المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني والعشرون: في استيفاء شبه النافعين للحكمة والتعليل وذكر الأجوبة عنها - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط المعرفة

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السموات والأرض

- ‌الباب الثاني: في تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم قبل خلقهم وهو تقدير ثان بعد التقدير الأول

- ‌الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليهم

- ‌الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك

- ‌الباب الخامس: في ذكر التقدير الرابع ليلة القدر

- ‌الباب السادس: في التقدير الخامس اليومي

- ‌الباب السابع: في أن سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقضي ترك الأعمال بل يقضي الاجتهاد والحرص

- ‌الباب الثامن: في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

- ‌الباب التاسع: في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

- ‌الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر

- ‌الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية وهي مرتبة الكتابة

- ‌الباب الثاني عشر: في ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة المشيئة

- ‌الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة خلق الله سبحانه الأعمال وتكوينه وإيجاده لها

- ‌الباب الرابع عشر: في الهدى والضلال ومراتبهما والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

- ‌الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة والحائل بين الكافر وبين الإيمان وأن ذلك مجعول للرب تعالى

- ‌الباب السادس عشر: فيما جاء في السنة من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو منفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

- ‌الباب السابع عشر: في الكسب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا

- ‌الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر والكسب وذكر الفعل والانفعال

- ‌الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة جرت بين جبري وسني جمعهما مجلس مذاكرة

- ‌الباب العشرون: في ذكر مناظرة بين قدري وسني

- ‌الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر

- ‌الباب الثاني والعشرون: في استيفاء شبه النافعين للحكمة والتعليل وذكر الأجوبة عنها

- ‌الباب الثالث والعشرين: في استيفاء شبه النافلين للحكمة والتعليل وذكر الأجوبة عنها

- ‌الباب الرابع والعشرون: في قول السلف من أصول الإيمان الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره

- ‌الباب الخامس والعشرون: في امتناع إطلاق القول نفيا وإثباتا أن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له

- ‌الباب السادس والعشرين: فيما يدل عليه قوله: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" من تحقيق القدر وإثباته ما تضمنه الحديث من الأسرار العظيمة

- ‌الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد والحكمة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم ماض في حكمك عدل في قضاؤك وبيان ما في هذا الحديث من القواعد

- ‌الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه

- ‌الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والحكم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث

- ‌الباب الموفي ثلاثين: في ذكر الفطرة الأولى ومعناها واختلاف الناس في المراد بها وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال

الفصل: ‌الباب الثاني والعشرون: في استيفاء شبه النافعين للحكمة والتعليل وذكر الأجوبة عنها

والعلل فنفوها وبين الطائفتين بعد المشرقين ولا تستهن بأمر هذه المسألة فإن شأنها أعظم وخطرها أجل وفروعها كثيرة ومن فروعها أنهم لما تكلموا فيما يحدثه الله تعالى من المطر والنبات والحيوان والحر والبرد والليل والنهار والإهلال والإبدار والكسوف والاستسرار وحوادث الجو وحوادث الأرض انقسموا قسمين وصاروا طائفتين فطائفة جعلت الموجب لذلك مجرد ما رأوه علة وسببا من الحركات الفلكية والقوى الطبيعية والنفوس والعقول فليس عندهم لذلك فاعل مختار مريد وقابلهم طائفة من المتكلمين فلم يسببوا لذلك سببا إلا مجرد المشيئة والقدرة وأن الفاعل المختار يرجح مثلا على مثل بلا مرجح ولا سبب ولا حكمة ولا غاية يفعل لأجلها ونفوا الأسباب والقوى والطبائع والقرائن والحكم والغايات حتى يقول من أثبت الجوهر الفرد منهم أن الفلك والرحا ونحوهما مما يدور متفكك دائما عند الدوران والقادر المختار يعيده كل وقت كما كان وأن الألوان والمقادير والأشكال والصفات تعدم على تعاقب الآنات والقادر المختار يعيدها كل وقت وأن ملوحة ماء البحر كل لحظة تعدم وتذهب ويعيدها القادر المختار كل ذلك بلا سبب ولا حكمة ولا علة غائية ورأوا أنهم لا يمكنهم التخلص من قول الفلاسفة أعداء الرسل إلا بذلك ورأى أعداء الرسل أنهم لا يمكنهم الدخول في الشريعة إلا بالتزام أصول هؤلاء ولم يهتد الطائفتان للحق الذي لا يجوز غيره وهو انه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته ويفعل ما يفعله بأسباب وحكم وغايات محمودة وقد أودع العالم من القوى والطبائع والغرائز والأسباب والمسببات ما به قام الخلق والأمر وهذا قول جمهور أهل الإسلام وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة إلا من خلى الفقه ناحية وتكلم بأصول النفاة فعادى فقهه أصول دينه.

ص: 206

‌الباب الثاني والعشرون: في استيفاء شبه النافعين للحكمة والتعليل وذكر الأجوبة عنها

قالت النفاة قد أجلبتم علينا بما استطعتم من خيل الأدلة ورجلها فاسمعوا الآن ما يبطله ثم أجيبوا عنه إن أمكنكم الجواب فنقول ما قاله أفضل متأخريهم محمد بن عمر الرازي: "كل من فعل فعلا لأجل تحصيل مصلحة أو لدفع مفسدة فإن كان تحصيل تلك المصلحة أولى من عدم تحصيلها كان ذلك الفاعل قد استفاد بذلك الفعل تحصيل ذلك" ومن كان كذلك كان ناقصا بذاته مستكملا بغيره وهو في حق الله محال وإن كان تحصيلها وعدمه بالنسبة إليه سواء فمع ذلك لا يحصل الرجحان فامتنع تحصيلها ثم أورد سؤالا وهو لا يقال حصولها واللاحصولها بالنسبة إليه وإن كان على التساوي إلا أن حصولها للعبد أولى من عدم حصولها له فلأجل هذه الأولوية العائدة إلى العبد يرجح الله سبحانه الوجود على العدم ثم أجاب بأنا نقول تحصيل تلك المصلحة وعدم تحصيلها له إما أن يكونا متساويين بالنسبة إلى الله أو لا يستويان وحينئذ يعود التقسيم المذكور قال المثبتون الجواب عن هذه الشبهة من وجوه أحدها أن قولك أن كل من فعل لغرض يكون ناقصا بذاته مستكملا بغيره ما تعني بقولك أنه يكون ناقصا بذاته أتعني به أنه يكون عادما لشيء من الكمال الذي لا يجب أن يكون له قبل حدوث ذلك المراد أم تعني به أن يكون عادما لما ليس كمالا قبل وجوده أم تعني به معنى ثالثا

ص: 206

فإن عنيت الأول فالدعوى باطلة فإنه لا يلزم من فعله لغرض حصوله أولى من عدمه أن يكون عادما لشيء من الكمال الواجب قبل حدوث المراد فإنه يمتنع أن يكون كمالا قبل حصوله وإن عنيت الثاني لم يكن عدمه نقصا فإن الغرض ليس كمالا قبل وجوده وما ليس بكمال في وقت لا يكون عدمه نقصا فيه فما كان قبل وجوده عدمه أولى من وجوده وبعد وجوده وجوده أولى من عدمه لم يكن عدمه قبل وجوده نقصا ولا وجوده بعد عدمه نقصا بل الكمال عدمه قبل وقت وجوده وجوده وقت ووجوده وإذا كان كذلك فالحكم المطلوبة والغايات من هذا النوع وجودها وقت وجودها هو الكمال وعدمها حينئذ نقص وعدمها وقت عدمها كمال ووجودها حينئذ نقص وعلى هذا فالنافي هو الذي نسب النقص إلى الله لا المثبت وإن عنيت به أمرا ثالثا فلا بد من بيانه حتى ننظر فيه الجواب الثاني إن قولك يلزم أن يكون ناقصا بذاته مستكملا بغيره أتعني به أن الحكمة التي يجب وجودها إنما حصلت له من شيء خارج عنه أم تعني أن تلك الحكمة نفسها غير له وهو مستكمل بها فإن عنيت الأول فهو باطل فإنه لا رب غيره ولا خالق سواه ولم يستفد سبحانه من غيره كمالا بوجه من الوجوه بل العالم كله إنما استفاد الكمال الذي فيه منه سبحانه وهو لم يستفد كماله من غيره كما لم يستفد وجوده من غيره وإن عنيت الثاني فتلك الحكمة صفته سبحانه وصفاته ليست غيرا له فإن حكمته قائمة به وهو الحكيم الذي له الحكمة كما أنه العليم الذي له العلم والسميع الذي له السمع والبصير الذي له البصر فثبوت حكمته لا يستلزم استكماله بغير منفصل عنه كما أن كماله سبحانه بصفاته وهو لم يستفدها من غيره الجواب الثالث أنه سبحانه إذا كان إنما يفعل لأجل أمر هو أحب إليه من عدمه كان اللازم من ذلك حصول مراده الذي يحبه وفعل لأجله وهذا غاية الكمال وعدمه هو النقص فإن من كان قادرا على تحصيل ما يحبه وفعله في الوقت الذي يحب على الوجه الذي يحب فهو الكامل حقا لا من لا محبوب له أو له محبوب لا يقدر على فعله الجواب الرابع أن يقال أنت ذكرت في كتبك أنه لم يقم على نفي النقص عن الله دليل عقلي واتّبعت في ذلك الجويني وغيره وقلتم إنما ينفى النقص عنه عز وجل بالسمع وهو الإجماع فلم تنفوه عن الله عز وجل بالعقول ولا بنص منقول عن الرسول بل بما ذكرتموه من الإجماع وحينئذ فإنما ينفى بالإجماع ما انعقد الإجماع على نفيه والفعل بحكمه لم ينعقد الإجماع على نفيه فلم تجمع الأمة على انتفاء التعليل لأفعال الله فإذا سميت أنت ذلك نقصا لم تكن هذه التسمية موجبة لانعقاد الإجماع على نفيها فإن قلت أهل الإجماع أجمعوا على نفي النقص وهذا نقص قيل نعم الأمة مجمعة على ذلك ولكن الشأن في هذا الوصف المعني أهو نقص فيكون قد أجمعت على نفيه فهذا أول المسألة والقائلون بإثباته ليس هو عندهم نقصا بل هو عين الكمال ونفيه عين النقص وحينئذ فنقول في الجواب الخامس أن إثبات الحكمة كمال كما تقدم تقريره ونفيه نقص والأمة مجمعة على انتفاء النقص عن الله بل العلم بانتفائه عن الله تعالى من أعلى العلوم الضرورية المستقرة في فطر الخلق فلو كانت أفعاله معطلة عن الحكم والغايات المحمودة لزم النقص وهو محال ولزوم النقص من انتفاء الحكم أظهر في العقول والفطر والعلوم الضرورية والنظرية من لزوم النقص من إثبات ذلك وحينئذ فتقول في الجواب السادس النقص إما أن يكون جائزا أو ممتنعا فإن كان جائزا بطل دليلك وإن كان ممتنعا بطل دليلك أيضا فبطل الدليل على التقديرين الجواب السابع أن النقص منتف عن الله عز

ص: 207

وجل عقلا كما هو منتف عنه سمعا والعقل والنقل يوجب اتصافه بصفات الكمال والنقص هو ما يضاد صفات الكمال فالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة صفات كمال وأضدادها نقص فوجب تنزيهه عنها لمنافاتها لكماله وأما حصول ما يحبه الرب تعالى في الوقت الذي يحبه فإنما يكون كمالا إذا حصل على الوجه الذي يحبه فعدمه قبل ذلك ليس نقصا إذ كان لا يحب وجوده قبل ذلك الجواب الثامن أن يقال الكمال الذي يستحقه سبحانه وتعالى هو الكمال الممكن أو الممتنع فالأول مسلم والثاني باطل قطعا فلم قلت أن وجود الحادث في غير وقته الذي وجد فيه ممكن بل وجود الحادث في الأزل ممتنع فعدمه لا يكون نقصا الجواب التاسع أن عدم الممتنع لا يكون كمالا فإن الممتنع ليس بشيء في الخارج وما ليس بشيء لا يكون عدمه نقصا فإنه إن كان في المقدور ما لا يحدث إلا شيئا بعد شيء كان وجوده في الأزل ممتنعا فلا يكون عدمه نقصا وإنما يكون الكمال وجوده حين يمكن وجوده، الجواب العاشر أن يقال أنه تعالى أحدث أشياء بعد أن لم يكن محدثا لها كالحوادث المشهودة حتى أن القائلين بكون الفلك قديما عن عله موجبة يقرون بذلك ويقولون أنه يحدث الحوادث بواسطته وحينئذ فنقول هذا الإحداث إما أن يكون صفة كمال وإما أن لا يكون فإن كان صفة كمال فقد كان فاقدا لها قبل ذلك وإن لم يكن صفة كمال فقد اتصف بالنقص فإن قلت نحن نقول بأنه ليس صفة كمال ولا نقص قيل فهلا قلتم ذلك في التعليل وأيضا فهذا محال في حق الرب تعالى فإن كل ما يفعله يستحق عليه الحمد وكل ما يقوم من صفاته فهو صفة كمال وضده نقص وقد ينازع النظار في الفاعلية هل هي صفة كمال أم لا وجمهور المسلمين من جميع الفرق يقولون هي صفة كمال وقالت طائفة ليست صفة كمال ولا نقص وهو قول أكثر الأشعرية فإذا التزم له هذا القول قيل له الجواب من وجهين أحدهما أن من المعلوم تصريح العقل أن من يخلق أكمل ممن لا يخلق كما قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وهذا استفهام إنكار يتضمن الإنكار على من سوى بين الأمرين يعلم أن أحدهما أكمل من الآخر قطعا ولا ريب أن تفضيل من يخلق على من لا يخلق في الفطر والعقول كتفضيل من يعلم على من لا يعلم ومن يقدر على من لا يقدر ومن يسمع ويبصر على من لا يسمع ولا يبصر ولما كان هذا مستقرا في فطر بني آدم جعله الله تعالى من آلة توحيده وحججه على عباده قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون} وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} وقال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فمن سوى بين صفة الخالقية وعدمها فلم يجعل وجودها كمالا ولا عدمها نقصا فقد أبطل حجج الله وأدلة توحيده وسوى بين ما جعل بينهما أعظم التفاوت وحينئذ فنقول في الجواب الحادي عشر إذا كان الأمر كما ذكرتم فلم لا يجوز أن يفعل لحكمة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء كما أنه عندكم لم يحدث ما يحدثه مع كون الإحداث والخلق وعدمه بالنسبة إليه سواء مع أن هذه إرادة لا تعقل في

ص: 208

الشاهد فقولوا مثل ذلك في الحكمة وأن ذلك لا يعقل لا سيما والفعل عندكم هو المفعول المنفصل فجوزوا أيضا أن يفعل لحكمة منفصلة وأنتم إنما قلتم ذلك فرارا من قيام الحوادث به ومن التسلسل فكذلك قولوا بنظير ذلك في الحكمة والذي يلزم أولئك فهو نظير ما يلزمكم سواء، الجواب الثاني عشر أن يقال العقل الصريح يقضي بأن من لا حكمة لفعله ولا غاية يقصدها به أولى بالنقص ممن يفعل لحكمة كانت معدومة ثم صارت موجودة في الوقت الذي اقتضت حكمته إحداث الفعل فيه فكيف يسوغ لعاقل أن يقول فعله للحكمة يستلزم النقص وفعله لا لحكمة لا نقص فيه، الجواب الثالث عشر أن هؤلاء النفاة يقولون أنه سبحانه يفعل ما يشاء من غير اعتبار حكمة فيجوزون عليه كل ممكن حتى الأمر بالشرك والكذب والظلم والفواحش والنهي عن التوحيد والصدق والعدل والعقاب وحينئذ فنقول إذا جازت عليه هذه المرادات وليس في إرادتها نقص وهذا مراد فلا نقص فيه فقولهم من فعل شيئا لشيء كان ناقصا بدونه قضية كلية ممنوعة العموم وعمومها أولى بالمنع من قول القائل من أكرم أهل الجهل والظلم والفساد وأهان أهل العلم والعدل والبر كان سفيها جائرا وهذا عند النفاة جائز على الله ولم يكن به سفيها جائرا وكذلك قول القائل من أرسل إماءه وعبيده يفجر بعضهم ببعض ويقتل بعضهم بعضا وهو قادر على أن يكفيهم كان سفيها والله قد فعل ذلك ولم يدخل في عموم هذه القضية فكذا القضية الكلية التي ادعوا ثبوتها في محل النزاع أولى أن تكون باطلة منتقضة، الجواب الرابع عشر أنه لو سلم لهم أنه مستكمل بأمر حادث لكان هذا من الحوادث المرادات وكل ما هو حادث مراد عندهم فليس بقبيح فإن القبيح عندهم ليس إلا مخالفة الأمر والنهي والله ليس فوقه آمر ولا ناه فلا ينزه عندهم عن شيء من الممكنات البتة إلا ما أخبر بأنه لا يكون فإنهم ينزهونه عن كونه لمخالفة حكمته والقبيح عندهم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة وما دخل تحت القدرة لم يكن قبيحا ولا مستلزما نقصا عندهم وجماع ذلك بالجواب الخامس عشر أنه ما من محذور يلزم من تجويز فعله لحكمة إلا والمحاذير التي يلزم من كونه يفعل لا لحكمة أعظم امتناعا فإن كانت تلك المحاذير غير ممتنعة كانت محاذير إثبات الحكمة أولى بعدم الامتناع وإن كانت محاذير إثبات الحكمة ممتنعة فمحاذير نفيها أولى بالامتناع، الجواب السادس عشر أن فعل الحي العالم الاختياري لا لغاية ولا لغرض يدعوه إلى فعله لا يعقل بل هو من الممتنعات لهذا لا يصدر إلا من مجنون أو نائم أو زائل العقل فإن الحكمة والعلة الغائية هي التي تجعل المريد مريدا فإنه إذا علم بمصلحة الفعل ونفعه وغايته انبعثت إرادته إليه فإذا لم يعلم في الفعل مصلحة ولا كان له فيه غرض صحيح ولا داع يدعوه إليه فلا يقع منه إلا على سبيل العبث هذا الذي لا يعقل العقلاء سواه وحينئذ فنفي الحكمة والعلة والغاية عن فعل أحكم الحاكمين نفي لفعله الاختياري في الحقيقة وذلك أنقص النقص وقد تقدم تقرير ذلك وبالله التوفيق.

فصل: قال نفاة الحكمة هب أن الحجة بطلت فلا يلزم من بطلان دليل بطلان الحكم فنحن نذكر حجة غيرها فنقول لو كان فعله تعالى معللا بعلة فتلك العلة إن كانت قديمة لزم من قدمها قدم الفعل وهو محال وإن كانت محدثة افتقر كونه موجودا لتلك العلة إلى علة أخرى وهو محال وهذا معنى قول القائل علة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه قالوا ونحن نقرر هذه الحجة تقريرا

ص: 209

أبسط من هذا فنقول لو كان فعله تعالى لحكمة فتلك الحكمة إما قديمة أو محدثة فإن كانت قديمة فإما أن يلزم من قدمها الفعل قدم الفعل أو لا يلزم فإن لزم فهو محال وإن لم يلزم القدم والفعل موجود بدونها فالحكمة غير حاصلة من ذلك الفعل لحصوله دونها وما لا يكون الحكمة متوقفة على حصوله لا يكون متوقفا عليها وهو المطلوب وإن كانت الحكمة حادثة بحدوث الفعل فإما أن تفتقر إلى فاعل أو لا تفتقر إلى فاعل فإن لم تفتقر لزم حدوث من غير فاعل وهو محال وإن افتقرت إلى فاعل فذلك الفاعل إما أن يكون هو الله أو غيره لا يجوز أن يكون غيره لأنه لا خالق إلا الله وإن كان هو الله فإما أن يكون له في فعله غرض أو لا غرض له فيه فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في الأول ويلزم التسلسل وإن كان الثاني فقد خلا فعله عن الغرض وهو المطلوب فإن قلت فعله لذلك الغرض لغرض هو نفسه فما خلا عن غرض ولم يلزم التسلسل قلنا فيلزم مثله في كل مفعول مخلوق وهو أن يكون الغرض منه هو نفسه من غير حاجة إلى غرض آخر وهو المطلوب فهذه حجة باهرة وافية بالغرض قال أهل الحكمة بل هي حجة داحضة باطلة من وجوه والجواب عنها من وجوه الجواب الأول أن نقول لا يخلو إما أن يمكن أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع أو لا يمكن واحد منهما فإن أمكن أن يكون قديم العين أو النوع أمكن في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون كذلك وإن لم يمكن أن يكون الفعل قديم العين ولا النوع فيقال إذا كان فعله حادث العين أو النوع كانت الحكمة كذلك فالحكمة يحذى بها حذو الفعل فما جاز عليه جاز عليها وما امتنع عليه امتنع عليها الجواب الثاني أن من قال أنه خالق مكون في الأزل لما لم يكن بعد قال قولي هذا كقول من قال هو مريد في الأزل لما لم يكن بعد فقولي بقدم كونه فاعلا كقول هؤلاء بقدم كونه مريدا وعلى هذا فيمكنني أن أقول بقدم الحكمة التي يخلق ويريد لأجلها ولا يلزم من قدم الحكمة قدم الفعل كما لم يلزم من قدم الإرادة قدم المراد وكما يلزم من قدم صفة التكوين قدم المكون فقولي في قدم الحكمة مع حدوث الفعل التي فعل لأجلها كقولكم في قدم الإرادة والتكوين سواء وما لزمني لزمكم مثله وجوابكم هو جوابي بعينه ولا يمتنع ذلك على أصول طائفة من الطوائف فإن من قال من الفلاسفة أن فعله قديم للمفعول المعني يقول أن الحكمة قديمة ومن قال بحدوث أعيان الفعل ودوام نوعه يقول ذلك في الحكمة سواء ومن قال بحدوث نوع الفعل وقيامه بالرب قال ذلك في الحكمة أيضا كما يقوله كثير من النظار فلا يمتنع على أصل طائفة من الطوائف إثبات الحكمة في فعله سبحانه الجواب الثالث قولك يفتقر كونه محدثا لتلك العلة إلى علة أخرى ممنوع فإن هذا إنما يلزم أن لو قيل كل حادث فلا بد له من علة ونحن لا نقول هذا بل نقول يفعله لحكمة ومعلوم أن المفعول لأجله مراد للفاعل محبوب له والمراد المحبوب تارة يكون مرادا لنفسه وتارة يكون مرادا لغيره والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى المراد لنفسه قطعا للتسلسل وهذا كما نقوله في خلقه بالأسباب أنه يخلق كذا بسبب كذا وكذا بسبب كذا حتى ينتهي الأمر إلى أسباب لا سبب لها سوى مشيئة الرب فكذلك يخلق لحكمة وتلك الحكمة لحكمة حتى ينتهي الأمر إلى حكمة لا حكمة فوقها الجواب الرابع أن النفاة يقولون كل مخلوق فهو مراد لنفسه لا لغيره وحينئذ فلا يمتنع أن يكون بعض المخلوقات مرادا لغيره وينتهي الأمر إلى مراد لنفسه بل هذا أولى بالجواز من جعل كل مخلوق مرادا لنفسه وكذلك في الأمر يكون مرادا لغيره حتى

ص: 210

ينتهي إلى أمر مراد لنفسه الجواب الخامس أن يقال غاية ما ذكرتم أنه يستلزم التسلسل ولكن أي نوعي التسلسل هو اللازم التسلسل الممتنع أو الجائز فإن عنيتم الأول منع اللزوم وإن عنيتم الثاني منع انتفاء اللازم فإن التسلسل في الآثار المستقبلة ممكن بل واجب وفي الآثار الماضية فيه قولان للناس والتسلسل في العلل والفاعلين محال باتفاق العقلاء بأن يكون لهذا الفاعل فاعل قبله وكذلك ما قبله إلى غير نهاية وأما أن يكون الفاعل الواحد القديم الأبدي لم يزل يفعل ولا يزال فهذا غير ممتنع إذا عرف هذا فالحكمة التي لأجلها يفعل الفعل تكون حاصلة بعده فإذا كان بعدها حكمة أخرى فغاية ذلك أن يلزم حوادث لا نهاية لها وهذا جائز بل واجب باتفاق المسلمين ولم ينازع إلا بعض أهل البدع من الجهمية والمعتزلة فإن قيل فيلزم من هذا أن لا تحصل الغاية المطلوبة أبدا قيل بل اللازم أن لا تزال الغاية المطلوبة حاصلة دائما وهذا أمر معقول في الشاهد فإن الواحد من الناس يفعل الشيء لحكمة يحصل بها محبوبه ثم يلزم من حصول محبوبه محبوب آخر يفعل لأجله وهلم جرا حتى لو تصور دوامه أبدا لكانت هذه حاله وكماله فلم تزل محبوباته تحصل شيئا بعد شيء وهذا هو الكمال الذي يريده مع غناه التام الكامل عن كل ما سواه وفقر ما سواه إليه من جميع الوجوه وهل الكمال إلا ذلك وفواته هو النقص وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة والإحسان فرحمته وإحسانه من لوازم ذاته فلا يكون إلا رحيما محسنا وهو سبحانه إنما أمر العباد بما يحبه ويرضاه وأراد لهم من إحسانه ورحمته ما يحبه ويرضاه لكن فرق بين ما يريد هو سبحانه أن يخلقه ويفعله لما يحصل به من الحكمة التي يحبها فهذا يفعله سبحانه ولا بد من وجوده وبين ما يريد من العباد أن يفعلوه ويأمرهم بفعله ويحب أن يقع منهم ولا يشاء خلقه وتكوينه ففرق بين ما يريد خلقه وما يأمر به ولا يريد خلقه فإن الفرق بين ما يريد الفاعل أن يفعله وما يريد من المأمور أن يفعله فرق واضح والله سبحانه له الخلق والأمر فالخلق فعله والأمر قوله ومتعلقه أفعال عباده وهو سبحانه قد يأمر عبده ويريد من نفسه أن يعين عبده على فعل ما أمره لتحصل حكمته ومحبته من ذلك المأمور به وقد يأمره ولا يريد من نفسه إعانته على فعل المأمور لما له من الحكمة الثابتة في هذا الأمر وهذا الترك يأمره لئلا يكون له عليه حجة ولئلا يقول ما جاءني من نذير ولو أمرتني لبادرت إلى طاعتك ولم يرد من نفسه إعانته لأن محله غير قابل لهذه النعمة والحكمة التامة تقتضي أن لا توضع النعم عند غير أهلها وأن تمنع من أهلها قال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وقال: {لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وقال: {لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} ولا يقال فهلا سوى بين خلقه في جعلهم كلهم أهلا لذلك فإن هذا ممكن له ولا أن يقال فهلا سوى بين صورهم وأشكالهم وأعمارهم وأرزاقهم ومعاشهم وهذا وإن كان ممكنا فالذي وقع من التفاوت بينهم هو مقتضى حكمته البالغة وملكه التام وربوبيته فاقتضت حكمته أن سوى بينهم في الأمر وفاوت بينهم في الإعانة عليه كما فاوت بينهم في العلوم والقدر والغنى والحسن والفصاحة وغير ذلك والتخصيصات الواقعة في ملكه لا تناقض حكمته بل هي من أدل شيء على كمال حكمته ولولاها لم يظهر فضله ومنه قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} فضلا من الله ونعمة والله عليم بمن يصلح لهذه النعمة حكيم في وضعها عند أهلها ومنعها غير أهلها وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 211

اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وقالت الرسل لقومهم: {نْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الآية وفي حديث مثل المؤمنين واليهود والنصارى قال تعالى لأهل الكتاب هل ظلمتكم من حقكم من شيء قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} أي يعلم أين يضع فضله ومن يصلح له ممن لا يصلح بل يمنعه غير أهله ولا يضعه عند غير أهله وهذا كثير في القرآن يذكر أن تخصيصه هو فضله ورحمته فلو ساوى بين الخلائق لم يعرف قدر فضله ونعمته ورحمته فهذا بعض ما في تخصيصه من الحكمة وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: "أن موسى قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر" فمواضع التحصل ومواقع الفصل التي يقدح بها نفاة الحكمة هي من أدل شيء على كمال حكمته سبحانه ووضعه للفضل مواضعه وجعله عند أهله الذين هم أحق به وأولى من غيرهم وهو الذي جعلهم كذلك بحكمته وعلمه وعزته وملكه فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ولا يجب بل لا يمكن المشاركة في حكمته بل ما حصل للخلائق كلهم من العلم بها كنقرة عصفور في البحر المحيط وأي نقص في دوام حكمته شيئا بعد شيء كما تدوم إرادته وكلامه وأفعاله وإحسانه وجوده وإنعامه وهل الكمال إلا في هذا التسلسل فماذا نفر النفاة منه أنفرهم أن يقال لم يزل ولا يزال حيا عليما قديرا حكيما متكلما محسنا جوادا ملكا موصوفا بكل كمال غنيا عن كل ما سواه لا تنفد كلماته ولا تتناهى حكمته ولا تعجز قدرته ولا يبيد ملكه ولا تنقطع إرادته ومشيئته بل لم يزل ولا يزال له الخلق والأمر والحكمة والحكم وهل النقص إلا سلب ذلك عنه والله الموفق بفضله وإعانته الجواب السادس إن الرب تبارك وتعالى إذا خلق شيئا فلا بد من وجود لوازمه ولا بد من عدم أضداده فوجود الملزوم بدون لازمه محال ووجود الضد مع ضده ممتنع والمحال ليس بشيء ولا يتصور العقل وجوده في الخارج وإذا كان هذا التسلسل الجائز من لوازم خلقه وحكمته لم يكن في القول محذور بل كان المحذور في نفيه توضيحه الجواب السابع أنه لم يقم دليل عقلي ولا سمعي على امتناع دوام أفعال الرب في الماضي والمستقبل أصلا وكل أدلة النفاة من أولها إلى آخرها باطلة وقد كفى مؤنة إبطالها الرازي والآمدي في أكثر كتبهما وغيرها وأما إثبات الحكمة فقد قام على صحته العقل والسمع والفطرة وسائر أنواع الأدلة مما تقدمت الإشارة إلى بعض

ص: 212

ذلك فكيف يقدح في هذا المعلوم الصحيح بذلك النفي الذي لم يقم على صحته دليل البتة الجواب الثامن أن التسلسل إما أن يكون ممكنا أو ممتعنا فإن كان ممكنا بطل استدلالكم وإن كان ممتنعا أمكن أن يقال في دفعه تنتهي المرادات إلى مراد لنفسه لا لغيره وينقطع التسلسل الجواب التاسع أن يقال ما المانع أن تكون الفاعلية معللة بعلة قديمة قولكم يلزم من قدمها قدم المعلول ينتقص عليكم بالإرادة فإنها قديمة ولم يلزم من قدمها قدم المراد فإن قلتم الإرادة القديمة تعلقت بالمراد الحادث في وقت حدوثه واقتضت وجوده حينئذ فهلا قلتم أن الحكمة القديمة تعلقت بالمراد وقت حدوثه كما قلتم في الإرادة فإن قلتم شأن الإدارة التخصيص قيل لكم وكذلك الحكمة شأنها تخصيص الشيء بزمانه ومكانه وصفته فالتخصيص مصدره الحكمة والإرادة والعلم والقدرة فإن لزم من قدم الحكمة قدم الفعل لزم من قدم الإرادة قدمه وإن لم يلزم ذلك لم يلزم هذا الجواب العاشر أن يقال لو لم يكن فعله لحكمة وغاية مطلوبة لم يكن مريدا فان المريد لا يعقل كونه مريدا إلا إذا كان يريد لغرض وحكمة فإذا انتفت الحكمة والغرض انتفت الإرادة ويلزم من انتفاء الإرادة أن يكون موجبا بالذات وهو علة تامة في الأزل لمعلوله فيلزم أن يقارنه جميع معلوله ولا يتأخر فيلزم من ذلك قدم الحوادث المشهودة وإنما لزم ذلك من انتفاء الحكمة والغرض المستلزمة لنفي الإرادة المستلزمة للإيمان الذاتي المستلزم لقدم الحوادث وتقرير هذا وبسطه في غير هذا الموضع.

فصل: قال نفاة الحكمة جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين تحصيل اللذة والسرور ودفع الألم والحزن والغم والله سبحانه قادر على تحصيل هذين المطلوبين ابتداء من غير شئ من الوسائط ومن كان قادرا على تحصيل المطلوب ابتداء بغير واسطة كان توسله إلى تحصيله بالوسائط عبثا وهو على الله محال قال أصحاب الحكمة عن هذه الشبهة أجوبة الجواب الأول أن يقال لا ريب إن الله على كل شئ قدير لكن لا يلزم إذا كان الشيء مقدورا ممكنا أن تكون الحكمة المطلوبة لوجوده يمكن تحصيلها مع عدمه فإن الموقوف على الشيء يمتنع حصوله بدونه كما يمتنع حصول الابن بكونه ابنا بدون الأب فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال والجمع بين الضدين محال ولا يقال فيلزم العجز لأن المحال ليس بشيء فلا تتعلق به القدرة والله على كل شئ قدير فلا يخرج ممكن عن قدرته البتة، الجواب الثاني أن دعوى كون توسط أحد الأمرين إذا كان شرطا أو سببا له عبث دعوى كاذبة باطلة فإن العبث هو الذي لا فائدة فيه وأما توسط الشرط أو السبب أو المادة التي يحدث فيها ما يحدثه فليس بعبث توضيحه، الجواب الثالث أن حصول الأعراض والصفات التي يحدثها الله سبحانه في موادها شروط لحصول تلك المواد ولا يتصور وجودها بدونها فتوسطها أمر ضروري لا بد منه فينقلب عليكم دليلكم ونقول هل يقدر سبحانه على إيجاد تلك الحوادث بدون توسط موادها الحاملة لها أولا يمكن فإن قلتم يمكن ذلك كان توسطها عبثا وإن قلتم لا يقدر كان تعجيزا فإن قلتم هذا فرض مستحيل والمحال ليس بشيء قيل صدقتم وهذا جوابنا بعينه، الجواب الرابع أن يقال إذا كان في خلق تلك الوسائط حكم أخرى تحصل بخلقها للفاعل وفي خلقها مصالح ومنافع لتلك الوسائط لم يكن توسطها عبثا ولم تكن الحكمة حاصلة بعدمها كما أنه سبحانه إذا جعل رزق بعض خلقه في البخارات مثلا فاقتضى ذلك أن تخليق الصانع إلى من يحتاج فينتفع هؤلاء بالصانع وهؤلاء باليمن

ص: 213

كان في ذلك مصلحة هؤلاء وهؤلاء وإذا تأملت الوجود رأيته قائما بذلك شاهدا على منكري الحكمة فكم لله سبحانه في إحداث تلك الوسائط من حكم ومصالح ومنافع للعباد لو بطلت تلك الوسائط لفاتت تلك الحكم والمصالح، الجواب الخامس قولك يلزم العبث وهو على الله محال فيقال إن كان العبث عليه محالا لزم أن لا يفعل ولا يأمر إلا لمصلحة وحكمة فبطل قولك بقولك وإن لم يكن العبث عليه محالا بطلت هذه الحجة فيتحقق بطلانها على التقديرين، الجواب السادس أن يقال ما المانع أن يفعل سبحانه أشياء معللة وأشياء غير معللة بل مرادة لذاتها وإذا جاز هذا جاز أن يقال أن هذه الوسائط غير معللة ولا يمكنك نفي هذا القسم إلا بأن تقول أن شيئا من أفعاله غير معلل البتة وأنت إنما نفيت هذا بلزوم العبث في توسط تلك الأمور ولا يلزم من انتفاء التعليل في بعض الأفعال انتفاؤه في الجميع فإنه لا يجب أن يكون كل شيء لعلة فأنت نفيت جواز التعليل وغاية هذه الحجة لو صحت أن تدل على أنه لا يجب في كل شيء أن يكون لعلة فلم يثبت الحكم والدليل وهذا كما يقول الفقهاء مع قولهم بالتعليل أن من الأحكام ما يفيد غير معلل فهلا قلت في الخلق كقولهم في الأمر وهذا إنما هو بطريق الإلزام وإلا فالحق أن جميع أفعاله وشرعه لها حكم وغايات لأجلها شرع وفعل وأن لم يعلمها الخلق على التفصيل فلا يلزم من عدم علمهم بها انتفاؤها في نفسها، الجواب السابع أن غاية هذه الشبهة أن يكون سبحانه قادرا على تحصيل تلك الحكم بدون تلك الوسائط كما هو قادر على تحصيلها بها وإذا كان الأمران مقدوران له لم يكن العدول عن أحد المقدورين إلى الآخر عبثا إلا إذا كان المقدور الآخر مساويا لهذا من كل وجه ولا يمكن عاقلا أن يقول أن تعطيل تلك الوسائط وعدمها مساو من كل وجه لوجودها وهذا من أعظم البهت وأبطل الباطل وهو يتضمن القدح في الحس والعقل والشرع كما هو قدح في الحكمة فإن من جعل وجود الرسل وعدمهم سواء ووجود الشمس والقمر والنجوم والمطر والنبات والحيوان وعدمها سواء ووجود هذه الوسائط جميعها وعدمها سواء فلم يدع للمكابرة موضعها، الجواب الثامن قولك جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين اللذة الهم والحزن أتريد به الغرض الذي يفعل لأجلها الحيوان أو الحكمة التي يفعل الله سبحانه لأجلها أم تريد به ما هو أعم من ذلك فإن أردت الأول لم تفدك شيئا وإن أردت الثاني أو الثالث كانت دعوى مجردة لا برهان عليها فإن حكمة الرب تعالى فوق تحصيل اللذة ودفع الغم والحزن فإنه يتعالى عن ذلك بل ليس كمثل حكمته شيء كما أنه موصوف بالإرادة وليست كإرادة الحيوان فإن الحيوان يريد ما يريده ليجلب له منفعة أو يدفع به عنه مضرة وكذلك غضبه ليس مشابها لغضب خلقه فإن غضب المخلوق هو غليان دم قلبه طلبا للانتقام والله يتعالى عن ذلك وكذلك سائر صفاته فكما أنه ليس كمثله شيء في إرادته ورضاه وغضبه ورحمته وسائر صفاته فهكذا حكمته سبحانه لا تماثل حكمة المخلوقين بل هي أجل وأعلى من أن يقال أنها تحصيل لذة أو دفع حزن فالمخلوق لنقصه يحتاج أن يفعل ذلك لأن مصالحه لا تتم إلا به والله سبحانه غني بذاته عن كل ما سواه لا يستفيد من خلقه كمالا بل خلقهم يستفيدون كمالهم منه، الجواب التاسع أن يقال قد دل الوحي مع العقل على أنه سبحانه يحب ويبغض أما الوحي فالقرآن مملوء من ذلك وأما العقل فما نشاهد في العالم من إكرام أوليائه وأهل طاعته وإهانة أعدائه وأهل معصيته شاهد لمحبته لهؤلاء ورضاه

ص: 214

عنهم وبغضه لهؤلاء وسخطه عليهم ومعلوم قطعا أن من يحب ويبغض أكمل محبة وبغض وهو قادر على تحصيل محابه فإن حكمته فيما يفعله ويتركه أتم حكمة وأكملها فهو يفعل ما يفعله لأنه يوصل إلى محابه ويترك ما يتركه لأنه لا يحبه وإذا فعل ما يكرهه لم يفعله إلا لإفضائه إلى ما يحب وإن كان مكروها في نفسه فإن أردت باللذة والسرور والهم والحزن الحب والبغض فالرب تعالى يحب ويبغض لم يلزم من كونه يفعل لحكمة أن يتصف بذلك، الجواب العاشر أنه سبحانه إذا كان قادرا على تحصيل ذلك بدون الوسائط وهو قادر على تحصيله بها كان فعل النوعين أكمل وأبلغ في القدرة وأعظم في ملكه وربوبيته من كونه لا يفعل إلا بأحد النوعين والرب تعالى تتنوع أفعاله لكمال قدرته وحكمته وربوبيته فهو سبحانه قادر على تحصيل تلك الحكمة بواسطة إحداث مخلوق من فصل وبدون إحداثه بل بما يقوم به من أفعاله اللازمة وكلماته وثنائه على نفسه وحمده لنفسه فمحبوبه يحصل بهذا وهذا وذلك أكمل ممن لا يحصل محبوبه إلا بأحد النوعين، الجواب العاشر أن الرب سبحانه كامل في أوصافه وأسمائه وأفعاله فلا بد من ظهور آثارها في العالم فإنه محسن ويستحيل وجود الإحسان بدون من يحسن إليه ورزاق فلا بد من وجود من يرزقه وغفار وحليم وجواد ولطيف بعباده ومنان ووهاب وقابض وباسط وخافض ورافع ومعز ومذل وهذه الأسماء تقتضي متعلقات تتعلق بها وآثارا تتحقق بها فلم يكن بد من وجود متعلقاتها وإلا تعطلت تلك الأوصاف وبطلت تلك الأسماء فتوسط تلك الآثار لا بد منه في تحقق معاني تلك الأسماء والصفات فكيف يقال أنه عبث لا فائدة فيه وبالله التوفيق.

فصل: قال نفاة الحكمة لو وجب أن يكون خلقه وأمره معللا بحكمة وغرض لكان خلق الله العالم في وقت معين دون ما قبله ودون ما بعده معللا برعاية غرض ومصلحة ثم تلك المصلحة والغرض إما أن يقال كان حاصلا قبل ذلك الوقت أو لم يكن حاصلا قبله فإن كان ما لأجله أوجد الله العالم في ذلك الوقت حاصلا قبل أن أوجده فيلزم أن يقال أنه كان موجدا له قبل أن لم يكن موجدا له وذلك محال وإن قلنا أن ذلك الغرض والمصلحة لم يكن حاصلا قبل ذلك الوقت وإنما حدث في ذلك الوقت فنقول حصول ذلك الغرض في ذلك الوقت إما أن يكون مفتقرا إلى المحدث أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الشيء لا عن موجد ومحدث وهو محال وأن افتقر إلى محدث فإن افتقر تخصص إحداث ذلك الغرض بذلك الوقت إلى غرض آخر عاد التقسيم الأول فيه ولزم التسلسل وإن لم يفتقر إلى رعاية غرض آخر فحينئذ تكون موجدية الله سبحانه وخالقيته غنية عن الأغراض والمصالح وهذا هو المطلوب قالوا وهذه الحجة كما أنها قائمة في اختصاص العالم بذلك الوقت المعين فهي قائمة في اختصاص كل حادث من الحوادث بوقته المعين وملخصها أن إحداث الحادث في وقته إن كان لغرض فإن كان ذلك الغرض حاصلا قبله لزم حدوثه قبل حدوثه وإلا افتقر إلى الإحداث فإحداثه إن كان لغرض تسلسل وإلا ثبت المطلوب قال أهل الحكمة هذه الحجة بعينها مذكورة في ضمن الحجة الثانية التي تقدمت وكأنكم يعجبكم التشييع بكره الباطل وجميع ما أجبناكم به هناك فهو الجواب ههنا بعينه فغاية هذا أنه تسلسل في الآثار لا في المؤثرات وتسلسل في الحوادث المستقبلة وذلك جائز بل واجب باتفاق المسلمين سوى قول حبهم والعلاف وغاية الأمر أن يكون في الحوادث

ص: 215

ما يراد لنفسه وفيها ما يراد لغيره والحكمة المطلوبة لنفسها لا تفتقر إلى أخرى تراد لأجلها وأن هذا الدليل لو صحت مقدماته وهيهات فإنما يدل على أن أفعاله تعالى لا يجب تعليلها ولا يلزم من ذلك أن لا يجوز تعليلها فنفي الوجوب شيء ونفي الجواز شيء فهب أنا سلمنا الأول فأين دليل الثاني وغايتها أنها تدل على عدم تعليل بعض الحوادث لا على عدم تعليل جميعها وبالجملة فما تقدم هناك مغزاها عن الإطالة في الأجوبة وسر المسألة أن دوام فاعليته في المستقبل متفق عليه والسلف على دوامها في الماضي وإنما خالف في ذلك كثير من أهل الكلام.

فصل: قال نفاة الحكمة قد قام الدليل على أنه سبحانه خالق كل شيء فأي حكمة أو مصلحة في خلق الكفر والفسوق والعصيان وأي حكمة في خلق من علم أنه يكفر ويفسق ويظلم ويفسد الدنيا والدين وأي حكمة في خلق كثير من الجمادات التي وجودها وعدمها سواء وكذلك كثير من الأشجار والنبات والمعادن المعطلة والحيوانات المهملة بل العادية المؤذية وأي حكمة في خلق السموم والأشياء المضرة وأي حكمة في خلق إبليس والشياطين وإن كان في خلقهم حكمة فأي حكمة في بقائه إلى آخر الدهر وإماتة الرسل والأنبياء وأي حكمة في إخراج آدم وحواء من الجنة وتعريض الذرية لهذا البلاء العظيم وقد أمكن أن يكونوا في أعظم العافية وأي حكمة في إيلام الحيوانات وإن كان في إيلام المكلفين منها حكمة فما الحكمة في إيلام غير المكلف كالبهائم والأطفال والمجانين وأي حكمة له في خلقه خلقا يعذبهم بأنواع العذاب الدائم الذي لا ينقطع وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب قتلا وأسرا وعقوبة واستبعادا وأي حكمة في تكليف الثقلين وتعريضهما بالتكليف لأنواع المشاق والعذاب قالوا ونحن والعقلاء نعلم علما ضروريا إن خلود أهل النار فيها فعل الله ونعلم ضرورة أنه لا فائدة في ذلك تعود إليه ولا إلى المعذبين ولا إلى غيرهم قالوا ويكفينا في ذلك مناظرة الأشعري لأبي هاشم الجبائي حين سأله عن ثلاثة إخوة مات أحدهم مسلما قبل البلوغ وبلغ الآخران فمات أحدهما مسلما والآخر كافرا فاجتمعوا عند رب العالمين فبلغ المسلم البالغ المرتبة العليا بعمله وإسلامه فقال أخوه يا رب هلا رفعتني إلى منزلة أخي المسلم فقال إنه عمل أعمالا لم تعملها فقال يا رب فهلا أحييتني حتى أعمل مثل عمله قال علمت أن موتك صغيرا خير لك إذ لو بلغت لكفرت فصاح الأخ الثالث من أطباق الجحيم وقال يا رب فهلا أمتني صغيرا قبل البلوغ كما فعلت بأخي فما جوابه قال فانقطع الشيخ ولم يذكر جوابا قال نفاة الحكمة وهذا قاطع في المسألة لا غبار عليه وقال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} وقال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} ٌ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} فرد الأمر إلى محض مشيئته وأخبر أن صدور الأشياء كلها عنها وقالوا وأصل ضلال الخلق هو طلب تعليل أفعال الرب كما قال شيخ الإسلام في تائيته:

وأصل ضلال الخلق من كل فرقة

هو الخوض في فعل الإله بعلة

فإنهم لما طلبوا علة أفعاله فأعجزهم العلم بها افترقوا بعد ذلك فطائفة ردت الأمر إلى الطبيعة والأفلاك التزمت مكابرة الحس والعقل وقالوا أن أهل خلود النار في النار أنفع لهم وأصلح

ص: 216

من كونهم في الجنة وأن إبقاء إبليس يغوي الخلق ويضلهم أنفع لهم من إماتته وإن إماتة الأنبياء أصلح للأمم من إبقائهم بينهم وأن تعذيب الأطفال خير لهم من رحمتهم إلى غير ذلك من المحالات التي قادهم إليها الخوض في تعليل أفعال من لا يسأل عما يفعل فلذلك قلنا أن الصواب القول بعدم التعليل وتخلصنا من الحبائل والإشراك التي وقعتم فيها قال أهل الحكمة ليست هذه الأسئلة والاعتراضات التي قد جئتم بها في حكمة أحكم الحاكمين بأقوى من الأسئلة والاعتراضات التي قدح بها أهل الإلحاد في وجوده سبحانه وقد أقاموا أربعين شبهة تنفي وجوده وكذلك اعتراضات المكذبين لرسله وقد حكيتم أنتم عنهم ثمانين اعتراضا وكذلك الاعتراضات التي قدح بها المعطلة في إثبات صفات كماله قد علمتم شأنها وكبرها وكذلك الاعتراضات التي نفي بها الجهمية علوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لعباده وقد علمتم الاعتراضات التي اعترض بها أهل الفلسفة على كونه خالقا للعالم في ستة أيام وعلى كونه يقيم الناس من قبورهم ويبعثهم إلى دار السعادة أو الشقاء ويبدل هذا العالم ويأتي بغيره واعتراضات هؤلاء وأسئلتهم أضعاف اعتراضات نفاة الحكمة وغايات أفعاله المقصودة وكذلك اعتراضات نفاة القدر وأسئلتهم إلى غير ذلك وقد اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن أقام في هذا العالم لكل حق جاحدا ولكل صواب معاندا كما أقام لكل نعمة حاسدا ولكل شر رائدا وهذا من تمام حكمته الباهرة وقدرته القاهرة ليتم عليهم كلمته وينفذ فيهم مشيئته ويظهر فيهم حكمته ويقضي بينهم بحكمه ويفاضل بينهم بعلمه ويظهر فيهم آثار صفاته العليا وأسمائه الحسنى ويتبين لأوليائه وأعدائه يوم القيامة أنه لم يخل لحكمة ولم يخلق خلقه عبثا ولا يتركهم سدا وأنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا وأن له الحمد التام الكامل على جميع ما خلقه وقدره وقضاه وعلى ما أمر به ونهى عنه وعلى ثوابه وعقابه وأنه لم يضع من ذلك شيئا إلا في محله الذي لا يليق به سواه قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} وإذا تبين لأهل الموقف ونفذ فيهم قضاؤه الفصل وحكمه العدل نطق الكون أجمعه بحمده كما قال تعالى: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وجواب هذه الأسئلة من وجوه أحدها أن الحكمة إنما تتعلق بالحدوث والوجود والكفر والشرور وأنواع المعاصي راجعة إلى مخالفة نهي الله ورسوله وترك ما أمر به وليس ذلك من متعلق الإيجاد في شيء ونحن إنما التزمنا أن ما فعله الله وأوجده فله فيه حكمة وغاية مطلوبة وأما ما تركه سبحانه ولم يفعله فإنه وإن كان إنما تركه لحكمة في ذلك فلم يدخل في كلامنا فلا يرد علينا وقد قيل أن الشر ليس إليه بوجه فإنه عدم الخير وأسبابه والعدم ليس بشيء كاسمه فإذا قلنا أن أفعال الرب تعالى واقعة وغاية محمودة لم يرد علينا تركه يوضحه الجواب الثاني وهو أنه سبحانه قد يترك ما لو خلقه لكان في خلقه له حكمة فيتركه لعدم محبته لوجوده أو لكون وجوده يضاد ما هو أحب أو لاستلزام وجوده فوات محبوب له آخر وعلى هذا فتكون حكمته في عدم خلقه أرجح من حكمته في خلقه والجمع بين الضدين مستحيل فرجح سبحانه أعلى الحكمتين بتفويت أدناهما وهذا غاية الحكمة فخلقه وأمره مبني على تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بتفويت المرجوحة التي لا يمكن الجمع بينها وبين تلك الراجحة وعلى دفع المفاسد

ص: 217

الخالصة أو الراجحة وإن وجدت المفاسد المرجوحة التي لا يمكن الجمع بين عدمها وعدم تلك الراجحة وخلاف هذا هو خلاف الحكمة والصواب الجواب الثالث أن يقال غاية ذلك انتفاء الحكمة في هذا النوع من المقدورات فيلزم من ذلك انتفاؤها في جميع خلقه وحكمه فهب أن هذا النوع لا حكمة فيه فمن أين يستلزم ذلك نفي الحكمة والغرض في كل شيء كيف وفيه من الحكم والغايات المحمودة ما هو معلوم لأهل البصائر الراسخين في العلم كما سننبه على ذلك منه إن شاء الله، الجواب الرابع أنا لم ندع حكمة يجب أو يمكن اطّلاع الخلق على تفاصيلها فإن حكمة الله أعظم وأجل من ذلك فما المانع من اشتمال ما ذكرتم من الصور وغيرها على الحكم حجة ينفرد الله بعلمها كما قال للملائكة وقد سألوه عن ذلك أني أعلم ما لا تعلمون فمن يقول بلزوم الحكمة لأفعاله وأحكامه مطلقا لا يوجب مشاركة خلقه له في العلم بها، الجواب الخامس أن الله سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وله في جميع ما ذكرتم وغيره حكمة ليست من جنس الحكمة التي للمخلوقين كما أن فعله ليس مماثلا فعلهم ولا قدرته وإرادته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه مماثلا لصفات المخلوقين، الجواب السادس أن الحكمة تابعة للعلم والقدرة فمن كان أعلم وأقدر كانت أفعاله أحكم وأكمل والرب منفرد بكمال العلم والقدرة فحكمته بحسب علمه وقدرته كما تقدم تقريره فحكمته متعلقة بكل ما تعلق به علمه وقدرته، الجواب السابع أن الأدلة القاطعة قد قامت على أنه حكيم في أفعاله وأحكامه فيجب القول بموجبها وعدم العلم بحكمته في الصور المذكورة لا يكون مسوغا لمخالفة تلك الأدلة القاطعة لا سيما وعدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه، الجواب الثامن أن كماله المقدس يمنع خلو هذه الصور التي تقصيتم عن الحكمة وكماله أيضا يأبى إطلاع خلقه على جميع حكمته فحكمته تمنع إطلاع خلقه على جميع حكمته بل الواحد منا لو أطلع غيره على جميع شأنه وأمره عد سفيها جاهلا وشأن الرب أعظم من أن يطلع كل واحد من خلقه على تفاصيل حكمته، الجواب التاسع أنكم إما أن تعترفوا بأن له حكمة في شيء من خلقه وأمره أو تنكروا أن يكون له في شيء من خلقه وأمره حكمة فإن أنكرتم ذلك وما هو من الظالمين ببعيد كذبتم جميع كتب الله ورسوله والعقل والفطرة والحسن وكذبتم عقولكم قبل تكذيب العقلاء فإن جحد حكمة الله الباهرة في خلقه وأمره بمنزلة جحد الشمس والقمر والليل والنهار وغير مستنكر لكثير من الطوائف أهل الكلام المكابرة في جحد الضروريات وإن أقررتم بحكمة في بعض خلقه وأمره قيل لكم فأي الأمرين أولى به وجود تلك الحكمة أم عدمها فإن قلتم عدمها أولى من وجودها كان هذا غاية الكذب والبهت والمحال وإن قلتم وجودها أكمل قيل فهل هو قادر على تحصيلها في جميع خلقه وأحكامه أم غير قادر فإن قلتم غير قادر جئتم بالعظيمة في العقل والدين وانسلختم من عقولكم وأذهانكم وإن قلتم بل هو قادر على ذلك قيل فإذا كان قادرا على شيء وهو كمال في نفسه ووجوده خير من عدمه وهو أولى به فكيف يجوز نفيه عنه فإن قلتم إنما نفياه لأنا لم نطلع على حقيقته قيل صدقتم والله سائلكم في جميع ما تنفونه عن الله إنما مستندكم في نفيه عدم الاطّلاع على حقيقته ولم تكتفوا بقبول قول الرسل فصرتم إلى النفي، الجواب العاشر أن العقلاء قاطبة متفقون على أن الفاعل إذا فعل أفعالا ظهرت فيها حكمته ووقعت على أتم الوجوه وأوفقها للمصالح المقصودة بها ثم إذا رأوا أفعاله قد تكررت كذلك ثم جاءهم من أفعاله ما لا يعلمون وجه حكمته فيه لم يسعهم غير التسليم

ص: 218

لما عرفوا من حكمته واستقر في عقولهم منها وردوا منها ما جهلوه إلى محكم ما علموه هكذا نجد أرباب كل صناعة مع أستاذهم حتى أن النفاة يسلكون هذا المسلك بعينه مع أئمتهم وشيوخهم فإذا جاءهم إشكال على قواعد أئمتهم ومذاهبهم قالوا هم أعلم منا وهم فوقنا في كل علم ومعرفة وحكمة ونحن معهم كالصبي مع معلمه وأستاذه فهلا سلكوا هذا السبيل مع ربهم وخالقهم الذي بهرت حكمته العقول وكان نسبتها إلى حكمته أولى من نسبة عين الخفاش إلى جرم الشمس ولو أن العالم الفاضل المبرز في علوم كثيرة أعرض على من لا يشاركه في صنعته ولا هو من أهلها وقدح في أوضاعها لخرج عن موجب العقل والعلم وعد ذلك نقصا وسفها فكيف بأحكم الحاكمين وأعلم العالمين وأقدر القادرين، الجواب الحادي عشر أن الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار والعلو والسفل والطيب والخبيث والخفيف والثقيل والحلو والمر والبرد والألم واللذة والحياة والموت والداء والدواء فخلق هذه المتقابلات هو محل ظهور الحكمة الباهرة ومحل ظهور القدرة القاهرة والمشيئة النافذة والملك الكامل التام فتوهم تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها وذلك عين المحال فإن لكل صفة من الصفات العليا حكما ومقتضيات وأثرا هو مظهر كمالها وإن كانت كاملة في نفسها لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها فلا يجوز تعطيله فإن صفة القادر تستدعي مقدورا وصفة الخالق تستدعي مخلوقا وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر المعز المذل العفو الرءوف تستدعي آثارها وأحكامها فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه لم يظهر كمالها وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه وفات كمال الملك والتصرف فإن الملك إذا اقتصر تصرفه على مقدور واحد من مقدوراته فإما أن يكون عاجزا عن غيره فيتركه عجزا أو جاهلا بما في تصرفه في غيره من المصلحة فيتركه جهلا وأما أقدر القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد لأن ذلك نقص في ملكه فالكمال كل الكمال في العطاء والمنع والخفض والرفع والثواب والعقاب والإكرام والإهانة والإعزاز والإذلال والتقديم والتأخير والضر والنفع وتخصيص هذا على هذا وإيثار هذا على هذا ولو فعل هذا كله بنوع واحد متماثل الأفراد لكان ذلك منافيا لحكمته وحكمته تأباه كل الإباء فإنه لا يفرق بين متماثلين ولا يسوى بين مختلفين وقد عاب على من يفعل ذلك وأنكر على من نسبه إليه والقرآن مملوء من عيبه على من يفعل ذلك فكيف يجعل له العبيد ما يكرهون ويضربون له مثل السوء وقد فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض وطعنهم على من يفعله وكيف يعيب الرب سبحانه من عباده شيئا ويتصف به وهو سبحانه إنما عابه لأنه نقص فهو أولى أن يتنزه عنه وإذا كان لا بد من ظهور آثار الأسماء والصفات ولا يمكن ظهور آثارها إلا في المتقابلات والمتضادات لم يكن في الحكمة بد من إيجادها إذ لو فقدت لتعطلت الأحكام بتلك الصفات وهو محال يوضحه الوجه الثاني عشر أن من أسمائه الأسماء المزدوجة

ص: 219

كالمعز المذل والخافض الرافع والقابض الباسط والمعطي المانع ومن صفاته الصفات المتقابلة كالرضا والسخط والحب والبغض والعفو والانتقام وهذه صفات كمال وإلا لم يتصف بها ولم يتسم بأسمائها وإذا كانت صفات كمال فإما أن يتعطل مقتضاها وموجبها وذلك يستلزم تعطيلها في أنفسها وإما أن تتعلق بغير محلها الذي يليق بأحكامها وذلك نقص وعيب يتعالى عنه فيتعين تعلقها بمحالها التي تليق بها وهذا وحده كاف في الجواب لمن كان له فقه في باب الأسماء والصفات ولا غيره يغيره يوضحه الوجه الثالث عشر أن من أسمائه الملك ومعنى الملك الحقيقي ثابت له سبحانه بكل وجه وهذه الصفة تستلزم سائر صفات الكمال إذ من المحال ثبوت الملك الحقيقي التام لمن ليس له حياة ولا قدرة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا فعل اختياري يقوم به وكيف يوصف بالملك من لا يأمر ولا ينهى ولا يثيب ولا يعاقب ولا يعطي ولا يمنع ولا يعز ويذل ويهين ويكرم وينعم وينتقم ويخفض ويرفع ويرسل الرسل إلى أقطار مملكته ويتقدم إلى عبيده بأوامره ونواهيه فأي ملك في الحقيقة لمن عدم ذلك وهذا يبين أن المعطلين لأسمائه وصفاته جعلوا مماليكه أكمل منه ويأنف أحدهم أن يقال في أمره وملكه ما يقوله هو في ربه فصفة ملكية الحق مستلزمة لوجود ما لا يتم التصرف إلا به والكل منه سبحانه فلم يتوقف كمال ملكه على غيره فإن كل ما سواه مسند إليه متوقف في وجوده على مشيئته وخلقه يوضحه الوجه الرابع عشر أن كمال ملكه بأن يكون مقارنا بحمده فله الملك وله الحمد والناس في هذا المقام ثلاث فرق فالرسل وأتباعهم أثبتوا له الملك والحمد وهذا مذهب من أثبت له القدر والحكمة وحقائق الأسماء والصفات ونزهه عن النقائص ومشابهة المخلوقات ويوحشك في هذا المقام جميع الطوائف غير أهل السنة الذين لم يتحيزوا إلى نحلة ولا مقالة ولا متبوع من أهل الكلام الفرقة الثانية الذين أثبتوا له الملك وعطلوا حقيقة الحمد وهم الجبرية نفاة الحكمة والتعليل القائلين بأنه يجوز عليه كل ممكن ولا ينزه عن فعل قبيح بل كل ممكن فإنه لا يقبح منه وإنما القبيح المستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين فيجوز عليه تعذيب ملائكته وأنبيائه ورسله وأهل طاعته وإكرام إبليس وجنوده وجعلهم فوق أوليائه في النعيم المقيم أبدا ولا سبيل لنا إلى العلم باستحالة ذلك إلا من نفى الخلف في خبره فقط فيجوز أن يأمر بمشيئته ومشيئة أنبيائه والسجود للأصنام وبالكذب والفجور وسفك ونهب الأموال وينهى عن البر والصدق والإحسان والعفاف ولا فرق في نفس الأمر بين ما أمر به ونهى عنه إلا التحكم بمحض المشيئة وأنه أمر بهذا ونهى عن هذا من غير أن يكون فيما أمر به صفة حسن تقتضي محبته والأمر به ولا فيما نهى عنه صفة قبح تقتضي كراهته والنهي عنه فهؤلاء عطلوا حمده في الحقيقة وأثبتوا له ملكا بلا حمد مع أنهم في الحقيقة لم يثبتوا له ملكا فإنهم جعلوه معطلا في الأزل والأبد لا يقوم به فعل البتة وكثير منهم عطله عن صفات الكمال التي لا يتحقق كونه ملكا وربا وإلها إلا بها فلا ملكا أثبتوا ولا حمدا الفرقة الثالثة أثبتوا له نوعا من الحمد وعطلوا كمال ملكه وهم القدرية الذين أثبتوا نوعا من الحكمة ونفوا لأجلها كمال قدرته فحافظوا على نوع من الحمد عطلوا له كمال الملك وفي الحقيقة لم يثبتوا لا هذا ولا هذا فإن الحكمة التي أثبتوها جعلوها راجعة إلى المخلوق لا يعود إليه سبحانه حكمها والملك الذي أثبتوه فإنهم في الحقيقة إنما قرروا نفيه لنفي قيام الصفات التي لا يكون ملكا حقا إلا بها ونفي قيام الأفعال

ص: 220

الاختيارية فلم يقم به عندهم وصف ولا فعل ولا له إرادة ولا كلام ولا سمع ولا بصر ولا فعل ولا له حب ولا بغض معطل عن حقيقة الملك والحمد والمقصود أن عموم ملكه يستلزم إثبات القدر وأن لا يكون في ملكه شيء بغير مشيئته فالله أكبر من ذلك وأجل وعموم حمده يستلزم أن لا يكون في خلقه وأمره ما لا حكمة فيه ولا غاية محمودة يفعل لأجلها ويأمر لأجلها فالله أكبر وأجل من ذلك يوضحه الوجه الخامس عشر أن مجرد الفعل من غير قصد ولا حكمة ولا مصلحة يقصده الفاعل لأجلها لا يكون متعلقا للحمد فلا يحمد عليه حتى لو حصلت به مصلحة من غير قصد الفاعل لحصولها لم يستحق الحمد عليها كما تقدم تقريره بل الذي يقصد الفعل لمصلحة وحكمة وغاية محمودة وهو عاجز عن تنفيذ مراده أحق بالحمد من قادر لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لقصد الإحسان هذا المستقر في فطر الخلق والرب سبحانه حمده قد ملأ السماوات والأرض وما بينهما وما بعد ذلك فملأ العالم العلوي والسفلي والدنيا والآخرة ووسع حمده ما وسع علمه فله الحمد التام على جميع خلقه ولا حكم يحكم إلا بحمده ولا قامت السماوات والأرض إلا بحمده ولا يتحول شيء في العالم العلوي والسفلي من حال إلى حال إلا بحمده ولا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار إلا بحمده كما قال الحسن رحمة الله عليه: "لقد دخل أهل النار النار وأن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا" وهو سبحانه إنما أنزل الكتاب بحمده وأرسل الرسل بحمده وأمات خلقه بحمده ويحييهم بحمده ولهذا حمد نفسه على ربوبيته الشاملة لذلك كله فالحمد لله رب العالمين وحمد نفسه على إنزال كتبه فالحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وحمد نفسه على خلق السماوات والأرض: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وحمد نفسه على كمال ملكه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فحمد ملأ الزمان والمكان والأعيان وعم الأقوال كلها: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وكيف لا يحمد على خلقه كله وهو الذي أحسن كل شيء خلقه وعلى صنعه وقد أتقنه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وعلى أمره وكله حكمة ورحمة وعدل ومصلحة وعلى نهيه وكل ما نهى عنه شر وفساد وعلى ثوابه وكله رحمة وإحسان وعلى عقابه وكله عدل وحق فلله الحمد كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله والمقصود أنه كلما كان الفاعل أعظم حكمة كان أعظم حمدا وإذا عدم الحكمة ولم يقصدها بفعله وأمره عدم الحمد الوجه السادس عشر أنه سبحانه يجب أن يشكر ويحب أن يشكر عقلا وشرعا وفطرة فوجوب شكره أظهر من وجوب شكره أظهر من وجوب كل واجب وكيف لا يجب على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلائه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره والخضوع له والتحدث بنعمته والإقرار بها بجميع طرق الوجوب فالشكر أحب شيء إليه وأعظم ثوابا وأنه خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع وذلك يستلزم خلق الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل ومن جملتها أن فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة في خلقهم وأخلاقهم وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وآجالهم فإذا رأى المعافى المبتلى والغني الفقير والمؤمن الكافر عظم شكره لله وعرف قدر نعمته عليه وما خصه به وفضله به على غيره فازداد شكرا وخضوعا واعترافا بالنعمة، وفي أثر ذكره الإمام أحمد في الزهد:"أن موسى قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر" فإن قيل فقد كان

ص: 221

من الممكن أن يسوى بينهم في النعم ويسوى بينهم في الشكر كما فعل بالملائكة قيل لو فعل ذلك لكان الحاصل من الشكر نوع آخر غير النوع الحاصل منه على هذا الوجه والشكر الواقع على التفضيل والتخصيص أعلى وأفضل من غيره ولهذا كان شكر الملائكة وخضوعهم وذلهم لعظمته وجلاله بعد أن شاهدوا من إبليس ما جرى له ومن هاروت وماروت ما شاهدوه أعلى وأكمل مما كان قبله وهذه حكمة الرب ولهذا كان شكر الأنبياء وأتباعهم بعد أن عاينوا هلاك أعدائهم وانتقام الرب منهم وما أنزل بهم من بأسه أعلى وأكمل وكذلك شكر أهل الجنة في الجنة وهم يشاهدون أعداءه المكذبين لرسله المشركين به في ذلك العذاب فلا ريب أن شكرهم حينئذ ورضاهم ومحبتهم لربهم أكمل وأعظم مما لو قدر اشتراك جميع الخلق في النعيم فالمحبة الحاصلة من أوليائه له والرضا والشكر وهم يشاهدون بين جنسهم في ضد ذلك من كل وجه أكمل وأتم، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء، ولولا خلق القبيح لما عرفت فضيلة الجمال والحسن ولولا خلق الظلام لما عرفت فضيلة النور ولولا خلق أنواع البلاء لما عرف قدر العافية ولولا الجحيم لما عرف قدر الجنة ولو جعل الله سبحانه النهار سرمدا لما عرف قدره ولو جعل الليل سرمدا لما عرف قدره وأعرف الناس بقدر النعمة من ذاق البلاء وأعرفهم بقدر الفقر من قاسى مرائر الفقر والحاجة ولو كان الناس كلهم على صورة واحدة من الجمال لما عرف قدر الجمال وكذلك لو كانوا كلهم مؤمنين لما عرف قدر الإيمان والنعمة به فتبارك من له في خلقه وأمره الحكم البوالغ والنعم السوابغ يوضحه الوجه السابع عشر أنه سبحانه يجب أن يعبد بأنواع العبودية ومن أعلاها وأجلها عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والجهاد في سبيله وبذل مهج النفوس في مرضاته ومعارضة أعدائه وهذا النوع هو ذروة سنام العبودية وأعلى مراتبها وهو أحب أنواعها إليه وهو موقوف على ما لا يحصل بدونه من خلق الأرواح التي تواليه وتشكره وتؤمن به والأرواح التي تعاديه وتكفر به ويسلط بعضها على بعض لتحصل بذلك محابه على أتم الوجوه وتقرب أوليائه إليه لجهاد أعدائه ومعارضتهم فيه وإذلالهم وكبتهم ومخالفة سبيلهم فتعلو كلمته ودعوته على كلمة الباطل ودعوته ويتبين بذلك شرف علوها وظهورها ولو لم يكن للباطل والكفر والشرك وجود فعلي أي شيء كانت كلمته ودعوته تعلو فإن العلو أمر لشيء يستلزم غالبا ما يعلى عليه وعلو الشيء على نفسه محال والوقوف على الشيء لا يحصل بدونه يوضحه الوجه الثامن عشر أن من عبوديته العتق والصدقة والإيثار والمواساة والعفو والصفح والصبر وكظم الغيظ واحتمال المكاره ونحو ذلك مما لا يتم إلا بوجود متعلقه وأسبابه فلولا لم تحصل عبودية العتق فالرق من أثر الكفر ولولا الظلم والإساءة والعدوان لم تحصل عبودية الصبر والمغفرة وكظم الغيظ ولولا الفقر والحاجة لم تحصل عبودية الصدقة والإيثار والمواساة فلو سوى بين خلقه جميعهم لتعطلت هذه العبوديات التي هي أحب شيء إليه ولأجلها خلق الجن والإنس ولأجلها شرع الشرائع وأنزل الكتب وأرسل الرسل وخلق الدنيا والآخرة وكما أن ذلك من صفات كماله فلو لم يقدر الأسباب التي يحصل بها ذلك لغاب هذا الكمال وتعطلت أحكام تلك الصفات كما مر توضيحه الوجه التاسع عشر أنه سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح يقدر أو يخطر ببال أو يدور في خلد وحصول هذا الفرح موقوف على التوبة الموقوفة على وجود ما يتاب منه

ص: 222

وما يتوقف عليه الشيء لا يوجد بدونه فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال ولا ريب أن وجود الفرح أكمل من عدمه فمن تمام الحكمة تقدير أسبابه ولوازمه وقد نبه أعلم الخلق بالله على هذا المعنى بعينه حيث يقول في الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم" فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي فلمن يغفر وعلى من يتوب وعمن يعفو ويسقط حقه ويظهر فضله وجوده وحلمه وكرمه وهو واسع المغفرة فكيف يعطل هذه الصفة أم كيف يتحقق بدون ما يغفر ومن يغفر له ومن يتوب وما يتاب عنه فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمة وغاية محمودة فكيف والحكم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال وكان بعض العباد يدعو في طوافه اللهم اعصمني من المعاصي ويكرر ذلك فقيل له في المنام أنت سألتني العصمة وعبادي يسألوني العصمة فإذا عصمتكم من الذنوب فلمن أغفر وعلى من أتوب وعمن أعفو ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه يوضحه الوجه العشرون أنه قد يترتب على خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة ما لم يكن يحصل بدون ذلك فلولا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان وبقيت يتحدث بها الناس على ممر الزمان ولولا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه ولولا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة ولا كفر فرعون لما ظهرت تلك الآيات والعجائب يتحدث بها الأمم أمة بعد أمة واهتدى من شاء الله فهلك بها من هلك عن بينه وحي بها من حي عن بينة وظهر بها فضل الله وعدله وحكمته وآيات رسله وصدقهم فمعارضة الرسل وكسر حججهم ودحضها والجواب عنها وإهلاك الله لهم من أعظم أدلة صدقهم وبراهينه ولولا مجيء المشركين بالحد والحديد والعدد والشوكة يوم بدر لما حصلت تلك الآية العظيمة التي يترتب عليها من الإيمان والهدى والخير ما لم يكن حاصلا مع عدمها وقد بينا أن الموقوف على الشيء لا يوجد بدونه ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع فلله كم عمرت قصة بدر من ربع أصبح آهلا بالإيمان وقد فتحت لأولي النهى من باب وصلوا منه إلى الهدى والإيقان وكم حصل بها من محبوب للرحمن وغيظ للشيطان وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جدا بالنسبة إلى مصالحها وحكمها وهي كمفسدة المطر إذا قطع المسافر وبل الثياب وخرب بعض البيوت بالنسبة إلى مصلحة العامة وتأمل ما حصل بالطوفان وغرق آل فرعون للأمم من الهدى والإيمان الذي غمر مفسدة من هلك به حتى تلاشت في جنب مصلحته وحكمته فكم لله من حكمة في آياته التي ابتلى بها أعداءه وأكرم فيها أولياءه وكم له فيها من آية وحجة وتبصرة وتذكرة ولهذا أمر سبحانه رسوله أن يذكر بها أمته فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} فذكرهم بأيامه وإنعامه ونجاتهم من عدوهم وإهلاكهم وهم ينظرون فحصل بذلك من ذكره وشكره ومحبته وتعظيمه وإجلاله ما تلاشت فيه مفسدة إهلاك الأبناء وذبحهم واضمحلت فإنهم صاروا إلى النعيم وخلصوا من مفسدة العبودية لفرعون إذ كبروا وسومهم له سوء العذاب وكان الألم الذي

ص: 223

ذاقه الأبوان عند الذبح أيسر من الآلام التي كانوا تجرعوها باستعباد فرعون وقومه لهم بكثير فحظي بذلك الآباء والأبناء وأراد سبحانه أن يرى عباده ما هو من أعظم آياته وهو أن يربي هذا المولود الذي ذبح فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه في حجر فرعون وفي بيته وعلى فراشه فكم في ضمن هذه الآية من حكمة ومصلحة ورحمة وهداية وتبصرة وهي موقوفة على لوازمها وأسبابها ولم تكن لتوجد بدونها فإنه ممتنع فمصلحة تلك الآية وحكمتها غمرت مفسدة ذبح الأبناء وجعلتها كأن لم تكن وكذلك الآيات التي أظهرها سبحانه على يد الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم والعجائب والحكم والمصالح والفوائد التي في تلك القصة التي تزيد على الألف لم تكن لتحصل بدون ذلك السبب الذي كان فيه مفسدة حزونة يعقوب ويوسف ثم انقلبت تلك المفسدة مصالح اضمحلت في جنبها تلك المفسدة بالكلية وصارت سببا لأعظم المصالح في حقه وحق يوسف وحق الإخوة وحق امرأة العزيز وحق أهل مصر وحق المؤمنين إلى يوم القيامة فكم جنى أهل المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ورسله من هذه القصة من ثمرة وكم استفادوا بها من علم وحكمة وتبصرة وكذلك المفسدة التي حصلت لأيوب من مس الشيطان به بنصب وعذاب اضمحلت وتلاشت في جنب المصلحة والمنفعة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء وتبدله بالنعماء بل كان ذلك السبب المكروه هو الطريق الموصل إليها والشجرة التي جنيت ثمار تلك النعم منها وكذلك الأسباب التي أوصلت خليل الرحمن إلى أن صارت النار عليه بردا وسلاما من كفر قومه وشركهم وتكسيره أصنامهم وغضبهم لها وإيقاد النيران العظيمة له وإلقائه فيها بالمنجنيق حتى وقع في روضة خضراء في وسط النار وصارت آية وحجة وعبرة ودلالة للأمم قرنا بعد قرن فكم لله سبحانه في ضمن هذه الآية من حكمة بالغة ونعمة سابغة ورحمة وحجة وبينة لو تعطلت تلك الأسباب لتعطلت هذه الحكم والمصالح والآيات وحكمته وكماله المقدس يأبى ذلك وحصول الشيء بدون لازمه ممتنع وكم بين ما وقع من المفاسد الجزئية في هذه القصة وبين جعل صاحبها إماما للحنفاء إلى يوم القيامة وهل تلك المفاسد الجزئية إلا دون مفسدة الحر والبرد والمطر والثلج بالنسبة إلى مصالحها بكثير ولكن الإنسان كما قال الله تعالى: {ظَلُوماً جَهُولاً} ظلوم لنفسه جهول بربه وعظمته وجلاله وحكمته وإتقان صنعه وكم بين إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة على تلك الحال ودخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح به بشر حبورا لله وقد اكتنفه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به والملائكة من فوقهم والوحي من الله ينزل عليه وقد أدخله حرمه ذلك الدخول فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كان كأن لم يكن ولولا معارضة السحرة لموسى بإلقاء العصي والحبال حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم لما ظهرت آية عصا موسى حتى ابتلعت عصيهم وحبالهم ولهذا أمرهم موسى أن يلقوا أولا ثم يلقي هو بعدهم ومن تمام ظهور آيات الرب تعالى وكمال اقتداره وحكمته أن يخلق مثل جبريل صلوات الله وسلامه عليه الذي هو أطيب الأرواح العلوية وأزكاها وأطهرها وأشرفها وهو السفير في كل خير وهدى وإيمان وصلاح ويخلق مقابله مثل روح اللعين إبليس الذي هو أخبث الأرواح وأنجسها وشرها وهو الداعي إلى كل شر وأصله ومادته وكذلك من تمام قدرته وحكمته أن خلق الضياء والظلام والأرض والسماء والجنة والنار

ص: 224

وسدرة المنتهى وشجرة الزقوم وليلة القدر وليلة الوباء والملائكة والشياطين والمؤمنين والكفار والأبرار والفجار والحر والبرد والداء والدواء والآلام واللذات والأحزان والمسرات واستخرج سبحانه من بين ما هو من أحب الأشياء إليه من أنواع العبوديات والتعرف إلى خلقه بأنواع الدلالات ولولا خلق الشياطين والهوى والنفس الأمارة لما حصلت عبودية الصبر ومجاهدة النفس والشيطان ومخالفتهما وترك ما يهواه العبد ويحبه لله فإن لهذه العبودية شأنا ليس لغيرها ولولا وجود الكفار لما حصلت عبودية الجهاد ولما نال أهله درجة الشهادة ولما ظهر من يقدم محبة فاطره وخالقه على نفسه وأهله وولده ومن يقدم أدنى حظ من الحظوظ عليه فأين صبر الرسل وأتباعهم وجهادهم وتحملهم لله أنواع المكاره والمشاق وأنواع العبودية المتعلقة بالدعوة وإظهارها لولا وجود الكفار وتلك العبودية تقتضي علمه وفضله وحكمته ويستخرج منه حمده وشكره ومحبته والرضا عنه يوضحه الوجه الحادي والعشرون أنه قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق ولذلك حف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب فما أخرجه منها إلا ليدخله إليها أتم دخول فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني من التفاوت وكم بين دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جواد المطعم بن عدي ودخوله إليها يوم الفتح وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خلقوا فيها وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم يذق تلك المرارات وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات كما قال تعالى: {تِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .

وربما كان مكروه النفوس إلى

محبوبها سببا ما مثله سبب

يوضحه الوجه الثاني والعشرون أن العقلاء قاطبة متفقون على استحسان أتعاب النفوس في تحصيل كمالاتها من العلم والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة وطلب محمدة من ينفعهم حمده وكل من كان أتعب في تحصيل ذلك كان أحسن حالا وأرفع قدرا وكذلك يستحسنون أتعاب النفوس في تحصيل الغنى والعز والشرف ويذمون القاعد عن ذلك وينسبونه إلى دناءة الهمة وخسة النفس وضعة القدر:

دع المكارم لا تنهض لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وهذا التعب والكد يستلزم آلاما وحصول مكاره ومشاق هي الطريق إلى تلك الكمالات ولم يقدحوا بتحمل تلك في حكمة من يحملها ولا يعدونه عائبا بل هو العقل الوافر ومن أمر غيره به فهو حكيم في أمره ومن نهاه عن ذلك فهو سفيه عدو له هذا في مصالح المعاش فكيف بمصالح الحياة الأبدية الدائمة والنعيم المقيم كيف لا يكون الآمر بالتعب القليل في الزمن اليسير الموصل إلى الخير الدائم حكيما رحيما محسنا ناصحا لمن يأمره وينهاه عن ضده من الراحة واللذة التي تقطعه عن كماله ولذته ومسرته الدائمة هذا إلى ما في أمره ونهيه من المصالح العاجلة التي بها سعادته وفلاحه وصلاحه ونهيه عما فيه

ص: 225

مضرته وعطبه وشقاوته فأوامر الرب تعالى رحمة وإحسان وشفاء ودواء وغذاء للقلوب وزينة للظاهر والباطن وحياة للقلب والبدن وكم في ضمنه من مسرة وفرحة ولذة وبهجة ونعيم وقرة عين فما يسميه هؤلاء تكاليف إنما هو قرة العيون وبهجة النفوس وحياة القلوب ونور العقول وتكميل للفطر وإحسان تام إلى النوع الإنساني أعظم من إحسانه إليه بالصحة والعافية والطعام والشراب واللباس فنعمته على عباده بإرسال الرسل إليهم وإنزال كتبه عليهم وتعريفهم أمره ونهيه وما يحبه وما يبغضه أعظم النعم وأجلها وأعلاها وأفضلها بل لا نسبة لرحمتهم بالشمس والقمر والغيث والنبات إلى رحمتهم بالعلم والإيمان والشرائع والحلال والحرام فكيف يقال أي حكمة في ذلك وإنما هو مجرد مشقة ونصب بغير فائدة فوالله أن من زعم ذلك وظنه في أحكم الحاكمين لأضل من الأنعام وأسوأ حالا من الحمير ونعوذ بالله من الخذلان والجهل بالرحمن وأسمائه وصفاته وهل قامت مصالح الوجود إلا بالأمر والنهي وإرسال الرسل وإنزال الكتب ولولا ذلك لكان الناس بمنزلة البهائم يتهارجون في الطرقات ويتسافدون تسافد الحيوانات لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى صواب وأنت ترى الأمكنة والأزمنة التي خفيت فيها آثار النبوة كيف حال أهلها وما دخل عليهم من الجهل والظلم والكفر بالخالق والشرك بالمخلوق واستحسان القبائح وفساد العقائد والأعمال فإن الشرائع بتنزيل الحكيم العليم أنزلها وشرعها الذي يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد وأسباب سعادتهم الدنيوية والأخروية فجعلها غذاء ودواء وشفاء وعصمة وحصنا وملجأ وجنة ووقاية وكانت بالقياس إلى مصالح الأبدان بمنزلة حكيم عالم ركب للناس أمرا يصلح لكل مرض ولكل ألم وجعله مع ذلك غذاء للأصحاء فمن يغذي به من الأصحاء غذّاه ومن يداوي به من المرض شفاه وشرائع الرب تعالى فوق ذلك وأجل منه وإنما هو تمثيل وتقريب فلا أحسن من أمره ونهيه وتحليله وتحريمه أمره قوت وغذاء وشفاء ونهيه حمية وصيانة فلم يأمر عباده بما أمرهم به حاجة منه إليهم ولا عبثا بل رحمة وإحسانا ومصلحة ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه بخلا عليهم بل حماية وصيانة عما يؤذيهم ويعود عليهم بالضرر إن تناولوه فكيف يتوهم من له مسكة من عقل خلوها من الحكم والغايات المحمودة المطلوبة لأجلها ولهذا استدل كثير من العقلاء على النبوة بنفس الشريعة واستغنوا بها عن طلب المعجزة وهذا من أحسن الاستدلال فإن دعوة الرسل من أكبر شواهد صدقهم وكل من له خبرة بنوع من أنواع العلوم إذا رأى حاذقا قد صنف فيه كتابا جليلا عرف أنه من أهل ذلك العلم بنظره في كتابه وهكذا كل من له عقل وفطرة سليمة وخبرة بأقوال الرسل ودعوتهم إذا نظر في هذه الشريعة قطع قطعا نظير القطع بالمحسوسات أن الذي جاء بهذه الشريعة رسول صادق وأن الذي شرعها أحكم الحاكمين ولقد شهد لها عقلاء الفلاسفة بالكمال والتمام وأنه لم يطرق العالم ناموس أكمل ولا أحكم هذه شهادة الأعداء وشهد لها من زعم أنه من الأولياء بأنها لم تشرع لحكمة ولا لمصلحة وقالوا أي حكمة في الإلزام بهذه التكاليف الشاقة المتعبة وأي مصلحة للمكلف في ذلك وأي غرض للمكلف وما هي إلا محض المشيئة المجردة من قصد غاية أو حكمة ولو استحي هؤلاء من العقلاء لمنعهم الحياء من تسويد القلوب والأوراق بمثل ذلك وهل تركت الشريعة خيرا ومصلحة إلا جاءت به وأمرت به وندبت إليه وهل تركت شرا ومفسدة إلا نهت عنه وهل تركت لمفرح أفراحا

ص: 226

أو لمتعنت تعنتا أو لسائل مطلبا فمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وعند نفاة الحكم أنه يجوز عليه ضد ذلك الحكم من كل وجه وأنه لا فرق بينه وبين ضده في نفس الأمر إلا لمجرد التحكم والمشيئة فلوا اجتمعت حكمة جميع الحكماء من أول الدهر إلى آخره ثم قيست إلى حكمة هذه الشريعة الكاملة الحكيمة الفاضلة لكانت كقطرة من بحر وإنما نعني بذلك الشريعة التي أنزلها الله على رسوله وشرعها للأمة ودعاهم إليها لا الشريعة المبدلة ولا المؤولة ولا ما غلط فيه الغالطون وتأوله المتأولون فإن هذين النوعين قد يشتملان على فساد وشر بل الشر والفساد الواقع بين الأمة من هاتين الشريعتين اللتين نسبتا إلى الشريعة المنزلة من عند الله عمدا أو خطأ وإلا فالشريعة على وجهها خير محض ومصلحة من كل وجه ورحمة وحكمة ولطف بالمكلفين وقيام مصالحهم بها فوق قيام مصالح أبدانهم بالطعام والشراب فهي مكملة للفطر والعقول مرشدة إلى ما يحبه الله ويرضاه ناهية عما يبغضه ويسخطه مستعملة لكل قوة وعضو حركة في كماله الذي لا كمال له سواه آمرة بمكارم الأخلاق ومعاليها ناهية عن دنيئها وسفسافها واختصار ذلك أنه شرع استعمال كل قوة وكل عضو وكل حركة في كمالها ولا سبيل إلى معرفة كمالها على الحقيقة إلا بالوحي فكانت الشرائع ضرورية في مصالح الخلق وضرورتها له فوق كل ضرورة تقدر فهي أسباب موصلة إلى سعادة الدارين ورأس الأسباب الموصلة إلى حفظ صحة البدن وقوته واستفراغ أخلاطه ومن لم يتصور الشريعة على هذه الصورة فهو من أبعد الناس عنها وقد جعل الحكيم العليم لكل قوة من القوى ولكل حاسة من الحواس ولكل عضو من الأعضاء كمالا حسيا وكمالا معنويا وفقد كماله المعنوي شر من فقد كماله الحسي فكماله المعنوي بمنزلة الروح والحسي بمنزلة الجسم فأعطاه كماله الحسي خلقا وقدرا وأعطاه كماله المعنوي شرعا وأمرا فبلغ بذلك غاية السعادة والانتفاع بنفسه فلم يدع للإحسان إليه والاعتناء بمصالحه وإرشاده إليها وإعانته على تحصيلها إفراحا يفرحه ولا شفاء يطلبه بل أعطاه من ذلك ما لم يصل إليه إفراحه ولا تدرك معرفته ويكفي العاقل البصير الحي القلب فكرة في فرع واحد من فروع الأمر والنهي وهو الصلاة وما اشتملت عليه من الحكم الباهرة والمصالح الباطنة والظاهرة والمنافع المتصلة بالقلب والروح والبدن والقوى التي لو اجتمع حكماء العالم قاطبة واستفرغوا قواهم وأذهانهم لما أحاطوا بتفاصيل حكمها وأسرارها وغاياتها المحمودة بل انقطعوا كلهم دون أسرار الفاتحة وما فيها من المعارف الإلهية والحكم الربانية والعلوم النافعة والتوحيد التام والثناء على الله بأصول أسمائه وصفاته وذكر أقسام الخلقة باعتبار غاياتهم ووسائلهم وما في مقدماتها وشروطها من الحكم العجيبة من تطهير الأعضاء والثياب والمكان وأخذ الزينة واستقبال بيته الذي جعله إماما للناس وتفريغ القلب وإخلاص النية وافتتاحها بكلمة جامعة لمعاني العبودية دالة على أصول الثناء وفروعه مخرجة من القلب الالتفات إلى ما سواه والإقبال على غيره فيقدم بقلبه الوقوف بين يدي عظيم جليل أكبر من كل شيء وأجل من كل شيء وأعظم من كل شيء بلا سبب في كبريائه السماوات وما أظلت والأرض وما أقلت والعوالم كلها عنت له الوجوه وخضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة قاهر عباده ناظر إليهم عالم بما تكن صدورهم يسمع كلامهم ويرى مكانهم لا يخفى عليه خافية من أمرهم ثم أخذ في تسبيحه وحمده وذكر تبارك اسمه وتعالى جده وتفرده بالإلهية ثم أخذ في الثناء عليه بأفضل ما يثنى عليه به من حمده وذكر ربوبيته للعالم وإحسانه إليهم

ص: 227

ورحمته بهم وتمجيده بالملك الأعظم في اليوم الذي لا يكون فيه ملك سواه حتى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ويدينهم بأعمالهم ثم إفراده بنوعي التوحيد توحيد ربوبيته استعانة به وتوحيد إلهيته عبودية له ثم سؤاله أفضل مسئول وأجل مطلوب على الإطلاق وهو هداية الصراط المستقيم الذي نصبه لأنبيائه ورسله وأتباعهم وجعله صراطا موصلا لمن سلكه إليه وإلى جنته وأنه صراط من اختصهم بنعمته بأن عرفهم الحق وجعلهم متبعين له دون صراط أمة الغضب الذي عرفوا الحق ولم يتبعوه وأهل الضلال الذين ضلوا عن معرفته واتّباعه فتضمنت تعريف الرب والطريق الموصل إليه والغاية بعد الوصول وتضمنت الثناء والدعاء وأشرف الغايات وهي العبودية وأقرب الوسائل إليها وهي الاستعانة مقدما فيها على الوسيلة والمعبود المستعان على الفعل إيذانا لاختصاصه وإن ذلك لا يصلح إلا له سبحانه وتضمنت ذكر الإلهية والربوبية والرحمة فيثنى عليه ويعبد بإلهيته ويخلق ويرزق ويميت ويحيى ويدبر الملك ويضل من يستحق الإضلال ويغضب على من يستحق الغضب بربوبيته وحكمته وينعم ويرحم ويجود ويعفو ويغفر ويهدي ويتوب برحمته فلله كم في هذه السورة من أنواع المعارف والعلوم والتوحيد وحقائق الإيمان ثم يأخذ بعد ذلك في تلاوة ربيع القلوب وشفاء الصدور ونور البصائر وحياة الأرواح وهو كلام رب العالمين فيحل به في ما شاء من روضات مونقات وحدائق معجبات زاهية أزهارها مونقة ثمارها قد ذللت قطوفها تذليلا وسهلت لمتناولها تسهيلا فهو يجتني من تلك الثمار خيرا يؤمر به وشرا ينهى عنه وحكمة وموعظة وتبصرة وتذكرة وعبرة وتقريرا لحق ودحضا لباطل وإزالة لشبهة وجوابا عن مسألة وإيضاحا لمشكل وترغيبا في أسباب فلاح وسعادة وتحذيرا من أسباب خسران وشقاوة ودعوة إلى هدى ورد عن ردي فتنزل على القلوب نزول الغيث على الأرض التي لا حياة لها بدونه ويحل منها محل الأرواح من أبدانها فأي نعيم وقرة عين ولذة قلب وابتهاج وسرور لا يحصل له في هذه المناجاة والرب تعالى يسمع لكلامه جاريا على لسان عبده ويقول حمدني عبدي أثنى علي عبدي مجدني عبدي ثم يعود إلى تكبير ربه عز وجل فيجد ربه عهد التذكرة كونه أكبر من كل شيء بحق عبوديته وما ينبغي أن يعامل به ثم يرجع جاثيا له ظهره خضوعا لعظمته وتذللا لعزته واستكانة لجبروته مسبحا له بذكر اسمه العظيم فنزه عظمته عن حال العبد وذله وخضوعه وقابل تلك العظمة بهذا الذل والانحناء والخضوع قد تطامن وطأطأ رأسه وطوى ظهره وربه فوقه يرى خضوعه وذله ويسمع كلامه فهو ركن تعظيم وإجلال كما قال صلى الله عليه وسلم: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" ثم عاد إلى حاله من القيام حامدا لربه مثنيا عليه بأكمل محامده وأجمعها وأعمها مثنيا عليه بأنه أهل الثناء والمجد ومعترفا بعبوديته شاهدا بتوحيده وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وأنه لا ينفع أصحاب الجدد والأموال والحظوظ جدودهم عنه ولو عظمت ثم يعود إلى تكبيره ويخر له ساجدا على أشرف ما فيه وهو الوجه فيعفره في التراب ذلا بين يديه ومسكنه وانكسارا وقد أخذ كل عضو من البدن حظه من هذا الخضوع حتى أطراف الأنامل ورؤوس الأصابع وندب له أن يسجد معه ثيابه وشعره فلا يكفيه وأن لا يكون بعضه محمولا على بعض وأن يتأسر التراب بجبهته وينال قبل وجهة المصلى ويكون رأسه أسفل ما فيه تكميلا للخضوع والتذليل لمن له العز كله والعظمة كلها وهذا أيسر اليسير من حقه على عبده فلو

ص: 228

دام كذلك من حين خلق إلى أن يموت لما أدى حق ربه عليه ثم أمر أن يسبح ربه الأعلى فيذكر علوه سبحانه في حال سفوله وهو وينزهه عن مثل هذه الحال وأن من هو فوق كل شيء وعال على كل شيء ينزه عن السفول بكل معنى بل هو الأعلى بكل معنى من معاني العلو ولما كان هذا غاية ذل العبد وخضوعه وانكساره كان أقرب ما يكون الرب منه في هذه الحال فأمر أن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب وقد قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه وأرفع شأنا وفصل بينهما بركن مقصود في نفسه يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد وجعل بين خضوع خضوع قبله وخضوع بعده وجعل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والمجد كما جعل خضوع الركوع بعد ذلك فتأمل هذا الترتيب العجيب وهذا التنقل في مراتب العبودية كيف ينتقل من مقام الثناء على الرب بأحسن أوصافه وأسمائه وأكمل محامده إلى من له خضوعه وتذلله أن له هذا الثناء ويستصحب في مقامه خضوعه بما يناسب ذلك المقام ويليق به فتذكر عظمة الرب في حال خضوعه وعلوه في حال سفوله ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن شرع في أشرف أحوال الإنسان وهي هيئة القيام التي قد انتصب فيها قائما على أحسن هيئة ولما كان أفضل أركانها الفعلية السجود شرع فيها بوصف التكرار وجعل خاتمة الركعة وغايتها التي انتهت إليها مطابق افتتاح الركعة بالقرآن واختتامها بالسجود أول سورة افتتح بها الوحي فإنها بدئت بالقراءة وختمت بالسجود وشرع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد ويسأل ربه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة كما شرع تكرار الأذكار والدعوات مرة بعد مرة ليستعد بالأول لتكميل ما بعده ويجبر بما بعده ما قبله وليشبع القلب من هذا الغذاء وليأخذ رواه ونصيبه وافرا من الدواء ليقاومه فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء فإذا تناول الجائع الشديد الجوع من اللقمة أو اللقمتين كان غناؤها عنه وسدها من جوعه يسيرا جدا وكذلك المرض الذي يحتاج إلى قدر يغني من الدواء إذا أخذ منه المريض قيراطا من ذلك لم يزل مرضه بالكلية وأزال بحسبه فما حصل الغذاء أو الشفاء للقلب بمثل الصلاة وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاء البدن ودوائه ثم لما أكمل صلاته شرع له أن يقعد قعدة العبد الذليل المسكين لسيده ويثني عليه بأفضل التحيات ويسلم على من جاء بهذا الحظ الجزيل ومن نالته الأمة على يديه ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله المشاركين له في هذه العبودية ثم يتشهد شهادة الحق ثم يعود فيصلي على من علم الأمة هذا الخير ودلهم عليه ثم شرع له أن يسأل حوائجه ويدعو بما أحب ما دام بين يدي ربه مقبلا عليه فإذا قضى ذلك أذن له في الخروج منها بالتسليم على المشاركين له في الصلاة هذا إلى ما تضمنته الأحوال والمعارف من أول المقامات إلى آخرها فلا تجد منزلة من منازل السير إلى الله ولا مقاما من مقامات العارفين إلا وهو في ضمن الصلاة وهذا الذي ذكرناه من شأنها كقطرة من بحر فكيف يقال أنها تكليف محض لم يشرع لحكمة ولا لغاية قصدها الشارع بل هي محض وكلفة ومشقة مستندة إلى محض المشيئة لا لغرض ولا لفائدة البتة بل مجرد قهر وتكليف وليست سببا لشيء من مصالح الدنيا والآخرة ثم تأمل أبواب الشريعة ووسائلها وغاياتها كيف

ص: 229

تجدها مشحونة بالحكم المقصودة والغايات الحميدة التي شرعت لأجلها التي لولاها لكان الناس كالبهائم بل أسوأ حالا فكم في الطهارة من حكمة ومنفعة للقلب والبدن وتفريح للقب وتنشيط للجوارح وتخفيف من أحمال ما أوجبته الطبيعة وألقاه عز النفس من درن المخالفات فهي منظفة للقلب والروح والبدن وفي غسل الجنابة من زيادة النعومة والإخلاف على البدن نظير ما تحلل منه بالجنابة ما هو من أنفع الأمور وتأمل كون الوضوء في الأطراف التي هي محل الكسب والعمل فجعل في الوجه الذي فيه السمع والبصر والكلام والشم والذوق وهذه الأبواب هي أبواب المعاصي والذنوب كلها منها يدخل إليها ثم جعل في اليدين وهما طرفاه وجناحاه اللذان بهما يبطش ويأخذ ويعطي ثم في الرجلين اللتين بهما يمشي ويسعى ولما كان غسل الرأس مما فيه أعظم حرج ومشقة جعل مكانه المسح وجعل ذلك مخرجا للخطايا من هذه المواضع حتى يخرج مع قطر الماء من شعره وبشره كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان يبطشها يداه مع الماء أو مع آخر قطر فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب" رواه مسلم وفي صحيح مسلم أيضا عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه حتى يخرج من تحت أظفاره" فهذا من أجل حكم الوضوء وفوائده وقال نفاة الحكمة أنه تكليف ومشقة وعناء محض لا مصلحة فيه ولا حكمة شرع لأجلها ولو لم يكن في مصلحته وحكمته إلا أنه سيماء هذه الأمة وعلامتهم في وجوههم وأطرافهم يوم القيامة بين الأمم ليست لأحد غيرهم ولو لم يكن فيه من المصلحة والحكمة إلا أن المتوضئ يطهر يديه بالماء وقلبه بالتوبة ليستعد للدخول على ربه ومناجاته والوقوف بين يديه طاهر البدن والثوب والقلب فأي حكمة ورحمة ومصلحة فوق هذا ولما كانت الشهوة تجري في جميع البدن حتى أن تحت كل شعرة شهوة سرى غسل الجنابة إلى حيث سرت الشهوة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن تحت كل شعرة جنابة" فأمر أن يوصل الماء إلى أصل كل شعرة فيبرد حرارة الشهوة فتسكن النفس وتطمئن إلى ذكر الله وتلاوة كلامه والوقوف بين يديه فوالله لو أن أبقراط ودونه أوصوا بمثل هذا لخضع أتباعهم لهم فيه وعظموهم عليه غاية التعظيم وأبدوا له من الحكم والفوائد ما قدروا عليه ثم لما كان العبد خارج الصلاة مهمل جوارحه قد أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ أمر العبودية بجميع جوارحه كلها على ربه بحظها من عبوديته فيسلم قلبه وبدنه وجوارحه وحواسه وقواه لربه عز وجل واقفا بين مقبلا بكله عليه معرضا عمن سواه متنصلا من إعراضه عنه وجنايته على حقه ولما كان هذا طبعه وذاته أمران يجدد هذا الركوع إليه والإقبال عليه وقتا بعد وقت لئلا يطول عليه الأمد فينسى ربه وينقطع عنه بالكلية وكانت الصلاة من أعظم نعم الله عليه وأفضل هداياه التي ساقها إليه فأبى نفاة الحكمة إلا جعلها كلفة وعناء وتعبا لا لحكمة ولا لمصلحة البتة إلا مجرد القهر والمشيئة وقد فتح ذلك الباب فساق الشريعة كلها من أولها إلى آخرها هذا المساق واستدل بما ظهر لك على ما خفي عنك ولعل الحكمة فيما لم تعلمه أعظم منها فيما علمته فإن الذي علمته على قدر عقلك وفهمك وما خفي عنك فهو فوق

ص: 230

عقلك وفهمك ولو تتبعنا تفصيل ذلك لجاء عدة أسفار فيكتفي منه بأدنى بينة والله المستعان، الوجه الثالث والعشرون أن هذه الجمادات والحيوانات المختلفة الأشكال والمقادير والصفات والمنافع والقوى والأغذية والنباتات التي هي كذلك فيها من الحكم والمنافع ما قد أكثرت الأمم في وصفه وتجربته على ممر الدهور ومع ذلك فلم يصلوا منه إلا إلى أيسر شيء وأقله بل لو اتفق جميع الأمم لم يحيطوا علما بجميع ما أودع واحد من ذلك النوع من الحكم والمصالح هذا إلى ما في ضمن ذلك من الاعتبار والدلالة الظاهرة على وجود الخالق ومشيئته واختياره وعلمه وقدرته وحكمته فإن المادة الواحدة لا تحتمل بنفسها هذه الصورة الغريبة والأشكال المتنوعة والمنافع والصفات ولو تركبت مع غيرها فليس حدوث هذه الأنواع والصور بنفس التركيب أيضا ولا هو مفيض له فحصول هذا التنوع والتفاوت والاختلاف في الحيوان والنبات من أعظم آيات الرب تعالى ودلائل ربوبيته وقدرته وحكمته وعلمه وأنه فعال لما يريد اختيارا ومشيئة فتنويع مخلوقاته وحدوثها شيئا بعد شئ من أظهر الدلالات وتأمل كيف أرشد القرآن إلى ذلك في غير موضع كقوله تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقول تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فتأمل كيف نبه سبحانه باختلاف الحيوانات في المشي مع اشتراكها في المادة على الاختلاف فيما وراء ذلك من أعضائها وأشكالها وقواها وأفعالها وأغذيتها ومساكنها فنبه على الاشتراك والاختلاف فيشير إلى يسير منه فالطير كلها تشترك في الريش والجناح وتتفاوت فيما وراء ذلك أعظم تفاوت واشتراك ذوات الحوافر في الحافر كالفرس والحمار والبغل وتفاوتها في ما وراء ذلك واشتراك ذوات الأظلاف في الظلف وتفاوتها في غير ذلك واشتراك ذوات القرون فيها وتفاوتها في الخلق والمنافع والأشكال واشتراك حيوانات الماء في كونها سابحة تأوي فيها وتتكون فيها وتفاوتها أعظم تفاوت عجز البشر إلى الآن عن حصره واشتراك الوحوش في البعد عن الناس والتفاوت عنهم وعن مساكنهم وتفاوتها في صفاتها وأشكالها وطبائعها وأفعالها أعظم تفاوت يعجز البشر عن حصره واشتراك الماشي منها على بطنه في ذلك وتفاوت نوعه واشتراك الماشي على رجلين في ذلك وتفاوت نوعه أعظم تفاوت وكل من هذه الأنواع له علم وإدراك وتحيل على جلب مصالحه ودفع مضاره يعجز كثير منها نوع الإنسان فمن أعظم الحكم الدلالة الظاهرة على معرفة الخالق الواحد المستولي بقوته وقدرته وحكمته على ذلك كله بحيث جاءت كلها مطيعة منقادة منساقة إلى ما خلقها له على وفق مشيئته وحكمته وذلك أدل شيء على قوته

ص: 231

القاهرة وحكمته البالغة وعلمه الشامل فيعلم إحاطة قدرة واحدة وعلم واحد وحكمة واحدة أعني بالنوع من قادر واحد حكيم واحد بجميع هذه الأنواع وأضعافها مما لا تعلمه العقول البشرية كما قال: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} فيجمع غايات فعله وحكمة خلقه وأمره إلى غاية واحدة هي منتهى الغايات وهي إلهية الحق التي كل إلهية سواها فهي باطل ومحال فهي غاية الغايات ثم ينزل منها إلى غايات أخر هي وسائل بالنسبة إليها وغايات بالنسبة إلى ما دونها وأن إلى ربك المنتهى فليس وراءه معلوم ولا مطلوب ولا مذكور إلا العدم المحض وليس في الوجود إلا الله ومفعولاته وهي آثار أفعاله وأفعاله آثار صفاته وصفاته قائمة به من لوازم ذاته والمقصود إن الغايات المطلوبة العلم بإحاطة علم واحد من عالم واحد وفعل واحد من فاعل واحد وقدرة واحدة من قادر واحد وحكمة واحدة من حكيم واحد بجميع ما فيه على اختلاف ما فيه واجتمعت غايات فعله وأمره إلى غاية واحدة وذلك من أظهر أدلة توحيد الإلهية كما ابتدأت كلها من خالق واحد وقادر واحد ورب واحد ودل على الأمرين أعني توحيد الربوبية والإلهية النظام الواحد والحكمة الجامعة للأنواع المختلفة مع ضدها وتعذرها ودل افتقار بعضها إلى بعض وتشبك بعضها ببعض ومعاونة بعضها ببعض وارتباطه به على أنها صنع فاعل واحد ورب واحد فلو كان معه آلهة وأرباب غيره كما لا ترضى ملوك الدنيا أن يحتاج مملوك احدهم إلى مملوك غيره مثله لما في ذلك من النقص والعيب المنافي لكمال الاقتدار والغناء ودل انتظامها في الوجود ووقوعها في ثباتها واختلافها على أكمل الوجوه وأحسنها على انتهائها إلى غاية واحدة ومطلوب واحد هو إلهها الحق ومعبودها الأعلى الذي لا إله لها غيره ولا معبود لها سواه فتأمل كيف دل اختلاف الموجودات وثباتها واجتماعها فيما اجتمعت فيه وافتراقها فيما افترقت على إله واحد ورب واحد ودلت على صفات كماله ونعوت جلاله فالموجودات بأسرها كعسكر واحد له ملك واحد وسلطان واحد يحفظ بعضه ببعض وينظم مصالح بعضه ببعض ويسد خلل بعضه ببعض فيمد هذا بهذا ويقوي هذا بهذا وينقص من هذا فيزيده في الآخر يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويبيد هذا فينشي مكانه من جنسه ما يقوم مقامه ويسد مسده فيشهد حدوث الثاني أن الذي أحدثه وأوجده هو الذي أحدث الأول لا غيره وأن حكمته لم تتغير وعلمه لم ينقص وقدرته لم تضعف وأنه لا يتغير بتغيير ما يغير منها ولا يضمحل باضمحلاله ولا يتلاشى بتلاشيه بل هو الحي القيوم العزيز الحكيم هذا إلى ما في لوازم مكبرها وانتظام بعضها ببعض وما يصدر عنها من الأفعال والآثار من حكم وأفعال أخرى وغايات أخر حكمها حكم موادها وحواملها كما نشاهده في أشخاصها وأعيانها مثال ذلك في أحدوثة واحدة إنك ترى المعدة تشاق الغذاء وتجتذبه إليها فانظر لوازم ذلك قبل تناوله ولوازمه بعد تناوله وما يترتب على تلك اللوازم من عمارة الدنيا فإذا جذبته إليها أنضجته وطبخته كما تنضج القدر ما فيها فتنضجه الإنضاج الذي تعده لتغذي أجزاء البدن وقواه وأرواحه به وهي إذا أنضجته لأجل نصيبها الذي ينالها منه فهو قليل من كثير بالنسبة إلى انتفاع غيرها به فيدفع ما فضل عن غذائها عنها إلى من هو شديد الحاجة إليه على قدر حاجته من غير أن يقصد ذلك أو يشعر به ولكن قد قصده وأحكمه من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير يدبره بحكمته ولطفه وساقه في المجاري التي لا ينفذ

ص: 232

فيها الإبر لدقة مسالكها حتى أوصله إلى المحتاج إليه الذي لا صلاح له إلا بوصوله إليه وكانت طبيعة الكبد ومزاجها في ذلك تلي طبيعة المعدة وفعلها يلي فعلها وكذلك الأمعاء وباقي الأعضاء كالكبد للقلب في أعداد الغذاء والقلب للرئة والرئة للقلب في أعداد الهواء وإصلاحه فالأعضاء الموجودة في الشخص إذا تأملتها وتأملت أفعالها ومنافعها وما تضمنه كل واحد منها من حكمة اختصت به كشكله ووصفه ومزاجه ووضعه من الشخص بذلك الموضع المعين علمت علما يقينا أن ذلك صادر عن خالق واحد ومدبر واحد وحكيم واحد فانتقل من هذا إلى أشخاص العالم شخصا شخصا من النوع الإنساني تجد الحكمة الواحدة الظاهرة في تلك الأفراد الكثيرة قد نفعت بعضهم بعض وأعانت بعضهم ببعض حراثا لزارع وزراعا لحاصد وحائكا لخياط وخياطا لنجار ونجارا لبناء فهذا يعين هذا بيده وهذا برجله وهذا يعينه بعينه وهذا بإذنه وهذا بلسانه وهذا بماله وإذ لا يقدر أحدهم على جميع مصالحه ولا يقوم بحاجاته ولا توجد في كل واحد منهم جميع خواص نوعه فهم بأشخاصهم الكثير كإنسان واحد يقوم بعضه بمصالح بعض قد كمل خواص الإنسانية في صفاته وأفعاله وصنائعه وما يراد منه فإن الواحد منهم لا يفي بأن يجمع جميع الفضائل العلمية والعملية والقوة والبقاء فجعل ذلك في النوع الإنساني بجملته والله سبحانه وقد فرق كمالات النوع في أشخاصه وجعل لكل شخص منها ما هو مستعد قابل له بحيث لو قيل أكثر من ذلك لأعطاه فإنه جواد لذاته قد فاض جوده وخيره على العالم كله وفضل عنه أضعاف ما فاض عليه فهو يفيضه على تعاقب الآنات أبدا وكذلك يفضل في الجنة فضل عن أهلها فينشئ لها خلقا يسكنهم فضلها وإنما يتخصص فضله بحسب استعداد العوامل والمعدات وذلك بمشيئته وحكمته فهو الذي أوجدها وهو الذي أعدها وهو الذي أمدها ولما كان جوده وفضله أوسع من حاجة الخلق لم يكن بد من بقاء كثير منه مبذولا في الوجود مهملا وهذا كضوء الشمس مثلا فإن مصالح الحيوان لا تتم إلا به وهي تشرق على مواضع فضلت عن حوائج بني آدم والحيوان وكذلك المطر والنبات وسائر النعم ومع ذلك فلم يعطل وجودها عن حكم ومصالح وعبر ودلالات وعطاء الرب ونعمه أوسع من حوائج خلقه فلا بد أن يبقى في المياه والأقوات والنبات وغير ذلك أجزاء مهملة ولا يقال ما الحكمة في خلقها فإن هذا سؤال جاهل ظالم فإن الحكمة في خلق الأرض وما عليها ظاهرة لكل بصير والمعمور بعضها لا كلها والرب تعالى واسع الجود دائمه فجوده وخيره عام دائم فلا يكون إلا كذلك فإن ذلك من لوازم علمه وقدرته وحكمته ولعلمه وقدرته وحكمته العموم والشمول والكمال المطلق بكل اعتبار فيعلم من استقراء العالم وأحواله انتهاؤه إلى عالم واحد وقادر واحد وحكيم واحد أتقن نظامه أحسن الإتقان وأوجده على أتم الوجود وهو سبحانه ناظم أفعال الفاعلين مع كثرتها ورابط بعضها ببعض ومعين بعضها ببعض وجاعل بعضها سببا لبعض وغاية لبعض وهذا من أدل الدليل على انه خالق واحد ورب واحد وقادر واحد دل على قدرته كثرة أفعاله وتنوعها في الوقت الواحد وتعاقبها على تتالي الآنات وتعين تصرفاته في مخلوقاته على كثرتها ودل على علمه وحكمته كون كل شيء كبير وصغير ودقيق وجليل داخلا في النظام الحكمي ليس منها شيء حتى مسام الشعر في الجلد ومراشح اللعاب في الفم ومجاري الشعب الدقيقة من العروق في أصغر الحيوانات التي تعجز عنها أبصارنا ولا تنالها قدرتنا وهذا فيما دق لصغره وفيما جل لعظمه كالرياح الحاملة للسحب إلى الأرض

ص: 233

الجرز التي لا نبات بها فيمطرها عليها فيخرج بها نباتا ويحيي بها حيوانا ويجعل فيها جزأين من الطعام والشراب والأقوات والأدوية دع ما فوق ذلك من تسخير الشمس والقمر والنجوم واختلاف مطالعها ومغاربها لإقامة دولة الليل والنهار وفصول العام التي بها نظام مصالح من عليها فإذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع عباده فالسماء سقفه والأرض بساطه والنجوم زينته والشمس سراجه ومصالح سكانه والليل سكنهم والنهار معاشهم والمطر سقياهم والنبات غذاؤهم ودواهم وفاكهتهم والحيوان خدمهم ومنه قوتهم ولباسهم والجواهر كنوزهم وذخائرهم كل شيء منها لما يصلح له فضروب النبات لجميع حاجاتهم وصنوف الحيوانات معدة لجميع مصالحهم وذلك أدل دليل على وحدانية خالقه وقدرته فلم يكن لون السماء أزرق اتفاقا بل لحكمة باهرة فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر حتى أن في وصف الأطباء لمن أصابه ما أضر ببصره أو كلم بصره إدمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد فجعل أحكم الحاكمين أديم السماء بهذا اللون ليمسك الأبصار الراجعة فلا ينكأ فيها فهذا الذي أدركه الناس بعد الفكر والتجربة قد وجد مفروغا منه في الخلقة ولم يكن طلوع الشمس وغروبها على هذا النظام لغير علة ولا حكمة مطلوبة فكم من حكمة ومصلحة في ذلك من إقامة الليل والسكن فيه والنهار والمعاش فيه فلو جعل الله عليهم الليل سرمدا لتعطلت مصالحهم وأكثر معايشهم والحكمة في طلوعها أظهر من أن تنكر ولكن تأمل الحكمة في غروبها إذ لولا ذلك لم يكن للناس هدوء ولا قرار ولا راحة وكان الكد الدائم بتكافؤ أبدانهم وتسرع فسادها وكان ما على الأرض يحرق بدوام شروق الشمس من حيوان ونبات فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه ونظامه وكذلك الحكمة في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة وما في ذلك من الحكمة فإن في الشتاء تفور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد من ذلك مواد الثمار وتكيف الهواء فتنشأ منه السحاب ويحدث المطر الذي به حياة الأرض والحيوان وتشتد أفعال الحيوان وتقوى الأفعال الطبيعية وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد الكامنة في الشتاء وفي الصيف يسخن الهواء فتنضج الثمار ويتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض فيتهيأ للبناء وغيره وفي الخريف يصفو الهواء ويعتدل فيذهب بسورة حر الصيف وسمومه إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم وكذلك الحكمة في تنقل الشمس فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد لفاتت مصالح العالم ولما وصل شعاعها إلى كثير من الجهات لأن الجبال والجدران يحجبانها عنها فاقتضت الحكمة الباهرة أن جعلت تطلع أول النهار من المشرق وتشرق على ما قابلها من وجه الغرب ثم لا تزال تغشى وجها بعد وجه حتى تنتهي إلى الغرب فتشرق على ما استتر عنها أول النهار فتأخذ جميع الجهات منها قسطا من النفع وكذلك الحكمة الباهرة في انتهاء مقدار الليل والنهار إلى هذا الحد فلو زاد مقدار أحدهما زيادة عظيمة لتعطلت المصالح والمنافع وفسد النظام وكذلك الحكمة في ابتداء القمر دقيقا ثم أخذه في الزيادة حتى يكمل ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى فكم في ذلك من حكمة ومصلحة ومنفعة للخلق فإن بذلك يعرفون الشهور والسنين والآجال وأشهر الحج والتاريخ ومقادير الأعمار ومدد الإجارات وغيرها وهذا وإن كان يحصل بالشمس إلا أن معرفته بالقمر وزيادته ونقصانه أمر يشترك فيه الناس كلهم وكذلك الحكمة في

ص: 234

إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل فإنه مع الحاجة إلى الليل وظلمته لهدوء الحيوان وبرد الهواء عليه وعلى النبات لم يجعل ظلاما محضا لا ضياء فيه فلا يمكن فيه سفر ولا عمل وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار ولشدة الحر فيتمكنون في ضوء القمر من أعمال كثيرة وجعل نوره باردا ليقاوم حرارة نور الشمس فبرد سمومه فيعتدل الأمر ويكسر كيفية كل منهما كيفية الآخر ويزيل ضررها وكذلك الحكمة في خلق النجوم فإن فيها من الهداية في البر والبحر والاستدلال على الأوقات وزينة السماء وغير ذلك ما لم يكن حاصلا بمجرد الاتفاق كما يقوله نفاة الحكمة واقتضت هذه الحكمة أن جعلت نوعين نوعا منها يظهر وقتا ويحتجب آخر ونوعا آخر لا يزال ظاهرا غير محتجب بل جعل ظاهرا بمنزلة الإعلام التي يهتدي بها الناس في الطرقات المجهولة وهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها إلى حيث شاؤا وجعلت الحكمة في النوع الأول الاستدلال بظهوره على أمور تعاديه متى طلع في وقت يعني دل على تلك الأمور فقامت المصلحة والحكمة بالنوعين مع ما في خلقها من حكم أخرى ومصالح لا يهتدي إليها العباد فما خلق الله شيئا سدى وقد نظم الله سبحانه الحوادث الأرضية بالأزواج والأجرام العلوية أكمل نظام يعجز عقول البشر عن الإحاطة ببعضه وقد استفرغت الأمم السابقة قوى أذهانها في إدراك ذلك فلم يصل منه إلا إلى مالا نسبة له إلى ما خفي عليها بوجه ما وقد جعل الخلاق العليم سبحانه النجوم فرقتين فرقة منها لازمة مراكزها من الفلك ولا تسير إلا بسيره وفرقة أخرى مطلقة تنتقل في البروج وتسير بأنفسها غير سير فلكها فلكل منها مسيران مختلفان أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب والآخر خاص لنفسه نحو المشرق وقد شبه هذا النوع بنملة تدب على رحا والرحا تدور ذات اليمين والنملة تدور ذات الشمال فللنملة في تلك الحال حركتان مختلفتان أحداهما حركة بنفسها تتوجه أمامها والأخرى بغيرها هي مقهورة عليها تبعا للرحى تجذبها إلى خلفها فلهذا النوع من النجوم حركتان مختلفتان على وزن وتقدير لا يعدوه فزعم نفاة الحكمة أن ذلك أمر اتفاقي لا لحكمة ولا لغرض مقصود فإن قلت فما الغرض المقصود بذلك وأي حكمة فيه قيل استدل بما عرفت من الحكمة على ما خفي عنك منها ولا تجعل ما خفي عليك دليلا على بطلانها مع أن من بعض الحكم في ذلك أنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي تكون من تنقل المتنقل منها ومسيرها في كل واحد من البروج كما يستدل على أمور كثيرة وحوادث جمة بتنقل الشمس والقمر والسيارات في منازلها ولو كانت كلها متنقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يقاس عليه فإنه إنما يقاس مسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة كما يقاس سير السائر على الأرض بالمنازل التي يقطعها وبالجملة فلو كانت كلها بحال واحدة لبطل النظام الذي اقتضته الحكمة التي جعلها هكذا فذلك تقدير العزيز العليم وصنع الرب الحكيم وكيف يرتاب ذو بصيرة أن ذلك كله تقدير مقدر حكيم أتقن ما صنعه وأحكم ما دبره ويعرف بما فيه من الحكم والمصالح والمنافع إلى خلقه فشدت العقول والفطر بأنه ذو الحكمة الباهرة والقدرة القاهرة والعلم التام المحيط وأنه لم يخلق ذلك باطلا ولا من الحكمة عاطلا وكذلك الحكمة في تعاقب الحر والبرد على التدريج على أبدان الحيوان والنبات فإن قيامهما وكمالهما لما كان بذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يدخل أحدهما على الآخر وهلة فلا يتحمله بل بالتدريج قليلا قليلا إلى أن ينتهي منتهاه ويحصل المقصود به من غير ضرر يعم وهذا كله بأسباب هي

ص: 235

منشأ الحكم والمصالح فلا يبطل السبب بإثبات الحكمة ولا الحكمة بالسبب ولا السبب والحكمة بالمشيئة فيكون من الذين يبخس حظهم من العقل والسمع وكذلك الحكمة في خلق النار على ما هي عليه كامنة في حاملها فإنها لو كانت ظاهرة كالهواء والماء والتراب لأحرقت العالم وما فيه ولم يكن بد من ظهورها في الأحايين للحاجة إليها فجعلت مخزونة في الأجسام توري عند الحاجة إليها فتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها ثم تخبوا إذ استغنى عنها فجعلت على خلقه وتقدير وتدبير حصل به الاستمتاع بها والانتفاع مع السلامة من ضررها ثم في النار خلة أخرى وهي أنها مما خص به الإنسان دون سائر الحيوان فإن الحيوانات لا تستعمل النار ولا تستمتع بها ولما اقتضت الحكمة الباهرة ذلك اغتنت الحيوانات عنها في لباسها وأقواتها فأعطيت من الشعور والأوبار ما يغنيها عنها وجعلت أغذيتها بالمفردات التي لا تحتاج إلى طبخ وخبز ولما كانت الحاجة إليها شديدة جعل من الآلات والأسباب ما يتمكن به من إثارتها إذا شاء ومن إبطالها ومن حكمها هذه المصابيح التي يوقدها الناس فيتمكنون بها من كثير حاجاتهم ولولاها لكان نصف أعمارهم بمنزلة أصحاب القبور وأما منافعها في إنضاج الأغذية والأدوية والدفء فلا يخفى وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} أي تذكر بنار الآخرة فيحترز منها ويستمتع بها المقوون وهم النازلون بالفيفاء وهي الأرض الخالية وخص هؤلاء بالذكر لشدة حاجتهم إليها في خبزهم وطبخهم حيث لا يجدون ما يشترونه فيغنيهم عن ما يصنعونه بالنار وكذلك الحكمة في خلق النسيم وما فيه من المصالح والعبر فإنه حياة هذه الأبدان وقوامها من خارج ومن داخل وفيه طرد هذه الأصوات فيؤديها إلى السامع وهو الحامل لهذه الأراييح يؤديها إلى المسام وينقلها من موضع إلى موضع وهو الذي يزجي السحاب ويسوقه من مكان إلى مكان على ظهره كالروايا على ظهور الإبل وهو الذي يسير السحاب أولا فيكون كسفا متفرقة فيؤلف بينه ثانيا فيصير طبقا واحدا ثم يلقحه ثالثا كما يلقح الفحل الأنثى فيحمل الماء كما تحمل الأنثى من لقاح الفحل ثم يسوقه رابعا إلى أحوج الأماكن والحيوان إليه ثم يعصره خامسا حتى لا يخرج ماؤه ثم يذروا ماءه بعد عصره سادسا حتى لا يسقط جملة فيهلك ما يقع عليه ثم يربي النبات سابعا فيكون له بمنزلة الماء والغذاء يجففه بحرارته ثامنا لئلا يعفن ولا يمكن بقاؤه ولهذا اقتضت الحكمة الباهرة أن تكون الرياح مختلفة المهاب والصفات والطبائع فزعم نفاة الحكمة أن هذا كله أمر اتفاقي لا سبب ولا غاية وهذا لو تتبعناه لجاء عدة أسفار بل لو تتبعنا خلقة الإنسان وحده وما فيها من الحكم والغايات لعجزنا نحن وأهل الأرض عن الإحاطة بتفصيل ذلك فلنرجع إلى جواب نفاة الحكمة والتعليل فنقول، في الوجه الرابع والعشرين قولهم أي حكمة في خلق إبليس وجنوده ففي ذلك من الحكم مالا يحيط بتفصيله إلا الله فمنها أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله وإغاظته وإغاظة أوليائه والاستعاذة به منه والإلجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه وقدمنا أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه ومنها خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم

ص: 236

عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر وخوف آخر كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد ومنها أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة ومنها أنه محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض وفيها السهل والحزن والطيب والخبيث فلا بد أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على مثل ذلك منهم الطيب والخبيث والسهل والحزن وغير ذلك فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره فلا بد إذا من سبب يظهر ذلك وكان إبليس محكا يميز به الطيب من الخبيث كما جعل أنبيائه ورسله محكا لذلك التمييز قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فأرسله إلى المكلفين وفيهم الطيب والخبيث فانضاف الطيب إلى الطيب والخبيث إلى الخبيث واقتضت حكمته البالغة ان خلطهم في دار الامتحان فإذا صاروا إلى دار القرار يميز بينهم وجعل لهؤلاء دارا على حدة ولهؤلاء دارا على حدة حكمة بالغة وقدرة قاهرة ومنها أن يظهر كمال قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض والضياء والظلام والجنة والنار والماء والنار والحر والبرد والطيب والخبيث ومنها أن خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده فإن الضد إنما يظهر حسنه بضده فلولا القبيح لم تعرف فضيلة الجميل ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنا كما تقدم بيانه ريبا ومنها أنه سبحانه يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله ومنها أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضاء ونحوها أحب العبودية إلى الله سبحانه وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه فالجهاد ذروة سنام العبودية وأحبها إلى الرب سبحانه فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصى حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا فالله ومنها أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ولطائف صنعه ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه كما تقدم من ظهور آية الطوفان والعصا واليد وفلق البحر وإلقاء الخليل في النار وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته فلم يكن بد من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم ومنها أن المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد وفيها الإشراق والإضاءة والنور فأخرج منها سبحانه هذا وهذا كما أن المادة الترابية الأرضية فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والأحمر والأسود والأبيض فأخرج منها ذلك كله حكمة باهرة وقدرة قاهرة وآية دالة على أنه

ص: 237

كمثله شيء وهو السميع البصير ومنها أن من أسمائه الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل المنتقم وهذه الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها إحكامها كأسماء الإحسان والرزق الرحمة ونحوها ولا بد من ظهور متعلقات هذه وهذه ومنها أنه سبحانه الملك التام الملك ومن تمام ملكه عموم تصرفه وتنوعه بالثواب والعقاب والإكرام والإهانة والعدل والفضل والإعزاز والإذلال فلا بد من وجود من يتعلق به أحد النوعين كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر ومنها أن من أسمائه الحكيم والحكمة من صفاته سبحانه وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي لا يليق به سواه فاقتضت خلق المتضادات وتخصصي كل واحد منها لا يليق به غيره من الإحكام والصفات والخصائص وهل تتم الحكمة إلا بذلك فوجود هذا النوع من تمام الحكمة كما أنه من كمال القدرة ومنها أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه فلله الحمد التام الكامل على هذا وهذا وهو يحمد نفسه على ذلك كله ويحمده عليه ملائكته ورسله وأوليائه ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة كما له عليه الحمد التام فلا يجوز تعطيل حمده كما لا يجوز تعطيل حكمته ومنها أنه سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته ويسعى في مساخطه بل يشبهه سبحانه وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ويرزقه ويعاقبه ويمكن له من أسباب ما يلتذ به من أصناف النعم ويجيب دعاءه ويكشف عنه السوء ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته فلله كم في ذلك من حكمة وحمد ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعاقبهم" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي له ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته" وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب ويعاقبه ويدفع عنه ويدعوه إلى جنته ويقبل توبته إذا تاب إليه ويبدله بسيئاته حسنات ويلطف به في جميع أحواله ويؤهله لإرسال رسله ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به قال الفضيل بن عياض: "ما من ليلة يختلط ظلامها إلا نادى الجليل جل جلاله من أعظم مني جودا الخلائق لي عاصون وأنا أكلأهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا أجود بالفضل على العاصي وأتفضل على المسيء من ذا الذي دعاني فلم ألبه ومن ذا الذي سألني فلم أعطه أنا الجواد ومني الجود أنا الكريم ومني الكرم ومن كرمي أني أعطي العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني ومن كرمي أني أعطي التائب كأنه لم يعصني فأين عني يهرب الخلق وأين عن بابي يتنحى العاصون" وفي أثر إلهي: "أني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي" وفي أثر حسن: "ابن آدم ما أنصفتني خيري إليك نازل وشرك إلى صاعد كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك وكم تتبغض إلى بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح" وفي الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم

ص: 238

يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقا يظهر فيهم أحكامها وآثارها فالمحبة للعفو خلق من يحسن العفو عنه ولمحبته للمغفرة خلق من يغفر له ويحلم عنه ويصبر عليه ولا يعاجله بل يكون يحب أمانه وإمهاله ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته ولمحبته للجود والإحسان والبر خلق من يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان فلولا خلق من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وله في كل شيء حكمة باهرة كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات إنما ذكرنا منه قطرة من بحر وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب المسخوط له من محبوب له تبارك وتعالى يتصل في حبه ما حصل به من مكروهه والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يحصل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه إذا كان طريقا إلى حصول ذلك المحبوب ووجود الملزوم بدون لازمه محال فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من السرور والمعاصي ما حصل فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له من جهاد في سبيله ومخالفة هوى النفس وشهوتها له ويحتمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته وأحب شيء للحبيب أن يرى محبه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته:

من أجلك قد جعلت خدي أرضا

للشامت والحسود حتى ترضا

وفي أثر إلهي: "بغيتي ما يتحمل المتحملون من أجلي" فلله ما أحب إليه احتمال محبيه إذا أعدائه لهم فيه وفي مرضاته وما أنفع ذلك الأذى لهم وما أحمدهم لعاقبته وماذا ينالون به من كرامة حبيبهم وقربه قرة عيونهم به ولكن حرام على منكري محبة الرب تعالى أن يشموا لذلك رائحة أو يدخلوا من هذا الباب أو يذوقوا من هذا الشراب:

فقل للعيون العمى للشمس أعين

سواك يراها في مغيب ومطلع

وسامح يؤسا لم يؤهل لحبهم

فما يحسن التخصيص في كل موضع

فإن أغضب هذا المخلوق ربه فقد أرضاه فيه أنبيائه ورسله وأوليائه وذلك الرضاء أعظم من ذلك الغضب وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات فإنه سبحانه أشد فرحا بتوبة عبده من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه إذا وجدها في المفاوز المهلكات وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو فقد سره وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه وهذا الرضاء أعظم عنده وأبر لديه من فوات ذلك المكروه المستلزم لفوات هذا المرضي المحبوب وإن أسخطه أكل آدم من الشجرة فقد أرضاه توبته وإنابته وخضوعه وتذلله بين يديه وانكساره له وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك لخروج فقط أرضاه أعظم الرضاء دخوله إليها ذلك الدخول وإن أسخطه قتلهم أوليائه وأحبائه وتمزيق لحومهم وإراقة دمائهم فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها ولا أنعم ولا ألذ في قربه وجواره وإن أسخطه معاصي عباده فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة

ص: 239

مغفرته وعفوه وبره وكرمه وجوده والثناء عليه بذلك وحمده وتمجديه بهذه الأوصاف التي حمده بها وأثنى عليه بها أحب إليه وأرضى له من فوات تلك المعاصي وفوات هذه المحبوبات واعلم أن الحمد هو الأصل الجامع لذلك كله فهو عقد نظام الخلق والأمر والرب تعالى له الحمد كله بجميع وجوهه واعتباراته وتصاريفه فما خلق شيئا ولا حكم بشيء إلا وله فيه الحمد فوصل حمده إلى حيث وصل خلقه وأمره حمدا حقيقا يتضمن محبته والرضا به وعنه والثناء عليه والإقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه وأمر به فتعطيل حكمته غير تعطيل حمده كما تقدم بيانه فكما أنه لا يكون إلا حميدا فلا يكون إلا حكيما فحمده وحكمته كعلمه وقدرته وحياته من لوازم ذاته ولا يجوز تعطيل شيء من صفاته وأسمائه عن مقتضياتها وآثارها فإن ذلك يستلزم النقص الذي يناقض كماله وكبريائه وعظمته يوضحه، الوجه الخامس والعشرون إنه كما أن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه يجود ويعطي ويمنح فمنها أن يعيذ وينصر ويغيث فكما يحب أن يلوذ به اللائذون يحب أن يعوذ به العائذون وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم ويعوذوا بهم كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه:

يأمن ألوذ به فيما أومله

ومن أعوذ به مما أحاذره

لا يجبر الناس عظما أنت كاسره

ولا يهيضون عظما أنتن جابره

ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله والمقصود أن ملك الملوك يحب أن يلوذ به مماليكه وأن يعوذوا به كما أمر رسوله أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه وبذلك يظهر تمام نعمته على عدوه إذا أعاذه وأجاره من عدوه فلم يكن إعاذته وإجارته منه بأدنى النعمتين والله تعالى يحب أن يكمل نعمته على عباده المؤمنين ويريهم نصره لهم على عدوهم وحمايتهم منه وظفرهم بهم فيا لها من نعمة كمل بها سرورهم ونعيمهم وعدل أظهره في أعدائه وخصمائه:

وما منهما الإله فيه حكمة

يقصر عن إدراكها كل باحث

الوجه السادس والعشرون قوله أي حكمة في إبقاء إبليس إلى آخر الدهر وإماتة الرسل فكم لله في ذلك من حكمة تضيق بها الأوهام فمنها أنه سبحانه لما جعله محكا ومحنة يخرج به الطيب من الخبيث ووليه من عدوه اقتضت حكمته إبقاءه ليحصل الغرض المطلوب بخلقه ولو أماته لفات ذلك الغرض كما أن الحكمة اقتضت بقاء أعدائه الكفار في الأرض إلى آخر الدهر ولو أهلكهم البتة لتعطلت الحكم الكثيرة في إبقائهم فكما اقتضت حكمته امتحان أبي البشر اقتضت امتحان أولاده من بعده به فتحصل السعادة لمن خالفه وعاداه وينحاز إليه من وافقه ووالاه ومنها أنه لما سبق حلمه وحكمته أنه لا نصيب له في الآخرة وقد سبق له طاعة وعبادة جزاه بها في الدنيا بأن أعطاه البقاء فيها إلى آخر الدهر فإنه سبحانه لا يظلم أحدا حسنة عملها فأما المؤمن فيجزيه بحسناته في الدنيا وفي الآخرة وأما الكافر فيجزيه بحسنات ما عمل في الدنيا فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له شيء كما ثبت هذا المعنى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أن إبقاءه لم يكن كرامة في حقه فإنه لو مات كان خيرا له وأخف لعذابه وأقل لشره ولكن لما غلظ ذنبه بالإصرار على المعصية ومخاصمة من ينبغي التسليم لحكمه والقدح في حكمته والخلف على اقتطاع عباده وصدهم عن عبوديته كانت عقوبة الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلظه فأبقى في الدنيا

ص: 240

وأملى له ليزداد هذا إثما على أثم ذلك الذنب فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره فيكون رأس أهل الشر في العقوبة كما كان رأسهم في الشر والكفر ولما كان مادة كل شر فعنه ينشأ جوزي في النار مثل فعله فكل عذاب ينزل بأهل النار يبدأ به فيه ثم يسري منه إلى أتباعه عدلا ظاهرا أو حكمة بالغة ومنها أنه قال في مخاصمته لربه أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا وعلم سبحانه أن في الذرية من لا يصلح لمساكنته في داره ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والروث أبقاه له وقال له بلسان القدر هؤلاء أصحابك وأوليائك فاجلس في انتظارهم وكلما مر بك واحد منهم فشأنك به فلو صلح لي لما ملكتك منه فإني أتولى الصالحين وهم الذي يصلحون لي وأنت ولي المجرمين الذين غنوا عن موالاتي وابتغاء مرضاتي قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} فأما إماتة الأنبياء والمرسلين فلم يكن ذلك لهوانهم عليه ولكن ليصلوا إلى محل كرامته ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها ومقاساة أعدائهم وأتباعهم وليحي الرسل بعدهم يرى رسولا بعد رسول فإماتتهم أصلح لهم وللأمة أما هم فلراحتهم من الدنيا ولحوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور ولا سيما وقد خيرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به وأما الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة بل أطاعوهم بعد مماتهم كما أطاعوهم في حياتهم وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم بل يعبدون الله بأمرهم ونهيهم والله هو الحي الذي لا يموت فكم في إماتتهم من حكمة ومصلحة لهم وللأمم هذا وهم بشر ولم يخلق الله البشر في الدنيا على خلقة قابلة للدوام بل جعلهم خلائف في الأرض يخلف بعضهم بعضا فلو أبقاهم لفاتت المصلحة والحكمة في جعلهم خلائف ولضاقت بهم الأرض فالموت كمال لكل مؤمن ولولا الموت لما طاب العيش في الدنيا ولا هناء لأهلها بها فالحكمة في الموت كالحكمة في الحياة، الوجه السابع والعشرون قوله أي حكمة ومصلحة في إخراج آدم من الجنة إلى دار الابتلاء والامتحان فالجواب أن يقال كم لله سبحانه في ذلك من حكمة وكل فيه من نعمة ومصلحة تعجز العقول عن معرفتها على التفصيل ولو استفرغت قواها كلها في معرفة ذلك وإهباط آدم وإخراجه من الجنة كان يعسر كماله ليعود إليها على أحسن أحواله وهو سبحانه إنما خلقه ليستعمره وذريته في الأرض ويجعلهم خلفاء يخلف بعضهم بعضا فخلفهم سبحانه ليأمرهم وينهاهم ويبتليهم وليست الجنة دار ابتلاء وتكليف فأخرج الأبوين إلى الدار التي خلقوا منها وفيها ليتزودوا منها إلى الدار التي خلقوا لها فإذا وفوا تعب دار التكليف ونصبها عرفوا قدر تلك الدار وشرفها وفضلها ولو نشأوا في تلك الدار لما عرفوا قدر نعمته عليهم بها فأسكنهم دار الامتحان وعرضهم فيها لأمره ونهيه لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه وكرامته وكان من الممكن أن يحصل لهم النعيم المقيم هناك لكن الحاصل عقيب الابتلاء والامتحان ومعانات الموت وما بعده وأهوال القيامة والعبور على الصراط نوع آخر من النعيم لا يدرك قدره وهو أكمل من نعيم من خلق في الجنة من الولدان والحور العين بما لا يشبه بينهما بوجه من الوجوه ومن الحكم في ذلك أنه سبحانه أراد أن يتخذ من ذرية آدم رسلا وأنبيائه وشهداء يحبهم ويحبونه وينزل عليهم كتبه ويعهد إليهم عهده ويستعبدهم له في السراء والضراء ويؤثرون محابه ومراضيه على شهواتهم وما يحبونه ويهوونه فاقتضت حكمته أن أنزلهم إلى دار ابتلاهم فيها بما ابتلاهم ليكملوا بذلك الابتلاء مراتب

ص: 241

عبوديته ويعبدونه بما تكرهه نفوسهم وذلك محض العبودية وإلا فمن يعبد الله إلا بما يحبه ويهواه فهو في الحقيقة إنما يعبد نفسه وهو سبحانه يحب من أوليائه أن يولوا فيه ويعادوا فيه ويبذلوا نفوسهم في مرضاته ومحابه وهذا كله لا يحصل في دار النعيم المطلق ومن الحكمة في إخراجه من الجنة ما تقدم التنبيه عليه من اقتضاء أسماء الله الحسنى لمسمياتها ومتعلقاتها كالغفور الرحيم التواب العفو المنتقم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث ولا بد من ظهور أثر هذه الأسماء ووجود ما يتعلق به فاقتضت حكمته أن إنزال الأبوين من الجنة ليظهر مقتضى أسمائه وصفاته فيهما وفي ذريتهما فلو تربت الذرية في الجنة لفاتت أثار هذه الأسماء وتعلقاتها والكمال الإلهي يأبى ذلك فإنه الملك الحق المبين والملك هو الذي يأمر وينهى ويكرم ويهين ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل فأنزل الأبوين والذرية إلى دار تجري عليهم هذه الأحكام وأيضا فإنهم أنزلوا إلى دار يكون إيمانهم تاما فإن الإيمان قول وعمل وجهاد وصبر واحتمال وهذا كله إنما يكون في دار الامتحان لا في جنة النعيم وقد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم أبو الوفا بن عقيل وغيره أن أعمال الرسل والأنبياء والمؤمنين في الدنيا أفضل من نعيم الجنة قالوا لأن نعيم الجنة حظهم وتمتعهم فأين يقاس إلى الإيمان وأعماله والصلوات وقراءة القرآن والجهاد في سبيل الله وبذل النفوس في مرضاته وإيثاره على هواها وشهواتها فالأيمان متعلق به سبحانه وهو حقه عليهم ونعيم الجنة متعلق بهم وهو حظهم فهم إنما خلقوا للعبادة والجنة دار نعيم لا دار تكليف وعبادة وأيضا فإنه سبحانه سبق حكمه وحكمته بأن يجعل في الأرض خليفة وأعلم بذلك ملائكته فهو سبحانه قد أراد بكون هذا الخليفة وذريته في الأرض قبل خلقه لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة فلم يكن بد من إخراجه من الجنة إلى دار قد سكناهم فيها قبل أن يخلقه وكان ذلك التقدير بأسباب وحكم فمن أسبابه النهي عن تلك الشجرة وتخليته بينه وبين عدوه حتى وسوس إليه بالأكل وتخليته بينه وبين نفسه حتى وقع في المعصية وكانت تلك الأسباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة يترتب على خروجه من الجنة ثم يترتب على خروجه أسباب أخر جعلت غايات لحكم أخر ومن تلك الغايات عوده إليها على أكمل الوجوه فذلك التقدير وتلك الأسباب وغاياتها صادرة عن محض الحكمة البالغة التي يحمده عليها أهل السماوات والأرض والدنيا والآخرة فما قدر أحكم الحاكمين ذلك باطلا ولا دبره عبثا ولا أخلاه من حكمته البالغة وحمده التام وأيضا فإنه سبحانه قال للملائكة: {نِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ثم أظهر سبحانه من علمه وحكمته الذي خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعرفونه بأن جعل من نسله من أوليائه وأحبائه ورسله وأنبيائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب ويبذل نفسه في محبته ومرضاته يسبح بحمده أناء الليل وأطراف النهار ويذكره قائما وقاعدا وعلى جنبه ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء والعافية والبلاء والشدة والرخاء فلا يثنيه عن ذكره وشكره وعبادته شدة ولا بلاء ولا فقر ولا مرض ويعبده مع معارضة الشهوة وغلبات الهوى وتعاضد الطباع لأحكامها ومعاداة بني جنسه وغيرهم له فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره وذكره والتقرب إليه فإن كانت عبادتكم لي بلا معارض ولا ممانع فعبادة هؤلاء لي مع هذه المعارضات والموانع والشواغل وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يظهر لهم

ص: 242

ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر فذلك الخير وهذا الشر كامن في نفوس لا يعلمونها فلا بد من إخراجه وإبرازه لكي يعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وبنيه على كثير ممن خلق تفضيلا جعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم وكانت العبودية أفضل أحوالهم وأعلى درجاتهم أعني العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا ولهذا أرسل الله جبريل إلى سيد هذا النوع الإنساني يخيره بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا فاختار بتوفيق ربه له أن يكون عبدا رسولا وذكره سبحانه بأتم العبودية في أشرف مقاماته وأفضل أحواله كمقام الدعوة والتحدي والإسراء وإنزال القرآن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} فأثنى عليه ونوه الله لعبوديته التامة له ولهذا يقول أهل الموقف حين يطلبون الشفاعة اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا يحصل إلا بها كان من أعظم الحكمة أن أخرجوا إلى دار تجري عليهم فيها أحكام العبودية وأسبابها وشروطها وموجباتها فكان إخراجهم من الجنة تنكيلا لهم وإتماما لنعمته عليهم مع ما في ذلك من محبوبات الرب تعالى فإنه يحب إجابة الدعوات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات ومغفرة الزلات وتكفير السيئات ودفع البليات وإعزاز من يستحق العز وإذلال من يستحق الذل ونصر المظلوم وجبر الكسير ورفع بعض خلقة على بعض وجعلهم درجات ليعرف قدر فضله وتخصيصه فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار يحصل فيها محبوباته سبحانه وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها فالوقوف على الشيء لا بدونه وإيجاد لوازم الحكمة من الحكمة كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل كما ستقف عليه في فصل إيلام الأطفال إن شاء الله، الوجه الثامن والعشرون أنه سبحانه أبرز خلقه من العدم إلى الوجود ليجري عليه أحكام أسمائه وصفاته فيظهر كماله المقدس وإن كان لم يزل كاملا فمن كماله ظهور آثار كماله في خلقه وأمره وقضائه وقدره ووعده ووعيده ومنعه وإعطائه وإكرامه وإهانته وعدله وفضله وعفوه وإنعامه وسعة حلمه وشدة بطشه وقد اقتضى كماله المقدس سبحانه أنه كل يوم هو في شأن فمن جملة شؤونه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويشفي مريضا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويغيث ملهوفا ويحبر كسيرا ويغني فقيرا ويجيب دعوة ويقيل عثرة ويعز ذليلا ويذل متكبرا ويقصم جبارا ويميت ويحيي ويضحك ويبكي ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع ويرسل رسله من الملائكة ومن البشر في تنفيذ أوامره وسوق مقاديره التي قدرها إلى مواقيتها التي وقتها لها وهذا كله لم يكن ليحصل في ذات البقاء وإنما اقتضت حكمته البالغة حصوله في دار الامتحان والابتلاء يوضحه، الوجه التاسع والعشرون أن كمال ملكه التام اقتضى كمال تصرفه فيه بأنواع التصرف ولهذا جعل الله سبحانه الدور ثلاثة دارا أخلصها للنعيم واللذة والبهجة والسرور ودارا أخلصها للألم والنصب وأنواع البلاء والشرور ودارا خلط خيرها بشرها ومزج نعيمها بشقائها ومزج لذتها بألمها يلتقيان ويطالبان وجعل عمارة تينك الدارين من هذه الدار وأجرى أحكامه على خلقه في الدور الثلاثة بمقتضى ربوبيته

ص: 243

وإلهيته وعزته وحكمته وعدله ورحمته فلو أسكنهم كلهم دار البقاء من حين أوجدهم لتعطلت أحكام هذه الصفات ولم يترتب عليها آثارها يوضحه، الوجه الثلاثون أن يوم المعاد الأكبر يوم مظهر الأسماء والصفات وأحكامها ولهذا يقول سبحانه:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} وقال: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} حتى أن الله سبحانه ليتعرف إلى عباده ذلك اليوم بأسماء وصفات لم يعرفوها في هذه الدار فهو يوم ظهور المملكة العظمى والأسماء الحسنى والصفات العلى فتأمل ما أخبر به والله ورسوله من شأن ذلك اليوم وأحكامه وظهور عزته تعالى وعظمته وعدله وفضله ورحمته وآثار صفاته المقدسة التي لو خلقوا دار البقاء لتعطلت وكماله سبحانه ينفي ذلك وهذا دليل مستقل لمن عرف الله تعالى وأسمائه وصفاته على وقوع المعاد وصدق الرسل فيما أخبروا به عن الله عنه فيطابق دليل العقل ودليل السمع على وقوعه، الوجه الحادي والثلاثون أن الله سبحانه يحب أن يعبد بأنواع التعبدات كلها ولا يليق ذلك إلا بعظمته وجلاله ولا يحسن ولا ينبغي إلا الإله وحده ومن المعلوم أن أنواع التعبد الحاصلة في دار الابتلاء والامتحان لا يكون في دار المجازاة وإن كان في هذه الدار بعض المجازاة وكمالها وتمامها إنما هو في تلك الدار وليست دار عمل وإنما هي دار جزاء وثواب أوجب كماله المقدس أن يجزي فيها الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى فلم يكن بد من دار تقع فيها الإساءة والإحسان ويجري على أهلها أحكام الأسماء والصفات ثم يعقبها دارا يجازي فيها المحسن والمسيء ويجري على أهلها فيها أحكام الأسماء والصفات فتعطيل أسمائه وصفاته ممتنع ومستحيل وهو تعطيل لربوبيته وإلهيته وملكه وعزه وحكمته فمن فتح له باب من الفقه في أحكام الأسماء والصفات وعلم اختصاصها لآثارها ومتعلقاتها واستحالة تعطيلها علم أن الأمر كما أخبرت به الرسل وأنه لا يجوز عليه سبحانه ولا ينبغي له غيره وأنه ينزه عن خلاف ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص وهذا باب عزيز من أبواب الإيمان فيفتحه الله على من يشاء من عباده ويحرمه من يشاء، الوجه الثاني والثلاثون أنه كم لله سبحانه من حكمة وحمد وأمر ونهي وقضاء وقدر في جعل بعض عباده فتنة لبعض كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} فهو سبحانه جعل أوليائه فتنة لأعدائه وأعداءه فتنته لأوليائه والملوك فتنة للرعية والرعية فتنة لهم والرجال فتنة للنساء وهن فتنة لهم والأغنياء فتنة للفقراء والفقراء فتنة لهم وابتلى كل أحد بضد جعله متقابلا فما استقرت أقدام الأبوين على الأرض إلا وضدهما مقابلهما واستمر الأمر في الذرية كذلك إلى أن يطوي الله الدنيا ومن عليها وكم له سبحانه في مثل هذا الابتلاء والامتحان من حكمة بالغة ونعمة سابغة وحكم نافذ وأمر ونهي وتصريف دال على ربوبيته وإلهيته وملكه وحمده وكذلك ابتلاء عباده بالخير والشر في هذه الدار هو من كمال حكمته ومقتضى حمده التام، الوجه الثالث والثلاثون أنه لولا هذا الابتلاء والامتحان لما ظهر فضل الصبر والرضا والتوكل والجهاد والعفة والشجاعة والحلم والعفو والصفح والله سبحانه يحب أن يكرم أوليائه بهذه الكمالات ويحب ظهورها عليهم ليثني بها عليهم هو وملائكته وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة والسرور وإن كانت مرة المبادئ فلا أحلى من عواقبها ووجود الملزم بدون لازمه ممتنع وقد أجرى الله سبحانه حكمته بأن كمال الغايات تابعة لقوة أسبابها وكمالها ونقصانها لنقصانها فمن كمل

ص: 244

أسباب النعيم واللذة كملت له غاياتها ومن حرمها حرمها ومن نقصها نقص له من غاياتها وعلى هذا قام الجزاء بالقسط والثواب والعقاب وكفى بهذا العالم شاهدا لذلك فرب الدنيا والآخرة واحد وحكمته مطردة فيهما وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون يوضحه، الوجه الرابع والثلاثون وهو أن أفضل العطاء وأجله على الإطلاق الإيمان وجزاؤه وهو لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار قال تعالى:{ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فذكر سبحانه في هذه السورة أنه لا بد أن يمتحن خلقه ويفتنهم ليتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر ومن يشكره ويعبده ممن يكفره ويعرض عنه ويعبد غيره وذكر أحوال الممتحنين في العاجل والآجل وذكر أئمة الممتحنين في الدنيا وهم الرسل وأتباعهم وعاقبة أمرهم وما صاروا إليه وافتتح بالإنكار على من يحسب أنه يتخلص من الامتحان والفتنة في هذه الدار إذا دعى الإيمان وأن حكمته سبحانه وشأنه في خلقه يأبى ذلك وأخبر عن سر هذه الفتنة والمحنة وهو تبيين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر وهو سبحانه كان يعلم ذلك قبل وقوعه ولكن اقتضى عدله وحمده أنه لا يجزي العباد بمجرد علمه فيهم بل بمعلومه إذا وجد وتحقق والفتنة هي التي أظهرته وأخرجته إلى الوجود فحينئذ حسن وقوع الجزاء عليه ثم أنكر سبحانه على من لم يلتزم الإيمان به ومتابعة رسله خوف الفتنة والمحنة التي يمتحن بها رسله وأتباعهم ظنه وحسبانه أنه بإعراضه عن الإيمان وتصديق رسله يتخلص من الفتنة والمحنة فإن بين يديه من الفتنة والمحنة والعذاب أعظم وأشق مما فر عنه فإن المكلفين بعد إرسال الرسل إليهم بين أمرين إما أن يقول أحدهم آمنت وإما أن لا يقول بل يستمر على السيئات فمن قال آمنا امتحنه الرب تعالى وابتلاه لتتحقق بالإيمان حجة إيمانه وثباته عليه وأنه ليس بإيمان عافية ورخاء فقط بل إيمان ثابت في حالتي النعماء والبلاء ومن لم يؤمن فلا يحسب أنه يعجز ربه تعالى ويفوته بل هو في قبضته وناصيته بيده فله من البلاء أعظم مما ابتلى به من قال آمنت فمن آمن به وبرسله فلا بد أن يبتلي من أعدائه وأعداء رسله بما يؤلمه ويشق عليه ومن لم يؤمن به وبرسله فلا بد أن يعاقبه فيحصل له من الألم والمشقة أضعاف ألم المؤمنين فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أشد ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللذة والكافر يحصل له اللذة والسرور ابتداء ثم ينقطع ويعقبه أعظم الألم والمشقة وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات فيلتذون بها ابتداء ثم تعقبها الآلام لم بحسب ما نالوه منها والذين يصبرون عنها ينالون بفقدها ابتداء ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنه وتركوه منها فالألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والآجل الدائم العظيم بون ولهذا كان خاصة العقل النظر في العواقب والغايات فمن ظن أنه يتخلص من الألم بحيث لا يصيبه البتة فظنه أكذب الحديث فإن الإنسان خلق عرضة للذة والألم والسرور والحزن والفرح والغم وذلك من جهتين من جهة تركبه وطبيعته وهيئته فإنه مركب من أخلاط متفاوتة متضادة يمتنع أو يعز اعتدالها من كل وجه بل لا بد أن يبغي بعضها على بعض فيخرج عن حد الاعتدال

ص: 245

فيحصل الألم ومن جهة بني جنسه فإنه مدني بالطبع لا يمكنه أن يعيش وحده بل لا يعيش إلا معهم وله ولهم لذاذات ومطالب متضادة ومتعارضة لا يمكن الجمع بينها بل إذا حصل منها شيء فات منها أشياء فهو يريد منهم أن يوافقوه على مطالبه وإرادته وهم يريدون منه ذلك فإن وافقهم حصل له من الألم والمشقة بحسب ما فاته من إرادته وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وسعوا في تعطيل مراداته كما لم يوافقهم على مراداتهم فيحصل له من الألم والتعذيب بحسب ذلك فهو في ألم ومشقة وعناء وافقهم أو خالفهم ولا سيما إذا كانت موافقتهم على أمور يعلم أنها عقائد باطلة وإرادات فاسدة وأعمال تضره في عواقبها ففي موافقتهم أعظم الألم وفي مخالفتهم حصول الألم فالعقل والدين والمروءة والعلم تأمره باحتمال أخف الألمين تخلصا من أشدهما وبإيثار المنقطع منهما لينجو من الدائم المستمر فمن كان ظهيرا للمجرمين من الظلمة على ظلمهم ومن أهل الأهواء والبدع على أهوائهم وبدعهم ومن أهل الفجور والشهوات على فجورهم وشهواتهم ليتخلص بمظاهرتهم من ألم أذاهم أصابه من ألم الموافقة لهم عاجلا وآجلا أضعاف أضعاف ما فر منه وسنة الله في خلقه أن يعذبهم بإنذار من إيمانهم وظاهرهم وإن صبر على ألم مخالفتهم ومجانبتهم أعقبه ذلك لذة عاجلة وآجلة تزيد على لذة الموافقة بأضعاف مضاعفة وسنة الله في خلقه أن يرفعه عليهم ويذلهم به بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلاصه وإذا كان لا من الألم والعذاب فذلك في الله وفي مرضاته ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في الناس ورضائهم وتحصيل مراداتهم ولما كان زمن التألم والعذاب فصبره طويل فأنفاسه ساعات وساعاته أيام وأيامه شهور وأعوام بلا سبحانه الممتحنين فيه بأن ذلك الابتلاء آجلا ثم ينقطع وضرب لأهله أجلا للقائه يسليهم به ويشكر نفوسهم ويهون عليهم أثقاله فقال: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فإذا تصور العبد أجل ذلك البلاء وانقطاعه وأجل لقاء المبتلى سبحانه وإثباته هان عليه ما هو فيه وخف عليه حمله ثم لما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة للنفس وللشيطان ولبني جنسه وكان العامل إذا علم أن ثمرة علمه وتعبه يعود عليه وحده لا يشكره فيه غيره كأن أتم اجتهادا وأوفر سعيا فقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وأيضا فلا يتوهم متوهم أن منفعة هذه المجاهدة والصبر والاحتمال يعود على الله سبحانه فإنه غني عن العالمين لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم بل أمرهم بما يعود نفعه ومصلحته عليهم في معاشهم ومعادهم ونهاهم عما يعود مضرته وعتيه عليهم في معاشهم ومعادهم فكانت ثمرة هذا الابتلاء والامتحان مختصة بهم واقتضت حكمته أن نصب ذلك سببا مقضيا إلى يميز الخبيث من الطيب والشقي من الغوي ومن يصلح له ممن لا يصلح قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فابتلاهم سبحانه بإرسال الرسل إليهم بأوامره ونواهيه واختياره فامتاز برسله طيبهم من خبيثهم وجيدهم من رديئهم فوقع الثواب والعقاب على معلوم أظهره ذلك الابتلاء والامتحان ثم لما كان الممتحن لا بد أن ينحرف عن طريق الصبر والمجاهدة لدواعي طبيعته وهواه وضعفه عن مقاومة ما ابتلي به وعده سبحانه أن يتجاوز له عن ذلك ويكفره عنه لأنه لما أمر به والتزم طاعته اقتضت رحمته أن كفر عنه سيئاته وجازاه بأحسن أعماله ثم ذكر سبحانه ابتلاء العبد بأبويه وما أمر به من طاعتهما وصبره على مجاهدتهما له على أن لا يشرك به فيصبر على هذه المحنة والفتنة ولا يطيعهما بل يصاحبهما على هذه الحال معروفا ويعرض عنهما إلى متابعة سبيل رسله

ص: 246

وفي الإعراض عنهما وعن سبيلهما والإقبال على من خالفهما وعلى سبيله من الامتحان والابتلاء ما فيه ثم ذكر سبحانه حال من دخل في الإيمان على ضعف عزم وقلة صبر وعدم ثبات على المحنة والابتلاء وأنه إذا أوذي في الله كما جرت به سنة الله واقتضت حكمته من ابتلاء أوليائه بأعدائه وتسليطهم عليهم بأنواع المكاره والأذى لم يصبر على ذلك وجزع منه وفر منه ومن أسبابه كما يفر من عذاب الله فجعل فتنة الناس له على الإيمان وطاعة رسله كعذاب الله لمن يعذبه على الشرك ومخالفة رسله وهذا يدل على عدم البصيرة وأن الإيمان لم يدخل قلبه ولا ذاق حلاوته حتى سوى بين عذاب الله له على الإيمان بالله ورسوله وبين عذاب الله لمن لم يؤمن به وبرسله وهذا حال من يعبد الله على حرف واحد لم ترسخ قدمه في الإيمان وعبادة الله فهو من المفتونين المعذبين وإن فر من عذاب الناس له على الإيمان ثم ذكر حال هذا عند نصرة المؤمنين وأنهم إذا نصروا لجأ إليهم وقال كنت معكم والله سبحانه يعلم من قلبه خلاف قوله ثم ذكر سبحانه ابتلاء نوح بقومه ألف سنة إلا خمسين عاما وابتلاء قومه بطاعته فكذبوه فابتلاهم بالغرق ثم بعده بالخرق ثم ذكر ابتلاء إبراهيم بقومه وما ردوا عليه وابتلاهم بطاعته ومتابعته ثم ذكر ابتلاء لوط بقومه وابتلاءهم به وما صار إليه أمره وأمرهم ثم ذكر ابتلاء شعيب بقومه وابتلاءهم به وما انتهت إليه حالهم وحاله ثم ذكر ما ابتلى به عادا وثمودا وقارون وفرعون وهامان وجنودهم من الإيمان به وعبادته وحده ثم ما ابتلاهم به من أنواع العقوبات ثم ذكر ابتلاء رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنواع الكفار من المشركين وأهل الكتاب وأمره أن يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن ثم أمر عباده المبتلين بأعدائه أن يهاجروا من أرضهم إلى أرضه الواسعة فيعبدونه فيها ثم نبههم بالنقلة الكبرى من دار الدنيا إلى دار الآخرة على نقلتهم الصغرى من أرض إلى أرض وأخبرهم أن مرجعهم إليه فلا قرار لهم في هذه الدار دون لقائه ثم بين لهم حال الصابرين على الابتلاء فيه بأنه يبوؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها فسلاهم عن أرضهم ودارهم التي تركوها لأجله وكانت مباء لهم بأن بوأهم دارا أحسن منها وأجمع لكل خير ولذة ونعيم مع خلود الأبد وأن ذلك بصبرهم على الابتلاء وتوكلهم على ربهم ثم أخبرهم بأنه ضامن لرزقهم في غير أرضهم كما كان يرزقهم في أرضهم فلا يهتموا بحمل الرزق فكم من دابة سافرت من مكان إلى مكان لا تحمل رزقها ثم أخبرهم أن مدة الابتلاء والامتحان في هذه الدار قصيرة جدا بالنسبة إلى دار الحيوان والبقاء ثم ذكر سبحانه عاقبة أهل الابتلاء ممن لم يؤمن به وأن مقامهم في هذه الدار تمتع وسوف يعلمون عند النقلة منها ما فاتهم من النعيم المقيم وما حصلوا عليه من العذاب الأليم وذكر عاقبة أهل الابتلاء ممن آمن به وأطاع رسله وجاهد نفسه وعدوه في دار الابتلاء ما به هاديه وناصره فأخبر سبحانه أن أجل عطاه وأفضله في الدنيا والآخرة هو لأهل الابتلاء الذين صبروا على ابتلائه وتوكلوا عليه وأخبر أن أعظم عذابه وأشقه هو للذين لم يصبروا على ابتلائه وفروا منه وآثروا النعيم العاجل عليه فمضمون هذه السورة هو سر الخلق والأمر فإنها سورة الابتلاء والامتحان وبيان حال أهل البلوى في الدنيا والآخرة ومن تأمل فاتحتها ووسطها وخاتمها وجد في ضمنها أن أول الأمر ابتلاء وامتحان ووسطه صبر وتوكل وآخره هداية ونصر والله المستعان يوضحه، الوجه الخامس والثلاثون وهو أنه سبحانه أخبر أنه خلق السماوات والأرض العالم العلوي والسفلي

ص: 247

ليبلونا أينا أحسن عملا وأخبر أنه زين الأرض بما عليها من حيوان ونبات ومعادن وغيرها لهذا الابتلاء وأنه خلق الموت والحياة لهذا الابتلاء فكان هذا الابتلاء غاية الخلق والأمر فلم يكن من بد من دار يقع فيها هذا الابتلاء وهي دار التكليف ولما سبق في حكمته أن الجنة دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان جعل قبلها دار الابتلاء جسرا يعبر عليه إليها ومزرعة يبذر فيها وميناء يزود منها وهذا هو الحق الذي خلق الخلق به ولأجله وهو أن يعبد وحده بما أمر به على ألسنة رسله فأمر ونهى على السنة ووعدنا بالثواب والعقاب ولم يخلق خلقه سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يتركهم هملا لا يثيبهم ولا يعاقبهم بل خلقوا للأمر والنهي والثواب والعقاب ولا يليق بحكمته وحمده غير ذلك.

فصل: وقد عرف من هذا الجواب عن قولهم أي حكمة في خلق النفس مريدة للخير والشر وهلا خلقت مريدة للخير وحده وكيف اقتضت الحكمة تمكينها من الشر مع القدرة على منعها منه وأي حكمة في إعطائها قوة وأسبابا يعلم المعطي أنها لا يفعل بها إلا الشر وحده وأي حكمة في إقرار هذه النفوس على غيها وظلمها وعدوانها ومعلوم أن يفعل لحكمة لا يفعل ذلك وأن من يفعل لحكمة إذا رأى عبيده يقتل بعضهم بعضا ويفسد بعضهم بعضا ويظلم بعضهم بعضا وهو قادر على منعهم فلا بدعة حكمته وهما لهم بحيث يتركهم كذلك فإما أن يكون عالما يما يأتون أو لا يكون قادرا على منعهم أو لا يكون ممن يفعل لغرض وحكمة والأولان مستحيلان في حق الرب تعالى فتعين الثالث ومبنى هذه الشبهة على أصل فاسد وهو قياس الرب على خلقه وتشبيههم في أفعاله بحيث يحسن منه ما يحصن منهم ويقبح منه ما يقبح منهم ولهذا كانت القدرية مشبهة الأفعال ومتأخروهم جمعوا بين هذا التشبيه وبين تعطيل الصفات فصاروا معطلين للصفات مشبهين في الأفعال وهذا الأصل الفاسد مما رده عليهم سائر العقلاء وقالوا قياس أفعال الرب على أفعال العباد من أفسد القياس وكذلك قياس حكمته على حكمتهم وصفاته على صفاتهم ومن المعلوم أن الرب تعالى علم أن عباده يقع منهم الكفر والظلم والفسوق وكان قادرا على أن لا يوجدهم وأن يوجدهم كلهم أمة واحدة على ما يحب ويرضى وأن يحول بينهم وبين بغي بعضهم ولكن حكمته البالغة أبت ذلك واقتضت إيجادهم على الوجه الذي هم عليه وهو سبحانه خلق النفوس أصنافا فصنف مريدا للخير وحده وهي نفوس الملائكة وصنف مريدا للشر وحده وهي نفوس الشياطين وصنف فيه إرادة النوعين وهي النفوس البشرية فالأولى الخير لهم طباع وهي محمودة عليه والشر للنفوس الثانية طباع وهي مذمومة عليه والصنف الثالث بحسب الغالب عليه من الوصفين فمن غلب عليه وصف الخير التحق بالصنف الأول ومن غلب عليه وصف الشر التحق بالصنف الثالث فإذا اقتضت الحكمة وجود هذا الصنف الثالث فإن يقتضي وجود الثاني أولى وأحرى والرب تعالى اقتضت قدرته وعزته وحكمته إيجاد المتقابلات في الذوات والصفات والأفعال كما تقدم وقد نوع خلقه تنويعا دالا على كمال قدرته وربوبيته فمن أعظم الجهل والضلال أن يقول القائل هلا كان خلقه كلهم نوعا واحدا فيكون العالم علوا كله أو نورا كله أو الحيوان ملكا كله وقد يقع في الأوهام الفاسدة أن هذا كان أولى وأكمل ويعرض الوهم الفاسد ما ليس ممكنا كمالا، الوجه السادس والثلاثون قوله وأي حكمة في إيلام الحيوانات غير المكلفة فهذه مسألة تكلم الناس

ص: 248

فيها قديما وحديثا وتباينت طرقهم في الجواب عنها فالجاحدون للفاعل المختار الذي يفعل بمشيئته وقدرته يحيلون ذلك على الطبيعة المجردة وأن ذلك من لوازمها ومقتضياتها ليس بفعل فاعل ولا قدرة قادر ولا إرادة مريد ومنكرو الحكمة والتعليل يردون ذلك إلى محض المشيئة وصرف الإرادة تخصص مثلا على مثل بلا موجب ولا غاية ولا حكمة مطلوبة ولا سبب أصلا وظنوا أنهم بذلك يتخلصون من السؤال ويسدون على نفوسهم باب المطالبة وإنما سدوا على نفوسهم باب معرفة الرب وكماله وكمال أسمائه وأوصافه وأفعاله فعطلوا حكمته وحقيقة ألهيته وحمده وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار وأما من أثبت حكمة وتعليلا لا يعودا إلى الخالق بل إلى المخلوق سلكوا طريقة التعويض على تلك الآلام في حق من يبعث للثواب والعقاب وقالوا قد يكون في ذلك إثابة لإثابتهم بصبرهم وتألمهم وإثابة لهم وتعويضا في القيامة بما نالهم من تلك الآلام فلما أورد عليهم إيلام الحيوانات التي لا تثاب ولا تعاقب وأما المثبتون لحقائق أسماء الرب وصفاته وحكمته التي هي وصفه ولأجلها تسمى بالحكيم وعنها صدر خلقه وأمره فهم أعلم الفرق بهذا الشأن ومسلكهم فيه أصح المسالك وأسلم من التناقض والاضطراب فإنهم جمعوا بين إثبات القدرة والمشيئة العامة والحكمة الشاملة التي هي غاية الفعل وربطوا ذلك بالأسماء والصفات فتصادق عندهم السمع والعقل والشرع والفطرة وعلموا أن ذلك مقتضى الحكمة البالغة وأنه من لوازمها وأن لازم الحق حق ولازم العدل عدل ولوازم الحكمة من الحكمة فاعلم أن هاهنا أمرين نفسا متحركة بالإرادة والاختيار وطبيعة متحركة بغير الاختيار والإرادة وأن الشر منشأه من هذين المتحركين وعن هاتين الحركتين وخلقت هذه النفس وهذه الطبيعة على هذا الوجه فهذه تتحرك لكمالها وهذه تتحرك لكمالها وينشأ عن الحركتين خير وشر كما ينشأ عن حركة الأفلاك والشمس والقمر وحركة الرياح والماء والنار خير وشر فالخيرات الناشئة عن هذه الحركات مقصودة بالقصد الأول إما لذاتها وإما لكونها وسيلة إلى خيرات أتم منها والشرور الناشئة عنها غير مقصودة بالذات وإن قصدت قصد الوسائل واللوازم التي لا بد مها فما جبلت عليه النفس من الحركة هو من لوازم ذاتها فلا تكون النفس البشرية نفسا إلا بهذا اللازم فإذا قيل لم خلقت متحركة على الدوام فهو بمنزلة أن يقال لم كانت النفس نفسا ولم كانت النار نارا والريح ريحا فلو لم يخلق هذا ما كانت نفسا ولو لم تخلق الطبيعة هكذا ما كانت طبيعة ولو لم يخلق الإنسان على هذه الصفة والخلقة ما كان إنسانا فإن قيل فلم خلقت النفس على هذه الصفة قيل من كمال الوجود خلقها على هذه الصفة كما تقدم وكذلك كمال فاطرها ومبدعها اقتضى خلقها على هذه الصفة لما في ذلك من الحكم التي لا يحصيها إلا مبدعها سبحانه وإن كان في إيجاد هذه النفس شرا فهو شر جزئي بالنسبة إلى الخير الكلي الذي هو سبب إيجادها فوجودها خير من أن لا توجد فلو لم يخلق مثل هذه النفس لكان في الوجود نقص وفوات حكم ومصالح عظيمة موقوفة على خلق مثل هذه النفس ولهذا لما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} أجابهم سبحانه بأن في خلقه من الحكم والمصالح ما لا تعلمه الملائكة والخالق سبحانه يعلمه وإذا كانت الملائكة لا تعلم ما في خلق هذا الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء من الحكم والمصالح فغيرهم أولى أن لا يحيط به علما فخلق هذا الإنسان من تمام الحكمة والرحمة والمصلحة وإن كان وجوده مستلزما لشر فهو شر

ص: 249

مغمور بما في إيجاده من الخير كإنزال المطر والثلج وهبوب الرياح وطلوع الشمس وخلق الحيوان والنبات والجبال والبحار وهذا كما أنه في خلقه فهو في شرعه ودينه وأمره فإن ما أمر به من الأعمال الصالحة خيره ومصلحته راجح وإن كان فيه شر فهو مغمور جدا بالنسبة إلى خيره وما نهى عنه من الأعمال والأقوال القبيحة فشره ومفسدته راجح والخير الذي فيه مغمور جدا بالنسبة إلى شره فسنته سبحانه في خلقه وأمره فعل الخير الخالص والراجح والأمر بالخير الخالص والراجح فإذا تناقضت أسباب الخير والشر والجمع بين النقيضين محال قدم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة ولم يكن تفويت المرجوحة شرا ودفع أسباب الشر الراجحة بالأسباب المرجوحة ولم يكن حصول المرجوحة شرا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشر الراجح وكذلك سنته في شرعه وأمره فهو يقدم الخير الراجح وإن كان في ضمنه شر مرجوح ويعطل الشر الراجح وإن فات بتعطيله خير مرجوح هذه سنته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه وما يأمر به وينهى عنه وكذلك سنته في الآخرة وهو سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وقد أتقن كل ما صنع وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة ويتفاوتون في العلم بتفاصيله وإذا عرف ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة وإما عدل وحكمة وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها وإما لدفع ألم هو أصعب منها وإما لتولدها عن لذات ونعم يولدها عنها أمر لازم لتلك اللذات وإما أن يكون من لوازم العدل أو لوازم الفضل والإحسان فيكون من لوازم الخير التي إن عطلت ملزوماتها فات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام والشرع والقدر أعدلا شاهد بذلك فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف من الحيوانات وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها ومتولدة منها بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق كالعلم والشجاعة والزهد والعفة والحلم والمروءة والصبر والإحسان كما قال:

لولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يفقر والأقدام قتال

وإذا كانت الآلام أسبابا للذات أعظم منها وأدوم منها كان العقل يقضي باحتمالها وكثيرا ما تكون الآلام أسبابا لصحة لولا تلك الآلام لفاتت وهذا شأن أكبر أمراض الأبدان فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان مالا يعلمه إلا الله وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها وقد أحصيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسرا موصلا إليها كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات وجعلها جسرا موصلا إليها ولهذا قالت العقلاء قاطبة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن الراحة لا تنال بالراحة وأن من آثر اللذات فاتته اللذات فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم إذ هي أسباب النعم وما تنال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمور جدا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها كما ينالها من حر

ص: 250

الصيف وبرد الشتاء وحبس المطر والثلج وألم الحمل والولادة والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك ولكن لذاتها أضعاف أضعاف آلامها وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام فسنة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك وقيل لكل منهم أرجع بصر العقل فهل ترى من خلل: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها والأشياء من خلافها فأخرج الحي من الميت والميت من الحي والرطب من اليابس واليابس من الرطب فكذلك أنشأ اللذات من الآلام والآلام من اللذات فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها وبعد فاللذة والسرور والخير والنعم والعافية والمصلحة والرحمة في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء وأكثر من أضدادها بأضعاف مضاعفة فأين آلام الحيوان من لذته وأين سقمه من صحته وأين جوعه وعطشه من شبعه وريه وتعبه من راحته قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولن يغلب عسر يسرين وهذا لأن الرحمة غلبت الغضب والعفو سبق العقوبة والنعمة تقدمت المحنة والخير في الصفات والأفعال والشر في المفعولات لا في الأفعال فأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها خيرات فإن ألم الحيوان لم يعدم بألمه عافية من ألم هو أشد من ذلك الألم أو تهيئة لقوة وصحة وكمال أو عوضا لا نسبة لذلك الألم إليه بوجه ما فآلام الدنيا جميعها نسبتها إلى لذات الآخرة وخيراتها أقل من نسبة ذرة إلى جبال الدنيا بكثير وكذلك لذات الدنيا جميعها بالنسبة إلى آلام الآخرة والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سدى ولم يقدرهما عبثا ومن كمال قدرته وحكمته أن جعل كل واحد منهما يثمر الأخرى هذا ولوازم الخلقة يستحيل ارتفاعها كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق فلا يكون المخلوق إلا فقيرا محتاجا ناقص العلم والقدرة فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يتألم في عالم الكون والفساد لم يكن حيوانا ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة والله لم يجعلها كذلك وإنما جعلها دارا ممتزجا ألمها بلذتها وسرورها بأحزانها وغمومها وصحتها بسقمها حكمة منه بالغة.

فصل: ولما كانت الآلام أدوية للأرواح والأبدان كانت كمالا للحيوان خصوصا لنوع الإنسان فإن فاطره وبارئه إنما أمرضه ليشفيه وإنما ابتلاه ليعافيه وإنما أماته ليحييه فهو سبحانه يسوق الحيوان والإنسان في مراتب كماله طورا بعد طور إلى آخر كماله بأسباب لا بد منها وكماله موقوف على تلك الأسباب ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع كوجود المخلوق بدون الحاجة والفقر والنقص ولوازم ذلك ولوازم تلك اللوازم ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته وعلمه وكماله فيفرض أمورا ممتنعة ويقدرها تقديرا ذهنيا ويحسب أنها أكمل من الممكن الواقع ومع هذا فربها يرحمها لجهلها وعجزها ونقصها فإن اعترفت بذلك واعترفت له بكماله وحمده وقامت بمقتضى هذين الاعترافين كان نصيبها من الرحمة أوفر والله سبحانه افتتح الخلق بالحمد وختم أمر هذا العالم بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأنزل كتابه بالحمد وشرع دينه بالحمد وأوجب ثوابه وعقابه بالحمد فحمده من لوازم ذاته إذ يستحيل أن يكون إلا محمودا فالحمد سبب الخلق وغايته الحمد أوجبه وللحمد وجد فحمده واسع

ص: 251

لما وسعه علمه ورحمته وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما فلم يوجد شيئا ولم يقدره ولم يشرعه إلا بحمده ولحمده وكل ما خلقه وشرعه فهو متضمن للغايات الحميدة ولا بد من لوازمها ولوازم لوازمها ولهذا ملأ حمده سماواته وأرضه وما بينهما وما شاء من شيء بعد مما خلقه ويخلقه بعد هذا الخلق فحمده ملأ ذلك كله وحمده تعالى أنواع حمد على ربوبيته وحمد على تفرده بها وحمد على ألوهيته وتفرده وحمد على نعمته وحمد على منته وحمد على حكمته وحمد على عدله في خلقه وحمد على غناه عن إيجاد الولد والشريك والولي من الذل وحمده على كماله الذي لا يليق بغيره فهو محمود على كل حال وفي كل آن ونفس وعلى كل ما فعل وكل ما شرع وعلى كل ما هو متصف به وعلى كل ما هو منزه عنه وعلى كل ما في الوجود من خير وشر ولذة وألم وعافية وبلاء فكما أن الملك كله له والقدرة كلها له والعزة كلها له والعلم كله له والجمال كله له والحمد كله له كما في الدعاء المأثور "اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله واليك يرجع الأمر كله وأنت أهل لأن تحمد" وما عمرت الدنيا إلا بحمده ولا الجنة إلا بحمده ولا النار إلا بحمده حتى أن أهلها ليحمدونه كما قال الحسن: "لقد دخل أهل النار النار وإن قلوبهم لتحمده ما وجدوا عليه من حجة ولا سبيل".

فصل: فإن قيل فأي لذة وأي خير ينشأ من العذاب الشديد الدائم الذي لا ينقطع ولا يفتر عن أهله بل أهله فيه أبد الآباد كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم طرفة عين قيل لعمر الله هذا سؤال يقلقل الجبال فضلا عن قلوب الرجال وعن هذا السؤال أنكر من أنكر حكمة العزيز الحكيم ورد الأمر إلى مشيئة محضة لا سبب لها ولا غاية وجوز على الله أن يعذب أهل طاعته وأولياءه وينزلهم إلى أسفل الجحيم وينعم أعداءه المشركين به ويرفعهم إلى أعلى جنات النعيم أبد الآباد وأن يدخل النار من شاء بغير سبب ولا عمل أصلا وأن يفاوت بين أهلها مع مساويهم في الأعمال ويسوي بينهم في العذاب مع تفاوتهم في الأعمال وأن يعذب الرجل بذنب غيره وأن يبطل حسناته كلها فلا يثيبه بها أو يثيب بها غيره وكل ذلك جائز عليه لا يعلم أنه لا يفعله إلا بخبر صادق إذ نسبه ذلك وضده إليه على حد سواء وقالوا ولا مخلص عن هذا السؤال إلا بهذا الأصل وربما تمسكوا بظاهر من القول لم يضعوه على مواضعه ولم يجمعوا بينه وبين أدلة العدل والحكمة وتعليق الأمور بأسبابها وترتيبها عليها وآثار الموازنة والمقابلة وأخطأوا في فهم القرآن كما أخطأوا في وصف الرب بما لا يليق به وفي التجويز عليه ما لا يجوز عليه وقابلهم مثبتو الأسباب والحكم من القدرية وزعموا أنهم يتخلصون من قبيح القول بما أثبتوه من الحكمة والتعليل ولكن وقعوا في نظيره أو ما هو شر منه حيث أوجبوا على الله سبحانه تخليد من أفنى عمره في طاعته ثم ارتكب كبيرة واحدة ومات مصرا عليها في النار مع أعدائه الكفار أبد الآباد ولم يرقبوا له طاعة ولم يرعوا له إسلاما وهم في هذا المذهب شر قولا من إخوانهم الجبرية فإن أولئك لم يوجبوا على الله ذلك الحكم وإنما جوزوه عليه وجوزوا أن لا يفعله وهؤلاء أوجبوا عليه تخليد أهل الكبائر مع الكفار ولم يجوزوا عليه إخراجهم منها وأصابهم في غلطهم على القرآن والسنة وما يجوز على الرب وما لا يجوز عليه ما أصاب إخوانهم من الجبرية ولما ظن غيرهم من أهل النظر والبحث أن هذا هو الفساد الذي أخبرت به الرسل وعلموا أن هذا مناف للحكمة والرحمة والعدل والمصلحة قالوا أن ذلك

ص: 252

تخويف وتخييل لا حقيقة له يزع النفوس السبعية والبهيمية عن عدوانها وشهواتها فتقوم بذلك مصلحة الوجود وكان من أكبر أسباب إلحاد هؤلاء وكفرهم بالله واليوم الآخر نسبة أولئك مذاهبهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة إلى الرسل وإخبارهم أنهم دعوا إلى الإيمان بها كما أصابهم تعميم في باب مسألة حدوث العالم حيث أخبروهم أن الرسل أخبرت عن الله أنه لم يزل معطلا عن الفعل والفعل غير ممكن منه ثم انقلب من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي عند ابتدائه بلا تجدد سبب ولا أمر قام بالفاعل وقالوا من لم يعتقد هذا فليس بمؤمن ولا مصدق للرسل فهذا في المبدأ وذاك في المعاد ثم جاءت طائفة أخرى فطووا بساط الخلق والأمر جملة وقالوا كل هذا محال وتلبيس وما ثم وجودان بل الوجود كله واحد ليس هناك خالق ومخلوق ورب ومربوب وطاعة ومعصية وما الأمر إلا نسق واحد والتفريق من أحكام الوهم والخيال فالسماوات والأرض والدنيا والآخرة والأزل والأبد والحسن والقبيح كله شيء واحد وهو من عين واحدة ثم استدركوا فقالوا لا بل هو العين ونشأ الناس إلا من شاء الله بين هؤلاء الطوائف الأربع لا يعرفون سوى أقوالهم ومذاهبهم فعظمت البلية واشتدت المصيبة وصار أذكياء الناس زنادقة العالم وأدناهم إلى الخلاص أهل البلادة والبله والعقل والسمع عن هذه الفرق بمعزل ومنازلهم منهما أبعد منزل فنقول وبالله التوفيق والله المستعان وعليه التكلان، دل القرآن والسنة والفطرة وأدلة العقول أنه سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق ولم يخلق شيئا عبثا ولا سدى ولا باطلا وإنما أوجد العالم العلوي والسفلي ومن فيهما بالحق الذي هو وصفه واسمه وقوله وفعله وهو سبحانه الحق المبين فلا يصدر عنه إلا حق لا يقول إلا حقا ولا يفعل إلا حقا ولا يأمر إلا بالحق ولا يجازي إلا بحق فالباطل لا يضاف إليه بل الباطل ما لم يضف إليه كالحكم الباطل والدين الباطل الذي لم يأذن فيه ولم يشرعه على ألسنة رسله والمعبود الباطل الذي لا يستحق العبادة وليس أهلا لها فعبادته باطلة ودعوته باطلة والقول الباطل هو الكذب والزور والمحال من القول الذي لا يتعلق بحق موجود بل متعلقه باطل لا حقيقة له وهو سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته ومعرفته وأصل عبادته محبته على آلائه ونعمه وعلى كماله وجلاله وذلك أمر فطري ابتدأ الله عليه خلقه وهي فطرته التي فطر الناس عليها كما فطرهم على الإقرار به كما قالت الرسل لأممهم:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالخلق مفطورون على معرفته وتوحيده فلو خلوا وهذه الفطرة لنشأوا على معرفته وعبادته وحده وهذه الفطرة أمر خلقي خلقوا عليه ولا تبديل لخلقه فمضى الناس على هذه الفطرة قرونا عديدة ثم عرض لها موجب فسادها وخروجها عن الصحة والاستقامة بمنزلة ما يعرض للبدن الصحيح والطبيعة الصحيحة مما يوجب خروجهما عن الصحة إلى الانحراف فأرسل رسله ترد الناس إلى فطرتهم الأولى التي فطروا عليها فانقسم الناس معهم ثلاثة أقسام، منهم من استجاب لهم كل الاستجابة وانقاد إليهم كل الانقياد فرجعت فطرته إلى ما كانت عليه مع ما حصل لها من الكمال والتمام في قوتي العلم النافع والعمل الصالح فازدادت فطرتهم كمالا إلى كمالها فهؤلاء لا يحتاجون في المعاد إلى تهذيب وتأديب ونار تذيب فضلاتهم الخبيثة وتطهرهم من الأردن والأوساخ فإن انقيادهم للرسل أزال عنهم ذلك كله، وقسم استجابوا لهم من وجه دون وجه فبقيت عليهم بقية من الأدران والأوساخ التي تنافي الحق الذي خلقوا له فهيأ لهم العليم الحكيم من الأدوية الابتلاء والامتحان بحسب تلك الأدواء

ص: 253

التي قامت بهم فإن وفت بالخلاص منها في هذه الدار وإلا ففي البرزخ فإن وفي بالخلاص وإلا ففي موقف القيامة وأهوالها ما يخلصهم من تلك البقية فإن وفي بها وإلا فلا بد من المداواة بالدواء الأعظم وآخر الطب الكي فيدخلون كير التمحيص والتخليص حتى إذا هذبوا ولم يبق للدواء فائدة أخرجوا من مارستان المرضى إلى دار أهل العافية كما دل على ذلك السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصرح به في قوله: "حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة" وكذلك قوله تعالى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فلم يأذن لهم في دخولها إلا بعد طيبهم فإنها دار الطيبين فليس فيها شيء من الخبث أصلا ولهذا يلبث هؤلاء في النار على قدر حاجتهم إلى التطهر وزوال الخبث، القسم الثالث قوم لم يستجيبوا للرسل ولا انقادوا لهم بل استمروا على الخروج عن الفطرة ولم يرجعوا إليها واستحكم فسادها فيهم أتم استحكام لا يرجى لهم صلاح فهؤلاء لا يفي مجيء الدنيا ومصائب الموت وما بعده وأهوال القيامة بزوال أوساخهم وأدرانهم ولا يليق بحكمة العليم الحكيم أن يجاور بهم الطيبين في دارهم ولم يخلقوا للفناء فهؤلاء أهل دار الابتلاء والامتحان باقون فيها ببقاء ما معهم من درن الكفر والشرك والنار إنما أوقدت عليهم بأعمالهم الخبيثة فعذابهم بنفس أعمالهم السيئة لهم منها صور من العذاب يناسبها ويشاكلها فالعذاب باق عليهم ما بقيت حقائق تلك الأعمال وما تولد منها فما دامت موجبات العذاب باقية فالعذاب باق، يبقى أن يقال فهل ذهب أثر الفطرة الأولى بالكلية بحيث صارت كأن لم تكن وبطلت بالكلية وانتقل الأمر إلى العارض المفسد لها وعلى هذا فلا سبيل إلى خلاصهم من العذاب إذ هو أثر ذلك الفساد الذي أزال الفطرة أو يقال الفطرة لم تذهب بالكلية وإنما استحكم مرضها وفسادها وأصلها باق كما يستحكم مرض البدن وفساده والحياة قائمة به لكنها حياة لا تنفع فإذا قدر دواء كريه صعب التناول لا سبيل إلى الصحة إلا بتكرير تناوله مرارا كثيرة العدد جدا يزيل ذلك المرض العارض فيظهر أثر الفطرة الأولى فلا يحتاج بعده إلى الدواء هذا سر المسألة ومن يذهب إلى هذا التقدير الثاني فإنه يقول العقل لا يدل على امتناع ذلك إذ ليس فيه ما يحيله ونقول بل قد دل العقل والنقل والفطرة على أن الرب تعالى حكيم رحيم والحكمة والرحمة تأبى بقاء هذه النفوس في العذاب سرمدا أبد الآباد بحيث يدوم عذابها بدوام الله فهذا ليس من الحكمة والرحمة قالوا وقد دلت الدلائل الكثيرة من النصوص والاعتبار على أن ما شرعه الله في هذه الدار وقدره من العذاب والعقوبات فإنما هو لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ وفطما للنفوس عن المعاودة وغير ذلك من الحكم التي إذا حصلت خلا التعذيب عن الحكمة والمصلحة فيبطل فإنه تعذيب عليم حكيم رحيم لا يعذب سدى ولا لنفع يعود إليه بالتعذيب بل كلا الأمرين محال وإذا لا يقع التعذيب إلا لمصلحة المعذب أو مصلحة غيره ومعلوم أنه لا مصلحة له ولا لغيره في بقائه في العذاب سرمدا أبد الآباد قالوا فمما دل عليه القرآن والسنة أن جنس الآلام لمصلحة بني آدم قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وقوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} فأخبر أن ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص أي تطهير وتصفية للمؤمنين وبشر الصابرين على ألم الجوع والخوف والفقر وفقد الأحباب وغيرهم بصلاته عليهم ورحمته وهدايته وقال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}

ص: 254

قال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وإننا لم نعمل سوأ فقال: يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن أليس يصبك الأذى قال: بلى قال: فذلك مما تجزون به" وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وفي هذا تبشير وتحذير إذ أعلمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا وهو أرحم أن يثني العقوبة على عبده بذنب قد عاقبه به في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: "من بلي بشيء من هذه القاذورات فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ومن عوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده" وفي الحديث: "الحدود كفارات لأهلها" وفي الصحيحين من حديث عبادة: "ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" وقال: "لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة" وفي حديث آخر: "إن المؤمن إذا مرض خرج مثل البردة في صفائها ولونها" وفي الحديث الآخر: "إن الحمى تنفي الذنوب كما ينفي الكير الخبيث الحديد" وفي حديث آخر: "لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم" ومن أسماء الحمى مكفرة الذنوب وفي الحديث الصحيح: "يقول الله عز وجل يوم القيامة عبدي مرضت فلم تعدني قال كيف أعودك وأنت رب العالمين قال مرض عبدي فلان فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده" وهذا أبلغ من قوله في الإطعام والإسقاء لوجدت ذلك عندي فهو سبحانه عند المبتلى بالمرض رحمة منه له وخيرا وقربا منه لكسر قلبه بالمرض فإنه عند المنكسرة قلوبهم وهذا أكبر من أن يذكر ورب الدنيا والآخرة واحد وحكمته ورحمته موجودة في الدنيا والآخرة بل ظهور رحمته في الآخرة أعظم فعذاب المؤمنين بالنار في الآخرة هو من هذا الباب كعذابهم في الدنيا بالمصائب والحدود وكذلك حبسهم بين الجنة والنار حتى يهذبوا وينقوا وقد علم بالنصوص الصحيحة الصريحة أن عذابهم في النار متفاوت قدرا ووقتا بحسب ذنوبهم وأنهم لا يخرجون منها جملة واحدة بل شيئا بعد شيء حتى يبقى رجل هو آخرهم خروجا وكذلك عذاب الكفار فيها متفاوت تفاوتا عظيما فالمنافقون في دركها الأسفل وأبو طالب أخف أهلها عذابا في ضحضاح من بئر يغلي منه دماغه وآل فرعون في أشد العذاب قالوا فإذا كان العذاب في الدار التي فيها رحمة واحدة من مائة رحمة هو رحمة بأهله ومصلحة لهم ولطف بهم فكيف في الدار التي يظهر فيها مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض وقد قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فأخبر أنه يعذبهم رحمة بهم ليردهم العذاب إليه كما يعذب الأب الشفيق ولده إذا فر منه إلى عدوه ليرجع إلى بره وكرامته وقال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} وأنت تجد تحت هذه الكلمات أن تعذيبه لكم لا يزيد في ملكه ولا ينتفع به ولا هو سدى خال من حكمة ومصلحة وأنكم إذا بدلتم الشكر والإيمان بالكفر كان عذابكم منكم وكان كفركم هو الذي عذبتم به وإلا فأي شيء يلحقه من عذابكم وأي نفع يصل إليه منه قالوا وحينئذ فالحكمة تقتضي أن النفوس الشريرة لا بد لها من عذاب يهذبها بحسب وقوعها كما دل على ذلك السمع والعقل وذلك يوجب الانتهاء لا الدوام قالوا والله تعالى لم يخلق الإنسان عبثا وإنما خلقه ليرحمه لا ليعذبه وإنما اكتسب موجب العذاب بعد خلقه له فرحمته له سبقت غضبه وموجب الرحمة فيما سابق على موجب الغضب وغالب له وتعذيبه ليس

ص: 255