الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترجمة المؤلف
(1)
* هو الإمام يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي المقدشي الأصل، الدمشقي المولد، الحنبلي المذهب، المعروف بـ:"ابن عبد الهادي"، والملقب بـ:"ابن المِبْرَد".
* ولد سنة (841 هـ) في أول يوم منها، وقد نشأ في بيئة علمية معروفة، فتفقه على أبيه وجده، وسمع عليهما الحديث.
وكان ملازماً للعلماء والصالحين؛ فحفظ "المقنع" لابن قدامة
(1) انظر ترجمته في:
* "السحب الوابلة" لابن حميد (3/ 1166).
* "النعت الأكمل" للغزي (ص: 68).
* "شذرات الذهب" لابن العماد (8/ 43).
* "مختصر طبقات الحنابلة" للشطي (ص: 74).
* "فهرس الفهارس" للكتاني (2/ 1141).
* "مقدمة ثمار المقاصد" للدكتور أسعد طلس.
* "الإمام يوسف بن عبد الهادي الحنبلي وأثره في الفقه الإسلامي" للدكتور محمد عثمان شبير.
* "الإمام يوسف بن عبد الهادي وآثاره الفقهية" للدكتور صفوت عبد الهادي.
على عدد من العلماء، وقرأ على مشايخ أكثر "صحيح البخاري"، و"مسند الحميدي"، و"الدارمي"، وغيرها.
* "فمن مشايخه الذين قرأ وحفظ عليهم: الشيخ علاء الدين المرداوي صاحب "الإنصاف"، وتقي الدين ابن قندس صاحب الحاشية المشهورة على "الفروع"، وزين الدين أبو الفرج ابن الحبال، وغيرهم.
* وقد تخرج على يديه جماعات من التلامذة؛ الذي صاروا فيما بعد أعلاماً كباراً؛ كـ: ابن طولون، وعبد القادر النعيمي، وغيرهما.
* أثنى عليه جماعة من أهل العلم، ووصفوه بالإمامة والحفظ والإتقان:
قال فيه تلميذه ابن طولون: "هو الشيخ الإمام، علم الأعلام، المحدث الرحالة، العلامة الفهامة، العالم العامل، المتقن الفاضل".
وقال فيه ابن العماد: "كان إماماً علامة، يغلب عليه علم الحديث والفقه، ويشارك في النحو والتصريف والتفسير، وله مؤلفات كثيرة".
وقال الشطي: "أجمعت الأمة على تقدمه وإمامته، وأطبقت الأئمة على فضله وجلالته".
* ترك الإمام ابن عبد الهادي كتباً كثيرة بلغت أسماؤها مجلداً، كما قال ابن طولون، ومن أهم تلك الكتب:
1 -
"جمع الجوامع في الفقه على مذهب الإمام أحمد" في ثلاثة وسبعين مجلداً، غالبه مفقود.
2 -
"الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي".
3 -
"مغني ذوي الأفهام" في الفقه.
4 -
"هداية الإنسان إلى الإستغناء بالقرآن".
5 -
"إرشاد المسالك إلى مناقب مالك".
6 -
"الدر النفيس في أصحاب محمد بن إدريس".
7 -
"محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب".
8 -
"زيد العلوم وصاحب المنطوق والمفهوم".
9 -
"معارف الإنعام وفضل الشهور والأيام".
10 -
"زينة العرائس من الطرف والنفائس".
* توفي رحمه الله بصالحية دمشق، سادس عشر المحرم، من سنة تسع وتسع مئة، وصلي عليه بجامع الحنابلة، ودفن بسفح جبل قاسيون رحمه الله، ورضي عنه.
صُوَر المَخْطُوْطَاتْ
صورة غلاف النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية
صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية
صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية
«صب الخمول على من وصل أذاه إلى الصالحين من أولياء الله»
تأليف
الإمام يوسف بن حسن بن عبد الهادي المقدسي الدمشقي الحنبلي
المولود سنة 841 هـ - والمتوفى سنة 909 هـ
رحمه الله تعالى
بعناية
لجنة مختصة من المحققين
بإشراف
نور الدين طالب
بسم الله الرحمن الرحيم
وَهُوَ حَسْبِي
الحمدُ لله المنتصرِ لأوليائه، المنتقمِ ممَّنْ عاداهم بأنواعِ بلائهِ.
أحمدُه على جزيلِ عطائهِ، وأشكرُه على كثيرِ نَعمائِهِ.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ، شهادة تجعلُنا من أحبابِه وأصفيائِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صَلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحابِه وأزواجِه وأبنائِه، وسَلَّمَ تسليماً.
أمّا بعد:
فإنَّ الله عز وجل اختار صفوةً من خلقه، فأحبَّهم وأحبُّوه، ورضيَهم لنفسه فعبدُوه وأطاعوه، فإنْ سألوه أعطاهم، كان توجَّهوا إليه مَنَّاهم، وإن أشرفوا على رياضِ قدسِه حَيَّاهم، فهم هم، وليس غيرُهم إياهم.
* - مدحَهم في كتابه، وجعلَهم من خواصِّه وأحبابه، فإذا تأملْتَ غالبَ القرآن، وجنتَه في مدحِهم ووصفِهم، وذمِّ أعدائِهم وحزبِهم، فمَنْ والاهم والاه، ومن عاداهم عاداه، فإبليسُ حين أبغضهم قلبُه، أقصاه ربُّه، وذمَّه هو وحزبُه.
فتأمَّلْ إلى الفريقين، وما ذكره الله فيهما من مدح وذمٍّ، وموالاةٍ ومعاداةٍ، قال الله عز وجل:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} يذلهم ويهينهم، {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} وإن كثرت، {وَلَا أَوْلَادُهُمْ} وإن قويت {مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} لمَّا أطاعوه واتبعوه {فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ} ، فلم يكن لهم في الله نصيب، ولا له فيهم حبيب، {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} في الدنيا والآخرة {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} جعل الله لهم الذلة في الدنيا والآخرة، {كَتَبَ اللَّهُ} في كتابه قبل خلقه {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} لجميع من عادانا {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} على كل أحد من خلقه {عَزِيزٌ} [المجادلة 14: 21] لا يصل إليه أحد منهم بأذى.
ثم انتقل إلى وصف أوليائه، فقال:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ؛ أي: يحبونهم {وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}؛ لأن قلوبهم مع الله واقفة، لا يحبون إلا من أحبَّ، ويُبغضون من أبغض، فليست قلوبُهم مع إرادتهم وشهوتهم، {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} ، فلا يدخله غيرُ مراد الله، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} ، فلم يتمكن منهم عدو، {وَيُدْخِلُهُمْ} في الآخرة {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في جواره {خَالِدِينَ فِيهَا رضي الله عنهم} في الدارَيْن {وَرَضُوا عَنْهُ} فيهما، فهم مطبوعون على الرضا بقدر الله، ليس لهم شهوةٌ غيرُ ما قضى لهم وَقدَّرَ {أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
فدونك الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ فإن هذه الآيات قد احتوت على الفريقين، فَزِنْ نفسَك بهذا الميزان، واعتبرها بهذا الاعتبار، فإن رأيتها من حزب الله وأوليائه، تؤمن بالله ورسوله صادقة، وتقرب مراده على مرادها، ولا توادُّ مَنْ حاربه وعصاه، ولو كان والداً أو ولداً أو أخاً، ولا تحبّ إلا لَهُ، ولا تبغض إلا له، فأنت من حزبه.
وعلامةُ حبه كثرةُ ذكره.
وإن وجدتها قد نسيت ذكرَ الله وأهملته، ووالت من لا يحب الله ورسولَه، وقدمت مالك وولدك وزوجتك وإخوتك وعشيرتك، ومرضاتهم على مرضاة ربك، فإياك إياك.
وقال عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]
* فتأمل القرآنَ جميعَه، تجن فيه الفرقَ بين حزبِ الله، وحزب الشيطان، وتجدِ العاقبةَ لحزب الله.
تأمل حالَ نوحِ وقومه، وحالَ إبراهيمَ وضعفِه، والنمرودِ وقوته، وكانت العاقبةُ له، وكيف ترك أباه وقومَه لرضا الله، حتى إنه عزم على ذبح ولده لله، وإنما ابتلاه الله بذلك حين سكن قلبُه لأدنى شيء من محبته، فأراد الله أن يخرج محبته من قلبه.
وانظر إلى موسى وفرعونَ، وانظر حال محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف أخرجه وحده، وكان [لو أراد] قهر به جميع ملوك الدنيا.
قال الله عز وجل: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].
* فليس عليهم خوفٌ، لا في الدنيا؛ لأن الله معهم، وناصرُهم، ولا هم يحزنون، لا في الدنيا على ما فاتهم، ولا في الآخرة؛ لأنه ليس ثَمَ فيها حزن.
أخبرنا الجماعة، وأنا ابن الزَّغبوبِ: أنا الحَجَّارُ: أنا ابن الزَّبيديِّ: أنا السِّجْزِيُّ: أنا الداوديُّ: أنا السَّرَخْسِيُّ، أنا الفِرَبْرِيُّ: أنا البخاريُّ: ثنا خالدُبن مخلدٍ: ثنا سليمانُ بن بلالٍ: حدثني شريكُ بن عبد الله بن أبي نمرٍ، عن عطاءِ بن يسارٍ، عن أبي هريرةَ، قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله عز وجل قالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِياً فَقَن آذَنْتُهُ بِالحَربِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبْتُهُ، كُنْتُ
سَمْعَهُ الَّذِيِ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيِ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَفشِي بِهَا، فَإِنْ سَأَلنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّنتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" (1).
ومن هذه الحيثية -حيثُ دخلَ من القوة الربانية الناشئة عن الله عز وجل، المستمدة عظمة قدرة الله - قَدَّمَ سلطانُ أولياءِ الله أكثرَ من غيره؛ بكونه صار الرأسَ للكثير، وتحقَّقَ ذلك، قال -تعظيماً للسر الإلهي-: قَدَمي هذه على رقبة كلِّ وَلِيٍّ لله (2).
ولما أُلقي إبراهيمُ في النار، طفأها نورُ الإيمان، وما سكن جسدُه منه، ولهذا وردَ في بعض الآثار: أن النارَ قالت: يا ربِّ! لو عصيتكم، بم كنت تعذبني؟
(1) رواه البخاري (6137).
(2)
قال الحافظ ابن حجر في "الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع"(ص: 99) في قول الإمام عبد القادر الجيلاني المنقول عنه ما معناه: "منزلة الشيخ -تغمده الله تعالى برحمته- في العلم والعمل والمعرفة في أعلى الدرجات، وأما المقالة التي نقلت عنه، فإن ثبت أنه قالها فليست على إطلاقها، بل هي مقيدة بأهل عصره، والمراد بالقدم: الطريقة، ولا شك أن طريقته بالنسبة لمن كان في عصره أمثل الطرق، ولأنه كان متحققاً بالعلم والعمل، متصفاً باتباع طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين في الإعتقاد، ومن نقل عنه خلاف ذلك لم يقبل منه.
ونقل ابن العماد في "شذرات الذهب"(4/ 200) عن الحافظ ابن رجب أنه قال: أحسن ما قيل في هذا الكلام ما ذكره السُّهْرَوردي في "عوارفه": أنه من شطحات الشيوخ التي لا يقتدى بهم فيها، ولا تقدح في مقاماتهم، ومنازلهم، فكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم.
قال: بناري الكبرى.
قالت: يا رب! ولك نارٌ أكبر مني؟
قال: نعم، نار محبتي، أُسْكِنُها قلوبَ عبادي المؤمنين.
ولهذا ورد: أن النار تقول للمؤمنين يوم القيامة: يا مؤمن! جُزْ، فقد أطفأ نورُكَ لَهِبي (1).
فنورُ الإيمان يطفئُ نارَ الشياطين، قال الله عز وجل:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100].
وقال عز وجل عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
ولما أُلقي إبراهيمُ في النار، قال: حَسْبِيَ الله ونعمَ الوكيلُ، فطفئت؛ لأنها خلق الله، لا تفعل شيئاً إلا بأمره.
قال الله عز وجل: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 69، 70].
وهذه الكلمةُ قالها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما خُوِّف بالناس؛ كما قال الله- عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174].
ولما ضرب موسى البحر بالعصا، وكان بها السرُّ الإلهي، انفرق
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 258) عن يعلى بن منية رضي الله عنه.
البحرُ له، ولم يلتئف بعضُه على بعض، فلما دخلَه فرعونُ بالقوة الشيطانية، لم يمسكه، فالتأم عليه، فقتله.
تجبَّرَ النمرودُ، وتكبر على إبراهيم، وأراد قتلَه بكبير قدرته الضعيفة، فعجز، وقتله الله بأصغر مخلوقاته وأضعفِها.
وفرعونُ افتخر بنهر ما أجراه، مما أجراه، فقتله الله به.
خالدُ بن سنان بالقوةِ الإلهية جعل يضرب النارَ الشيطانيةَ بيده، ويقول: يداً يداً كل حق لله مُؤَدّى، أنا عند الله الأعلى.
فطفت يدُ الإيمان ونورُه نارَ الشيطان.
العلاءُ بن الحضرميِّ، وسعدُ بن أبي وَقَّاصٍ حين مَشَيا بالجيوش والعساكر على البحر بالقوة الإيمانية، لم يغرق [
…
]
كسرى تكبر بعساكره، وتجبر ومَزَّق كتابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فمزقه الله كُلَّ مُمَزَّق، حتى آخرَ الأمر طلبَ المصالحةَ على أن تؤخذ غالبُ بلاده.
و [.....] عنه حتى قال: أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم؟! فأجابه: [......] الإيمان، بلغة الأعاجم، [......] لا يكون بيننا وبينكم صلح أبداً حتى نأكل أترج وكوثى بعسل وفريذين.
فقال: واويلاه! إن الملائكة لتتكلم على ألسنتهم، ثم لم يزل يهرب إلى أن اختفى قعر أرض، فقتل هنالك.
خالدُ بن الوليدِ حين أصاب سيفَه طرفٌ من الأنوار الإلهية، قيل له: سيفُ الله، فما سلَّه على أحد إلا عليه نور الإيمان.
عمرُ كان الشيطانُ يهربُ منه (1)، ويَفْرَق منه، فما لقيَه في طريق، إلا وسلك غيرَهُ.
لمَّا ضرب الزبيرُ بن العوامِ شجاعاً فارساً، تلبس اللبوسَ المنيعةَ والحديد، وعيره [....] بلبسه، ثم بفرس ولبسه، ثم خدت الأرض، فقيل له: ما أحدَّ سيفَكَ! فغضبَ، يشير: إن العمل ليده لا لسيفه، فكان ذلك بقوة الإيمان.
افتخر بعضُ ملوك الروم بعِلْجِ عنده ما ضرب شيئاً بيده إلا وقتلَه، فبرز له بعضُ غلمانِ المسلمين، فثبت له، فضربه، فلم يقتله، ثم ضربه المسلمُ بيده الصغيرة الحقيرة، فقتله.
أخبرنا جماعةٌ ومن شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا الصيدلانيُّ: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا أبو نعيمٍ: ثنا أبو إسحاقَ بن إبراهيم بن محمدِ بن حمزةَ: ثنا أبو عبيدةَ محمدُ بن أحمدَ بن المؤمِّل، قال أبو نعيمٍ: وثنا إبراهيمُ بن عبد الله بن إسحاقَ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ السراجُ، قالا: ثنا محمدُ بن عثمانَ بن كرامةَ: ثنا خالدُ بن مخلدٍ، عن سليمانَ بن بلالٍ، عن شريكِ بن عبد الله بن أبي نمرٍ، عن عطاءٍ، عن أبي هريرةَ، قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله عز وجل قَالَ: مَنْ آذَى لِي وَلِيّاً، فَقَد آذَنْتُهُ بِالحَربِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَاءِ ما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يتقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَكُنْتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ
(1) في الأصل: "منها".
بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَلَئِنْ سَأَلنِي عَبْدِي، أعطَيْتُهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي، أَعَذْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَكْرَهُ أَنَا إِسَاءَتَهُ، أَوْ مَسَاءَتَهُ" (1).
وهكذا رأيتُه في "صحيح البخاري" في نسخة مغربية قديمة، وليس فيها:"فإذا أَحببتُه"(2).
* فإياكَ إياكَ أن تنالَ أحداً من أولياء الله بسوء، فيعاديَك، فَيُؤْذِنَكَ بالمحاربة، فتقعَ معه فيما لا قدرةَ لك على دفعه عن نفسك بالجنود.
الحذارَ الحذارَ، التوقِّي التوقِّي، لا تهلكْ نفسَك، لا يغرَّكَ الشيطانُ بالقوة الشيطانية، ولا تغترَّ بجنودِك وأعوانِك، وعساكرِك وإخوانِك.
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 249].
كَم من جَبَّارٍ تجبر، فبنى الحصونَ والدساكر، وجمعَ الجنودَ والعساكر، فما دفعت عنه الحصونُ التي بنى، وجف بها أنهاره والعساكر.
يا مجنون! أفق لنفسك، واعرف من أنت.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 4).
(2)
رواه البخاري (6137) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:"فإذا أحببته".
أخبرنا القاضي أبو حفص: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا القاضي أبو أحمدَ محمدُ بن أحمدَ: ثنا الحسنُ بن عليٍّ: قرئ على أبي موسى محمدِ بن المثنى، قال: وثنا محمدُ بن الحسينِ بن سلمةَ بن أبي كبشةَ: أن أبا عامرٍ العقديَّ حدثهما: ثنا عبد الواحدِ بن ميمونٍ، عن عروةَ، عن عائشةَ، قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يروي عن ربِّه عز وجل، قال:"مَنْ آذَى لِي وَلِيّاً، فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي"(1).
فيا من استحلَّ محاربةَ ربِّه وخالقِه، ومن يقدرُ على هلاكه بقوله: مُتْ، فيموت، وذُبْ، فيذوب، وليسَ يقدرُ هو معه على شيء بالكلية!
ما أقلَّ عقلَكَ، وما أتعسَكَ! تأمَّلْ حالك، فينه كيف أرادَ أحالَكَ، ولا تُدخل نفسَك في محاربةِ ربِّك بأن تضرَّ أحداً من أوليائه، أو تعادِيَه، أو تقعَ فيه في وجه من وجوه الأذى، حتى ولا بكلمة، فيكونَ ذلك سبَب هلاكِك وتعسِك في الدنيا والآخرة، فكف من واحدٍ أخمل نفسه بمثل ذلك!
أخبرنا جدِّي وغيرُه: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا أبو جعفرٍ، أنا أبو أبو عليّ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا سليمانُ بن أحمدَ: ثنا يحيى بن أيوبَ: ثنا سعيدُ بن أبي مريمَ: ثنا
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 5).
نافعُ بن يزيدَ: حدثني عياشُ بن عياشٍ، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن زيدِ بن أسلمَ، عن أبيه، قال: وجد عمرُ بن الخطابِ معاذَ بن جبلٍ قاعداً عندَ القبرِ يبكي، فقال له عموُ: ما يبكيك؟ قال: يبكيني شيء سمعتُه من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى أَوْلِيَاءِ الله، فَقَن بَارَزَ الله بِالمُحَارَبَةِ"(1).
فإياكَ أن تبارزَه بالمحاربة، فتقعَ فيما لا قدرع لك ولا لأحدٍ على دفعه، ولهذا قال الحافظُ أبو نعيم: كيف تستجيزُ نقيصةَ أولياءِ الله، ومؤذيهم يُؤْذِنُ بمحاربةِ الله؟! (2).
فهذا المقام صانَ هذا الحافظَ من الخمولِ دَهْرَهُ، وأَعلى في الدارين قَدْرَهُ، ونشر في الخلق ذِكْرَهُ.
ووقوعُ الخطيب في كثيرٍ من الأخيارِ والفحول أوجبَ له الخمول، نعوذ بالله من ذلك (3).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 5).
(2)
انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 4).
(3)
بل الخطيب البغدادي رحمه الله قد طار ذكره في الآفاق، ولا شبهة عند كل لبيب أن المتأخرين من أصحاب الحديث عيال على أبي بكر الخطيب- كما قال ابن نقطة-. وقد أثنى عليه جمع غفير من كبار العلماء؛ كالسمعاني، وابن ماكولا، وابن خلكان، وابن الأثير، والذهبي، وغيرهم. وما أحلى قول السبكي فيه كما في "طبقات الشافعية الكبرى"-:" فما طاف سورُها -يعني بغداد- على نظيره، يروي عن أفصح من نطق بالضاد، ولا أحاطت جوانبها بمثله، كان طفح ماء دجلتها وروّى كل صاد".
أما ما انتقده عليه بعض العلماء من الوقوع في بعض الأئمة، فقد ذكر الخطيب =
فكُفَّ يَدك ولسانك وقلبك وجميعَ جوارحك عن أولياء الله، وإياكَ أن تُهلك نفسك في الدارين، وتُخرقها بالنارين، فتوجبَ لها العارَيْن، فليس بعد ذلك [
…
] وليس معه قرةُ عين، هذا لعمرُكَ الصَّغَارُ بعينِه.
فمَنْ عاداهم هلَكَ، وانعطِفْ حيثما سلك، ولو جلسَ في قُبَّهِ الفلك.
ومَنْ والاهم سَلِم، ومن قَرُبَ منهم علم، و [من] جالَسَهم غَنِم.
* فيا سعادةَ مَنْ خدمَهم، ومن جالسهم لأنهم القومُ لا يشقى بهم جليسُهم.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: ثنا عائشةُ بنتُ عبد الهادي: إنا الحَجَّارُ: أنا ابن الزَّبيديّ، أنا السّجْزِيُّ: أنا الداوديُّ: أنا السَّرَخْسِيُّ: أنا الفِرَبْرِيُّ: أنا البخاريُّ: ثنا قتيبةُ بن سعيدٍ: ثنا جريرٌ، عن الأعمشِ، عن أبي صالح، عن أبي هريرةَ، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لله-عز وجل مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْماً يَذْكُرُونَ الله عز وجل تنَادَوْا: هلُمُّوا إِلًى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ
= نفسه في "موضح أوهام الجمع والتفريق"(1/ 12) تعليل ذلك، فقال: ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه ويقف على ما لكتابنا هذا ضمَّناه، يلحق سيء الظن بنا، ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا، وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك، وبهم ذكرنا، وبشعاع ضيائهم تبصرنا، وباقتفائنا واضح رسومهم تميَّزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمَجِ تحيزنا، وما مثلهم ومثلنا إلا كما ذكر أبو عمرو بن العلاء: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال.
رَبُّهُمْ عز وجل وَهُوَ أَعلَمُ مِنْهُم: ما يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبّحُونَكَ، وَيُكَبّرُونَكَ، وَيَحمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هلْ رَأَوْني؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لا وَالله ما رَأَوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْني؟! قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ، كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَحمِيداً، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحاً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونَ؟ قَالَ: يَسْألونَكَ الجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ: وَهلْ رَأَوْها؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لا والله يا رَبِّ ما رَأَوْها، قَالَ: فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ أَنّهُم رَأَوْهَا؟! قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُم رَأَوْها، كَانُوا عَلَيْها أَشَدَّ حِرْصاً، وَأَشَدَّ لَها طَلَباً، وَأَعظَمَ فِيها
رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يمعَوَّذونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَيَقُولُ الله عز وجل: وَهلْ رَأَوْها؛ قَالَ: يَقُولُونَ: لا وَالله يا رَبِّ ما رَأَوها، قَالَ: فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوها؟! قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْها، كَانُوا أَشَدَّ مِنْها فِرَاراً، وَأَشَدَّ لَها مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: اشْهدُوا أنَي قَدْ غَفرتُ لَهُم، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فِيهِم فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِم جَلِيسُهُم" (1).
أخبرنا أبو حفص المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبي: ثنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المُذْهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن أحمدَ: حدثني أبي: ثنا أسودُ بن عامر: ثنا جريرٌ، عن الحسنِ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: "إِذَا جَلَسَ القَوْمُ يَذْكُرُونَ الله عز وجل،
(1) رواه البخاري (6045).
قَالَ الله لِمَلائِكَتِهِ: إِنِّي قَدْ غَفَرتُ لَهم، فَجَلِّلُوهُم بِالرَّحْمَةِ، قَالَتِ المَلائِكَةُ: يا رَبَّنَا! إِنَّ فِيِهمْ فُلاناً، قَالَ: هُمُ القَوْمُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ" (1).
فَيَا مَنْ حَصَلَتْ لَهُ السَّعَادَةُ بِمُجَالَسَتِهِم! إِيَّاكَ أَنْ تَضُرَّ نَفْسَكَ بِعَدَاوَتهِمْ وَبُغْضِهِمْ، فَاغْتَنِمْ أَنْفَاسَهُمْ وَنُفُوسَهُمْ، فَهُمُ القَوْمُ لا يَشْقَى بِهمْ جَلِيسُهم، طُرُقُهُمْ مُسْتَقِيمَةٌ، وَمُصَاحَبَتُهم سليمةٌ، ونفوسُهم رحيمةٌ، فالربحُ لمن خدمهم، ومَنْ ليسَ منهم، فهم القومُ لا يشقَى بهم جليسُهم، لهم أحوالٌ ظاهرة، ونفوسٌ طاهرة، وقلوبٌ عامرة، وليس لهم رغبةٌ في الدنيا، وإنما رغبتُهم في الآخرة، فهم مغبطون في الدارين، بمنازلهم الظاهرة.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: ثنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبونعيبم: ثنا محمدُ بن جعفرٍ: ثنا جعفرُ بن محمدٍ: ثنا مالكُ بن إسماعيلَ، وعاصمُ بن عليٍّ، قالا: ثنا قيسُ بن الربيعِ: ثنا عمارةُ بن القعقاع، عن أبي زُرعةَ، عن عمرِو بن جريرٍ، عن عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه، قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ الله نَاساً ما هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ القِيَامَةِ لِمَكَانِهم مِنَ الله عز وجل". فقال رجل: مَنْ هم، وما أعمالهُم؛ لعلَّنا نحبُّهم؟ قال: "قَوْمٌ يَتَحَابونَ بِروحِ الله عز وجل مِنْ غَيْرِ أرحَامٍ بَيْنَهُم، وَلا أَموَالٍ يَتَعَاطَوْنها بَيْنَهمْ، وَالله! إِنَّ وُجُوههُم لَنُورٌ، وإِنَّهُمْ
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 358).
لَعَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ". ثم قرأ:({أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] (1).
فلا يخافون في الدنيا مع إيمانهم أن الله معهم، كما قال عليه السلام لأبي بكر وهما في الغار:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
وليس عليهم خوف في البرزخ مع إيمانهم؛ فإنَّ أنعمَ الناس أجساداً قومٌ سكنوا التراب، وأَمِنوا من العذاب.
وليس عليهم خوفٌ يوم القيامة، بل هم في المنازل الثلاثة آمنون.
وليس عليهم حزنٌ في الأحوال الثلاثة؛ لا في الدنيا، فإنهم قد رضوا بما قدَّر الله لهم، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة.
* من سعادتهم على مولاهم: أن جعل مَنْ أحبَّهم منهم، كما قال عليه السلام لمن سأله عن الرجل يحبُّ القومَ ولمْ يلحقْ بهم؛ يعني: في العمل، قال:"هُوُ مِنْهُمْ"، وفي رواية:"هُوَ مَعَهمْ"(2).
* ومن سعادتهم وكلرامتهم على مولاهم: أنهم يُذْكَرون بذكره، ويُذْكَر بذكرهم، كما أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أخبرتنا زينبُ بنتُ الكمال: أنا محمدُ بن أبي زيدٍ: أنا محمودٌ الصيرفيُّ: أنا ابن فاذشاه: أنا سليمانُ بن أحمدَ: ثنا أحمدُ بن عليٍّ الأبارُ: ثنا الهيثمُ بن خارجةَ: ثنا رشدينُ بن سعدٍ، عن عبد الله بن
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 5).
(2)
رواه البخاري (5817) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
الوليدِ، عن أبي منصورٍ مولى الأنصار: أنه سمَع عَمرَو بن الجَموحِ يقول: إنه سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "قَالَ الله عز وجل: إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْ عِبَادِي، وَأَحِبَّائِي مِنْ خَلْقِي الَّذِين يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي، وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ (1).
وأخبرنا جماعةُ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا أحمدُ بن يعقوبَ: ثنا الحسنُ بن علويه: ثنا إسماعيلُ بن عيسى: ثنا الهياجُ بن بسطام، عن مسعرِ بن كدامٍ، عن بُكيرِ بن الأخنسِ، عن سعدٍ، قال: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أولياءُ الله؟ قال: " الَّذِينَ إِذَا ذُكِرُوا (2) ذُكِرَ الله عز وجل"(3).
وبه إلى أبي نعيم: ثنا جعفرُ بن محمدِ بن عمرَ: ثنا أبو حصينٍ القاضي: ثنا يحيى بن عبد الحميدِ: ثنا داودُ العطارُ، عن عبد الله بن عثمانَ بن خُثيمٍ، عن شَهْرِ بن حَوْشَبٍ، عن أسماءَ بنتِ يزيدَ، قالتْ: قالَ رسولُ صلى الله عليه وسلم: "أَلا أُخْبِرُكُم بخِيَارِكُمْ؟ "، قالوا: بلى. قَالَ: "الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ الله عز وجل"(4).
* فإن جلسوا بمكان، وذَكروا الله، ذَكر معهم كلُّ شيء، وافتخرتِ الأرضُ والجبالُ والبقاعُ بذكرهم، كان صَلَّوا، صَلَّى مَنْ لم يكن يصلِّي بصلاتهم.
(1) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 41).
(2)
في "حلية الأولياء": "رؤوا".
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 6).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 6).
فهم بركةٌ كيفما كانوا، وقد ذُكر عن شيخِ الإسلامِ أبي الفَرَجِ الشيرازيِّ: أنه لما قدم دمشقَ، استأجر بستاناً، وكان ذلك البستانُ له وقتٌ يتنزه فيه الفَسَقَةُ، فلما جاء وقته هو فيه، وإذا خلائقُ قد أَتوه بالخمور والنساء وغير ذلك على عادتهم، فعِيلَ صبرُه من ذلك، ففي اليوم الثاني كَثُروا، فلما كانَ في اليوم الثالت، وحضروا، قام وقال: أيها الناس! إنا استأجرنا هذا البستان، ومن أراد أن يدخله، ونُحالِلُه، فليتوضأ معنا، حتى نصلِّي الظهر، فقام كلُّ أحدٍ منهم، وتوضأ، ثم صلى بهم الظهرَ، فأطال فيها، وجلس يذكرُ إلى العصر، ثم أقامَ وصلّى بهم العصرَ، وجلس في الذكر إلى المغرب، فامتنع كثيرٌ منهم بذلك من السُّكر وغيره، ولم يتمكن أحدٌ من ذلك، ثم كانت هذه عادتهم معهم، فلم يحضره بعدَ ذلك أحدٌ من الفَسَقة، وتابَ خلائقُ منهم، قال: وصار لي في شهر أكثرُ من ألف صاحب.
فانظر كيف أزال المَنَاكر بهذه الخبرية اللطيفة، وأحبَّه الخلقُ، فهكذا يكون الصبرُ في [الآمر] بالمعروف، والناهي عن المنكر.
فنظرُ أهلِ الخير يزيل المنكرَ، وعبادتُهم تزيل المنكر، ومباشرةُ أيديهم تزيل المنكر، كما روي عن الشيخِ عبد الله اليونينيِّ: أن حَمَّاراً وقع حملُه، فساعدَه في تحميله، فلما أوصله إلى بيت الأمير الذي هو له، إذا به من أحسن الأكل، فغضب عليه، فقال: والله! بيدي وضعته، ولكن أَعلم من أين أُتيت، ثم جاء إلى الشيخ، فأسلمَ على يديه، فلما علم الأميرُ، تاب عن شرب الخمر، فكان ذلك كلُّه من بركة الشيخ.
وقد حُكي عن الشيخ أبي عمرَ نحوُ ذلك أيضاً.
وقد ذُكر عن بعض المشايخ: أنه أرسلَ إلى بعض البغايا: نجيءُ الليلةَ عندَك، فتزينت، وتطيبت، وجلست، وإذا بالشيخ قد جاء، وكان ثَمَّ أميرٌ يكره الشيخ، فلما سمع بذلك، قال: وخمرُ الشيخِ علينا، فأرسل إليه بوعاء فيه خمر، فلما دخل الشيخُ المكانَ، توضأ، وقام يصلي، فدخل قلبَها خوفُ الله، فتوضات، وقامت تصلِّي خلفه، فلما أصبحتْ، رمت ما كانت فيه، ولبستْ ثياب العبادة، وتابت، فجاء الأميرُ ليرى ما صنع الشيخ، ويوبِّخُه بالمعصية، فوجدَها قد تابت، وأخبرتْه بما كان من الشيخ، وقصدَ الوعاءَ الذي أرسلَ فيه الخمرَ، وإذا به من أحسن السكر، فتابَ عن بغض المشايخ، وحصلت التوبةُ للكل ببركته.
* فهم محفوظون بحفظ الله، وكلاءته، لا تضرهم فتنةٌ، ولا تنالهم بليةٌ، سالمون من المحن، مُوَقَّوْن من الفتن.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا المِزِّيُّ وغيرُه: أنا ابن أبي عمرَ: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا أبو نعيمٍ، ثنا القاضي أبو أحمدَ محمدُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن القاسمِ بن الحجاجِ: ثنا الحكمُ بن موسى: ثنا إسماعيلُ بن عياشٍ: حدثني مسلمُ بن عبيدِ الله، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إِنَّ لله عز وجل ضَنَائِنَ مِنْ عِبَادِهِ، يُعَذَيهِم في رَحمَتِهِ، وَيُحيِيهم في عَافِيَتِهِ، إِذَا تَوَفَّاهُم، تَوَفَّاهُم إِلَى جَنَّتِهِ، أولئك الَّذِين تَمُرُّ عَلَيْهِمُ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ
المُظْلِمِ وَهم مِنْها في عَافِيَةٍ" (1).
* فمَنْ صاحَبَهم، سَلِم معهم، ومَنْ عاداهم وقاطَعَهم، وقعَ في المعامعِ والبلايا العِظام، أفرغ الله عليهمُ الصبرَ، وحماهم من الدنيا، وضَيَّقَ عليهم المعيشةَ، وهم قابِضُون على دينهم، كالقابضِ على الجمرِ، فالدنيا سِجْنُهم، ومحلُّ الشدائدِ عليهم.
واكتسابهم الأجرَ، إن أصابَتْهم المصائبُ، فَرَّجوها بالذكر، وإن تنفَّس لهم الدهرُ، وغمرتهم النعم، قابلوها بالحمد والشكر.
حظُّهم من الدنيا ناقص، ومن الآخرة خالص، يتلَذَّذون بالطاعة، ويَغْتَمُّون من البطالة والإضاعة، لا يَعْبَأُ الناسُ بهم ذَرَّة، ولو أقسمَ أحدُهم على الله لأبَرَّه.
وقد روينا في "الصحيح": "إِنَّ مِنْ عِبَادِ الله مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ"(2).
أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنا ستُّ الأهلِ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المُهْتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيّ: أنا ابن المُذْهِب: أنا أبو بكرٍ القَطيعيُّ: أنا عبد الله بن أحمدَ: ثنا أبي: ثنا هيثمُ بن خارجةَ: ثنا إسماعيلُ بن عياشٍ، عن نعيمِ بن أبي [
…
]، عن شريحِ بن عبيدٍ، عن عتبةَ
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 6).
(2)
رواه البخاري (2556)، ومسلم (1675)، عن أنس رضي الله عنه.
ابن عبد السلامِ، صاحبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إِنَّ العَبْدَ المُومِنَ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله عز وجل لأَبَرَّهُ".
وأخبرنا جدِّي وغيرُه: أنا الصلاحُ بنُ أبي عمرَ: أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا محمدُ بن أحمدَ بن الحسنِ: ثنا محمدُ بن نصبر الصائغُ: ثنا إبراهيمُ ابن حمزةَ: ثنا ابن أبي حازيم، عن كثيرِ بن زيدٍ، عن الوليدِ بن رباحٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ أَشْعَثَ ذِي طِمرَيْنِ تَنْبُو عَنْهُ أَعيُنُ النَّاسِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله عز وجل لأَبَرَّهُ"(1).
وبه إلى أبي نعيمٍ: أنا أبو إسحاقَ بن حمزةَ: ثنا أحمدُ بن شعيبِ بن يزيدَ ح.
قال: وثنا إسحاقُ بن أحمدَ: أنا إبراهيمُ بن يوسفَ: ثنا محمدُ بن عزينر: ثنا سلامةُ بن روح: ثنا عقيلُ، عن ابن شهاب، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كَمْ مِنْ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ ذِي طِمرَيْنِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ البَرَاءُ بنُ مَالِكٍ".
ثم إن البراءَ لقي زحفاً من المشركين، وقد أوجع المشركون في المسلمين، فقالوا له: يا براء! إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: لو أقسمتَ على ربِّكَ، لأبرك، فاَقْسِمْ على ربك. فقال: أقسمتُ عليكَ يا ربِّ لما منختَنا أكتافَهم، فمُنحوا أكتافَهم. ثم التقوا على قنطرةِ السوس، فأوجعوا في المسلمين، فقالوا: أقسمْ يا براءُ على ربك عز وجل،
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 7).
قال: أُقسم عليكَ يا ربِّ لما منحْتَنا أكتافهم، وألحقتني بنبيك صلى الله عليه وسلم، فمنحوا أكتافهم، وقُتل البراءُ بن مالكٍ شهيداً (1).
* فدعاؤهم السهمُ المصيبُ.
فالحذرَ الحذرَ من الأسباب التي توجب الدعاءَ منهم؛ فقد قال قائلٌ عن سعدِ بن أبي وقاصٍ قولَ كذبٍ، فقال: اللهمَّ إن كان عبدُك كاذباً، قام رياء وسمعة، فاقطعْ لسانه.
فما استتمَّ دعوته حتى أتاه سهمٌ فقطع لسانه (2).
ودعاء يعصمهم من الحريق في النار، كما روينا عن أبي الدرداء: أنه قيل له: احترقَ بيتك.
فقال: لم يحترق.
ثم أُتي فقيل: احترق بيتُك، فقال: لم يحترق.
ثم أُتي فقيل له: احترق بيتُك، فقال: لم يحترق، لم يكنِ الله ليفعلَ.
فجاء رجلٌ فقال: انتهتِ النارُ إلى بيتك، فلما وصلت إليه، طفئت.
فقال: علمتُ أن الله لم يكن ليفعلَ.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 7).
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(20/ 345).
فقيل له: ما ندري أيُّ كلامك أعجبُ، قولُك: لم يحترق، أو قولُك: لم يكن الله ليفعلَ.
فقال: ذلك بكلماتٍ سمعتُهن من رسول صلى الله عليه وسلم، من قالهن حين يصبح، لم يُصبه سوءٌ حتى يُمسي، ومن قالهن حين يُمسي، لم يصبه سوء حتى يُصبح.
* وقد تحصَّنَ كثيرٌ منهم بآيات من القرآن من اللصوص والأعداء والسباع، وكل ذلك شرطُه الإيمان الصادق، ومن ليس من أهله لا ينفعُه ذلك.
ونعلُ أحمدَ بن حنبلٍ أذهبتِ الجنَّ؛ فإنه ورد أن جاريةً للخليفة كانت تُضرَع، فدُعي لها أحمدُ، فضربها بنعله، فذهب عنها، ولم يعد، فلما مات أحمدُ، عاد، فدعا لها صاحبُه أبو بكرٍ المروذيُّ، فقال له الجني: حتى تكون أحمدَ بن حنبلٍ.
وكذلك ذهبَ كثير منهم بقراءة شيء.
فيحكى عن ابن تيمية: أنه كان يقول في أُذنه: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، فيزول عنه.
وأخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن البالِسيِّ: أنا المِزِّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ: ثنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا سهلُ بن عبد الله: ثنا الحسينُ بن إسحاقَ: ثنا داودُ بن رشيدٍ: ثنا الوليدُ بن مسلمٍ: ثنا ابن لهيعةَ، عن عبد الله بن هبيرةَ، عن حَنَشٍ الصنعانيِّ، عن عبد الله بن مسعودٍ: أنه قرأ في أُذن مبتلًى، فأفاقَ، فقال
له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا قَرَأْتَ في أُذُنِهِ؟ "، قال: قرأت: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]. حتى ختم السورة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَوْ أَنَّ رَجُلاً مُوقِناً قَرَأَها عَلَى جَبَلٍ، لَزَالَ"(1).
* وقد خاف منهم ومن دعائهم الكفرهُّ مع كفرهم، لَمَّا شاهدوا الباهر من أمرهم.
أخبرنا جدي: أنا الصلاحُ بنُ أبي عمَر: أنا الفخرُ بنُ البخاريِّ: أنا حنبل: أنا ابن الحُصَينِ: أنا ابن المُذْهِبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: ثنا عبد الله بن أحمدَ بن حنبلٍ: ثنا محمودُ بن يزيدَ الكوفيُّ: ثنا محمدُ بن فضيلٍ: ثنا الصلتُ بن مطرٍ، عن قدامةَ بن حماطة ابن أخت سهمِ بن منجابٍ: سمعتُ سهمَ بن منجابٍ قال: غزونا مع العلاءِ بن الحضرميِّ، فسرنا حتى أتينا دارين، والبحر بيننا وبينهم، فقال: يا عليمُ، يا حكيمُ، يا عليُّ، يا عظيمُ! إنا عبيدُك وفي سبيلك نقاتل عدوَّك، اللهمَّ فاجعلْ لنا إليهم سبيلاً، فتقحَّمَ بنا البحرَ، فخُضْنا ما يبلغُ لبودَنا، فخرجْنا إليهم (2).
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا جماعةٌ من شيوخِنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا أبو حامدٍ أحمدُ بن محمدٍ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ الثقفيُّ: ثنا يعقوبُ بن إبراهيمَ، والوليدُ بن شجاعٍ، قالا: ثنا
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 7).
(2)
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 169)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 7).
عبد الله بن بكرٍ، عن حاتمِ بن أبي صفرةَ، عن سماكِ بن حربٍ، عن أبي هريرةَ، قَال: لقد رأيتُ للعلاءِ بن الحضرميِّ ثلاثَ خصالٍ ما منهنَّ خصلةٌ إلا وهي أمحجبُ من صاحبتها: انطلقْنا نسير حتى قدمْنا البحرين، وأَقبلنا نسيرُ حتى كنا على شطِّ البحر، فقال العلاءُ: سيروا، فأتى البحرَ، فضرب دابتَه، فسارَ وسزنا معه ما يجاوزُ ركَب دوابنا، فلما رآنا ابن مكعبرٍ، عاملُ كسرى، قال: لا، والله! لا نقابلُ هؤلاءِ، ثم قعدَ في سفينة، فلحقَ بفارس (1).
* فانظر بعينِ بصيرتك إلى هذا الكافر، كيف فَرَّ عن ملاقاتهم، وهربَ عن معاداتهم، وليس هذا الأمرُ بمخصوص بالصحابة والتابعين، بل هو في كل عصر إلى يوم الدين.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا: أنا ابن البالسيِّ: أنا المِزِّيُّ: أنا شيخُ الإسلامِ ابن أبي عمَر: أنا أبو جعفرٍ: أنا أبو عليٍّ: أنا الحافظ أبو نعيمٍ: ثنا عبد الله بن جعفرٍ: ثنا إسماعيلُ بن عبد الله: ثنا سعيدُ ابن أبي مريمَ: ثنا يحيى بن أيوبَ، عن ابن عِجلانَ، عن عياضِ بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرٍو، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لِكُلِّ قَرْنٍ مِنْ أُمَّتِي سَابِقُونَ"(2).
وأخبرنا جماعةٌ من شيوخِنا: أنا ابن المحبِّ: أخبرتنا زينب بنتُ الكمالِ: أنا يوسفُ بن خليلٍ: أنا محمدُ بن أبي زيدٍ: أنا محمودٌ
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 8).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 8).
الصيرفيّ: أنا أبو الحسينِ بن فاذشاه: أنا سليمانُ بن أحمدَ: ثنا محمدٌ: ثنا إسماعيلُ بن أبي زيدون: ثنا عبد الله بن هارونَ: ثنا الأوزاعيُّ، عن الزهريِّ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خِيَارُ أُمَّتِي في كُلِّ قَرْنٍ خَمْسُ مِئَةَ، وَالأبْدَالُ أَربَعُونَ، فَلا الخَمسُ مِئة يَنْقُصُونَ، وَلا الأَرْبَعُونَ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ مِنَ الخَمْسِ مِئَةٍ أَبْدَ [لَ] الله مَكَانَهُ، وَأَدخَلَ مِنَ الأَرْبَعِينَ مَكَانَهُمْ"، قالوا: يارسولَ الله! دُلَّنا على أعمالهم. قال: "يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِم، وَيَتَوَاسَوْنَ فِيمَا آتَاهُمُ الله عز وجل"(1).
وبهِ إلى أبي نعيمٍ: ثنا محمدُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن السَّرِيِّ: ثنا قيسُ بن إبراهيمَ: ثنا عبد الرحمن الأرمنيُّ: ثنا عثمانُ بن عمارةَ: ثنا المعافى بن عمرانَ، عن سفيانَ الثوريِّ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عن الأسودِ، عن عبد الله، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لله في الخَلْقِ ثَلَاثَ مِئَةٍ قُلُوبُهم عَلَى قَلْبِ آدَمَ، وَلله تَعَالَى في الخَلْقِ أَربَعُونَ قُلُوبُهُم عَلَى قَلْبِ مُوسَى، وَلله في الخَلْقِ سَبْعَةٌ قُلُوبُهم عَلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ، وَلله في الخَلْقِ خَمسَةٌ قُلُوبُهُم عَلَى قَلْبِ جِبْرِيلَ، وَللهِ في الخَلْقِ ثَلاثَةٌ قُلُوبُهُم عَلَى قَلْبِ مِيكائِيلَ، وَلله في الخَلْقِ وَاحِدٌ قَلْبُهُ عَلَى قَلْبِ إِسْرَافِيلَ، فَإِذَا مَاتَ الوَاحِدُ، أَبْدَلَ الله مَكَانَهُ مِنَ الثَّلاثَةِ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ الثَّلاثَةِ، أَبْدَلَ الله عز وجل مَكَانَهُ مِنَ الخمسَةِ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ الخمسَةِ، أَبْدَلَ الله مَكَانَهُ مِنَ السَّبْعَةِ، وإِذَا مَاتَ مِنَ السَّبْعَةِ، أَبْدَلَ الله مَكَانَهُ مِنَ الأَرْبَعِينَ، وَإِذَا مَاتَ
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 8).
مِنَ الأَرْبَعِينَ، أَبْدَلَ الله مَكَانَهُ مِنَ الثَّلاثِ مِئَةٍ، وَإِذَا مَاتَ مِنَ الثَّلاثِ مِئَةٍ، أَبْدَلَ الله عز وجل مَكَانَهُ مِنَ العَامَّةِ، فَبِهِمْ يُحييِ وَيُمِيت، وَيُمطِرُ وَيُنْبِتُ وَيَدْفَع البَلاءَ".
قيل لعبد الله بن مسعودٍ: كيفَ بهم يحيى ويميت؟ قال: لأنهم يسألون الله عز وجل إكثارَ الأمم، فيكثرون، ويدعون على الجبابرة فيقصمون، ويستسقون فيسقون، ويسألون فتنبت لهم الأرض، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء (1).
أخبرنا جدِّي وغيرُه: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا حمدُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا أبو عمرِو بنُ حمدانَ: ثنا الحسنُ بن سفيانَ: ثنا عبد الوهابِ بن الضحاكِ: ثنا ابن عياشٍ: ثنا صفوانُ بن عمرٍو، عن خالدِ بن معدانَ، عن حذيفةَ بن اليمانِ، قال: قالَ رسولُ صلى الله عليه وسلم: "يَا حُذَيْفَةُ! إِنَّ في كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ أُمَّتِي قَوْماً شُعْثا غُبْراً، إِيَّايَ يُرِيدُونَ، وَإِيَّايَ يَتَّبِعُونَ، وَكِتَابَ الله يُقِيمُونَ، [أولئك مِنِّي، وَ] أَنَا مِنْهُم، وَإِنْ لَمْ يَرَونِي"(2).
* فمنحهم له، واتباعهم له، شبه نفسه بهم.
كما أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أخبرتنا فاطمةُ بنتُ سعدِ الخيرِ:
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 9).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 9).
أخبرتنا فاطمةُ بنتُ عبد الله: أنا ابن ربذةَ: ثنا الطبرانيُّ: ثنا أبو بكرِ ابن سهلٍ: ثنا عمرُو بن هاشمٍ: ثنا سليمانُ بن أبي كريمةَ، عن هشامِ بن عروةَ، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ عَنِّي، أَوْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ، فَلْيَنْظر إِلَى أَشْعَثَ شَاحِبٍ مُشَمِّرٍ، لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةً، وَلا قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ، رُفِعَ لَهُ عَلَمٌ، فَشَمَّرَ إِلَيْهِ، الْيَوْمَ المِضْمَارُ، وَغَداً السِّبَاقُ، وَالغَايَةُ الجَنَّةُ أَوِ النَّارُ"(1).
فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان على هذا الوصف، فمن كان بهذا الوصف، فهو شبيهُ النبي صلى الله عليه وسلم.
* نظروا إلى باطنِ العاجلةِ وفسادِها، فرفضوها، وإلى الظاهرِ من الدنيا وزينتها، فتحققوا أنه خيال ووبال، فوضعوها.
أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرِ بن حمدانَ: أنا عبد الله بن أحمدَ: حدثني أبي: ثنا غوثُ بن جابرٍ، قال: سمعتُ محمدَ بن داودَ يحدِّث عن أبيه، عن وهبِ بن منبهٍ، قال: قالَ الحواريون: يا عيسى! مَنْ أولياءُ الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى بنُ مريمَ: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجِلِ الدنيا حين نظر الناس إلى عاجِلها، فأماتوا منها ما يخشون أن يَثْنيهم، وتركوا ما علموا أن سيتركُهم؛ فصار استكثارهُم منها استقلالاً، وذكرُهم إياها فواتاً، وفرحُهم بما أصابوا منها حزناً؛ فما
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(3241).
عارضَهم من نائلها رفضوه، وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، وخَلَقَتْ الدنيا عندَهم، فليسوا يجدِّدونها، وخربَتْ بيوتهم، فليسوا يُعَمِّرونها، وماتت في صدورهم، فليسوا يُحيونها، يُهدمونها، فيبنون بها آخرتهم، ويُبيعونها، فيشترون بها ما تبقَّى لهم، ورفضوها، فكانوا فيها هم الفرحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت بهم المَثُلات، وأحيوا ذكرَ الموت، وأماتوا ذكرَ الحياة، يُحبون الله، ويحبون ذكرَه، ويستضيئون بنوره، ويضيئون به، لهم خبرٌ عجيب، وعندهم الخبرُ العجيب، بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم عُلم الكتاب، وبه علموا، وليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أماناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون (1).
ولهذا روينا عن محمدِ بن واسعٍ: أنه كان له بيتٌ ورثه من والديه، فكان كما انهدم منه شيء، انتقل إلى غيره، حتى انتهى به الأمرُ إلى أنه لم يبقَ منهم غيرُ الدهليز، فانتقل إليه، فجعل كما انكسرت منه خشبةٌ، انتقل إلى تحت الأخرى، حتى لم يبق منه غير خشبة أو خشبتين، فانتقل إلى تحتها، فمات تحتها، فسقطت.
وكان الحسن يقول: لو فارق ذكرُ الموت قلبي، لفسدَ.
وقال رحمه الله: "مَا لِي ولِلدُّنْيَا؟! إِنَّمَا مَثلِي وَمَثلُ الدُّنْيَا، كَمَثلِ رَاكِبٍ قَالَ في ظِلِّ شَجَرَةٍ في يَوْمٍ صَائِفٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَها"(2).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 10).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(7859) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وقال: "مَثلُ ابن آدَمَ وَالدُّنْيَا كَمَثلِ رَجُلٍ أَدخَلَ أُصْبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُر بِمَ تَرْجِعُ"(1).
وقال لابن عمرَ: "كُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابرُ سَبِيلٍ".
وكانَ ابن عمَر [يقولُ]: إذا أصبحتَ، فلا تنتظرِ المساءَ، وإذا أمسيتَ، فلا تنتظرِ الصباحَ، وخُذْ من صِحَّتِكَ لمرضِك، ومن حياتِك لموتك (2).
وقد ذكرتُ هذا الحديثَ مرةً عندَ بعضِ الأمراءِ، فقال: أنا والله كذلك، أُصبح أقولُ: ما أُمسي، وأُمسي أقول: ما تصبح.
فقلت له: كذبتَ والله.
فغضب، وقال: هكذا يا سيدي!
قلت: نعم، فإني أنا أظن أني أزهدُ منك.
قال: بكثير.
فقلت: مع هذا نفسي تحدثني أني أعيش خمسةَ آلافِ سنةً.
قال: خمسةَ آلافِ سنة؟!
قلتُ: نعم، وأكثر.
فقال: وهل عاش أحدٌ ذلك؟
(1) رواه الترمذي (2323)، وابن ماجه (4108) عن المستورد رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (6053).
فقلت: ولو لم يعشْه، نفسي تؤمِّلُ أكثرَ من ذلك، وأنا أُثبتُ لك كذبَ ما تقولُ نفسُك.
وكان يُعَمِّر في عمارة عظيمة، وهو مجتهدٌ فيها.
فقلت: لو أمسككَ السلطانُ، وقالمالك: عشيةً أقتلُك، أو في غدٍ هنالك أكلٌ أو شربٌ أو جماعُ زوجةٍ، أَوَ كنتَ تجتهدُ في تمام هذه العمارة، أو تضحك؟!
فقال: لا.
فقلت: هذا يبين لك كذبَ هذا الأمر الذي تقوله بلسانك.
فالذي قلبُه مصدقٌ بهذا، ونفسُه مثلُ محمدِ بن واسع، ومثلُ ابن عمر، الذي لم يضع لَبِنةً على لَبِنةٍ.
وأما نحن، فكلُّ ما نحن فيه أقوالٌ باللسان، وليس ثَمَّ من الإيمان بشيء من ذلك، ولو كان إيمان، صدقَ القولَ العملُ.
وقلت مرة لبعض قُضاتنا: كلُّنا بقينا تيامنة.
قال: نعوذ بالله من الشيطان، لا والله! إنما نحن على حقيقة الإيمان.
فقلت: لا والله! إنما هو قول باللسان، ولو كان له حقيقةٌ، صدق القول العمل.
فإن التيامنة لا تؤمن بثواب ولا عقاب؛ فإن من آمن بالثواب والعقاب، خاف ورجا، ومن خاف ورجا، ارتكبَ واجتنَب، فارتكبَ
المأمورَ به رجاءَ الثواب، واجتنَب المنهيَّ عنه خوفَ العقاب.
وغالبُ الناس في زماننا ليس من هذه المثابة في شيء، لا عليه لا من واجب، ولا من محرم، وهذا شأنُ من لا يؤمن بثواب ولا عقاب، وإن قال بلسانه: أؤمن بذلك؛ فإن القول باللسان ليس هو المقصود، إنما المقصود العملُ بالنفس، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرجُ يُصَدِّقُ ذلك أَوْ يُكَذِّبُهُ"(1).
وهذا شأنُ المنافق، القول باللسان في سورة الظاهر، وليس ثَمَّ في سورة الباطن شيء، فالمنافقُ ليس له غيرُ صورة القولِ باللسان، والمؤمنُ على الحقيقة، إنما له حقيقةُ صورةِ العمل.
* فأولياءُ الله صانوا أنفسَهم النفيسةَ، عن حقارة الدنيا الدنية، ولاحت لهم الآخرةُ بزينتها العلية، فباعوا الدنيَّ الخسيس، بالغالي النفيسر، وصانهم مولاهم عن القاذورات، وجَنّبَهم ما يدنِّسهم، وحماهم من كل شيء [فيه] أذاهم.
فمَنْ أخافَهم، فقد عرض نفسَه للمخاوف، ومن آذاهم، فقد أوقَع نفسَه في أسباب المتالف.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أخبرتنا ابنة علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المُذْهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله ابن الإمامِ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا سفيانُ بن وكيعٍ: ثنا إبراهيمُ بن عُيينةَ، عن
(1) رواه البخاري (5889) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ورقاءَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ، قال: لما بعثَ الله عز وجل موسى وهارون إلى فرعون، قال: لا يغرنكما لباسُه الذي ألبستُه، فإن ناصيتهُ بيدي، فلا ينطقُ ولا ينظرُ ولا يطرِفُ إلا بإذنى، ولا يغرنكما ما مُتِّع به من زهرة الدنيا وزينة المترفين، فلو شئتُ أن أزينكما من زينة الدنيا بشيء يعرف فرعون أن قدرتَه تعجزُ عن ذلك، لفعلتُ، وليس ذلك لهوانكما عليَّ، ولكني ألبستكماَ نصيبكما من الكرامة؛ على أن لا ينقصكما شيئاً، وإني لأذودُ أوليائي عن الدنيا كما يذودُ الراعي إبلَه عن مَبَارِكِ الغرة، وإني لأُجنبهم زينةَ الدنيا؛ كما يُجنبُ الراعي إبلَه عن مراتع الهلَكَة، أريدُ أن أنور بذلك مراتبهم، وأُطَهر بذلك قلوبَهم، في سيماهم الذي يعرفون به، وأَمرِهم الذي يفتخرون به، واعلمْ أنه من أخاف في ولياً، فقد بارزني بالعداوة، وأنا الثائر لأوليائي يوم القيامة (1).
* فمن بارزهم بالعداوة، فقد بارز الله، ولن يعجزه، والله هو وليُهم ومولاهم في الدنيا والآخرة، وهو الآخذُ بثأرهم في الدنيا والآخرة.
فيا مَنْ نصبَ نفسَه لمعاداة الخالق، وجعلَه خصمَه وعدوَّه، والثائرَ عليه!
أين تهرب؟ وبأيِّ حصنٍ تتحصَّن؟ وبأيِّ أعوانٍ وعددٍ تتقوىَ؟
فإذا لقيتَ من اتصف بأدنى صفاتهم، فأذلَّ لهم نفسَك، واخفضْ
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 61).
لهم جناحَك، واحرص على خدمتهم ومرافقتهم، تنلِ (1) السعادةَ في الدارين.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا جماعةٌ من شيوخِنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: ثنا أحمدُ بن السنديِّ: ثنا الحسنُ بن علويه القطانُ: ثنا إسماعيلُ بن عيسى: ثنا إسحاقُ بن بشرٍ، عن جويبرٍ، عن الضحاكِ، عن ابن عباسٍ ح.
قال أبو نعيمٍ: وثنا أبي: ثنا إسحاقُ بن إبراهيمَ: ثنا محمدُ بن سهلٍ: ثنا إسماعيلُ بن عبد الكريمِ: حدثني عبد الصمدِ بن معقلٍ، سمعتُ وهبَ بن منبهٍ يقولُ: لما بعثَ الله عز وجل موسى وأخاه هارون إلى فرعون، قال: لا يعجبنكما زينتُه، ولا ما مُتَعّ به، ولا تَمُدَّا إلى ذلك أعينَكما؛ فإنها زهرةُ الحياة الدنيا، وزينة المترفين، وإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلمُ فرعونُ حين ينظر إليها أن مقدرته تعجزُ عن مثل ما أُوتيتما، فعلتُ، ولكني أرغبُ بكما عن ذلك، وأزوِّيه عنكما، وكذلك أفعلُ بأوليائي، وقديماً ما خرتُ لهم في ذلك، فإني لأذودُهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيقُ غنمَه عن مراتع الهلكة، وإني لأنّجَنبهم شهوتَها وعيشتَها كما يجنبُ الراعي الشفيقُ إبلَه عن مبارِكِ الغرة، وما ذلك لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا نصيبَهم من كرامتي سالماً موفراً، لم تكلِمْه الدنيا، ولم يُطْغِه الهوى، واعلم أنه لم
(1) في الأصل: "تنال".
يتزين العبادُ بزينةٍ أبلغَ فيما عندي من الزهد في الدنيا؛ فإنها زينةُ المتقين، عليهم منها لباسٌ يعرفون به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك هم أوليائي حقاً حقاً، فإذا لقيتَهم، فاخفضْ لهم جناحَك، وذلل لهم قلبك ولسانك، واعلم أنه من أهان في ولياً، أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة، وباراني، وعرض في نفسه، ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أَفيظنُّ الذي يحاربني أن يقوم لي، أو يظن الذي يعاديني أن يعجزني، أو يظن الذي يبارزني أن يسبقني، أو يفوتني؟! وكيف وأنا الثائرُ لهم في الدنيا والآخرة، لا أَكِلُ نُصرتهم إلى غيري؟
زاد إسماعيلُ بن عيسى في حديثه: فاعلم يا موسى: أن أوليائي الذين أَشعروا قلوبَهم خوفي، فتظهر على أجسادهم في لباسهم وجهدهم الذي يفوزون به يوم القيامة، وأملهم الذي به يذكرون، وسيماهم الذي به يعرفون، فإذا لقيتَهم، فذلِّلْ لهم نفسَك (1).
* فهؤلاء القومُ عليهم زينةُ الأولياء، وحِلْيةُ المتقين، أعظمُ بهجةً وزينةً من زينة الدنيا، أنوارُهم ظاهرة، وقلوبُهم طاهرة، وأرواحُهم روحانية، ونفوسُهم عُلوية، فلا يعرفُهم إلا عبادُ الرحمن، ولا تظهر سيماهم إلا لأهل الإيمان.
وأما عبادُ الشيطان وحزبُه، فإن الشيطان قد عاداهم، وهرب منهم، فلا يشتهي رؤياهم، وأوحى إلى حزبه من الجن والإنس أذاهم.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 11 - 12).
فإن قام أحدهم يصلي أو يتصدق، قالوا: مُراءٍ، وإن تكلم بالحق، بُغض ومُقت.
وإن خفيت هذه الزينةُ الربانيةُ عن حزب الشيطان، فهم أطباءُ الخلق على الحقيقة، وحكماءُ الناس على الطريقة.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن البالسيِّ: أنا المِزِّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ، وابن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا حمدُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا أبو الحسنِ أحمدُ بن محمدٍ: ثنا العباسُ ابن يوسفَ: حدثني محمدُ بن عبد الملكِ، قال: قال عبد الباري: قلتُ لذي النونِ: صفْ في الأبدالَ، فقال: إنكَ لتسألُني عن دياجي الظُّلَم لأكشفَها لك، عبد الباري! هم قوم ذكروا الله بقلوبهم تعظيماً لربهم لمعرفتهم بجلاله، فهم حُجج الله على خلقه، ألبسهم النورَ الساطعَ من محبته، ورفعِ لهم أعلامَ الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقامَ الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهمُ الصبرَ عن مخالفته، وطهَّر أبدانَهم بمراقبته، وَطيَّبَهم بطيب أهل معاملتِه، وكساهم حُللاً من نسج مودَّته، ووضعَ على رؤوسهم تيجانَ مسرَّته، ثم أودعَ القلوبَ من ذخائرِ الغيوبِ، فهي معلَّقة بمواصلته، فهمومُهم إليه ثائرة، وأعينُهم إليه بالغيب ناظرة. قد أقامَهم على باب النظر من قربه، وأجَلسَهم على كراسي أطباءِ أهلِ معرفته. ثم قال لهم: إن أتاكم عليلٌ من فقدي، [ف] آووه، أو مريضٌ من شوقي، فعالجوه، أو خائف مني، فأَمِّنوه، أو آمنٌ من بَطْشي، فَحَذِّروه، أو راغبٌ في مواصلتي، فَمَنُّوه، أو راحلٌ نحوي، فزوِّدوه، أو جبانٌ عن متاجري، فشجِّعوه، أو آيسٌ من
فضلي، فغذوه، أو راجٍ لإحساني، فبشِّروه، أو حسنُ الظن بي، فباسطوه، أو محبٌّ لي، فواظبوه، أو معظِّم لقدري، فعظّموه، أو سائرٌ نحوي عني، فأرشدوه، أو مسيءٌ بعد إحسان، فعاتبوه، ومَنْ واصلَكُم، فواصلوه، ومن غابَ عنكم، فافتقدُوه، ومن حَمَّلَكم جنايةً، فاحتملوه، ومن قَصَّر في واجبِ حقي، فاتركوه، ومن أخطأ خطيئة، فناصِحوه، ومن مرضَ من أوليائي، فعودُوه، ومن حزنَ، فبشِّروه، كان استجارَ بكم ملهوفٌ، فأجيروه.
يا أوليائي! لكم عاتبتُ، وفي آثاركم رغبتُ، ومنكم الوفاء طلبتُ، ولكم اصطفيتُ وانتخبتُ، ولكم استخدمتُ واختصصتُ، إني لا أحبُّ استخدامَ الجبارين، ولا مواصلةَ المتكبرين، ولا مصافاةَ المخلّطين، ولا مجاورةَ المخادعين، ولا قربَ المعجَبين، ولا مجالسة البطَّالين، ولا موالاةَ الشَّرِهين.
يا أوليائي! جزائي لكم أفضلُ الجزاء، وعطائي لكم أجزلُ العطاء، وبذلي لكم أفضلُ البذل، وفضلي عليكم أكثرُ الفضل، ومعاملتي لكم أوفى المعاملة، ومطالبتي لكم أشدُّ المطالبة، أنا محيي القلوب، وأنا علامُ الغيوب، أنا مراقبُ الحركات، أنا ملاحظُ اللحظات، أنا المشرفُ على الخواطر، أنا العالمُ بمجالِّ الفِكر، فكونوا دعاةً إليَّ، لا يفزعكم دوني سلطانٌ سواي، فمن عاداكم، عاديتهُ، ومن والاكُم، واليتهُ، ومن آذاكم، أهلكتهُ، ومن أحسنَ إليكم، جازيتهُ، ومن هجركم، قَلَيْتُه (1).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 12 - 13).