المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشروط التي يجب توافرها في التأويل عند الأصوليين - التأويل خطورته وآثاره

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الشروط التي يجب توافرها في التأويل عند الأصوليين

الرابع: أن تأويلهم للنصوص لا يرتضيه أهل الفقه والأصول، لأن هؤلاء وضعوا للتأويل شروطا حتى يصح التأويل عندهم، فإذا فقدت هذه الشروط أو فقد شرط منها كان هذا التأويل فاسدا، وكان صاحبه متلاعبا بالنصوص.

‌الشروط التي يجب توافرها في التأويل عند الأصوليين

وقد ذكر هذه الشروط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: (صرف اللفظ عن ظاهره اللائق بجلال الله سبحانه وتعالى، وحقيقة المفهوم منها إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة

لابد فيه من أربعة أشياء:

أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل في المعنى المجازي، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء

ص: 37

باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا بدّ أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأيِّ معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة) (1).

وقد ذكر ابن حجر -رحمه الله تعالى- أن أبن أبي دؤاد الذي تولى كبر فتنة القول بخلق القرآن أراد ابن الأعرابي أن يجد له في لغة العرب أن استوى تأتي بمعنى استولى ليصرف قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} ، إلى هذا المعنى.

فقال له ابن الأعرابي: "والله ما أصبتُ هذا"(2).

الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه.

وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي

(1) الرسالة المدنية ص 40.

(2)

فتح الباري 13/ 406.

ص: 38

معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازيّ بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء.

ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة، فلا بدَّ له من دليل قاطع: عقلي أو سمعي يوجب الصرف، وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بدَّ من دليل مرجح للحمل على المجاز) (1).

وقد أشار كثير من العلماء المحققين إلى وجوب تحقق هذا الشرط.

يقول الزركشي: (في التأويل في الاصطلاح: صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله، ثم إن حمل لدليل فصحيح، وحينئذ فيصير المرجوح في نفسه راجحا، أو لما يظن دليلا ففاسد، أو لا لشيء فلعب، لا تأويل)(2).

أقول: وأكثر التأويلات المؤولة-هي من النوع

(1) الرسالة المدنية ص 40.

(2)

البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي 3/ 437.

ص: 39

الأخير الذي سماه الزركشي لعبا، لأنهم لم يقيموا على صحتها دليلا يصح الاعتداد به.

الثالث: لا بدَّ أن يسلم ذلك الدليل -الصارف- عن المعارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني وإيماني يبين أن الحقيقة مراده امتنع تركها.

ثم إن كان هذا الدليل قاطعاً لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهراً فلا بدّ من الترجيح (1).

وقد تأمَّل أهل السنة في النصوص التي زعم أهل التأويل وجوب تأويلها، فوجدوا أن في النصوص نفسها ما يدل على وجوب ترك تأويلها، فمن ذلك الحديث الذي يدَّعون رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:((الحجر الأسود يمين الله في الأرض)).

ومنه الحديث ((قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن)).

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:

(1) الرسالة المدنية ص 40.

ص: 40

((عبدي جعت فلم تطعمني

)).

وقد بين العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- أن في الحديث الأول ما يدل صراحة على أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال:((فمن قبَّله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه)).

ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به.

ففي الحديث نفسه بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وليس هو نفس يمينه، فليس ظاهر الحديث كفراً يحتاج إلى تأويل، كما جعلته المؤولة، بحيث يحتاج إلى تأويله.

وقد نبه شيخ الإسلام إلى أن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً، وإنما يعرف عن ابن عباس.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن))، فإنه غير محتاج إلى تأويل، فالمؤولة زعموا أنه يلزم تأويله (لاستحالة

ص: 41

وجود الأصبعين حساً، وكل من فتش عن صدره لم يشاهد فيه أصبعين، فأولوه على ما به تقليب الأشياء، وقلب الإنسان بين لمة الملك ولمة الشيطان، وبهما يقلب الله القلوب، فكنى بالأصبعين عنهما) (1).

ولو تأمل هؤلاء في النص لعلموا أنهم أخطئوا في الفهم، فالحديث يصرح أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، ولم يصرح بأن الأصابع مماسة للقلوب، فجعلهم ظاهر النص أنها مماسة للقلوب، وأن عدم رؤيتهم لهذه المماسة في صدر كل واحد منا يوجب التأويل فهم خاطئ للنص، فالنص لم يصرح، وليس فيه أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوف العباد، وإذا قيل السحاب مسخر بين السماء والأرض، وكثير من الكواكب والنجوم بين السماء والأرض لم يقتض هذا أن يكون مماس للسماء والأرض.

(1) البحر المحيط 3/ 442.

ص: 42

فالمؤولون أوتوا في هذا الحديث من عدم فقههم له، بينما كان خطؤهم في الحديث الأول في جعل ظاهره المعنى الباطل المردود، وهو ليس كذلك (1).

ومما أوله المؤولون من النصوص زاعمين وجوب تأويله حديث ((عبدي جعت ولم تطعمني)). قالوا هذا الحديث يُثْبت لله معنى باطلاً هو الجوع، ولذا يجب صرفه عن ظاهره وتأويله، لأن الله منزه عن صفات النقص.

والجواب: أن هذا الذي زعمتموه ظاهر النص ليس بظاهره، وفي الحديث ما يدل على هذا ويفسر مراد الله منه، ففي الحديث: ((يقول الله: عبدي، جعت فلم تطعمني.

فيقول: رب، كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟

فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي.

(1) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام:3/ 45.

ص: 43

عبدي، مرضت فلم تعدني.

فيقول: رب، كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟

فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده)).

يقول ابن تيمية: (هذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبده، وجاع عبده، فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسراً ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده، فلم يبقى في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل)(1).

الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام، وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته، فلا بدَّ أن يبين لأمته أنه لم يرد به حقيقته، وأنه أراد مجازه، سواء عينه أو لم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام:3/ 43 - 44.

ص: 44

عمل الجوارح.

فإن الله سبحانه جعل القرآن نوراً وهدىً، وبياناً للناس، وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسول ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل) (1).

فلا يجوز أن يتكلم بكلام يريد به خلاف ظاهر، إلا وقد نصب دليلاً يمنع من حمله على ظاهره.

إما أن يكون عقلياً ظاهراً مثل قوله: {وأوتيت من كل شيء} فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد: أتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك {خالق كل شيء} يعلم المستمع أن الخالق لا يدخل في هذا العموم.

(1) الرسالة المدنية لشيخ الإسلام ابن تيمية: ص 42.

ص: 45

أو سمعياً ظاهراً، مثل الدلالات في الكتاب والسنة والتي تصرف بعض الظواهر.

ولا يجوز أن يحيلهم على معنى دليل خفي لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعياً أو عقلياً.

لأنَّه إذا تكلَّم بالكلام الذي يفهم منه معنى، وأعاده مراراً كثيرة، وخاطب به الخلق كلّهم، وفيهم الذكي والبليد والفقيه وغير الفقيه، وأوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه، ويتفكروا فيه ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب عليهم أن لا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئاً من ظاهره، لأن هناك دليلاً خفياً يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره كان ذلك تدليساً وتلبيساً، وكان نقيض البيان وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان.

فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهرة أقوى بدرجات من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد؟

ص: 46