الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل النقص
وهو منحصر في نقص حركة، ونقص حرف ونقص كلمة.
فأما نقص الحركة منه: حذفهم الفتحة من عين (فعل)، مبالغة في التخفيف، نحو
قول الراجز، أنشده الأصمعي:
على محالاتٍ
…
عُكسنَ عَكسا
إذا تسداها
…
طلابا غَلسا
يريد: غلسا، وقول الآخر:
وما كل مغبون ولو سَلف صفقة
…
يراجع ما قد فاته برداد
يريد: سلف، وقول الآخر:
وقالوا ترابي فقلت صدقتهم
…
أبي من تراب خَلقَهُ الله آدمُ
يريد: خلقه الله، وقول أبي خراش:
ولحم امرئ لم تطعم الطير مثله
…
عشية أمسى لا يبين من البَكمِ
يريد: من البكم. ومنه قول ذي الرمة:
أبت ذِكر عودن أحشاَء قلبه
…
خفوقاً ورَفضَاتِ الهوى في المفاصل
فحكم لـ (رفضات)، وهو اسم، بحكم الصفة: ألا ترى أن (رفضات) جمع (رفضه)، و (رفضه) اسم. والاسم إذا كان على وزن (فعله)، وكان صحيح العين، فإنه إذا جمع بالألف والتاء لم يكن بد من تحريك عينة، اتباعاً لحركة فائه، نحو: جفنه وجفنات وقصعة وقصعات. وإن كان صفة بقيت العين على سكونها، نحو: ضخمة وضخمات، وصعبة وصعبات. وإنما فعلوا ذلك - فرقاً بين الاسم والصفة، وكان الاسم أولى بالتحريك لخفته، فأحتمل لذلك (ثقل) الحركة، وأيضا فإن الصفة تشبه الفعل، لأنها ثانية عن الاسم غير الصفة، كما أن الفعل ثان عن الاسم. فكما أن الفعل إذا لحقته علامة جمع، نحو: ضربوا، ويضربون، لم يغير، فكذلك لم تغير الصفة إذا لحقتها علامتا الجمع، وهما الألف والتاء. فكان ينبغي - على هذا - أن يقول:(رفضات)، إلا أنه لما اضطر إلى التسكين حكم لها بحكم الصفة فسكن العين.
ومثل ذلك قوله:
ولكن نَظْراتٍ بعين مريضةِ
…
أولاك اللواتي قد مثلن بها مثلا
وقول الآخر:
على صروفَ
…
الدهرِ أو دولاتها
يدلننا اللمة
…
من لماتها
فتستريح النفس
…
من زَفراتها
وقول الآخر:
وحملت زَفْرات الضحى فأطقتُها
…
وما لي بزَفراتِ العشي يدان
وقول لبيد:
رحلن لشقة ونُصِبن مصبا
…
لوَخْرات الهواجرِ والسموم
وقول الآخر، أنشده ابن الأعرابي:
يا صاحب اجتنبن الشام إن بها
…
حمّى زعافا وحصباتٍ وطاعونا
وقول الآخر، أنشده الزجاجي، في نوادره، لأعرابية:
فاجتث خيرهما من جنب صاحبه
…
دهر يكر بفرحات وترحات
ومما يبين لك صحة ما ذكرته من أن تسكين العين إنما هو بالحمل على الصفة، أن أكثر ما جاء من ذلك في الشعر إنما هو مصدر لقوة شبه المصدر باسم الفاعل الذي هو صفة. ألا ترى أن كل واحد منهما قد يقع موقع صاحبه: يقال رجل عدل، أي عادل، فوقع (عدل)، وهو مصدر، موقع (عادل)، وهو اسم فاعل. وقال تعالى:(ليس لوقعتها كاذبة)، أي: كذبُ فوقع (كاذبة)، وهو اسم فاعل، موقع (كذب)، وهو مصدر.
والمعتل اللام من (فعلة) بمنزلة الصحيح اللام في أن العين لا تسكن في جمع الاسم منه إلا في ضرورة، نحو قوله:
دعا دعوة كرز وقد أحدقوا به
…
فراغ ودعوات الخبيب تروغ
وقد شذوا في شيء من هذا المعتل اللام، فاستعملوا عينة ساكنة، في سعة الكلام: حكى أبو الفتح عن بعض قيس: ثلاث ظبيات، بإسكان الباء. وروي أيضاً عن أبي زيد عنهم: شرية وشريات.
ومنه: حذفهم الفتحة من آخر الفعل الماضي تخفيفاً، نحو قول وضاح اليماني
عجب الناس وقالوا
…
شعر وضاح اليماني
إنما شعري - قَند
…
قد خُلطْ (بالجلجلان)
وقول نَهشل بن حَري، في إحدى الروايتين:
فلما تبَيَّن غب أمري وأمره
…
وولت بإعجاز الأمور صدورُ
يريد: تبين، وقول كعب بن زهير:
. . . . . . . . .
…
ومن أشْبهْ أباه فما ظلم
يريد: أشبه.
وحذفها من الفعل المعتل اللام أحسن من حذفها من آخر الصحيح اللام، نحو قول جرير:
هو الخليفة فارضُوا ما رضَي لكم
…
ماضي العزيمةِ ما في حكمه جَنفُ
وقول الآخر، أنشده أحمد بن يحيى:
ليت شعري إذا القيامة قامت
…
ودُعي بالحساب أين المصير يريد: دعي.
وقد جاء ذلك في سعة الكلام، قرأ الحسن:(وذروا ما بَقي من الربا)، سكن الياء، إلا أن ذلك شاذ يحفظ ولا يقاس عليه.
ومنه: حذفهم الفتحة التي هي علامة أعراب من آخر الفعل المضارع، نحو قول الراعي:
تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسباً
…
وابنا نزارِ فأنتم بيضةُ البلدِ
وقال الآخر:
فإن ببابِ الدار عينا وإن تُرَعْ
…
جداراً لتلك العين أهنى وأجمل
وقال الآخر، في إحدى الروايتين:
أخلق بذي الصبر أن يظفرْ بحاجته
…
ومُدمن القرع للأبواب أن يلجا
ألا ترى أنه قد سكن (تعرف)، (وترع) و (تظفر)، ثم حذفت اللام من (تراع) لالتقاء الساكنين، ونحو قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها
…
أو يرتَبطْ بعضَ النفوس حمامها
ألا ترى أنه أسكن (يرتبط)، وهو في الأصل منصوب، لأنه بعد (أو) التي بمعنى (إلا أن)، وكأنه قال: إلا أن يرتبط بعض النفوس حمامها. وإذا كانت بمعنى (إلا أن)، لم يكن الفعل الواقع بعدها إلا منصوباً بإضمار (أن).
وحذفها من آخر الفعل المعتل أحسن، نحو قوله:
إذا شئت أن تَلْهوُ ببعض حديثها
…
رفعن وأنزلن القطينَ المولدا
وقول الآخر:
فما سودتني عامر عن وراثة
…
أبي الله أن أسْمُو بأمَّ ولا أبِ
وقول الآخر:
وأن يَعُرَينَ إن كُسِي الجواري
…
فَتَنْبو العين عن كرم عِجافِ
ألا ترى أنه قد حذف الفتحة من آخر (تلهو)، و (أسمو)، و (تنبو) تخفيفاً وإجراء للنصب مجرى الرفع.
ومثل ذلك قول الآخر:
إذا ما غدونا قال ولدان أهلنا
…
تعالوا إلى أن يأتيناَ الصيد نحطبِ
هكذا رواه الفراء. ووجهه أنه سكن الياء من (يأتينا) تخفيفاً، ثم حذفها اجتزاء بالكسرة عنها. ومثل ذلك قول الآخر، أنشده اللحياني في نوادره:
وأغضى على أشياء منك لتُرْضِني
…
وأدعى إلى ما سَّركم فأجيب
فسكن الياء من (ترضيني)، واجتزأ بالكسرة عنها.
ومن هذا النوع أيضا حذف (الفتحة) التي هي علامة إعراب، من آخر الاسم المعتل، تخفيفاً وتشبيهاً للمنصوب بالمرفوع والمخفوض، نحو قوله:
إن القَوافي يتَّلجن موالجا
…
تَضَايقُ عنها أن تُوَلَّجها الإبرْ
وقول الآخر:
فتى لو ينادي الشمسَ ألقت قناعها
…
أو القمر الساري لألقى المقالدا
وقول النابغة:
رَدت عليه أقاصيه ولبده
…
ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد
وقول الآخر:
كأن أيديهن
…
بالقاع القَرقْ
أيدي جوارٍ
…
يتعاطين الوَرق
وقول الآخر:
يا دارَ هندٍ عفت إلا أثافيها
…
. . . . . . . . .
ألا ترى أن (القوافي)، و (الساري)، و (أقاصيه)، و (أيديهن)، و (أثافيها) في موضع (نصب)، وهي مع ذلك مسكنة الأواخر.
ومثل ذلك قول الآخر:
فلو أن واش باليمامة دارُه
…
وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
يريد: واشيا، وقول الآخر:
وكسوت عارٍ لحمه فتركته
…
جذلان يسحب ذيله ورداءه
يريد: عارياً، وقول الآخر:
ومن يطيق مذكِ عند صبوته
…
ومن يقوم لمستورٍ إذا خلعا
يريد: مذكياً.
وحذفت الياء في جميع ذلك لما خففت بالتسكين، لالتقائها مع التنوين وهو ساكن.
وتسكين الياء في حال النصب من الضرائر الحسنة.
ومنه: حذف علامتي الإعراب - الضمة والكسرة من الحرف الصحيح تخفيفاً، إجراء للوصل مجرى الوقف أو تشبيهاً للضمة بالضمة من (عضد)، وللكسرة بالكسرة من (فخذ) و (إبل)، نحو قول امرئ القيس في إحدى الروايتين:
فاليوم أشربْ غير مُسْتحقِبٍ
…
إثماً من الله ولا واغِلِ
يريد: أشرب، وقول الآخر:
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم
…
ونهر تيري فما تعْرفْكم العرب
يريد: فما تعرفكم، وقول الآخر:
وناع يخبرنا بمقتل سيد
…
تقطع من وجد عليه الأنامل
يريد: يخبرنا، وقول ابن قيس الرقيات:
وأنتِ لو باكرت مشمولةَ
…
صهباء مثل الفرس الأشقر
رُحتِ وفي رجليكِ ما فيهما
…
وقد بدا هَنْكِ من المئزر
وقول الآخر:
بكل مُدَمّاةٍ وكل مثقف
…
تنقاه من مَعْدنْه في البحر جالبه
يريد: من معدنهِ.
وأنكر المبرد والزجاج التسكين في جميع ذلك، لما فيه من إذهاب حركة الأعراب، وهي لمعنى، ورويا موضع (فاليوم أشرب):(فاليوم فأشرب)، وموضع (هند من المئزر):(ذاك من المئزر)، وموضع (فما تعرفكم):(فلم تعرفكم).
والصحيح أن ذلك جائز سماعاً وقياساً. أما القياس فإن النحويين اتفقوا على جواز ذهاب حركة الإعراب للإدغام - لا يخالف في ذلك أحد منهم.
وقد قرأت القراء:
(ما لك تأمنا) بالإدغام، وخط في المصحف، بنون واحدة، فلم ينكر ذلك أحد من النحويين. فكما جاز ذهابها للإدغام، فكذلك ينبغي أن لا ينكر ذهابها للتخفيف.
وأما السماع فثبوت التخفيف في الأبيات التي - تقدم ذكرها. وروايتهما بعض تلك الأبيات على خلاف التخفيف لا يقدح في رواية غيرهما هـ. وأيضاً فإن ابن محارب قرأ: (وبعولَتْهن أحَقّ بردهن)، بإسكان التاء. وكذلك قرأ الحسن:(وما يَعدهُمُ الشيطان)، بإسكان الدال. وقرأ أيضاً (مسلمة ابن محارب)(وإذ يعدكم الله)، بإسكان الدال.
وكأن الذي حسن مجيء هذا التخفيف في حال السعة شدة اتصال الضمير بما قبله، من حيث كان غير مستقل بنفسه، فصار التخفيف لذلك كأنه قد وقع في كلمة واحدة. والتخفيف الواقع في الكلمة، نحو: عضد في عضد، وفخذ في فخذ، وإبل في إبل، سائغ في حال السعة، لأنه لغة لقبائل ربيعة، بخلاف ما شبه به من المنفصل، فإنه لا يجوز إلا في الشعر.
فإن كانت الضمة والكسرة اللتان في آخر الكلمة علامتي بناء، اتفق النحويون على جواز حذفهما في الشعر تخفيفاً، نحو قول أبي نخيلة:
إذا اعوججن
…
قلت صاحِبْ قوم
بالدو أمثالَ
…
السفين العومِ
وقول العذافر الكندي:
قالت سليمى
…
اشترْ لنا دقيقا
وهات خبز
…
البر أو سويقا
وقول الآخر:
فاحذر ولا تَكْتَرْ
…
كريا أهوجا
علجا إذا ساق
…
بنا عَفَنْجَجَا
وقول الآخر:
ومن يتّقْ فإن الله معْهُ
…
ورزق الله مؤتاب وغادي
ألا ترى أن الأصل: صاحب قوم، واشتر، ولا تكتر كرياً، ومن يتق فإن الله، إلا أنه سكن إجراء للمتصل مجرى المنفصل، أو إجراء للوصل مجرى الوقف، كما تقدم في تسكين المرفوع والمخفوض.
فأما قراءة من قرأ: (ويخشَ الله ويتّقْه)، فسكن القاف، يريد: ويتقه، فإن التسكين فيها أحسن من التسكين في (اشتر لنا) وأمثاله،
لشدة اتصال الضمير بما قبله، على ما تقدم تبيينه.
وأما نقص الحرف فمنه: وصل ألف القطع، نحو قول أبي الأسود:
يا با المغيرة رب أمرِ مُعْضل
…
فرجتهُ بالمكرِ مني والدّها
يريد: يا أبا المغيرة، وقول الآخر:
يا للرجالِ لحادثِ الأزمانِ
…
و (النسوةِ) من آل (أبي) سفيان
و (قول) حاتم الطائي:
أبوهم أبي والأمهات امهاتنا
…
فأنعم ومتعني بقيس بن جَحْدرِ
يريد: والأمهات أمهاتنا، وقول أبي زبيد الطائي:
وأيقن أكدر إذ صاروا ثمانيةُ
…
أن قد تفرد أهلُ البيت بالثمن
يريد: أكدر، على وزن أحمر، وهو هاهنا اسم كلب، وقول الآخر، أنشده أبو الحسن:
تضب لثات الخيل في حجراتها
…
وتسمع من تحت العَجاجِ لها ازملا
يريد: لها أزملا. والأزمل: الصوت، وقول الآخر:
قلت لشيطاني
…
وشيطاناتي
لا تقربوني أنا
…
في الصلاة
وقول الآخر:
حتى يقول
…
كل من راهُ إذْ راهْ
يا ويحه من
…
جملِ ما أشقاه
يريد: من رآه إذ رآه. وأنشد أحمد بن يحيى:
هُويّ جندِ
…
إبليسِ المِريدِ
يريد: جند إبليس.
وقد جاء ذلك في الفعل: قال الطرماح:
ألا أيها الليل الطويل ألا أصبح
…
بتم وما الإصباح فيك بأروح
يريد: ألا أصبح، وقال الآخر:
ما شدّ أنفسهم وأعلمهم بما
…
يحمي الذمار به الكريم المسلم
يريد: ما أشد أنفسهم. وأنشد أبو علي:
إن لم أقاتل
…
فألْبِسوني بُرقُعا
وفتخاتٍ في
…
اليدين أربعا
يريد: فألبسوني. ومثل ذلك قول الآخر:
ت لي آل عوف فانْدهم لي جماعة
…
وسل آل عوف أي شيء يضيرها
يريد: ائت، فحذف الهمزة التي هي فاء (الكلمة)، فبقيت التاء متحركة، فلم يحتج إلى اجتلاب همزة وصل، وقول الآخر:
فإن نحن لم ننهض لكم فنبزكم
…
فَتُونا فقودونا إذا بالخزائمِ
يريد: فأتونا، فحذف الهمزة. وهو في الشعر كثير.
وقد جاء منه شيء في الكلام: حكى أبو زيد: (لاب لك)، يريدون: لا أب لك. وقرأ سالم بن عبد الله: (فمن تعجل في يومين فلا آثم عليه) بحذف همزة (أثم). وقرأ ابن محيصن: (وآتيتم إحداهن).
وقرأ ابن كثير في بعض الروايات عنه:
(إنها لإحدى الكبر)، بحذف همزة إحدى. وحكى أبو علي الدينوري أن العرب يقولون:(مخيرك)، يريدون: ما أخيرك. وحكى أيضاً عن المازني أن العرب يقولون: (ما شر اللحم للمريض)، (ما خير اللبن)، تريد: ما أشر، وما أخير. وحكى الكوفيون أيضاً عن العرب:(ما خبر اللبن للصحيح، وما شره للمبطون).
ومنه: ترك صرف ما ينصرف. وفيه خلاف، فأجازه الكوفيون وبعض البصريين. ومنعه س وأكثر البصريين. واحتج المانعون له بأنه إخراج الاسم عن أصله، لأن الأسماء المعربة الأصل فيها أن تكون منصرفة. قالوا: وإنما يجوز في الضرورة رد الكلمة إلى أصلها، لا إخراجها عن ذلك. وزعموا أن ما أنشده الكوفيون، شاهداً على منع صرف ما ينصرف، على غير ما أولوه، أو ينشد على غير ما أنشدوه. ألا ترى أنهم استدلوا بقول عباس بن مرداس:
فما كان حصن ولا حابس
…
يفوقان مرداس في مجمع
فلم يصرف مرداساً، وهو أبوه وليس بقبيلة. والرواية عندنا فيه:(يفوقان شيخي). وشيخه هو مرداس. واستدلوا بقول (ابن قيس الرقيات):
ومصعب حين جد الأم
…
ر أكثرها وأطيبها
فلم يصرف مصعباً. والرواية عندنا فيه: (وأنتم حين جد الأمر). واستدلوا بقول دوسر بن دهبل القريعي:
وقائلةِ ما بال دَوْسرَ بعدنا
…
صحا قَلْبُه عن آل ليلى وعن هندِ
فترك صرف دوسر. والجيد الصحيح، عندنا، في إنشاد بيت دوسر:(وقائلة ما للقريعي بعدنا) واستدلوا بقول ذي الإصبع:
وممن ولدوا عام
…
رُ ذو الطولِ وذو العرضِ
فلم يصرف عامراً، ولم يجعله قبيلة، لأنه قد وصفه بالمذكر، فقال:(ذو الطول وذو العرض). ولو كان قبيلة لقال: ذات الطول وذات العرض ولا حجة لهم في
ذلك، لأن عامراً أبو القبيلة، فيجوز أن تعنى به القبيلة فلا
يصرف، ثم يذهب به مذهب أبي الحي، فيقال ذو الطول، كما قال عز وجل:(ألا إن ثمود كفروا رَبَّهم ألا بُعدا لثمود)، فصرف الأول لما ذهب به مذهب (أبي) الحي، وترك صرف الثاني لما ذهب به مذهب القبيلة.
وما ذكروه من التأويل في هذا البيت ممكن. وأما الأبيات الثلاثة التي تقدمت قبل هذا البيت، فلا يقدح روايتهم لها في رواية الكوفيين، بل الروايتان محمولتان على الصحة. إلا أنه لا دليل للكوفيين على ما ذهبوا إليه من منع الصرف في بيت مرداس، ولا في بيت ابن قيس الرقيات، لأن حذف التنوين لا يكون دليلاً على منع الصرف إلا بشرط أن يستعمل الاسم، مع ذلك، في موضع (الجر) مفتوحاً. وكذلك أيضاً لا دليل لهم في قول الزبير بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، في أخيه العباس:
إن أخي عباسَ
…
عف ذو كرمْ
فيه عن العوراء
…
إن قيلت صمم
وفي قول الآخر:
لولا انقطاع الوحي بعد محمد
…
قلنا محمدُ من أبيه بديل
لأن عباساً ومحمداً ليسا في موضع الخفض.
ومن هذا القبيل قول أبي الطيب:
فحمدانُ حمدون وحمدونُ حارث
…
وحارثُ لقمان ولقمانُ راشد
والصحيح عندي ما ذهب إليه الكوفيون، بدليل قول دوسر:(ما بال دوسر بعدنا)، قول عمرو بن عدي، ابن أخت جذيمة:
فإن تستنكري عمرا فإني
…
أنا ابن عديَّ حقاً فأعرفينا
وقول الأخطل:
طلب الأزارق بالكتائب إذ هوت
…
بشبيبَ غائلة النفوس غدور
وقول أبي دهبل:
أنا أبو دهبلَ
…
وهْبُ لوهَبْ
من جُمحِ والعز
…
فيهم والحسبْ
وقول الكميت:
يرى الراؤون بالشقرات منها
…
كنار أبي حباحبَ والظبينا
وقول حسان بن ثابت:
. . . . . . . . .
…
شلت يدا وحشيَّ من قاتل
ألا ترى أن دوسراً، وعدياً، وشبيباً، ودهبلاً، وأبا حباحب، ووحشياً، في موضع خفض، وهي مع ذلك مفتوحة غير منونة.
ووجه منعها الصرف اعتدادهم فيها بعلَّة واحدة من العلل المانعة للصرف، وهي العلمية، تشبيهاً لها بالعلة التي تمنع الصرف وحدها.
ومنه: حذف التنوين لالتقاء الساكنين، نحو قول حسان:
لو كنت من هاشم أو من بني أسد
…
أو عبد شمس أو أصحاب اللوى الصيد
أو من بني زهرةِ الأخبار قد علموا
…
أو من بني خلفِ الخضر الجلاعيد
يريد: من بني خلف الخضر، وقول أبي الأسود:
فألفيته غير مُسْتَعتبٍ
…
ولا ذاكرَ الله إلاّ قليلا
يريد: ولا ذاكراً الله إلا قليلاً، وقول ابن قيس الرقيات:
تذهل الشيخ عن بينه وتبدي
…
عن خدام العقيلةُ العذراءُ
يريد: عن خدام العقيلة، وقول الآخر:
حُمَيْدُ الذي أمج داره
…
أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
يريد: حميد الذي. وقول الآخر، أنشده الفراء:
لتجدّنّي
…
بالأميرِ برّا
وبالقناة
…
مدعسا مكرّا
إذا غطيفُ
…
السلمي فرّا
يريد: غطيف السلمي.
فأما قراءة أبي عمرو: (عزيرُ ابن الله)، فإنما حذف التنوين لأنه جعل (ابن الله) صفة لعزير، والخبر محذوف، والتقدير: عزيرُ ابن الله إلهنا. والعرب تحذف التنوين من الاسم العلم الموصوف (بابن) المضاف إلى العلم لالتقاء الساكنين، وهما التنوين وباء (ابن)، مع كثرة الاستعمال الداعية إلى التخفيف. فأما حذفه فيما عدا ذلك، فإنما سببه مجرد التقاء الساكنين، وهو غير جائز إلا في الضرورة. وقد نص س على ذلك في الباب الذي ترجمته: باب من اسم الفاعل (الذي) جرى مجرى الفعل المضارع
في المفعول في المعنى.
ومنه حذف النون من الثنية والجمع من غير أن يكونا موصولين أو مضافين، نحو قول الشاعر:
يقولون ارتحل قبلي قريشاً
…
وهم متكنفو البيتَ الحراما
يريد: وهم متكنفون البيت، ونحو قول تأبط شرا:
هما خطتا إما إسارُ ومنةُ
…
وإما دمُ والقتلُ بالحر أجدر
في رواية من رفع إسارا ومنه، يريد: هما خطتان، وقول الآخر:
لنا أعنز لبن سمان فبعضها
…
لأولادها ثِنْتا وفي بيتنا عنز
يريد: لأولادها ثنتان. وفي قول أبي حناء الفقعسي:
قد سالم الحيات
…
منه القدما
الأفعوان والشجاع
…
الشجعما
هكذا رواه الكوفيون بنصب الحيات وحذف النون من (القدما). التقدير:
القدمان، وقول الآخر:
ولم تَنَام
…
العينا
يريد: العينان، وقول أبي نخيلة:
كأن أذنيه
…
إذا تشوفا
قادمتا أو
…
قلما محرفا
يريد: قادمتان أو قلمان محرفان. هكذا أنشده الكوفيون، ونظروا به بيت أبي حناء المتقدم.
وذهب الفراء في قول امرئ القيس:
لها متنتان خظاتا كما
…
أكب على ساعديه النّمرْ
إلى أنه أراد خظاتان، فحذف النون. وأستدل على ذلك بقول الآخر:
ومتنان خظاتان
…
كزحلوف من الهَضْبِ
ولا يحفظ شيء من ذلك في كلام العرب، إلا ما نسبوه إلى كلام الطير، وهو قول الحجلة للقطاة:(قطا قطا، بيضك ثنتا وبيض مائتا)، أي ثنتان ومائتان.
ووجه حذف النون في جميع ذلك التشبيه بما يجوز حذفها منه في فصيح الكلام، وهو الموصول، نحو قول الأخطل:
ابني كليبٍ إن عميّ اللذا
…
قتلا (الملوك) وفككا الأغلالا
وقول الأشهب بن رميلة:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم
…
هم القوم كل القوم يا أم خالد
ومنه: حذف النون الذي هو علامة للرفع في الفعل المضارع، لغير ناصب ولا جازم، تشبيهاً لها بالضمة من حيث كانتا علامتي رفع، نحو قول أيمن بن خريم:
وإذ يغصبوا الناس أموالهم
…
إذا ملكوهم ولم يغصبوا
وقول الآخر:
أبيت أسري
…
وتبيتي تدلكي
وجهك بالعنبر
…
والمسك الذكي
وقول الآخر، أنشده الفارسي:
والأرض أورثت
…
بني آداما
ما يغرُسُوها
…
شجراً أياما
وقول الآخر، أنشده ابن جني في كتاب القد له:
تسلأ كل
…
حرة نحيين
وإنما سلأت
…
عكتين
ثم تقولي
…
اشتر لي قرطين
ألا ترى أن النون قد حذفت من: يغصبون، وتبتين، وتدلكين، ويغرسون، وتقولين، لغير ناصب ولا جازم، كما فعل بالحركة في:(أشرب) من قوله:
فاليوم أشربْ غير مستحقب
…
. . . . . . . . .
ولا يحفظ شيء من ذلك في الكلام، إلا ما جاء في حديث خرجه مسلم في قتلى بدر، حين قام عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم. . . الحديث، فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:(يا رسول الله، كيف يسمعوا، وأنى يجيبوا، وقد جيفوا) فحذف النون من (يسمعون) و (يجيبون).
ومنه: حذف النون الخفيفة الداخلة على الفعل المضارع للتأكيد، من غير أن يلقاها ساكن، نحو قوله، أنشده أبو زيد في نوادره:
اضرِبَ عنك الهمومَ طارقها
…
ضَرْبكَ بالسّوْطِ قونَسَ الفرس
قال ابن خروف: إنما جاز ذلك على التقديم والتأخير، فتوهم اتصال النون من (اضربن) بالساكن بعده.
والصحيح أنه حذفها تخفيفاً، لما كان حذفها لا يخل بالمعنى، وكانت الفتحة التي
في الحرف قبلها دليلة عليها.
ويدلك على صحة ذلك قول الشاعر، أنشده الجاحظ في البيان له:
خلافاً لقولي من فَيالة رأيه
…
كما قيل قبل اليوم خالفَ تُذكرا
يريد: خالفن، وقول الآخر، أنشده الفارسي:
إن ابن أحوص مغرور فبلَّغَهُ
…
في ساعديه إذا رام العلا قصر
يريد: فبلغنه، وقول الآخر:
يا راكباً بلغَ إخواننا
…
من كان من كندة أو وائلِ
يريد: بلغن. ألا ترى أن النون من (خالفن)، و (بلغنه) و (بلغن) لا يمكن أن يقال إنها حذفت على توهم اتصالها بساكن.
ومثل ذلك ما أنشده أبو زيد في نوادره:
في أي يومي
…
من الموت أفر
أيوم لم يُقْدرَ
…
أم يوم قدر
يريد: لم يقدرن، ودخلت النون على الفعل المنفي بلم، كما دخلت عليه في قول الآخر:
يحِسبه الجاهلُ
…
ما لم يَعْلما
ولا يجوز مثل هذا في سعة الكلام إلا شاذاً، نحو قراءة أبي جعفر المنصور:(ألم نشرحَ لك صدرك)، بفتح الحاء.
ومنه: حذف نون الوقاية من: (ليت)، (عن)، و (من) و (قد)، نحو قول زيد الخيل:
كمنيةِ جابرٍ إذ قال ليتني
…
أصادِفُه وأتلف جل مالي
وقول الآخر:
أيها السائل عنه وعني
…
لست من قيسِ ولا قيس مني
وقول الآخر:
قدني من نصر
…
الخُبَيْبين قدى
وقول الآخر، أنشده أحمد بن يحيى:
قد القلب من وجد برحت به قد
…
وللقلب من وجد بها أبداً قدى
ولا يجوز في الكلام إلا ليتني، وعني، ومني، وقدني. هذا مذهب البصريين. وزعم الكوفيون أنه يجوز في ما بعد (قد) النصب والخفض، يقال: قد عبد الله درهم، فمن نصب عبد الله قال: قدني درهم، فأثبت النون، ومن خفض عبد الله قال، إذا أضاف إلى نفسه، قدي درهم.
والصحيح ما ذهب إليه البصريون، لأنه لا يحفظ قدي، بحذف النون، إلا في ضرورة الشعر.
ومنه: حذف نون لكن، ومن، ولم يكن، لالتقاء الساكنين تشبيهاً بالتنوين، أو بحرف المد واللين، من حيث كانت ساكنة وفيها غنة، وهي فضل صوت في الحرف، كما أن حرف المد واللين ساكن، والمد فضل صوت فيه.
فمن حذف نون (من) قول الأعشى.
وكأن الخمرَ المدامةَ مِ الأس
…
فنط ممزوجةُ بماء زلال
يريد: من الأسفنط. وفيه جمع بين ضرورتين: حذف نون (من)، وقطع همزة الوصل، وقول الآخر:
أبلغ أبا دُخْتَنُوسَ مالكة
…
غير الذي قد يقال مِ الكذب
يريد: من الكذب، وقول أبي صخر:
وكأنهما مِ الآن لم يتغيروا
…
وقد مر للدارين من بعدنا عَصْر
يريد: من الآن.
ومن حذف نون (لكن) قول النجاشي:
فلست بآتية ولا أستطيعه
…
ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
يريد: ولكن اسقني.
ومن حذف نون (لم يكن) قوله:
لم يكُ الحق على أن هاجه
…
رسم دار قد تعفى (بالطلل)
يريد: لم يكن الحق.
فإن قال قائل: لم زعمت أن حذف (نون) لم يكن ضرورة وهي تحذف في فصيح الكلام، قال الله تعالى:(خلقتك من قبل ولم تَكُ شيئاً)،
فالجواب أن نقول: إن العرب إنما تحذفها في الكلام إذا لم يكن بعدها ساكن، لأنها إذ ذاك تكون ساكنة - تشبه الواو في (يغزو) والياء في (يرمي) والألف في (يخشى) في السكون وفي أن فيها فضل صوت، وهو المد، فأجروها لذلك مجراها في الحذف للجازم. وأما إذا كان بعدها ساكن، فإنها إنما تحذف لالتقاء الساكنين، إذ لو لم تحذف لالتقاء الساكنين لوجب تحريكها. وإذا تحركت لم (تشبه) الياء ولا الواو ولا الألف. وإذا لم تشبهها، لم يحذفها الجازم.
ومنه: قصر الممدود. والنحويون مجمعون على جوازه، لما فيه من رد الاسم إلى أصله بحذف الزائد منه، نحو قول الشاعر:
أنزل الناسَ بالظواهرِ منها
…
وتبّوا لنفسه بطحاها
وقول الآخر، أنشده الفراء:
ترامت به النسوان حتى رمَوْا به
…
وَرَا طرِق الشامِ البلادَ الأقاصيا
وقول الراجز:
لابدُ من صنعا
…
وإن طال السفر
فـ (البطحا)، و (ورا)، و (صنعا) ممدودات، وقد قصرت للضرورة بحذف الألف التي قبل الهمزة لأنها زائدة لغير معنى. فلما حذفت الألف، رجعت الهمزة
في (بطحا) و (صنعا) إلى أصلها، لأنها مبدلة من ألف التأنيث. وإنما كانت قلبت همزة لاجتماعها مع الألف التي كانت قبلها.
وأما الهمزة في (ورا)، فإنها أصل، وإنما صارت ألفاً بعد القصر، لأنهم سهلوها بإبدالها ألفاً، على حد قولهم في هنأ هنا: قال الشاعر:
راحت بمسلمة البغال عشية
…
فأرعى فزارة لا هناك المرتع
وحكى السكري عن الكسائي والفراء في شرحه شعر الكميت أنهما قالا إن العرب لا تكاد تقصر ممدوداً في رفع ولا خفض، يقولون! رأيت قضاءك، ولا يقولون: هذا قضاك، ولا (مررت) بقضاك. فعلى هذا قول النمر:
يسر الفتى طول السلامة والبقا
…
فكيف ترى طول السلامة يفعل
وقول السموأل بن عادياء:
بني لي عادياً حصناً حصيناً
…
إذا ما سامني ضَيْمُ أَبَيت
وقول الأعشى:
عنده البر والتقى وأسا الشق
…
وحمل لمُضْلعِ الأثقالِ
في رواية من كسر الهمزة، من القليل عندهما، لأن البقاء، و (عادياء)، و (الأساء) - وهو الدواء، في موضع رفع، وقد قصرت. ولا فرق عند البصريين بين المنصوب وغيره.
وفي بيت السموأل دليل على ما ذكرناه من أن المحذوف في بطحاء وصنعاء وأشباههما، الألف التي قبل همزة التأنيث لا همزة التأنيث. ألا ترى أنه منع (عاديا) الصرف، ولو كان المحذوف منه الهمزة التي للتأنيث لصرفه، إذ ليس فيه إذ ذاك ما يوجب منع الصرف، فلما منعه الصرف دل ذلك على أن الألف التي في آخره هي الهمزة المبدلة من ألف التأنيث عادت إلى أصلها.
وزعم الفراء أنه لا يجوز أن يقصر من الممدود إلا ما يجوز أن يجيء في بابه
(مقصور)، فلا يجوز عنده قصر حمراء، وصفراء، وأشباههما، لأن مذكرهما أفعل والصفة إذا كانت للمذكر على وزن (أفعل) لم يكن المؤنث إلا على وزن فعلاء.
وهذا الذي ذهب إليه باطل، بدليل قول الأعشى:
والقارح العدا وكل طِمِرة
…
ما أن تنالُ يدُ الطويل قَذَالها
وقول أبي الأسود:
رأيت الْتِوا هذا الزمانِ بأهله
…
وبينهم فيهم تكون النوائبُ
وقول الآخر:
ولكنما أهدى لقيس هدية
…
بفي من أهداها لك الدهرَ إثَلبُ
وقول الآخر:
فلو أن الأطبا كانُ حولي
…
وكان مع الأطباء الأساه
ألا ترى أن (العدا) فعال كقتال، وضراب، والصفة التي تكون على هذا الوزن لا تجيء على مثال فعلى فتكون من المعتل مقصورة. وكذلك اهداء مصدر أهدى، مثل أكرم إكراماً. والتواء مصدر التوى. ولا يجيء المصدر من أفعل على (أفعل)، ولا من أفتعل على (افتعل)، فيكون مثالهما من المعتل مقصوراً. وكذلك الأطباء جمع طبيب، وأفعلاء جمع (فعيل) لا يجيء في كلامهم إلا ممدوداً.
ومنه: الاكتفاء بالحركات عن حروف المد واللين المجانسة لها الكائنة في
أواخر الكلم، نحو قول خفاف بن ندبة:
كنواحِ ريش حمامةِ نجديةِ
…
ومسحت باللثتين عصف الأثمد
وقول مضرس الأسدي:
وطرتُ بمنصلي في يعملاتِ
…
دوامي الأيدِ يخبطن السريحا
وقول الأعشى:
وأخو الغوانِ متى يَشأ يَصرِ منه
…
ويَعُدْنَ أعداءّ بُعَيْدَ وِدادِ
ألا ترى الياء من (نواحي)، و (الأيدي)، و (الغواني) قد حذفت واجتزئ بالكسرة عنها. ووجه ذلك التشبيه بقصر الممدود، أو بحذفهم لها مع التنوين، من جهة أن الألف واللام والإضافة يعاقبان التنوين، فحكم لكل
واحد منهما بحكم ما عاقبة. فكما تحذف الياء في (نواح)، و (غوان)، و (أيد) مع التنوين، (فكذلك) حذفت في قوله: كنواح ريش حمامة، مع الإضافة، (وحذفت) في (الأيد) و (الغوان) مع الألف واللام.
ومثل ذلك قول الآخر:
كفاك كف ما
…
تليق درهما
جواداً وأخرى تُعطِ
…
بالسيف الدما
يريد: تعطي، وقول بعض الأنصار:
. . . . . . . . .
…
ولقد تُخْفِ شيمتي إعسار
يريد: تخفي.
ومن الناس من أنكر على س وغيره من النحويين جعلهم حذف الياء من (الأيد) وأمثاله من ضرورة الشعر. وأستدل على ذلك بأنه قد جاء في القرآن حذف الياء في غير رؤوس الآي، وقرأ به عدة من القراء، كقوله سبحانه وتعالى: (من يهدِ الله فهو المهتِد ومن يضلل فلن تجد له ولياً
مرشداً) (و) في آي غيرها.
وهذا لا يلزم النحويين لأنهم إنما أرادوا من لغته إثبات الياء في الأيدي وأمثاله قد يحذفها في الضرورة لما ذكرناه.
وأما الألف الكائنة في آخر الكلمة فإن حذفها والاكتفاء بالفتحة منها قليل، ومنه قول رؤبة:
وَصّاني العَجّاجُ
…
فيما وصّني
يريد: فيما وصاني. وإنما قال ذلك فيها لخفتها.
ومنه: حذف الياء والواو الواقعتين صلة لهاء الضمير المتحرك ما قبلها في الوصل، إجراء لها مجرى الوقف، نحو قول رجل من بأهلة:
أو معبر الظّهرِ ينبي عن وليته
…
ما حجّ رَبّهُ في الدنيا ولا اعتمرا
وقول الشماخ:
له زجل كأنهُ صوتُ حادٍ
…
إذا طلب الوسيقَة أو زَميرُ
وقول حنظلة بن مالك:
وأيقن أن الخيلَ أن تلتبسْ به
…
تكن لفسيل النخل بعده آبر
وقول الأعشى:
وما له من مجد تليد وما له
…
من الريح حظ لا الجنوب ولا الصبا
ألا ترى أن الواو قد حذفت من صلة هاء الضمير في: ربه، وكأنه، وبعده، وله من قوله:(ما له من مجد).
ونحو قول مالك بن حريم:
فإن يك غثاً أو سميناً فإنني
…
سأجعل عينيه لنفِسه مَقْنَعَا
يريد: لنفسه، فحذف الياء واجتزأ بالكسرة.
فأما قوله تعالى: (نوله ما تولى ونصله جهنم) و (خيراً يره) و (شراً
يره) و (يرضه لكم)، فإنما حذفت صلة الضمير في جميع ذلك، لأنها قد كانت محذوفة قبل الجزم في: نوليه، ونصليه ويراه، ويرضاه. فلما حذفت الياء والألف، لم يعتد بالحذف فتركت صلة الضمير محذوفة على ما كانت عليه في الرفع. فلذلك (كان) حذف الصلة فيما جاء من هذا النوع جائزاً في سعة الكلام. وإنما يكون حذف الصلة ضرورة إذا لم يكن ما قبل هاء الضمير ساكناً في الأصل، كالأبيات التي تقدم ذكرها.
والأحسن إذا حذفت الصلة للضرورة أن يسكن الضمير، حتى يكون الوصل قد أجري مجرى الوقف إجراء كاملاً، نحو قوله:
وأشرب الماء ما بي نحوه عطش
…
إلا لأن عيونَهْ سيل واديها
وقول الآخر:
فظلت لدى البيت العتيق أخيله
…
ومطواي مشتاقان لَهْ أرقان
بل زعم أبو الحسن الأخفش أن حذف صلة الضمير وتسكينه لغة لأزد السراة.
وأما الألف الواقعة صلة لهاء ضمير المؤنث، فإن حذفها والاجتزاء بالفتحة عنها من قبيح الضرائر، نحو قول بعض العرب:
أما تقود به شاةُ فتأكلها
…
أو أن تبيعَهَ في بعضِ الأراكيب
يريد: أو أن تبيعها.
وكذلك أيضاً حذفها في الوقف وإلقاء حركة الضمير على ما قبلها من قبيل الضرائر. ومن ذلك قوله:
فإني قد سئمت بدارِ قومي
…
أموراً كنت في لَخْمِ أخافَهْ
يريد: أخافها، وقول الآخر:
ليس لواحدٍ
…
على نِعمة
إلا ولا اثنين
…
ولا أهمه
يريد: ولا أهمها، إلا أن الألف من (أخافها) و (أهمها) حذفت وسكنت الهاء ونقلت حركتها إلى الحرف الذي قبلها.
وربما فعلوا ذلك في سعة الكلام: حكى الفراء: (بالفضلِ ذو فضلكم الله به، والكرامة ذات أكرمكم الله به)، يريد: بها، فحذفت الألف ونقلت حركة الهاء إلى الباء.
ومنه: حذف الياء من (هي) والواو من (هو)، وهو أقبح من حذفها من صلة
الضمير المتصل، لأنهما متحركتان تثبتان وصلاً ووقفاً. فمن حذف الياء من (هي) قوله:
دار لسعدي إذْ
…
هِ من هواكا
ومن حذف الواو من (هو) قول العجير السلولي:
فبيناه يشري رحله قال قائل
…
لمن جَمَلُ رخو الملاطِ نجيب
وقول الآخر:
وأعطيه ما يرجو وأوليه سؤله
…
وألحقه بالقوم حَتَاهُ لاحق
وقول الآخر:
بَيْنَاهُ في دار صدقٍ قد أقام بها
…
حيناً يعللنا وما نعلله
ووجه ذلك إجراء الياء والواو مجرى الياء والواو المنصوبتين. والياء والواو المنصوبتان قد يسكنان في الضرورة، إجراء لهما مجرى الياء والواو المرفوعتين، على ما تقدم تبيينه، فسكنتا. كذلك صار (إذ هي) بمنزلة (عليهي)، و (بيناهو) و (حتاهو) بمنزلة (لهو)، فلما صارتا كذلك حذفت الياء واجتزئ بالكسرة (عنها)، والواو (واجتزئ) بالضمة عنها، إجراء الضمير المنفصل مجرى الضمير المتصل.
وكان حذف الياء والواو (منهما) أقبح من حذفهما من الضمير المتصل، لأنه لم يتوصل إلى حذفهما إلا بعد تسكينهما، وهو ضرورة. وأيضاً فإن حذفهما يؤدي إلى بقاء الضمير المنفصل على حرف واحد. وذلك قبيح، لأنه عرضة للابتداء، فلا أقل من أن يكون على حرفين: حرف يبتدأ به، وحرف يوقف عليه.
ومنه: الاجتزاء بالكسرة عن الياء التي هي ضمير، وبالضمة عن الواو التي هي ضمير أيضاً. فمن الاجتزاء بالكسرة عن الياء قوله:
أما ترضى عَدوتِ دون موتي
…
لما في القلب من حنق الصدور
يريد: عدوتي، وقوله:
فما وجد النهدي وجداً وجدته
…
ولا وجد العذري - قَبلِ - جميل
يريد: قبلي، وقوله:
ومن قَبْلِ نادى كل مولى قرابة
…
فما عطفت يوماً عليك العواطف
يريد: قبلي.
ومن الاجتزاء بالضمة عن الواو قوله:
فلو أن الأطبا كانُ حولي
…
وكان مع الأطباء الأساه
يريد: كانوا:
وقد يحذفان ويسكن ما قبلهما في الوقف. فمما جاء في ذلك في الياء قول لبيد:
إن تقوى ربنا خير نَفَلْ
…
وبإذن الله ريثي وعَجَلْ
يريد: وعجلي، وقول الأعشى:
فهل يمنعنيَّ ارتيادي البلا
…
دَ من حذر الموت أن يأتينْ
وقوله:
ومن شانئ كاسفِ لونه
…
إذا ما انتسبت له أنكرنْ
يريد: أن يأتيني، وأنكرني.
وليس حذف الياء من (أنكرني) و (يأتيني) على حد حذف المفعول لفهم المعاني الجائز في فصيح الكلام، وإنما هو حذف بسبب الوقف، ولذلك أثبتت نون الوقاية، لأن الحذف للوقف عارض، فحكم للياء المحذوفة بحكمها لو كانت ملفوظاً بها.
ومما جاء من ذلك في الواو قوله:
لو أن قومي حين
…
أدعوهم حَمَلْ
على الجبال الصم
…
لا رفض الجبل
يريد: حملوا، وقوله:
شبوا على المجد
…
وشابوا واكتهلْ
يريد: واكتهلوا، وقوله:
جزيت ابن آوى بالمدينة قرضه
…
وقلت لشفاع المدينة أوجِفُ
يريد: أوجفوا.
ومنه: الاجتزاء بالحركات عن حروف المد واللين المجانسة لها في حشو الكلمة. فمما جاء من الاجتزاء بالضمة عن الواو قوله:
واتبعت أخراهم طريق أُلَاهُمْ
…
كما قيل نَجْمُ قد خوى مُتَنابع
يريد: أولاهم، وقوله:
حتى إذا ابتلت
…
حلاقيم الحُلقُ
يريد: الحلوق، وقوله:
كلمع أيدي مثاكيل مسلبة
…
يندبن ضرس بنات الدهر والخُطب
يريد: الخطوب، وقوله:
إن الذي قضا
…
بذا قاض حكيم
أن ترد الماء
…
إذا غاب النُّجُم
يريد: النجوم.
ومما جاء بالاجتزاء بالكسرة عن الياء قوله:
وأنتم على رأس الطوىَ مَلاطمُ
…
وأنتم لدى لحم الجزور لئام
يريد: ملاطيم، جمع ملطوم، وقوله:
وبدلت بعد الزعفران وردعه
…
صدا الدرع من مستحكمات المَسامرِ
يريد المسامير، وقول أم البهلول:
رخو العقاص
…
فاحم تباكره
بعنبر مصونة
…
قوارِرُه
يريد: قواريره، جمع قارورة، وقول غيلان بن حريث:
والبكرات (الفسج)
…
العَطَامِسا
يريد: العطاميس، جمع عيطموس، وهي الناقة الفتية العظيمة الحسناء وقول الآخر:
في فتية كلما تجمعت ال
…
بيداء لم يهلعوا ولم يَهلعوا ولم يَخِموا
يريد: ولم يخيموا، وقول الآخر:
وغَيرِ سُفْعِ
…
مُثلِ يَحَاممِ
يريد: يحاميم، جمع يحموم، وقول العجاج:
وكحل العينين
…
بالعَواوِر
يريد: العواوير، جمع (عوار).
ومما جاء من الاجتزاء بالفتحة عن الألف قول رجل من شعراء حمير:
كأنما الأسد في عرينهم
…
ونحن كالليل جاش في قَتَمِهُ
يريد: في قتامه، وقول الآخر، أنشده قطرب:
ألا لا بارك الله في سُهَيْل
…
إذا ما الله بارك في الرجالِ
وقول الآخر، أنشده قطرب أيضا:
أقبل سيل جاء
…
من عند الله
يَحْرِد حَرْدَ
…
الجنة المُغِلّه
فحذفت الألف من اسم الله، وقول الآخر، أنشده أبو زيد:
أنا على طول
…
الكلال والتّوَنْ
مما نقيم الميل
…
من ذات الضفن
يريد: والتواني، وقول الآخر:
مثل النقا لبده
…
ضرب الطّللْ
يريد: الطلال.
والاجتزاء بالفتحة عن الألف أقل من الاجتزاء بالكسرة عن الياء، و (بالضمة) عن الواو.
ومنه: تخفيف المشدد في القوافي، نحو قول امريء القيس:
لا وأبيك ابنة العامري
…
(م) لا يدعي القوم إني أفرْ
وقوله في هذه القصيدة:
إذا ركبوا الخيل واستلأموا
…
(تحرقت) الأرض واليوم قَرْ
يريد: أفر، وقر.
وهو كثير قد جاء في عدة أبيات من هذه القصيدة. وإنما خفف ليستوي له بذلك الوزن وتطابق أبيات القصيدة. ألا ترى أنه لو شدد (أفر)، لكان آخر أجزائه على (فعول) - من الضرب الثاني من المتقارب، وهو يقول بعد هذا:
تميم بن مر وأشياعها
…
وكندة حولي جميعاً صُبرْ
وآخر جزء من هذا البيت (فعل)، وهو من الضرب الثالث من المتقارب. وليس بالجائز له أن يأتي في قصيدة واحدة بأبيات من ضربين، فخفف لتكون الأبيات كلها من ضرب واحد.
وسواء في ذلك الصحيح والمعتل. ومن التخفيف في المعتل:
حتى إذا ما لم
…
أجد إلا السّري
كنت امراءاً من
…
مالك بن جَعْفرِ
يريد: السري، وقول امرأة من بني عقيل:
حَيْدَةُ خالي
…
ولَقيط وعَلِي
وحاتم الطائي
…
وهّاب المئي
يريد: وعلي، وقول عمران بن حطان:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن
…
وإن لقيت معدياً فعدناني
يريد: فعدناني، وقول العجاج:
أدركتها قدام
…
كل مِدْرهِ
بالدفع عني درء
…
كل عُنْجُهي
يريد: درء كل عنجهي، وقول الآخر:
عذرتك يا عيني الصحيحة بالبكا
…
فما لك يا عوراءُ والهملاني
يريد: والدمع الهملاني، فحذف الموصوف وخفف.
وقد يحذف المشدد في الوقف ويحذف حرف بعده. ومن ذلك قول لبيد:
وقبيل من لكيز حاضر
…
رهط مرجوم ورهط ابن المُعَلْ
يريد: المعلي، وقول النابغة:
إذا حاولت في أسد فجورا
…
فإني لستُ منك ولستَ مِنْ
يريد: مني.
وقد يخففون المشدد في غير القوافي، إلا أن ذلك قليل. ومنه قول ابن رواحة الأنصاري:
فسرنا إليهم كافَة في رحالهم
…
جميعاً علينا البَيْضُ لا يتخشع
يريد: كافة، وقول الآخر:
جزي الله الدّوَابَّ جزاء سوء
…
وألبسهن من جِربِ قميصا
وقول الآخر، أنشده القتبي:
فيا ليت اللحى كانت حشيشا
…
فَيعْلِفَها دَوَابُ المسلمينا
يريد: دواب، وقول (ابن قيس) الرقيات:
بكّى بعينك واكف القَطْرِ
…
ابن الحواري العالِي الذكْرِ
يريد: ابن الحواري.
ومنه: ترخيم الاسم في غير النداء، إجراء له مجرى النداء عند الاضطرار إلى ذلك. وهو جائز باتفاق من النحويين على لغة من لا ينوي رد المحذوف، بل يجعل ما بقي من الاسم كاسم غير مرخم، نحو قول امرئ القيس:
لنعم الفتى تعشو إلى ضوءِ نارهِ
…
طريفُ بنُ مالٍ لَيلةَ الجوع والخَصَرْ
يريد: ابن مالك، وقول الأسود بن يعفر:
وهذا ردائي عنده يستعيرهُ
…
ليسلبني نفسي أمالُ بنُ حَنْظل
يريد: ابن حنظلة، وقول الآخر:
وقد (سقطت)
…
مالكاً وحَنْظلا
وقول جميل:
بثين الزمي (لا) إن (لا) إن لزمته
…
على كثرة الواشين أي مَعُون
يريد: أي معونة، وقول الآخر:
ليومِ رَوْعِ أو
…
فَعَالِ مَكْرُمِ
يريد: مكرمة، وقول الآخر:
مالك لا تَنْهم
…
يا فلاحُ
إن النهيم
…
للسقاء راح
يريد: راحة.
واختلفوا في الترخيم على لغة من نوى رد المحذوف، فأجازه س وغيره من متقدمي النحويين، وأنشدوا شاهداً على جواز ذلك قول زهير:
خذوا حظكم يا آل عكرمِ واذكروا
…
أواصرنا والرَّحْمُ بالغيب تذكر
يريد: عكرمة، فحذف التاء وأبقى المحذوف الذي كان قبلها على فتحة، لأنه نوى رد التاء المحذوفة.
ومنه قول جرير:
ألا أضحت حبالكم رماما
…
وأضحت منك شاسعة أُمَاما
يريد: أمامة.
وأنكر ذلك أبو العباس المبرد. وتأول البيت الأول على أن يكون قد ذهب بـ (عكرم) فيه مذهب القبيلة، فمنع الصرف للتأنيث والتعريف. وزعم أن الرواية في البيت الثاني:
. . . . . . . . .
…
وما عهدُ كعهدك يا أماما
وما تأوله في (عكرم) ممكن. وأما البيت الثاني فحجة عليه. وما ذكر أنه رواه:
(وما عهد كعهدك يا أماما)، وليس فيه طعن على رواية غيره.
ويدل أيضاً على جواز الترخيم في غير النداء على لغة من نوى رد المحذوف قول امرئ القيس:
وعمرو بن درماء الهمام الذي غزا
…
بذي شُطب عضِب كمشية قسورا
يريد: قسورة. وقول ابن حبناء التميمي:
إنّ ابن حارثَ إن أشْتقْ لرؤيته
…
أو أمتدحْهُ فإن الناس قد علموا
يريد: ابن حارِثة، وقول الآخر:
أبا عرو لا تَبْعَدْ فكل ابن حرِةٍ
…
سيد عواه داعي موته فيجيب
يريد: أبا عروة. ألا ترى أن التاء في جميع ذلك قد حذفت وبقى الحرف الذي كان قبلها على فتحه.
ومثل ذلك أيضاً قول الآخر، أنشده الفراء:
وما أدري وظَنّي كُلّ ظَنِ
…
أمسلمني إلى قومي شَرَاحي
(فرخمه) بحذف آخره وحرف العلة الزائد قبله، وأبقى الحرف الذي كان قبلها، وهو الحاء، على حركته، على حد قولهم في ترخيم منصور: يا منص.
وقد يجيء حذف آخر الاسم في غير النداء، وأعني بذلك النكرة التي ليس في آخرها تاء تأنيث. والاسم المعرف بالألف واللام، نحو قول كثير:
خليلي أنْ أم الحكيم تباعدت
…
فأخلت بخيمات العُذَيْب ظلالها
يريد: العذيبة، فرخمها وفيها الألف واللام، وقول الآخر:
أناس تنال الماء قبل شفاههم
…
لهم واردات الغُرضِ شم الأرانب
يريد: الغرضوف فرخمه، وفيه الألف واللام، بحذف آخره وحرف العلة الزائد قبله، وقول عدي:
ليس حي على
…
المنون بخالِ
يريد: بخالد، فرخمه، وهو نكرة ليس فيه تاء التأنيث، وقول الآخر:
تحاذر وقع السوط خوصاء ضمها
…
كلال فجالت في حِجا حاجبٍ ضُمْرِ
يريد: في حجاج حاجب، فرخمه، وهو أيضاً نكرة ليست فيه تاء تأنيث.
وربما جاء شيء من ذلك في الكلام شاذاً: حكى ابن الأعرابي: (هم بين حاذِ وقاذ، يريدون: بين حاذف وقاذف، فرخما، وهما نكرتان ليس في واحد منهما تاء تأنيث.
وكأن (ما) جاء من ذلك مشبه بما شذوا فيه في النداء فرخموه وهو نكرة ليست فيه تاء، نحو قولهم: يا صاح، يريدون: يا صاحب.
والترخيم في هذا النوع أقل من الترخيم فيما قبله.
وربما حذفوا آخر الاسم المبني والحرف، تشبيهاً بالاسم المعرف، إلا أن ذلك قليل جداً. ومنه قوله:
أو راعيان لبعران شردن لنا
…
كي لا يحسان من بعراننا خبرا
يريد: كيف لا يحسان، وقول الآخر:
وطرفك أما جئتنا فاصرفنه
…
كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
يريد: كي ما، فحذف آخر (كي)، وقول عدي بن زيد:
فإن أهْلكْ فسَوْ تجدون فقدي
…
وإن أسلم يطب لكم المعاشُ
يريد فسوف.
وقد يحذفون من آخر الكلمة أكثر من حرف واحد على غير مذهب ترخيم الاسم، إذا اضطروا إلى ذلك، وهو أيضاً قليل جداً لا يجوز القياس عليه، نحو قول علقمة:
كأنّ إبريقَهم ظبي على شرفٍ
…
مفدمُ بسبا الكتانَ مَلْثُوم
يريد: بسبني الكتان، فحذف النون والياء المشددة وزاد ألفاً للإطلاق، أو بسبائب الكتان، فحذف الهمزة والباء، وقول لبيد:
دَرَس المَنَا بمتالع فأبانِ
…
. . . . . . . . .
يريد: المنازل، وقول الأخطل:
كانت مَنَاها بأرضِ ما يبلغها
…
بصاحِب الهمّ إلا الناقَةُ الأجُدُ
يريد: منازلها، وقول أبي داود:
يبدين جندل (حائر) لجنوبها
…
فكأنما (تذكي) سنابكها الحبا
يريد: الحباحب، وقول العجاج:
قواطنا مكة
…
من ورق الحَمِي
يريد: الحمام، فحذف الألف والميم المتطرفة، فصار (اللحم) - على حرفين، ثم خفضه لإضافة (ورق) إليه. على ذلك حمله س وأكثر النحويين.
وذهب أبو العلاء المعري إلى أنه أراد من ورق الحمام الحمي، أي المحمي، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه وخفف الياء المشددة، فقال: من ورق الحمي. ففي البيت على مذهبه ضرورتان: إحداهما حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، مع أن الصفة غير خاصة بجنس الموصوف لأن (الحمي قد) يوصف بها (غير) الحمام. وذلك غير جائز في سعة الكلام: لا يجوز أن تقول: مررت بطويل، تريد: برجل طويل، لأن الطول صفة غير خاصة بالرجل، إذ قد
يوصف به غيره. والأخرى: تخفيف الياء المشددة.
وقد يجيء الحذف في حشو الكلمة، إذا اضطر إلى ذلك، إلا أن يكون من الندور بحيث لا يلتفت إليه، نحو قوله:
حين ألقت بقباء بركها
…
واستحر القتل في عبد الأشَلْ
يريد: عبد الأشهل من الأنصار.
ووجه ذلك أنه شبه الهاء بالهمزة لمقاربتها لها في المخرج، فحذفها وألقى حركتها على الساكن قبلها، كما يفعل بالهمزة في (شمأل) و (ملأك) ونحوهما. ألا ترى أنك إذا خففت الهمزة منهما قلت: شمل وملك.
وأما نقص الكلمة فمنه: إضمار حرف الخفض وإبقاء عمله من غير أن يعوض منه شيء، نحو قوله:
لاهِ ابن عمك لا أفضلت في حسب
…
عني ولا أنت دياني فتخزوني
يريد: لله ابن عمك، وقوله:
رأين خليسا بعد أحوى تلعب
…
بفوديه سبعون السنينَ الكواملِ
يريد: سبعون من السنين الكوامل، وقوله:
رسم دارِ وقفتُ في طَلَلهْ
…
كدت أقضي الحياة من جَلله
يريد: رب رسم دار، وقول ذي الرمة:
أصهبَ يمشي
…
مِشْيَةً الأمير
لا أوطف الرأس
…
ولا مقرورِ
يريد: رب أصهب، وهو أول الرجز، (وقوله):
فأما تعرضن أميم عني
…
وينزعك الوشاة أو لو النياط
فحور قد لهوت بهن عين
…
نواعم في المروط وفي الرياط
يريد: فرب حور، فأضمر (رب) بعد الفاء التي هي جواب الشرط.
ولا يجوز شيء من ذلك في سعة الكلام، إلا في اسم الله تعالى في القسم، فإنه قد يحذف منه حرف الجر ويبقى عمله تخفيفاً لكثرة الاستعمال، فيقال: الله لأفعلن، بخفض اسم الله. ومن ذلك قوله:
ألا رب من تغشته الله ناصح
…
ومن قلبه لي في الظباء السوانح
في رواية من رواه بخفض اسم الله، أو في شذوذ من الكلام، نحو ما روى عن رؤبة من أنه كان يقال له:(كيف أصبحت، عافاك الله)، فيقول:(خير والحمد الله)، يريد: على خير.
ومنه: حذف حرف الخفض من المعمول ووصول العامل إليه بنفسه
للضرورة، تشبيهاً له بالعامل الذي يصل بنفسه، نحو قول جرير:
تمرون الديارَ ولم تعوجوا
…
كلامكم عليَّ إذاَ حرام
يريد: على الديار، وقول النابغة:
فبت كأن العائِدات فرشنني
…
(هراساً) به يُعلي فراشي ويُقشَب
يريد: فرشن لي، فحذف اللام وأوصل الفعل إلى الضمير بنفسه. ومثل ذلك قول الآخر:
تحن فتبدي ما بها من صَبَابةٍ
…
وأخفي الذي لولا الأسا لقضاني
يريد: لقضي علي، وقول الآخر:
ما شُقّ جيبُ ولا ناحتك نائحة
…
ولا بكتك جياد غير أسلاب
يريد: ولا ناحت عليك، وقول زيد بن عامر:
بخلت فطيمة بالذي يرضيني
…
إلا الكلام وقلما يُجْديني
يريد: يجدي علي، وقول الآخر، لأنشده أبو زيد:
كأن عينيّ
…
وقد بانوني
غربان في جدول
…
منجنون
يريد: بانوا عني.
ومنه: العطف على ضمير الخفض المتصل من غير إعادة الخافض، تشبيهاً له بالعطف على الظاهر، نحو قوله:
الآن قربت تهجونا وتشتمنا
…
فأذهب فما بك والأيام من عجبِ
يريد: وبالأيام، وقوله:
آبكَ، آية بي
…
أو مُصَدّرِ
من حُمُر الجِلّةِ
…
جَأبِ حَشْورِ
يريد: أو بمصدر، وقوله:
وقد رام آفاق السماء فلم يجد
…
له مصعداً فيها ولا الأرض مقعدا
يريد: ولا في الأرض، وقوله:
ما إن بها والأمورِ من تلفِ
…
ما حم من أمر غيبه وقعا
يريد: وبالأمور، وقوله:
أمرُّ على الكتيبة لا أبالي
…
أفيها كان حتفي أم سواها
يريد: أم في سواها، وقوله:
هلاّ سألت بذي الجماجم عنهم
…
وأبي نعيمٍ ذي اللوا المتخرق
يريد: وعن أبي نعيم، وقوله:
أو بين ممنون عليه وقومه
…
إن كان شاكرها وإن لم يشكر
يريد: وعلى قومه، وقوله:
أريحوا البلاد منكم ودبيبكم
…
بأعراضكم مثل الإماء الولائد
يريد: ومن دبيبكم، فحذف حرف الجر من جميع ذلك للضرورة. ومثل ذلك قوله:
تُعَلّق في مثل السواري سيوفُنا
…
فما بينها والأرض (غوط) نفانف
فعطف (الأرض) على الضمير المخفوض بـ (بين)، من غير أن يعيدها. التقدير:
وبين الأرض.
ولا يجيء (شيء) من ذلك في سعة الكلام عند المحققين من البصريين. والكوفيون (يجيزونه). فأما قوله تعالى: (وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين)، فـ (من) في موضع نصب، والمعنى: جعلنا لكم فيها معائش والعبيد والإماء. وأما قراءة من قرأ: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)، فمن العطف على ضمير الخفض من غير إعادة خافض، لأن المعنى: تساءلون به وبالأرحام. وهو بمنزلة قول العرب: أسألك بالله وبالرحم. وهي قراءة ضعيفة لما ذكرناه من أن العرب لا تعطف مخفوظاً على مخفوض قد كنى عنه إلا في الشعر لضيقه.
ومنه: إضمار الجازم وإبقاء عمله، وهو أقبح من إضمار الخافض وإبقاء عمله، لأن عوامل الأفعال أضعف من عوامل الأسماء. فمما جاء في ذلك قوله:
محمد تَفْدِ نفسَك كلّ نفس
…
إذا ما خفت من شيءٍ تَبَالا
يريد: لتفد نفسك، وقوله:
قلت لبوابٍ
…
لديه دارُها
تِيذَنْ فإني
…
حَمْؤها وجَارها
يريد: لتيذن، وقوله، أنشده الفراء:
من كان لا
…
يزعم أني شاعرُ
فَيَدْنُ مني
…
تنهه الزواجرُ
يريد: فليدن، وقوله:
على مثل أصحابِ البعوضة فاخمشي
…
لك الويل حر الوجه أو يبكِ من بكا
يريد: أو ليبك، وقوله:
فقلت ادعى وأدعُ فإن أندى
…
لصوت أن ينادي داعيان
يريد: ولأدعُ، فحذف الجازم في جميع ذلك، وهو لام الأمر للضرورة.
ومنه: إضمار (أن) الناصبة وإبقاء عملها من غير أن يعوض منها شيء، تشبيهاً لها بإضمار بعد (الحروف) التي جعلت عوضاً منها، وأعني بذلك الحروف التي ينتصب الفعل بعدها بإضمار (أن).
فمما جاء من ذلك قوله:
فلم أر مثلها خباسة واحدٍ
…
ونهنهت نفسي بعد ما كدت أْفَعَله
يريد: أن أفعله، وقوله:
وحَقّ لمن أبو بكر أبوه
…
يوفقَه الذي رفع الجبالا
يريد: أن يوفقه، وقول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحْضُر الوغى
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
في رواية من رواة: أحضر، بالنصب، يريد: أن أحضر، وقول أبي طالب:
لقد خفت إن لم يصلح الله أمركم
…
تكونوا كما كانت أجاديث وائل
يريد: أن تكونوا.
وقد استعمل ذلك أبو الطيب، فقال:
وكلما لقي الدينار صاحبه
…
في كفه افترقا من قبل يصطحبا
ولا يجوز ذلك في سعة الكلام. فإن جاء شيء منه حفظ ولم يقس عليه لشذوذه. حكي من كلامهم: (مره يحفرها)، (ولابد من تَتَبعها)، و (خذ اللص قبل يأخذك)، بنصب يحفرها، وتتبعها، ويأخذك.
وزعم الطبري أن العرب تقول: (تصنع ماذا،) و (تفعل ماذا) بنصب (تصنع) و (تفعل)، لأن معناه: تريد أن تصنع ماذا، وتريد أن تفعل ماذا، فنصبوه بهذا المعنى. فإذا قالوا: تريد ماذا، لم ينصبوا (تريد)، لأنه لا يستقيم أن تقول: تريد أن تريد ماذا، لأن الإرادة لا تراد. وهذا شيء لا أعلم أن أحداً حكاه غيره.
ومنه: استعمال الفعل الواقع في موقع خبر (عسى) بغير (أن)، نحو قول مالك ابن الريب:
وماذا عسى الحجاج يبلغُ جهده
…
إذا نحن جاوزنا حفير زياد
وقول هدبة بن خشرم:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
…
يكونُ وراءه فرجُ قريبُ
وقول الآخر:
فأما كيسُ فنجا ولكن
…
عسى يَغْتَرّ بي حَمِقُ لئِيمُ
وقول الآخر:
عَسَى الله يُغْني عن بِلادِ بن قادرِ
…
بمنهمر جون الربابِ سكوبِ
كأن الوجه أن يقال: وماذا عسى الحجاج أن يبلغ جهده، وعسى الكرب الذي أمسيت فيه أن يكون، وعسى أن يغتر بي، وعسى الله أن يغني.
وما ذكرته من استعمال الفعل الواقع في موضع خبر (عسى) بغير (أن) ضرورة، هو مذهب الفارسي وجمهور البصريين. وظاهر كلام س يعطي أنه جائز في الكلام، لأنه قال:(واعلم أن من العرب من يقول: عسى يفعل، يشبهها بكاد)، فأطلق القول ولم يقيد ذلك بالشعر. إلا أنه
لا ينبغي أن يحمل كلامه على عمومه، لما ذكره أبو علي من أنها لا تكاد تجيء بغير (أن) إلا في ضرورة. وأيضاً فإن القياس يقتضي أن لا يجوز ذلك إلا في الشعر، لأن استعمالها بغير (أن) إنما هو بالحمل على (كاد)، لشبهها بها من حيث جمعتها المقاربة، و (كاد) محمولة في استعمالها بغير (أن) على الأفعال التي هي للأخذ في الفعل، نحو: جعل يفعل، وطفق يفعل، من جهة أنها لمقاربة ذات الفعل، فقربت لذلك من الأفعال التي هي للأخذ في الفعل. وليست (عسى) كذلك، لأنها فيها تراخياً، ألا ترى أنك تقول: عسى زيد أن يحج العام الآتي. وإنما عدت في أفعال المقاربة مع ما فيها من
التراخي، من جهة أنها تدخل على الفعل المرجو، والفعل المرجو قريب بالنظر إلى ما ليس بمرجو. فلما كانت محمولة في استعمالها بغير (أن) على ما هو محمول على غيره، ضعف الحمل فلم يجيء إلا في الضرورة.
ومنه: حذف حرف النداء من النكرة المقبل عليها، نحو قول (الراجز):
جارِيَ لا
…
تستنكري عذيِري
يريد: يا جاري، وقول أبي نخيلة:
إذا اعوججن قلت
…
صاحبْ قوم
يريد: يا صاحب، وقوله، أنشده الأصمعي:
كليه وجريه ضَباعِ وابشري
…
بلحم امرئٍ لم يشهد اليومَ نَاصره
يريد: يا ضباع، وقول الآخر:
فقلتُ له عطارُ هلا أتيتنا
…
بدُهْن الخُزَامي أو بخوْصَة عرْفج
يريد: يا عطار.
وهو في الشعر كثير. وقد جاء شيء منه في الكلام، قالوا:(افتد مَخْنُوق، وأطرق كرا، وأصبح ليلُ). إلا أن ما جاء منه شاذَ يحفظ ولا يقاس عليه. وإنما لم يجز الحذف في سعة الكلام، لأن قولك:(يا رجل) أصله: يا أيها الرجل، فحذفت الألف واللام و (أي)، لأنها وصلة لما فيه الألف واللام، فانحذفت بحذفهما وصارت (يا) عوضاً من الألف واللام المحذوفة. ويعرف بها الاسم لنيابتها مناب أداة التعريف، فلو حذفت (يا) بعد ذلك لكثر الحذف، وكثرته إجحاف.
ومنه إضمار (لا) النافية غير الداخلة على الفعل المستقبل في جواب القسم، نحو قول النمر:
وقولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم
…
تلاقونه حتى يؤوب المُنَخّلُ
يريد: لا تلاقونه، وقول أبي ذؤيب:
وأنسى نشيبةَ والجاهلُ ال
…
مُغمّر يحسب أني نَسي
يريد: ولا أنسى نشيبة، وقول الآخر:
تنفكّ تسمع ما حيي
…
ت بهالكِ حتى تَكُونَهْ
يريد: لا تنفك.
وأما حذفها من الفعل المستقبل الواقع جواباً للقسم فجائز في سعة الكلام، نحو قوله تعالى:(تالله تفتأ تذكرُ يوسف)، المعنى: لا تفتأ.
ومما حذفت منه أيضاً ضرورة في غير الفعل قول أوس بن حَجر
حتى إذا الكَلاّبُ قال لها
…
كاليومِ مَطْلُوباً ولا طلَبا
يريد: لا كاليوم مطلوباً ولا طلباً، وقول الآخر:
رأيتك يا بن الحارثية كالتي
…
صناعتها أبقت ولا الوهى ترقع
يريد: لا صناعتها أبقت.
ومنه: حذف (ما) النافية. وهو قليل جداً. وهو قوله:
لعَنْرُ أبي دهماء زالت عزيزة
…
على قومها ما فتل الرند قادح
يريد: ما زالت عزيزة.
ومنه: حذف النون الداخلة على الفعل المضارع وإبقاء اللام، نحو قوله:
تألى ابن أوس حلفة لَيُرّدني
…
إلى نسوةٍ كأنهنّ مفائد
يريد: ليردنني. وقوله:
لَينْجُو من ملامتها وكانوا
…
إذا شَهِدوا العظائم لم يُليموا
يريد: لَيْنُجنّ.
ومنه: إثبات النون الداخلة على الفعل المضارع للتأكيد وحذف اللام، أنشد يعقوب:
فَليأزِلَنّ (ويبْكؤن) لقاحه
…
ويعللَنَّ وليده بسمارِ
يريد: وليبكؤن، وليعللن، وقوله:
ليت شِعْري وأشْعُرَنّ إذا ما
…
قربوها منشورة ودُعِيتُ
يريد: ولأشعرن، وقوله:
وقتيل مرة أثأرن فإنه
…
فِرغُ وإن أخاهم لم يقصد
يريد: لأثأرن.
ومنه: حذف همزة الاستفهام إذا أمن اللبس للضرورة، نحو قول امرئ القيس:
أحارِ ترى برقاً أريك وميضه
…
كلمع اليدين في حَبِيَّ مُكَللِ
يريد: أترى، وقول الكميت:
طَربتُ وما شوقاً إلى البيض أطرب
…
ولا لَعباً مني وذو الشيب يَلْعب
يريد: أو ذو الشيب يلعب، وقول الآخر:
أصبحت فيهم آمناً لا كمعشر
…
أتوني وقالوا من ربيعة أو مُضَرْ
يريد: أمن ربيعة أو مضر.
وأكثر ما يوجد ذلك مع (أم)، لأن فيها دلالة عليها، نحو قوله:
لَعَمْرُكَ ما أدري، وإن كنت دارياً
…
بسبغٍ رمين الجمر أم بثمان
يريد: أبسبع، وقوله:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً
…
شعيثُ بن سَهمْ أم شعيثُ بن منْقِرِ
يريد: أشعيث بن سهم.
وقد حذفت مع (أم) في الشاذ في قراءة ابن محيصن: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) بهمزة واحدة من غير مد.
وكأن الذي سهل حذفها كراهية اجتماع الهمزتين مع قوة الدلالة عليها ألا ترى أن (سواء) تدل عليها بما فيها من معنى التسوية، إذ التسوية لا تكون إلا بين اثنين، ويدل عليها مجيء (أم) من بعد ذلك.
فأما قول عمر بن أبي ربيعة:
ثم قالوا تحبها قلت بَهْراً
…
عَدَد النجم والحصا والترابِ
فليس على حذف الهمزة كما ذهب إليه بعضهم، لعدم الدليل على ذلك. وإنما قالوا له: أنت تحبها، قد علمنا ذلك وتحققناه منك.
ومنه: حذف الفاء من جواب الشرط إذا كانت جملة اسمية أو فعلاً مرفوعاً، لأنه إذ ذاك في تقدير جملة اسمية، نحو قوله:
من يفعل الحسنات الله يشكرها
…
والشر بالشر عند الله مثلان
يريد: فالله يشكرها، وقوله:
أأبي لا تبعد فليس بخالد
…
حي ومن تصب المنون بعيد
يريد: فهو بعيد، فأضمر المبتدأ وحذف الفاء، وقوله:
يا أقرعَ بن
…
حابس يا أقرعُ
إنك إن يُصْرعْ
…
أخوك تُصْرَعُ
يريد: فتصرع، أي فأنت تصرع، وقوله:
فقلت تَحَمْل فوق طَوْقَكَ إنَها
…
مُطَبّعة مَنْ يأتِها لا يَضِيرُها
يريد: فلا يضيرها، أي فهو لا يضيرها.
ومنه: حذف حرف العطف إذا دل المعنى عليه، نحو قوله، أنشده أبو الحسن الأخفش:
كيف أمسيتَ كيف أصبحتَ مما
…
يزرع في فؤاد الكريم
يريد: وكيف أصبحت، وقوله:
فأصبحن ينشرن آذانهن
…
في الطرح طرفاً شمالاً يميناً
يريد: ويميناً، وقوله، وأنشده ابن الأعرابي:
ما لي لا أُسْقَى
…
على علاتي
صبائحي غبايقي
…
قَيَلاتي
يريد: صبائحي وغبايقي وقيلاتي، وقوله:
ضرباً طِلَخْفاً
…
في الطّلَى (سَخِينا)
يريد: و (سخينا). والطلخف أشد من (السخين).
ومنه: استعمال (أما) غير مكررة من غير أن يأتي معها شيء يؤدي عن معناها فيستغني به عن تكرارها، نحو قول الفرزدق:
نهاضُ بدارٍ قد تَقَادمَ عَهْدها
…
وأما بأموات ألم خيالُها
يريد: إما بدار.
ومن ذلك عند (س) قول النمر:
سقته الرواعد من صَيّفِ
…
وإن من خريفِ فلن يعدما
يريد: أما من صيف وأما من خريف، فحذف (أما) الأولى و (ما) من (أما) الثانية فظهرت النون لأن (أما) مركبة من (أن) و (ما). وإنما قلبت النون لأجل الإدغام، فلما حذفت (ما) زال موجب قلب النون ميماً، وهو الإدغام، وظهرت.
فإن جئت مع (أما) بما يغني عن تكرارها، جاز أن تستعمل غير مكررة في الكلام والشعر، فتقول: أما أقعد وإلا فقم، وقام إما زيد أو عمرو.
ومن ذلك قول المثقب العبدي:
فأما أن تكونَ أخي بحقٍ
…
فأعرف منك غَثّي أو سميني
وإلا فاطرحني واتخذني
…
عدواً أتقيك وتتقيني
وقول الآخر:
إما مشيفُ على مجدٍ ومكرمة
…
أو أسرةُ لك فيمن يُهلكُ الورق
ومنه: مباشرة الفعل المضارع لـ (أن) المخففة من الثقيلة وحذف الفصل، نحو قول الشاعر، أنشده الفراء عن القاسم بن معن قاضي الكوفة:
إني زعيم يا نوي
…
قة إن سلمت من الرزاح
أن تهبطين بلادَ قو
…
م يُرْتَعُون من الطّلاحِ
وقول الآخر:
يا صاحبي فدت نَفْسي نُفُوسكما
…
وحيثما كنتما لاقيتما رشدا
أن تقرآن على أسماء ويحكما
…
مني السلام وأن لا تشعرا أحدا
وقول الآخر:
إذا كان أمر الناس عند عجوزهم
…
فلابد أن يلقون كل يَبابِ
وقول (تميم).
أبي الناسُ ويبَ الناس أن يشترونها
…
ومن يَشْتَري ذا علة بصحيح
وقول الآخر:
وإني لأختار القرى طاوي الحشا
…
محاذرة من أن يقالُ لئيم
قال أبو بكر بن الأنباري: (رواه الكسائي والفراء عن بعض العرب برفع يقال):
ولا يحسن شيء من ذلك في سعة الكلام حتى يفصل بين (أن) والفعل بالسين أو (سوف) أو (قد) في الإيجاب، وبـ (لا) في النفي. فإن جاء شيء منه في الكلام حفظ ولم يقس عليه، نحو قراءة (ابن) مجاهد:(لمن أراد أن يتم الرضاعة) برفع (يتم).
ومن النحويين من زعم أن (أن) في جميع ذلك هي الناصبة للفعل، إلا أنها أهملت حملا على (ما) المصدرية، فلم تعمل لمشابهتها لها في أنها تقدر مع ما بعدها بالمصدر.
وما ذكرته - قبل - من أنها مخففة من الثقيلة أولى. وهو مذهب الفارسي وابن جني، لأنها هي التي استقر في كلامهم ارتفاع الفعل المضارع بعدها.
ومنه: حذف المضاف من غير أن يقام المضاف إليه مقامه، نحو قوله:
رحم الله أعظماً دَفَنوها
…
بِسِجسْتانَ طلحة الطلحاتِ
في رواية من خفض (طلحة)، يريد: أعظم طلحة الطلحات، فحذف المضاف الذي هو (أعظم) لدلالة (أعظم) المتقدم الذكر عليه، ولم يقم المضاف إليه، وهو طلحة، مقامه، بل أبقاه على خفضه.
ومثله قول عنترة في إحدى الروايتين:
وكالورقِ الخُفافِ وذات غرب
…
ترى فيها عن الشَّرع ازورارا
يريد: وكالورق ورق الخفاف، فحذف المضاف، وهو (ورق) لدلالة الورق عليه. ولا يمكن أن يكون (الخفاف) بدلاً من الورق، لأنه أعم منه، وقول امرئ القيس في إحدى الروايتين أيضاً:
قعدت له وصحبتي بين ضارج
…
وبين تلاع بثلثِ فالعرض
يريد: تلاع يثلث، فحذف المضاف الذي هو (تلاع) لدلالة (تلاع) المتقدم الذكر عليه. وإنما لم يكن بد من تقدير حذف المضاف، لأنه لا يمكن إبدال (يثلث) و (العريض) من (تلاع)، لأنهما أعم منه. ألا ترى أن التلاع بعضهما، وقوله:
يا نُعْمَها ليلةً حتى تَخوّنَها
…
داعٍ دعا في فُرُوع الصّبح شحَّاج
يريد: دعاء شحاج، فحذف المضاف الذي هو (دعاء) لدلالة (داع) عليه. ألا ترى أنه لا يمكن أن يكون (شحاج) صفة ل (داع)، لأنه مخفوض و (داع) مرفوع.
ومثل ذلك في مثل قول أبي دؤاد:
أكل امرئ تحسبين امرءاً
…
ونارِ تَوَقّدُ بالليلِ نارا
يريد: وكل نار، فحذف (كلا) لدلالة (كل) المتقدم عليه. وأما الأخفش فيجعل (ناراً) المخفوض معطوفاً على (امرئ) المخفوض، و (ناراً) المنصوب معطوفاً على امرئ المنصوب، ولا يتكلف إضمار (كل) لأنه يجيز العطف على عاملين.
وإن جاء شيء من هذا النوع في الكلام حفظ ولا يقاس عليه، نحو ما حكاه الفراء عن بعض العرب أنه قال: (أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة
سنه الدقيق عظمه)،
يريد: لو تعلمون العلم علم الكبيرة سنه. فحذف (علماً) لدلالة (العلم) عليه. ونحو ما حكى الكسائي عن بعض العرب أنه قال: (أطعمونا) لحمياً سميناً شاة ذبحوها)، يريد: أطعمونا لحماً سميناً - لحم شاة ذبحوها. فحذفت (لحماً) لدلالة (لحم) المتقدم عليه.
ومن هذا النوع عند (س): (ما كل سوداء تمرة بيضاء شحمة)، فحذف (كل) لدلالة (كل) المتقدم عليه. والأخفش يجعله من العطف على عاملين كما تقدم.
ومنه: حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه من غير أن يدل عليه، معنى الكلام، بل شيء خارج عنه، نحو قول ذي الرمة:
عشية فرّ الحارِثيون بعدما
…
قضى نَحْبه في مُلتقى القومِ هَوْبرُ
يريد: ابن هوبر. قال ابن الكلبي: (هو يزيد بن أوبر)، وقول أوس:
فهل لكم فيها إليَّ فإنني
…
بصير بما أغيا النطاسي حِذْيما
يريد: ابن حذيم وهو طبيب كان في الجاهلية، وقول الصلتان:
أرى الخَطفي بذ الفرزدقَ شعرُهُ
…
ولكن خيراً من كليبٍ مَجَاشِع
يريد: ابن الخطفي، وهو جرير، والخطفي جده، وقول النابغة:
وكل صَمُوتٍ نَثْلَةٍ تَبّعيه
…
ونَسج سُلَيمٍ كلَّ قضَاَء ذَائل
يريد: أبا سليم، وهو داود، لأنه هو الذي صنع الدروع، وسليم: تصغير (سليمان)، صلوات الله عليه، تصغير ترخيم.
ومثله قول الحطيئة:
فيه الرماح وفيه كل سابغة
…
بيضاء محكمة من صنع سلام
يريد: من صنع أبي سلام، وأراد بسلام سليمان، صلوات الله عليه.
ومن ذلك أيضاً قول الراجز:
صبحن من كاظمة
…
الخص الخَربُ
يحملن عَبّاسَ بنَ
…
عبدِ المطلبْ
ومنه: حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في الموضع الذي يقبح ذلك فيه في سعة الكلام، نحو قوله:
عباس يا الملك المتوج والذي
…
عرفت له بيت العلا عدنانه
يريد: يا أيها الملك، وقوله:
فيا الغلامان
…
اللذان فرا
إياكما أنْ
…
تُكْسِباني شَراً
يريد: فيا أيها الغلامان.
وإنما قبح ذلك فلم يستعمل إلا في الشعر لما يؤدي إليه من مباشرة ما فيه الألف واللام حرف النداء، وذلك لا يجوز في الكلام فيما عدا اسم الله تعالى.
ومثل ذلك قول الآخر:
من أجلك يا التي تيمت قلبي
…
وأنت بخيلة بالوصل عني
يريد: يا أيها التي، ونحو قوله:
وقُصْري شَنِج الأنْسا
…
ءِ نباحِ مِن الشُّعْبِ
يريد: قصري ثور شنج الأنساء.
وإنما لم يجز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا البيت وأمثاله، لأن الصفة التي هي (شنج) غير خاصة بجنس الموصوف المحذوف. ألا ترى أن (شنج النسا) يوصف به الفرس والغزال وغيرهما، والصفة إذا كانت غير خاصة بجنس الموصوف لم يجز حذفها وإقامتها مقامه في الكلام. وقد تقدم تبيين ذلك في فصل نقص الحرف.
ومنه: حذف الموصوف وإبقاء الصفة وهي جملة أو مجرور، نحو قوله:
مالك عندي غيرُ
…
سَهْمٍ وحَجَرْ
وغَيْرُ كبداء
…
شديدةِ الوتَرْ
جادت بكفّيْ كان
…
من أرمى البَشَرْ
يريد: بكفي شخص كان من أرمى البشر، وقوله:
لو قلت ما في
…
قومها لم تِيثَم
يَفْضُلُها في
…
حَسَبٍ وميسِم
يريد: أحد يفضلها.
وهو مع (من) أحسن منه مع غيرها، نحو قول النابغة:
كأنك من جمالِ بني أُقَيْشٍ
…
يُقَعْقَعُ خلف رجليه بِشَنّ
يريد: كأنك جمل من جمال بني أقيش، وقول ذي الرمة:
فَظَلوا ومنهمْ دمعه سابق له
…
وآخر يثني دمعة العَيْن بالمهل
يريد: ومنهم فريق دمعه سابق له، وقول الآخر:
لكم مسجداً الله المزوران والحصا
…
لكم (قبصه) من بَسْن أْثرى وأقْترا
يريد: من بين رجل أثرى ورجل أقتر، وقوله:
فعاش ولم يُوتَرْ ومات ولم يَدَعْ
…
من الناس إلا من أبات على وِتْرِ
يريد: إلا شخصاً قد أبات على وتر، وقوله:
وما الدّهْرُ إلا تارتان فمنهما
…
أموت وأخرى أبْتغي العَيْشَ أكدحُ
يريد: فمنهما تارة أموت فيها، فحذف الموصوف والضمير العائد عليه من صفته.
وربما جاء ذلك في الكلام مع (من)، نحو قولهم:(منا ظعن ومنا أقام) يريدون: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام. وإنما حسن حذفه مع (من) لأنها بمعنى بعض، فكأنهم قالوا: بعضنا ظعن وبعضنا أقام.
ومنه: حذف الضمير الرابط للصلة بموصول غير (أي)، أو للصفة
بالموصوف إذا كان الضمير مبتدأ مخبراً عنه باسم غير ظرف ولا مجرور، ولم يكن في
الصلة ولا في الصفة طول.
فمما جاء من ذلك في الصفة قوله:
وهن علي خَدّيْ شَبِيب بنِ عامرِ
…
أثرن عَجَاجاتٍ سنايكها كُدْرُ
يريد: هي كدر، أي العجاجات، وقوله:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن
…
عاراً عليك ورُبّ قتلٍ عارُ
يريد: ورب قتل هو عار.
ومما جاء في الصلة قوله:
لم أر مثل الفتيان في غير ال
…
أيام ينسون ما عواقُبها
يريد: ما عواقبها.
فإن كان في الصلة أو في الصفة طول جاز حذفه في الكلام والشعر، نحو قولك: مررت برجل ضارب زيداً، تريد: هو ضارب زيداً، ومررت بالذي شاتم عمراً، تريد: هو شاتم عمرا، لأن الصفة والصلة قد طالتا بمعمول الخبر.
فمما جاء من ذلك في الصفة قول عمر بن أبي ربيعة:
قلت أجيبي عاشقاً
…
بحبكم مكلفُ
يريد: هو بحبكم مكلف، وقول الآخر:
أقلب في بغداد عيني لا أرى
…
سنا الصبح أو ديكاً ببغداد صائح
بلاد بها كانت شكاتي فلم أعد
…
ولو مت ما قامت عليَّ النوائح
يريد: أو ديكاً هو ببغداد صائح.
ومما جاء من ذلك في الموصول قول الأعشى:
فأنت الجوادُ وأنت الذي
…
إذا ما النفوسُ بلغن الصدورا
جدير بطعنة يوم اللقا
…
ء تضرب منه النساء النحورا
يريد: وأنت الذي هو جدير.
وحكى من كلامهم: (ما أنا بالذي قائل لك سوءاً، أي بالذي هو قائل).
فأما قراءة يحيى بن يعمر (تماما على الذي أحسن)، وقراءة رؤبة:(مثلا ما بعوضة) برفع (بعوضة)، فهما من قبيل الشاذ الذي
لا يقاس عليه لعدم الطول من الصلة.
ومنه: حذف الضمير الرابط للصلة بالموصول إذا كان مجروراً بحرف جر، ولم يدخل على الموصول أو على ما أضيف إليه حرف مثل ذلك الحرف الذي دخل (على) الضمير، أو يكون قد دخل عليه حرف مثله إلا أن العامل في الموصول والضمير ليسا بمعنى واحد.
فمن الأول قوله في أحد الوجهين:
فقلت لها: لا والذي حج حاتمُ
…
أخونك عهداً إنني غير خوّان
يريد: لا والذي حج حاتم له، وقول الآخر:
فأصبح من أسماء قيس كقابضٍ
…
على الماء لا يدري بما هو قابضُ
يريد: بما هو قابض عليه، وقول الآخر:
ناديتُ باسم ربيعةَ بن مكدمٍ
…
إن المنوةَ باسمه الموثوقُ
يريد: الموثوق به.
ألا ترى أن الضمير المحذوف من صلة (الذي) في البيت الأول مجرور باللام، ومن صلة (ما) في البيت الثاني مجرور بـ (على)، ومن (صلة)
(الموثوق) في البيت الثالث مجرور بالباء، والموصولات ليست كذلك.
ومن الثاني قول الآخر:
فأبلغا خالدَ بْنَ نَضْلةَ والْ
…
مَرْءُ مُعنىّ بلوم من يَثقُ
يريد: من يثق به.
ألا ترى أن الضمير المحذوف والمضاف إلى الموصول، وهو (لوم)، مجروران
بالباء إلا أن العامل في الضمير (يثق)، وفي المضاف إلى الموصول (معنى)، وهما مختلفان المعنى.
والصفة في جميع ذلك بمنزلة الصلة، تقول: مررت برجل مررت به، وإن شئت قلت: مررت (برجل مررت)، (تريد) رجل مررت به. وتقول: ضربت رجلاً مررت (به)، وسررت برجل مررت به، ولا يجوز أن تحذف الضمير، فتقول: ضربت رجلاً مررت، وسررت برجل مررت، إلا في ضرورة شعر.
ومنه: حذف الضمير الرابط للجملة الواقعة خبراً بالمخبر عنه إذا كان حذفه يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، نحو قول الأسود بن يعفر:
وخالدُ يَحْمَدُ ساداتناُ
…
بالحقّ لا يحمد بالباطلِ
وقول الآخر:
قد أصبحت أم
…
الخيار تدعي
علي ذنباً كلّه
…
لم أصنعِ
وقول الآخر:
وقالوا تعرفها المنازلَ من منى
…
وما كل من وافى منى أنا عارُف
يريد: أنا عارفه، وقول الآخر أيضاً:
أرجزاً تطلب
…
أم قريضاً
كلاهما أجِدُ
…
مستريضا
يريد: أجده مستريضاً.
ألا ترى أن (يحمد) و (أصنع) و (عارف) مهيآت للعمل في المبتدآت التي هي أخبار لها، وهي مع ذلك مقطوعة عن العمل فيها. فحذف الرابط في هذه الأبيات وأمثالها يحسن في الشعر ولا يحسن في سعة الكلام، بل إن جاء منه شيء حفظ ولم يقس عليه.
فمما جاء من ذلك قراءة يحيى: (أفَحُكمُ الجاهِليّةِ يَبْغُون) برفع حكم. التقدير: يبغونه.
هذا مذهب المحققين من البصريين، وأما الكوفيون ومن أخذ بمذهبهم من البصريين، فإنهم يجيزون حذفه في سعة الكلام، بشرط أن يكون المبتدأ
(كلا) أو اسم استفهام، نحو قولك: كل الدراهم قبضت، وأي رجل ضربت.
والصحيح أنه لا فرق بين اسم الاستفهام و (كل) وبين غيرهما من الأسماء إذا أدى حذف الرابط إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه.
ومنه: حذف ضمير الشأن أو القصة إذا كان اسماً ل (أن) وأخواتها، نحو قوله:
فلا تَشْتُم المولى وتَبْلُغْ أذَاتَهُ
…
فإن به تثأى الأمور وترأبُ
يريد: فإنه (به) تثأى الأمور، وقول الآخر:
كأن على عرنينه وجبينه
…
أقام شُعاع الشمسِ أو طلع البَدْرُ
يريد: كأنه على عرنينه، وقول الآخر:
إن من يَدْخُلِ الكميسة يوماً
…
يَلْقَ فيها جآذراً وظباء
يريد: إنه من يدخل الكنيسة: ولا يجوز أن يكون (من) اسم (إن) لأنها اسم شرط، وأسماء الشرط لا يتقدمها عامل إلا الخافض، بشرط أن يكون معمولاً لفعل الشرط، نحو قولك: بمن تمرر أمرر.
ومثل ذلك قول الأعشى:
إن من لام في بني بنت حسّا
…
نَ ألمه وأعْصِهِ في الخُطُوبِ
يريد: إنه من لام، وقول أمية بن أبي الصلت:
ولكنّ مَنْ لا يَلْقَ أمراً يَنُوبُهُ
…
بعُدَّته يَنْزِلْ بهِ وهْو أعْزَلُ
يريد: ولكنه من.
ومن ذلك قول جميل:
ألا ليتَ أيامُ الصفاءِ جديدُ
…
ودهر تولى يا بثين يعود
في رواية من رفع الأيام، يريد: ليتها أيام.
فحذف هذا الضمير يحسن في الشعر ويقبح في الكلام، إلا أن يؤدي حذفه إلى أن تكون (أن) وأخواتها داخلة على فعل، فإنه إذ ذاك يقبح في الكلام والشعر، لأنها حروف طالبة للأسماء، فاستقبحوا لذلك مباشرتها للأفعال.
وإنما قبح حذفه في الكلام وإن لم يؤد الحذف إلى مباشرة (أن) وأخواتها للأفعال، لأنه مفسر بالجملة التي بعده فأشبهت الجملة لذلك، وإن كانت في الخبر، الجملة الواقعة صفة في نحو قولك: رأيت رجلاً يحبه عمرو، وفي أن كل واحدة من الجملتين مفسرة لما قبلها، والجملة الواقعة صفة يقبح حذف موصوفها وإبقاؤها. فكذلك أيضاً يقبح حذف ضمير الشأن والقصة وإبقاء الجملة المفسرة له وأيضاً يستعمل. والحذف مناقض لذلك.
فأما قول الراعي:
فلو أنّ حَقّ اليوم منكم إقامةُ
…
وإن كان سَرْحُ قد مضى فَتَسَرّعا
وقول الآخر:
فليتَ دَفَعْت الهم عني ساعةُ
…
فبتنا على ما خيلت ناعمي بال
فيحتمل أن يكون المحذوف فيهما ضمير الشأن، فيكون التقدير:(فلو أنه حق اليوم منكم إقامة، و (فليته دفعت)، ويكون البيتان إذ ذاك من قبيل ما يقبح في الكلام والشعر، لما يلزم في البيت الأول من ولاية الفعل لـ (أن)، وفي البيت الثاني لولايته لـ (ليت) ويحتمل أن يكون المحذوف ضمير المخاطب، فيكون التقدير:(فلو أنكر حق اليوم)، و (ليتك دفعت الهم). وحملها على الوجه أولى، لأنه لا يلزم فيه من القبح ما يلزم في الوجه الأول.
ومنه: العطف على ضمير الرفع المتصل من غير أن يؤكد بضمير رفع منفصل
أو يكون في الكلام طول يقوم مقام التأكيد، نحو قوله، أنشده الفراء:
ألم تر أن النبعَ يَصْلبُ عودهُ
…
ولا يستوي والخروعُ المُتَقَصّفُ
وقوله:
ورجا الأخَيْطلُ مِنْ سَفَاهةِ رأيه
…
ما لم يكن وأبُ له لِينَالا
وقول عمر بن أبي ربيعة:
قلت إذا أقبلتْ وزُهرُ تَهَادى
…
كنِعاج المَلَا تَعسّفْنَ رَمْلا
وقول الآخر:
فلما التقينا والجيادُ عشيةَ
…
دَعَوْا يا لَكَلبِ وانتمينا لعامر
وقول الآخر:
فأقسم أن لو التقينا وأنتم
…
لكان لنا يومُ من الشر مظلمُ
كان الوجه في البيت الأول أن يقال: ولا يستوي هو والخروع، وأن يقال في الثاني: ما لم يكن هو وأب له، وفي الثالث: إذ أقبلت هي وزهر، وفي الرابع: فلما التقينا نحن والجياد، وفي الخامس: أن لو التقينا نحن وأنتم، إلا أن ضرورة الوزن أوجبت حذف الضمير المؤكد في جميع ذلك.
وإنما قبح العطف على الضمير المتصل من غير تأكيد ولا طول يقوم مقامه، لأن الضمير - ضمير الرفع المتصل جعلته العرب بمنزلة الجزء من الفعل، وكذلك جعلوا إعراب الفعل بعد الضمير في: تفعلان وتفعلون وتفعلين. ألا ترى أنه لو لم يكن كالجزء من الفعل لكنت قد حلت به (بين) الفعل وإعرابه، وذلك غير سائغ. فلما كان كالجزء من الفعل امتنع أن يقال: قمت وزيد وأمثاله، لأن حرف العطف إذ ذاك يكون كأنه لم يتقدمه معطوف
عليه، وفي ذلك إخراج له عن وضعه. فإذا وكد قام التأكيد مقام ذكر المعطوف عليه، لأنه هو في المعنى. ألا ترى أن (أنت) من قولك: قمت أنت وزيد، هو التاء في المعنى. وجعلوا الطول في قولك: قمت
اليوم وزيد عوضاً عن التأكيد. ولذلك أجازوا العطف معه من غير تأكيد: قال الله تعالى: (أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون)، فعطف على المتصل بـ (كان) من غير تأكيد لقيام الطول بخبرها مقامه.
ومنه: حذف الخبر في باب (كان) لدلالة المعنى عليه، نحو قول التيمي:
لَهْفي عليك للهفة من خائف
…
يبغي جوارك حين ليس مجير
يريد: ليس في الدنيا مجير، وقول الآخر:
فإن قصدوا لحقٍ حَقّ فأقصدْ
…
وإن جاروا فجر حتى يصيروا
يريد: حتى يصيروا لك تبعاً.
وإنما لم يجز حذفه إلا في ضرورة لأنه عوض عما اخترم منها الدلالة على الحدث، فلزم ذلك.
ومنه: حذف الموصول وإبقاء صلته. وهو عند البصريين من الضرائر التي لا يقاس عليها لقبحها، نحو قول جرير:
هل تذكرن إلى الديرين هجرتَكُمْ
…
ومَسْحَكُم صُلْبَكُم رَخْمانُ قُرْبانا
يريد: تذكرن مسحكم صلبكم وقولكم: يا رحمن قربانا - كأنه عيرهم اللكنة التي في النصارى - فحذف المصدر، وهو قولكم، وهو من قبيل الموصولات، وأبقى صلته، وهو يا رحمن قربانا، لأنه في موضع مفعول به.
وهو عند الكوفيين جائز في سعة الكلام. ومنه قوله تعالى (ومنا دون ذلك)، وقوله سبحانه:(لقد تقطع بينكم) التقدير: (ومنا من دون ذلك) و (لقد تقطع ما بينكم). و (ما) و (من) - عندهم - موصولتان.
والآيتان وأشباههما عند البصريين على تقدير موصوف محذوف. وقد تقدم تبيين ذلك.
وأما نقص الجملة فمنه قوله، أنشده يعقوب في معاني الشعر له:
فأصبحت من
…
وصلنا كأن لمِ
وقول ابن هرمة:
وعليك عهد الله أن ببابه
…
أهْلَ السيالة إنْ فَعلتَ وإن لم
يريد: وإن لم تفعل، فحذف جملة الفعل والفاعل، واكتفى منها بالجازم وهو (لم).
ومثله قول الآخر:
يا رب شيخ من
…
لُكَيْزٍ ذي غَنَمْ
في كفه زيغ
…
وفي فيه فَقَمْ
أجلح لم يشمط
…
وقد كان ولمْ
يريد: وقد كان ولم يجلح.
وإنما لم يجز الاكتفاء بـ (لم) وحذف ما تعمل فيه إلا في الشعر، لأنها عامل ضعيف، فلم يتصرفوا فيها بحذف معمولها في حال السعة. بل إذا كان الحرف الجار - وهو أقوى في العمل منه لأنه من عوامل الأسماء، وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال - لا يجوز حذف معموله، فالأحرى أن لا يجوز ذلك في الجازم.
فإن قال قائل: فلم جاز الاكتفاء بـ (لما) وحذف معمولها في سعة الكلام وهي جازمة، فقالوا: قاربت المدينة ولما - أي ولما دخلها - ولم يجز ذلك في لم؟ فالجواب أن تقول: إن الذي يسوغ ذلك فيها كونها نفياً لـ (قد فعل). ألا ترى أنك تقول في نفي قد قام زيد: لما يقم، فحملت لذلك على (قد). فكما يقال: لم يأت زيد وكأن قد، أي: وكأن قد أتى، فيكتفي بـ (قد)، فكذلك أيضاً قالوا: قاربت المدينة ولما، أي: ولما أدخلها، فاكتفوا بـ (الما).
ومنه: حذف فعلي الشرط والجواب بعد (أن)، نحو قول امرأة من العرب:
قالت سُلَيْمى لَيْتَ
…
لي بَعْلاً بِمَنْ
يَغْسِلُ رأسي
…
وينسيني الحَزَنْ
وحاجة ما إن لها
…
عندي ثَمَنْ
مستورة قضاؤها
…
منه ومِنْ
قالت بناتُ العم:
…
يا سلمى وإنْ
كان فقيراً
…
معدماً قالت وإنْ
تريد: وإن كان فقيراً معدما فزوجينه.
ولم يجيء ذلك في غير (إن) من أدوات الشرط. وسبب ذلك أنها أم أدوات الشرط، فجاز فيها من التصرف ما لم يجز في غيرها.
ومنه: قول الآخر:
نادوهم ألا
…
الجموا ألا تا
قالوا جميعاً
…
كلهم ألافا
يريد: ألا تركبون، وألا فأركبوا، فحذفت الجملة التي هي اركبوا، واكتفى بحرف العطف وهو الفاء. ولولا الضرورة لم يجز ذلك. وكذلك أيضاً اكتفاؤه بالتاء من (تركبون) وحذف سائر الجملة، إنما ساغ للضرورة.
ومثل ذلك قول (الآخر):
بالخير خيرات
…
وإن شراً فآ
ولا أريد الشر
…
إلا أن تآ
أراد: فأصابك الشر، فاكتفى بالفاء والهمزة وحذف ما بعدهما وأطلق الهمزة بالألف. وأراد بقوله:(إلا أن تآ) إلا أن تأبى الخير، فاكتفى بالتاء والهمزة وحذف ما بعدهما وحرك الهمزة بالفتح وأطلقها بالألف.
ونحو من ذلك قول الآخر:
قلت لها قفي
…
لنا قالت قاف
لا تحسبي إنا
…
نسينا الإيجاف
تريد: قد وقفت، فاكتفت بالقاف.
ومثل ذلك أيضاً، إلا أن الدليل على المحذوف متأخر عنه، قوله:
قد وعدتني
…
أم عمرو أن تا
تَدْهَنُ رأسي
…
وتفليني وا
وتمسح القنفاء
…
حتى تنتا
ألا ترى أنه حذف ما بعد التاء والواو من غير أن يتقدم له دليل على ذلك المحذوف، ثم أعادها مع ما كان قد حذفه ليبين المعنى الذي أراده قبل.