (8)، وقوله: وهو الله في السماوات وفي الأرض (9)، أي: هو المألوه المعبود في السموات والأرض.

وتارة يجعل بعض الخلق عنده، دون بعض، كقوله وله من في

(1) الآية 114 من سورة الأنعام.

(2)

الآية 102 من سورة النحل.

(3)

فاتحة سورة فصلت.

(4)

فاتحة سورة الجاثية والأحقاف.

(5)

فاتحة سورة الأعلى.

(6)

الآية 255 من سورة البقرة، والآية 4 من سورة الشورى.

(7)

الآيتان 16 و 17 من سورة الملك.

(8)

الآية 84 من سورة الزخرف.

(9)

الآية 3 من سورة الأنعام.

ص: 464

السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} (1) .

فلو كان موجب العندية معنى عاماً، كدخولهم تحت قدرته، ومشيئته، ونحو ذلك، لكان كل مخلوق عنده، ولم يكن أحد مستكبراً عن عبادته.

وأما الأحاديث، والآثار عن الصحابة، والتابعين فلا يحصيها إلا الله -تعالى-.

فلا يخلو أن يكون ما اتفقت عليه هذه النصوص، من إثبات علو الله -تعالى- على خلقه هو الحق، أو الحق نقيضه، إذ الحق لا يخلو عن النقيضين.

فإذا كان نفي العلو هو الحق، فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا، لا نصاً، ولا مفهوماً، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة وأتباعهم، ولا أحد من أئمة المسلمين، ولا يمكن أحد أن ينقل عن واحد منهم شيئاً من ذلك، بل نقيضه هو المستفيض عنهم، كما هو الموافق للكتاب والسنة.

ويلزم على ذلك أن يكون الله ورسوله والمؤمنون، لم ينطقوا بالحق في هذا الباب، بل تكلموا بما يدل على الضلال، إما نصاً، أو ظاهراً.

فإن قيل: هذه النصوص ما أريد بها إثبات علو الله على خلقه، وإنما أريد بها علو المكانة والقدر.

قيل: فكان يجب على المتكلم بها أن يبين للناس الحق، الذي يجب أن يؤمن به ويعتقد، ظاهراً وباطناً، وأنه لم يرد بهذا الكلام مفهومه، ومقتضاه.

فإن قيل: إنه تكلم بالمجاز، المخالف للحقيقة.

قيل: من المعلوم باتفاق العقلاء: أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم

(1) الآية 19 من سورة الأنبياء.

ص: 465

الذي بين للناس ما نزل إليهم - يعلم أن المراد بالكلام خلاف مقتضاه وظاهره، وجب عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرده، ولا سيما إذا كان ذلك المعنى باطلاً، ولا يجوز اعتقاده في الله -تعالى-، وهذا يجب ولو لم يخاطبهم بما يفهم منه خلاف الحق، الذي يجب اعتقاده، إذا كان مخوفاً عليهم، فكيف إذا كان في كلامه ما يفهم منه خلاف الحق" (1) .

فلا عذر لمن أنكر علو الله، ونفاة العلو والصفات، يقولون: إن هذه النصوص لم يرد بها الحقيقة والظاهر المفهوم منها، والقرينة الصارفة عن ذلك هي دلالة العقل، فاكتفى المتكلم بهذه القرينة؛ لأنها عقلية، عند كل عاقل.

فيقال لهم: إذا كان ما تكلم به الله ورسوله، إنما يفيد مجرد الضلال، والهدى إنما يستفاد من العقول، فلماذا ينزل الله الكتاب، ويرسل الرسول؟ للعناء والشقاء؟ فإن تركهم على جاهليتهم خير لهم من أن ينزل عليهم الكتاب، ويرسل إليهم الرسول، هذا هو لازم هذا القول الباطل.

ويقال أيضاً: الرسول جاء بإثبات العلو، والصفات، وذلك أظهر في العقل من قولكم.

ثم الرسول صلى الله عليه وسلم أما أن يتكلم بالهدى، أو بالضلال، أو يسكت عنهما.

ومعلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بالضلال.

وبذلك يعلم بالعقل، أنه لم يسكت عن بيان الحق، والهدى، والتحذير من اعتقاده الباطل، وبذلك يتفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مع العقل الصحيح، الذي لم تفسده الشياطين، والهوى المضل.

فالعقل يوافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا ما يقوله نفاة الصفات،

(1)"مجموع الفتاوى"(5/164-168) ملخصاً.

ص: 466

وليس بين العقل الصريح والنقل الصحيح تناقض أصلاً، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، وغيره.

فقولهم: إن القرينة الصارفة عن الظاهر، هي العقل، خطأ محض، إذ العقل يوافقها لا يخالفها كما توهموه، كما أن إثبات الصفات ليس فيه تشبيه كما زعموا، ولكن الأوهام وسوء الظن بالله ورسوله أرداهم.

ومن حججهم الباطلة التي حملتهم على صرف النصوص عن ظاهرها، ورأوا وجوب تأويلها لذلك، هي قاعدتهم في أن جميع الأجسام حادثة لملازمتها للأعراض التي هي الصفات، فوجب تنزيه الرب -تعالى- عن كل صفة تستلزم التركيب، أو الجسمية؛ لأن الأعراض لا تكون إلا في جسم، والجسم لا بد أن يكون مركباً من الجواهر - كما زعموا-، ولهذا قالوا: إن الاستواء والعلو، يلزم منهما النقلة، والمكان، والحركة، وهذه من صفات الأجسام.

فيقال لهم: الحياة، والعلم، والسمع، والبصر - مما جوزتم لأنفسكم أن تصفوه به- لا يعقل أن تقوم إلا بجسم، مع أنكم تسمون الصفات: أعراضاً، ولا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه في المعنى، ألا يجوز لغيركم أن يصف الله -تعالى- بما وصف

به نفسه، ووصفته به رسله بأنه -تعالى- مستوٍ على عرشه، وعالٍ على خلقه، وبأن له وجهاً ويدين حقيقة، ونحو ذلك مما تسمونه: أبعاضاً، تستلزم التركيب، والجسمية؟ كما افتريتموه على رب العالمين، ورميتم من وصف الله -تعالى- بما وصف به نفسه، بالتشبيه، والتجسيم، مع أنهم أقرب إلى المعقول منكم، وقد سلم لهم المنقول بدون تحريف.

قال شيخ الإسلام: " ولا ريب أن الله موجود، قائم بنفسه، وترفع إليه الأيدي عند الدعاء، كما فطر على ذلك جميع عباده، ولا ريب أنه تجوز رؤيته في الآخرة، كما أخبر بذلك في كتابه، فإذا سموا هذه المعاني تجسيماً، فلا ينبغي لنا أن نترك ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، ونذهب إلى تأويلها، لمجرد هذه

ص: 467

التسميات الحادثة المبتدعة" (1)

وقال أيضاً: " ولفظ الظاهر فيه إجمال، واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد.

والسلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً، وباطلاً.

والله سبحانه - وتعالى - أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه، لا يظهر منه إلا ما هو كفر، أو ضلال.

والذين يجعلون ظاهرها ذلك، يغلطون من وجهين:

أحدهما: أنهم جعلوا المعنى الفاسد، هو ظاهر نص كلام الله وكلام رسوله، ولذلك أوجبوا تأويله، ليخالف الظاهر الذي زعموا، وليس الأمر كذلك.

الثاني: أنهم ردوا المعنى الصحيح الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل، كقولهم في الحديث:" قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن "، قالوا: لا يجوز أن يراد به الظاهر، فليس في قلوبنا أصابع.

ومعلوم أنه ليس ظاهره أن القلوب متصلة بالأصابع، ولا مماسة لها، ولا أن أصابع الرحمن في جوف العبد، ولا يفهم من قول القائل: هذا بين يدي، ما يقتضي مباشرته ليديه.

وإذا قيل: إن السحاب بين السماء والأرض، لم يقتض أن يكون مماساً للسماء، أو الأرض، ونظائر ذلك كثيرة " (2) .

(1)"مجموع الفتاوى"(3/43-45) ملخصاً.

(2)

المصدر السابق.

ص: 468

وقال أبو نصر السجزي في "الإبانة": "وأئتمنا، كسفيان، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، والفضيل، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، متفقون على أن الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما يشاء"(1) .

وقال ابن عبد البر في شرحه لحديث النزول: "وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش، من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية، في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان، وليس على العرش، والدليل على صحة ما قال أهل الحق: قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقوله -تعالى-: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} (3)، وقوله -تعالى-:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (4)، وقوله -تعالى-:{إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً} (5)، وقوله -تعالى-:{إليه يصعد الكلم الطيب} (6)، وقوله -تعالى-:{تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} (7)، وقوله -تعالى-:{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (8)، وقوله -تعالى-: {سبح اسم ربك

الأعلى} ، وهذا من العلو، وكذلك قوله -تعالى-:{العلي العظيم} (9) ،

(1) ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(17/656) .

(2)

الآية 5 من سورة طه.

(3)

الآية 4 من سورة آلم السجدة.

(4)

الآية 11 من سورة حم فصلت.

(5)

الآية 42 من سورة الإسراء.

(6)

الآية 10 من سورة فاطر.

(7)

الآية 143 من سورة الأعراف.

(8)

الآية 16 من سورة الملك.

(9)

الآية 255 من سورة البقرة، والآية 4 من سورة الشورى.

ص: 469

وقوله -تعالى-: {الكبير المتعال} (1)، وقوله -تعالى-:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (2)، وقوله -تعالى-:{يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (3) ، والجهمي يزعم أنه أسفل.

وقال - جل ذكره -: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (4)، وقال -تعالى-: تعرج الملائكة والروح (5)، وقال -تعالى- لعيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (6)، وقال -تعالى-: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ (7)، وقال -تعالى-: فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (8)، وقال -تعالى-: وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (9)، وقال تعالى: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ {2} مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (10)، والعروج: الصعود.

وأما قوله -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (11)، فمعناه: من على السماء، يعني على العرش، وقد يكون "في" بمعنى "على" ألا ترى إلى قوله -تعالى-:{وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (12)، وقوله -تعالى-: {فَسِيحُواْ فِي

الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (13) ؟ أي: على الأرض، وهذا كله يعضده قوله -تعالى-:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (14) ، وما كان مثله مما تلونا من الآيات في هذا الباب" (15) ا. هـ.

(1) الآية 9 من سورة الرعد.

(2)

الآية 15 من سورة غافر.

(3)

الآية 50 من سورة النحل.

(4)

الآية 5 من سورة آلم السجدة.

(5)

الآية 4 من سورة المعارج.

(6)

الآية 55 من سورة آل عمران.

(7)

الآية 158 من سورة النساء.

(8)

الآية 38 من سورة فصلت.

(9)

الآية 19 من سورة الأنبياء.

(10)

الآيتان 2 و 3 من سورة المعارج.

(11)

الآية 16 من سورة الملك.

(12)

الآية 71 من سورة طه.

(13)

الآية 2 من سورة التوبة.

(14)

الآية 4 من سورة المعارج.

(15)

"التمهيد"(7/129-130) .

ص: 470

وقال أيضاً: " وما روي عن ابن عباس في قوله -تعالى-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (1) ، أنه قال على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان".

فالجواب: أنه منكر، ونقلته مجهولون، وضعفاء، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يحتجون بمثل هذا الأثر الساقط؟ وأما تعلقهم بقوله -تعالى-:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (2)، وقوله -تعالى-:{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية (3)، وزعمهم أنه الله تبارك وتعالى في كل مكان بنفسه وذاته. فيقال لهم: أنتم لا تخالفون بأنه ليس في الأرض دون السماء، بذاته، فيجب حمل هذه النصوص على المعنى الصحيح المجمع عليه، وهو أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وهو الذي قاله أهل العلم بالتفسير.

وقوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (4) الآية، ليس فيها حجة لهم؛ لأن علماء الصحابة والتابعين، الذين روي عنهم التفسير، قالوا في هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان. ولم يخالفهم في ذلك من يعتد به.

ثم ذكر عن ابن مسعود: قال: " الله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" وذكر عن الضحاك، وسفيان الثوري مثله" (5) .

(1) الآية 5 من سورة طه.

(2)

الآية 84 من سورة الزخرف.

(3)

الآية 7 من سورة المجادلة.

(4)

الآية 7 من سورة المجادلة.

(5)

"التمهيد"(7/133-139) ملخصاً.

ص: 471

فتبين بما ذكره أن هذه الآيات التي تعلق بها نفاة العلو، تدل على عكس قولهم، فهي متفقة مع النصوص الصريحة في الدلالة على علو الله -تعالى-.

من الحجج القاطعة أن الله تعالى فوق السماوات على عرشه: أن كل داع يدعو الله -تعالى- يجد في نفسه دافعاً إلى الاتجاه إلى الله فوقه، وهو أمر ضروري وقطعي، فلا يمكن لأي سائل يسأل الله ويطلب منه إلا – رفع – يديه، واتجه بقلبه إلى من يستغيث به، الذي هو عال فوق جميع مخلوقاته، مستو على عرشه، فالعلم بذلك فطري ضروري عقلي، ونصوص الشرع جاءت مؤيدة ذلك مقررة له.

قال شيخ الإسلام: " ذكر محمد بن طاهر المقدسي، عن الشيخ الجليل أبي جعفر الهمداني، أنه حضر مجلس أبي المعالي الجويني، وهو يقول: كان الله، ولا عرش {ولا مكان} وهو على ما {كان} عليه {قبل خلق المكان} ، أو كلام من هذا المعنى، فقال: يا شيخ، دعنا من ذكر العرش، أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟.

فصرخ أبو المعالي، ولطم رأسه، وقال:" حيرني الهمداني"(1) .

وقد تعلق نفاة العلو أيضاً: بأن الله -تعالى- لو كان في مكان، لأشبه المخلوقات؛ لأن ما أحاطت به الأمكنة فهو مخلوق.

فيقال: هذا نشأ عن القياس الفاسد، والتشبيه المستكن في نفوس هؤلاء، إذ لو آمنوا بأن الله على كل شيء قدير، وأنه ليس كمثله شيء، ما انطلت هذه الشبه وهذا الهراء على نفوسهم.

ويقال أيضاً: ألستم تقرون بأن الله -تعالى- موجود قبل خلق الكون،

(1)"الاستقامة"(1/167) .

ص: 472

فهو -تعالى- كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: " كان الله، ولم يكن شيء معه"(1)

ونحن وأنتم وكل العقلاء، لا نعقل وجود أحد منا، إلا في مكان، وما ليس في مكان، فهو عدم، والله بخلاف ذلك، فلا يجوز أن يقاس بخلافه كما فعلتم، قلتم: لو كان في مكان لأشبه خلقه.

فإن زعموا أنه يلزم من كونه -تعالى- في العلو، التغير، والانتقال؛ لأنه، كان ولا مكان، فلما خلق المكان صار في العلو، فزال عن صفته في الأزل وصار في مكان.

قيل: وأنتم يلزمكم أقبح من ذلك، وهو زعمكم أنه -تعالى- كان، لا في مكان، ثم صار في كل مكان، فقد تغير عندكم معبودكم، وانتقل من لا مكان، إلى كل مكان، وهذا لازم لكم، لا انفكاك لكم منه.

وقولهم: كان الله، ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، كلام فاسد، متناقض، وذلك أن النفاة للاستواء والعلو، وغيرهما، على قسمين:

قسم يقول: إن الله لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا أمام، ولا خلف، ولا داخل العالم، ولا خارجه، وهذا لا يفهم منه إلا العدم المحض، فليس له وجود فعلي على هذا الوصف، فهو إذاً ليس له مكان أصلاً، إذ لا وجود له.

وقسم يقول: إنه في كل مكان، فيلزم أنه كان في كل مكان، قبل خلق المكان، فهو إذا في هذا الكون كله، قبل خلقه له، وهذا قول ظاهر الفساد، إذ معناه: كان في الأمكنة، قبل خلقها.

فالحق " أن الله -تعالى- ليس كمثله شيء، لا في نفسه، ولا في فعله، ولا في

(1) تقدم هذا الحديث مشروحاً، وبين أن هذا اللفظ مروي بالمعنى، وأن الصواب:"ولم يكن شيء قبله".

ص: 473

صفاته، ولا في مفعولاته، فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئاً مما يستحقه؛ لعدم نظيره في الشاهد المحسوس، صار ما يثبته بدل نفيه أبعد عن المعقول، والمشهود" (1) .

ومن الحجج المشهورة على وجوب علو الله -تعالى-: ما تقدم في كلام ابن أبي العز: وهو أن يقال: لما خلق الله الخلق، لا بد أن يكون خلقه بائناً منه، فلا يجوز أن يكون الخالق -جل وعلا- في المخلوق، وأن يكون المخلوق حاوياً له، تعالى عن

ذلك، فلا بد أن يكون بائناً عنه، ولا يجوز أن يكون المخلوق فوق الخالق -تعالى وتقدس - فلا بد أن يكون عالياً فوق خلقه.

قال شيخ الإسلام: " معرفة القلوب، وإقرارها بفطرة الله التي فطرها عليها، أن ربها فوق العالم، ودلالة الكتاب والسنة على ذلك، وظهور ذلك في خاصة الأمة وعامتها، وكلام السلف في ذلك، أعظم من كونه -تعالى- يرى بالأبصار يوم القيامة، أو أن رؤيته بالأبصار جائزة.

ويشهد لهذا أن الجهمية، أول ما ظهروا في الإسلام، في أوائل المائة الثانية، وكان حقيقة قولهم في الباطن: تعطيل الرب -تعالى- من الصفات كلها، ولا يصفونه -تعالى- إلا بالسلوب المحضة، التي لا تنطبق إلا على المعدوم، وكانوا في الباطن ينكرون أن يرى، أو يتكلم، أو أنه فوق العرش، أو أن يكون موصوفاً بالصفات التي جاءت بها كتب الله، أو دلت عليها مع ذلك الدلائل العقلية، لكن ما كانوا يظهرون من قولهم للناس، ما هو ظاهر البطلان، وما ليس فيه شبهة، مثل نفي العلو المعروف، المتيقن من الدين بالضرورة عند العامة والخاصة، وإنما يظهرون ما فيه شبهة، ولهم عليه حجة، ويكونون فيه أقل مخالفة لما يعلمه الناس من الحجج الفطرية، الشرعية، وهذا شأن كل من أراد أن يظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق، فإنهم لا ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة ابتداء" (2) .

ومن المؤسف أن بعض ضلالات الذين ذكرهم الشيخ، قد ورثها كثير من علماء المسلمين، كالأشعرية الذين يزعمون أنهم أعداء لهم وخصوم، مع أنهم

(1)"بيان تلبيس الجهمية"(1/147) .

(2)

"بيان تلبيس الجهمية"(2/78-79) بتصرف.

ص: 474

يتفقون معهم على إنكار علو الله تعالى، واستوائه على عرشه، ومجيئه لفصل القضاء بين عباده، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما أنهم يؤولون الصفات إلا قليلاً، تأويلاً يؤول إلى الإنكار، مثل اليدين، والرجلين، والوجه، والرحمة، والمحبة، والضحك، والرضا، والغضب، والسخط، والمقت، وغير ذلك.

ويوافقون الجهمية في كون القرآن مخلوقاً، فإنهم يجعلون الكلام قسمين: نفسي، وهو المعنى القائمة بالنفس، وهذا هو الذي يصفون الله به، ولفظي حرفي وهو

المكتوب في المصاحف، وهو ليس كلاماً لله عندهم، بل هو عبارة عن كلام الله، وهو مخلوق، وهذا قول الجهمية الذين كفرهم السلف من أجله.

والمقصود: أن علو الله -تعالى- واستواءه على عرشه ثابت بنصوص الكتب المنزلة على رسل الله، وأما العلو فهو ثابت بذلك، وبالفطر التي عليها عباده، وبالعقول التي لم تنتكس بفعل الشياطين، وبإجماع أهل العلم والإيمان من جميع الأمم، كما تقدمت الإشارة إليه، ولم يعرف خلاف في هذه المسألة، ونحوها إلا بعدما دخل كثير من الزنادقة في الإسلام نفاقاً، وقصداً لإفساد الدين، بعد المائة الأولى للهجرة، وإن كان قد وجد قبل ذلك بعض المفسدين المتطرفين، الذين كان لهم الأثر السيء في الأمة.

قال شيخ الإسلام: " افترق الناس، في علو الله واستوائه، أربع فرق:

الأولى: الجهمية، النفاة، يقولون: ليس داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق، ولا تحت، وجميع الطوائف، من أهل البدع يتمسكون بنصوص، إلا الجهمية.

وقسم ثان منهم يقولون: إنه بذاته في كل مكان، ويدخل فيهم الأشاعرة، وهؤلاء هم الفرقة الثانية.

ص: 475

الثالثة: من يقول: إنه فوق العرش، وهو في كل مكان، ويزعم أنه بذلك يجمع بين النصوص.

الرابعة: المتبعون للكتاب، والسنة، الذين أثبتوا ما أثبته الله ورسوله، من غير تحريف، فآمنوا بالله فوق سماواته، مستوٍ على عرشه" (1) .

وقد تقدم ذكر بعض الآيات الدالة على علو الله -تعالى- صراحة، وبعض الأحاديث مما ذكره البخاري وغيره.

ومما لم يذكره: قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه فوق السماوات كلها، وهي ثابتة ثبوتاً قطعياً بدون ريب.

وفي حديث الرقية: " ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك"(2) .

وفي حديث الأوعال: " والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه"(3)

وفي "سنن أبي داود"، عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال:" ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته وأرضه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة"(4) .

(1)"مجموع الفتاوى"(5/229-231) ملخصاً.

(2)

رواه أبو داود في "السنن"(4/218) رقم (3892) ، وأحمد في "المسند"(6/21) .

(3)

رواه أبو داود (5/93) والترمذي وقال: حسن غريب (5/424) رقم (3320) ، وابن ماجه (1/69) وأحمد في "المسند"(1/206-207) وغيرهم.

(4)

أخرجه أبو داود في "السنن"(5/94) ، وأبو سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية"(ص272) ، وفي الرد على المريسي (ص447) .

ص: 476

وفي خطبته صلى الله عليه وسلم في عرفة، في أعظم جمع اجتمع له صلى الله عليه وسلم بعدما أمر، ونهى، جعل يقول:" ألا هل بلغت؟ " فيقولون: نعم، عند ذلك يرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول:" اللهم اشهد" - غير مرة - (1) .

والنصوص في ذلك كثيرة جداً، والحق في هذه المسألة واضح جلي، بل وفي كل ما يجب لله -تعالى- وما يمتنع عليه، ومعلوم أن الله -تعالى- قد أكمل لهذه الأمة دينها على لسان رسولها، وأتم عليها النعمة بذلك، وأنزل كتابه فيه تبيان كل شيء، ومعرفته -تعالى- بما له من الأوصاف، ومعرفة ما يمتنع عليه، هي أجل أمور الدين وأعظم أصوله، فلا بد أن يكون هذا قد بين غاية البيان.

ثم إنه ليس بين علو الله -تعالى- على جميع خلقه، ومعيته لخلقه، وقربه من عباده، منافاة، فعلوه -تعالى- واستواؤه على عرشه، ثابت ثبوتاً قطعياً، كما وضح ذلك -تعالى- في كتابه، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك معيته -تعالى- لخلقه، قد وضحها وبينها رسوله، فوجب الإيمان بذلك، فكما أنه تعالى مستوٍ على عرشه، وعالٍ على خلقه، حقيقة، فهو كذلك موصوف بالقرب والمعية على الحقيقة.

قال شيخ الإسلام: " لا يخالف ما ثبت من علو الله، وأنه فوق العرش، معيته لخلقه، الثابت بمثل قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (2) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قبل وجهه"(3) ونحو ذلك.

وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة، كما جمع الله بينهما في

(1) تقدم أنه أخرجه مسلم.

(2)

الآية 4 من سورة الحديد.

(3)

رواه البخاري في الصلاة، باب 33 (ص75) وفي أماكن متعددة، ومسلم.

ص: 477

قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) ، فأخبر -تعالى- أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال:" والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه"(2) .

وذلك أن كلمة "مع" في اللغة، إذا أطلقت، لم يكن ظاهرها، في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة، أو محاذاة، عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني، دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ويقال: هذا المتاع معي، لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة.

ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فقوله -تعالى-:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (3) دل ظاهر الخطاب أن حكم هذه المعية، ومقتضاها: أنه مطلع عليكم شهيد عليكم، ومهيمن، عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.

وقوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (4) ، حق على ظاهره، ودلت الحال

على أن حكم هذه المعية: الاطلاع، والنصر، والتأييد، ومثلها قوله:{إِنَّنِي مَعَكُمَا} (5)، وقوله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم

(1) الآية 4 من سورة الحديد.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

الآية 4 من سورة الحديد.

(4)

الآية 40 من سورة التوبة.

(5)

الآية 46 من سورة طه.

ص: 478