المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب العشرون: في ذكر مناظرة بين قدري وسني - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط المعرفة

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السموات والأرض

- ‌الباب الثاني: في تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم قبل خلقهم وهو تقدير ثان بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامس: في ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادس: في التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابع: في أن سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقضي ترك الأعمال بل يقضي الاجتهاد والحرص

- ‌الباب الثامن: في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسع: في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشر: في ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة خلق الله سبحانه الأعمال وتكوينه وإيجاده لها

- ‌الباب الرابع عشر: في الهدى والضلال ومراتبهما والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة والحائل بين الكافر وبين الإيمان وأن ذلك مجعول للرب تعالى

- ‌الباب السادس عشر: فيما جاء في السنة من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو منفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌الباب السابع عشر: في الكسب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا

- ‌الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر والكسب وذكر الفعل والانفعال

- ‌الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة جرت بين جبري وسني جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌الباب العشرون: في ذكر مناظرة بين قدري وسني

- ‌الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر

- ‌الباب الثاني والعشرون: في استيفاء شبه النافعين للحكمة والتعليل وذكر الأجوبة عنها

- ‌الباب الثالث والعشرين: في استيفاء شبه النافلين للحكمة والتعليل وذكر الأجوبة عنها

- ‌الباب الرابع والعشرون: في قول السلف من أصول الإيمان الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره

- ‌الباب الخامس والعشرون: في امتناع إطلاق القول نفيا وإثباتا أن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له

- ‌الباب السادس والعشرين: فيما يدل عليه قوله: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" من تحقيق القدر وإثباته ما تضمنه الحديث من الأسرار العظيمة

- ‌الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد والحكمة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم ماض في حكمك عدل في قضاؤك وبيان ما في هذا الحديث من القواعد

- ‌الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه

- ‌الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والحكم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث

- ‌الباب الموفي ثلاثين: في ذكر الفطرة الأولى ومعناها واختلاف الناس في المراد بها وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال

الفصل: ‌الباب العشرون: في ذكر مناظرة بين قدري وسني

أدخله في باب العدل والثاني أدخله في باب التوحيد ولم يكن ممن نقض التوحيد بالعدل ولا ممن نقض العدل بالتوحيد فهؤلاء جنوا على التوحيد وهؤلاء جنوا على العدل وهدى الله أهل السنة للتوحيد والعدل: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

ص: 152

‌الباب العشرون: في ذكر مناظرة بين قدري وسني

الباب العشرون: في ذكر مناظرة بين قدري سني

قال القدري: قد أضاف الله الأعمال إلى العباد بأنواع الإضافة العامة والخاصة فأضافها إليهم بالاستطاعة تارة كقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} وبالمشيئة تارة كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} وبالإرادة تارة كقول الخضر فأردت أن أعيبها وبالفعل والكسب والصنع كقوله: {يَفْعَلُونَ} : {يَعْمَلُونَ} : {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} : {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وأما بالإضافة الخاصة فكإضافة الصلاة والصيام والحج والطهارة والزنا والسرقة والقتل والكذب والكفر والفسوق وسائر أفعالهم إليهم وهذه الإضافة تمتنع إضافتها إليه كما أن إضافة أفعاله تعالى تمتنع إضافتها إليهم فلا تجوز إضافة أفعالهم إليه سبحانه دونهم ولا إليه معهم فهي إذا مضافة إليهم دونه قال السني: هذا الكلام مشتمل على حق وباطل أما قولك أنه أضاف الأفعال إليهم فحق لا ريب فيه وهذا حجة لك على خصومك من الجبرية وهم يجيبونك بأن هذا الإسناد لا حقيقة له وإنما هو نسبة مجازية صححها قيام الأفعال بهم كما يقال جرى الماء وبرد وسخن ومات زيد ونحن نساعدك على بطلان هذا الجواب ومنافاته للعقول والشرائع والفطر ولكن قولك هذه الإضافة تمنع إضافتها إليه سبحانه كلام فيه إجمال وتلبيس فإن أردت بمنع الإضافة إليه منع قيامها به ووصفه بها وجريان أحكامها عليه واشتقاق الأسماء منه له فنعم هي غير مضافة إليه بشيء من هذه الاعتبارات والوجوه وإن أردت بعدم إضافتها إليه عدم إضافتها إلى علمه بها وقدرته عليها ومشيئته العامة وخلقه فهذا باطل فإنها معلومة له سبحانه مقدورة له مخلوقة وإضافتها إليهم لا تمنع هذه الإضافة كالأموال فإنها مخلوقة له سبحانه وهي ملكه حقيقة قد أضافها إليهم فالأعمال والأموال خلقه وملكه وهو سبحانه يضيفها إلى عبيده وهو الذي جعلهم مالكيها وعامليها فصحت النسبتان وحصول الأموال بكسبهم وإرادتهم كحصول الأعمال وهو الذي خلق الأموال وكاسبيها والأعمال وعامليها فأموالهم وأعمالهم ملكه وبيده كما أن أسماعهم وأبصارهم وأنفسهم ملكه وبيده فهو الذي جعلهم يسمعون ويبصرون ويعملون فأعطاهم حاسة السمع والبصر وقوة السمع والبصر وفعل الإسماع والإبصار وأعطاهم آلة العمل وقوة العمل ونفس العمل فنسبة قوة العمل إلى اليد والكلام إلى اللسان كنسبة قوة السمع إلى الأذن والبصر إلى العين ونسبة الرؤية والاستماع اختيارا إلى محلهما كنسبة الكلام والبطش إلى محلهما وإن كانوا هم الذين خلقوا لأنفسهم الرؤية والسمع فهل خلقوا محلهما وقوى المحل والأسباب الكثيرة التي تصلح معها الرؤية والسمع أم الكل خلق من هو خالق كل شيء وهو الواحد القهار قال القدري: لو كان الله سبحانه هو الفاعل لأفعالهم لاشتقت له منها الأسماء وكان أولى بأسمائها منهم إذ لا يعقل الناس على اختلاف لغاتهم وعاداتهم ودياناتهم قائما إلا من فعل القيام وآكلا إلا من فعل الأكل وسارقا إلا من فعل السرقة وهكذا جميع الأفعال لازمها ومتعديها

ص: 152

فقلبتم أنتم الأمر وقلبتم الحقائق فقلتم من فعل هذه الأفعال حقيقة لا يشتق له منها اسم وإنما يشتق منها الأسماء لمن لم يفعلها ولم يحدثها وهذا خلاف العقول واللغات وما تتعارفه الأمم قال السني: هذا إنما يلزم إخوانك وخصومك الجبرية القائلين بأن العبد لم يفعل شيئا البتة وأما من قال العبد فاعل لفعله حقيقة والله خالقه وخالق آلات فعله الظاهرة والباطنة فإنه إنما يشتق الأسماء لمن فعل تلك الأفعال فهو القائم والقاعد والمصلي والسارق والزاني حقيقة فإن الفعل إذا قام بالفاعل عاد حكمه إليه ولم يعد إلى غيره واشتق له منه اسم ولم يشتق لمن لم يقم به فههنا أربعة أمور أمران معنويان في النفي والإثبات وأمران لفظيان فيهما فلما قام الأكل والشرب والزنا والسرقة بالعبد عادت أحكام هذه الأفعال إليه واشتقت له منها الأسماء وامتنع عود أحكامها إلى الرب واشتقاق أسمائها له ولكن من أين يمنع هذا أن تكون معلومة للرب سبحانه مقدورة له مكونة له واقعة من العباد بقدرة ربهم وتكوينه قال القدري: لو كان خالقا لها لزمته هذه الأمور قال السني: هذا باطل ودعوى كاذبة فإنه سبحانه لا يشتق له اسم مما خلقه في غيره ولا يعود حكمه عليه وإنما يشتق الاسم لمن قام به ذلك فإنه سبحانه خلق الألوان والطعوم والروائح والحركات في محالها ولم يشتق له منها اسم ولا عادات أحكامها إليه ومعنى عود الحكم إلى المحل الإخبار عنه بأنه يقوم ويقعد ويأكل ويشرب قال السني: ومن ههنا علم ضلال المعتزلة الذين يقولون أن القرآن مخلوقا خلقه الله في محل ثم اشتق له اسم المتكلم باعتبار خلقه له وعاد حكمه إليه فأخبر عنه أنه تكلم به ومعلوم أن الله سبحانه خالق صفات الأجسام وأعراضها وقواها فكيف جاز أن يشتق له اسم مما خلقه من الكلام في غيره ولم يشتق له اسم مما خلقه من الصفات والأعراض في غيره فأنت أيها القدري نقضت أصولك بعضها ببعض وأفسدت قولك في مسألة الكلام بقولك في مسألة القدر وقولك في القدر بقولك في الكلام فجعلته متكلما بكلام قائم بغيره وأبطلت أن يكون فاعل الفعل قائما بغيره فإن كنت أصبت في مسألة الكلام فقد نقضت أصلك في القدر وإن أصبت في هذا الأصل لزم خطأك في مسألة الكلام فأنت مخطئ على التقديرين قال القدري فما تقول أنت في هذا المقام قال السني: لا تناقض في هذا ولا في هذا بل أصفه سبحانه بما قام به وامتنع من وصفه بما لم يقم قال القدري فالآن حمى الوطيس فأنت والمسلمون وسائر الخلق تسمونه تعالى خالقا ورازقا ومميتا والخلق والرزق والموت قائم بالمخلوق والمرزوق والميت إذ لو قام ذلك بالرب سبحانه فالخلق إما قديم وإما حادث فإن كان قديما لزم قدم المخلوق لأنه نسبة بين الخالق والمخلوق ويلزم من كونها قديمة قدم المصحح لها وإن كان حادثا لزم قيام الحوادث به وافتقر ذلك الخلق إلى خلق آخر فلزم التسلسل فثبت أن الخلق غير قائم به سبحانه وقد اشتق له منه اسم قال السني: أي لازم من هذه اللوازم التزمه المرء كان خيرا من أن ينفي صفة الخالقية عن الرب سبحانه فإن حقيقة هذا القول أنه غير خالق فإن إثبات خالق بلا خلق إثبات اسم لا معنى له وهو كإثبات سميع لا سمع له وبصير لا بصر له ومتكلم وقادر لا كلام له ولا قدرة فتعطيل الرب سبحانه عن فعله القائم به كتعطيله عن صفاته القائمة به والتعطيل أنواع تعطيل المصنوع عن الصانع وهو تعطيل الدهرية والزنادقة وتعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله وهو تعطيل الجهمية نفاة الصفات وتعطيله عن أفعاله وهو أيضا تعطيل الجهمية وهم أبنائه ودب فيمن عداهم من الطوائف فقالوا لا يقوم بذاته فعل لأن الفعل

ص: 153

حادث وليس محلا للحوادث كما قال إخوانهم لا تقوم بذاته صفة لأن الصفة عرض وليس محلا للأعراض فلو التزم الملتزم أي قول التزمه كان خيرا من تعطيل صفات الرب وأفعاله فالمشبهة ضلالهم وبدعتهم خير من المعطلة ومعطلة الصفات خير من معطلة الذات وإن كان التعطيلان متلازمين لاستحالة وجود ذات قائمة بنفسها لا توصف بصفة فوجود هذه محال في الذهن وفي الخارج ومعطلة الأفعال خير من معطلة الصفات فإن هؤلاء نفوا صفة الفعل وإخوانهم نفوا صفات الذات وأهل السمع والعقل وحزب الرسول والفرقة الناجية برآء من تعطيل هؤلاء كلهم فإنهم أثبتوا الذات والصفات والأفعال وحقائق الأسماء الحسنى إذ جعلها المعطلة مجازا لا حقيقة له فشر هذه الفرق لخيرها الفداء والمقصود أنه أي قول لزمه الملتزم كان خيرا من نفي الخلق وتعطيل هذه الصفة عن الله وإذا عرض على العقل السليم مفعول لا فاعل له ومفعول لا فاعل لفعله لم يجد بين الأمرين فرقا في الإحالة فمفعول بلا فعل كمفعول بلا فاعل لا فرق بينهما البتة فليعرض العاقل على نفسه القول بتسلسل الحوادث والقول بقيام الأفعال بذات الرب سبحانه والقول بوجود مخلوق حادث عن خلق قديم قائم بذات الرب سبحانه والقول بوجود مفعول بلا فعل ولينظر أي هذه الأقوال أبعد عن العقل والسمع وأيها أقرب إليهما ونحن نذكر أجوبة الطوائف عن هذا السؤال فقالت طائفة يختار من هذا التقسيم والترديد كون الخلق والتكوين قديما قائما بذات الرب سبحانه ولا يلزمنا قدم المخلوق المكون كما نقول نحن وأنتم أن الإرادة قديمة ولا يلزم من قدمها قدم المراد وكل ما أجبتم به في صورة الإلزام فهو جوابنا بعينه في مسألة المكون وهذا جواب سديد وهو جواب جمهور الحنفية والصوفية وأتباع الأئمة فإن قلتم إنما لا يلزم من قدم الإرادة قدم المراد لأنها تتعلق بوجود المراد في وقته فهو يريد كون الشيء في ذلك الوقت وأما تكوينه وخلقه قبل وجوده فمحال قيل لكم لسنا نقول أنه كونه قبل وقت كونه بل التكوين القديم اقتضى كونه في وقته كما اقتضت الإرادة القديمة كونه في وقته فإن قلتم كيف يعقل تكوين ولا مكون قيل كما عقلتم إرادة ولا مراد فإن قلتم المريد قد يريد الشيء قبل كونه ولا يكونه قبل كونه قيل كلامنا في الإرادة المستلزمة لوجوده في الإرادة التي لا تستلزم المراد وإرادة الرب سبحانه ومشيئته تستلزم وجود مراده وكذلك التكوين يوضحه أن التكوين هو اجتماع القدرة والإرادة وكلمة التكوين وذلك كله قديم ولم يلزم منه قدم المكون قالوا وإذا عرضنا هذا على العقول السليمة وعرضنا عليها مفعولا بلا فعل بادرت إلى قبول ذاك وإنكار هذا فهذا جواب هؤلاء وقالت الكرامية بل نختار من هذا الترديد كون التكوين حادثا وقولكم يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الرب سبحانه فالتكوين هو فعله وهو قائم به وكأنكم قلتم يلزم من قيام فعله به قيامه به وسميتم أفعاله حوادث وتوسلتم بهذه التسمية إلى تعطيلها كما سمى إخوانكم صفاته إعراضا وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيها عنه وكما سموا علوه على مخلوقاته واستواءه على عرشه تحيزا وتوسلوا بهذه إلى نفيه وكما سموا وجهه الأعلى ويديه جوارح وتوسلوا بذلك إلى نفيها قالوا ونحن لا ننكر أفعال خالق السماوات والأرض وما بينهما وكلامه وتكليمه ونزوله إلى السماء واستواءه على عرشه ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده وندائه لأنبيائه ورسله وملائكته وفعله ما شاء بتسميتكم لهذا كله حوادث ومن أنكر ذلك فقد أنكر كونه

ص: 154

رب العالمين فإنه لا يتقرر في العقول والفطر كونه ربا للعالمين إلا بأن يثبت له الأفعال الاختيارية وذات لا تفعل ليست مستحقة للربوبية ولا للإلهية فالإجلال من هذا الإجلال واجب والتنزيه عن هذا التنزيه متعين فتنزيه الرب سبحانه عن قيام الأفعال به تنزيه له عن الربوبية وملكه قالوا ولنا على صحة هذه المسألة أكثر من ألف دليل من القرآن والسنة والعقول وقد اعترف أفضل متأخريكم بفساد شبهكم كلها على إنكار هذه وذكرها شبهة شبهة وأفسدها والتزم بها جميع الطوائف حتى الفلاسفة الذين هم أبعد الطوائف من إثبات الصفات والأفعال قالوا ولا يمكن إثبات حدوث العالم وكون الرب خالقا ومتكلما وسامعا ومبصرا ومجيبا للدعوات ومدبرا للمخلوقات وقادرا ومريدا إلا القول بأنه فعال وأن أفعاله قائمة به فإذا بطل أن يكون له فعل وأن تقوم بذاته الأمور المتجددة بطل هذا كله.

فصل: وقد أجاب عن هذا عبد العزيز بن يحيى الكناني في حيدته فقال في سؤاله للمريسي: بأي شيء حدثت الأشياء فقال له أحدثها الله بقدرته التي لم تزل فقلت له أحدثها بقدرته كما ذكرت أو ليس تقول أنه لم يزل قادرا قال بلى قلت فتقول أنه لم يزل يفعل قال لا أقول هذا قلت فلا بد أن نلزمك أن تقول أنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة لأن القدرة صفة ثم قال عبد العزيز لم أقل لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع فأثبت عبد العزيز فعلا مقدورا لله هو صفة ليس من المخلوقات وأنه به خلق المخلوقات وهذا صريح في أن مذهبه كمذهب السلف وأهل الحديث لأن الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول كما حكاه البغوي إجماعا لأهل السنة وقد صرح عبد العزيز أن فعله سبحانه القائم به وأنه خلق به المخلوقات كما صرح به البخاري في آخر صحيحه وفي كتاب خلق الأفعال قال في صحيحه باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق وفعل الرب وأمره فالرب سبحانه بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون فصرح إمام السنة أن صفة التخليق هي فعل الرب وأمره وأنه خالق بفعله وكلامه وجميع جند الرسول وحزبه مع محمد بن إسماعيل في هذا والقرآن مملوء من الدلالة عليه كما دل عليه العقل والفطرة قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} ثم أجاب نفسه بقوله: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَاّقُ الْعَلِيمُ} فأخبر أنه قادر على نفس فعله وهو أن يخلق فنفس أن يخلق فعل له وهو قادر عليه ومن يقول لا فعل له وأن الفعل هو عين المفعول يقول لا يقدر على فعل يقوم به البتة بل لا يقدر إلا على المفعول المباين له الحادث بغير فعل منه سبحانه وهذا أبلغ في الإحالة من حدوثه بغير قدرة بل هو في الإحالة كحدوثه بغير فاعل فإن المفعول يدل على قدرة الفاعل باللزوم العقلي ويدل على فعله الذي وجد به بالتضمن فإذا سلبت دلالته التضمنية كان سلب دلالته اللزومية أسهل ودلالة المفعول على فاعله وفعله دلالة واحدة وهي أظهر بكثير من دلالته قدرته وإرادته في القرآن كثير كقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} وأن يبعث هو نفس فعله والعذاب هو مفعوله المباين له وكذلك قو4له: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فإحياء الموتى نفس فعله وحياتهم مفعوله المباين له وكلاهما مقدور له وقال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} فتسوية البنان فعله واستواؤها

ص: 155

مفعوله ومنكرو الأفعال يقولون أن الرب سبحانه يقدر على المفعولات المباينة له ولا يقدر على فعل يقوم بنفسه لا لازم ولا متعد وأهل السنة يقولون الرب سبحانه يقدر على هذا وعلى هذا وهو سبحانه له الخلق والأمر فالجهمية أنكرت خلقه وأمره وقالوا خلقه نفس مخلوقه وأمره مخلوق من مخلوقاته فلا خلق ولا أمر ومن أثبت له الكلام القائم بذاته ونفى أن يكون له فعل فقد أثبت الأمر دون الخلق ولم يقل أحد بقيام أفعاله به ونفى صفة الكلام عنه فيثبت الأمر دون الخلق وأهل السنة يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه من الخلق والأمر فالخلق فعله والأمر قوله وهو سبحانه يقول ويفعل وأجابت طائفة أخرى من أهل السنة والحديث عن هذا بالتزام التسلسل وقالوا ليس في العقل ولا في الشرع ما ينفي دوام فاعلية الرب سبحانه وتعاقب أفعاله شيئا قبل شيء إلى غير غاية كما تتعاقب شيئا بعد شيء إلى غير غاية فلم تزل أفعالا قالوا والفعل صفة كمال ومن يفعل أكمل ممن لا يفعل قالوا ولا يقتضي صريح العقل إلا هذا ومن زعم أن الفعل كان ممتنعا عليه سبحانه في مدد غير مقدرة لا نهاية لها ولا يقدر أن يفعل ثم انقلب الفعل من الاستحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي من غير حدوث سبب ولا تغير في الفاعل فقد نادى على عقله بين الأنام قالوا وإذا كان هذا في العقول جاز أن ينقلب العالم من العدم إلى الوجود من غير فاعل وإن امتنع هذا في بداية العقول فكذلك نجد إمكان الفعل وانقلابه من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب وأما أن يكون هذا ممكنا وذاك ممتنعا فليس في العقول ما يقضي بذلك قالوا والتسلسل لفظ مجمل لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ناطق ولا سنة متبعة فيجب مراعاة لفظه وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن كالتسلسل في المؤثر محال ممتنع لذاته وهو أن يكون مؤثرين كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إلى غاية والتسلسل الواجب ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيما آخر لا نفاد له وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرق الأزل وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر فهذا واجب في كلامه فإنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم تحدث له صفة الكلام في وقت وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته فإن كل حي فعال والفرق بين الحي والميت بالفعل ولهذا قال غير واحد من السلف الحي الفعال، وقال عثمان بن سعيد: كل حي فعال ولم يكن ربنا سبحانه قط في وقت من الأوقات المحققة أو المقدرة معطلا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف كما يتسلسل في طرف الأبد فإنه إذا لم يزل حيا قادرا مريدا متكلما وذلك من لوازم ذاته فالفعل ممكن هذه الصفات له وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدم لا أول له فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن قالوا وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده ويقضي ببطلانه وكل من اعترف بأن الرب سبحانه لم يزل قادرا على الفعل لزمه أحد الأمرين لا بد له منهما أما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكنا وأما أن يقول لم يزل واقعا إلا تناقض تناقضا بينا حيث زعم أن الرب سبحانه لم يزل قادرا على الفعل والفعل محال ممتنع لذاته لو أراده لم يكن وجوده بل فرض إرادته عنده محال وهو مقدور له وهذا قول ينقض بعضه بعضا وأجابت طائفة أخرى بالجواب المركب على جميع التقادير فقالوا

ص: 156

تسلسل الآثار إما أن يكون ممكنا أو ممتنعا فإن كان ممكنا فلا محذور في التزامه وإن كان ممتنعا لم يلزم من بطلانه بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل والمخلوق لا يكون إلا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل وبطلانه، ولهذا كثير من الطوائف يقولون الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول مع قولهم ببطلان التسلسل مثل كثير من أتباع الأئمة الأربعة وكثير من أهل الحديث والصوفية والمتكلمين ثم من هؤلاء من يقول الخلق الذي هو التكوين صفة كالإرادة ومنهم من يقول بل هي حادثة بعد أن لم تكن كالكلام والإرادة وهي قائمة به سبحانه وهم الكرامية ومن وافقهم أثبتوا حدوثها وقيامها بذاته وأبطلوا دوامها فرارا من القول بحوادث لا أول لها وكلا الفريقين يقول أن ذلك التكوين والخلق مخلوق بل يقول أن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة قالوا فإذا كان القول بالتسلسل لازما لكل من قال أن الرب تعالى لم يزل قادرا على الخلق يمكنه أن يفعل بلا ممانع فهو لازم لك كما ألزمته لخصومك فلا ينفردون بجوابه دونك وأما ما ألزموك به من وجود مفعول بلا فعل ومخلوق بلا خلق فهو لازم لك وحدك قالوا ونحن إنما قلنا الفعل صفة قائمة به سبحانه وهو قادر عليه لا يمنعه منه مانع والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه فلا يلزم أن يكون معه مخلوقا في الأزل إلا إذا ثبت أن الفعل اللازم يستلزم الفعل المتعدي وأن المتعدي يستلزم دوام نوع المفعولات ودوام نوعها يستلزم أن يكون معه سبحانه في الأزل شيء منها وهذه الأمور لا سبيل لك ولا لغيرك إلى الاستدلال على ثبوتها كلها وحينئذ فنقول أي لازم لزم من إثبات فعله كان القول به خيرا من نفي الفعل وتعطيله فإن ثبت قيام فعله به من غير قيام الحوادث به كما يقوله كثير من الناس بطل قولكم وإن لزم من إثبات فعله قيام الأمور الاختيارية به والقول بأنها مفتتحة ولها أول فهو خير من قولكم كما تقوله الكرامية وإن لزم تسلسلها وعدم أوليتها في الأفعال اللازمة فهو خير من قولكم وإن لزم تسلسل الآثار وكونه سبحانه لم يزل خالقا كما دل عليه النص والعقل فهو خير من قولكم ولو قدر أنه يلزم أن الخلق لم يزل مع الله قديما بقدمه كان خيرا من قولكم مع أن هذا لا يلزم ولم يقل به أحد من أهل الإسلام بل ولا أهل الملل فكلهم متفقون على أن الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق موجود بعد عدمه وليس معه غيره من المخلوقات يكون وجوده مساويا لوجوده فما لزم بعد هذا من إثبات خلقه وأمره وصفات كماله ونعوت جلاله وكونه رب العالمين وأن كماله المقدس من لوازم ذاته فإنا به قائلون وله ملتزمون كما إنا ملتزمون لكل ما لزم من كونه حيا عليما قديرا سميعا بصيرا متكلما آمرا ناهيا فوق عرشه بائن من خلقه يراه المؤمنون بأبصارهم عيانا في الجنة وفي عرصات القيامة ويكلمهم ويكلمونه فإن هذا حق ولازم الحق مثله وما لم يلزم من إثبات ذلك من الباطل الذي تتخيله خفافيش العقول فنحن له منكرون وعن القول به عادلون وبالله التوفيق، قال القدري: كون العبد موجدا لأفعاله وهو الفاعل لها من أجل الضروريات والبديهيات فإن كل عاقل يعلم من نفسه أنه فاعل لما يصدر منه من الأفعال الواقعة على وفق قصده وداعيته بخلاف حركة المرتعش والمجرور على وجهه وهذا لا يتمارى فيه العاقل ولا يقبل التشكيك والقدح في ذلك والاستدلال على خلافه استدلال على بطلان ما علمت صحته بالضرورة فلا يكون مقبولا، قال السني: قد أجابك خصومك من الجبرية عن هذا بأن العاقل يعلم من نفسه وقوع الفعل مقارنا لقدرته

ص: 157

ولا يعلم من نفسه أنه واقع بقدرته والفرق بين الأمرين ظاهر ولو كان وقوعه بقدرته هو المعلوم بالضرورة لما خالف فيه جمع عظيم من العقلاء يستحيل عليهم الإطباق على جحد الضروريات وهذا الجواب مما لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا وهو عبارات لا حاصل تحتها فإن كل عاقل يجد من نفسه وقوع الفعل بقدرته وإراداته وداعيته فإن ذلك هو المؤثر في الفعل ويجد تفرقة ضرورية بين مقارنة القدرة والداعية للفعل ومقارنة طوله ولونه وشمه وغير ذلك من صفاته للفعل ونسبة ذلك كله عند الجبري إلى الفعل نسبة واحدة والله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند القدرة والداعي لا بهما وإنما اقترن الداعي والقدرة بالفعل اقترانا مجردا ومعلوم أن هذا قدح في الضروريات ولا ريب أن من نظر إلى تصرفات العقلاء ومعاملاتهم مع بعضهم بعضا وجدهم يطلبون الفعل من غيرهم طلب عالم بالاضطرار أن المطلوب منه الفعل هو المحصل له فالواقع بقدرته وإرادته ولذلك يتلطفون لوقوع الفعل منه بكل لطيفة ويحتالون عليه بكل حيلة فيعطونه تارة ويزجرونه تارة ويخوفونه تارة ويتوصلون إلى إخراج الفعل منه بأنواع الرغبة والرهبة ويقولون قد فعل فلان كذا فما لك لا تفعل كما فعل وهذا أمر مشاهد بالحس والضرورة فالعقلاء ساكنو لأنفس إلى أن الفعل من العبد يقع وبه يحصل ولو حرك أحدهم أصبعه فشتمت المحرك لها لغضب وشتمك وقال كيف تشتمني ولم يقل لي لم تشتم ربي وهذا أوضح من أن يضرب له المثال أو يبسط فيه المقال وما يعرض في ذلك من الشبه جار مجرى السفسطة وقد فطر الله العقلاء على ذم فاعل الإساءة ومدح فاعل الإحسان وهذا يدل على أنهم مفطورون على العلم بأنه فاعل لأن الذم فرع عليه ويستحيل أن يكون الفرع معلوما باضطرار والأصل ليس كذلك والعقلاء قاطبة يعلمون أن الكاتب مثلا يكتب إذا أراد ويمسك إذا أراد وكذلك الباني والصانع وأنه إذا عجزت قدرته أو عدمت إرادته بطل فعله فإن عادت إليه القدرة والإرادة عاد الفعل وقولك لو كان ذلك أمرا ضروريا لاشترك العقلاء فيه جوابك انه لا يجب الاشتراك في الضروريات فكثير من العقلاء يخالفون كثيرا من الضروريات لدخول شبهة عليهم ولا سيما إذا تواطؤا عليها وتناقلوها كمخالفة الفلاسفة في الإلهيات بيسير من الضروريات وهم جمع كثير من العقلاء وهؤلاء النصارى يقولون ما يعلم فساده بضرورة العقل وهم يناظرون عليه وينصرونه وهؤلاء الرافضة يزعمون أن أبا بكر وعمر لم يؤمنا بالله ورسوله طرفة عين ولم يزالا عدوين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترصدين لقتله وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عليا على رؤوس جميع الصحابة وهم ينظرون إليه جهرة وقال: "هذا وصي وولي العهد من بعدي فكلكم له تسمعون" وأطبقوا على كتمان هذا النص وعصيانه وهؤلاء الجهمية ومن قال بقولهم يقولون ما يخالف صريح العقل من وجود مفعول بلا فعل ومخلوق بلا خلق وهؤلاء الفلاسفة وهم المدلون بعقولهم يثبتون ذواتا قائمة بأنفسهم خارج الذهن ليست في العالم ولا خارجة عن العالم ولا متصلة به ولا منفصلة عنه ولا مباينة له ولا محايثة وهو ما يعلم بصريح العقل فساده وهؤلاء طائفة الاتحادية تزعم أن الله هو هذا الوجود وأن التعدد والتكثير فيه وهم محض وهؤلاء منكرو الأسباب يزعمون أنه لا حرارة في النار تحرق بها ولا رطوبة في الماء يروى بها وليس في الأجسام أصلا لا قوى ولا طبائع ولا في العالم شيء يكون سببا لشيء آخر البتة وإن لم تكن هذه الأمور جحدا للضروريات فليس في العالم من جحد الضروريات وإن كانت جحدا

ص: 158

للضروريات بطل قولكم ان جمعا من العقلاء لايتفقون على ذلك والأقوال التي يجحد بها المتكلمون الضروريات أضعاف أضعاف ماذكرناه فهم أجحد الناس لما يعلم بضرورة العقل وكيف يصح في عقل سليم سميع لا سمع له بصير لا بصر له حي لا حياة له أم كيف يصح عند عقل مرئي يرى بالأبصار عيانا لا فوق الرائي ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه أم كيف يصح عند ذي عقل إثبات كلام قديم أزلي لو كان البحر يمده من بعده سبعة أبحر وجميع أشجار الأرض على اختلافها وكبرها وصغرها أقلام يكتب به لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم يفن ذلك الكلام ومع هذا فهو معنى واحد لا جزء له ولا ينقسم وهو والنهي فيه عين الأمر والنفي فيه عين الإثبات والخبر فيه عين الاستخبار والتوراة فيه عين الإنجيل وعين القرآن وذلك كله أمر واحد إنما يختلف بمسمياته ونسبه وقد أطبق على هذا جمع عظيم من العقلاء وكفروا من خالفهم فيه واستحلوا منهم ما حرمه الله وهؤلاء الجهمية يقولون أن للعالم صانعا قائما بذاته ليس في العالم ولا هو خارج العالم ولا فوق العالم ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يسرته ولا هو مباين له ولا محايث له فوصفوا واجب الوجود بصفة ممتنع الوجود وكفروا من خالفهم في ذلك واستحلوا دمه وقالوا ما يعلم فساده بصريح العقل ولو ذهبنا نذكر ما جحد فيه أكثر الطوائف الضروريات لطال الكتاب جدا وهؤلاء النصارى قد طبقت شرق الأرض وغربها وهم من أعظم الناس جحدا للضروريات وهؤلاء الفلاسفة هم أهل المعقولات وهم من أكثر الناس جحدا للضروريات فاتفاق طائفة من الطوائف على المقالة لا يدل على مخالفتها لصريح العقل وبالله التوفيق.

فصل: قال القدري: قال الله سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وعند الجبري أن الكل فعل الله وليس من العبد شيء، قال الجبري: في الكلام استفهام مقدر تقديره أفمن نفسك فهو إنكار لا إثبات وقرأها بعضهم فمن نفسك بفتح الميم ورفع نفسك أي من أنت حتى تفعلها وقال ولا بد من تأويل الآية وإلا ناقض قوله في الآية التي قبلها: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فأخبر أن الحسنات والسيئات جميعا من عنده لا من عند العبد، قال السني: أخطأتما جميعا في فهم الآية أقبح الخطأ ومنشأ غلطكما إن الحسنات والسيئات في الآية المراد بها الطاعات والمعاصي التي هي فعل العبد الاختياري وهذا وهم محض في الآية وإنما المراد بها النعم والمصائب ولفظ الحسنات والسيئات في كتاب الله يراد به هذا تارة وهذا تارة فقوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} وقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ} وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ} وقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} المراد في هذا كله النعم والمصائب وأما قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا} وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} والمراد به في هذا كله الأعمال المأمور بها والمنهي عنها وهو سبحانه إنما قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت وما كسبت فما يفعله العبد يقال فيه

ص: 159

ما أصبت وكسبت وعملت كقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وكقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} : {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} وقول المذنب التائب يا رسول الله أصبت ذنبا فأقم علي كتاب الله ولا يقال في هذا أصابك ذنب وأصابتك سيئة وما يفعل به بغير اختياره يقال فيه أصابك كقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله: {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} وقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} فجمع الله في الآية بين ما أصابوا بفعلهم وكسبهم وما أصابهم مما ليس فعلا لهم وقوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} وقوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} وقوله: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} هو من هذا القسم الذي يصيبه العبد لا باختياره وهذا إجماع من السلف في تفسير هذه الآية، قال أبو العالية:"وإن تصبكم حسنة هذا في السراء وإن تصبهم سيئة هذ في الضراء"، قال السدي:"الحسنة الخصب تنتج مواشيهم وأنعامهم ويحسن حالهم فتلد نساؤهم الغلمان قالوا هذا من عند الله وإن تصبهم سيئة قال الضر في أموالهم تشاءموا بمحمد وقالوا هذه من عنده قالوا بتركنا ديننا وإتباعنا محمدا أصابنا ما أصابنا فأنزل الله سبحانه ردا عليهم قل كل من عند الله الحسنة والسيئة" وقال الوالبي عن ابن عباس ما أصابك من حسنة فمن الله قال ما فتح الله عليك يوم بدر وقال أيضا هو الغنيمة والفتح والسيئة ما أصابه يوم أحد شج في وجهه وكسرت رباعيته وقال أما الحسنة فأنعم الله بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها وقال أيضا ما أصابك من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم وفي تفسير أبي صالح عن ابن عباس: "إن تصبك حسنة الخصب وإن تصبك سيئة الجدب والبلاء" وقال ابن قتيبة في هذه الآية: "الحسنة النعمة والسيئة البلية" فإن قيل فقد حكى أبو الفرج بن الجوزي عن أبي العالية أنه فسر الحسنة والسيئة في هذه الآية بالطاعة والمعصية وهو من أعلم التابعين فالجواب أنه لم يذكر بذلك إسنادا ولا نعلم صحته عن أبي العالية وقد ذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي العالية ما تقدم حكايته أن ذلك في السراء والضراء وهذا هو المعروف عن أبي العالية ولم يذكر ابن أبي حاتم عنه غيره وهو الذي حكاه ابن قتيبة عنه وقد يقال أن المعنيين جميعا مرادان باعتبار أن ما يوفقه الله من الطاعات فهو نعمة في حقه أصابته من الله كما قال: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} فهذا يدخل فيه نعم الدين والدنيا وما يقع منه من المعصية فهو مصيبة أصابته من الله وإن كان سببها منه والذي يوضح ذلك أن الله سبحانه إذا جعل السيئة هي الجزاء على المعصية من نفس العبد بقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} فالعمل الذي أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه فلا منافاة بين أن تكون سيئة العمل من نفسه وسيئة الجزاء من نفسه ولا ينافي ذلك أن يكون الجميع من الله قضاء وقدرا ولكن هو من الله عدل وحكمة ومصلحة وحسن ومن العبد سيئة وقبيح وقد وري عن ابن عباس أنه كان يقرأها: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وأنا قدرتها عليك وهذه القراءة زيادة بيان وإلا فقد دل قوله قبل ذلك: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} على السابق القضاء والقدر النافذ والمعاصي قد تكون بعضها عقوبة بعض فيكون لله على المعصية عقوبتان عقوبة بمعصية تتولد منها وتكون الأولى سببا فيها وعقوبة بمؤلم يكون جزاؤها كما في الحديث المتفق على صحته عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة

ص: 160

ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الحسنة الأولى وأن المعصية قد تكون عقوبة للمعصية الأولى فالأول كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وأما قوله: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} فيحتمل أن لا يكون من هذا وتكون الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة فإنه رتب هذا الجزاء على قتلهم ويحتمل أن يكون منه ويكون قوله سيهديهم ويصلح بالهم إخبارا منه سبحانه عما يفعله بهؤلاء الذين قتلوا في سبيله قبل أن قتلوا وأتى به بصيغة المستقبل إعلاما منه بأنه يجدد له كل وقت نوعا من أنواع الهداية وإصلاح البال شيئا بعد شيء فإن قلت فكيف يكون ذلك المستقبل خبرا عن الذين قتلوا قلت الخبر قوله: {فلن يضل أعمالهم} أي أنه لا يبطلها عليهم ولا يترهم إياها هذا بعد أن قتلوا ثم أخبر سبحانه خبرا مستأنفا عنهم أنه سيهديهم ويصلح بالهم لما علم أنهم سيقتلون في سبيله وأنهم بذلوا أنفسهم له فلهم جزاآن جزاء في الدنيا بالهداية على الجهاد وجزاء في الآخرة بدخول الجنة فيرد السامع كل جملة إلى وقتها لظهور المعنى وعدم التباسه وهو في القرآن كثير والله أعلم وقال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} وقال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} فضمن التمام معنى الإنعام فعداه بعلى أي أنعاما منا على الذي أحسن وهذا جزاء على الطاعات بالطاعات وأما الجزاء بالمعاصي على المعاصي فكقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} وقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} وهو كثير في القرآن وعلى هذا فيكون النوعان من السيئات أعني المصائب والمعايب من نفس الإنسان وكلاهما بقدر الله فشر النفس هو الذي أوجب هذا وهذا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته المعروفة: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" فشر النفس نوعان صفة وعمل والعمل ينشأ عن الصفة والصفة تتأكد وتقوى بالعمل فكل منهما يمد الآخر وسيئات الأعمال نوعان قد فسرهما الحديث أحدهما مساويها وقبائحها فتكون الإضافة فيه من النوع إلى جنسه وهي إضافة بمعنى من أي السيئات من أعمالنا والثاني أنها ما يسوء العامل مما يعود عليه من عقوبة عمله فيكون من إضافة المسبب إلى سببه وتكون الإضافة على معنى اللام وقد يرجح الأول بأنه يكون قد استعاذ من الصفة والعمل الناشئ عنها وذلك يتضمن الاستعاذة من الجزاء السيئ

ص: 161

المترتب على ذلك فتضمنت الاستعاذة ثلاثة أمور الاستعاذة من العذاب ومن سببه الذي هو العمل ومن سبب العمل الذي هو الصفة وقد يرجح الثاني أن شر النفس يعم النوعين كما تقدم فسيئات الأعمال ما يسوء من جزائها ونبه بقوله: "سيئات أعمالنا" على أن الذي يسوء من الجزاء إنما هو بسبب الأعمال الإرادية لا من الصفات التي ليست من أعمالنا ولما كانت تلك الصفة شرا استعاذ منها وأدخلها في شر النفس وقال الصديق رضي الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "قل اللهم فاطر االسماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوأ أو أجره إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك"، ولما كان الشر له مصدر يبتدي منه وغاية ينتهي إليها وكان مصدرها إما من نفس الإنسان وإما من الشيطان وغايته أن يعود على صاحبه أو على أخيه المسلم تضمن الدعاء هذه المراتب الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأبينه.

فصل: قال السني: فليس لك أيها القدري أن تحتج بالآية التي نحن فيها لمذهبك لوجوه أحدها أنك تقول فعل العبد حسنة كان أو سيئة هو منه لا من الله بل الله سبحانه قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات ولكن هذا أحدث من عند نفسه إرادة فعل بها الحسنات وهذا أحدث إرادة فعل بها السيئات وليست واحدة من الإرادتين من إحداث الرب سبحانه البتة ولا أوجبتها مشيئته والآية قد فرقت بين الحسنة والسيئة وأنتم لا تفرقون بينهما فإن الله عندكم لم يشأ هذا ولا هذا قال القدري: إضافة إلى نفس العبد لكونه هو الذي أحدثها وأوجدها وأضاف الحسنة إليه سبحانه لكونه هو الذي أمر بها وشرعها قال السني: الله سبحانه أضاف إلى العبد ما أصابه من سيئة وأضاف إلى نفسه ما أصاب العبد من حسنة ومعلوم أن الذي أصاب العبد هو الذي قام به والأمر لم يقم بالعبد وإنما قام به المأمور وهو الذي أصابه فالذي أصابه لا تصح إضافته إلى الرب عندكم والمضاف إلى الرب لم يقم بالعبد فعلم أن الذي أصابه من هذا وهذا أمر قائم به فلو كان المراد به الأفعال الاختيارية من الطاعات والمعاصي لاستوت الإضافة ولم يصح الفرق وإن افترقا في كون أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه على أن النهي أيضا من الله كما أن الأمر منه فلو كانت الإضافة لأجل الأمر لاستوى المأمور والمنهي في الإضافة لأن هذا مطلوب إيجاده وهذا مطلوب إعدامه قال القدري: أنا أجوز تعلق الطاعة والمعصية بمشيئة الرب سبحانه وإحداثه على وجه الجزاء لا على سبيل الابتداء وذلك أن الله سبحانه يعاقب عبده بما شاء ويثيبه فكما يعاقبه بخلق الجزاء الذي يسوءه وخلق الثواب الذي يسره ولذلك يحسن أن يعاقبه بخلق المعصية وخلق الطاعة فإن هذا يكون عدلا منه وأما أن يخلق فيه الكفر والمعصية ابتداء بلا سبب فمعاذ الله من ذلك قال السني: هذا توسط حسن جدا لا يأباه العقل ولا الشرع ولكن من ابتدأ الأول وليس هو عندك مقدورا لله ولا واقعا بمشيئته فقد أثبت في ملكه ما لا يقدر عليه وأدخلت فيه ما لا يشاء ونقضت أصلك كله فإنك أصلت أن فعل العبد الاختياري قدرة العبد عليه واختياره له ومشيئته تمنع قدرة الرب عليه ومشيئته له وهذا الأصل لا فرق فيه بين الابتدائي والجزائي قال القدري: فالقرآن قد فرق بين النوعين وجعل الكفر والفسوق الثاني جزاء على الأول فعلم أن الأول من العبد قطعا وإلا لم يستقم

ص: 162

جعل أحدهما عقوبة على الآخر وقد صرح بذلك في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} فأضاف نقض الميثاق إليهم وتقسية القلوب إليه فالأول سبب منهم والثاني جزاء منه سبحانه قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فأضاف عدم الإيمان أولا إليهم إذ هو السبب وتقليب القلوب وتركهم في طغيانهم هو الجزاء ومثله قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} والآيات التي سمعتموها آنفا إنما تدل على هذا قال السني: نعم هذا حق لكن ليس فيه إخراج السبب عن كونه مقدورا للرب سبحانه واقعا بمشيئته ولو شاء لحال بين العبد وبينه ووفقه لضده فهي البقية التي بقيت عليك من القدر كما أن إنكار إثبات الأسباب واقتضائها لمسبباتها وترتبها عليها هي البقية التي بقيت على الجبري في المسألة أيضا وكلاكما مصيب من وجه مخطئ من وجه ولو تخلص كل منكما من البقية التي بقيت عليه لوجدتما روح الوفاق واصطلحتما على الحق وبالله التوفيق قال القدري: فما تقول أنت أيها السني في العقل الأول إذا لم يكن جزاء فما وجهه وأنت ممن يقول بالحكمة والتعليل وتنزه الرب سبحانه عن الظلم الذي هو ظلم لا ما يقوله الجبري أنه الجمع بين النقيضين قال السني: لا يلزمني في هذ االمقام بيان ذلك فإني لم أنتصب له إنما انتصبت لإبطال احتجاجك بالآية لمذهبك الباطل وقد وفيت به ولله في ذلك حكم وغايات محمودة لا تبلغها عقول العقلاء ومباحث الأذكياء فالله سبحانه إنما يضع فضله وتوفيقه وإمداده في المحل الذي يصلح له وما لا يصلح له من المحال يدعه غفلا فارغا من الهدى والتوفيق فيجري مع طبعه الذي خلق عليه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} قال القدري: فإذا كان الله سبحانه قد أحدث فيهم تلك الإرادة والمشيئة المستلزمة لوجود الفعل كان ذلك إيجادا منه سبحانه لذلك فيهم كما أوجد الهدى والإيمان في أهله قال السني هذا معترك النزال وتفرق طرق العالم والله سبحانه أعطى العبد مشيئة وقدرة وإرادة تصلح لهذا ولهذا ثم أمد أهل الفضل بأمور وجودية زائدة على ذلك المشترك أوجب له الهداية والإيمان وأمسك ذلك الإمداد عمن علم أنه لا يصلح له ولا يليق به فانصرفت قوى إرادته ومشيئته إلى ضده اختيارا منه ومحبة لا كرها واضطرارا قال القدري: فهل كان يمكنه إرادة ما لم يعن عليه ولم يوفق له بإمداد زائد على خلق الإرادة قال السني: إن أردت بالإمكان أنه يمكنه فعله لو أراده فنعم هو ممكن بهذا الاعتبار مقدور له وإن أردت به أنه ممكن وقوعه بدون مشيئة الرب وإذنه فليس يمكن فإنه ما شاء الله كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده قال القدري: فقد سلمت حينئذ أنه غير ممكن للعبد إذا لم يشأ الله منه أن يفعله فصار غير مقدور للعبد فقد عوقب على ترك ما لا يقدر على فعله قال السني: عدم إرادة الله سبحانه للعبد ومشيئته أن يفعل لا يوجب كون الفعل غير مقدور له فإنه سبحانه لا يريد من نفسه أن يعينه عليه مع كونه أقدره عليه ولا يلزم من إقداره عليه وقوعه حتى توجد منه إعانة أخرى فانتفاء تلك الإعانة لا يخرج الفعل عن كونه مقدورا للعبد فإنه قد يكون قادرا على الفعل لكن يتركه كسلا وتهاونا وإيثارا لفعل ضده فلا يصرف الله عنه ترك الواقع ولا يوجب عدم صرفه كونه عاجزا عن الفعل فإن الله سبحانه يعلم أنه قادر عليه بالقدرة التي أقدره بها ويعلم أنه لا يريده مع كونه قادرا عليه فهو سبحانه مريد له ومنه الفعل ولا يريد من نفسه إعانته وتوفيقه وقطع هذه الإعانة والتوفيق لا يخرج الفعل عن كونه مقدورا له وإن جعلته غير مراد وسر

ص: 163

المسألة الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد وتعلقها بفعله هو سبحانه بعده فمن لم يحط معرفة بهذا الفرق لم يكشف له حجاب المسألة قال الجبري: أما أن تقول أن الله علم أن العبد لا يفعل أو لم يعلم ذلك والثاني محال وإذا كان قد علم أنه لا يفعله صار الفعل ممتنعا قطعا إذ لو فعله لا نقلب العلم القديم جهلا قال السني: هذه حجة باطلة من وجوه أحدهما أن هذا بعينه يقال فيما علم الله أنه لا يفعله وهو مقدور له فإنه لا ينفع البتة مع كونه مقدورا له فما كان جوابك عن ذلك فهو جوابنا لك وثانيها أن الله سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه فهو يعلم أنه لا يفعله لعدم إرادته له لا لعدم قدرته عليه وثالثها أن العلم كاشف لا موجب وإنما الموجب مشيئة الرب والعلم يكشف حقائق المعلومات، عدنا إلى الكلام على الآية التي احتج بها القدري وبيان أنه لا حجة فيها من ثلاثة أوجه أحدها أنه قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت الثاني أن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والمصيبة الثالث أنه قال:{قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فالإنسان هو فاعل السيئات ويستحق علها العقاب والله هو المنعم عليه بالحسنات عملا وجزاء والعادل فيه بالسيئات قضاء وجزاء ولو كان العمل الصالح من نفس العبد كما كان السيئ من نفسه لكان الأمران كلاهما من نفسه والله سبحانه قد فرق بين النوعين وفي الحديث الصحيح الإلهي: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

فصل: قال الجبري: أول الآية محكم وهو قوله كل من عند الله وآخرها متشابه وهو قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال القدري: آخرها محكم وأولها متشابه قال السني: أخطأتما جميعا بل كلاهما محكم مبين وإنما أتيتما من قلة الفهم في القرآن وتدبره فليس بين اللفظين تناقض لا في المعنى ولا في العبارة فإنه سبحانه وتعالى ذ كر عن هؤلاء الناكلين عن الجهاد أنهم إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه من عندك أي بسبب ما أمرتنا به من دينك وتركنا ما كنا عليه أصابتنا هذه السيئات لأنك أمرتنا بما أوجبها فالسيئات ههنا هي المصائب والأعمال التي ظنوا أنها سبب المصائب هي التي أمروا بها وقولهم في السيئة التي تصيبهم هذه من عندك تتناول مصائب الجهاد التي حصلت لهم من الهزيمة والجراح وقتل من قتل منهم وتتناول مصائب الرزق على وجه التطير والتشاؤم أي أصابنا هذا بسبب دينك كما قال تعالى عن قوم فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} أي إذا جاءهم ما يسرون به ويتنعمون به من النعم قالوا نحن أهل ذلك ومستحقوه وإن أصابهم ما يسوءهم قالوا هذا بسبب ما جاء به موسى وقال أهل القرية للمرسلين إنا تطيرنا بكم وقال قوم صالح له عليه السلام اطيرنا بك وبمن معك وكانوا يقولون لما ينالهم من سبب الحرب هذا منك لأنك أمرتنا بالأعمال الموجبة له وللمصائب الحاصلة من غير جهة العدو وهذا أيضا منك أي بسبب مفارقتنا لديننا ودين آبائنا والدخول في طاعتك وهذه حال كل من جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم سببا لشر أصابه من السماء أو من الأرض وهؤلاء كثير في الناس وهم الأقلون عند الله تعالى قدرا الأرذلون عنده ومعلوم أنهم لم يقولوا هذه من عندك بمعنى أحدثتها ومن فهم هذا يتبين له أن قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} لا يناقض قوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} بل هذا تحقيق له فإنه سبحانه

ص: 164

بين أن النعم والمصائب كلها من عنده فهو الخالق لها المقدر لها المبتلي خلقه بها فهي من عنده ليس بعضها من عنده وبعضها خلقا لغيره فكيف يضاف بعضها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبعضها إلى الله تعالى ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدثها فلم يبق إلا ظنهم أنه سبب لحصولها إما في الجملة كحال أهل التطير وإما في الواقعة المعينة كحال اللائمين له في الجهاد فأبطل الله سبحانه وذلك الوهم الكاذب والظن الباطل وبين أن ما جاء به لا يوجب الشر البتة بل الخير كله فيما جاء صلى الله عليه وسلم به والشر بسبب أعمالهم وذنوبهم كما قال الرسل عليهم السلام لأهل القرية طائركم معكم ولا يناقض هذا قول صالح عليه السلام لقومه: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} وقوله تعالى عن قوم فرعون: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} بل هاتان النسبتان نظير هاتين النسبتين في هذه الآية وهي نسبة السيئة إلى نفس العبد ونسبة الحسنة والسيئة إلى أنهما من عند الله عز وجل فتأمل اتفاق القرآن وتصديق بعضه بعضا فحيث جعل الطائر معهم والسيئة من نفس العبد فهو على وجهة السبب والموجب أي الشر والشؤم الذي أصابكم هو منكم ومهما فإن أسبابه قائمة بكم كما تقول شرك منك وشؤمك فيك يراد به العمل وطائرك معك وحيث جعل ذلك كله من عنده فهو لأنه الخالق له المجازي به عدلا وحكمة فالطائر يراد به العمل وجزاءه فالمضاف إلى العبد العمل والمضاف إلى الرب الجزاء فطائركم معكم طائر العمل وطائركم عند الله الجزاء فما جاءت به الرسل ليس سببا لشيء من المصائب ولا تكون طاعة الله ورسوله سببا لمصيبة قط بل طاعة الله ورسوله لا توجب إلا خيرا في الدنيا والآخرة ولكن قد يصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم وتقصيرهم في طاعة الله ورسوله كما لحقهم يوم أحد ويوم حنين وكذلك ما امتحنوا به من الضراء وأذى الكفار لهم ليس هو بسبب نفس إيمانهم ولا هو موجبه وإنما امتحنوا به ليخلص ما فيهم من الشر فامتحنوا بذلك كما يمتحن الذهب بالنار ليخلص من غشه والنفوس فيها ما هو من مقتضى طبعها فالامتحان يمحص المؤمن من ذلك الذي هو من موجبات طبعه كما قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وقال: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} فطاعة الله ورسوله لا تجلب إلا خيرا ومعصيته لا تجلب إلا شرا ولهذا قال سبحانه: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} فإنهم لو فقهوا الحديث لعلموا أنه ليس في الحديث الذي أنزله الله على رسوله ما يوجب شرا البتة ولعلموا أنه سبب كل خير ولو فقهوا لعلموا أن العقول والفطر تشهد بأن مصالح المعاش والمعاد متعلقة بما جاء به الرسول فلو فقهوا القرآن علموا أنه أمرهم بكل خير ونهاهم عن كل شر وهذا مما يبين أن ما أمر الله به يعلم حسنه بالعقل وأنه كله مصلحة ورحمة ومنفعة وإحسان بخلاف ما يقوله كثير من أهل الكلام الباطل أنه سبحانه يأمر العباد بما لا مصلحة لهم فيه بل يأمرهم بما فيه مضرة لهم وقول هؤلاء تصديق وتقرير لقول المتطيرين بالرسل.

فصل: ومما يوضح الأمر في ذلك أنه سبحانه لما قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} عقب ذلك بقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} وذلك يتضمن أشياء منها تنبيه أمته على أن رسوله الذي شهد له بالرسالة إذا أصابه ما يكره فمن نفسه فما الظن بغيره ومنها أن حجة الله قد قامت عليهم بإرساله فإذا أصابهم سبحانه بما يسوءهم لم يكن ظالما لهم في ذلك لأنه قد أرسل رسوله إليهم يعلمهم بما فيه مصالحهم وما يجلبها لهم وما فيه مضرتهم وما يجلبها لهم

ص: 165

فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ومنها أنه سبحانه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من الآيات الدالة على صدقه وأنه رسوله حقا فلا يضره جحد هؤلاء الجاهلين الظالمين المتطيرين به لرسالته ومن شهد له رب السماوات والأرض ومنها أنهم أرادوا أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتها حجة على إبطال رسالته فشهد له بالرسالة وأخبر أن شهادته كافيه فكان في ضمن ذلك إبطال قولهم أن المصائب من عند الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات أنها من عند أنفسهم بطريق الأولى ومنها إبطال قول الجهمية المجبرة ومن وافقهم في قولهم إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب ومنها إبطال قول القدرية الذين يقولون أن أسباب الحسنات والسيئات ليست من الله بل هي من العبد ومنها ذم من لم يتدبر القرآن ولم يفقهه وإن إعراضه عن تدبره وفقهه يوجب له من الضلال والشقاء بحسب إعراضه ومنها إثبات الأسباب وإبطال قول من ينفيها ولا يرى لها ارتباطا بمسبباتها ومنها أن الخير كله من الله والشر كله من النفس فإن الشر هو الذنوب وعقوبتها والذنوب من النفس وعقوباتها مترتبة عليها والله هو الذي قدر ذلك وقضاه وكل من عنده قضاء وقدرا وإن كانت نفس العبد سببه بخلاف الخير والحسنات فإن سببها مجرد فضل الله ومنه وتوفيقه كما تقدم تقريره ومنها أنه سبحانه لما رد قولهم أن الحسنة من الله والسيئة من رسوله وأبطله بقوله: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} رفع وهم من توهم أن نفسه لا تأثير لها في السيئة ولا هي منها أصلا بقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وخاطبه بهذا تنبيها لغيره كما تقدم ومنها أنه قال في الرد عليهم: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ولم يقل من الله لما جمع بين الحسنات والسيئات والحسنة مضافة إلى الله من كل وجه والسيئة إنما تضاف إليه قضاء وقدرا وخلقا وأنه خالقها كما هو خالق الحسنة فلهذا قال: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهو سبحانه إنما خلقها لحكمة فلا تضاف إليه من جهة كونها سيئة بل من جهة ما تضمنته من الحكمة والعدل والحمد وتضاف إلى النفس كونها سيئة ولما ذكر الحسنة مفردة عن السيئة قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ولم يقل من عند الله فالخير منه وأنه موجب أسمائه وصفاته والشر الذي هو بالنسبة إلى العبد شر من عنده سبحانه فإنه مخلوق له عدلا منه وحكمة ثم قال: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ولم يقل من عندك لأن النفس طبيعتها ومقتضاها ذلك فهو من نفسها والجميع من عند الله فالسيئة من نفس الإنسان بلا ريب والحسنة من الله بلا ريب وكلاهما من عنده سبحانه قضاء وقدرا وخلقا ففرق بين ما من الله وبين ما من عنده والشر لا يضاف إلى الله إرادة ولا محبة ولا فعلا ولا وصفا ولا اسما فإنه لا يريد إلا الخير ولا يحب إلا الخير ولا يفعل شرا ولا يوصف به ولا يسمى باسمه وسنذكر في باب دخول الشر في القضاء الإلهي وجه نسبته إلى قضائه وقدره إن شاء الله.

فصل: وقد اختلف في كاف الخطاب في قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} هل هي لرسول الله أو هي لكل واحد من الآدميين، فقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه:"الحسنة ما فتح الله عليه يوم بدر من الغنيمة والفتح والسيئة ما أصابه يوم أحد أن شج في وجهه وكسرت رباعيته"، وقالت طائفة بل المراد جنس ابن آدم كقوله:{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} روى سعيد عن قتادة: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال عقوبة يا ابن آدم بذنبك

ص: 166

ورجحت طائفة القول الأول، واحتجوا بقوله:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} قالوا وأيضا فإنه لم يتقدم ذكر الإنسان ولا خطابه وإنما تقدم ذكر الطائفة قالوا ما حكاه الله عنهم فلو كانوا هم المرادين لقال ما أصابهم أو ما أصابكم على طريق الالتفات قالوا وهذا من باب السبب لأنه إذا كان سيد ولد آدم وهكذا حكمه فكيف بغيره ورجحت طائفة القول الآخر، واحتجت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم معصوم لا يصدر عنه ما يوجب أن تصيبه به سيئة قالوا والخطاب وإن كان له في الصورة فالمراد به الأمة كقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} قالوا ولما كان أول الآية خطابا له أجرى الخطاب جميعه على وجه واحد فأفرده في الثاني والمراد به الجميع والمعنى وما أصابكم من سيئة فمن أنفسكم فالأول له والثاني لأمته ولهذا لما أفرد إصابة السيئة قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فأخبر أن الهزيمة بذنوبهم وإعجابهم وأن النصر بما أنزله على رسوله وأيده به إذ لم يكن منه من سبب الهزيمة ما كان منه وجمعت طائفة ثالثة بين القولين وقالوا صورة الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد العموم كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} ثم قال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ثم قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وكقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} قالوا وهذا الخطاب نوعان نوع يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الأولى كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ونوع يكون الخطاب له وللأمة فأفرده بالخطاب لكونه هو المواجه بالوحي وهو الأصل فيه والمبلغ للأمة والسفير بينهم وبين الله وهذا معنى قول كثير من المفسرين الخطاب له والمراد غيره ولم يريدوا بذلك أنه لم يخاطب بذلك أصلا ولم يرد به البتة بل المراد أنه لما كان إمام الخلائق ومقدمهم ومتبوعهم أفرد بالخطاب وتبعته الأمة في حكمه كما يقول السلطان لمقدم العساكر أخرج غدا وأنزل بمكان كذا وأحمل على العدو وقت كذا قالوا فقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} خطاب له وجميع الأمة داخلون في ذلك بطريق الأولى بخلاف قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} فإن هذا له خاصة قالوا وهذه الشرطية لا تستلزم الوقوع بل تربط الجزاء بالشرط وأما وقوع الشرط والجزاء فلا يدل عليه فهو مقدر في حقه محقق في غيره والله أعلم، قال القدري: إذا كانت الطاعات والمعاصي مقدرة والنعم والمصائب مقدرة فلم فرق سبحانه بين الحسنات التي هي النعم والسيئات التي هي المصائب فجعل هذه منه سبحانه وهذه من نفس الإنسان والجميع مقدر، قال السني: بينهما فروق الفرق الأول أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع بلا كسب منهم أصلا بل الرب سبحانه ينعم عليهم بالعافية والرزق والنصر وإرسال الرسل وإنزال الكتب وأسباب الهداية فيفعل ذلك من لم يكن منه سبب يقتضيه وينشئ للجنة خلقا يسكنهم إياها بغير سبب منهم ويدخل أطفال المؤمنين ومجانينهم الجنة بلا عمل وأما العقاب فلا يعاقب أحدا إلا بعمله، الفرق الثاني أن عمل الحسنات من إحسان الله

ص: 167

ومنه وتفضله عليه بالهداية والإيمان كما قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} فخلق الرب سبحانه لهم الحياة والسمع والبصر والعقول والأفئدة وإرسال الرسل وتبليغهم البلاغ الذي اهتدوا به وإلهامهم الإيمان وتحبيبه إليهم وتزيينه في قلوبهم وتكريه ضده إليهم كل ذلك من نعمه كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فجميع ما يتقلب فيه العالم من خير الدنيا والآخرة هو نعمة محضة بلا سبب سابق يوجب ذلك لهم ومن غير حول وقوة منهم إلا به وهو خالقهم وخالق أعمالهم الصالحة وخالق جزائها وهذا كله منه سبحانه بخلاف الشر فإنه لا يكون إلا بذنوب العبد وذنبه من نفسه وإذا تدبر العبد هذا علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله فشكر ربه على ذلك فزاده من فضله عملا صالحا ونعما يفيضها عليه وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه وبذنوبه استغفر ربه وتاب فزال عنه سبب الشر فيكون دائما شاكرا مستغفرا فلا يزال الخير يتضاعف له والشر يندفع عنه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته الحمد لله فيشكر الله ثم يقول نستعينه ونستغفره نستعينه على طاعته ونستغفره من معصيته ونحمده على فعله وإحسانه ثم قال ونعوذ بالله من شرور أنفسنا لما استغفره من الذنوب الماضية استعاذ به من الذنوب التي لم تقع بعد ثم قال ومن سيئات أعمالنا فهذه استعاذة من عقوبتها كما تقدم ثم قال من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له فهذه شهادة للرب بأنه المتصرف في خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء فإذا هدى عبدا لم يضله أحد وإذا أضله لم يهده أحد وفي ذلك إثبات ربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وقضائه وقدره الذي هو عقد نظام التوحيد وأساسه وكل هذا مقدمة بين يدي قوله وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فإن الشهادتين إنما تتحققان بحمد الله واستعانته واستغفاره واللجأ إليه والإيمان بأقداره والمقصود أنه سبحانه فرق بين الحسنات والسيئات بعد أن جمع بينهما في قوله كل من عند الله فجمع بينهما الجمع الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو اجتماعهما في قضائه وقدره ومشيئته وخلقه ثم فرق بينهما الفرق الذي ينتفعون به وهو أن هذا الخير والحسنة نعمة منه فاشكروه عليه يزدكم من فضله ونعمه وهذا الشر والسيئة بذنوبكم فاستغفروه يرفعه عنكم وأصله من شرور أنفسكم فاستعيذوا به يخلصكم منها ولا يتم ذلك إلا بالإيمان بالله وحده وهو الذي يهدي ويضل وهو الإيمان بالقدر فادخلوا عليه من بابه فإن أزمة الأمور بيده فإذا فعلتم ذلك صدق منكم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهذه الخطبة العظيمة عقد نظام الإسلام والإيمان فلو اقتصر لهم على الجمع دون الفرق أعرض العاصي والمذنب عن ذم نفسه والتوبة من ذنوبه والاستعاذة من شرها وقام في قلبه شاهد الاحتجاج على ربه بالقدر وتلك حجة داحضة تبع الأشقياء فيها إبليس وهي لا تزيد صاحبها إلا شقاء وعذابا كما زادت إبليس طردا وبعدا عن ربه وكما زادت المشركين ضلالا وشقاء حين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا وكما تزيد الذي يقول يوم القيامة لو أن الله هداني لكنت من المتقين حسرة وعذابا ولو اقتصر لهم على الفرق دون الجمع لغابوا به في التوحيد والإيمان بالقدر واللجأ إلى الله في الهداية والتوفيق والاستعاذة به من شر النفس وسيئات العمل والافتقار التام إلى إعانته وفضله وكان في الجمع والفرق

ص: 168

بيان حق العبودية وسيأتي تمام هذا الكلام على هذا الموضع العظيم القدر إن شاء الله بإثبات اجتماع القدر والشرع وافتراقهما، الفرق الثالث أن الحسنة يضاعفها الله سبحانه وينميها ويكتبها للعبد بأدنى سعي ويثيب على الهم بها والسيئة لا يؤاخذ على الهم بها ولا يضاعفها ويبطلها بالتوبة والحسنة الماحية والمصائب المكفرة فكانت الحسنة أولى بالإضافة إليه تعالى والسيئة أولى بالإضافة إلى النفس، الفرق الرابع أن الحسنة التي هي الطاعة والنعمة يحبها ويرضاها فهو سبحانه يحب أن يطاع ويحب أن ينعم ويحسن ويجود وإن قدر المعصية وأراد المنع فالطاعة أحب إليه والبذل والعطاء آثر عنده فكان إضافة نوعي الحسنة له وإضافة نوعي السيئة إلى النفس أولى ولهذا تأدب العارفون من عباده بهذا الأدب فأضافوا إليه النعم والخيرات وأضافوا الشرور إلى محلها كما قال إمام الحنفاء:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه، وقال الخضر:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} ثم قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} ، وقال مؤمنو الجن:{وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} ، الفرق الخامس أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها من كل وجه وبكل اعتبار كما تقدم فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه وأما السيئة فهو سبحانه إنما قدرها وقضاها لحكمته وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه فإن الرب سبحانه لا يفعل سوأ قط كما لا يوصف به ولا يسمى باسمه بل فعله كله حسن وخير وحكمة كما قال تعالى بيده الخير وقال أعرف الخلق به:"والشر ليس إليك" فهو لا يخلق شرا محضا من كل وجه بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة وحكمة وإن كان في بعضه شر جزئي إضافي وأما الشر الكلي المطلق من كل وجه فهو تعالى منزه عنه وليس إليه، الفرق السادس أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التي يعملها فهي أمور وجودية متعلقة بمشيئة الرب وقدره ورحمته وحكمته وليست أمورا عدمية تضاف إلى غير الله بل هي كلها أمور وجودية وكل موجود حادث والله محدثه وخالقه وذلك أن الحسنات إما فعل مأمور أو ترك محظور والترك أمر وجودي فترك الإنسان لما نهى عنه ومعرفته بأنه ذنب قبيح وبأنه سبب العذاب فبغضه له وكراهته له ومنع نفسه إذا هويته وطلبته منه أمور وجودية كما أن معرفته بالحسنات كالعدل والصدق حسنة وفعله لها أمر وجودي والإنسان إنما يثاب على ترك السيئات إذا تركها على وجه الكراهة لها والامتناع عنها وكف للنفس عنها قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} وقال: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم:"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" وقد جعل صلى الله عليه وسلم البغض في الله من أوثق عرى الإيمان وهو أصل الترك وجعل المنع لله من كمال الإيمان وهو أصل الترك فقال: "من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" وقال: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" وجعل إنكار المنكر بالقلب من مراتب الإيمان

ص: 169

وهو بغضه وكراهته المستلزم لتركه فلم يكن الترك من الإيمان إلا بهذه الكراهة والبغض والامتناع والمنع لله وكذلك براءة الخليل وقومه من المشركين ومعبودهم ليست تركا محضا بل تركا صادرا عن بغض ومعاداة وكراهة هي أمور وجودية هي عبودية للقلب يترتب عليها خلو الجوارح من العمل كما أن التصديق والإرادة والمحبة للطاعة من عبودية القلب يترتب عليها آثارها في الجوارح وهذا الحب والبغض تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وهو إثبات تأله القلب لله ومحبته ونفي تألهه لغيره وكراهته فلا يكفي أن يعبد الله ويحبه ويتوكل عليه وينيب إليه ويخافه ويرجوه حتى يترك عبادة غيره والتوكل عليه والإنابة إليه وخوفه ورجاه ويبغض ذلك وهذه كلها أمور وجودية وهي الحسنات التي يثيب الله عليها وأما مجرد عدم السيئات من غير أن يعرف أنها سيئة ولا يكرهها بقلبه ويكف نفسه عنها بل يكون تركها لعدم خطورها بقلبه ولا يثاب على هذا الترك فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والنائم لكن قد يثاب على اعتقاد تحريمها وإن لم يكن له إليها داعية البتة فالترك ثلاثة أقسام قسم يثاب عليه وقسم يعاقب عليه وقسم لا يثاب ولا يعاقب عليه فالأول ترك العالم بتحريمها الكاف نفسه عنها لله مع قدرته عليها والثاني كترك من يتركها لغير الله لا لله فهذا يعاقب على تركه لغير الله كما يعاقب على فعله لغير الله فإن ذلك الترك والامتناع فعل من أفعال القلب فإذا عبد به غير الله استحق العقوبة، والثالث كترك من لم يخطر على قلبه علما ولا محبة ولا كراهة بل بمنزلة ترك النائم والطفل، فإن قيل كيف يعاقب على ترك المعصية حياء من الخلق وإبقاء على جاهه بينهم وخوفا منهم أن يتسلطوا عليه والله سبحانه لا يذم على ذلك ولا يمنع منه، قيل لا ريب أنه لا يعاقب على ذلك وإنما يعاقب على تقربه إلى الناس بالترك ومرآتهم به وأنه تركها خوفا من الله ومراقبة وهو في الباطن بخلاف ذلك فالفرق بين ترك يتقرب به إليهم ومرآتهم به وترك يكون مصدره الحياء منهم وخوف أذاهم له وسقوطه من أعينهم فهذا لا يعاقب عليه بل قد يثاب عليه إذا كان له فيه غرض يحبه الله من حفظ مقام الدعوة إلى الله وقبولهم منه ونحو ذلك وقد تنازع الناس في الترك هل هو أمر وجودي أم عدمي والأكثرون على أنه وجودي، وقال أبو هاشم وأتباعه هو عدمي وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل لا على ترك يقوم بقلبه وهؤلاء رتبوا الذم والعقاب على العدم المحض والأكثرون يقولون إنما يثاب من ترك المحظور على ترك وجودي يقوم بنفسه ويعاقب تارك المأمور على ترك وجودي يقوم بنفسه وهو امتناعه وكفه نفسه عن فعل ما أمر به إذا تبين هذا فالحسنات التي يثاب عليها كلها وجودية فهو سبحانه الذي حبب الإيمان والطاعة إلى العبد وزينه في قلبه وكره إليه أضدادها وأما السيئات فمنشأها من الجهل والظلم فإن العبد لا يفعل القبيح إلا لعدم علمه بكونه قبيحا أو لهواه وشهوته مع علمه بقبحه فالأول جهل والثاني ظلم ولا يترك حسنة إلا لجهله بكونها حسنة أو لرغبته في ضدها لموافقته هواه وغرضه وفي الحقيقة فالسيئات كلها ترجع إلى الجهل وإلا فلو كان علمه تاما برجحان ضررها لم يفعلها فإن هذا خاصة الفعل فإنه إذا علم أن إلقاءه من مكان عال يضره لم يقدم عليه وكذلك لبثه تحت حائط مائل وإلقاءه نفسه في ماء يغرق فيه وأكله طعاما مسموما ولا يفعله لعلمه التام بمضرته الراجحة بل هذه فطرة فطر الله عليها الحيوان بهيمة وناطقة ومن لم يعلم أن ذلك يضره كالطفل والمجنون والسكران الذي انتهى سكره فقد يفعله وأما من أقدم على ما يضره مع علمه

ص: 170

بما فيه من الضرر فلا بد أن يقوم بقلبه أن منفعته له راجحة ولا بد من رجحان المنفعة عنده إما في الظن وإما في المظنون ولو جزم راكب البحر بأنه يغرق ويذهب ماله لم يركب أبدا بل لا بد من رجحان الانتفاع في ظنه وإن أخطأ في ذلك وكذلك الذنوب والمعاصي فلو جزم السارق بأنه يؤخذ ويقطع لم يقدم على السرقة بل يظن أنه يسلم ويظفر بالمال وكذلك القاتل والشارب والزاني فلو جزم طالب الذنب بأنه يحصل له الضرر الراجح لم يفعله بل إما أن لا يكون جازما بتحريمه أو لا يجزم بعقوبته بل يرجو العفو والمغفرة وأن يتوب ويأتي بحسنات تمحو أثره وقد يغفل عن هذا كله بقوة وإرادة الشهوة واستيلاء سلطانها على قلبه بحيث تغيبه عن مطالعة مضرة الذنب والغفلة من أضداد العلم كالغفلة والشهوة أصل الشر كله قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} وينبغي أن يعلم أن الهوى وحده لا يستقل بفساد السيئات إلا مع الجهل وإلا فصاحب الهوى لو جزم بأن ارتكاب هواه يضره ولا بد ضررا راجحا لانصرفت نفسه عن طاعته له بالطبع فإن الله سبحانه جعل في النفس حبا لما ينفعها وبغضا لما يضرها فلا تفعل مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا ولهذا يوصف تارك ذلك بالعقل والحجى واللب فالبلاء مركب من تزيين الشيطان وجهل النفس فإنه يزين لها السيئات ويريها أنها في صور المنافع واللذات والطيبات ويغفلها عن مطالعتها لمضرتها فتولد من بين هذا التزيين وهذا الإغفال والإنساء لها إرادة وشهوة ثم يمدها بأنواع التزيين فلا يزال يقوى حتى يصير عزما جازما يقترن به الفعل كما زين للأبوين الأكل من الشجرة وأغفلهما عن مطالعة مضرة المعصية فالتزيين هو سبب إيثار الخير والشر كما قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} وقال في تزيين الخير: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقال في تزيين النوعين: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وتزيين الخير والهدى بواسطة الملائكة والمؤمنين وتزيين الشر والضلال بواسطة الشياطين من الجن والإنس كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} وحقيقة الأمر أن التزيين إنما يغتر به الجاهل لأنه يلبس له الباطل والضار المؤذي صورة الحق والنافع الملائم فأصل البلاء كله من الجهل وعدم العلم ولهذا قال الصحابة كل من عصى الله فهو جاهل وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} وقال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال أبو العالية: "سألت أصحاب محمد عن قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب" وقال قتادة: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو لم يكن وكل من عصى الله فهو جاهل" وقال مجاهد: "من شيخ أو شاب فهو بجهالة" وقال: "من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن خطيئته" وقال هو وعطاء: "الجهالة العمد" وقال مجاهد: "من عمل سوأ خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع منه" ذكر هذه الآثار ابن أبي حاتم ثم قال وروي عن قتادة وعمرو بن مرة والثوري نحو ذلك خطأ أو عمدا وروي عن مجاهد والضحاك: "ليس من جهالته أن لا يعلم حلالا ولا

ص: 171

حراما ولكن من جهالته حين دخل فيه" وقال عكرمة: "الدماء كلها جهالة ومما يبين ذلك قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وكل من خشيه فأطاعه بفعل أوامره وترك نواهيه فهو عالم كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} " وقال رجل للشعبي: أيها العالم فقال: "لسنا بعلماء إنما العالم من يخشى الله" وقال ابن مسعود: "وكفى بخشية الله علما وبالاغترار بالله جهلا" وقوله إنما يخشى الله من عباده العلماء يقتضي الحصر من الطرفين أن لا يخشاه إلا العلماء ولا يكون عالما إلا من يخشاه فلا يخشاه إلا عالم وما من عالم إلا وهو يخشاه فإذا انتفى العلم انتفت الخشية وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم لكن وقع الغلط في مسمى العلم اللازم للخشية حيث يظن أنه يحصل بدونها وهذا ممتنع فإنه ليس في الطبيعة أن لا يخشى النار والأسد والعدو من هو عالم بها مواجه لها وأنه لا يخشى الموت من ألقى نفسه من شاهق ونحو ذلك فأمنه في هذه المواطن دليل عدم علمه وأحسن أحواله أن يكون معه ظن لا يصل إلى رتبة العلم اليقيني فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بمعصية إبليس فإنها كانت عن علم لا عن جهل وبقوله:: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقال:: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} وقال عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقال: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} وقال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} يعني القرآن أو محمدا صلى الله عليه وسلم وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} والجحود إنكار الحق بعد معرفته وهذا كثير في القرآن قيل حجج الله لا تتناقص بل كلها حق يصدق بعضها بعضا وإذا كان سبحانه قد أثبت الجهالة لمن عمل السوء وقد أقر به وبرسالته وبأنه حرم ذلك وتوعد عليه بالعقاب ومع ذلك يحكم عليه بالجهالة التي لأجلها عمل السوء فكيف بمن أشرك به وكفر بآياته وعادى رسله أليس ذلك أجهل الجاهلين وقد سمى تعالى أعداءه جاهلين بعد إقامة الحجة عليهم فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فأمره بالإعراض عنهم بعد أن أقام عليهم الحجة وعلموا أنه صادق وقال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} فالجاهلون هم الكفار الذين علموا أنه رسول الله فها العلم لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل بل يثبت له العلم وينافي عنه في موضع واحد كما قال تعالى عن السحرة من اليهود: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فأثبت لهم العلم الذي تقوم به عليهم الحجة ونفى عنهم العلم النافع الموجب لترك الضار وهذا نكتة المسألة وسر الجواب فما دخل النار إلا عالم ولا دخلها إلا جاهل وهذا العلم لا يجتمع مع الجهل في الرجل الواحد يوضحه أن الهوى والغفلة والإعراض تصد عن كماله واستحضاره ومعرفة موجبه على التفصيل وتقيم لصاحبه شبها وتأويلات تعارضه فلا يزال المقتضى يضعف والعارض يعمل عمله حتى كأنه لم يكن ويصير صاحبه بمنزلة الجاهل من كل وجه فلو علم إبليس أن تركه للسجود لآدم يبلغ به ما بلغ وأنه يوجب له أعظم العقوبة وتيقن ذلك لم يتركه ولكن حال الله بينه وبين هذا العلم ليقضي أمره

ص: 172

وينفذ قضائه وقدره ولو ظن آدم وحواء أنهما إذا أكلا من الشجرة خرجا من الجنة وجرى عليهما ما جرى ما قرباها ولو علم أعداء الرسل تفاصيل ما يجري عليهم وما يصيبهم يوم القيامة وجزموا بذلك لما عادوهم قال تعالى عن قوم فرعون: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} وقال: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} وقال عن المنافقين وقد شاهدوا آيات الرسول وبراهين صدقه عيانا: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وقال: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وهو الشك ولو كان هذا لعدم العلم الذي تقوم به الحجة عليهم لما كانوا في الدرك الأسفل من النار بل هذا بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم الذي لم ينفعهم فالعلم يضعف قطعا بالغفلة والإعراض واتّباع الهوى وإيثار الشهوات وهذه الأمور توجب شبهات وتأويلات تضاده فتأمل هذا الموضع حق تأمل فإنه من أسرار القدر والشرع والعدل فالعلم يراد به العلم التام المستلزم لأثره ويراد به المقتضى وإن لم يتم بوجود شروطه وانتقاء موانعه فالثاني يجامع الجهل دون الأول فتبين أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم وإن كان كذلك فعدم العلم ليس أمرا وجوديا بل هو لعدم السمع والبصر والقدرة والإرادة والعدم ليس شيئا حتى يستدعي فاعلا مؤثرا فيه بل يكفي فيه عدم مشيئة ضده وعدم السبب الموجب لضده والعدم المحض لا يضاف إلى الله فإنه شر والشر ليس إليه فإذا انتفى هذا الجازم عن العبد ونفسه بطبعها متحركة مريدة وذلك من لوازم شأنها تحركت بمقتضى الطبع والشهوة وغلب ذلك فيها على داعي العلم والمعرفة فوقعت في أسباب الشر ولا بد.

فصل: والله سبحانه قد أنعم على عباده من جملة إحسانه ونعمه بأمرين هما أصل السعادة أحدهما: أن خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة فكل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وشبه ذلك بخروج البهيمة صحيحة سالمة حتى يجدعها صاحبها وثبت عنه أنه قال: "يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" فإذا تركت النفس وفطرتها لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئا ولم تشرك به ولم تجحد كمال ربوبيته وكان أحب شيء إليها وأطوع شيء لها وآثر شيء عندها ولكن يعدها من يقترن بها من شياطين الجن والإنس بتزيينه وإغوائه حتى ينغمس موجبها وحكمها الأمر الثاني أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة بما أودعه فيهم من المعرفة ومكنهم من أسبابها وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل وعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه ففي كل نفس ما يقتضي معرفتها بالحق ومحبتها له وقد هدى الله كل عبد إلى أنواع من العلم يمكنه التوصل بها إلى سعادة الآخرة وجعل في فطرته محبة لذلك لكن قد يعرض العبد عن طلب علم ما ينفعه فلا يريده ولا يعرفه وكونه لا يريد ذلك ولا يعرفه أمر عدمي فلا يضاف إلى الرب لا هذا ولا هذا فإنه من هذه الحيثية شر والذي يضاف إلى الرب علمه به وقضاؤه له بعدم مشيئته لضده وإبقائه على العدم الأصلي وهو من هذه الجهة خير فإن العلم بالشر خير من الجهل به وعدم رفعه بإثبات ضده إذا كان مقتضى الحكمة كان خيرا وإن كان شرا بالنسبة إلى محله وسيأتي تمام تقرير هذا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي إن شاء الله سبحانه.

فصل: وههنا حياة أخرى غير الحياة الطبيعية الحيوانية نسبتها إلى القلب كنسبة حياة

ص: 173

البدن إليه فإذا أمد عبده بتلك الحياة أثمرت له من محبته وإجلاله وتعظيمه والحياء منه ومراقبته وطاعته مثل ما تثمر حياة البدن له من التصرف والفعل وسعادة النفس ونجاتها وفلاحها بهذه الحياة وهي حياة دائمة سرمدية لا تنقطع ومتى فقدت هذه الحياة واعتاضت عنها بحياتها الطبيعية الحيوانية كانت ضالة معذبة شقية ولم تسترح راحة الأموات ولم تعش عيش الأحياء كما قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} فإن الجزاء من جنس العمل فإنه في الدنيا لما لم يحي الحياة النافعة الحقيقية التي خلق لها بل كانت حياته من جنس حياة البهائم ولم يكن ميتا عديم الإحساس كانت حياته في الآخرة كذلك فإن مقصود الحياة حصول ما ينتفع به ويلتذ به والحي لا بد له من لذة أو ألم فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة تحول بينه وبين التنعم بما يتنعم به الأصحاء فهو يختار الموت ويتمناه ولا يحصل له فلا هو مع الأحياء ولا مع الأموات إذا عرف هذا فالشر من لوازم هذه الحياة وعدمها شر وهو ليس بشيء حتى يكون مخلوقا والله خالق كل شيء فإذا أمسك عن عبد هذه الحياة كان إمساكها خيرا بالنسبة إليه سبحانه وإن كان شرا بالإضافة إلى العبد لفوات ما يلتذ ويتنعم به فالسيئات من طبيعة النفس ولم يمد بهذه الحياة التي تحول بينها وبينها فصار الشر كله من النفس والخير كله من الله والجميع بقضائه وقدره وحكمته وبالله التوفيق.

فصل: قال القدري: ونحن نعرف بهذا جميعه ونقر بأن الله خلق الإنسان مريدا ولكن جعله على خلقة يريد بها وهو مريد بالقوة والقبول أي خلقه قابلا لأن يريد هذا وهذا وأما كونه مريدا لهذا المعنى فليس ذلك بخلق الله ولكنه هو الذي أحدثه بنفسه ليس هو من إحداث الله قال الجبري: هذه الإرادة حادثة فلا بد لها من محدث فالمحدث لها إما أن يكون نفس الإنسان أو مخلوق خارج عنها أو ربها وفاطرها وخالقها والقسمان الأولان محال فتعين الثالث أما المقدمة الأولى فظاهرة إذ المحدث إما النفس وإما أمر خارج عنها والخارج عنها إما الخالق أو المخلوق وأما المقدمة الثانية فبيانها أن النفس لا يصح أن تكون هي المحدثة لإرادتها فإنها إما أن تحدثها بإرادة أو بغير إرادة وكلاهما ممتنع فإنها لو توقف إحداثها على إرادة أخرى فالكلام فيها كالكلام في الأولى ويلزم التسلسل إلى غير نهاية فلا توجد إرادة حتى يتقدمها إرادات لا تتناهى وإن لم يتوقف إحداثها على إرادة منها بطل أن تكون هي المؤثرة في إحداثها إذ وقوع الحادث بلا إرادة من الفاعل المختار محال وإذا بطل أن تكون محدثة للإرادة بإدارة وأن يحدثها بغير إرادة تعين أن يكون المحدث لتلك الإرادة أمرا خارجا عنها فحينئذ إما أن يكون مخلوقا أو يكون هو الخالق سبحانه والأول محال لأن ذلك المحدث إن كان غير مريد لم يمكنه جعل الإنسان مريدا وإن كان مريدا فالكلام في إرادته كالكلام في إرادة الإنسان سواء فتعين أن يكون المحدث لتلك الإرادة هو الخالق لكل شيء الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن قال القدري: قد اختلفت طرق أصحابنا في الجواب عن هذا الإلزام فقال الجاحظ: العبد يحدث أفعاله بغير إرادة منه بل مجرد قدرته وعلمه بما في الفعل من الملائمة فإذا علم موافقة الفعل له وهو قادر عليه أحدثه بقدرته وعلمه وأنكر توقفه على إرادة محدثه وأنكر حقيقة الإرادة في الشاهد ولم ينكر الميل والشهوة ولكن لا يتوقف إحداث عليها فإن الإنسان قد يفعل ما لا يشتهيه ولا يميل إليه وخالفه جميع

ص: 174

الأصحاب وأثبتوا الإرادة الحادثة ثم اختلفوا في سبب حدوثها فقال طائفة منهم كون النفس مريدة أمر ذاتي لها وما بالذات لا يعلل ولا يطلب سبب وجوده وطريقة التعليل تسلك ما لم يمنع منها مانع واختصاص الذات بالصفة الذاتية لا تعلل فهكذا اختصاص النفس بكونها مريدة هو أمر ذاتي لها وبذلك كانت نفسا فقول القائل لم أردت كذا وما الذي أوجب لها إرادته كقوله لم كانت نفسا وكقوله لم كانت النار محرقة أو متحركة ولم كان الماء مائعا سيالا ولم كان الهواء خفيفا فكون النفس مريدة متحركة بالإرادة هو معنى كونها نفسا فهو بمنزلة قول القائل لم كانت نفسا وحركتها بمنزلة حركة الفلك فهي خلقت هكذا وقالت طائفة أخرى بل الله سبحانه أحدث فيها الإرادة والإرادة صالحة للضدين فخلق فيها إرادة تصلح للخير فآثرت أحدهما على ألآخر بشهوتها وميلها فأعطاها قدرة صالحة للضدين وإرادة صالحة لها فكانت القدرة والإرادة من إحداثه سبحانه واختيارها أحد المقدورين المرادين من قبلها فهي التي رجحته قالوا والقادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بغير مرجح كالعطشان إذا قدم له قدحان متساويان من كل وجه والهارب إذا عن له طريقان كذلك فإنه يرجح أحدهما بلا مرجح فالله سبحانه أحدث فيه إرادة الفعل ولكن الإرادة لا توجب المراد فأحدثها فيه امتحانا له وابتلاء وأقدره على خلافها وأمره بمخالفتها ولا ريب أنه قادر على مخالفتها فلا يلزم من كونها مخلوقة لله حاصلة بإحداثه وجوب الفعل عندها وقال أبو الحسين البصري: "إن الفعل يتوقف على الداعي والقدرة وهما من الله خلقا فيه وعندهما يجب وجود الفعل باختيار العبد وداعيه فيكون هو المحدث له بما فيه من الدواعي والقدرة" فهذه طرق أصحابنا في الجواب عما ذكرتم قال السني: لم تتخلصوا بذلك من الإلزام ولم تبينوا به بطلان حجتهم المذكورة فلا منعتم مقدماتها وبينتم فسادها ولا عارضتموها بما هو أقوى منها كما أنهم لم يتخلصوا من إلزامكم ولم يبينوا بطلان دليلكم وكان غاية ما عندكم وعندهم المعارضة وبيان كل منكم تناقض الآخر وهذا لا يفيد نصرة الحق وإبطال الباطل بل يفيد بيان خطأكم وخطأهم وعدولكم وإياهم عن منهج الصواب فنقول وبالله التوفيق مع كل منكما صواب من وجه وخطأ من وجه فأما صواب الجبري فمن جهة إسناده الحوادث كلها إلى مشيئة الله وخلقه وقضائه وقدره والقدري خالف الضرورة في ذلك فإن كون العبد مريدا فاعلا بعد أن لم يكن أمر حادث فأما أن يكون له محدث وأما أن لا يكون فإن لم يكن له محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وإن كان له محدث فأما أن يكون هو العبد أو الله سبحانه أو غيرهما فإن كان هو العبد فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداث سببها ويلزم التسلسل وهو باطل ههنا بالاتفاق لأن العبد كائن بعد أن لم يكن فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أول لها وإن كان غير الله فالقول فيه كالقول في العبد فتعين أن يكون الله هو الخالق المكون لإرادة العبد وقدرته وإحداثه وفعله وهذه مقدمات يقينية لا يمكن القدح فيها فمن قال إن إرادة العبد وإحداثه حصل بغير سبب اقتضى حدوث ذلك والعبد أحدث ذلك وحاله عند إحداثه كما كان قبله بل خص أحد الوقتين بالإحداث من غير سبب اقتضى تخصيصه وأنه صار مريدا فاعلا محدثا بعد أن لم يكن كذلك من غير من جعله كذلك فقد قال ما لا يعقل بل يخالف صريح العقل وقال بحدوث حوادث بلا محدث وقولكم أن الإرادة لا تعلل كلام باطل لا حقيقة له فإن الإرادة أمر حادث فلا بد له من محدث ونظير هذا المحال قولكم في فعل الرب سبحانه أنه بواسطة إرادة يحدثها

ص: 175

لا في محل من غير سبب اقتضى حدوثها يكون مريدا بها للمخلوقات فارتكبتم ثلاث محالات حدوث حادث بلا إرادة من الفاعل وحدوث حادث بلا سبب حادث وقيام الصفة بنفسها لا في محل وادعيتم مع ذلك أنكم أرباب العقول والنظر فأي معقول أفسد من هذا وأي نظر أعمى منه وإن شئت قلت كون العبد مريدا أمر ممكن والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح تام والمرجح التام إما من العبد وإما من مخلوق آخر وأما من الله سبحانه والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث كما تقدم فهذه الحجة لا يمكن دفعها ولا يمكن دفع العلم الضروري باستناد أفعالنا الاختيارية إلى إرادتنا وقدرتنا وإنا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس فهذه الحجة لا يمكن دفعها والجمع بين الحجتين هو الحق فإن الله سبحانه خالق إرادة العبد وقدرته وجاعلهما سببا لإحداثه الفعل فالعبد محدث لفعله بإرادته واختياره وقدرته حقيقة وخالق السبب خالق للمسبب ولو لم يشأ سبحانه وجود فعله لما خلق له السبب الموجد له فقال الفريقان للسني كيف يكون الرب تعالى محدثا لها والعبد أيضا، قال السني: إحداث الله سبحانه لها بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه قائمة بمحلها وهو العبد فجعل العبد فاعلا لها بما أحدث فيه من القدرة والمشيئة وإحداث العبد لها بمعنى أنها قامت به وحدثت بإرادته وقدرته وكل من الإحداثين مستلزم للآخر ولكن جهة الإضافة مختلفة فما أحدثه الرب سبحانه من ذلك فهو مباين له قائم بالمخلوق مفعول له لا فعل وما أحدثه العبد فهو فعل له قائم به يعود إليه حكمه ويشتق له منه اسمه وقد أضاف الله سبحانه كثيرا من الحوادث إليه وأضافها إلى بعض مخلوقاته كقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} ، وقال:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وقال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقال وأنزل الله عليك الكتاب وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وقال: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} وقال: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} وهذا كثير فأضاف هذه الأفعال إلى نفسه إذ هي واقعة بخلقه ومشيئته وقضائه وأضافها إلى أسبابها إذ هو الذي جعلها أسبابا لحصولها بين الإضافتين ولا تناقض بين السببين وإذا كان كذلك تبين أن إضافة الفعل الاختياري إلى الحيوان بطريق التسبب وقيامه به ووقوعه بإرادته لا ينافي إضافته إلى الرب سبحانه خلقا ومشيئة وقدرا ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وقال لنوح: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} فالرب سبحانه هو الذي حملهم فيها بإذنه وأمره ومشيئته ونوح حملهم بفعله ومباشرته.

فصل: وأما قول الجاحظ أن العبد يحدث أفعاله الاختيارية من غير إرادة منه بل بمجرد القدرة والداعي فإن أراد نفي إرادة العبد وجحد هذه الصفة عنه فمكابرة لا تنكر من طوائف هم أكثر الناس مكابرة وجحدا للمعلوم بالضرورة فلا أرخص من ذلك عندهم وأن أراد أن الإرادة أمر عدمي وهو كونه غير مغلوب ولا ملجأ فيقال هذا العدم من لوازم الإرادة لا أنه نفسها وكون الإرادة أمرا عدميا مكابرة أخرى وهي بمنزلة قول القائل القدرة أمر عدمي لأنها بمعنى عدم العجز والكلام عدمي لأنه عدم الخرس والسمع والبصر عدمي لأنهما عدم الصمم والعمى وأما قوله أن الفعل يقع بمجرد القدرة وعلم الفاعل بما فيه من الملائمة فمكابرة ثالثة فإن العبد يجد من نفسه قدرة

ص: 176

على الفعل وعلما بمصلحته ولا يفعله لعدم إرادته له لما في فعله من فوات محبوب له أو حصول مكروه إليه فلا يوجب القدرة والعلم وقوع الفعل ما لم تقارنهما الإرادة.

فصل: وأما قول الآخر أن كون النفس مريدة أمر ذاتي لها فلا تعلل إلى آخره كلام في غاية البطلان فهب أنا لا نطلب علة كونها مريدة فكونها كذلك هو مخلوق فيها أم غير مخلوق وهي التي جعلت نفسها كذلك أم فاطرها وخالقها هو الذي جعلها كذلك وإذا كان سبحانه هو الذي أنشأها بجميع صفاتها وطبيعتها وهيآتها فكونها مريدة هو وصف لها وخالقها خالق لأوصافها فهو خالق لصفة المريدية فيها فإذا كانت تلك الصفة سببا للفعل وخالق السبب خالق للمسبب والمسبب واقع بقدرته ومشيئته وتكوينه وهذا مما لا ينكره إلا مكابر معاند.

فصل: وأما قول الطائفة الأخرى أن الله سبحانه خلق فيه إرادة صالحة للضدين فاختار أحدهما على الآخر ولا ريب أن الأمر كذلك ولكن وقوع أحد الضدين باختياره وإيثاره له وداعية إليه لا يخرجه عن كونه مخلوقا للرب سبحانه مقدورا له مقدرا على العبد واقعا بقضاء الرب وقدره وأنه لو شاء لصرف داعية العبد وإرادته عنه إلى ضده فهذه هي البقية التي بقيت على هذه الفرقة من إنكار القدر فلو ضموها إلى قولهم لأصابوا كل الإصابة ولكانوا أسعد بالحق في هذه المسألة من سائر الطوائف وتحقيق ذلك أن الله سبحانه بعدله وحكمته أعطى العبد قدرة وإرادة يتمكن بها من جلب ما ينفعه ودفع ما يضره فأعانه بأسباب ظاهرة وباطنة ومن جملة تلك الأسباب القدرة والإرادة وعرفه طريق الخير والشر ونهج له الطريق وأعانه بإرسال رسله وإنزال كتبه وقرن به ملائكته وأزال عنه كل علة يحتج بها عليه ثم فطرهم سبحانه على إرادة ما ينفعهم وكراهة مما يؤذيهم ويضرهم كما فطر على ذلك الحيوان البهيم ثم كان كثير مما ينفعهم لا علم لهم به على التفصيل والذي يعلمونه من المنافع أمر مشترك بينهم وبين الحيوانات وثم أمور عظيمة هي أنفع شيء لهم لا صلاح لهم ولا فلاح ولا سعادة إلا بمعرفتها وطلبها وفعلها ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا بوحي منه وتعريف خاص فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه فعرفهم ما هو الأنفع لهم ما فيه سعادتهم وفلاحهم فصادفتهم الرسل مشتغلين بأضدادها قد ألفوها وساكنوها وجرت عليها عوائدهم حين ألفتها الطباع فأخبرتهم الرسل أنها أضر شيء عليهم وأنها من أعظم أسباب ألمهم وفوات إربهم وسرورهم فنهضت الإرادة طالبة للسعادة والفلاح إذ الدعوة إلى ذلك محركة للقلوب والأسماع والأبصار إلى الاستجابة فقام داعي الطبع والألف والعادة في وجه ذلك الداعي معارضا له يعد النفس ويمنيها ويرغبها ويزين لها ما ألفته واعتادته لكونه ملائما له وهو نقد عاجل وراحة مؤثرة ولذة مطلوبة ولهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر وداعي الفلاح يدعو إلى أمر آجل في دار غير هذه الدار لا ينال إلا بمفارقة ملاذها وطيباتها ومسراتها وتجرع مرارتها والتعرض لآفاتها وإيثار الغير لمحبوباتها ومشتهياتها يقول خذ ما تراه ودع ما سمعت به فقامت الإرادة بين الداعيين تصغي إلى هذا مرة وإلى هذا مرة فههنا معركة الحرب ومحل المحنة فقتيل وأسير وفائز بالظفر والغنيمة فإذا شاء الله سبحانه وتعالى رحمة عبد جذب قوى إرادته وعزيمته إلى ما ينفعه ويحييه الحياة الطيبة فأوحى إلى ملائكته أن ثبتوا عبدي واصرفوا همته وإرادته إلى مرضاتي وطاعتي كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}

ص: 177