الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر
في معنى الحديث
قوله: "فكأنما صام السنة" قد فُسِّر في حديث ثوبان، وحاصله أن الله عز وجل قال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [سورة الأنعام: 160]، فعُلِم منه أن من صام شهر رمضان عشرةَ أمثالِه فكأنه صام عشرةَ أشهر بغير تضعيف، فيبقى من السنة شهران، فإذا صام ستة أيام من شوال كانت بعشرة أمثالها، وذلك ستون يومًا، فذلك تمام السنة ..
وأما قوله: "فكأنما صام الدهر" فالمراد بالدهر هنا عمره من حين تكليفه إلى وفاته، وذلك يحصل له بأن يصوم في كل سنةٍ من عمره رمضانَ وستة أيام.
بقي أن يقال: فلو صام ستة أيام من غير شوال من الشهور أو فرَّقها، لحصل له أيضًا ستون بمقتضى الآية، فلماذا قُيِّدت في الحديث بقوله:"وأتبعَه بستٍّ من شوال"؟
وقد أُجيب عن هذا بما حاصله: أن الحسنات وإن كانت سواءً في أن كلًّا منها بعشر أمثالها، فإنها تتفاوت في القدر، فاليوم من رمضان وإن كان كاليوم من جمادى في تعشير الجزاء، لكن اليوم من رمضان حسنة عظيمة، فهو بعشرة أمثاله كلها عظيمة، واليوم من جمادى حسنة دون تلك، فعشرةُ أمثالها كلها دون تلك.
فمعنى الحديث أن الله عز وجل تفضَّل على عباده فجعل صوم ستٍّ من
شوال بحسب ما ورد في السنُّة يُساوي ستًّا من رمضان في الفضل لا في الفرض، أي أن الثواب كالثواب في القدر. وعلى هذا فصيام ستة أيامٍ غيرِها لا يحصل بها المقصود، بل لو صام ستين غيرَ مشتملةٍ على المنصوصة لم يحصل له مثلُ ثواب من صام الستَّ المنصوصة.
وبناءً على هذا المعنى استُشْكِل الحديث، قال الطحاوي: "فقال قائل: وكيف يجوز لكم أن تقبلوا مثلَ هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما فيه أن صوم غير رمضان يَعدِلُ صومَ رمضان
…
" (3/ 120)
(1)
.
ثم أجاب عن ذلك بما حاصله: أن فضل الله عز وجل واسعٌ، لا حَجْرَ عليه.
أقول: وقد يقال في حكمة ذلك: إن الصيام زكاة البدن، وقد تكون الزكاة العُشر كما في زكاة الزروع والثمار، فكأنه في علم الله عز وجل أن الحكمة تقتضي أن يُفْرَض على المكلف صيامُ عُشرِ عمرِه. [ص 15] ولما كان المشروع في الصيام التتابع، فلو وجبتْ لوجب وصلُها برمضان، ولكن عارض ذلك من الرحمة والحكمة ما اقتضى التخفيف، فخفَّف سبحانه ستة أيام فلم يفرضها، بل ندبَ الناسَ إلى صيامها. ولكن لما اقتضت الحكمة إيجابَ فِطر العيد أوجبَ فِطْرَه، وندبَهم إلى صيامها عقبَه، واقتضى فضلُه وكرمه أن لا يخفِّف من ثوابها، بل من صامها يكون له مثلُ أجرها لو كانت مفروضةً.
ونظير ذلك ما ورد أن فضل الفرض يَعدِل سبعين من فضل النفل، وقد
(1)
(6/ 126) ط. الرسالة. وانظر "المفهم" للقرطبي (3/ 236، 237).
ورد أن صلاةً بسواكٍ تعدِل سبعين صلاةً بغير سواك
(1)
. وسِرُّه: أنه كان حقُّ السِّواك الوجوب، كما صحَّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"
(2)
أي أمرَ إيجاب، فخفَّف الله عز وجل على الأمة، فلم يُوجب السِّواك ولكنه أبقى أجره على حاله لو كان واجبًا.
وقريبٌ منه شأن العيد، وقد كتبتُ فيه مقالةً
(3)
حاصلُها: أن العيد يوم زينة كما سُمِّي في كتاب الله عز وجل
(4)
، والزينة يَلْحقُها اللهو، وقد عُرِف من الشريعة أنها رخَّصت في اللهو ــ كضرب الدفّ والغناء الذي لا رِيبةَ فيه وغير ذلك ــ في النكاح والختان والقدوم من الغزْو. والسرُّ في ذلك: أن هذه المواضع يحصل لأصحابها فرح طبيعي، فاقتضت الحكمة أن يُرخَّصَ لهم فيما يقتضيه فرحُهم. ولما كان يوم العيد يومَ زينة ولهوٍ اقتضت الحكمة أن يُختار له يوم يحدث فيه بطبيعة الحال فرحٌ عام، وهذا متحقق في عيد الفطر، فإنه يحدث فيه بطبيعة الحال فرحٌ عام، لخروج الناس من حبْس الصوم.
ثم نظرتُ في عيد الأضحى، فلم أره يتحقق فيه ذلك إلا للحجّاج، لخروجهم من ضيق الإحرام. ثم ذكرتُ ما صحَّ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خطب الناس فقال:"إن الله قد فرضَ عليكم الحج فحُجُّوا". قال رجل: أكلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسكتَ، ثم عاد فعادَ الرجل، حتى كانت الثالثة قال: "لا، ولو
(1)
أخرجه أحمد (26340) وابن خزيمة (137) والحاكم في "المستدرك"(1/ 145، 146) والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 38) من حديث عائشة. وإسناده ضعيف.
(2)
أخرجه البخاري (887) ومسلم (252) من حديث أبي هريرة.
(3)
بعنوان "فلسفة الأعياد في الإسلام" ضمن هذه المجموعة.
(4)
في سورة طه: 59 {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} .
قلتُ نعم لوجبتْ"
(1)
.
فظهر لي أن الحكمة كانت تقتضي وجوبَ الحج على كل مسلمٍ كلَّ سنة، وأيَّد ذلك إيجاب الاجتماع على أهل المحلة في الجماعة كل يوم خمس مرات، وعلى أهل البلدة في الجمعة، فكان يناسب ذلك إيجابَ اجتماع جميع المسلمين ولو مرةً في السنة وذلك الحج، ولكن عارضَ ذلك ما فيه من المشقَّة وضياع كثير من المصالح، فخفَّف الله عز وجل عنهم وجعل الفرض على كلٍّ منهم مرةً في العمر، لأنه يحصل بذلك اجتماعُ جمعٍ كبير مشتمل على جماعةٍ من كلِّ جهة. واقتضى فضلُه وكرمه أن لا يمنع غيرَ الحجاج مما كانوا يستحقون الترخيصَ فيه ــ لو وجبَ عليهم الحجُّ فحجُّوا ــ من الزينة واللهو.
ويظهر من قضية السواك والحج أنه لِتعارُضِ الحكمة في اقتضاء الوجوب وعدمه جعل الله تبارك وتعالى الخِيرَةَ لرسولِه: إن شاء اختار الوجوب فيكون ذلك واجبًا بإيجاب الله تعالى، وإن شاء خفَّف. فاختار صلى الله عليه وآله وسلم التخفيف، ولذلك علَّق صلى الله عليه وآله وسلم الوجوبَ فيهما على مجرد أمره وقوله، فتدبَّرْ. وتمام هذا في مقالة العيد.
وقد يظهر من هذا أن أجر حجّ التطوع مثل أجر حج الفريضة، ولا حَجْرَ على فضل الله عز وجل. ويدلُّ عليه إطلاق الأحاديث في فضل الحج، بخلاف الصلاة والصيام، فإن فيها أحاديث في فضل الفرض وأحاديث في فضل النفل، والله أعلم.
(1)
أخرجه مسلم (1337) من حديث أبي هريرة.