الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع
في مذاهب الفقهاء
أما الشافعي وأحمد وداود الظاهري وأصحابهم ــ وفيهم مجتهدون كابن جرير وابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر وغيرهم ــ فلا خلاف في استحبابها عندهم.
وأما أبو حنيفة فقد ذُكِرت عنه رواية بكراهيتها، والصحيح عند أصحابه استحبابها، وذكر ابن عابدين منهم عدة نصوص من كتبهم على استحبابها ثم قال:"وتمام ذلك في رسالة "تحرير الأقوال في صوم الست من شوال" للعلامة قاسم، وقد ردَّ فيها على ما في "منظومة التباني" وشرحها من عَزْوه الكراهة مطلقًا إلى أبي حنيفة وأنه الأصح، بأنه على غير رواية الأصول، وأنه صحح ما لم يسبقه أحدٌ إلى تصحيحه، وأنه صحَّح الضعيفَ وعَمَدَ إلى تعطيل ما فيه الثواب الجزيل بدعوى كاذبة بلا دليل، ثم ساق كثيرًا من نصوص كتب المذهب"(2/ 136)
(1)
.
وأما مالك بن أنس فقد قال يحيى بن يحيى الأندلسي
(2)
: "سمعتُ مالكًا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: إني لم ير (كذا)
(3)
أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحدٍ من السلف،
(1)
"حاشية ابن عابدين"(2/ 435) ط. دار الفكر.
(2)
في "الموطأ" بروايته (1/ 311).
(3)
من المؤلف للإشارة إلى ما في النسخة التي رجع إليها. وفي طبعة محمد فؤاد عبد الباقي: "إنه لم ير" على الصواب.
وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يُلْحِقَ برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك خفَّةً على أهل العلم
(1)
ورأوهم يعملون ذلك".
أقول: قوله: "في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان" ظاهره أن المراد عقب الفطر، بأن يصام ثاني شوال إلى سابعه، ويشهد له قوله بعد ذلك:"وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء"، فإن توهُّمَ العامة أن حكمها حكم رمضان في الفرضية إنما يقرب إذا صِيْمتْ عقبَ الفطر.
وعلى هذا حمل كثير من المالكية كلام مالك، قال القاضي عياض المالكي:"ويحتمل أنه إنما كره وصلَ صومها بيوم الفطر، وأما لو صامها في أثناء الشهر فلا، وهو ظاهر كلامه في قوله: صام ستة أيام بعد يوم الفطر"(3/ 279)
(2)
.
وسيأتي نحوه عن الباجي وغيره.
وقوله إنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولا بلغه عن أحد من السلف= نفيٌ غير حاصر، لاحتمال أن جماعة منهم كانوا يصومونها ويُخفون ذلك، كما هو المشروع في صيام التطوع.
[ص 13] ثم إن كان الكلام في صومها عقب الفطر، فليس فيه نفْي صومهم إياها في أثناء الشهر. وإن كان على إطلاقه فلعلَّ جماعة كانوا
(1)
في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي: "رخصة عند أهل العلم".
(2)
لعل المؤلف أحال هنا إلى طبعةٍ من "شرح الزرقاني على الموطأ". والنصّ في طبعة دار الفكر منه (2/ 203). وأصله في "إكمال المعلم"(4/ 140).
يصومونها ولم يبلغ مالكًا، ولاسيما من غير أهل المدينة. ومن كان لا يصومها: فقد كان جماعة منهم يسردون الصوم، وجماعة يصومون كلَّ اثنين وخميس، وجماعة يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، وبعضهم يصومون من ذي الحجة والمحرم وغيرهما ما يزيد على ستة أيام.
فأما الذين يسردون فقد دخل صوم الستّ في صيامهم.
وأما الذين يصومون كل اثنين وخميس فلعلهم كانوا لا يرون اشتراطَ تتابعها، بل يكفي أن تكون من شوّال، ورأوا أنه يحصل لهم بصيام الاثنين والخميس صيام الستّ وزيادة.
وأما الذين يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، أو يصومون في ذي الحجة والمحرم وغيرهما ما يزيد على ستة أيام= فلعلهم حملوا الحديثَ على أن أصل المطلوب صيام ستة أيام من بقية السنة، وأنه لا اختصاص للأجر بكونها مُتْبَعةً برمضان من شوال، على ما يأتي تقريره في الفصل العاشر إن شاء الله تعالى.
على أن في كلام مالك نفسه الاعتذارَ عنهم بأنهم إنما كانوا يتركون صومها ويكرهونه خوفَ البدعة، بأن يُلحِق بعض أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منه، فيظنون أن صومها فرضٌ كرمضان.
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما يترك العمل الذي هو في نفسه مستحب إعلامًا للناس أنه ليس بفرضٍ ولا قريبًا منه، بأن يكون استحبابه بغاية التأكيد، وربما يفعل الشيء الذي في نفسه مكروه إعلامًا للناس أنه ليس بحرامٍ ولا شديد الكراهة. واقتدى به أصحابه، فكان أبو بكر وعمر وابن عباس لا
يُضحُّون
(1)
، لأنهم كانوا يرون الأضحية مندوبة، ويخافون أن يعتقد الناس وجوبها أو تأكُّدها، ويواظبون عليها ويشقُّ ذلك عليهم.
ويشهد لذلك قوله: "ويخافون بدعته"، إذ لو كانوا يرون أن صيامها ليس بسنةٍ أصلًا لكان صيامها عندهم بدعةً البتّةَ، وحقُّ التعبير عنه أن يقال:"ويرونه بدعة". فلما قال: "ويخافون
…
" عُلِم أنهم لا يرون صيامها بدعةً، ولكن يخشَون أن ينجرَّ الأمرُ إلى البدعة، وهي اعتقاد أن حكمها حكم رمضان في الفرضية. فتدبَّرْ.
وبعدُ، فتَرْكُ أكثر الناس العملَ بالشيء ــ ولو لم يظهر لهم عذرٌ ــ لا يدلّ على أنه ليس بسنة. هذا التكبير عند الخفض والرفع في الصلاة تركه الناس في عهد عثمان، حتى أحياه علي بالكوفة، فقال أبو موسى:"ذكَّرَنا عليٌّ صلاةً كنَّا نصلِّيها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إما نسيناها وإما تركناها عمدًا"
(2)
. وقال عمران بن حصين: "ذكَّرَنا هذا الرجل صلاةً كنّا نصلِّيها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يكبِّر كلما رفع وكلما وضع"
(3)
. (راجع البخاري مع شرحه "فتح الباري"
(4)
كتاب الصلاة، باب إتمام التكبير في الركوع). وأحياه أبو هريرة بمكة، فأنكره عكرمة حتى قال لمولاه ابن عباس: إنه أحمق، فقال ابن
(1)
انظر "مصنّف عبد الرزاق"(4/ 381، 382) و"السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 265).
(2)
أخرجه أحمد في "المسند"(19494) والطحاوي في "معاني الآثار"(1/ 221) وغيرهما.
(3)
أخرجه البخاري (784).
(4)
(2/ 269، 270) ط. السلفية.
عباس: "ثَكِلَتْك أمُّك! تلك صلاة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم "
(1)
. (أيضًا باب التكبير إذا قام من السجود).
ومالك رحمه الله له أصلان يبالغ فيهما:
الأول: شدة التحرُّز من البدعِ حتى ربما يقع في ترك السنة، ومن الحرامِ حتى ربما يقع في تحريم الحلال، وهذا هو الأصل المعروف بسدّ الذرائع.
الثاني: الاحتجاج بعمل أهل المدينة حتى يقع في مخالفة بعض السنن الثابتة، وربما يحتج بعمل أهل المدينة ويكون عمل كثير من أهل المدينة على خلاف ما قال.
وقد نازعه في هذين الأصلين من هو أجلُّ أصحابه ومن أشدِّهم ــ أو هو أشدُّهم ــ حبًّا له ومعرفةً بقدره، وهو الشافعي.
وعلى كل حال فإن أصحاب مالك قد كَفَونا، فقرَّروا استحباب صيام الستّ في الجملة، وذكروا قيودًا أخذوها من كلام مالك، فقالوا: إنما يُكره صومها لمن يجتمع فيه خمسةُ أمور:
الأول: أن يكون مقتدى به.
الثاني: أن يُظهِر صومها.
الثالث: أن يصومها متصلةً برمضان.
الرابع: أن يتابعها.
الخامس: أن يعتقد سنية اتصالها ــ أي في حقّه ــ مع اجتماع الأربعة الأولى.
(1)
أخرجه البخاري (788). وانظر "الفتح"(2/ 272).
قالوا: فإذا انتفى واحدٌ فأكثر من هذه الخمسة لم يُكْرَه صومُها، أي بل يُستحبُّ كما يأتي.
فأما المحدّثون منهم فمنهم من قال: لعله لم يبلغ مالكًا الحديثُ، قاله الحافظ أبو عمر ابن عبد البر
(1)
وغيره. ومنهم من قال: لعله لم يبلغه من وجهٍ يصحُّ، وقد بلغ غيرَه. ومنهم مَن قال: لعله إنما بلغه عن سعد بن سعيد، فلم يعتمد عليه، وإن كان لم يتكلم هو في سعد بن سعيد ولا أحدٌ من أهل عصره كما مرَّ.
وذكر المازري المالكي في "شرح صحيح مسلم"
(2)
[ص 14] كلامَ مالك، ثم قال:"قال شيوخنا: ولعل مالكًا إنما كره صومها لهذا، وأما صومها على ما أراده الشرع فجائز. وقال آخرون: لعله لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده، وإنما وجد العمل بخلافه". نقله عنه الأُبِّي
(3)
.
وقال الباجي في "شرح الموطأ": "وإنما كره ذلك مالك لما خاف من إلحاق عوامّ الناس ذلك برمضان، وأن لا يميِّزوا بينها وبينه حتى يعتقدوا جميع ذلك فرضًا". ثم ذكر رواية سعد بن سعيد ثم قال: "وسعد بن سعيد هذا ممن لا يحتمل الانفراد بمثل هذا، فلما ورد الحديث على مثل هذا، ووجد مالك علماء المدينة منكرين العمل بهذا احتاط. فتركه لئلا يكون
(1)
انظر "الاستذكار"(3/ 380) ط. دار الكتب العلمية. و"إكمال المعلم"(4/ 139، 140)، و"شرح الزرقاني على الموطأ"(2/ 203).
(2)
لم أجد كلامه في "المعلم بفوائد مسلم" المطبوع. ولكن القاضي عياض نقله في "إكمال المعلم"(4/ 139، 140).
(3)
"شرح مسلم" للأبّي المالكي (ج 3 ص 279). [المؤلف].
سببًا لما قاله. قال مطرف: إنما كره مالك صيامها لئلا يُلحِق أهل الجهل ذلك برمضان، وأما من رغب في ذلك لما جاء فيه فلم يَنْهَه، والله أعلم وأحكم. وقد قال الشيخ أبو إسحاق: أفضل صيام التطوع ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ستة أيام متوالية بعد الفطر، ذلك كصيام الدهر"
(1)
.
(1)
"المنتقى شرح الموطأ" للباجي المالكي (ج 2 ص 76). [المؤلف]. وانظر "المفهم" للقرطبي (3/ 237، 238).