المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الأولى بل أولى ما يقال في قول عمر: "نعمت البدعة" - شرح نخبة الفكر للخضير - جـ ٧

[عبد الكريم الخضير]

الفصل: الأولى بل أولى ما يقال في قول عمر: "نعمت البدعة"

الأولى بل أولى ما يقال في قول عمر: "نعمت البدعة" أن يحمل على المشاكلة في التعبير، فكأن عمر رضي الله عنه خشي أن يقال له: ابتدعت يا عمر، أو كأن قائلاً قال لعمر رضي الله عنه: ابتدعت يا عمر، فمن باب المشاكلة والمجانسة في التعبير قال:"نعمت البدعة"، في بعض الروايات:"إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة" فقال عمر رضي الله عنه على سبيل التنزل والمشاكلة: "نعمت البدعة" كما قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] السيئة الأولى سيئة بلا شك، لكن الثانية هي سيئة؟ نعم، ليست سيئة يعني معاقبة الجاني سيئة؟ إقامة الحدود سيئة؟ لا، يقول الشاعر:

قالوا: اقترح شيئاً نجد لك طبخه

قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا

هذا مشاكلة في التعبير ومجانسة، فالسيئة الثانية ليست بسيئة في الحقيقة، فمعاقبة الجاني حسنة للأمر به، لكنه سمي سيئة للمجانسة في التعبير والمشاكلة، وكذلك الجبة والقميص لا يتصور طبخهما، بل المقصود في حقهما الخياطة، فسمى الخياطة طبخاً للمشاكلة في التعبير، والله أعلم، هذا أولى ما يقال في كلام عمر رضي الله عنه.

إذا عُلم هذا فالمبتدع في اصطلاح المحدثين كما قال السخاوي -وهو مأخوذ من تعريف الحافظ للبدعة-: "من اعتقد ما أحدث في الدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنوع شبهة لا بمعاندة"، وحكم رواية المبتدع سيأتي الحديث عنه حيث ذكره الحافظ -رحمه الله تعالى-.

‌سوء الحفظ:

ص: 6

والوجه العاشر من أوجه الطعن في الراوي سوء الحفظ: والحفظ يطلق على الحراسة والاستظهار، يقال: حفظت الشيء حفظاً أي حرسته، وحفظته بمعنى استظهرته وهو التعاهد وقلة الغفلة، والتحفظ قلة الغفلة في الكلام، والتيقظ من السقطة، ورجل حافظ، وقوم حفاظ وهم الذين رزقوا حفظ ما سمعوا، وقل ما ينسون شيئاً يعونه، ويطلق الحفظ على هيئة النفس التي بها يثبت ما يؤدي إليه الفهم، ويطلق الحفظ على هيئة النفس التي بها يثبت ما يؤدي إليه الفهم، يعني الحفظ يطلق على الغريزة الحافظة، كما يطلق على ضبط الشيء في النفس، ويضاده النسيان ثم هو أيضاً يستعمل في كل تفقد وتعهد ورعاية، كل هذا يقال له: حفظ، حفظ الأمانة حفظ، حفظ المتاع حفظ، حفظ المحفوظ في الصدر حفظ، والمراد به هنا ما يقابل النسيان، وهو ضبط الشيء في النفس، وسوء الحفظ قلته ورداءته.

لا شك أن الناس يتفاوتون في هذه الملكة التي هي ملكة الحفظ، يتباينون تبايناً كبيراً، فمن الناس من رزقه الله تميز في هذه الجهة فيحفظ الكلام لأول مرة، ومنهم من يحفظ من مرتين، ومنهم من يحفظ بثلاث، ومنهم من يحفظ لخمس، ومنهم من يحفظ لعشر، ومنهم من لا يحفظ ولا لمائة، لا شك أن الناس يتفاوتون، يوجد في السلف من يحفظ الكلام الكثير بمجرد سماعه، بل وجد منهم من يدخل أصبعيه في أذنيه إذا دخل السوق لئلا يحفظ كل ما يقال من خير وشر، الشعبي -رحمه الله تعالى- عرف عنه قوة الحفظ، كثير من السلف يحفظون، ووجد من يحفظ القضايا بلغاتها.

ص: 7

اختصم رجلان من العجم بلغتهما فطلبت البينة، طلب القاضي البينة، قالوا: ما عندنا بينة إلا شخص عربي ما ندري .. ، ما يفهم ويش إحنا نقول؟ فجيء بهذا العربي فسئل ماذا حصل؟ فذكر كل ما حصل حفظ، هو ما يدري إيش معناه؟ قال: هذا قال كذا ثم رد عليه هذا بكذا، وهذاك قال كذا ثم رد عليه .. ، حفظ، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} [(4) سورة الجمعة] يوجد في بعض تراجم الناس في كتب التراجم يقول:"ومن فضل محفوظاته كتاب الأغاني"، هذا تكميل هذا، يعني حفظ المهمات كلها وما بقي عليه إلا الأغاني فحفظه، مطبوع في أربعة وعشرين مجلد كبار، نعم، وبعض الناس يكرر الفاتحة عشرات بل مئات ولا يستطيع أن يحفظ، فيقال له: اذكر الله بدل الفاتحة، أكثر من الذكر يوجه إلى هذا، وبعض الناس يعاني من ضعف الحافظة، كم من مسلم يتمنى أن لو حفظ القرآن ولا يتيسر له ذلك، إما بسببه وانشغاله وعدم اكتراثه واهتمامه، أو بتركيبه حيث جعل الله حافظة من الضعف بحيث لا يستطيع أن يحفظ ما يريد، والناس يتفاوتون، والحفظ نعمة من نعم الله عز وجل على العبد، ضريبتها شكرها، شكر هذه النعمة، وألا تستعمل إلا فيما يرضي الله عز وجل، بعض الناس يعرض عن النعم، مثل نعمة الحفظ، لكن إيش همه؟ همه يحفظ ما ذكر في الجرائد، أو ما قيل في الأخبار، ويردده في المجالس، أو يحفظ المقطعات الغنائية، أو غير ذلك مما يضره ولا ينفعه، والله المستعان.

أقول: هذه نعمة ينبغي أن تصرف فيما خلقت له هذه النعمة، كسائر النعم شكراً للمنعم، واعترافاً بفضل ذي الفضل، يوجد الآن –ولله الحمد- من يتجه إلى الحفظ، كان الناس يظنون أن حفظ الكتب الكبيرة أساطير ما يمكن، يعني حينما تذكر في تراجم أهل العلم يظنونها من باب المبالغة، يحفظ الكتب الستة ما هو بصحيح! لكن الناس أعداء لما يجهلون، هذا ينظر في محيطه، كنا إلى عهد قريب من ينتسب إلى العلم تجد أعظم ما يطمح إليه حفظ القرآن مع البلوغ والزاد وما أشبه ذلك على هذه المتون الصغيرة، وهذا فيه خير كثير، لكن الناس لما جربوا حفظ الكتب حفظوا، وجد أن الأمة ما زالت بخير ولله الحمد.

ص: 8

المقصود أن هذه الملكة نعمة وهي تزيد بالتمرين، قابلة للزيادة فلا يأس، كما أنها تضعف بالإهمال، يعني شخص أهمل الحافظة سنين، ثم يريد أن يحفظ نعم بالتدريج تعود وبالتمرين تزيد، وإن كان الأصل أن قوي الحافظة قوي الحافظة، ضعيف الحافظة ضعيف، لكن هذا بإهماله تضعف حافظته، وذاك بمثابرته تزيد حافظته، فأهل العلم يذكرون طرق للحفظ فيذكرون الظروف المناسبة والأوقات المناسبة للحفظ، فيجعلون أول النهار أنسب وقت للحفظ، يعني إذا أخذ القدر الكافي من النوم واستجم ذهنه وفكره، فإنه أكثر استعداداً للحفظ من آخره بعد مزاولة الأعمال، المكان الضيق للحفظ أنسب من المكان الفسيح الواسع، الترديد والتعاهد مع الفهم يعين على الحفظ، فهم الكلام المراد حفظه يعين على الحفظ.

السلف كانوا يأخذون العلم بالتدريج، فيقرءون عشر آيات ويفهمونها ويحفظونها ولا يتجاوزونها إلى غيرها حتى يعرفوا ما فيها من علم وعمل، وذكروا في آداب المتعلم أن الإنسان إذا أراد أن يحفظ يحدد القدر الذي يغلب على ظنه أن حافظته تسعفه في حفظه، فلنقل مثلاً: خمس آيات، عشر آيات، ثم يردد هذه العشر آيات حتى يحفظها في اليوم الأول، ويجزم أنه ضبطها وأتقنها، من الغد يراجع ما حفظه بالأمس خمس مرات، ثم يحفظ نصيب اليوم حتى يجزم بأنه ضبطه وأتقنه، في اليوم الثالث يقرأ نصيب اليوم الأول أربع مرات، ونصيب اليوم الثاني بالأمس خمس مرات، ثم يأتي إلى وظيفة اليوم حتى يضبطها ويتقنها، وفي اليوم الرابع يأتي إلى نصيب اليوم الأول يراجعه ثلاث مرات، ونصيب اليوم الثاني أربع مرات، ونصيب اليوم الثالث خمس مرات، ثم بعد ذلك يأتي إلى نصيب يومه وهكذا، حتى في اليوم الخامس ينتهي من نصيب اليوم الأول، ما يراجعه خلاص ما يحتاج إلى مراجعة، في اليوم السادس نصيب اليوم الثاني ما يحتاج إلى مراجعة، في اليوم السابع نصيب .. وهكذا، يقولون: بهذه الطريقة يثبت الحفظ، وليبدأ طالب العلم بالأهم.

بالمهم المهم ابدأ لتدركه

وقدم النص والآراء فاتهمِ

لا بد من البداءة بالمهم؛ لئلا يضيع الوقت وأنت ما حصلت شيء، فلتكن البداءة بكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وما يعين على فهم هذين المصدرين.

ص: 9

الناس قاطبة يقررون أن الصغير أقوى في الحفظ من الكبير، وأن الحافظة تضعف كغيرها من القوى، البصر يضعف، السمع يضعف، جميع الجوارح تضعف ومنها الحافظة، والناس كلهم على هذا، والواقع يشهد له، الصغير يحفظ بسرعة، إذا كبر قليلاً ضعف، إذا كبر، إذا كبر .. إلى آخره، إلى أن تكثر مشاغله فلا يكاد يحفظ شيئاً، ثم يبدأ بعد ذلك بنسيان ما حفظ، يبدأ عاد بالمحو والإزالة.

الماوردي في أدب الدنيا والدين يقرر أن الحافظة لا تتغير، الحافظة عند الكبير والصغير لا تتغير واحدة، حافظة الإنسان هي هي من يولد إلى أن يموت، إلا إذا طرأ عليه خرف أو اختلاط أو ما أشبه ذلك، يقول:"ليست الحافظة هي التي تتغير، إنما الظروف هي التي تتغير" شخص همه نفسه فقط، ليست لديه أي التزامات، لا شك أنه يحفظ أكثر من الشخص الذي كثرت مشاغله، والشخص في أول العمر مشاغله أقل بكثير من مشاغله في منتصف عمره، أو في آخره.

ص: 10

يقول: الظروف هي المؤثرة على الحفظ، وليس ضعف الحافظة، لكن عامة الناس على خلاف قوله، لا شك أن قول الماوردي يبعث الأمل في النفس بمن بلغ الخمسين والستين ألا ييأس، نقول: مسألة ظروف خلاص أتجرد وأنقطع للحفظ، إيش المانع؟ ونعرف شخص حفظ القرآن بعد الخمسين، وصالح بن كيسان بدأ التعلم بعد التسعين لما بلغ تسعين اتجه إلى العلم، وقيل في سنه أقل من ذلك قيل: سبعين، وقيل: خمسين، لكن أقل ما قيل: الخمسين، فاتجه إلى حفظ السنة حتى عد من كبار الآخذين عن الزهري وعمره تسعين سنة، يعني لو قيل لواحد، قال: ما. . . . . . . . . العمر كثر ما مضى، تعلم في هذا الوقت تعب ليس وراءه أرب، نقول: لا، ما دام بقي في العمر يوم واحد تعلم، وما يدريك، أقل الأحوال أن تدخل في الوعد:((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) ما قال من صار عالماً ما يلزم، ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) ونرى في عوام المسلمين كبار السن من يئس من الحفظ ولو الشيء اليسير من القرآن فتجدهم في الأماكن الفاضلة والأزمنة الشريفة يلتفتون يمنة ويسرة، وينظرون إلى القراء بحسرة، لكن بإمكانهم أن يتعلموا، لو يحفظ كل يوم آية ويرددها ثم يضيف إليها أخرى من الغد، والآن -ولله الحمد- البيوت مملوءة ممن يقرأ ويكتب، فلو قال الجد مثلاً لحفيده: أقرأني سورة الفاتحة، ورددها عليه مراراً وسجلها له وصار يرددها يعني يحفظها، ثم السورة التي تليها وهكذا، .... عجائز في السبعين والثمانين حفظت الأجزاء، ولله الحمد والمنة، هذا موجود، عجائز كبار من النسوة التحقن بدور التحفيظ النسائية وحفظن من القرآن ما يكفيهن، أما أن يجلس المسلم يلتفت يمنة ويسرة ينظر إلى الناس وهم يقرءون بحسرة وهو محروم من هذه النعمة، بكل حرف عشر حسنات، الختمة الواحدة فيها ثلاثة ملايين حسنة، وهذا الخطاب إذا وجه للعامي فطالب العلم أولى به وأحرى.

ص: 11

يوجد شخص بلغ السبعين من عمره وكان له صديق ناصح له، هذا الشخص الذي بلغ السبعين لا يقرأ –أمي- ولا يكتب، وأولاده أصغرهم من بلغ العشرين، فنصحه بأن يتزوج، وأن يحفظ جزأين من القرآن، قال: وما يدريك هؤلاء الأولاد يكبرون وينشغلون في أولادهم، والزوجة تهرم وتحتاج إلى من يعولها ويخدمها وتبقى أنت بدون خادم، فلو تزوجت وحفظت لك جزأين من القرآن فالذي حصل أنه تزوج ورزق بذرية من الصغار خدموه في آخر عمره، وحفظ جزأين فكف بصره فصار يردد هذين الجزأين، هذه نعمة كبيرة من الله سبحانه وتعالى، يعني لو كف وهو ما يحفظ شيء، أو بلغ التسعين وهو يحتاج إلى من يعوله وأولاده في أعمالهم ووظائفهم وأولادهم وأسرهم، وزوجته بجانبه تحتاج إلى من يعولها، فعلى الإنسان أن ينتبه لنفسه ويحتاط لها، ويقدم لآخرته، ولا شك أن الدنيا مدبرة، والآخرة مقبلة، وعلينا أن نكون من أبناء الآخرة لا من أبناء الدنيا، والله المستعان.

المراد بسوء الحفظ هنا: ما يقابل النسيان، وهو ضبط الشيء في النفس، وسوء الحفظ قلته ورداءته، وسيء الحفظ هو من لم يرجح جانب إصابته على جانب خطأه، فلا يقال لمن وقع له الخطأ مرة أو مرتين: إنه سيء الحفظ؛ لأن الإنسان ليس بمعصوم من الخطأ.

وقسم العلماء سوء الحفظ إلى قسمين: الأول: لازم غير منفك للراوي في جميع حالاته ومن غير أن يعرض له أي سبب، يعني من ولادته سيء الحفظ، والثاني: طارئ على الراوي إما لكبر سنه أو ذهاب بصره أو لاحتراق كتبه التي يعتمد عليها أو غير ذلك، وهذا القسم ما يسمى بالاختلاط، نعم، بعض الناس إذا حصل له أدنى مصيبة أصيب باختلال في حفظه، نسي، فمن فقد الدراهم بعض الناس فقد مبلغ من المال فاختلط، نسي كل اللي هو حافظ، وآخر نهق حمار فاختلط، وكثير من الناس وهو يقرأ القرآن فاتح المصحف بين يديه إذا حرك الباب نسي هل هو في آخر الصفحة أو في أولها؟ واقع إلا ما هو بواقع؟ هذا واقع مع الأسف، إذا حركت النعال وإلا كان المكيف قافل ثم اشتغل يضيع كل ما عمله، والله المستعان.

والاختلاط هو عدم انتظام القول كما في الحاوي في الطب، وسيأتي الكلام على حكم رواية سيء الحفظ بنوعيه: اللازم والطارئ حيث يذكره الحافظ -رحمه الله تعالى-.

ص: 12