الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد روينا في وصية الشيخ عبد القادر رضي الله عنه: أنه قال: يكفيك من الدنيا خدمةُ وليٍّ، أو صحبةُ عالم (1).
* ف
الأولياءُ أوتادُ الدنيا
، بهم تثبُتُ، وبهم تستقرُّ؛ كما قال عليه السلام لأُحُدٍ حين تحرَّكَ:"اسْكُنْ أُحُدُ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ"(2).
فبهم ثبتتْ بركتُهم، على كلِّ مَنْ صحبهم، أو رافقهم، أو وُلد لهم؛ كما قال الله عز وجل:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 182] فحفظ لهما ذلك بصلاحه، وقيل: إنه كان الولد السابع.
أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا ابن عروةَ: أنا ابن أبي العباسِ المحبوبيّ: أخبرتنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا أبو جعفرِ بن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا أبو عليِّ بن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: ثنا عبد الله بن الإِمام أحمدَ: ثنا أبي: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا بكارٌ: سمعت وهبًا يقول: إن الربَّ تبارك وتعالى قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل: إني إذا أُطِعْتُ، رضيتُ، وإذا رضيتُ، باركتُ، وليس لبركتي نهاية، وإني إذا عُصيتُ، غضبتُ، وإذا غضبتُ، لَعَنْتُ، ولعنتي تبلغُ السابعَ من الولد (3).
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا بكارٌ: سمعتُ وهبًا يحدِّثُ: أن بني إسرائيلَ أصابتهم عقوبةٌ وشدةٌ، فقالوا لنبيٍّ لهم: وددنا
(1) انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (10/ 354).
(2)
رواه البخاري (3496) عن أنس رضي الله عنه.
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 52).
أنا نعلمُ ما الذي يُرضي ربنا عز وجل، فنتبعه، فأوحى الله عز وجل إليه: أن قومك يقولون: وَدُّوا لو يعلمون ما الذي يُرضيني فنتبعه؟ فأَخبرْهم: إن أرادوا رضاي، فليرضوا المساكين، فإنهم إذا أرضَوْهُم، رضيتُ، وإذا أسخطوهم، سخطتُ (1).
* وطاعتهم مولاهم لو أجلبَ عليهم أهلُ السماوات والأرض، غلبوهم؛ لأن قوتهم بالله، ولو حمله عليه [
…
] لجعل الله عز وجل لهم من كل هم فَرَجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن عروةَ: أنا المحبوبيُّ: أنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبٍ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: ثنا أبي: ثنا ابن آتش: ثنا منذرٌ، عن وهبٍ، قال: يقولُ الربُّ عز وجل: إذا توكَّلَ عليَّ عبدي، لو كادَتْهُ السماوات والأرضُ، جعلتُ له من بين ذلك المخرجَ (2).
وبه إلى عبد الله: حدثني عبد الله بن عمرَ بن رئابٍ: ثنا ابن المباركِ، عن معمرٍ، عن وهبِ بن منبهٍ: إن الله عز وجل يقول: إن عبدي إذا أطاعني، لو أجلبَ عليه أهلُ السماء وأهلُ الأرض، جعلتُ له مخرجًا من ذلك، وإذا أطاعني عبدي، ثم دعاني، استجبت له، وإذا سألني، أعطيته (3).
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 52).
(2)
رواه الإِمام أحمد في "الزهد"(ص: 53).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 38).
وبه إلى عبد الله: ثنا أبي: ثنا إبراهيمُ بن خالدٍ: ثنا رياحٌ: حدثني محمدُ بن عمرِو بن ملاحٍ: سمعتُ وهبَ بن منبهٍ يقول: وجدتُ في كتابٍ من كتبِ الله عز وجل المنزَّلة: أن الله عز وجل يقول: إني مع عبدي المؤمن حين يطيعني، أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، وما تردَّدْتُ عن شيء تردُّدي عن قبضِ عبدي المؤمن، إنه يكره ذلك ويسوءُه، وأنا أكره أن أسوءَه، وليس له منه بدٌّ، وما عندي خيرٌ له، إن عبدي إذا أطاعني، واتبعَ أمري، فلو أجلبَتْ عليه السماوات السبعُ بمن فيهن، والأرضونَ السبعُ بمن فيهن، جعلتُ له من ذلك المخرجَ، وإنه إذا عصاني، ولم يتبعْ أمري، قطعتُ يديه من أسباب السماء، وخسفت به الأرض من تحت قدميه، وتركته في الهُوِيّ، لا ينتصر من شيء، إن سلطانَ الأرض موضوعٌ خامدٌ عندي كما يضعُ أحدُكم سلاحه عنه، لا يقطع سيفٌ إلا بيدي، ولا يُضرب بسوط إلا بيدي، لا يصل إلى شيء من ذلك إلا بإذني (1).
وبه إلى عبد الله: ثنا أبي: ثنا أبو سعيدٍ: ثنا سليمانُ -يعني: ابن بلال-، عن عمرِو بن أبي عمرٍو، عن عاصمِ بن عمرَ بن قتادةَ، عن محمودِ بن لَبيدٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "إِنَّ الله عز وجل إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ، فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ، فَلَهُ الجَزَعُ"(2).
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا عمرانُ: سمعتُ وهبًا يقول: يقولُ الله -تبارك تعالى-: اتَّقُوا غضبي؛ فإن غضبي يدركُ إلى
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 96).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 427).
ثلاثةِ اَباءَ، وأَحِبُّوا رِضائي؛ فإن رضائي يدركُ في الأمة.
* نصحوا لله، وأصلحوا أنفسهم له، فبتدبيره أصلحهم، وجعل قوته في كل جوارحهم.
حدثني جدي: ثنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: ثنا محمدُ بن عبد الباقي: أنا الحسنُ بن عليٍّ الجوهريُّ: ثنا محمدٌ: ثنا أحمدُ بن الحسنِ: ثنا الحكمُ بن موسى: ثنا الحسنُ بن عليٍّ، عن صدقةَ، عن هشامٍ الكنانيِّ، عن أنسِ بن مالكٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، عن جبريلَ عليه السلام، عن ربه عز وجل، قال:"مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّا، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ ما تَرَدَّدْتُ في قَبْضِ نَفْسِ مُؤْمِنٍ أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَمِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ مَنْ يُرِيدُ بَابًا مِنَ العِبَادَةِ، فَأَكُفُّهُ عَنْهُ، لا يَدْ [خُـ]ـلُهُ عُجْبٌ، فَيُفْسِدُهُ ذلك، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ ما افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَنَقَّلُ لِي حَتَّى أُحِبَّهُ، وَمَنْ أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا، وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا، دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، وَسَأَلَنِي فَأَعْطَيْتُهُ، وَنَصَحَ لِي فَنَصَحْتُ لَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلحُ إِيمَانَهُ إِلا الفَقْرُ، وَلَوْ بَسَطْتُ لَهُ، أَفْسَدَهُ ذلك، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلحُ إِيمَانَهُ إِلا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ، لأَفْسَدَهُ ذلك، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلحُ إِيمَانَهُ إِلا الغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ، لأَفْسَدَهُ ذلك، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلحُ إِيمَانَهُ إِلا السَّقَمُ، وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ، لأفْسَدَهُ ذلك، إِنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ، إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ"(1).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 319).
أخبرنا أبو جعفرٍ المقرئُ: ثنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أخبرتنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمد المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: ثنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: ثنا أبي: ثنا سيارٌ: ثنا جعفرٌ: ثنا أبو غالبٍ، قال: بلغنا أن هذا الكلام في وصية عيسى بن مريم عليه السلام: يا معشرَ الحواريين! تَحَبَّبوا إلى الله عز وجل ببغضِ أهلِ المعاصي، وتَقَرَّبوا إليه بالمقتِ لهم، والتمسوا رضاه بسَخَطِهم. قالوا: يا نبيَّ الله! فمَنْ نجالسُ؟ قال: جالسوا مَنْ يزيدُ في أعمالكم منطقُه، ومن تذكركِم بالله رؤيتُه، ويزهِّدكم في دنياكم عملُه (1).
* وأولادُهم ومَنْ بعدَهم محفوظون بحفظهم، وأزواجُهم وكلُّ مَنْ سمتهم كذلك.
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الرحمن، عن سفيانَ، عن الأعمشِ، عن خيثمةَ، قال: قال عيسى عليه السلام: طوبى للمؤمن، ثم طوبى له، كيف يحفظُ الله عز وجل وَلَدَه من بعده (2).
* حتى إن ذكرَهم للقلوب كالسماد للزرع، تنتفع القلوبُ بذكرهم.
كما أخبرنا جدي: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا محمدُ بن أبي منصورٍ: أنا أحمدُ بن
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 54).
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 55).
محمدٍ: ثنا أبو الحسنِ عليُّ بن عمرَ الفقيهُ: ثنا أبو عبد الله الأرجانيُّ: ثنا محمدُ بن أحمدَ: ثنا أحمدُ بن محمدٍ الفزاريُّ: ثنا عبد الله بن [
…
]: سمعتُ محمدًا يقول: ما رأيتُ للقلبِ أنفعَ من ذكرِ الصالحينَ.
[........] ذكرهم بالخير، وإياك أن تذكرهم بالشر، وهم الذين [......] على حالهم، [.........]، فاجتهدْ أن تكونَ مثلَهم، أو تلحقَ بهم، وإياكَ أن تذكرهم بالذمِّ والانتقاص، فإنما أباحَ الشارعُ الحسدَ ليعمل مثلَه، لا لتزولَ النعمةُ عنه، حيث قال:"لا حَسَدَ إِلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ الله القُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآناءَ النَّهَارِ"، فهو يقول: لو أُوتيت مثلَ ما أُوتي هذا، لعملتُ مثلَما يعمل.
"وَرَجُلٍ آتاهُ الله الحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ"، فهو يقول: لو أُوتيت مثلَ ما أُوتي هذا، عملتُ مثلَما يعمل (1).
فالحسدُ الرحمانيُّ ليعمل [
…
]، والحسدُ الشيطاني لتزولَ النعمةُ عن المحسود، [....] عنه، فالحسدُ الشيطانيُّ يُذهب الحسناتِ.
* ومن صفاتهم: أن قلوبَهم لينةٌ، ونفوسَهم رحيمةٌ، يرحمون عباد الله، يرحمون الصغيرَ لصغره، والكبيرَ لكبره، والفقيرَ لفقره، والغنيَّ لغناه، والعاصيَ لمعصيته، والطائعَ لطاعته.
وأخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ:
(1) رواه البخاري (4738) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أنبأ ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا يونسُ بن محمدٍ، ثنا الفراءُ، عن قتادةَ، قال: بلغنا أنه مكتوبٌ في التوراة: ابن آدمَ! ارحمْ تُرحَمْ، إنه مَنْ لا يرحمُ لا يُرحَمُ، كيف ترجو أن أرحمَك وأنتَ لا ترحَم عبادي؟!
وفي الحديث الصحيح شواهدُ ذلك، فقد قال عليه السلام:"ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ"(1).
وقال: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرحمن"(2).
وقال: "مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ"(3).
وقال: "لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِنْ شَقِيٍّ"(4). إلى غير ذلك.
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا إسماعيلُ بن عبد الكريمِ: حدثني عبد الصمدِ بن معقلٍ: أنه سمعَ وهبَ بن منبهٍ يقول: وجدتُ في كتابِ داود عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى يقول: بعزتي وجلالي! إنَّ مَنْ أهانَ وليًا، فقد بارَزَني بالمحاربة (5).
(1) رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
رواه البخاري (5651)، ومسلم (2318) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه أبو داود (4942)، والترمذي (1923) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
رواه الطبراني في "المعجم "الأوسط" (609) عن أنس رضي الله عنه.
* ومنهم من يعلم الله طاعتَه، فيُعطيه قبل سؤاله.
فبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا إسماعيلُ -يعني: ابن عبد الكريم-: ثنا عبد الصمدِ بن معقلٍ: أنه سمعَ وهبًا قال: قرأتُ في كتابٍ آخرَ: أن الله تبارك وتعالى يقول: كفاني لعبدي مالاً، إذا كان عبدي في طاعتي، أعطيته من قبل أن يسألني، وأستجيبُ له من قبل أن يدعوَني، فإني أعلم بحاجته التي ترفق به من نفسه.
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا إسماعيلُ: ثنا عبد الصمدِ بن معقلٍ: أنه سمع وهبَ بن منبهٍ قال: قرأتُ في كتابٍ آخرَ: أن الله عز وجل يقول: بعزتي! إنه من اعتصم بي، فإن كادَتْه السماوات بمن فيهن، والأرضُ بمن فيهن، فإني أجعلُ له من بين ذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي، فإني أخسِفُ به من تحت قدميه الأرض، فأجعلُه في الهواء، ثم أَكِلُه إلى نفسِه (1).
* فمنِ اعتصمَ بالله، عصمه الله، وقام بنصره، وأذلَّ مَنْ قصده وقهره، ومن صالَ بقوته، وأُعجب بنفسه، فلو سلط الله عليه ذرةً، لقهرَتْه، والله خاذلُه ومذلُّه.
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا عمرانُ: سمعتُ وهبًا يقول: ما أكرمَ الله تعالى شيئًا قَطُّ ما أكرمَ كريمَ بني آدمَ، إني وجدتُ في كتابِ آلِ داودَ: إن الله عز وجل يقول: بعزتي! إنه من أهانَ لي وليًّا، فقد استقبلني بالمحاربة، ما تردَّدْتُ عن شيء أريده تردُّدي عن
(1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(9/ 2910).
موتِ المؤمنِ؛ قد علمت أنه يكره الموتَ، ولا بدَّ له منهُ، وأنا أكره أن أسوءه، بعزتي! إنه من اعتصم بي، فإن كادَتْه السماوات بمن فيهن، والأرَضونَ بمن فيهن، فإني أجعلُ له من بين ذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي، فإني أقطعُ يديه من أسباب السماء، وأخسِفُ به من تحتِ قدميه الأرض، فأجعلُه في الهواء، ثم أَكِلُه إلى نفسِه، كفاني لعبدي مالاً، إذا كان عبدي في طاعتي، أعطيتُه قبل أن يسألني، واستجبتُ له من قبل أن يدعُوَني؛ فإني أعلمُ بحاجته التي ترفُق به من نفسه (1).
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا هشامُ بن القاسمِ: ثنا أبو سعيدٍ -يعني: المؤدب-: ثنا مَنْ سمع عطاءً الخراسانيَّ قال: لقيتُ ابن منبهٍ وهو يطوفُ بالبيت، فقلت له: حدثْني حديثًا أحفظُه عنكَ في مقامي هذا، وأَوْجِزْ، قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عله السلام: يا داودُ ابن أيشا! أما وعزتي وعظمتي! لا يعتصمُ بي عبد من عبادي دونَ خلقي أعرفُ ذلك من نيته، أو قال: من قلبه، فتكيده السماوات السبعُ ومَنْ فيهن، والأرَضون السبعُ ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن مخرجًا. أما وعزتي وعظمتي! لا يعتصمُ عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعتُ أسبابَ السماء من يده، وأَسَخْتُ الأرضَ من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأيِّ وادٍ هلك.
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الصمدِ -يعني: العَمِّيَّ-، عن مالك: مكتوبٌ في الزبور: بنار المنافق تحترق المدينة.
(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 318) نحوه.
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا ابن حزمٍ -وهو العطارُ-، قال: قال مالكُ بن دينارٍ: قرأت في الزبور: بكبرياء المنافق يحترق المسكين (1).
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عارمٌ: ثنا سعيدُ بن زيدٍ: ثنا عثمانُ الشَّحَّامُ: حدثني شيخٌ من أهلِ البصرةِ كان له فضلٌ، وكان له سِنٌّ، قال: بلغني أن داودَ عليه السلام سأل ربه عز وجل، قال: يا ربِّ! كيف لي أن أمشيَ لك في الأرض بنصح، وأعملَ لك فيها بنصح؟ قال: يا داود! تحب من أحبني من أحمرَ وأبيضَ، ولا تزالُ شفتاك رطبتين من ذكري، واجتنبْ فراشَ الغيبةِ، قال: يا ربِّ! كيف لي أن يحبني في أهل الدنيا البرُّ والفاجرُ؟ قال: يا داود! تُصانعُ أهلَ الدنيا لدنياهم، وتحب أهل الآخرة لآخرتهم، وتختار إليك دينك بيني وبينك؛ فإنك إذا فعلت ذلك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. قال: ربِّ! فأرني أصفياءك من خلقك من هم؟ قال: نقيُّ الكفين، نقي القلب، يمشي تمامًا، ويقول صوابًا.
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا إبراهيمُ بن خالدٍ: حدثني عبد الله بن بحيرٍ، قال: سمعتُ وهبَ بن منبهٍ يقول: قال موسى عليه السلام: أَيُّ ربِّ! أَيُّ عبادِك أحبُّ إليك؟ قال: من أُذْكَر برؤيته. قال: ربِّ! أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟ قال: الذين يعودون المرضى، ويعزُّون الثكلى، ويشيِّعون الهلكى (2).
(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 376).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 45).
* وهم قوم عُرف فضلُهم، ولم يروا لهم فضلاً على أحد.
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا إبراهيمُ بن خلد: حدثني عبد الله بن بحيير، قال: سمعتُ وهبَ بن منبهٍ يقول: إن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ائتوني بخيركم رجلاً، فأتوه برجل، قال: أنتَ خيرُ بني إسرائيل؟ قال: كذلك يزعمون، قال: اذهبْ فائتني بشرهم، قال: فذهب، فجاء وليس معه أحد، فقال: جئتني بشرهم؟ قال: أنا ما أعلم من أحد منهم ما أعلم من نفسي، قال: أنت خيرهم.
* فهم مع الله، والله معهم.
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا سيارٌ: ثنا جعفرٌ، عن عمرانَ القصيرِ، قال: قال موسى بن عمرانَ: أَيْ ربِّ! أين أبغيكَ؟ قال: ابْغِني عند المنكسرةِ قلوبُهم؛ إني أدنو منهم كلَّ يومٍ باعًا، ولولا ذلك، انهدموا (1).
* لا يخافون من شيء غير الله.
أخبرنا جدي وغيرُه: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا عبد الوهابِ بن المباركِ: أنا أبو الحسنِ عليُّ بن محمد: أنا أحمدُ بن محمدِ بن يوسفَ: أنا ابن صفوانَ: ثنا أبو بكرٍ القرشيُّ: ثنا أحمدُ بن عمرانَ، قال: سمعتُ أبا معاويةَ يقول: ثنا الأعمشُ، عن شقيقٍ، قال: خرجْنا في غَزاة لنا مخوفةٍ، وإذا رجلٌ نائمٌ، فأيقظناه، فقلنا: تنامُ في مثل هذا
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 177).
المكان؟! فرفعَ رأسَه فقالَ: إني لأستحي من ربِّ العرشِ يعلم أني أخاف شيئًا دونَه، ثم ضرب برأسه فنام.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المُذْهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا مسكينُ بن بكيرٍ: ثنا سفيانُ، عمن أخبره: إن لقمانَ قال لابنه: أَيْ بنيَّ! إن الدنيا بحرٌ عميق، قد غرق فيه ناسٌ كثير، فاجعلْ سفينتك فيها تقوى الله عز وجل، وحَشْوْها الإيمانَ بالله، وشراعَها التوكلَ على الله؛ لعلك تنجو، ولا أراك ناجيًا (1).
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا حجاجٌ: حدثني جريرٌ -يعني: ابن حازم-: [حدثني وهيبٌ المكيُّ]، قال: بلغني أن في التوراة، أو في بعض الكتب: أن الله عز وجل يقول: يا ابن آدمَ! اذكرني إذا غضبتَ، أَذكرْك إذا غضبتُ، فلا أمحقُك مع من أمحق، وإذا ظُلمتَ، فارضَ بنصرتي لك، فإن نصرتي لك خير لك من نُصرتك نفسَك (2).
أخبرنا جدي وغيرُه: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا عمرانُ بن أبي منصورٍ، وابن عبد الباقي: أنا جعفرُ بن أحمدَ: ثنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا محمدُ بن عبد الله الدمانُ: أنا الحسينُ بن صفوانَ: أنا أبو بكرٍ القرشيُّ: حدثني
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 154).
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 50).
محمدُ بن يحيى: سمعت أبا عبد الرحمن القرشيَّ: حُدِّثْتُ عن الحسنِ، قال: رأيتُ بدويةً دخلتِ الطوافَ، فقالت: يا حَسَنَ الصحبة! جئتُك من بعيد، أقبلْتُ أسألُكَ سترَك الذي لا تَخرقه الرماح، ولا تُزيله الرياح (1).
أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنبأ ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: ثنا أبي: ثنا عبد الرزاقِ: ثنا معمرٌ، عن أيوبَ، عن أبي قلابةَ، قال: قال أبو الدرداء: البِرُّ لا يَبْلى، والإثمُ لا يُنسى، والدَّيَّانُ لا ينام، فكنْ كما شئتَ، كما تَدينُ تُدانُ.
وبه إلى الإمامِ أحمدَ: ثنا عبد الصمدِ بن عبد الوارثِ: حدثني المثنى بن عوفٍ: ثنا أبو عبد الله -يعني: الجسريَّ-: أن رجلاً انطلق إلى أبي الدرداء، فسلم عليه، فقال: أوصني [........]؛ فإني غازٍ، قال له: اتق الله عز وجل كأنك تراه حتى تلقاه، وعُدَّ نفسَك في الأموات، ولا تَعُدَّها في الأحياء، وإياكَ ودعوةَ المظلوم (2).
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو بكرِ بن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا المظفرُ السمعانيُّ: أنا أبو عمرٍو البيكنديُّ: أنا أبو بكرٍ الجميليُّ: أنا أبو محمدٍ الحلوانيُّ: أنا أبو عليٍّ
(1) ورواه الرافعي في "التدوين في أخبار قزوين"(3/ 419).
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 142).
النسفيُّ: أنا أبو أحمدَ المطوعيُّ: أنا أبو بكرٍ محمدُ بن الفضلِ: ثنا عبد الله بن محمدٍ: ثنا أبو الفضلِ محمدُ بن داودَ: ثنا محمدُ بن عيسى: ثنا سفيانُ بن عُيينةَ، عن عمرِو بن دينارٍ، قال: كان رجل ينادي: لا تظلموا الناس عبادَ الله، واتقوا دعوةَ المظلوم، قال: فقلتُ له: ما قصتك؟ قال: كنت رجلاً شرطيًا، فرأيت صيادًا قد صاد سمكةً، فساومتُه بها، فأبى أن يبيعها، [
…
] فضربتُه، وأخذتُ منه السمكة، فبينا هي معلقةٌ، إذ وَثَبَتْ فعضَّتْ على أصبعي، فلما بلغتُ المنزلَ، رأيتُها قرحةً منكرةً، وكان لنا جار ينظر في القروح، فأَرَيته إياها، فقال: اقطعْها من المفصل، وإلا، دَبَّتْ في يدك؟ فإنها أَكِلَة، قال: فقطعتُها، فدبَّتْ في ظهر الكَفِّ، قال: اقْطعه، فقطعته، فدبَّت في ساعدي، قال: اقطعْها، فدبَّت في العَضُد، فأتاني آتٍ في منامي، فقال لي: دواؤك عندَ مَنْ ظلمتَه، فأتيتُ الصيادَ، فجلست بين يديه وأنا أبكي، فقلت له: حَلِّلْني، فقد أصابني من أجلك هذا، قال: فأخذ الرجل يبكي، وقال: اللهمَّ إني جعلتُه في حِلٍّ، قال: فرأيتُ الدودَ يتناثر من يدي، ثم قال لابن له: احفر زاوية الباب.
قال: فحفرَ، فأخرجَ منها جرةً فيها عشرةُ آلافِ درهمٍ، قال: فخذْها أنفقْها على نفسك وعيالك، قال: فأخذتُها وتوقفتُ، فقلتُ له: هل دعوتَ عليَّ حين أخفتُك، فأخذتُ السمكةَ منك؟ قال: نعم، قلت: يا ربِّ! خلقتَ هذا قويًا، وخلقتني ضعيفًا، فأحِلَّ به عقوبةً في الدنيا تكون نكالاً، فهو ما رأيتَ.
وبه إلى السمعانيِّ: أنا أبو عمرو البيكنديُّ: أنا أبو الفضلِ
الطرواخيُّ: أنا أبو الحارثِ المروزيُّ: حدثني إبراهيمُ بن عاصمٍ: ثنا الحسينُ بن يحيى: ثنا المؤملُ بن إسماعيلَ، عن عبد العزيزِ بن أبي روادٍ: أن رجلاً لقي لقمانَ، فقال: ألستَ عبد بني فلانٍ؟ قال: بلى، قال: فما بلغَ بك ما ترى؟ قال: قَدَرُ الله، وصدقُ الحديث، وأداءُ الأمانة.
قال: وكان من شأنه: أنه كان له بيت مال، فكان لا يستقرض منه إنسانٌ مئةَ درهمٍ إلى عشرةِ آلاف درهم إلا أقرضه، وكان لا يتقاضاه حتى يوسر، فأقرضَ رجلاً في قرية أخرى، فبلغه أنه أيسرَ، ولم يَرُدَّ عليه حقه، فقال: يا بني! اذهب إلى قرية كذا وكذا، وقل لفلان: إن أبي يُقرئك السلامَ، ويقول: بلغني أنك قد أيسرتَ، فلم تردَّ علينا حقنا، ويا بني! انظر ألا تنزل تحت شجرة كذا وكذا، ولا تدخل قرية كذا وكذا.
وإذا كان معك صاحبُك، فلا تُغضبه، اذهبْ فأثبت وديعة الله تعالى.
قال: فلما كان في طرف القرية، إذا هو برجل، قال: أين تريد؟ قال: أريد قريةَ كذا وكذا، قال: الصحبة؟ قال: نعم، فانطلقا، فلما انتهيا إلى الشجرة، قال: إن أبي قد نهاني أن أنزل تحتها، قال: وما قال لك؟ قال: قال لي: والصاحب فلا تعصه، قال: أنا صاحبك، فلا تعصني، فعدل معه، فكان تحت الشجرة حيةٌ، إذا نزل المسافرُ ونامَ، خرجت الحيةُ فقتلته.
قال: فقال لصاحبه: ضع رأسَك.
قال: فنام، فخرجت الحيةُ، ورصدَه صاحبُه، فقتلَها، وأخذ شحمَها، فلما أصبحوا، إذا هو صحيحٌ سويٌّ، فانطلقا حتى انتهيا إلى القرية، فقال صاحبُه: اعدلْ بنا ندخلْ هذه القرية، قال: إن أبي قد نهاني أن أدخلها، قال: فما قال لك؟ قال: قال: والصاحب فلا تعصِه، قال: أنا صاحبك، فلا تعصني، فدخلوا، وإذا في القرية ابنةُ ملكٍ تدخل عليها كل ليلة حتى [
…
] فيصبح معنا، فلما رأوا ابن لقمان، قال: هلم [
…
] الليلة، من شبابنا بهذا الشاب الواحد، قالوا: هلمَّ نزوجْك ابنةَ الملك، قال: لا حاجة لي فيها، قال صاحبه: افعل، قال: لا حاجة لي فيها، قال: أليس أَمَرك أبوك أن لا تعصيني؟ ففعل، فقال: إنك إذا دخلت عليها، فإنها تواتيك، فعانِقْها وقَبِّلْها، وجامعها، فإذا ما فرغتَ، فاخرجْ، فأنا لك بالباب.
فلما دخل إليها، وأتت إليه، عانقها وقبلها، ثم جامعها، فلما انتهى، خرج إلى الباب، فإذا صاحبه على الباب، معه مجمرٌ فيها [
…
] وشحم تلك الحية التي قتلها، قال: اذهب فادهن بهذا الشحم يأتي في قبلها حية، فإذا خرجت الحيةُ من قُبلها، فاقتلها، ثم شأنك بها.
قال: ففعل، فخرجت الحيةُ من قُبلها، فقتلها، ثم صنع بها ما بدا له، فلما أصبحا، إذا هو صحيحٌ سويٌّ.
قال: فانطلقوا إلى قرية غريمِ أبيه، فقال: إن أبي يُقرئك السلام، ويقول: بلغني أنك قد أيسرتَ، فلم تردَّ علينا حقَّنا، قال: تبيت عندي الليلة، فإذا أصبحتَ، أعطيتُك، فقال صاحبُه: افعل.
قال: وكانت له غرفة لها بابان: بابٌ من قِبل البر، وباب من قِبك البحر، قال: فوضع سريرًا من قِبل البر، وسريرًا من قِبل البحر، فأنامَ ابن لقمانَ على السرير الذي من قِبل البحر، وأنامَ ابنه على السرير الذي من قِبل البر، فجاء صاحبُه، فأخذ ابن لقمانَ، فأقامه على سرير ابنه، وأقام ابنه على سريرِ ابن لقمان، فجاء الرجل بالليل، فأخذ السريرَ، فألقاه في البحر، فلما أصبح إذا [....]، وابن لقمانَ صحيح، فأعطاه حقَّه، فرجع، فلما كان في الموضع الذي افترقا، قال: أَقرئ أباك مني السلام، قال: من أنتَ؛ فإني وجدتُك خيرَ صاحب؟ [........] قال أبوك: اذهب وديعة الله، بعثني الله تعالى إليك لأحفظَك.
وبه إلى البيكنديِّ: أنا أبو بكرٍ الجميليُّ: أنا أبو محمدٍ الحلوانيُّ: أنا أبو عليٍّ النسفيُّ: ثنا الحاكمُ أبو أحمدَ: ثنا نبهانُ بن إسحاقَ: ثنا الربيعُ: ثنا عبد الله بن وهبٍ: ثنا زيدٌ، عن أبيه، قال: بلغنا أن عيسى عليه السلام كان يومًا في أصحابه، إذ مر به رجلٌ، فقال: يرجع هذا ميتًا، فرجع حيًا، على [ظهره] حزمةُ حطب، فقالوا: يا نبي الله! ما من شيء حدثتناه قط إلا كان كما حدثتناه، فقال للرجل: ما أخذت من العمل؟ قال: لا شيء، إلا أنه كان معي قرصان تصدقت بأحدهما على مسكين، فقال: ضع حزمتك، فقال: اكشفها، فإذا فيها أسودُ مقطوعُ الرأس، فقال: لولا القرصُ الذي تصدقتَ به، لقتلكَ هذا الأسودُ، ولكن الصدقةَ تدفع ميتةَ السوء.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو محمدِ بن القيمِ: أنا
أبو عبد الله بن الكمال، وأبو بكرِ بن طرخانَ، قالا: أنا أبو المظفرِ السمعانيُّ. قال ابن المحبِّ: وأنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا أبو المظفرِ السمعانيُّ: أنا أبو عبد الله السعديُّ: أنا أبو إبراهيمَ النسفيُّ: أنا الإمامُ الوالدُ: ثنا الإمامُ أبو نصرٍ المزكي: ثنا الحاكمُ أبو نصرٍ: حدثني أبو العباسِ المراغيُّ: حدثني أبو حمزةَ الخراسانيُّ، قالَّ: حججتُ سنةً من السنين، فكنت أنا ورفيق لي، فوقعتُ في بئر خمسة عشر ذراعًا، فنازعتني نفسي أن أستغيث، فقلت: لا، والله! لا أستغيثُ فما استممتُ هذا الخاطرَ حتى مرَّ برأس البئر رجلان، فقال أحدُهما للَاخر: تعالَ حتى نطمرَ رأسَ البئر؛ فإنه على الطريق، فأتوا بقصب وبارية، فهممتُ أن أصيحَ، فقلت: إلى من هو أقربُ إليَّ منه؟ فسكتُّ حتى طَمُّوا البئرَ، وجلستُ إلى الليل، فإذا أنا بشيء يبحث حتى كشف عن فم البئر، وإذا بشيء قد دَلَّى رجلَه في البئر، وقائلٍ يقولُ: تعلَّقْ به، فتعلقت فإذا هو سَبُعٌ، وإذا هاتفٌ يهتف يقول: يا أبا حمزة! هذا أحسنُ، نجيناك من التلف بالتلف من البئر بالسبع (1).
أخبرنا الفخرُ المرشديُّ: أنا ابن الجزريِّ: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ ح.
وأنا جدي إذنًا: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا ابن البخاريِّ: أنا أبو المنادي: أنا أبو غالبٍ الماورديُّ: ثنا أبو علي التستَريُّ: أنا القاضي
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 177).
أبو عمرَ الهاشميُّ: ثنا أبو العباسِ محمدُ بن أحمدَ الأثرمُ: ثنا أبو زيدٍ المقرئُ: ثنا جعفرُ بن الفزرِ العابدُ، قال: كنت عند سفيانَ ابن عيينةَ، فالتفتَ إلى شيخٍ فقال: حَدِّثِ القومَ بحديث الحية، فقال: حدثني عبد الجبار: أن خميرَ بن عبد الله خرج إلى مُتَصَيَّده، فتمثلَتْ بين يديه حيةٌ، فقالت: أجرني، أجاركَ الله في ظله يومَ لا ظلَّ إلا ظله. قال: ومما أُجيركِ؟ قالت: من عدوٍّ قد رهقني يريد أن يقطعني إربًا إربًا. قال: ومن أنت؟ قالت: من أهل لا إله إلا الله. قال: وأين أخبئك؟ قالت: في جوفك إن كنتَ تريدُ المعروفَ. قال: ففتح فاه، وقال: هاكِ، فدخلتْ جوفه. فإذا رجلٌ معه صمصامةٌ، فقال: يا خمير! أين الحية؟ قال: ما أرى شيئًا. قال: سبحان الله! قال: نعم، سبحان الله! ما أرى شيئًا. فذهب الرجل، فأطلعت الحيةُ رأسَها، وقالت: يا خمير! أتحس الرجل؟ قال لها: قد ذهب. قالت: فاختر مني أحد خصلتين: أن أنكتك نكتة فأقتلك، أو أفرث كبدك فتلقيه من أسفل قطعًا. قال: والله! ما كافأتني؟ قالت: حين تضع المعروف عند من لا يعرفه، وقد عرفتَ عداوةَ ما بيني وبين أبيك قديمًا، وليس معي مال فأعطيك، ولا دابةٌ فأحملك. قال: فأمهليني آتي سفحَ هذا الجبل، فأمهدَ لنفسي، فبينا هو يمشي، إذا بفتى حسنِ الوجه، طيبِ الريح، حسنِ الثياب، فقال له: يا شيخ! مالي أراك مستسلمًا للموت، آيسًا من الحياة؟.
قال: من عدوٍّ في جوفي يريد هلاكي. قال: فاستخرجَ شيئًا من كمه، فدفعه إليَّ، وقال: كُلْها، ففعل، فأصابه مغص شديد، ثم ناوله
أخرى فأكلها، فرمى بالحية من أسفله قطعًا. فقال: من أنت يرحمك الله، فما أحدٌ أعظم علي مِنَّةً منك؟ قال: أنا المعروف، إن أهل السماء لما رأوا غدرَ الحيةِ بك، اضطربوا، كُلٌّ يسأل ربَّه أن يُغيثك، قال الله تعالى: يا معروف! أدرك عبدي، فإيايَ أرادَ بما صنع (1).
وبه إلى ابن البخاريِّ: ثنا إسماعيلُ بن عثمانَ: ثنا أبو الأسعدِ هبةُ الرحمن: أنا جدي عبد الكريمِ: أنا أبو الحسينِ بن بشرانَ: ثنا أبو عمرِو بن السماكِ: ثنا محمدُ بن عبد رَبِّهِ: ثنا بشرُ بن عبد الملكِ: ثنا موسى بن الحجاجِ، قال: قالَ مالكُ بن دينارٍ: ثنا الحسنُ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال: كان رجلٌ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَتَّجِر من بلاد الشام إلى المدينة، ومن المدينة إلى بلاد الشام، ولا يصحبُ القومَ، قال: توكلاً منه على الله عز وجل.
قال: فبينا هو جاء من الشام يريد المدينة، إذ عرض له لص على فرس، فصاخ بالتاجر [
…
].
قال: فوقف له التاجرُ، وقال لهُ: شأنك بمالي، وخَلِّ سبيلي.
قال: فقال له اللصُّ: المالُ مالي، وإنما أريدُ نفسَك.
فقال التاجر: ما ترجو بنفسي؟ شأنك بالمال، وخَلِّ سبيلي.
قال: فرد عليه اللص مثلَ المقالة الأولى.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 293 - 294).
فقال له التاجر: أَنظرني حتى أتوضأ، وأصليَ، وأدعوَ ربي عز وجل.
قال: افعلْ ما بدا لك.
قال: فقام التاجر فتوضأ، وصلى أربع ركعات، ثم رفع يديه إلى السماء، فكان من دعائه أن قال: اللَّهمَّ يا وَدودُ، يا وَدودُ، يا ذا العرش المجيد، يا مبدئُ يا معيدُ، يا فعال لما يريد، أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركانَ عرشك، وأسألك بقدرتك التي قدرتَ بها على خلقك، وبرحمتك التي وسعَتْ كل شيء، لا إله إلا أنت.
يا مغيثُ أغثني، يا مغيثُ أغثني، يا مغيثُ أغثني -ثلاث مرات-.
فلما فرغ من دعائه، إذ بفارس على فرسٍ أشهبَ، عليه ثيابٌ خضر، بيده حربةٌ من نور.
فلما نظر اللصُّ إلى الفارس، ترك التاجر، ومر نحو الفارس، فلما دنا منه، شدَّ الفارسُ على اللص، فطعنه طعنةً أرداه عن فرسه، ثم جاء إلى التاجر، فقال له قم فاقتلْه، فقال له التاجر: ممن أتيت، فما قتلتُ أحدًا قطُّ، ولا تطيبُ نفسي بقتله، فرجعَ الفارس إلى اللص وقتله، ثم جاء إلى التاجر، وقال: اعلمْ أني مَلَكٌ من السماء الثالثة، حينَ دعوت الأولى سمعنا لأبواب السماء قعقعةً، فقلنا: أمرٌ حدثَ، ثم دعوتَ الثانية، ففتحت أبواب السماء، ولها شرر كشرر [....]، ثم دعوت الثالثة، فهبط جبريل من قبل السماء وهو ينادي: مَنْ لهذا المكروب؟ فدعوتُ ربي أن يوليني قتلَه.
فاعلم يا عبد الله: أنه من دعا بدعائك هذا في كل كربة وكل شدة وكل نازلة، فَرَّجَ الله عنه، وأغاثه.
قال: وخرج التاجر سالمًا غانمًا حتى دخل المدينة، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره القصة، وأخبره بالدعاء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ سأل الله بأسمائه الحُسْنَى الَّتِي إِذَا دُعِيَ بِهَا أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهَا أَعْطَى".
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا أبو محمدٍ عبد الرحمن بن عبد الواحدِ، وجَدِّي أبو العباسِ، قالا: أنا عبد الله الخشوعيُّ: أنا أبي: أنا أبو محمدِ بن الأكفانيِّ: أنا أبو محمدٍ الكنانيُّ: أنا أبو نصرٍ المريُّ: أنا ابن زَبرٍ: أنا أبي: ثنا عبد الله بن مسلمٍ، عن داودَ بن أبي العباسِ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: بعثَ بي المنصورُ إلى ابن أبي ذئبٍ، أسألُ عن مسألة، فقال: ما هي؟ فذكرتها له.
فقال: لا يراني الله عز وجل أفتي جبارًا مثلَه في مسألة فيها ضررٌ على المسلمين.
قال: فرجعتُ إلى المنصور مغضبًا، فعرف في وجهي ذلك.
فقال: لقد جئتَ بغير الوجه الذي ذهبتَ به.
فقلت: تبعثُ بي إلى مجنون! ثم أخبرته.
فقال المنصور: الذي لقيتُ أنا منه العامَ في الطواف أشدُّ من هذا، كنت بالأسواق إلى أن أراه، فبينا أنا أطوف، إذ قال لي المسيبُ: ألستَ كنتَ تسألُ عن ابن أبي ذئبٍ؟ فقلت: بلى، قال: هو ذا
هو [.....]، فأتيته فقلتُ: السلامُ عليكم ورحمة الله، فناولته يدي، [....] بعينيه في وجهي، فقال: من أنت؟ فلقد أخذتَ بيدي أخذَ جبارٍ.
قلت: أوما تعرفني؟
قال: لا.
قلت: أنا أبو جعفر المنصور.
قال: فجذب يدَه من يدي، وقال:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الَآية، قال: قلت: يا أمير المؤمنين! فما صنعتَ به؟ قال: ما عسيت أن أفعل برجلٍ اللهُ في قلبه عظيم.
وبه إلى ابن زَبْرٍ: أنا أبي، قال: ذكر عبد الجبارِ بن سعيدٍ، عن أبيه، عن محمدِ بن إبراهيمَ، قال: حضرتُ أبا جعفرٍ المنصورَ بالمدينة، وعندَه ابن أبي ذئب، فقال له أبو جعفرٍ: يا بن أبي ذئب! أخبرني بحالات الناس.
فقال: يا أمير المؤمنين! هلك الناس، وضاعت أمورُهم، فلو اتقيتَ الله فيهم، وقسمت بينهم فيهم فيئهم.
فقال: ويلَكَ يا بن أبي ذئب! لولا ما بعثنا بذلك الفيء من البعوث، وسدَدْنا به من الثغور، لأُتيت في منزلك، وأُخذت بعنقك، وذُبحت ذبحَ الجمل.
فقال ابن أبي ذئب: يا أمير المؤمنين! قد بعثَ البعوثَ، وسدَّ الثغورَ، وقسمَ فيهم فيئَهم غيرُك.
قال: ويلَكَ! ومن ذاك؟
قال: عُمَرُ بن الخطاب.
قال: فأطرقَ أبو جعفرٍ إطراقةً، ثم رفعَ رأسه، فقال: إن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه عمل بزمان، وعملنا لغيره.
فقال: يا أمير المؤمنين! إن الحق لا ينقله الزمان عن مواضعه، ولا يغيره عن وجهه.
قال: أحسبُك يا بن أبي ذئب إمامًا على السلطان.
قال: لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين، فوالذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه! لَصَلاحُك أحبُّ إليَّ من صلاحِ نفسي، وذلك أن صلاحي لنفسي لا يعدوها، وصلاحك لجميع المسلمين.
قال: فأطرق أبو جعفرٍ، وابن المسيَّبِ، والحرسُ قيامٌ على رأسه بأيديهم السيوفُ المسللة، ثم رفع رأسه وقال: من أراد أن ينظر إلى خير أهل الأرض اليومَ، فلينظر إلى هذا الشيخ، ولوى إلى ابن أبي ذئب، قال: فقلتُ في نفسي، أشهد أن الله وليُّ الذين آمنوا، وهو منجي المتقين.
وبه إلى ابن زبرٍ، أنا أبي: أخبرني عبد الله بن مسلمٍ، عن أحمدَ بن يحيى، عن محمدِ بن إدريسَ الشافعيِّ، قال: قدم أبو جعفرٍ المنصورُ المدينةَ حاجًّا، فأتته الوفودُ من كل بلدٍ يشكون إليه الأمراء.
فأتاه أهل اليمن يشكون معنَ بن زائدةَ، وأتاه بنو أبي عمرٍو الغفاري من أهل المدينة يشكون أميرهم الحسنَ بن زيدٍ.
فقال وفدُ اليمن لأبي جعفرٍ المنصورِ -وقد أحضرَ ابن أبي ذئب والعلماءَ-: يا أمير المؤمنين! إن معنَ بن زائدةَ قد تعدَّى علينا، [.......] وقد رضينا بابن أبي ذئبٍ.
فقال له أبو جعفرٍ المنصورُ: ما تقول في معنِ بن زائدة؟
قال: قولي فيه وعلمي: أنه عدوُّ الله عز وجل، يقتلُ المسلمين بغير حق، والمعاهَدين، وحكمَ بغير ما أُنزِل، ويُفسد العبادَ والبلاد.
قال: ثم تقدم الغِفاريون يشكون الحسنَ بن زيدٍ، وسيرتَه فيهم، فقالوا: قد رضينا بابن أبي ذئب، فأطبقَ عليه ابن أبي ذئب بسوء.
فقال الحسنُ بن زيدٍ: يا أمير المؤمنين! قد ذكرني بما قد ذكر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسأله عن حال أمير المؤمنين عنده.
فقال أبو جعفر: ما تقول فيَّ يا بن أبي ذئب؟
قال: أَعْفِني.
قال: عزمتُ عليك.
قال: أَعفني.
قال: لستُ أفعل.
قال: فبكى ابن أبي ذئب، ثم قال: تسألُني عن نفسِك؟ أنتَ أعلمُ بنفسك مني، وما عسى أن أقول فيك، مما فيك، وأنت والله الرجلُ
الذي اتزرت المسلمين أمرهم، ظلمتَهم، واعتديتَ عليهم، وسفكتَ الدماءَ الحرام، وأخذتَ الأموالَ من غير حِلِّها، ووضعتَها في غير حَقِّها، وأهلكت المسلمينَ، والفقراء واليتامى والمساكين.
قال محمدُ بن إبراهيم. وبين يَدَي أبي جعفر عمودٌ، فجمع الناسُ عليهم ثيابهم مخافةَ أن تتلطخ عليهم من دمه ودماغه، فلم يهجه بشيء، وانصرف الناس.
فقال عمُّ أبي جعفر؟ يا أمير المؤمنين! إن هذا مجلسٌ قد حضره أهلُ الآفاق، وينصرفون إلى البلاد، فيخبرون بما كان إلى أمير المؤمنين من الجرأة، فلو قتلت هذا الكلب لئلا يجترئ عليك غيره من الناس.
فقال أبو جعفر: ويحكَ! هذا رجل قد بلغتْ منه صعوبةُ العبادة، وقد سمع الحديثَ:"إِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ قَالَهَا عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر، فَقُتِلَ عَلَيْهَا"(1)، فَطَمِعَ أني أقتلُه، فيصير إلى الجنة، وأُريحه مما هو فيه من صعوبة العبادة، ولا والله! ما أهيجه حتى يموتَ أو أموتَ.
أخبرنا جدِّي: أنا ابن الصلاحِ: أنا ابن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ابن الجوزيِّ: ثنا ابن ناصر ح.
وأنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا ابن ناصرٍ: أنا المباركُ بن عبد الجبارِ: أنا أبو القاسمِ الأزجيُّ: أنا أبو الحسينِ بن جهضمٍ: حدثني أبو الحسنِ
(1) رواه أبو داود (4344)، عن أبي سعيد رضي الله عنه.
السيروانيُّ، قال: قال أبو القاسمِ سمنونُ: دخلت عبادانَ، فسألتُ عن شيخٍ أسالم قلبه، وآنس به، فقيل لي: ما بقي عندنا أحدٌ، إلا وقد رأيتَه، وما بقي لنا غيرُ شيخٍ في البحر، قد نقرَ لنفسه ساجةً، وهو يتعبد فيها منذ ثلاثين سنة، وربما ألقتْه الريح ههنا في كل سنة مرةً أو مرتين، فكأَن نفسي تشوقت إليه، فلما كان في بعض الأيام، قيل لي: إن الرجل قد وصل.
قال سمنون: فخرجتُ أنظر إليه، فإذا رجلٌ شيخٌ جالسٌ في ساجةٍ منقورة، حسنُ السمت، فسلمتُ عليه، فردَّ عليَّ السلامَ، فقلت له: إني سائلكَ عن مسألة.
فقال: دَعْني من هذا، فإني أريد أن أسألك عن مسألة.
قال سمنون: فقلت له: سَلْ، فقال: إنَّ ذَكَري يجري كمَنْخِرَيِ الثورِ، فما أعمل؟ فقلت له: ما عليكَ أكثرُ من أن تنترَ ثلاثًا، وما عدا ذلك فليس عليك.
قال سمنون: فقلت له: حدثني بأشدِّ ما رأيتَ في هذا البحر من الوحشة.
فقال: ما يمكن، ولكن هَبَّتْ في بعض الليالي ريحٌ عظيمة، وأظلمَ البحرُ وجنَّ، حتى ما رأيتُ مثلَه قَطُّ إن شاء الله، فداخَلَني من ذلك وحشةٌ عظيمة، فطلبت شيئًا يزيل عني تلك الوحشةَ، فإذا أنا بتنيني عظيمٍ فاتحٍ فاه، وألقتني الساجةُ نحوه، فدخلتُ في فيه، وجلستُ على نابٍ من أنيابه، وصليت ركعتين، فزال عني ما كنت أجدُ من الوحشة.
وبه إلى ابن جهضمٍ: أنا أبو بكرِ بن الجلندي: سمعت أبا عبد الله بن الجلاءِ يقول: كنا في غرفة سَرِيٍّ ببغدادَ، فلما ذهب من الليل بعضُه، قام فلبس قميصًا نظيفًا، وسراويل، ولبس نعلًا ورديًا، وخرج، فقلت له: يا عم! إلى أين تمر في هذا الوقت؟ فقال: أعود فتحًا -يعني: الموصليَّ-، فلما مشى في الطريق، لقيه صاحبُ الليل، فأخذه وحبسه، فلما كان من الغد، عُرض مع من عُرض من المحبسين، وأمر الجلاد بضربهم، فقدِّموا واحدًا بعد آخر، فقدَّموا سَرِيًّا، وأمر الجلاد بضربه، فلما رفع الجلاد يده ليضربه، وقفت يدُ الجلاد لمْ
تتحرك، فقال صاحب العمل للجلاد: اضربْ ويلَكَ!.
قال: بحذائي شيخٌ واقفٌ يومئ إليَّ أن لا أضربَه، فتقف يدي لا تتحركُ، فقال صاحب الشرط: انظروا مَنْ هذا الرجل. قال: فلما رآهم قد أقبلوا إليه، ولَّى، ولقيه رجلٌ، فسلم عليه، فقال للرجل: من هذا الذي سلمتَ عليه؟ قال: وإيش سؤالك عن هذا؟ فقلت: أسألك من هو؟ فقال: هو فتحٌ الموصليٌّ، فأخبر صاحب الشرطة، فقال: أطلقوه، هذا من أصحاب فتح، وسألوا عنه.
قال: فتبعناه حتى سلَّم عليه رجل، فسألنا عنه، فقيل: هذا سَرِيٌّ السَّقَطيُّ.
أخبرنا أبو العباسِ بن هلالٍ، قال لي: عن ابن المحبِّ، عن النابلسيِّ، عن الواسطيِّ، عن الشيخِ موفقِ الدين. وأنا جماعةٌ من شيوخنا، عن ابن المحبِّ، عن المزيِّ وابنته، عن ابن أبي عمرَ، وابن البخاريِّ، عن الشيخِ موفقِ الدينِ: أنا السِّلَفيُّ: أنا الحسينُ بن
الطيوريِّ: أنا أبو القاسم عبد العزيزِ بن أحمدَ: ثنا الحسنُ بن عليِّ بن جهضمٍ: ثنا عليُّ بن هارونَ: ثنا محمدُ بن مخلدٍ: حدثني الفتحُ بن شخرفٍ، قال: تعلق رجلٌ بامرأةٍ ببابِ دمشقَ، [.......] بيده سكينٌ، لا يدنو منه أحدٌ إلا عصره، وكان الرجلُ شديدَ البدن، وبينما الناس كذلك، والمرأة تصيحُ في يده، مرَّ بشْرُ بن الحارثِ، فدنا منه، وحكَّ كتفَه بكتفِ الرجلِ، فوقع الرجلُ إلى الأرض، ومضى بشرٌ، فدنَوْا من الرجل وهو يرشَحُ عرقًا، ومضتِ المرأةُ لحالها، فسألوه: ما حالك؟ فقال: ما أدري، ولكن حاكني شيخ، فقال: إن الله ناظرٌ إليك وإلى ما تعمل، فضعف لقوله قدمي، وهِبْتُه هيبةً شديدةً، فلا أدري مَنْ ذلك الرجلُ.
فقالوا له: ذلك بِشْرُ بن الحارثِ، فقال: واسوءتاه! فكيف ينظرُ إليَّ بعدَ اليوم؟ وَحُمَّ الرجلُ من يومه، ومات يوم السابع.
وقد أخبرنا جدِّي وغيرُه: أنه كان بالصالحية رجلٌ من الأخيار يقال له: الرزين، وكان يوصف بالشطارة، وأنه مر مرة وعشر مماليكَ قد أمسكوا امرأةً وهي تصيح، فقال لهم: أَطلقوها، فزمجروا عليه، ولم يمعنوا به، فقال لهم: أطلقوها، [.....] فحمل عليه أحدُهم، وليس معه سلاحٌ ولا غيره، وفي رجله بروةُ قبقاب، فأخذ بزرة منه، وضربه، فرماه، فحمل عليه الثاني، فضربهم بالحجارة حتى بطحَ العشرةَ، وحلت المرأة، وأطلقها، وهشمهم، وأتلفهم، فنزلوا إلى أستاذهم، وكان نائبَ دمشقَ، فشكَوْا عليه إليه، فأرسل إليه عشرين مملوكًا، فخرج عليهم، فقتلهم وهشمهم، وذهبوا إلى [....]
حال، فرجعوا إلى أستاذهم يشكون عليه، فلما أن دخلوا عليه، وإذ به قد دخل، فقالوا: هذا، فنظر إليه، وقال: هذا وحده؟ قالوا: نعم، قال: لم يكن معه أحد؟ قالوا: لا، قال: عليَّ بخِلْعَةً، فألبسَه، وقال: أنا محتاجٌ إلى مثلِك في عسكري.
وأخبرنا عنه: أنه مرة قام صوت على حرامية بالليل، فخرج إليهم، فجعل يجري خلف الواحد منهم، فيمسكه ويأتي به إلى حلقة الباب، فيدخل يده فيها، ويكبس عليها بيده، فيطبقها على يده، ثم يذهب إلى الَآخر كذلك، حتى أمسكَ منهم عدةً، وفعلَ بهم ذلك، فأصبحوا في حِلَقِ الأبواب مقيدين.
وأخبرنا عنه: أنه كان قد جاء إلى قُبَّهِ سَيَّارٍ عبدٌ، وجعل يقطع الطريقَ على الناس، فأُخبر به هذا الرجلُ، فلبس فرجيته وقبقابه، وصعد إليه يتمشى في الجبل، فلما رآه وقصده، فجعل يمشي نحوه، وهو يمشي نحوه غيرَ مكترث به، فلما دنا منه، نظر إليه، وقال: بالله ما أنت سيدي الرزين؟ فقال: بلى والله! أنا سيدُك الرزين، فلما قال له ذلك، رمى سيفه وجحفته، وأكبَّ على رجله فقبلها، وقال: أنا تائبٌ على يدك، فقال له: اذهبْ في حال سبيلك، وتركه ونزل، فما رئي بعد ذلك.
وكان آخَرُ يقال له: الزين، وكان قد تزوج جدتي قبل جدي، فكانت تخبرنا عنه بالعجب، وأنه كان لا يزال يقوم على الخمَّارين والسكرية، وأنهم كانوا مجمعون، وياتونه، وأنه كان يضع القصب، وينزل في البئر، ويصعد عليها على السطح، ويفعل الأحوال العجيبة.
أخبرنا الحافظُ أبو العباسِ إذنًا، وأنا جماعةٌ عنه: أنا أبو المعالي الأرمويُّ: أخبرتنا عائشةُ بنتُ عليٍّ: أنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا البوصيريُّ: أنا الأرتاحيُّ: أنا ابن الفراءِ: أنا ابن الضرابِ: أنا أبي: أنا أبو بكرٍ الدينوريُّ: سمعتُ ابن قتيبةَ يقولُ: سمعت دِعْبِلاً يقول: أُدخلتُ على المعتصم، فقال لي: يا عدوَّ الله! أنت الذي تقول في بني العباس: إنهم في الكتب أنهم سبعة؟ وأمرَ بضربِ عنقي، وما كان في المجلس إلا من كان عدوًّا لي، وأشدُّهم عليَّ ابن شكلةَ، فقام قائمًا، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا الذي قلتُ هذا، ونميته إلى دعبل.
فقال له: وما أردتَ بهذا؟ قال: لما تعلم ما بيني وبينه من العداوة، فأردت أن أشيط بدمه.
قال: فقال: أطلقوه. فلما كان بعد مدة قال لابن شكلة: سألتُك بالله أنتَ الذي قلته؟ فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، وما نظرة أنظر أبغض إليَّ من دعبل.
فقال له: فما الذي أردتَ بهذا؟ قال: علمتُ أن ما له في المجلس عدو أعدى مني، فنظر إليَّ بعين العداوة، ونظرتُ إليه بعين الرحمة.
فقال: جزاك الله خيرًا، أو نحو ذلك.
وبه إلى الدينوري: ثنا أبو حصينٍ، قال مر داودُ القصابُ بامرأة عند قبر وهي تبكي، فَرَقَّ لها، فقال لها: من هذا الميتُ منك؟ قالت: زوجي. قال: وما كان يعمل؟ قالت: كان يحفر القبور. قال: أبعدَه الله، أما علمَ أن من حفرَ لأخيه المسلم حفرةً وقعَ فيها؟
أخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ، أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ابن الجوزيِّ: أنا ابن ناصرٍ: أنا أبو علي الحسنُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن أحمدَ بن أبي الفوارسِ: ثنا الحاكمُ أبو أحمدَ: ثنا محمدُ بن إسحاقَ: ثنا محمدُ بن وهبٍ: أخبرني أحمدُ بن سنانَ: أخبرني سيارٌ، قال: قرأ رجل على شيبان الراعي: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].
قال: فذهبَ على وجهه، فلم يُرَ سنةً، قال: فلما كان بعدَ الحول، لقيه رجلٌ فقال: من أين؟ فقال: من ذلك الحساب الدقيق {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].
أخبرنا أبو العباسِ الحريريُّ: أنا المشايخُ الثلاثةُ: أنا المزيُّ، وأنا ابن المحبِّ، قالا: أنا ابن أبي عمرَ، وابن البخاريِّ: أنا شيخُ الإِسلامِ موفقُ الدينِ: أنا السِّلَفِيُّ: أنا ابن الطيوريِّ: أنا عبد العزيزِ بن عليٍّ: أنا ابن الحسنِ بن جهضمٍ: ثنا حبيبٌ: ثنا الفضلُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن مرزوقٍ: حدثني أبي: حدثتني أمةُ الملكِ بنتُ هشامِ بن حسانَ، قالت: خرجَ عطاءٌ الأزرق إلى الجبان يصلي بالليل، فعرض له لصٌّ، فقال: اللهمَّ اكْفِنيه، قال: فجفَّت يداه ورجلاه، قال: فجعل يبكي ويقول: والله! لا أعود أبدًا، قال: فدعا الله له، فأطلق، فاتبعه اللص، فقال له: أسألك بالله من أنت؟ قال: أنا عطاءٌ، فلما أصبحَ، سأل الناسَ: هل تعرفون رجلاً صالحًا يخرج بالليل إلى الجبان يصلي؟ قالوا: نعم، عطاء السُّلَمي.
قال: فذهب إلى عطاء السلمي إلى الخربة، فدخل عليه، وقال: إني جئتك تائبًا من قصتي كذا وكذا، فادعُ الله لي، قال: فرفع عطاءٌ السلميُّ رأسَه إلى السماء، وجعل يبكي ويقول: ويحك! ليس أنا، ذاك عطاء الأزرق [
…
] عن نفسه.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ العكبريُّ: أنا أبو بكرِ بن أبي طاهرٍ: ثنا محمدُ بن عليٍّ: ثنا محمدُ بن عبد الله: أنا ابن بشرانَ: أنا أبو بكرٍ القرشيُّ: ثنا محمدُ بن إدريسَ: ثنا أحمدُ بن أبي الحواريِّ: ثنا زيدُ بن عبيدٍ، عن خليدٍ، عن الحسنِ، قال: أحرقت خِصاصُ البصرة، وبقي في وسطها خُصٌّ لم يحترق، وأميرُ البصرة يومئذ أبو موسى الأشعري، فخبر بذلك، فبعث إلى صاحب الخص، فأُتي به، فماذا شيخٌ، فقال: يا شيخ! ما بالُ خُصِّك لم يحترقْ؟ قال: إني أقسمتُ على ربي ألا يحرقه، قال أبو موسى: أما إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَكُونُ في أُمَّتِي رِجَالٌ طُلْسٌ رُؤُوسُهُمْ، دُنْسٌ ثِيَابُهُمْ، لَوْ أَقْسَمُوا عَلَى الله لأَبَرَهُمْ".
أخبرنا أبو العباس الحريريُّ: أنا المشايخُ الثلاثةُ: أنا المِزِّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ، أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا عبد الرحمن: أنا أحمدُ بن عليٍّ: حدثني عبد الغفارِ بن عبد الواحدِ: حدثني أبو الحسنِ بن حميدٍ، قال: سمعتُ أبا ذَرٍّ الهرويَّ يقول: كنت عند أبي الفتحِ القواس، وقد أخرج جزءًا من كتبه، فوجد فيه قرض الفأر، فدعا الله عز وجل على الفأرة التي قرضته، فسقطت من سقف البيت
فأرة، ولم تزل تضطرب حتى ماتت (1).
فاحذرْ بأن تؤذي الصالحين أن تصير إلى حال الفأرة.
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو منصورٍ: أنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا أبو نعيمٍ: سمعتُ محمدَ بن الحسينِ يقول: سمعتُ الحسنَ بن الرازيِّ يقول: سمعتُ أبا عليِّ الروذبارِيَّ يقول: كان سببُ دخولي مصرَ حكايةَ بنانَ، وذلك أنه أمر ابن طولونَ بالمعروف، فأمر أن يُلقى بين يَدَيِ السَّبُعِ، فجعل السبعُ يشمه ولا يضرُّه، فلما أُخرج من بين يدي السبع، قيل له: ما الذي كان في قلبك حيث شمك السبعُ؟ قال: كنت أتفكر في سؤر السباع ولُعابها (2).
وبه إلى الإمام أبي الفَرَجِ: أنا عبد الرحمن بن محمدٍ: أنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا عبد العزيزِ بن عليٍّ: سمعتُ عليَّ بن جهضمٍ يقول: حدثني عمرُ النجارُ، قال: دخل أبو الحسين النوريُّ إلى الماء يغتسل، فجاء لصٌّ فأخذ ثيابه، فخرج أبو الحسين من الماء، فلم يجد ثيابه، فرجع إلى الماء، فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء اللصُّ معه ثيابُه، فوضعها مكانها، وقد جفت يدُه اليمنى، فخرج أبو الحسين من الماء، ولبس ثيابه، وقال: يا سيدي! قد ردَّ عليَّ ثيابي، فردَّ عليه يدَه، فرد الله عليه يدَه، ثم مضى (3).
(1) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(14/ 325).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 324).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 251).
وقد كان مرة جاء إلى دمشق حرامي من مصر، [.......] وهو يسرقهم، ولا يقدر عليه، فنزل على الشيخ عبد الرحمن أبو شعر، شيخِ الحنابلة في وقته في شهر رمضان في العشر الأخير، فأخذ [
…
] وذهب، فلم يمض عليه غيرُ ثلاث ليالٍ حتى أمسك من غير [
…
].
فنزل على امرأةٍ ليس لها رجل، ولا عندها أحدٌ، فقال لها: أين المال؟ قالت: في هذا المخدع، فدخله، فغلقت الباب عليه، وسكَّرته، وصاحت، فجاء الناس فأمسكوه بغير كلفة، فانظر كيف أُمسك بأيسر كُلفة ولا ضربة، فكان الناس يعدُّون ذلك من بركة الشيخ وفضله، ويقولون: لحوم العلماء مسمومة، وإنه من تجرأ عليهم، لم يمهله الله عز وجل.
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو منصورٍ القزازُ: أنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا أحمدُ بن عبد الله: أنا جعفرُ بن محمدٍ: ثنا أبو العباسِ بن مسروقٍ، وأبو محمدٍ الحريريُّ، وأبو أحمدَ المغازليُّ، وغيرُهم، عن إبراهيمَ الآجريِّ: أنه جاءه يهوديٌّ يتقاضاه شيئًا من ثمن قصب، فكلمه، فقال له: أرني شيئًا أعرف به شرفَ الإِسلام وفضلَه على ديني حتى أُسلم، قال له: وتفعلُ؟ قال: نعم، فقال له: هات رداءك، قال: فأخذه فجعله رداءً لنفسه، ولفَّ رداءه عليه، ورمى به في النار، نارِ تنورِ الآجرِّ، ودخل في أثره، فأخذ الرداء، وخرج من النار، ففتح رداءَ نفسه وهو صحيح، وأخرجَ رداءَ اليهودي من داخله حراقاً أسود من وسط جوف رداء نفسه، فأسلم اليهوديُّ في الحال (1).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 223).
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو بكرٍ العامريُّ: أنا عليُّ بن أبي صادقٍ: أنا أبو عبد الله بن باكويه: حدثني عيسى بن يوسفَ: ثنا أحمدُ بن محمد الزنجانيُّ، قال: سمعتُ أبا عليٍّ البصريَّ، وأبا نصرٍ الروميَّ، قالا: سمعنا أبا الحارثِ الأولاسيَّ يقول: أقبلتُ من جبل اللكامِ مع أبي إسحاقَ العلويِّ، وكان أبو إسحاقَ لا يأكلُ إلا في كلِّ ثلاثةً سَفَّاتِ خرنوبٍ، فلقينا امرأةً، وقد سَخَّر جنديٌّ حمارًا لها، فاستغاثت بنا، فكلَّمه العلويَّ، فلم يردَّهُ عليها، فدعا عليه، فخرَّ الجنديُّ والمرأةُ والحمارُ، ثم أفاقت المرأة، ثم أفاق الحمار، ومات الجندي.
فقلت: لا أصحبُك؛ فإنك مستجابُ الدعوة، وأخشى أن يبدوَ مني سوءُ أدب، فتدعوَ عليَّ فقال: لستَ تأمنُ؟ قلت: لا، قال: فأقللْ إذًا من الدنيا ما استطعتَ.
ولقد رأينا كثيرًا من المؤذية لم يمهلهم الله عز وجل حتى يبلغوا مناهم، وقد رأينا كل من بغى وتعدى على الناس لم يمهل إلا يسيرًا حتى أُخذ، والمؤذي قصيرُ العمر، وإنما يستطوِلُ الناسُ أعمارَهم؛ لسآمة النفوس من أذاهم، وتَلْقاهم يُصيبهم من الأذى أكثرُ مما يؤذون الناس، وما قطُّ بغى قومٌ إلا قَرَضهم الله قرضًا سريعًا.
وقد رأينا غيرَ طائفة يبغون، فيمحقهم الله كلَّهم سريعًا، ويصيرون في حال الضرورة، وكان رجل في زمننا، يقال له: أبو كلب، كان غالبُ الناس يخاف منه، ويتقي شرَّه، حتى الحكامُ لم تكن تقدر عليه، وتعجز عنه، وقد لقيتُه قبل قتله بمدة، فقلت له: كيف أنت؟
فقال: بشرٍّ والله يا شيخ، ليس نومنا نوم، ولا نهارنا نهار، ونحن
في حال الضرورة، لا نقدر ننام في بيوتنا ليلة واحدة، ولا نأكل كل لقمة.
فقلت: لا إله إلا الله، انظروا إلى هؤلاء كيف هم مع ما هم فيه من البغي!
فما مضت مدة يسيرة حتى سكر، وجاء إلى باب بعض الحكام سكران، فأُمسك فقُتل.
* وهم قوم لم تخف أنفسُهم إلا من الله.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا ابن ناصرٍ: أنا المباركُ بن عبد الجبارِ: أنا محمدُ بن عليٍّ: أنا محمدُ بن عبد الله: ثنا الحسينُ بن صفوانَ: أنا أبو بكرٍ القرشيُّ: ثنا محمدُ بن يحيى: أنا جعفرٍ الرازيُّ، عن أبي حفصٍ السائحِ: أنا أبو وهبٍ وغيرُه: أنَّ عامرَ بن عبد قيسِ هبط واديًا يقال له: وادي السباع، فخُوِّفَ منه، فقال: عَظُمَتْ هيبةُ الله في صدري، حتى ما أهابُ شيئًا غيرَه، واكتنفَتْه السباعُ، فجاء سَبُعٌ منها، فوثبَ عليه من خلفه، فوضعَ يديه على مَنْكِبيه وهو يتلو هذه الَآية:{ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] فلما رأى السبعُ أنه لا يكترثُ، ذهب، فقيل له: ما هالَكَ ما رأيت؟ قال: إني لأستحي من الله عز وجل أن أهابَ شيئًا غيرَه (1).
أخبرنا جدِّي وغيرُه: أنا ابن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 89).
ابن الجوزيِّ: أنا سعدُ الله بن عليٍّ، ومحمدُ بن عثمانَ الأياميُّ: أنا الطريثيثيُّ: أنا ابن الطيوريِّ: أنا عبد الله بن مسلمٍ: أنا الحسنُ بن إسماعيلَ: أنا عمرُ بن سويدٍ: ثنا يوسفُ بن عطيةَ: ثنا المعلى بن زيادٍ، عن عامر بن عبد قيسٍ: أنه مرَّ بقافلةٍ قد حبسَهُم الأسدُ من بين أيديهم على طريقهم، فلما جاء، نزل عن دابته، فقالوا له: إنا نخافُ عليك من الأسدِ، فقال: إنما هو كلبٌ من كلاب الله عز وجل، إن شاء أن يسلِّطه، سلَّطه، وإن شاء أن يكفَّه، كَفَّه، فمشى إليه حتى أخذ بيديه أُذني الأسدِ، فنحّاه عن الطريق، وجازت القافلةُ، فقيل له: أما خِفْتَه؟ فقال: إني لأستحي من الله عز وجل أن يَرى من قلبي أني أخافُ من غيره.
ومَرَّ مرةً على أَجَمَة، فقيل له: إنا نخافُ عليك منها الأسدَ، فقال: إني لأستحي من الله عز وجل أن أخاف غيره.
وبه إلى ابن الجوزيِّ: أنا أحمدُ بن أبي منصورٍ: أنا المؤتمنُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن محمدٍ: أنا أبو عبد الرحمن السلميُّ: أنا أبو الحسنِ الجرجانيُّ: أنا أبو عوانةَ: ثنا ابن أبي الدنيا: ثنا هارونُ بن عبد الله: ثنا إبراهيمُ بن مهديٍّ: ثنا عمرانُ بن مسلمٍ: ثنا أبو مسكينٍ، قال: قال عامرُ بن عبد قيس: مَنْ خافَ الله، أخافَ الله منه كلَّ شيء، ومن لم يخفِ الله، أخافَه الله من كلِّ شيء (1).
أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا أبو الحسنِ الإمامُ: أنا المحبوبيُّ:
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 191).
أخبرتنا ستُّ الأهلِ بنتُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المُذْهبِ: ثنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن الإمامِ أحمدَ: حدثني أبي: ثنا أحمدُ بن الحجاجِ: أنا عبد الله بن المباركِ: أنا المستلمُ بن سعيدٍ: ثنا حمادُ بن جعفرٍ: أن أباه أخبره، قال: خرجنا في غَزاة إلى كابل، وفي الجيش صلَةُ بن أَشْيَمَ، فبركَ الناسُ عند العتمة، فقلت: لأرمقنَّ عملَه، فأنظرَ ما يذكرُ الناسُ من عبادته، فصلَّى العتمةَ، ثم اضطجعَ، فالتمسَ غفلةَ الناس، حتى إذا قلت: هدأتِ العيونُ، وثبَ، فدخل غيضة قريبًا منه، فدخلت في أثره، فتوضأ، ثم قام يصلي.
قال: وجاء أسد حتى دنا منه، قال: فصعدتُ في شجرة، قال: فتراه التفت إليه أو [
…
] حتى سجد، فقلت: الَآن يفترسه، فجلس ثم سلم، فقال: أيها السبع! اطلبِ الرزقَ من مكان آخر، فولَّي، وإن له لزئيرًا يصدع الجبال، فما زال كذلك، فلما كان عند الصبح، جلس فحمِدَ الله عز وجل بمحامدَ لم أسمعْ بمثلها إلا ما شاء الله، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تُجيرني من النار، أَوَ مثلي يجترئ أن يسألك الجنة، ثم رجع فأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحتُ وبي من الفترة شيءٌ الله تعالى به عليمٌ (1).
قال: فلما دنونا من أرض العدو، قال الأمير: لا يشذَّنَّ أحدٌ من العسكر، قال: فذهبتْ بغلتُه بثقلها، فأخذ يصلِّي، فقالوا: إن الناس
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 240).
قد ذهبوا، فمضى، ثم قال: دعوني أصلي ركعتين، فقالوا: الناسُ قد ذهبوا، فمضى، ثم قال: دعوني أصلي ركعتين، فقالوا: الناس قد ذهبوا، قال: إنهما خفيفتان، قال: فدعا، ثم قال: اللهمَّ إني أقسمُ عليك أن تردَّ عليَّ بغلتي وثقلَها، قال: فجاءت حتى قامتْ بين يديه، قال: فلما لقينا العدوَّ، حمل هو وهشامُ بن عامرٍ على العدو طعنًا وضربًا وقتلاً، فكسر ذلك العدوَّ، فقالوا: رجلانِ من العرب صنعا بنا هذا، فكيف لو قاتلونا بأجمعهم؟ فأعطوا المسلمين حاجتهم.
وبه إلى عبد الله: حدثني خوثرةُ بن أشرسَ: ثنا حمادُ بن سلمةَ، عن حبيبِ بن الشهيدِ: أن مسلمَ بن يسارٍ كان قائمًا يصلي، فوقع حريق إلى جنبه، فما شعر به حتى أُطفئت النار (1).
أخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ابن الجوزيِّ: أنا محمدٌ: أنا حمدٌ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا أحمدُ بن جعفرٍ: ثنا [أحمدُ بنُ] عليٍّ الأبارُ: ثنا أبو عمارٍ: ثنا الفضلُ بن موسى، عن الحسينِ -يعني: ابن واقد-، عن مطرٍ، عن قتادةَ، قال: مَنْ يَتَّقِ الله يكنْ معه، ومن يكنِ الله عز وجل معه، فمعه الفئةُ التي لا تُغلَب، والحارسُ الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل (2).
وبه إلى ابن الجوزيِّ: أنا أبو بكرِ بن أبي طاهرٍ: أنا محمدُ بن عبد الله: أنا ابن صفوانَ: أنا أبو بكرٍ القرشيُّ: ثنا محمدُ بن إدريس:
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 290).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 340).
ثنا أحمدُ بن أبي الحواريِّ: ثنا وهبُ بن زيدِ بن عبيدٍ، عن خليدٍ، عن الحسنِ، قال: احترقتْ أخصاصُ البصرة، وبقي في وسطها خصٌّ لم يحترقْ، وأمير البصرة يومئذ أبو موسى الأشعري، فخبر بذلك، فبعث إلى صاحب الخص، فأتُي به، فإذا شيخُ فقال: يا شيخ ما بالُ خُصِّك لم يحترقْ؟ قال: إني أقسمتُ على ربي أن لا يحرقه، فقال أبو موسى: أما إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَكُونُ في أُمَّتِي رِجَالٌ طُلْسٌ رُؤُوسُهُمْ، دُنْسٌ ثِيَاُبُهُمْ، لَوْ أَقْسَمُوا عَلَى الله عز وجل لأَبَرَّهُمْ".
وقد روينا في "الزهد" للإمامِ أحمدَ: أن الله عز وجل قال لموسى لما بعثه إلى فرعون: واعلم أنه لم يتزين لي العبادُ بزينة هي أبلغُ من الزهد في الدنيا، فإنها زينةُ المتقين، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائي حقًا، فإذا لقيتَهم، فاخفضْ لهم جناحَك، وذَلِّلْ لهم قلبَك ولسانَك، واعلمْ أنه من أهان لي وَليًا، أو أخافَه، فقد بارزَني بالمحاربة، وبادَأَني، وعَرَّضَ بنفسه، ودعاني إليها، وأنا أسرعُ شيءٍ إلى نُصرةِ أوليائي، أفيظنُّ الذي يُحاربني أن يقومَ لي؟ أو يظنُّ الذي يُعاديني أن يُعجزني؟ أو يظنُّ الذي يُبارزني أن يَسبقني، أو يَفوتني؟ وكيف وأنا الثائرُ لهم في الدنيا والآخرة، لا أَكِلُ نُصرَتَهم إلى غيري؟ (1)
وكان فرعونُ قد تحصَّنَ من موسى، وجعل على أبوابه الحَجَبَة، ومعهم الأُسْدُ لأجل موسى، فلما رأته الأسدُ صاحتْ صياحَ الثعالبِ، وجعلتْ تلوذُ به، وتحرسُه، وتحوطه.
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 65).
ومن أطاعَ الله، أطاعته الأسدُ، وكذلك لما لقي مولى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأخبره أنه مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ذلَّ له، وخضعَ، وحملَه حتى بلَّغَه موضعَ قصده.
وكذلك شيبانُ الراعي ذلَّ له، وقال: لولا مكانُ الشهرة، ما وضعت زادي إلا على ظهره حتى آتي بيتَ الله (1).
وكذلك إبراهيمُ بن أدهمَ لما نامَ، جاء ثعلبُ، ومعه عِرْقُ رَيْحَان، وجعل يذبُّ عنه.
فالله عز وجل يحرسُهم بالمتالف.
* * *
* ولما كتب إلينا جماعةُ الرواد إلى أهل الصالحية التخويف، طُلب مني أن أكتبَ إليهم جوابَه، فكتبتُ ما هذه صورته:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وهو حسبي.
لا إلهَ إلا الله، محمدٌ رسول الله.
من العبدِ الفقيرِ يوسفَ بن عبد الهادي إلى كلِّ واقفٍ عليهِ.
أما بعدُ:
فإن الصالحيةَ محلُّ الصالحين، ودارُ المتقين، ولم يقصِدْها أحدٌ
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 69).
قطُّ بسوء وأفلَح، وتمرلنك -مع كفره وبغيه- أحرقَ جميعَ البلاد، ولم يتعرَّضْ إليها.
والمطلوبُ من أهلها الدعاءُ لكم، أو عليكم، فإنكم في أول الأمر حين أسلمتم [....] دَعَوا لكم.
وإن كان قد نزل فيها عسرةٌ أو نحوها، لا يقدر أحدٌ من أهل الصالحية على ردهم، ولا [
…
].
من الصالحية إن عمرت أو خربت، فلا برزوا لديه [
…
]، الصالحُ بالطالح، والأرضُ لله يُورِثها مَنْ يشاء من عباده، والعاقبةُ للمتقين.
وقد قال الله عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
ومن أراد النصرَ والظفرَ في الدنيا والآخرة، فما [
…
] ومراعاة مرضاته، والحذر كل الحذر مما يوجب غضبَ الله ومقتَه؛ من ظلم أحد، أو حرقِ قلبِ أحد، أو كسرِ قلبِ أحد؛ فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ لما بعثَه إلى اليمن:"اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الله حِجَابٌ"(1).
فإياكم إياكم إياكم من ظلم أحد، أو كسر قلب فقير، أو حرق
(1) رواه البخاري (1425)، ومسلم (19).
مكان، أو البغي على أحد لم يقع في حقكم بشيء؟ فانه ليس ثَمَّ شيءٌ أسرعَ عقابًا من البغي والجور.
فالحذار الحذار من أذى المسلمين، أو البغي عليهم.
وقد أنشدنا بعضُ شيوخنا:
إِذَا رَأَيْتَ ذَوِي بَغْيٍ فَقُلْ لَهُمُ
…
سَتَنْدَمُونَ وَحَاذِرْ أَنْ تُسَاكِنَهُمْ
فَمِثْلُهُمْ في الوَرَى كَانُوا جَبَابِرَةً
…
فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنَهُمْ
فمن أراد الملكَ والنصرَ والظفرَ، فعليه بتقوى الله عز وجل؟
فقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3].
قال ابن عباس: {مَخْرَجًا} : من كل شدة وقع فيها.
وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].
وقال عمر رضي الله عنه: لا تطلبِ العزةَ إلا بالله.
ومن اتقى الله، وراقبه، لم يعذبِ الناسَ بعذابٍ عامٍّ من حريقٍ وغيره.
فكم يذهبُ في ذلك من مظلوم، وكم يوجِب من دعوة لا تُرَدُّ، وإذا أتاكم واحدٌ أو عشرةٌ من محلة، فآذيتم جميعَ أهل المحلة، أو حرقتموها، كم يصيب ذلك من مظلوم؛ من صغير وكبير، وذكر وأنثى
ممن يغضب الله لغضبه، ولا تُرَدُّ دعوتُه، فيكون ذلك سببَ المقت والطرد والكسر والحرمان.
وروي أن بعض الملوك أخربَ كوخًا لفقيرة، فلما شاهدَتْ ذلك، رفعت طَرْفَها إلى السماء، وقالت: يا ربِّ! أنا لم أكنْ، فأنتَ أين كنتَ؟ فأمرَ الله عز وجل جبريلَ أن يخسفَ به وبملكه.
ومن لم يراقب الله، لم يراقبه الله، وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن حرق الكفار، فكيف بحريق المسلمين؟!
ومن لم يستحْيِ من الله أن يُغضبه، لم يستحيِ الله منه أن يعذِّبَه.
وفي "الصحيحين" وغيرهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"(1).
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ
وَيَدهِ" (2).
وقال: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ"(3).
وقال: "شَرُّ النَّاِس مَنْزِلَةً عِنْدَ الله مَنْ انحطَّ في هَوَى أَخِيهِ وَهُوَ ظَالِمٌ، فَأَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ"(4).
(1) رواه البخاري (13)، ومسلم (45) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (10) عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومسلم (41) عن جابر رضي الله عنهما.
(3)
رواه النسائي (3449)، والترمذي (1395) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
رواه الدارمي في "السنن"(647).
وقال: "لا يَرْحَمُ الله مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ"(1).
وقال: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ"(2).
وقال: "لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِنْ كُلِّ شَقِيٍّ"(3).
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا"(4).
وكل [
…
] من أشراط الساعة وعلاماتها، وقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:"أَمَامَكُمْ فِتَنٌ كَقِطَع اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، ويُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَه بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ"(5).
قال أنسُ رضي الله عنه: والله! رأيناهم أجسادًا لا عقولَ لهم، يبيع أحدُهم دينَه بدرهمٍ.
قلت: قد والله! رأينا في زماننا هذا مَنْ يبيع دينَه بغيرِ شيء.
وقال صلى الله عليه وسلم: "تَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، والمَاشِي فِيَها خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَا أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ".
(1) رواه البخاري (6941)، ومسلم (2319) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه أبو داود (4942) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه أبو داود (5004) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(5)
رواه الترمذي (2195) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فقال حذيفةُ رضي الله عنه: أرأيتَ إن أدركَني ذلك كيف أصنع؟
قال: "ادْخُلْ بَيْتَكَ، وَأَغْلِقْ عَلَيْكَ بَابَكَ".
قال: أفرأيتَ لو دخلَ عليَّ بيتي؟
قال: "ادْخُلْ مَخْدَعَكَ".
قال: أرأيتَ إن دخلَ عليَّ مخدعي؟
قال: "غَطِّ عَيْنَيْكَ، وَكُنْ كَابن آدَمَ المَقْتُولِ [
…
] وَلا تَقْتُلْ مُسْلِمًا".
وفي رواية: أرأيتَ إن دخلَ عليَّ أحدٌ يقتلني؟ قال: "قُلْ لَهُ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، فَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَتَكُونُ مِنْ أَصحَابِ الجَنَّةِ".
فوالله! لزوالُ الدنيا كلِّها [....] وجملة الفقراء، بل ويموت خير له من أن يُذهب آخرتَه، أو يقتل مسلمًا.
فالله الله يا عبادَ الله! فقد أظلَّتكُم الساعةُ وقيامُها، وخروجُ الدجال؛ فإن هذا الذي أنتم فيه من جملة علاماته وظهوره؛ فإني أظن [أنه] خارجٌ فيكم لا محالةَ، وهذه أيامُه وعلاماته.
وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَقَعَ السَّيْفُ في أُمَّتِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَجٌ إِلا الدَّجَّالُ".
وقد رُوي عن أُهبان بن صَيفيٍّ، وكان من فرسان الإِسلام: أنه جاء إليه عليُّ بن أبي طالبٍ يريد منه أن يركبَ معه يقاتلُ معه، فقال له: إن خليلي وابن عمِّك عَهِدَ إليَّ إذا اختلفَ الناسُ: أن اتخذَ سيفًا من خشب،
فقد اتخذتُه، فإن شئتَ، خرجتُ معكَ به، قال: فتركه (1).
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَمَامَكُمْ فِتَنٌ، فَاكْسِرُوا فِيَها قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا فِيَها أَوْتَاركُمْ، وَالْزَمُوا فِيهَا أَجْوَافَ بُيُوتكُمْ، وَكُونُوا كَابن آدَمَ المَقْتُولِ"(2).
ويقول كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
وصلى الله على سيدنا محمَّد، وآله وصحبه وسلم.
* * *
* وكان بعضُ السلف يخاف من أن يعير أحدًا، أو يوبخه في المعاصي.
كما أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن البالسيِّ: أنا المِزِّيُّ: أنا ابن أبي عمرَ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا محمدُ بن أبي منصورٍ: أنا أحمدُ بن عليٍّ: أنا أبو عبد الرحمن السلميُّ، سمعتُ محمدَ بن أحمدَ الفراءَ يقول: سمعتُ عبد الله بن الحجامِ يقولى: [قال حمدونٌ:] إذا رأيتَ سَكْرانًا، فتمايَلْ؛ لئلا تنعى عليه، فَتُبْتَلى بمثلِ ذلك.
(1) رواه الترمذي (2253).
(2)
رواه أبو داود (4259) والترمذي (2254) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وكان يقول: لا تَفُتِّشْ على أحدٍ ما تحبُّ أن يكون مستورًا عليك.
وربما كان مَنْ آذيتَه من أولياء الله يعرفُ الإسمَ الأعظمَ، فيدعو عليك، فتقعُ عليك تعاسةُ الدنيا والآخرة.
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو بكرِ بن حبيبٍ: أنا أبو سعيدِ بن أبي صادقٍ: أنا ابن باكويهِ: أنا نصرٌ الطوسيُّ: ثنا عليُّ بن محمدٍ: ثنا أبو سعيدٍ أحمدُ بن سعيدٍ: حدثني سعيدُ بن جعفرٍ، وهارونُ الأرمنيُّ، وعثمانُ التمارُ، قالوا: ثنا عثمانُ بن عمارةَ: حدثني إبراهيمُ بن أدهمَ، قال: لقيتُ أسلمَ بن زيدٍ الجهنيَّ، فقلت له: إني صحبتُ رجلاً من الكوفة إلى مكة، فرأيته إذا مشى، يصلي ركعتين، ثم يتكلم بكلام خفي بينه وبين نفسه، فإذا جفنةٌ من ثريد عن يمينه، وكوزٌ من ماء، وكان يأكل ويطعمني، فبكى، وقال: يا بني! ذاك أخي داودُ مسكنُه من وراء بَلْخٍ بقرية يقال لها: المازرة الطيبة، وإنها تفاخر البقاعَ بكينونة داودَ فيها، يا غلام! ما قال لك، وما علَّمك؟ قلت: علَّمني اسم الله الأعظم. قال: ما هو؟ قلت: إنه يتعاظم عَلَيَّ أن أنطقَ به؛ فإنني سألتُ به مرةً، فإذا برجل آخذ بِحُجْزَتي، فقال: سَلْ تُعْطَهْ، فراعني ذلك، وفزعتُ فزعًا شديدًا، فقال: لا روعَ عليك، أنا أخوك الخضر، إن أخي داودَ علَّمَكَ اسمَ الله الأعظمَ، فإياك أن تدعوَ به على رجل بينك وبينه نزع، فتهلكه هلاك الدنيا والآخرة، ولكن ادعُ الله أن يُثَبِّتَ به قلبَك، ويشجعَ به جَنبك، ويقويَ به ضعفَك، ويؤنس به وحشتَك، ويؤمن به روعتك (1).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 44 - 45).
وبه إلى ابن الجوزيِّ: أنا المحمدانِ: أنا حمدٌ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا عبد الله بن محمدٍ: ثنا عمرُ بن الحسنِ: ثنا محمدُ بن أبي عمرانَ: سمعت حاتمَ الأصمَّ يقول: كنا مع شقيقٍ البَلْخي ونحن مُصَافُّو التركِ في يومٍ لا أرى فيه إلا رؤوسًا تُنْدَرُ، وسيوفًا تُقطع، فقال لي شقيقٌ ونحن بين الصفين: كيف ترى نفسَكَ في هذا اليوم؟ تراها مثلَها في الليلة التي زُفَّت إليك امرأتُك؟ فقلت: لا والله! قال: لكني والله أرى نفسي في هذا اليوم مثلَها في الليلة التي زُفَّت فيها امرأتي.
قال: ثم نام بين الصفين ودَرقَتُه تحت رأسه، حتى سمعتُ غطيطَه (1).
وبه إلى أحمدَ بن عبد الله: ثنا أحمدُ بن إسحاقَ: أنا أبو بكرٍ أحمدُ بن أبي عاصمٍ يقول: سمعتُ أبا ترابٍ يقول: سمعت حاتمًا الأصمَّ يقول: قال لي شقيقٌ: اصحبِ الناسَ كما تصحبُ النارَ؟ خذْ منفعتَها، واحذرْ أن تُحرقك (2).
وبه إلى أحمدَ بن عبد الله: ثنا عبد الرحمن بن محمدٍ: ثنا أحمدُ بن عيسى: ثنا سعيدُ بن العباسِ: ثنا أبي: ثنا حاتمٌ الأصمُّ، قال: سمعت شقيقًا يقول: مَثَلُ المؤمنِ كمثلِ رجلٍ غرسَ نخلةً، وهو يخافُ أن يحملَ شوكًا، ومثلُ المنافقِ كمثلِ رجلٍ زرعَ شوكًا، وهو يطمعُ
(1) رواه ابن الجوزي في "المنتظم"(8/ 170)، ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 64).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 77).
أن يجنيَ ثمرًا، هيهاتَ هيهاتَ! كلُّ مَنْ عمل حسنًا، فإن الله لا يجزيه إلا حسنًا، ولا تنزل الأبرارُ منازلَ الفجار (1).
وبه إلى ابن الجوزيِّ: أنا عمرُ بن طغر: أنا جعفرُ بن أحمدَ: ثنا عبد العزيزِ بن عليٍّ: ثنا عليُّ بن عبد الله، عن عليِّ بن الموفقِ، قال: سمعتُ حاتمًا يقول: لقينا التركَ، وكان بيننا جولةٌ، فرماني تركي بوهق، فقلبني عن فرسي، ونزل عن دابته، فقعد على صدري، وأخذ بلحيتي، وأخرج من خفه سكينًا ليذبحني، فَوَحَقِّ سيدي! ما كان قلبي عنده، ولا عند سكينه، إنما كان عند سيدي، أنظرُ ماذا ينزل به القضاء منه (2).
فقلت: سيدي! قضيتَ عليَّ أن يذبحني هذا، فعلى الرأس والعين، وها أنا لك ومليكك، فبينا أنا أخاطب سيدي، وهو قاعد على صدري ليذبحني، إذا سهم قد نحوه، فسقط، فأخذت السكين من يده، وذبحته، فما هو إلا أن تكون قلوبُكم عند السيد حتى تروا منه ما لم تروا من الآباء والأمهات.
* فكَمْ في غوغاءِ عبادِ الله عز وجل، من أسودَ وأحمرَ، لو توجَّه إلى الله في أمر، أجابَهُ إليه.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا ابن ناصرٍ: أنا الحسنُ بن أحمدَ: أنا
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 71).
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(8/ 244).
هلالُ بن محمدٍ: أنا عليُّ بن محمدٍ: ثنا محمدُ بن عيسى: حدثني محمدُ بن عبد الرحمن، عمَّنْ حدثه: أنهم كانوا بالبصرة، في سنة قحط وغلاء، واحتبس القطر، فخرجوا يستسقون، وخرجت اليهود والنصارى، فاعتزلت اليهود ومعهم التوراة، والنصارى ومعهم الإنجيل، والمسلمون ومعهم القرآن، كلهم يدعون، وانصرفوا ولم يُسْقَوْا.
فبينا أنا أمشي في طريق المزن، نظرت إذا بين يديَّ فتى عليه أطمارٌ رثةٌ، ثقيلة البؤس، فهو يمشي وأنا خلفه حتى خرج إلى الجَبَّان، فدخل بعضَ تلك المساجد التي بالقرب من المقابر، ودخلتُ خلفه، تحولُ بيني وبينه أركانُ المسجد، فصلى ركعتين، ثم رفع يديه يدعو، وقال في دعائه: يا ربِّ! استغاث بك عبادُك، فلم تَسقهم، يا ربِّ! الآنَ شَمِتَ بنا اليهودُ والنصارى، أقسمتُ عليه يا ربِّ إلا سقيتنا الساعةَ، ولم تَرُدَّني.
قال: فما برح يدعو حتى جاءت السحابة، ومُطرنا، فخرجَ، وخرجتُ في أثره لأعرف موضعه.
فلما عرفتُه، انصرفتُ، وهيأتُ دراهمَ في صُرَّة، ثم جئت فاستأذنت عليه، فدخلت، وإذا ليس في البيت إلا قطعةُ حصيرٍ ومطهرةٌ فيها ماء، وإذا هو قاعد يعمل الخوصَ، فسلَّمت، فرحَّب بي وبَشَّ، فتحدثتُ معه ساعةً، ثم أخرجتُ الصرةَ، فقلت: رحمك الله! انتفعْ بهذه، فتبسم وقال: جزاك الله خيرًا، أنا غنيٌّ عنها. فألححتُ عليه، فجعل يدعو ويأبى أن يأخذها. فلما أكثرت عليه، تنكر لي وقال: حسبُك الآنَ، ليس بي إليها حاجة.
قال: فأقبلت عليه فقلتُ: رحمك الله! إن لي عليك حقًا، قال: وما هو رحمك الله؟ قلت: كنت أسمعُ دعاءك حين خرجت إلى الجبان.
قال: فاصفرَّ وجهُه حتى أنكرتُه، وساءه ما قلتُ له. ثم خرجت من عنده.
فلما كان بعد ذلك بأيام، أتيتُه، فلما دخلتُ الدار، إذا هم يصيحون بقيِّمِ الدار: هو ذا، هو ذا قد جاء. فجاء إلى، فتعلق بي، وقال: يا عدوَّ نفسه! ما صنعتَ بذاك الفتى الذي جئته يوم كذا وكذا؟ أي شيء سمعته؟
فقلت: لا تعجَلْ حتى أُخبرك بالحديث، فقال: إنك لما خرجتَ من عنده، قام في الحال، فأخذ حصيرَه ومطهرتَه، وودَّعَنا، وخرج ولم يعدْ إلينا إلى الساعة.
فكم في الخلائق من واحدٍ هكذا!
* وربما قضى الله حاجةَ أحدِهم قبل أن يسأله إياها.
كما أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ وغيرُه: أنا والدي، والمزيُّ، وغيرُهما: أنا ابن أبي عمرَ، وابن البخاريِّ، وغيرُهما: أنا ابن الجوزيِّ: أنا عبد الله بن عليٍّ، ومحمدُ بن أبي منصورٍ: أنا طرادُ بن محمدٍ: أنا أبو الحسينِ بن بشرانَ: أنا ابن صفوانَ: أنا أبو بكرِ بن عبيدٍ: حدثني محمدُ بن الحسينِ: ثنا
داودُ بن المحبرِ، عن صالحٍ المريِّ، قال: كان عطاءٌ السلميُّ لا يكاد يدعو، إنما يدعو بعضُ أصحابه، ويؤمِّن هو.
قال: فحُبس بعضُ أصحابه، فقيل له: ألك حاجةِّ؟ قال: دعوةِّ من عطاءٍ أن يفرِّجَ الله عني.
قال صالح: فأتيته فقلتُ: يا أبا محمَّد! أما تحب أن يفرجَ الله عنك؟ قال: بلى والله! إني لأحبُّ ذلك، قلت: فإن جليسك فلانًا قد حُبس، فادعُ الله أن يفرج عنه. فرفع يديه وبكى وقال: إلهي! قد تعلم حاجتنا قبل أن نسألكها، فاقضها لنا.
قال صالح: فوالله! ما برحنا من البيت حتى دخل الرجل علينا.
فانظر بعينك؛ فإن الله عز وجل يعطيهم قبل أن يسألوه، فإياك منهم أن يخطر ببالهم الدعاءُ عليك، فتهلك.
فيا معشرَ مَنْ لا يعقل! تبصَّروا، وكُفُّوا عن أذى الناس وترويعهم.
أخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ابن الجوزيِّ: قرأت على أبي الفضلِ بن أبي منصورٍ، عن أبي القاسمِ بن الفسويِّ، عن عبد الله بن بَطَّةَ: أنا أبو بكرٍ الآجريُّ: أنا محمدُ بن البرديِّ: أنا أبو بكرٍ المروذِيُّ: سمعت أبا جعفرٍ البزازَ يقول: سمعت بِشْرًا يقول: ثنا حمادُ بن زيدٍ، عن ابن عونٍ: أنه كانت له حوانيتُ يُكريها. فكان لا يُكريها من المسلمين. فقيل له في ذلك، فقال: إن لها إذا جاء رأس الحول روعةً، وإني أكره أن أروع المسلم.
وبه إلى ابن الجوزيِّ: أنا محمدُ بن ناصر: أنا المباركُ بن عبد الجبارِ: أنا أبو بكر محمدُ بن عليٍّ الخياطُ: أنا محمدُ بن أبي الفوارسِ: أنا أحمدُ بن جعفرٍ: أنا أحمدُ بن محمدٍ: أنا أبو بكرٍ
المروذِيُّ، قال: سمعتُ أبا عبد الله أحمدَ بن حنبلٍ، وذكر ابن عونٍ، فقال: كان لا يُكري دورَه من المسلمين. قلت: لأي علة؟ قال: لئلا يروِّعَهم.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدين: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: أنا أبو الأزهرِ ضمرةُ بن حمزةَ المقدسيُّ في كتابه، وحدثني عنه محمدُ بن إبراهيمَ: حدثني أبي: ثنا عبيدُ الله بن عبيدٍ: ثنا أبي: ثنا عبد الله بن إدريسَ، عن مالكِ بن دينارٍ، قال: احتبسَ علينا المطرُ، فخرجنا يومًا بعد يوم نستسقي، فلم نر أثرَ الإجابة، فخرجت أنا وعطاءٌ السلميُّ، وثابتٌ البنانيُّ، ومحمدُ بن واسعٍ، وحبيبٌ الفارسيُّ، وصالحٌ المريُّ في آخرين، حتى صرنا إلى المصلى بالبصرة، فاستسقينا، فلم نر أثر الإجابة، وانصرف الناس، وبقيت أنا وثابتٌ في المصلى، فلما أظلم الليل، إذا بأسودَ دقيقِ الساقين، عظيمِ البطنِ، عليه مئزران من صوف، فجاء إلى ماء فتمسح، ثم صلى ركعتين خفيفتين، ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: يا سيدي! إلى كَمْ تردد عبادَكَ فيما لا ينقصُك؟! أَنَفِدَ ما عندَك، أم نفدَت خزائن قدرتك؟ أقسمتُ عليك بحبك لي إلا ما سقيتنا غيثك الساعةَ. فما أتمَّ الكلامَ حتى تغيمت السماءُ وأخذتنا كأفواه القرب، فما خرجنا حتى خُضْنا الماء، فتعجبنا من الأسود، فتعرضتُ له، فقلتُ: أما تستحي مما قلتَ؟ قال: وما قلتُ؟ قال كقولك: بحبك لي، وما يدريك أنه يحبك؟ قال: تنحَّ عن همتي يا من اشتغل عنه بنفسه، أين كنت أنا حين خصني بتوحيده وبمعرفته؟
أتراه بدأني بذلك إلا لمحتبه لي؟ ثم بادر يسعى، فقلت: ارفق بنا، قال: أنا مملوك عليَّ فرضٌ من طاعة مالكي الصغير، فدخل دار نخاس، فلما أصبحنا، أتيت النخاسَ، فقلت له: عندك غلام تبيعنيه للخدمة؟ قال: نعم، عندي مئة غلام فجعل يُخرج إليَّ واحدًا بعد الَآخر، وأنا أقول: غير هذا، إلى أن قال: ما بقي عندي أحد، فلما خرجنا، إذ أنا به نائم في حجرة خربة، فقلت: بعني هذا، فقال: هذا غلام مشؤوم، لا همةَ له إلا البكاء، فقلت: لذاك أريده، فدعاه وقال: خذه بما شئت بعد أن تبرئني من عيوبه، فأخذته بعشرين دينارًا، فلما خرجنا، قال: يا مولاي! لم اشتريتني؟ فقلت له: لأخدمك، قال: ولم؟ قلت: ألستَ صاحبنا البارحةَ في المصلَّى؟ قال: وقد اطلعتَ على ذلك؟ فجعل يمشي حتى دخل مسجدًا، فصلى ركعتين ثم قال: إلهي وسيدي! سِرٌّ كان بيني وبينك أظهرتَه للمخلوقين، أقسمتُ عليك إلا قبضتَ روحي، فإذا هو ميت، فبقبره يُستسقى به، وتُطلب الحوائج (1).
* ومنهم قومٌ لم يتعرضوا على الربِّ في تصريفه في الزمان، ولم يريدوا غيرَ الذي أراد، ولم يتعرضوا.
وقد أخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا ابن الجوزيِّ: أنا إسماعيلُ بن أحمدَ: ثنا محمدُ بن هبةِ الله: أنا محمدُ بن الحسينِ: أنا عبد الله بن جعفرٍ: ثنا يعقوبُ بن
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 173 - 174).
شعيبٍ: ثنا سليمانُ بن حربٍ، قال: قال حمادُ بن زيدٍ: سمعت أيوبَ يقول: إذا لم يكنْ ما تريدُ، فأَرِدْ ما يكونُ (1).
وحُقَّ لكلِّ أحدٍ منا أن يصبر على الزمان، فانه لا يأتي زمانٌ ولا يوم ولا ساعة إلا والذي بعدَه شرٌّ منه.
أخبرنا أبو حفصٍ المقرئُ: أنا الإمامُ أبو الحسنِ: أنا المحبوبيُّ: أنا ابنةُ علوانَ: أنا أبو محمدٍ المقدسيُّ: أنا ابن المهتدي: أنا أبو طالبٍ اليوسفيُّ: أنا ابن المذهبِ: أنا أبو بكرٍ القطيعيُّ: أنا عبد الله بن أحمدَ: أنا أبي: ثنا أبو معاويةَ: ثنا مالكٌ، عن الحسنِ: أنه كان يقول: ما لي لا أرى زمانًا إلا بكيتُ منه، فإذا ذهبَ، بكيت عليه.
وأنشدونا في معنى ذلك:
رُبَّ دَهْرٍ بَكَيْتُ مِنْهُ
…
فَلَمَّا صِرْتَ بِغَيْرِهِ بَكَيْتُ عَلَيْهِ
* وهم قوم جادوا بأنفسهم لله عز وجل.
أخبرنا جدِّي: أنا الصلاحُ بن أبي عمرَ: أنا الفخرُ بن البخاريِّ: أنا الإمامُ أبو الفَرَجِ: أنا أبو بكر بن حبيبٍ البغداديُّ: أنا عليُّ بن أبي صادقٍ: أنا ابن باكويهِ: ثنا نصرُ بن أبي نصرٍ: ثنا عليُّ بن محمدٍ: حدثني سعيدُ بن جعفرٍ، وهارونُ الأرمنيُّ، وعثمانُ التمارُ، قالوا: ثنا عثمانُ بن عمارةَ: حدثني إبراهيمُ بن أدهمَ، قال: لقيتُ رجلاً بالإسكندرية يقال له: أسلمُ بن زيدٍ الجهنيُّ، فقال: من أنت يا غلام؟
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 12).
قلت: شابٌّ من أهل خراسان.
قال: ما حملَك على الخروجِ من الدنيا؟
قلت: زهدًا فيها، ورجاء ثواب الله عز وجل.
فقال: إن العبد لا يتمُّ رجاؤه لثواب الله عز وجل حتى يحملَ نفسَه على الصبر.
فقال له رجل ممن كان معه: وأيُّ شيء الصبرُ؟
قال: إن أدنى منازل الصبر: أن يروضَ العبدُ نفسَه على احتمال مكارِهِ الأنفس.
قال: قلت: ثم مه؟
قال: إذا كان محتملًا للمكاره، أورث الله عز وجل قلبه نورًا.
قلت: فماذا النور؟
قال: سراجٌ يكون في قلبه يفرق بين الحق والباطل والمتشابه.
ثم قال: يا غلام! إياك إذا صحبتَ الأخيارَ وجاريتَ الأبرارَ أن تُغضبهم عليك؛ لأن الله تعالى يغضب لغضبهم، ويرضى لرضاهم، وذلك أن الحكماء هم العلماء، وهم الراضون عن الله عز وجل إذا سخط الناس، يا غلام! احفظْ عني واعقلْ، واحتملْ ولا تعجَلْ، إياك والبخلَ.
قلت: وما البخلُ؟
قال: أما البخلُ عند أهل الدنيا، فهو أن يكون الرجل ضنينًا بماله، وأما عند أهل الآخرة، فهو الذي يضنُّ بنفسه عن الله، ألا وإن العبد إذا جاد بنفسه لله، أورث الله قلبَه الهدى والتقى، وأُعطي السكينةَ والوقارَ، والحلمَ الراجحَ، والعقلَ الكامل.
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا المحمدان: ابن ناصر، وابن عبد الباقي، قالا: أنا حمدٌ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا عثمانُ بن محمدٍ: قرئ على أبي الحسينِ السريريِّ: سمعتُ يوسفَ بن الحسينِ يقول: سمعت ذا النون يقول: بصحبة الصالحين تطيبُ الحياة، والخيرُ مجموعٌ في القرين الصالح، إن نسيتَ ذَكَّرَكَ، وإن ذكرتَ أعانَكَ (1).
قال: وسمعتُه يقول: مَنْ لم يعرفْ قدرَ النعم، سُلِبَها من حيثُ لا يعلم (2).
وبه إلى أحمدَ بن عبد الله: ثنا محمدُ بن إبراهيمَ: ثنا أبو حامدٍ النيسابوريُّ: ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن: سمعتُ ذا النونِ يقول: إلهي! لو أصبتُ موئلًا في الشدائد غيرَك، أو ملجأً في النوازل سواك، لحقَّ لي أن لا أعرضَ إليه بوجهي عنك، ولا أختاره عليك؛ لقديم إحسانك إليَّ وحديثه، وظاهرِ مِنَّتِكَ عليَّ وباطنها، ولو تقطعتُ في النبلاء إربًا إربًا، وانصبَّتْ عليَّ الشدائدُ صَبًّا صَبًّا، لا أجد مشتكى لبثِّي غيرَك، ولا مُفَرِّجًا لما بي عني سواك، فيا وارث الأرض ومَنْ عليها، ويا
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 359).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 124).
باعثَ جميعِ مَنْ فيها! ورث آملي فيك مني أملي، وبلِّغ همتي فيك منتهى وسائلي (1).
وبه إلى أحمدَ بن عبد الله: ثنا أحمدُ بن مصقلةَ: ثنا سعيدُ بن عثمانَ، قال: سمعتُ ذا النونِ يقول: من ذبحَ حنجرةَ الطمعِ بسيف اليأس، وردمَ خندقَ الحرصِ، ظفرَ بكيمياء الخدمة، ومن استقى بحبل الزهد على دَلْو العُزوف، استقى من جُبِّ الحكمة، ومن سلكَ أوديةَ الكَمَد، جنى حياة الأبد، ومن حصدَ عشبَ الذنوب بمنجل الورع، أضاءت له روضة الإستقامة، ومن قطع لسانه بشفرة الصمت، وجد عذوبةَ الراحة، ومن تَدَرَّعَ دَرعَ الصدق، قويَ على مجاهدة عسكرِ الباطل، ومن فرح بمِدْحَة الجاهل، ألبسه الشيطانُ ثوبَ الحماقة.
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا محمدُ بن أبي منصورٍ: أنا الحسينُ بن عبد الجبارِ: أنا أبو سعيدٍ مسعودُ بن ناصرٍ: أنا أبو حازمٍ العبدويُّ: أنا ابن جهضمٍ: أنا محمدُ بن جعفرٍ: ثنا يحيى بن الحسنِ، عن معروفٍ الكرخيِّ، قال: رأيتُ في البادية شابًا حسنَ الوجه، له ذؤابتان حسنتان، وعلى رأسه رداء قصب، وعليه قميصُ كتان، وفي رجليه نعلُ طاق.
قال معروف: فتعجبتُ منه في مثل ذلك المكان ومن زِيِّه.
فقلت: السلامُ عليك ورحمةُ الله وبركاته.
فقال: وعليكَ السلامُ ورحمةُ الله يا عَمّ.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 351).
فقلت: الفتى من أين؟
قال: من مدينة دمشقَ.
قلت: ومتى خرجتَ؟
قال: ضحوةَ النهار.
قال معروف: فتعجبتُ، وكان بينه وبين الموضع الذي رأيتُه فيه مراحلُ كثيرة، فقلت له: وأين المقصد؟
قال: مكة.
فعلمتُ أنه محمول، فودعته، ومضى ولم أره حتى مضت ثلاثُ سنين، فلما كان ذات يوم أنا جالس في منزلي أتفكر في أمره، وما كان منه، إذا بإنسان يدق الباب، فخرجت إليه، فإذا أنا بصاحبي، فسلمت عليه، وقلت: مرحبًا وأهلاً، وأدخلته المنزل، فرأيته منقطعًا والهًا تالفًا، عليه زر مانقة، حافيًا حاسرًا.
فقلت: هيه، أيُّ شيء الخبرُ؟
فقال: يا أستاذ! لاطَفَني حتى أدخَلَني الشبكةَ، فرماني، فمرة يلاطفني، ومرة يهددني، ويجيعني مرة، ويكرمني أخرى، فليته وقفني على بعض أسرار أوليائه، ثم فعل بي ما يشاء.
قال معروف: فأبكاني كلامه.
فقلت له: فحدِّثني [عن] بعض ما جرى عليك منذ فارقتني.
فقال: هيهاتَ أن أُبديه، وهو يريد أن يُخفيه، ولكن أُبدي لكَ
بعضَ ما فعل بي في طريقي إليك، مولاي وسيدي، ثم استفرغه البكاء. فقلت: وما فعل بك؟
قال: جَوَّعني ثلاثين يومًا، ثم جئتُ إلى قرية فيها مِقْثاةٌ قد نبذ منها الدود وطرح، فقعدت آكل منه، فبصر بي صاحبُ المقثاة، فأقبل إلى يضرب ظهري وبطني، ويقول: يا لص! ما خرب مقثأتي غيرُك، منذ كم أرصدُك حتى وقعتُ عليكَ، فبينا هو يضربني إذ أقبل فارسٌ إليه مسرعًا، وقلب السوطَ في رأسه، وقال: تعمدُ إلى ولي من أولياء الله، فتقول له: يا لص؟! فأخذ صاحبُ المقثاة بيدي، فذهب بي إلى منزله، فما أبقى من الكرامة شيئًا إلا عمله معي، واستحلني، وجعل مقثاته لله سبحانه وتعالى ولأصحاب معروف.
فقلت له: صفْ لي معروفًا، فوصفَكَ لي، فعرفتُك بما كنت شاهدتُه من صفتك.
قال معروفٌ: فما استتمَّ كلامَه حتى دقَّ صاحبُ المقثاةِ البابَ، ودخل إليَّ، وكان موسِرًا، فخرج من جميع ماله، وأنفقه على الفقراء، وصحبَ الشابَّ سنةً، وخرجا إلى الحج، فماتا في الربذة.
وبه إلى الإمامِ أبي الفرجِ: أنا عبد الملكِ بن أبي القاسمِ: أنا أبو عبد الله محمدُ بن عليٍّ: أنا أبو الفضلِ الفاميُّ: أنا محمدُ بن أحمدَ المروانيُّ: حدثني محمدُ بن المنذرِ: ثنا عيسى بن أبي موسى: أنا أبو عبيدِ الله الإمامُ: سمعت أبا عبد الله النباجيَّ يقول: إذا كان عندك ما أعطى الله نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم السلام ولا تراه شيئًا، وإنما تريد ما أعطى الله نمرودَ وفرعونَ وهامانَ، متى تفلح؟
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ، قال: أبو الخيرِ التينانيُّ الأقطعُ كان مقطوعَ اليد، وكان سببُ ذلك: أنه كان في جبال أنطاكية يطلب المباح، وينام بين الجبال، وكان عاهدَ الله أن لا يأكل من ثمر الجبال إلا ما طرحَتْه الريح، فبقي أيامًا لا تطرح الريح له شيئًا، فرأى يومًا شجرة كُمَّثْرى، فاشتهى منها، فلم يفعل، فأمالتها الريحُ إليه، فأخذ واحدة بيده، واتفق أن لصوصًا قطعوا هنالك الطريق، وجلسوا يقتسمون، فوقع عليهم السلطانُ فأخذهم، وأُخذ معهم، فقُطعت أيديهم وأرجلهم، وقُطعت يدُه، فلما هموا بقطع رجله، عرفه رجلٌ، فقال للأمير: أهلكتَ نفسَك، هذا أبو الخير، فبكى الأمير، وسأله أن يجعله في حِلٍّ، ففعل، وعوتب، فقيل له: هلا عرفتنا نفسَك؟ فقال: أنا أعرف ذنبي؟ إشارةً منه أنه عاهدَ الله أن لا يأخذَ إلا ما ألقته الريح، فأخذ بها غيرَ ما ألقته الريح، فقُطعت.
وبه إلى أبي الفرج: أنا المحمدان: ابن عبد الملكِ، وابن ناصرٍ، قالا: أنا أحمدُ بن خيرون: أنا أبو الحسينِ الصوفيُّ: أنا عليُّ بن المثنئ: سمعت أبا الخيرِ التيناتيَّ الأقطعَ يقول: ما بلغَ أحدٌ إلى حالةٍ شريفةٍ إلا بملازمةِ الموافقةِ، ومعانقةِ الأدب، وأداء الفرائض، وصحبة الصالحين، وخدمة الفقراء الصادقين (1).
وبه إلى الإمامِ أبي الفرجِ: أنا عمرُ بن طغر: أنا جعفرُ بن أحمدَ: أنا عبد العزيزِ بن عليٍّ: أنا ابن جهضمٍ: حدثني محمدُ بن داودَ:
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 378).
سمعتُ ابن الجلاءِ يقول: سمعتُ أبا سليمانَ المقرئَ قال: كنت أحملُ الحطبَ، وأتقوَّتُ منه، وكان طريقي فيه التوقِّي والتحري، قال: فرأيت جماعةً من البصريين في النوم، منهم. الحسنُ، ومالكُ بن دينارٍ، وفرقدٌ السبخيُّ، فسألتُهم عن علة حالي، فقلتُ: أئمة المسلمين دَلُّوني على الحلال الذي ليس لله عز وجل فيه تَبِعَةٌ، ولا للخَلْق فيه مِنَّة، فأخذوا بيدي، وأخرجوني من طرسوسَ إلى مرجٍ فيه خُبَّازَى، فقالوا لي: هذا الحلالُ الذي ليس لله عز وجل فيه تبعة، ولا للمخلوق فيه منة.
قال: فمكثتُ آكلُ منه نصفَ سنة، ثلاثة أشهر في دار السبيل، آكلُه نيِئًا ومطبوخًا، فصار لي حديث. فقلت: هذه فتنة.
فخرجتُ من دار السبيل، فكنت آكلُه ثلاثةَ أشهر أُخر. فأوجدني الله عز وجل قلبًا طيبًا حتى قلتُ: إن كان أهلُ الجنة بهذا القلب الذي لي، فهمْ والله في شيء طيب، وما كنت آنسُ بكلام الناس، فخرجتُ يومًا من باب قلمية إلى صهريج يعرف بالمدنف، فجلست عنده، فإذا أنا بفتى قد أقبل من ناحية لامش يريد طرسوس، وقد بقي معي قطيعات من ثمن الحطب الذي كنت أجيء به من الجبل، فقلت: أنا قد قنعت بهذا الخبازى، أعطي هذه القطعَ هذا الفقيرَ، إذا دخل طرسوسَ اشترى بها شيئًا وأكلَه، فلما دنا مني، أدخلت يدي إلى جيبي حتى أُخرج الخرقةَ، فإذا أنا بالفقير قد علمَ ما أُريد، وحرك شفتيه، وإذا كلُّ ما حولي من الأرض ذَهَبٌ يَتَّقَدُ حتى كاد يخطفُ بصري، ولبستني منه هيبةٌ، فجازَ ولم أسلِّم عليه من هيبته.
زاد أبو الفرج بن أبان: فقلت له: فهل رأيتَه بعد ذلك؟
قال: نعم، خرجتُ يومًا خارجَ طرسوس، إذا به جالسٌ تحت برجٍ من الأبرجة، وبين يديه ركوةٌ فيها ماء، فسلمت عليه، ثم استدعيت منه موعظة، فمدَّ رجلَه فقلب بها الماء، ثم قال: كثرةُ الكلامِ تنشِّف الحسناتِ كما نشفت الأرضُ هذا الماء. ثم قال: حسبك.
وبه إلى الإمامِ أبي الفرجِ: أنا محمدُ بن أبي القاسمِ: أنا حمدُ بن أحمدَ: أنا أحمدُ بن عبد الله: ثنا إسحاقُ بن أحمدَ: ثنا إبراهيمُ بن يوسفَ: ثنا أحمدُ بن أبي الحواريِّ: ثنا أحمدُ بن عاصمٍ، قال: إذا صارتِ المعاملةُ إلى القلب، استراحتِ الجوارحُ (1).
قال: وسمعته يقول: ما أَغْبِط أحدًا إلا مَنْ عرفَ مولاه، فأشتهي أن لا أموتَ حتى أعرفَه معرفة العارفين، الذين يستحبونه، لا معرفة التصديق (2).
وبه إلى أحمدَ بن عبد الله: سمعتُ أبي يقول: قال أحمدُ بن عاصمٍ: أنفعُ اليقينِ ما عَظُم في عينيك ما به أيقنت، وأنفعُ الخوفِ ما حجزك عن المعاصي، وأطالَ منك الحزنَ على ما فات، وألزمَكَ الفكرَ في بقية عمرِك، وخاتمةِ أمرك، وأنفعُ الصدقِ أن تُقِرَّ لله بعيوبِ نفسك، وأنفعُ الحياء أن تستحييَ أن تسأله ما تحبُّ، وتأتيَ ما يكره، وأنفعُ الصبر ما قَوَّاكَ على خلافِ هواكَ، وأفضلُ الجهاد مجاهدتُكَ نفسَك
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 281).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 282).
لتردَّها إلى قبولِ الحق، وأوجبُ الأعداءِ مجاهدةً أقربُهم منك دُنُوًّا، وأخفاهم عنك شخصًا، وأعظمُ لك عداوةً، وهو إبليس.
قلت: فما ترى في الإنس بالناس؟
قال: إن وجدتَ عاقلاً مأمونًا، فَأْنَسْ به، واهربْ عن سائرهم كهربك من السباع.
قلت: فما أفضلُ ما أتقرَّبُ به إلى الله عز وجل؟
قال: تركُ معاصيه الباطنة.
قلت: فما بالُ الباطنةِ أولى من الظاهرة؟
قال: لأنك إذا اجتنبت الباطنة، بطلت الظاهرة والباطنة.
قلت: فما أضرُّ الطاعات لي؟
قال: ما نسيتَ بها مساوئَك، وجعلتَها نصبَ عينيك إدلالًا بها وأمنًا.
قال: وسمعتُه يقول: استكثرْ من الله عز وجل لنفسِك قليلَ الرزق؛ تخلصًا إلى الشكر، واستقلِلْ من نفسك لله كثيرَ الطاعة؛ إزراءً على النفس، وتعرضًا للعفو، واستجلِبْ شدةَ التيقُّظ بشدة الخوف، وادفعْ عظيمَ الحرصِ بإيثارِ القناعة، واقطعْ أسبابَ الطمعِ بصحةِ اليأس؛ وسُدَّ سبلَ العُجْب بمعرفة النفس، واطلبْ راحةَ البدنِ بإجمام القلب، وتخلَّصْ إلى إجمام القلب بقلةِ الخلطاء، وتعرَّضْ لرقةِ القلبِ بدوام مجالسةِ أهل الذكر، وبادرْ بانتهاز البغيةِ عندَ إمكانِ الفرصة.
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو بكرٍ العامريُّ: أنا عليُّ بن
أبي صادقٍ: أنا أبو عبد الله بن باكويهِ: أخبرني أبو يعقوبَ الخراطُ: أنا أبو محمدٍ القرظيُّ: أخبرني عثمانُ بن عليٍّ: أخبرني نبهانُ المغلسُ: أخبرني حذيفةُ بن قتادةَ المرعشيُّ، قال: كنت في المركب، فكُسر بنا، فوقعتُ أنا وامرأة على لوح من ألواح المركب، فمكثنا سبعة أيام.
فقالت المرأة: أنا عطشى، فسألتُ الله تعالى أن يَسقينا، فنزلت علينا من السماء سلسلةٌ فيها كوزٌ معلَّق فيه ماء. فشربتُ، فرفعتُ رأسي انظر إلى السلسلة، فرأيت رجلًا جالسًا في الهواء متربعًا.
فقلت: ممن أنت؟
قال: من الإنس.
قلت: فما الذي بلغك هذه المنزلة؟
قال: آثرتُ مرادَ الله على هواي، فأجلسني كما تراني.
أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا القاضي سليمانُ: أنا الحافظُ ضياءُ الدينِ: أنا جماعةٌ من شيوخنا: أنا ابن المحبِّ: أنا أبو عليٍّ الحدادُ: أنا الحافظُ أبو نعيمٍ: أنا أبو محمدِ بن حيانَ: ثنا إبراهيمُ بن محمدٍ: ثنا أحمدُ بن فضيلٍ، قال: غزا أبو معاويةَ الأسود، فحاصر المسلمون حصنًا فيه عِلْجٌ لا يرمي بحجبر ولا نُشَّابٍ إلا أصاب به، فشكَوْا ذلك إلى أبي معاوية، فقرأ:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، ثم قال: استروني منه، فلما وقف، قالوا: أين تريدون بإذن الله؟ قال: المذاكير.
فقال: أَيْ رَبِّ! سمعتَ ما سألوني، فأعطني ما سألوني،
باسم الله، ثم رمى، فمر السهمُ حتى إذا قرب من الحائط، ارتفعَ حتى أتى العلجَ، فأخذ مذاكيرَه، فوقع، فقال: شأنكم به (1).
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا أبو بكرٍ العامريُّ: أنا عليُّ بن أبي صادقٍ، وعبدُ الغفارِ بن محمدٍ، قالا: أنا أبو عبد الله بن باكويهِ: ثنا عليُّ بن الحسنِ الأرجانيُّ: ثنا جعفرُ بن محمدٍ: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبا معاويةَ الأسودَ -وهو على سور طرسوس من جوف الليل- يبكي، ويقول: أَلا مَنْ كانت الدنيا أكبرَ هَمِّه، طالَ في القيامة غدًا غَمُّه، ومن خافَ ما بين يديه، ضاق في الدنيا ذَرْعُه، ومن خافَ الوعيد، لها من الدنيا عَمَّا يريد.
يا مسكين! إن كنت تريد لنفسك الجزيلَ، فأقللْ نومَك بالليل إلا القليل، اقبلْ من الأخ الناصح، إذا أتاكَ بأمر واضح، لا تهتمَنَّ برزق مَنْ تخلف، فليست أرزاقهم تكلف، وَطِّنْ نفسَك للمقال، إذا وقفت بين يدي ربِّ العزة للسؤال، قَدِّمْ صالحَ الأعمال، ودَعْ عنك كثرةَ الأشغال، بادرْ ثم بادرْ، قبل أن تصلَ المقابر، قبل أن تصل الروح التراقي، وينقطعَ عنك مَنْ تحبُّ أن تُلاقي، كأني بها وقد بلغتِ الحلقوم، وأنت في سكرات الموت مغموم، وقد انقطعتْ حاجتك، وأنت تراهم حولَكَ، وبقيتَ مرتهنًا بعملك.
الصبرُ مِلاكُ الأمر، وفيه أعظمُ الأجر، واجعلْ ذكر الله من جلِّ شأنك، واملكْ فيما سوى ذلك لسانك.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 271).
ثم بكى أبو معاوية بكاء شديدًا.
ثم قال: أوه من يوم يتغير فيه لوني، ويختلج فيه لساني، ويجفُّ فيه ريقي، ويقلُّ فيه زادي (1).
وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا عبد الله بن محمدٍ: حدثني محمدُ بن أحمدَ: ثنا عبد الله بن خبيقٍ: ثنا يوسفُ بن أسباط، قال: قال لي حذيفةُ المرعشيُّ: ما أُصيب أحد بمصيبةٍ أعظمَ من قساوةِ قلبه (2).
وبه إلى أبي نعيمٍ: ثنا محمدُ بن الحسينِ الزبيريُّ: ثنا محمدُ بن المسيب: ثنا عبد الله بن خبيقٍ: قال لي حذيفةُ المرعشيُّ: إنما هي أربعةُ أَشياء: عيناك، ولسانك، وهواك، وقلبك، فانظر عينيك، لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك، وانظر لسانَك، لا تقل به شيئًا يعلم الله خلافَه من قلبك، وانظر قلبك، لا يكنْ فيه غِلٌّ ولا دَغَلٌ على أحد من المسلمين، وانظر هواك، لا تهْوَ شيئًا، فما دام لم تكن فيك هذه الأربعُ خصال، فاحْثُ الرمادَ على رأسك (3).
وقال ابن خبيقٍ: حدثني موسى بن المعلَّى، قال: قال حذيفةُ: يا موسى! ثلاثُ خصال إن كنَّ فيك، لم ينزل من السماء خير إلا كانَ لك فيه نصيب: يكون عملُك لله، وتحبُّ للناس ما تحب لنفسك، وهذه الكسرةُ تَحَرَّ فيها ما قدرتَ (4).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 272 - 273).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 269).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 168).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 270).
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا عبد الوهابِ بن أحمدَ: أنا حمزةُ بن محمدٍ: أنا أبو القاسمِ عبيدُ الله الخرقيُّ: ثنا أبو بكرٍ النقاشُ: ثنا أبو سعيدٍ الدمشقيُّ: ثنا أحمدُ بن عاصمٍ: حدثني عثمانُ الوجافيُّ، قال: خرجتُ من بيت المقدس أريد بعضَ القرى في حاجة، فلقيتني عجوز عليها جبةُ صوفٍ، وخمارُ صوف، فسلمتُ عليها، فردَّتْ عليَّ السلامَ، ثم قالت: يا فتى من أين أقبلت؟
قلت: من هذه القرية.
قالت: وأين تريد؟
قلت: بعض القرى في حاجة.
قالت: كم بينك وبين أهلك ومنزلك؟
قلت: ثمانية عشر ميلاً.
قالت: ثمانية عشر ميلاً في حاجة؟ إن هذه لحاجة مهمة.
قلت: أجل.
قالت: فما اسمك؟
قلت: عثمان.
فقالت: يا عثمان! ألا سألتَ صاحبَ القرية أن يوجِّه إليك بحاجتك ولا تتعنى؟
قال: ولم أعلمِ الذي أرادت، فقلتُ: يا عجوز! ليس بيني وبين صاحب القرية معرفةٌ.
قالت: يا عثمان! ما الذي أوحش بينك وبين معرفته، وقطعَ بينكَ وبين الإتصال به؟
قال: فأفقتُ، فعرفتُ الذي أرادَتْ، فبكيت.
فقالت: من أي شيء تبكي؟ من شيء كنتَ فعلتَه ونسيتَه، أومن شىء أُنسيته وذكرتَه؟
قال: قلت: لا، بل من شيء أُنسيتُه وذكرتُه.
قالت: يا عثمان! احمدِ الله الذي لم يتركْكَ في حيرِتك، أتحبُّ الله عز وجل؟
قلت: نعم.
قالت: فاصدُقني.
قلت: إي والله! إني لأحبُّ الله عز وجل.
قالت: فما الذي أفادَكَ من طرائف حكمته إذ أوصلك إلى محبته؟
قال: فبقيتُ لا أدري ما أقول؟
قالت: يا عثمان! لعلك ممن يحبُّ أن يكتمَ المحبةَ؟
قال: فبقيت بين يديها ولا أدري ما أقول.
قال: يأبى الله أن يدنس طرائفَ حكمته، وخفيَّ معرفته، ومكنونَ محبته ممارسة قلوب البطالين.
قلتُ: رحمكِ الله! لو دعوتِ الله عز وجل أن يشغلني بمحبته.
فنفضت يديها في وجهي.
فأعدتُ القولَ أقتضي الدعاء.
فقالت: يا عبد الله! امضِ لحاجتك، فقد علم المحبوبُ ما ناجاه الضمير من أجلك.
ثم وَلَّت وقالت: لولا خوفُ السلب، لبحتُ بالعجب.
ثم قالت: أوه من شوقٍ لا يبرأ إلا بك، ومن حنينٍ لا يسكن إلا إليك، فأين لوجهي الحياء منك؟ وأين لعقلي الرجوع إليك؟
قال عثمان: فو الله! ما ذكرتُ ذلك، إلا بكيتُ، وغُشي عليَّ.
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا عبد الوهابِ الأنماطيُّ: أنا المباركُ بن عبد الخالق: أنا محمدُ بن عليٍّ: أنا أحمدُ بن محمدٍ: ثنا الحسينُ بن صفوانَ: أنا أبو بكرِ بن سفيانَ: حدثني محمدُ بن الحسينِ: حدثني عمارُ بن عثمانَ: حدثني بشرُ بن بشارٍ، وكان من العابدين، قال: لقيتُ عبادًا ثلاثةً ببيت المقدس، فقلت لأحدهم: أوصني.
فقال: أَلْقِ نفسَك مع القَدَرِ حيثُ ألقاك، فهو أحرى أن يفرغ قلبك، ويقلَّ همك، وإياكَ أن تسخطَ ذلك، فيحل بك السخط، وأنت عنه في غفلة لا تشعر به.
فقلت للآخر: أوصني.
فقال: ما أنا بمستوصٍ.
قلت: على ذاك عسى الله أن ينفع بوصيتك.
قال: أما إذ أبيت إلا الوصية، فأحفظ عني: التمس رضوانه في ترك مناهيه، فهو أوصلُ إلى الزلفى لديه.
قال: فقلت للآخر: أوصني، فبكى، واستخرجها سفحًا للدموع، ثم قال: أي أخي! لا تبتغ في أمرك تدبيرًا غير تدبيره، فتهلِكَ فيمن هلك، وتضلَّ فيمن ضلَّ.
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَج: أنا أبو بكرٍ العامريُّ: أنا عليُّ بن أبي صادقٍ: أنا أبو عبد الله بن باكويهِ: سمعتُ محمدَ بن الفرحانِ يقول: سمعتُ الجنيدَ يقول: سمعتُ أبا جعفرٍ الخصافَ يقول: حدثني جابرٌ الرحبيُّ، قال: أكثرَ عليَّ أهلُ الرحبةِ يُنكرون عليَّ ما يُعطي الله عز وجل أولياءه، فخرجتُ إلى خارج، فركبت السبعَ، ودخلتُ إلى الرحبةِ وأنا أقول: أين الذين يؤذون أولياء الله، فينكرون عليهم؟ فَكَفُّوا عني.
وبه إلى الإمامِ أبي الفَرَجِ: أنا عمرُ بن طغر: أنا أحمدُ: أنا عبد العزيزِ بن عليٍّ: أنا عليُّ بن عبيدِ الله بن جهضمٍ: أنا الخلديُّ: حدثني أبو العباسِ، عن محمدٍ غلامِ أبي عبيدٍ، قال؟ وَدَّعْتُ أبا عبيد حين أردت الحج.
فقال لي: معك شيء؟
قلت: لا، ليس معي غيرُ هذه الركوة.
فقال: إذا أردت شيئًا، أو جعتَ، أو عطشتَ، فصلِّ ركعتين، واجعلها على يمينك، فإذا سلَّمتَ، رأيتَ كلَّ ما تحب.
قال: فجئتُ إلى بعض المنازل، وليس فيه ماء، والناسُ يصيحون: العطش.
فقلت في نفسي: قد قال أبو عبيد ما قال وهو صادق. فأخذتُ الركوةَ، فرميت بها في مصنع، وصليت ركعتين، فما سلمت إلا والرياحُ تذهب بها وتجيء على رأس الماء. فنزلتُ، فأخذت الركوةَ، ثم صحتُ بالناس، فجاؤوا واستَقَوْا حتى رَوُوا.
اللَّهمَّ ببركة الصالحين اكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفجار، وما يختلفُ به الليل والنهار.
سمعتُ أبي يقول: كان الشيخُ عبد الرحمن أبو شعرٍ يتمثَّل كثيرًا:
أَلا رُبَّ ذِي ظُلْمٍ كَمَنْتُ لِظُلْمِهِ
…
فَأَوْقَعَهُ المِقْدَارُ أَيَّ وُقُوعِ
وَمَا كَانَ لِي [إِلا] سِلاحُ تَرَكُّعٍ
…
وَأَدْعِيَة لا تُتَّقَى بِدُرُوعِ
وَهَيْهَاتَ أَنْ يَنْجُو الظَّلُومُ وَخَلْفَهُ
…
سِهَامُ دُعَاءٍ مِنْ قِسِيِّ رُكُوعِ
مُرَيَّشَةٌ بِالهُدْبِ مِنْ جَفْنِ سَاهِرٍ
…
مُنَصَّلَةٌ أَطْرَافُهَا بِنَجِيعِ
وأنشدنا بعضُ إخواننا في معنى ذلك:
أتهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيه
…
تَأَمَّلْ فِيكَ ما صَنَعَ الدُّعَاءُ
سِهَامُ اللَّيْلِ لا تُخْطِي وَلكن
…
لَهَا أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ انْتِهَاءُ
وكان الحافظُ العماد يقول: ما رأيتُ أسرعَ إجابة من هذا الدعاء: يا الله، يا أَلله، يا أَلله، أَنتَ الله، أَنتَ اللهُ، أَنتَ اللهُ، إي واللهِ، إي واللهِ، إي والله، بلى والله، بلى واللهِ، بلى واللهِ، اللهُ، اللهُ، اللهُ، وحقِّ اللهِ، وحقِّ اللهِ، وحقِّ اللهِ، اللهُ، اللهُ، اللهُ، لا إلهَ إلا اللهُ، لا إلهَ إلا اللهُ، محمدٌ رسولُ اللهِ.
وممَّا يُذكر أنه يُستجاب: أن يقولَ: اللهمَّ يا ودودُ، يا ودودُ، يا ودودُ، يا ذا العرشِ المجيدُ، يا فعالٌ لما يريد، نسألك باسمك الذي ملأ أركانَ عرشِك، وبقدرتك التي قَدِرْتَ بها على خلقك، وبرحمتك التي وَسِعَتْ كلَّ شيء، يا مغيثُ أغثنا، يا مغيثُ أغثنا، يا مغيث أغثنا.
وممَّا نُسِبَ إلى الإمام أحمدَ أنَّه مُستجاب، يا حيُّ قبلَ كلِّ حي، وياحيُّ بعدَ كل حي، ويا حيُّ حينَ لا حي، يا حي محيي الموتى، لا إله إلا أنت، سبحانك إنِّي كنتُ من الظالمين.
وفي الحديث: "دعوةُ أخي ذي النُّون: لا إلهَ إلا أنتَ، سبحانك إنِّي كنتُ من الظالمين، لا يدعو بها مكروبٌ إلا فَرَّجَ الله كربَه".
وفي الحديث: "دعاءُ الكرب، لا يدعو به مهمومٌ ولا مكروبٌ إلا فَرَّجَ الله كربَه: لا إلهَ إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إلهَ إلا الله الحليمُ الكريمُ، لا إلهَ إلا الله رَبُّ العرشِ العظيمِ، لا إلهَ إلا الله رَبُّ السماوات وربُّ الأرضِ ربُّ العرشِ الكريم".
وقال بعضُ العارفين: من قال: يا ألله يا ألله يا ألله، سبعَ مرات، ثم قال بعدها: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين، استجاب الله له.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
وقال إبراهيمُ عندَ نار النمرود: حسبُنا الله ونعمُ الوكيل.
والدعاءُ محبوسٌ عن السماء حتى يصلَّى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
اللهمَّ فَرِّجْ عن المهمومين، ونَفِّسْ عن المكروبين، اللهمَّ مَنْ كادَنا فكِدْه، ومن بغى علينا فخُذْه واخْذُلْه، اللهمَّ أصلحْ أمرَ أمةِ محمدٍ، اللهمَّ دَبِّرْنا بحسنِ تدبيرك، والطُفْ بنا في قضائك وتقديرِك، ولا تهلكنا بذنوبنا، ولا تسلَّط علينا بذنوبنا مَنْ لا يرحمنا، ولا تُهلكنا وأنت رجاؤنا، افعلْ بنا ما أنتَ أهلُه، ولا تفعلْ بنا ما نحنُ أهلُه، واشغَلْ عنا كُلَّ ظالمٍ بنفسِه يا أرحمَ الراحمين، يا أرحمَ الراحمين، يا أرحمَ الراحمين.
وحسبنُا الله ونِعْمَ الوكيلُ، وصلَّى الله على سيدِنا محمدٍ وآلِه وصحبه وسلَّمَ.
وفرغ منه واضعُه يوسفُ بن حسنِ بن عبد الهادي، ليلةَ الجمعة، آخرَ شهرِ ربيعٍ الأولِ، سنة ثلاثٍ وتسع مدّة، بمنزلِه بالسهم الأعلى، من صالحية دمشق المحروسة.
والحمدُ لله وحده
وصلَّى الله على سيدنا محمد، وآلِه وصحبِه وسلَّم