الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث والعشرين: في استيفاء شبه النافلين للحكمة والتعليل وذكر الأجوبة عنها
…
هو الغاية لخلقه وإنما تعذيبه لحكمة ورحمة والحكمة والرحمة تأبى أن يتصل عذابه سرمدا إلى غير نهاية أما الرحمة فظاهر وأما الحكمة فلأنه إنما عذب على أمر طرأ على الفطرة وغيرها ولم يخلق عليه من أصل الخلقة ولا خلق له فهو لم يخلق للإشراك ولا للعذاب وإنما خلق للعبادة والرحمة ولكن طرأ عليه موجب العذاب فاستحق عليه العذاب وذلك الموجب لا دوام له فإنه باطل بخلاف الحق الذي هو موجب الرحمة فإنه دائم بدوام الحق سبحانه وهو الغاية وليس موجب العذاب غاية كما أن العذاب ليس بغاية بخلاف الرحمة فإنها غاية وموجبها غاية فتأمله حق التأمل فإنه سر المسألة، قالوا والرب تعالى تسمى بالغفور الرحيم ولم يتسمى بالمعذب ولا بالمعاقب بل جعل العذاب والعقاب في أفعاله كما قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وقال تعالى: {نَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} وقال: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} وهذا كثير في القرآن فإنه سبحانه يتمدح بالعفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم ويتسمى ولم يتمدح بأنه المعاقب ولا الغضبان ولا المعذب ولا المسقم إلا في الحديث الذي فيه تعديد الأسماء الحسنى ولم يثبت وقد كتب على نفسه كتابا أن رحمته سبقت غضبه وكذلك هو في أهل النار فإن رحمته فيهم سبقت غضبه فإنه رحمهم أنواعا من الرحمة قبل أن أغضبوه بشركهم ورحمهم في حال شركهم ورحمهم بإقامة الحجة عليهم ورحمهم بدعوتهم إليه بعد أن أغضبوه وآذوا رسله وكذبوهم وأمهلهم ولم يعاجلهم بل وسعتهم رحمته فرحمته غلبت غضبه ولولا ذلك لخرب العالم وسقطت السماوات على الأرض وخرت الجبال وإذا كانت الرحمة غالبة للغضب سابقة عليه امتنع أن يكون موجب الغضب دائما بدوامه غالبا لرحمته قالوا والتعذيب إما أن يكون عبثا أو لمصلحة وحكمة وكونه عبثا مما ينزه أحكم الحاكمين عنه ونسبته إليه نسبة لما هو من أعظم النقائص إليه وإن كان لمصلحة فالمصلحة هي المنفعة ولوازمها وملزوماتها وهي إما أن تعود على الرب تعالى وهو يتعالى عن ذلك ويتقدس عنه وإما أن تعود إلى المخلوق إما نفس المعذب وإما غيره أوهما والأول ممتنع ولا مصلحة له في دوام العقوبة بلا نهاية وأما مصلحة غيره فإن كانت هي الاتعاظ والانزجار فقد حصلت وإن كانت تكميل لذته وبهجته وسروره بأن يرى عدوه في تلك الحال وهو في غاية النعيم فهذا لو كان أقسى الخلق لرق لعدوه من طول عذابه ودوام ما يقاسيه فلم يبق إلا كسر تلك النفوس الجبارة العتيدة ومداواتها كيما تصل إلى مادة أدوائها وأمراضها فتحسمها وتلك المادة شر طارئ على خير خلقت عليه في ابتداء فطرتها قالوا والأقسام الممكنة في الخلق خمسة لا مزيد عليها خير محض ومقابله وخير راجح ومقابله وخير وشر متساويان والحكمة تقتضي إيجاد قسمين منها وهما الخير الخالص والراجح وأما الشر الخالص أو الراجح فإن الحكمة لا تقتضي وجوده بل تأبى ذلك فإن كل ما خلقه الله سبحانه فإنما خلقه لحكمة وجودها أولى من عدمها وخلق الدواب الشريرة والأفعال التي هي شر لما يترتب على خلقها من الخير المحبوب فلم يخلق لمجرد الشر الذي لا يستلزم خيرا بوجه ما هذا غاية المحال فالخير هو المقصود بالذات بالقصد الأول والشر إنما قصد قصد الوسائل والمبادئ لا قصد الغايات والنهايات وحينئذ فإذا حصلت الغاية المقصودة بخلقه بطل وزال كما تبطل الوسائل عند الانتهاء إلى غاياتها كما هو معلوم بالحس والعقل وعلى هذا فالعذاب شر وله غاية تطلب به
وهو وسيلة إليها فإذا حصلت غايته كان بمنزلة الطريق الموصلة إلى القصد فإذا وصل بها السائر إلى مقصده لم يبق لسلوكها فائدة وسر المسألة أن الرحمة غاية الخلق والأمر لا العذاب فالعذاب من مخلوقاته وذلك مقتضى أنه خلقه لغاية محمودة ولا بد من ظهور أسمائه وأثر صفاته عموما وإطلاقا فإن هذا هو الكمال والرب جل جلاله موصوف بالكمال منزه عن النقص قالوا وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقال: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} قال أبو سعيد الخدري: "هذه تقضي على كل آية في القرآن" ذكره البيهقي وحرب وغيرهما وقال عبد الله بن مسعود: "ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا" وعن عمر بن الخطاب وأبي هريرة مثله ذكره جماعة من المصنفين في السنة وهذا يقتضي أن الدار التي لا يبقى فيها أحد هي التي يلبث فيها أهلها أحقابا وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة فقال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار" قالوا ويكفينا ما في سورة الأنعام من قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} إلى قوله: {امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} وهذا خطاب للكفار من الجن والإنس من وجوه، أحدها استكبارهم منهم أي من إغوائهم وإضلالهم وإنما استكبروا من الكفار، الثاني قوله:{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ} وأولياؤهم هم الكفار كما قال تعالى: {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} فحزب الشيطان هم أولياؤه والثالث قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} ومع هذا فقال: {لنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} فتعذيبهم متعلق بعلمه وحكمته وكذلك الاستثناء صادر عن علم وحكمة فهو عليم بما يفعل بهم حكيم في ذلك قالوا وقد ورد في القرآن أنه سبحانه إذا ذكر جزاء أهل رحمته وأهل غضبه معا أبّد جزاء أهل الرحمة وأطلق جزاء أهل الغضب كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ َأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} وقوله: {نَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقد يقرن بينهما في الذكر ويقضي لهم بالخلود كقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ولكن مجرد ذكر الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية بل الخلود هو المكث الطويل كقولهم قيد مخلد وتأبيد كل شيء بحسبه فقد يكون التأبيد لمدة الحياة وقد يكون لمدة الدنيا قال تعالى عن اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ومعلوم أنهم يتمنونه في النار حيث يقولون يا مالك ليقض علينا ربك وإنما استفيد عدم انتهاء نعيم الجنة بقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} وقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} وقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي مقطوع ومن قال لا يمن به عليهم فقد أخطأ أقبح الخطأ ولم يجيء مثل ذلك في عذاب أهل النار وقوله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار} ِ {َمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} في موضعين من القرآن وقوله: {لَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} غير مصروف عن ظاهره وحقيقته على الصحيح وقد زعمت طائفة أن إطلاق هذه الآيات مقيد بآيات التقييد بالاستثناء بالمشيئة فيكون من باب تخصيص العموم وهذا كأنه قول من قال من السلف في آية الاستثناء أنها تقضي على كل وعيد في القرآن والصحيح أن هذه الآيات على عمومها وإطلاقها ولكن ليس فيها ما يدل على أن نفس النار دائمة بدوام الله لا انتهاء لها هذا ليس في القرآن ولا في السنة ما يدل عليه بوجه ما وفرق بين أن يكون عذاب أهلها دائما بدوامها وبين أن يكون هي أبدية لا انقطاع لها فلا تستحيل ولا تضمحل فهذا شيء وهذا شيء لا يقال فلا فرق على هذا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة إذ كان كل منهما يضمحل وينقطع قيل ما أظهر الفروق بينهما والأمر أبين من أن يحتاج إلى فرق وأيضا فعذاب الدنيا ينقطع بموت المعذب وإقلاع العذاب عنه وأما عذاب الآخرة فلا يموت من استحق الخلود فيه ولا يقلع العذاب عنه ولا يدفعه عنه أحد كما قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} وهو لازم لا يفارق قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي لازما ومنه سمى الغريم غريما لملازمة غريمه.
فصل: وأما الآثار في هذه المسألة فقال الطبراني حدثنا عبد الرحمن بن سلم حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الله بن مسعر بن كدام عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على جهنم يوم كأنها ورق هاج واحمر تخفق أبوابها" وقال حرب في مسائله: "سألت إسحاق قلت قول الله عز وجل: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن" حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال قال أبي حدثنا أبو نصرة عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله إلا ما شاء ربك إنه فعال لما يريد قال المعتمر: "قال أي كل وعيد في القرآن" ثم تأول حرب ذلك فقال: "معناه عندي والله أعلم أنها تأتي على كل وعيد في القرآن لأهل التوحيد وكذلك قوله إلا ما شاء ربك استثنى من أهل القبلة الذين يخرجون من النار" وهذا التأويل لا يصح لأن الاستثناء إنما هو في وعيد الكفار فإنه سبحانه قال: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} الآية ثم قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} فأهل التوحيد من الذين سعدوا شقوا وآية الأنعام صريحة في حق الكفار كما تقدم بيانه قال حرب وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي ثنا شعبة عن أبي حدثنا مليح سمع عمر بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو قال: "ليأتين على جهنم يوم تصطفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا" حدثنا عبيد الله ثنا أبي ثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: "أما الذي أقول أنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرأ فأما الذين شقوا ففي النار" الآية قال عبيد الله: "كان أصحابنا يقولون يعني بها
الموحدين" وقد تقدم أن هذا التأويل لا يصح وقال عبد بن حميد في تفسيره أخبرنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن قال قال عمر: "لو لبث أهل النار في النار بقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه" وقال أخبرنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال: "لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه" ورواة هذا الأثر أئمة ثقات كلهم والحسن سمعه من بعض التابعين ورواه غير منكر له فدل هذا الحديث أنه كان متداولا بين هؤلاء الأئمة لا ينكرونه وقد كانوا ينكرونه على من خرج عن السنة أدنى شيء ويروون الأحاديث المبطلة لفعله وكان الإمام أحمد يقول أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبدعة فلو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للسنة والإجماع لسارعوا إلى رده وإنكاره وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} قال: "لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا" قال الطبري: "وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء أن الله جعل أمر هؤلاء في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته" وهذا التفسير من ابن عباس يبطل قول من تأول الآية على أن معناها سوى ما شاء الله من أنواع العذاب أو قال المعنى إلا مدة مقامهم قبل الدخول من حين بعثوا إلى أن دخلوا أو أنها في أهل القبلة وما يعني من أو أنها يعني الواو أي وما شاء الله وهذه كلها تأويلات باردة ركيكة لا تليق بالآية ومن تأملها جزم ببطلانها وقال السدي في قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} قال سبعمائة حقب كل حقب سبعون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون وتقييد لبثهم فيها بالأحقاب يدل على مدة مقدرة يحصرها العدد هذا قول الأكثرين ولهذا تأول الزجاج الآية على أن الأحقاب تقييد لقوله لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا وأما مدة مكثهم فيها فلا يتقدر بالأحقاب وهذا تأويل فاسد فإنه يقتضي أن يكونوا بعد الأحقاب ذائقين للبرد والشراب وقالت طائفة أخرى الآية منسوخة بقوله: {مَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} وقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهذا فاسد أيضا إن أرادوا بالنسخ الرفع فإنه لا يدخل في الخبر إلا إذا كان بمعنى الطلب وإن أرادوا بالنسخ البيان فهو صحيح وهو إنما يدل على أن عذابهم دائم مستمر ما دامت باقية فهم فيها خالدون وما هم بمخرجين وهذا حق معلوم دلالة القرآن والسنة عليه لكن الشأن في أمر آخر وهو أن النار أبدية دائمة بدوام الرب فأين الدليل على هذا من القرآن أو السنة بوجه من الوجوه وقالت طائفة هي في أهل التوحيد وهذا أقبح مما قبله وسياق الآيات يرده ردا صريحا ولما رأى غيرهم بطلان هذه التأويلات قال لا يدل ذكر الأحقاب على النهاية فإنها غير مقدرة بالعدد فإنه لم يقل عشرة ولا مائة ولو قدرت بالعدد لم يدل على النهاية إلا بالمفهوم فكيف إذا لم يقدر قالوا ومعنى الآية أنه كلما مضى حقب تبعه حقب لا إلى نهاية وهذا الذي قالوه لا تدل الآية عليه بوجه وقولهم أن الأحقاب فيها غير مقدرة فيقال لو أريد بالآية بيان عدم انتهاء مدة العذاب لم يقيد بالأحقاب فإن ما لا نهاية له لا يقال هو باق أحقابا ودهورا وأعصارا أو نحو ذلك ولهذا لا يقال ذلك في نعيم أهل الجنة ولا يقال للأبدي الذي لا يزول هو باق أحقابا أو آلافا من السنين فالصحابة أفهم الآية لمعاني القرآن وقد فهم منها عمر بن الخطاب خلاف فهم هؤلاء كما فهم ابن عباس من آية الاستثناء خلاف فهم أولئك وفهم الصحابة في
القرآن هو الغاية التي عليها المعول وقد قال ابن مسعود: "ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا" وقال ابن جرير حديث عن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك قال: "أمر الله النار أن تأكلهم" قال وقال ابن مسعود فذكره وقال حدثنا محمد بن حميد ثنا جرير عن بيان عن الشعبي قال: "جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا" قلت لا يدل قوله أسرعهما خرابا على خراب الدار الأخرى كما في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} وقوله في الحديث: "الله أعلا وأجل" وقوله: "أسرعهما عمرانا" يحتمل معنيين أحدهما مسارعة الناس إلى الأعمال التي يدخلون بها جهنم وإبطاؤهم عن أعمال الدار الأخرى والثاني أن أهلها يدخلونها قبل دخول أهل الجنة إليها فإن أهل الجنة إنما يدخلونها بعد عبورهم على الصراط وبعد حبسهم على القنطرة التي وراءه وأهل النار قد تبوءوا منازلهم منها فإنهم لا يجوزون على الصراط ولا يحبسون على تلك القنطرة وأيضا ففي الحديث الصحيح: "أنه لما ينادي المنادى لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فتتبع المشركون أوثانهم وآلهتهم فتتساقط بهم في النار وتبقى هذه الأمة في الموقف حتى يأتيها ربها عز وجل ويقول ألا تنطلقون حيت انطلق الناس" وقد ذكر الخطيب في تاريخه في ترجمة سهل بن عبيد الله بن داود ابن سليمان أبو نصر البخاري حدثنا محمد بن نوح الجند سابوري حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الناقد حدثنا سهل بن عثمان ثنا عبد الله بن مسعر بن كدام عن جعفر بن الزبير عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على جهنم يوما ما فيها من بني آدم أحد تخفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين" وليس العمدة على هذا وحده فإن إسناده ضعيف وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود وقد تقدم.
فصل: والذين قطعوا بأبدية النار وأنها لا تفنى لهم طرق، أحدها الآيات والأحاديث الدالة على خلودهم فيها وأنهم لا يموتون وما هم منها بمخرجين وأن الموت يذبح بين الجنة والنار وأن الكفار لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وأمثال هذه النصوص وهذه الطريق لا تدل على ما ذكروه وإنما يدل على أنها ما دامت باقية فهم فيها فأين فيها ما يدل على عدم فنائها، الطريق الثاني دعوى الإجماع على ذلك وقد ذكرنا من أقوال الصحابة والتابعين ما يدل على أن الأمر بخلاف ما قالوا حتى لقد ادعى إجماع الصحابة من هذا الجانب استنادا إلى تلك النقول التي لا يعلم عنهم خلافها، الطريق الثالث أنه كالمعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الجنة والنار لا تفنيان بل هما باقيتان ولهذا أنكر أهل السنة كلهم على أبي الهذيل وجهم وبشيعتهما ممن قال بفنائها وعدوا أقوالهم من أقوال أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول ولا ريب أن هذا من أقوال أهل البدع التي خرجوا بها عن السنة ولكن من أين تصح دعوى العلم النظري أن النار باقية ببقاء الله دائمة بدوامه فضلا عن العلم الضروري فأين في الأدلة الشرعية أو العقلية دليل واحد يقتضي ذلك، الطريق الرابع أن السنة المستفيضة أو المتواترة أخبرت بخروج أهل التوحيد من النار دون الكفار وهذا معلوم من السنة قطعا وهذا الذي قالوه حق لا ريب فيه ولكن أهل التوحيد خرجوا منها وهي باقية لم تفن ولم تعدم والكفار لا يحصل لهم ذلك بل هم باقون فيها ما بقيت، الطريق الخامس أن العقل يدل على
خلود الكفار فيها وعدم خروجهم منها فإن نفوسهم غير قابلة للخير فإنهم لو خرجوا منها لعادوا كفارا كما كانوا وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وهذا يدل على غاية عتوهم وإصرارهم وعدم قبول الخير فيهم بوجه من الوجوه فلا تصلح نفوسهم الشريرة الخبيثة إلا للعذاب ولو صلحت لصلحت على طول العذاب فحيث لم يؤثر عذابهم تلك الأحقاب الطويلة في نفوسهم ولم يطيبها علم أنه لا قابلية فيهم للخير أصلا وأن أسباب العذاب لم يطف من نفوسهم فلا يطفى العذاب المترتب عليها وهذه الطريق وإن أنكرت ببادئ الرأي فهي طريق قوية وهي ترجع إلى طريق الحكمة وأن الحكمة التي اقتضت دخولهم هي التي اقتضت خلودهم ولكن هذه الطريق محرم سلوكها على نفاة الحكمة وعلى مثبتيها من المعتزلة والقدرية أما النفاة فظاهر وأما المثبتة فالحكمة عندهم أن عذابهم لمصلحتهم وهذا إنما يصح إذا كان لهم حالتان حالة يعذبون فيها لأجل مصلحتهم وحالة يزول عنهم العذاب لتحصل لهم تلك المصلحة وإلا فكيف تكون مصلحتهم في عذاب لا انقطاع له أبدا وأما من يثبت حكمة راجعة إلى الرب تعالى فيمكنهم سلوك هذه الطريق لكن يقال الحكمة لا تقتضي دوام عذابهم بدوام بقائه سبحانه وهو لم يخبر أنه خلقهم لذلك وإنما يعذبون لغاية محمودة إذا حصلت حصل المقصود من عذابهم وهو سبحانه لا يعذب خلقه سدى وهو قادر على أن ينشئهم بعد العذاب الطويل نشأة أخرى مجردة عن تلك الشرور والخبائث التي كانت في نفوسهم وقد أزالها طول العذاب فإنهم خلقوا قابلين للخير على الفطرة وهذا القبول لازم لخلقتهم وبه أقروا بصانعهم وفاطرهم وإنما طرأ عليه ما أبطل مقتضاه فإذا زال ذلك الطارئ بالعذاب الطويل بقي أصل القبول بلا معارض وأما قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه} فهذا قبل مثابرتهم للعذاب قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فتلك الخبائث والشرور قائمة بنفوسهم لم تزلها النار فلو ردوا لعادوا لقيام المقتضى للعود ولكن أين أخبر سبحانه أنه لو ردهم بعد العذاب الطويل السرمدي لعادوا لما نهوا عنه وسر المسألة أن الفطرة الأصلية لا بد أن تعمل عملها كما عمل الطارئ عليها عمله وهذه الفطرة عامة لجميع بني آدم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة" وفي لفظ "على هذه الملة" وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حماد المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه: "قال إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" فأخبر أن الأصل فيهم الحنيفية وأنهم خلقوا عليها وأن صدها عارض فيهم باقتطاع الشياطين لهم عنها فمن الممتنع أن يعمل أثر اقتطاع الشياطين ولا يعمل أثر خلق الرحمن جل جلاله عمله والكل خلقه سبحانه فلا خالق سواه ولكن ذاك خلق يحبه ويرضاه ويضاف أثره إليه وهذا خلق يبغضه ويسخطه ولا يضاف أثره إليه فإن الشر ليس إليه والخير كله في يديه فإن قيل فقد قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} وهذا يقتضي أنه لا قابلية فيهم ولا خير عندهم البتة ولو كان عندهم لخرجوا به من النار مع الموحدين فإنه سبحانه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من خير فعلم أن هؤلاء ليس معهم هذا القدر اليسير من الخير قيل الخير في هذا الحديث هو الإيمان
بالله ورسله كما في اللفظ الآخر أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان وهو تصديق رسله والانقياد لهم بالقلب والجوارح وأما الخير في الآية فالمراد به القبول والزكاة ومعرفة قدر النعمة وشكر المنعم عليها فلو علم الله سبحانه ذلك فيهم لأسمعهم إسماعا ينتفعون به فإنهم قد سمعوا سماعا تقوم به عليهم الحجة فتلك القابلية ذهب أثرها وتعطلت بالكفر والجحود وعادت كالشيء المعدوم الذي لا ينتفع به وإنما ظهر أثرها في قيام الحجة عليهم ولم يظهر أثرها في انتفاعهم بما عملوه وتيقنوه فإن قيل فالغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا وقال نوح عن قومه ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي مرفوعا: "إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ويحيي مؤمنا ويموت مؤمنا ومنهم من يولد كافرا ويحي كافرا ويموت كافرا" الحديث قيل هذا لا يناقض كونه مولودا على الفطرة فإنه طبع وولد مقدرا كفره إذا عقل وإلا ففي حال ولادته لا يعرف كفرا ولا إيمانا فهي حال مقدرة لا مقارنة للعامل فهو مولود على الفطرة ومولود كافرا باعتبارين صحيحين ثابتين له هذا بالقبول وإيثار الإسلام لو خلى وهذا بالفعل والإرادة إذا عقل فإذا جمعت بين الفطرة السابقة والرحمة السابقة العالية والحكمة البالغة والغنى التام وقرنت بين فطرته ورحمته وحكمته وغناه تبين لك الأمر، الطريق السادس قياس دار العدل على دار الفضل وأن هذه كما أنها أبدية فالأخرى كذلك لأن هذه توجب عدله وعدله ورحمته من لوازم ذاته وهذه الطريق غير نافذة فإن العدل حقه سبحانه لا يجب عليه أن يستوفيه ولا يلحقه بتركه نقص ولا ذم بوجه من الوجوه والفضل وعده الذي وعد به عباده وأحقه على نفسه والفرق بين الدارين من وجوه عديدة شرعا وعقلا، أحدها أن الله سبحانه أخبر بأن نعيم الجنة ماله من نفاد وأن عطاء أهلها غير مجذوذ وأنه غير ممنون ولم يجيء ذلك في عذاب أهل النار، الثاني أنه أخبر بما يدل على انتهاء عذاب أهل النار في عدة آيات كما تقدم ولم يخبر بما يدل على انتهاء نعيم أهل الجنة ولهذا احتاج القائلون بالتأبيد الذي لا انقطاع له إلى تأويل تلك الآيات ولم يجئ في نعيم أهل الجنة ما يحتاجونه إلى تخصيصه بالتأويل، الثالث أن الأحاديث التي جاءت في انتهاء عذاب النار لم يجيء شيء منها في انتهاء نعيم الجنة، الرابع أن الصحابة والتابعين إنما ذكروا انقطاع العذاب ولم يذكر أحد منهم انقطاع النعيم، الخامس أنه قد ثبت أن الله سبحانه يدخل الجنة بلا عمل أصلا بخلاف النار، السادس أنه سبحانه ينشئ في الجنة خلقا ينعمهم فيها ولا ينشئ في النار خلقا يعذبهم بها، السابع أن الجنة من مقتضى رحمته والنار من مقتضى غضبه وأن الذين يدخلون النار أضعاف أضعاف الذين يدخلون الجنة فلو دام عذاب هؤلاء كدوام نعيم هؤلاء لغلب غضبه رحمته فكان الغضب هو الغالب السابق وهذا ممتنع، الثامن أن الجنة دار فضله والنار دار عدله وفضله يغلب عدله، التاسع أن النار دار استيفاء حقه الذي له والجنة دار وفاء حقه الذي أحقه هو على نفسه وهو سبحانه يترك حقه ولا يترك الحق الذي أحقه على نفسه، العاشر أن الجنة هي الغاية التي خلقوا لها في الآخرة وأعمالها هي الغاية التي خلقوا لها في الدنيا بخلاف النار فإنه سبحانه لم يخلق خلقه للكفر به والإشراك وإنما خلقهم لعبادته وليرحمهم، الحادي عشر أن النعيم من موجب أسمائه وصفاته والعذاب إنما هو من أفعاله قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامه فإن قيل فإن العذاب صادر عن عزته وحكمته وعدله وهذه أسماء حسنى وصفات كمال فيدوم ما صدر عنها بدوامها قيل لعمر الله أن العذاب صدر عن عزة وحكمة وعدل وانتهاؤه عند حصول المقصود منه يصدر عن عزة وحكمة وعدل فلم يخرج العذاب ولا انقطاعه عن عزته وحكمته وعدله ولكن عند انتهائه يكون عزة مقرونة برحمة وحكمة مقرونة بجود وإحسان وعفو وصفح فالعزة والحكمة لم يزالا ولم ينقص بل صدر جميع ما خلقه ويخلقه وأمر به ويأمر به عن عزته وحكمته، الثاني عشر أن العذاب مقصود لغيره لا لنفسه وأما الرحمة والإحسان والنعيم فمقصود لنفسه فالإحسان والنعيم غاية والعذاب والألم وسيلة فكيف يقاس أحدهما بالآخر، الثالث عشر أنه سبحانه أخبر أن رحمته وسعت كل شيء وأن رحمته سبقت غضبه وأنه كتب على نفسه الرحمة فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته وهذا ظاهر جدا فإن قيل فقد قال سبحانه عقيبها:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى آخر الآية يخرج غيرهم منها لخروجهم من الوصف الذي يستحق به قيل الرحمة المكتوبة لهؤلاء هي غير الرحمة الواسعة لجميع الخلق بل هي رحمة خاصة خصهم بها دون غيرهم وكتبها لهم دون من سواهم وهم أهل الفلاح الذين لا يعذبون بل هم أهل الرحمة والفوز والنعيم وذكر الخاص بعد العام استطرادا وهو كثير في القرآن بل قد يستطرد من الخاص إلى العام كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} فهذا استطراد من ذكر الأبوين إلى ذكر الذرية ومن استطراد قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} فالتي جعلت رجوما ليست هي التي زينت بها السماء ولكن استطرد من ذكر النوع إلى نوع آخر وأعاد ضمير الثاني على الأول لدخولهما تحت جنس واحد فهكذا قوله: {رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فالمكتوب للذين يتقون نوع خاص من الرحمة الواسعة والمقصود أن الرحمة لا بد أن تسع أهل النار ولا بد أن تنتهي حيث ينتهي العلم كما قالت الملائكة ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما، الرابع عشر أنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم حديث الشفاعة "قول أولي العزم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله" وهذا صريح في أن ذلك الغضب العظيم لا يدوم ومعلوم أن أهل النار إنما دخلوها بذلك الغضب فلو دام ذلك الغضب لدام عذابهم إذ هو موجب ذلك الغضب فإذا رضي الرب تبارك وتعالى وزال ذلك الغضب زال موجبه وهذا كما أن عقوبات الدنيا العامة وبلاؤها آثار غضبه فإذا استمر غضبه استمر ذلك البلاء فإذا رضي وزال غضبه زال البلاء وخلفته الرحمة، الخامس عشر أن رضاه أحب إليه من غضبه وعفوه أحب إليه من عقوبته ورحمته أحب إليه من عذابه وعطاؤه أحب إليه من منعه وإنما يقع الغضب والعقوبة والمنع بأسباب تناقص موجب تلك الصفات والأسماء وهو سبحانه كما يحب أسماءه وصفاته ويحب آثارها وموجبها كما في الحديث:"أنه وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال نظيف يحب النظافة عفو يحب العفو" وهو شكور يحب الشاكرين عليم يحب العالمين جواد يحب أهل الجود حي ستير يحب أهل الحياء والستر صبور يحب الصابرين رحيم يحب الرحماء فهو
يكره ما يضاد ذلك وكذلك كره الكفر والعصيان والفسوق والظلم والجهل لمضادة هذه الأوصاف لأوصاف كماله الموافقة لأسمائه وصفاته ولكن يريده سبحانه لاستلزامه ما يحبه ويرضاه فهو مراد له إرادة اللوازم المقصودة لغيرها إذ هي معصية إلى ما يحب فإذا حصل بها ما يحبه وأدت إلى الغاية المقصودة له سبحانه لم تبق مقصودة لا لنفسها ولا لغيرها فتزول ويخلفها أضدادها التي هي أحب إليه سبحانه منها وهي موجب أسمائه وصفاته فإن فهمت سر هذا الوجه وإلا فجاوزه إلى ما قبله ولا تعجل بإنكاره هذا وسر المسألة أنه سبحانه حكيم رحيم إنما يخلق بحكمة ورحمة فإذا عذب من يعذب لحكمة كان هذا جاريا على مقتضاها كما يوجد في الدنيا من العقوبات الشرعية والقدرية من التهذيب والتأديب والزجر والرحمة واللطف ما يزكي النفوس ويطيبها ويمحصها ويخلصها من شرها وخبثها والنفوس الشريرة الظالمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهت عنه لا يصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والشر والظلم فإذا عذبت هذه النفوس بالنار عذابا يخلصها من ذلك الشر ويخرج خبثها كان هذا معقولا في الحكمة كما يوجد في عذاب الدنيا وخلق من فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة أما خلق نفوس شريرة لا يزول شرها البتة وإنما خلقت للشر المحض وللعذاب السرمد الدائم بدوام خالقها سبحانه فهذا لا يظهر موافقته للحكمة والرحمة وإن دخل تحت القدرة فدخوله تحت الحكمة والرحمة ليست بالبين فهذا ما وصل إليه النظر في هذه المسألة التي تكع فيها عقول العقلاء وكنت سألت عنها شيخ الإسلام قدس الله روحه فقال لي هذه المسألة عظيمة كبيرة ولم يجب فيها بشيء فمضى على ذلك زمن حتى رأيت في تفسير عبد بن حميد الكثي بعض تلك الآثار التي ذكرت فأرسلت إليه الكتاب وهو في مجلسه الأخير وعلمت على ذلك الموضع وقلت للرسول قل له هذا الموضع يشكل عليه ولا يدري ما هو فكتب فيها مصنفه المشهور رحمة الله عليه فمن كان عنده فضل علم فليحدثه فإن فوق كل ذي علم عليم وأنا في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه ذكر دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ووصف ذلك أحسن صفة ثم قال "ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء" وعلى مذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث يقول: "لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا" وذكر ذلك في تفسير قوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وعلى مذهب أبي سعيد الخدري حيث يقول: "انتهى القرآن كله إلى هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} " وعلى مذهب قتادة حيث يقول: "في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} الله أعلم بتبينه على ما وقعت" وعلى مذهب ابن زيد حيث يقول: "أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة" فقال عطاء: "غير مجذوذ ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار" والقول بأن النار وعذابها دائم بدوام الله خبر عن الله بما يفعله فإن لم يكن مطابقا لخبره عن نفسه بذلك وإلا كان قولا عليه بغير علم والنصوص لا تفهم ذلك والله أعلم.
فصل: وها هنا مذاهب أخرى باطله منها قول من قال أنهم يعذبون في النار مدة لبثهم في الدنيا وقول من قال تنقلب عليهم طبيعة نارية يلتذون بها كما يلتذ صاحب الجرب بالحك وقول من يقول أنها تفنى هي والجنة جميعا ويعودان عدما وقول من يقول تفنى حركاتها وتبقى أهلها في سكون دائم ولم يوفق للصواب في هذا الباب غير الصحابة ومن سلك سبيلهم
وبالله التوفيق.
فصل: فإن قيل فما الحكمة في كون الكفار أكثر من المؤمنين وأهل النار أضعاف أضعاف أهل الجنة كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وقال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وبعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وواحد إلى الجنة وكيف نشأ هذا عن الرحمة الغالبة وعن الحكمة البالغة وهلا كان الأمر بالضد من ذلك، قيل هذا السؤال من أظهر الأدلة على قول الصحابة والتابعين في هذه المسألة وأن الأمر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل شيء وسبقت الغضب وغلبته وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية ثم نقول المادة الأرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع الإنساني كما في المسند والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم:"إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فكان منهم الخبيث والطيب والسهل والحزن وغير ذلك" فاقتضت مادة النوع الإنساني تفاوتهم في أخلاقهم وإراداتهم وأعمالهم ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحب والبغض ولوازمها وابتلاه بعدوه الذي لا يألوه خبالا ولا يغفل عنه ثم ابتلاه مع ذلك بزينة الدنيا وبالهوى الذي أمر بمخالفته هذا على ضعفه وحاجته وزين له حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وأمره بترك قضاء أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدة إلى دار أخرى غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها وكان مقتضى الطبيعة الإنسانية أن لا يثبت على هذا الابتلاء أحد وأن يذهب كلهم مع ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم وفاطرهم بل أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبين لهم مواقع رضاه وغضبه ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم فلم تقو عقول الأكثرين على إيثار الآجل المنتظر بعد زوال الدنيا على هذا العاجل الحاضر المشاهد وقالوا كيف يباع نقد حاضر وهو قبض باليد بنسيئة مؤخرة وعدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم ولسان حال أكثرهم يقول "خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به" فساعد التوفيق الإلهي من علم أنه يصلح لمواقع فضله فأمده بقوة إيمان وبصيرة رأى في ضوءها حقيقة الآخرة ودوامها وما أعد الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته ورأى حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقله وفائها وظلم شركائها وأنها كما وصفها الله سبحانه لعب ولهو وتفاخر بين أهلها وتكاثر في الأموال والأولاد وأنها كغيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما فنشأنا في هذه الدار ونحن منها وبنوها لا نألف غيرها وحكمت العادات وقهر السلطان الهوى وساعده داعي النفوس وتقاضاه موجب الطباع وغلب الحس على العقل وكانت الدولة له والناس على دين الملك ولا ريب أن الذي يخرق هذه الحجب ويقطع هذه العلائق ويخالف العوائد ولا يستجيب لدواعي الطبع ويعصي سلطان الهوى لا يكون إلا الأقل ولهذا كانت المادة النارية أقل اقتضاء لهذا الصنف من المادة الترابية لخفة النار وطيشها وكثرة نقلتها وسرعة حركتها وعدم ثباتها والماء المادة الملكية فتر به من ذلك فلذلك كان المخلوق خيرا كله فالعقلاء المخاطبون مخلوقون من هذه المواد الثلاث واقتضت الحكمة أن يكونوا على هذه الصفة والخلقة
ولو كانوا على غير ذلك لم يحصل مقصود الامتحان والابتلاء وتنوع العبودية وظهور آثار الأسماء والصفات فلو كان أهل الإيمان والخير هم الأكثرين الغالبين لفاتت مصلحة الجهاد وتوابعه التي هي من أجل أنواع العبودية وفات الكمال المترتب على ذلك فلا أحسن مما اقتضاه حكمة أحكم الحاكمين في المخلوق من هذه المواد ثم أنه سبحانه يخلص ما في المخلوق من تينك المادتين من الخبث والشر ويمحصه ويستخرج طيبه إلى دار الطيبين ويلقي خبثه حيث تلقى الخبائث والأوساخ وهذا غاية الحكمة كما هو الواقع في جواهر المعادن المنتفع بها من الذهب والفضة والحديد والصفر فخلاصة هذه المواد وطيبها أقل من وسخها وخبثها والناس زرع الأرض والخير الصافي من الزرع بعد زوانه وقصله وعصفه وتبنه أقل من بقية الأجزاء وتلك الأجزاء كالصور له والوقاية كالحطب والشوك للثمر والتراب والحجارة للمعادن النفيسة.
فصل: الوجه السابع والثلاثون قوله وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب فكم لله في ذلك من حكم باهرة منها حصول محبوبة من عبودية الصبر والجهاد وتحمل الأذى فيه والرضى عنه في السراء والضراء والثبات على عبوديته وطاعته مع قوة المعارض وغلبته وشوكته وتمحيص أوليائه من أحكام البشرية ودواعي الطباع ببذل نفوسهم له وأذى أعدائه لهم وتميز الصادق من الكاذب ومن يريده ويعبده على جميع الحالات ممن يعبده على حرف وليحصل له مرتبة الشهادة التي هي من أعلى المراتب ولا شيء أبر عند الحبيب من بذل محبة نفسه في مرضاته ومجاهدة عدوه فكم لله في هذا التسليط من نعمة ورحمة وحكمة وإذا شئت أن تعلم ذلك فتأمل الآيات من أواخر آل عمران من قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} إلى قوله: {نَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فكان هذا التمييز من بعض حكم ذلك التسليط ولولا ذلك التسليط لم تظهر فضيلة الصبر والعفو والحكم وكظم الغيظ ولا حلاوة النصر والظفر والقهر فإن الأشياء يظهر حسنها بأضدادها ولولا ذلك التسليط لم تستوجب الأعداء المحق والإهانة والكبت فاستخرج ذلك التسليط من القوة إلى الفعل ما عند أوليائه فاستحقوا كرامتهم عليه وما عند أعدائه فاستحقوا عقوبتهم عليه فكان هذا التسليط مما أظهر حكمته وعزته ورحمته ونعمته في الفريقين وهو العزيز الحكيم، الوجه الثامن والثلاثون قوله وأي حكمة في تكليف الثقلين وتعريضهم بذلك العقوبة وأنواع المشاق، فاعلم أنه لولا التكليف لكان خلق الإنسان عبثا وسدى والله يتعالى عن ذلك وقد نزه نفسه عنه كما نزه نفسه عن العيوب والنقائص قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} وقال: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} قال الشافي لا يؤمر ولا ينهى ومعلوم أن ترك الإنسان كالبهائم مهملا معطلا مضاد للحكمة فإنه خلق لغاية كماله وكماله أن يكون عارفا بربه محبا له قائما بعبوديته قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والأمر وهما أعظم كمال الإنسان والله تعالى من عنايته به ورحمته له عرضه لهذا الكمال وهيأ له أسبابه الظاهرة والباطنة ومكنه منها
ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان وهي ترجع إلى شكر المنعم كلها دقيقها وجليلها منه وتعظيمه وإجلاله ومعاملته بما يليق أن يعامل به فتذكر آلاؤه وتشكر فلا يكفر ويطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى هذا مع تضمن التكليف لإيصاف العبد بكل خلق جميل وإثباته بكل فعل جميل وقول سديد واجتنابه لكل خلق سيئ وترك كل فعل قبيح وقول زور فتكليفه متضمن لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال وصدق القول والإحسان إلى الخليقة وتكميل نفسه بأنواع الكمالات وهجر أضداد ذلك والتنزه عنها مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم ومجاورة ربه في دار البقاء فأي الأمرين أليق بالحكمة هذا أو إرساله هملا كالخيل والبغال والحمير يأكل ويشرب وينكح كالبهائم أيقتضي كماله المقدس ذلك فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم وكيف يليق بذلك الكمال طي بساط الأمر والنهي والثواب والعقاب وترك إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع وتقرير الأحكام وهل عرف الله من جوز عليه خلاف ذلك وهل ذلك إلا من سوء الظن به قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} فحسن التكليف في العقول كحسن الإحسان والإنعام والتفضل والطول بل هو من أبلغ أنواع الإحسان والإنعام ولهذا سمى سبحانه ذلك نعمة ومنة وفضلا ورحمة وأخبر أن الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار والفجار قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} فنعمة الله هاهنا نعمته بمحمد صلى الله عليه وسلم وما بعثه به من الهدى ودين الحق وقال: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ} وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقال لرسوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} وهل النعمة والفضل في الحقيقة إلا ذلك وتوابعه وثمرته في القلوب والأبدان في الدنيا والآخرة وهل في العقول السليمة والفطرة المستقيمة أحسن من ذلك وأليق بكمال الرب وأسمائه وصفاته، الوجه التاسع والثلاثون قوله في مناظرة الأشعري للجبائي في الإخوة الثلاثة الذين مات أحدهم صغيرا وبلغ الآخر كافرا والثالث مسلما أنها مناظرة كافية في إبطال الحكمة والتعليل ورعاية الأصلح، فلعمر الله أنها مبطلة لطريقة أهل البدع من المعتزلة والقدرية الذين يوجبون على ربهم مراعاة الأصلح لكل عبد وهو الأصلح عندهم فيشرعون له شريعة بعقولهم ويحجرون عليه ويحرمون عليه أن يخرج عنها ويوجبون عليه القيام بها وكذلك كانوا من أحمق الناس وأعظمهم تشبيها للخالق بالمخلوق في أفعاله وأعظمهم تعطيلا عن صفات كماله فنزهوه عن صفات الكمال وشبهوه بخلقه في الأفعال وأدخلوه تحت الشريعة الموضوعة