المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل البدل وهو منحصر في: إبدال حركة من حركة، وحرف من - ضرائر الشعر

[ابن عصفور]

الفصل: ‌ ‌فصل البدل وهو منحصر في: إبدال حركة من حركة، وحرف من

‌فصل البدل

وهو منحصر في: إبدال حركة من حركة، وحرف من حرف، وكلمة من كلمة، وحكم من حكم.

فأما إبدال الحركة من الحركة فمنه: إبدال الكسرة التي قبل ياء المتكلم في غلامي وأمثاله في غير النداء فتحة، فتقلب الياء لذلك ألفاً، إجراء له مجراه إذا كان (منادي)، نحو قول:

أطوف ما أطوف ثم آوي

إلى أما (ويرويني النقيع)

يريد: (إلى) أمي، وقوله:

فيا لَهْفَ ما أما عليك إذا غدا

على ذوو الأضغانِ بالنّظَرِ الشّزْرِ

يريد: ما أمي عليك، أي: يا لهف أمي عليك، ونحو قول الآخر،

ص: 216

أنشده ثعلب:

إن أخَيّي

بِنْتُهُ بنتايا

يريد: بنته بنتي يا هذا. فحول الكسرة فتحة والياء ألفاً، وحذف المنادي. وهو قليل جداً.

ومنه:

تحريك نون التثنية بالفتح بدل الكسر. ولا يكون ذلك إلا في النصب والخفض طلباً للتخفيف، نحو قوله:

على أحوذيين استقلت عشيه

فما هي إلا لمحة فتغيب

رواه الكوفيون بفتح النون من أحوذيين. وقول الآخر:

يا رب خالِ لك

من عُرَيْنه

حج على

قُلَيّصِ جُوَيْنه

فَسْوته لا

تنقضي شهريْنَه

شهري ربيعِ

وجمادَيَيْنَه

ففتح النون من شهرين والنون من جماديين وألحقهما هاء السكت.

ص: 217

وقد فتحوها أيضاً في لغة من يجعل التثنية بالألف على كل حال إلا إنهم لم يفتحوها في هذه اللغة إلا في حال النصب، وكأنهم أجروا الألف مجرى الياء لكونها واقعة موقعها. ومن ذلك قوله:

أعرف منها

الأنف والعَيْنانا

ومنخرين

أشبها ظَبْيانا

وقول الآخر:

ألقى عليك

المغرم الأونانا

يريد: الأونين.

وقد جاءت نون التثنية في حال الرفع محركة بالضم أنشده أبو عمر المطرز

في اليواقيت له:

يا أبتا

أرقني القنانُ

فالغمْضُ لا

تَطْعَمه العَيْنانُ

من أجل بُرغوث

له أسنانُ

وللبعوضِ فوقنا

دَنَدانُ

ص: 218

وهذه الصفة التي في نون العينين تحتمل أن تكون إعراباً، إجراء منه للتثنية مجرى المفرد في إعرابها بالحركات، وأن تكون لالتقاء الساكنين، على حد ما حكاه قطرب من قولهم: فر يا زيد، بضم الراء.

ومنه:

تحريك نون الجمع بالكسر بدل الفتح على أصل التحريك لالتقاء الساكنين نحو قول جرير:

عَرين من عُرَينة ليس منا

برئت إلى عُرَيْنَةَ من عَرِين

عَرَفْنا جَعْفراً وبني رياحٍ

وأنكرنا زعانَف آخرين

ومن العرب من يجعل الأعراب في النون من جمع المذكر السالم. وذلك كله لا يحفظ إلا في الشعر نحو قوله:

وإن لنا أبا حسنٍ علياً

أب بر ونحن له بنينُ

وقوله:

ما سدحي ولا ميت مسدهما

إلا الخلائَف من بعد النبيينِ

ص: 219

وقوله:

وإن أتم ثمانيناً رأيت له

شخصاً ضئيلاً وكل السمع والبصر

وقوله:

وماذا يدَّري الشعراء مني

وقد جاوزت حد الأربعينِ

ووجه ذلك إجراء جمع السلامة وما جرى مجراه مجرى المفرد. ولذلك ثبتت النون في حال الإضافة في قوله:

ولقد ولدت بنينَ صدقٍ سادة

ولأنت بعد الله كنت السيدا

وقوله:

ذراني من نجدٍ، فإن سنينه

لَعِبنِ بنا شيباً وشيبننا مردا

وقول الآخر:

سنيني كلُّها لاقيتُ حرباً

أعد مع الصلاِدمةِ الذُّكور

ص: 220

ألا ترى أن النون من (البنين)، و (ضاربين)، و (سنين)، قد ثبتت في حال الإضافة، ولو حكم لها بحكم النون لم تثبت.

وأما إبدال الحرف من الحرف، فإنهم قد يفعلون ذلك في الشعر في الموضع الذي لا يجوز فيه مثله في الكلام، ليتوصلوا به إلى ما اضطروا إليه من تحريك ساكن أو تسكين متحرك أو غير ذلك.

فمنه: إبدال الهمزة من الألف، نحو قول شبيب بن ربيع:

لأدأها كرهاً وأصبح بيته

لديه من الأغوالِ نوح مُسلبُ

يريد: لأداها، فأبدل الألف همزة لما كانت تقرب منها في المخرج ليتوصل بذلك إلى التحريك الذي اضطره الوزن إليه، وحركها بالفتح لأن الألف التي الهمزة بدل منها منقلبة من حرف مفتوح.

ومثله قول ابن كثوة:

ولي نَعَامُ بني صفوان زوزأةً

لما رأى أسداً في الغاب قد وثبا

ص: 221

يريد: زوزاة.

ومثله قول الراجز أنشده الفراء:

يا دار ميٍ

بدكاديك البُرَقْ

صَبْراً فقد هيجت

شوق المشتَئِقْ

يريد: المشتاق، وحرك الهمزة بالكسر لأن الألف التي هي بدل منها منقلبة من حرف مكسور.

ومثل ذلك أيضاً قول كثير:

وللأرض أما سودها فتجللت

بياضاً، وأما بيضها فادهأمّت

يريد فادهامت. وقول دُكَين:

راكدة مخلاته

ومحلبه

وجله حتى

أبيأض ملبيه

وقول الآخر:

يا عجباً لقد

رأيت عجبا

حمارَ قبان

يسوق أرنبا

ص: 222

خاطمها زأمّها

أن تذهبا

يريد: زامها. وقول الآخر:

وبعد انتهاضِ الشيبِ من كل جانبٍ

على لمتي حتى أشعأل بَهيمها

يريد: أشعال. فأبدلت الألف في جميع ذلك بهمزة ليتوصل بالإبدال إلى التحري. وكانت الحركة فتحة لأنها أخف الحركات.

ومثل ذلك أيضاً قول العجاج:

فَخِنْدفُ هامةُ

هذا العالِم

يريد: العالم، فأبدل ألف همزة لتكون القافية غير مؤسسة كأخواتها. ألا ترى أنه قال قبل ذلك:

يا دَار سَلْمى يا اسلَمي

ثم أسْلمي

وكانت الهمزة المبدلة منها ساكنة لأن التحريك يبطل الوزن، ولأنها بدل من ألف زائدة ساكنة في اللفظ والتقدير.

ص: 223

ومنه: إبدال الهمزة من الياء حيث لا يجوز ذلك في الكلام، نحو قوله:

قد كأد يذهب بالدنيا وبَهْجَتها

مواليءُ ككباشِ العُوسِ سُحّاحُ

وقوله:

. . . . . . .

كمشتريء بالخيلِ أحمرةً بُتْرا

وإنما أبدلت الياء من موالٍ ومشترٍ همزة للاضطرار إلى التحريك واستثقال الضمة والكسرة في الياء. وكان المبدل همزة إجراء لها في ذلك مجرى الألف لمشابهتها لها في الاعتلال واللين.

ومنه: إبدال الهمزة من ياء مبدلة من حرف صحة، نحو قول:

ينشب في

المعسل واللهاء

أنشب من

مآشر حداء

يريد: من مآشر حداد. فأبدل الدال ياء كراهية التضعيف، ولم يعتد بالألف فاصلة، ثم أبدل الياء همزة لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة.

ومنه: إبدال الهمزة من واو ساكنة مضموم ما قبلها، نحو قوله:

أحَبُّ المؤقدين إليّ مؤسى

وحَرْزَةُ إذا أضاَءهُما الوَقُود

ص: 224

يريد: موسى. وكأنه قدر ضمه الميم على الواو لقيام الدليل على أن رتبة الحركة أن تكون بعد الحرف فهمزها كما تهمز الواو المضمومة في (أثوب) و (أدؤر) وأمثالهما.

ومنه: إبدال الهاء همزة، نحو قوله:

وبلدةٍ قالصةٍ

أمواؤها

يَسْتَنّ في رأدِ

الضّحى أفْيَاؤها

يريد: قالصة أمواهها، فأبدل الهاء همزة لما كانت مقاربة لها، لتتفق القوافي، وليكون الجمع على وفق المفرد في ذلك. وقوله:

فقال فريق أإذا إذ نحوتهم

نعم وفريق ليمن الله ما ندري

يريد: أهذا، فأبدل الهاء همزة وفصل بين الهمزتين بألف. وإنما فعل ذلك لأن الوزن اضطره لزيادة هذه الألف الفاصلة، وحكم هذه الألف الفاصلة أن يفصل بها

بين الهمزتين لكراهية اجتماعهم نحو قولهم: أأنت فعلت كذا، فأبدل الهاء همزة ليسوغ الإتيان بها. وسهل له ذلك تجاورهما في الخروج.

ومنه: إبدال الياء من حرف من الحروف الصحاح، نحو قول رجل من يشكر:

ص: 225

لها أشاريرُ من لحمٍ تُتَمّرُهُ

من الثعالي ووَخْزُ من أرانيها

يريد: من الثعالب، ومن أرانبها، فأبدل الباء ياء لأنه اضطر إلى التسكين ليصح له الوزن، والباء لا تسكن في هذا الموضع وأمثاله، فأبدل منها ياء، لأن الياء تسكن في حال الخفض كما أبدلت الياء منها في قوله:(لا وربيك) لما كرهوا التضعيف. حكى ذلك أحمد بن يحيى. وقد يمكن أن يكون جمع ثعالة فيكون الأصل فيه إذ ذاك الثعائل إلا أنه قلب.

ومثل ذلك قول الشاعر:

ومنهلٍ ليس

له حوازقُ

ولضفادي جَمّة

نَقانِقُ

يريد: ولضفادع. وقوله:

إذا ما عُدَّ أربعة فِسالُ

فزوجُك خامسُ وأبوك سادي

يريد: (وأبوك) سادس. وقوله:

ص: 226

مضت ثلاث سنين منذ حل بها

وعام حلت وهذا التابع الخامي

يريد: الخامس. وقوله:

قد مر يومان

وهذا التالي

وأنت بالهجران

لا تبالي

يريد: الثالث، فأبدلت العين من ضفادع ياء للعلة التي تقدم ذكرها في أرانبها. وأبدلت السين في سادس وخامس و (الثاء في) الثالث ياء لتوافق القوافي.

وأما قول الآخر:

ثلاثة أيامٍ كرامٍ ورابعُ

وما الخام فيهم بالبخيلِ المُلومِ

فإنه لما أبدل السين من الخامس ياء، اجتزأ بالكسرة عنها.

ص: 227

ومن ذلك قول عامر بن جؤين:

فيا ليت أني بعدما طاف أهلها

هلكت ولم أسمع بها صوتَ (إيسانِ)

فأبدل من النون، ياء لشبهها بها من جهة أنها فيها غنة، وهو فضل صوت فيها، كما أن في الياء لينا، وهو فضل صوت فيها. ولمقاربتها لها فيما ذكرناه أدغمت فيها، نحو: من (يوم)، وقول الآخر:

رأت رجلاً أما الإله فيتقي

وأما بفعل الصالحين فيأتمي

وقول العجاج:

تَقَضَّيَ البازي

إذا البَازي كَسرْ

يريد: تقضض، وهو تفعل من الاقتضاض، فأبدل من الضاد الأخيرة ياء. وقول الآخر:

قامت به تنشد

كل منشد

فَايْتَصَلَتْ بمثلِ

(ضوء) الفرقد

ص: 228

يريد: فاتصلت، فأبدلت التاء الأولى ياء.

وسبب البدل في جميع ذلك كراهية التضعيف. ولما أبدلت الضاد الأخيرة من (تقضض) ياء والميم الأخيرة من (يأتم)، قلبت الضمة التي قبلها كسرة لتصح الياء، على حد قولهم في جميع ظبي أظب. ولما قلبت الياء الأولى من (فاتصلت) ياء ساكنة كما أن الياء التي أبدلت منها كذلك، ثبتت الفتحة قبلها ولم تنقلب كسرة على قياس الياء الساكنة المفتوح ما قبلها.

وقول ابن هرمة:

إن السباعَ لتهدا عن فرائسها

والناس ليس بهادٍ شرّهم أبدا

يريد: بهاديء، فأبدل من الهمزة ياء، ليكون سبباً إلى حذفها لاجتماعها مع التنوين وهما ساكنان، لما اضطر إلى ذلك. وقول الآخر:

ولا يرهَبُ ابن ما عشتُ صولتي

ولا أختتي من صَوْلَةِ المُتَهَدّدِ

يريد: ولا أختتيء. فأبدل من الهمزة ياء لما احتيج إلى التسكين لأن الياء تسكن في هذا الموضع وأمثاله والهمزة لا تسكن فيه.

ومنه: إبدال الهمزة المفتوحة المفتوح ما قبلها ألفاً، نحو قول الفرزدق:

راحَتْ بِمَسْلَمةَ البغالُ عشيةً

فارعَيْ فَزَارةُ لا هناك المَرْتَعُ

ص: 229

يريد: لا هنأك، فأبدلت الهمزة ألفاً لما احتاج إلى التسكين، والهمزة لا تسكن في مثل هذا الموضع. وسهل ذلك كون الهمزة والألف من مخرج واحد. ومثله قوله الآخر:

إذا (ملا) بطنه ألبانها حلبا

باتت تغنيه (وضرى) ذات أجراس

يريد: ملأ بطنه.

ومنه أبيات لبعض المتقدمين كان القياس فيها أن يكون قوافيها همزات فجاءت بالياء بدل الهمزة، وهي قوله:

إذا ما المرء صم ولم يكلم

ولم يك سمعُه إلا نِدايا

ولاعب بالعَشِيّ بني بنيه

كفعل الهر يحترش العظايا

يلاعبهم وودّوا لو سَقَوْه

من الذيفان مترعة مِلايا

فأبعده الإله ولا يُوقّي

ولا يشفي من المرض الشفايا

ألا ترى أنه كان الوجه أن يقول: نداء، وعظاء، وشفاء، فيقلب الياء همزة لتطرفها ووقوعها بعد ألف زائدة، وأن يقول (ملا) لأنه من (ملأ)، لكنه اعتد (بألف) الإطلاق، كما اعتدت العرب بهاء التأنيث في

ص: 230

(عظاية) و (سقاية)، فزالت الياء بذلك عن التطرف فثبتت. وإبدال الهمزة في (ملايا) لتتفق القوافي.

ومنه: إبدالهم الجيم من الياء الخفيفة، نحو قول هميان بن قحافة

يُطير عنها الوَبَر

الصُّهابجا

يريد: الصهابي، من الصهبة، فحذف إحدى اليائين تخفيفاً وأبدل من الأخرى جيماً لتتفق القوافي. وسهل ذلك كون الجيم والياء متقاربين في المخرج. ومثل ذلك قول الآخر، أنشده الفراء:

يا رب إن كنت

قبلت حجتجُ

فلا يزال شاحج

يأتيك بج

أقمر نهات

ينزي وَفْرَتَج

ص: 231

يريد: حجتي، ويأتيك بي، وينزي وفرتي، فأبدل من الياء جيماً. وقول الآخر:

حتى إذا ما أمْسَجَتْ

وأمْسَجَا

يريد: أمست وأمسى. إلا أنه ردهما إلى أصلهما، وهو أمسيت وأمسيا، ثم أبدل الياء جيماً لتقاربهما، لما اضطر إلى ذلك.

ومنه: إبدال ألف (ما) و (ههنا) هاء في الوقف، عند الاضطرار إلى ذلك، نحو قوله:

الله نجاك

بكفي مُسْلِمه

من بَعْدما

وبَعْدما وبَعْدِمه

يريد: وبعدما. وقوله:

قد وردَتْ

من أمكنه

من ههنا

وههنه

يريد: وهاهنا. وسهل ذلك كون الألف والهاء من مخرج واحد.

ومنه: إبدال الجيم شيناً لتتفق القوافي. ولا يحفظ من ذلك إلا قوله:

إذ ذاك إذ حبلُ

الوصالِ مدمشُ

ص: 232

يريد: مدمج. وسهل ذلك أيضاً كون الجيم والشين متقاربتين في المخرج.

وأما إبدال الكلمة من الكلمة فمنه استعمال بعض حروف الخفض موضع بعض، نحو قول القحيف العقيلي:

إذا رَضِيتْ عليّ بنو قُشَيرٍ

لَعَمْر الله أعجبني رضاها

يريد: عني. ونحو قول الراعي:

رعته أشهراً وخلا عليها

فطار التي فيها واستغارا

يريد: وخلالها. وقول أبي ذؤيب:

وكأنهن ربابة وكأنه

يَسَرُ يفيض على القداحِ ويصدع

ص: 233

يريد: يفيض بالقداح. وقول الشماخ:

وبُرْدانِ من خالٍ وسبعون دِرْهماً

على ذاك مقروظُ من القَدّ ماعزُ

يريد: مع ذاك. وقول زيد الخيل:

وتركب يوم الروع فيها فوارس

يصيرون في طَعن الأباهرِ والكُلي

يريد: بصيرون بطعن الأباهر. وقوله:

وخَضْخَضْن فينا البَحْرَ حتى قَطَعْنَه

على كل حالٍ من غمارٍ ومن وَحْلِ

يريد: خضخضن بنا البحر. وقوله:

نلوذ في أم

لنا ما تغتصب

من السحاب

ترتدي وتنتقب

ص: 234

يريد: نلوذ بأم. ونحن قول امرئ القيس:

ويضحي فتيتُ المِسكِ فوق فراشها

نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

يريد: بعد تفضل. وقول النمر:

ولقد شهدت إذا القداحُ توحدت

وشهدت عند الليل موقد نارها

عن ذات أولية أساود ربها

وكأن لون الملح لون شفارها

يريد: من أجل ذات أولية. ونحو قول الشاعر:

أزمعتَ من آلِ ليلى ابتكارا

وشَطّت على ذي نوى أن تزارا

يريد: إلى آل ليلى. وقول النابغة:

فلا تتركنّي بالوَعِيد كأنّني

إلى الناس مَطْليّ به القار أجربُ

ص: 235

يريد: كأنني في الناس. وقول عمرو بن أحمر:

تقول وقد عالَيْتُ بالكور فَوقَها

أيُسقَي فَلَا يَرْوي إليّ ابن أحمرا

يريد: فلا يروي مني.

فهذه الأبيات وأمثالها فيها خلاف بين النحويين. فأهل الكوفة يحملونها على ما يعطيه الظاهر من وضع الحرف موضع غيره. وأهل البصرة يبقون الحرف على معناه الذي عهد فيه إما بتأويل يقبله اللفظ، أو بأن يجعلوا العامل مضمناً معنى ما يعمل في ذلك الحرف إن أمكن، ويرون أن التصرف في الأفعال بالتضمين أولى من التصرف في الحروف بجعل بعضها موضع بعض، لأن الحروف بابها أن لا يتصرف فيها. وأيضاً فإن الفعل إذا عدي تعدى غيره بالتضمين الذي ذكرناه كان لذلك سبب، وهو كون الفعلين يؤولان إلى معنى واحد، وإذا قدر أن أحد الحرفين وضع موضع الآخر من غير تضمين للعامل فيه معنى ما يتعدى بذلك الحرف، كان وضعه موضعه لغير سبب، فإن لم يمكن التأويل ولا التضمين اعتقدوا إذ ذاك أن أحد الحرفين موضوع موضع الآخر:

فعلى هذا قول القحيف (إذا رضيت علي) إنما عدي بعلي لأن الرضى عن الشخص إقبال عليه. فكأنه قال: إذا أقبلت علي.

وقول الراعي (وخلا عليها) يفيد ما يفيده قوله: وقف عليها. فعدى (خلا) بـ (على) كذلك.

ص: 236

وقول أبي ذؤيب (تفيض على القداح) الظاهر من أمر (على) فيه أن يكون بدلاً

من الباء، وإنما جاز ذلك لأن معنى (أفاض بالقداح) أوقع الإضافة على القداح.

وقول الشماخ (على ذلك مقروظ) المجرور خبر لـ (مقروظ)، وإذا كان خبراً له كان متعلقاً بمحذوف: التقدير زائد على ذاك مقروظ. هذا إن كان مراده أن يعطي مع الأشياء التي ذكرها قبل جلداً مقروظاً، أي مدبوغاً بالقرظ. وإن كان مراده (بالمقروظ) عيبة من جلد مدبوغ بالقرظ، فيها البردان والسبعون درهماً، كانت (علي) في موضعها، لأنها إذا كانت في المقروظ فالمقروظ عليها.

وقول زيد الخيل (بصيرون في طعن الأباهر)، إنما عدي بصير بفي لأن قولك:(هو بصير بكذا) يرجع إلى معنى هو حكيم فيه متصرف في وجوهه. وقوله (وخضخضن فينا البحر) ينبغي أن يحمل على حذف مضاف، يريد: وخضخضن في سيرنا البحر.

وقوله: (نلوذ في أم لنا)، ضمن، (نلوذ) معنى (نصير)، لأنه إذا لاذ بالجبل فقد صار فيه. ويريد بالأم سلمى - أحد جبليْ طيئ.

وقول امرئ القيس (لم تنطق عن تفضل): (عن) فيه بمعنى (بعد) على ما يعطيه الظاهر، وإنما وقعت (عن) موقع (بعد) لتقارب معنييهما، لأن عن تكون لما عدا الشيء وتجاوزه و (بعد) لما تبعه وعاقبه. فقولك:(أطعمه عن جوع)، يريد أنه فعل الإطعام بعد الجوع، فقد عدا وقته وقت الجوع وتجاوزه. وكذلك إذا جعلت النطاق بعد التفضل فقد عدا وقت الانتطاق وقت التفضل وتجاوزه.

وقول النمر (عن ذات أولية أساود ربها): (عن) متعلق بـ (أساود).

ص: 237

و (أساود) مضمن (معنى)(أسائل)، لأن المساودة هي المسارة، ومسارته له في حقها سؤال عنها. ويمكن أيضاً أن يكون (أساود) مضمناً معنى (أخادع)، لأنه إنما ساود ربها ليخدعه عنها.

وقوله: (أأزمعت من آل ليلى ابتكاراً): (من) فيه، عندي واقعة في محلها،

والمعنى: أأزمعت من أجل آل ليلى ابتكاراً، لأنه إذا أزمع ابتكاراً إليهم فقد أزمعه من أجلهم.

وقول النابغة (إلى الناس مطلي به القار أجرب): إنما وقعت فيه (إلى) موقع (في)، لأنه إذا كان بمنزلة البعير الأجرب المطلي بالقطران الذي يخاف عدواه فيطرد عن الإبل إذا أراد الدخول بينها، كان مبغضاً إلى الناس. فعومل (مطلي) كذلك معاملة (مبغض).

وكذلك قول ابن أحمر (أيسقي فلا يروي إلى ابن أحمرا) فهو على ظاهرة من وقوع (إلى) فيه موضع (من). والذي سهل ذلك أن الري ضد الظمأ. والظمأ يتعدى بـ (إلى)، يقال: ظمئت إلى الماء. فعدى (يروي) بـ (إلي) حملا على ضدها، وهو (يظمأ)، لأن العرب كثيراً ما تجري الشيء مجرى ضده.

وقد يجيء في الكلام ما ظاهره أن حرف الخفض واقع فيه موقع غيره، نحو قوله تعالى:(واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان). ألا ترى أن المعنى: في ملك سليمان. ويقال: إن فلاناً لظريف عاقل إلى حسب ثاقب، أي مع حسب ثاقب.

والبصريون يتأولون ذلك كما بيناه قبل. فيجعلون (تتلو) مضمناً معنى (تتقول)، لأن معنى الآية أنهم تقولوا على ملك سليمان ما لم يكن فيه. وكذلك قولك:(إن فلاناً لظريف عاقل إلى حسن) معناه أن له ظرفاً وعقلاً

ص: 238

مضافين إلى حسن. فلما دخل الكلام على هذا المعنى، استعملت (إلى) فيه. وكذلك يفعل بكل ما جاء من هذا النوع.

وإنما أورد هذا النوع في الضرائر، وإن كان قد جاء في الكلام، لأن مجيئه في الشعر كثير واسع، ومجيئه في الكلام قليل لا يجوز القياس عليه.

ومنه: إبدال اسم مفرد من اسم مفرد. وهو على ضربين: ضرب جائز في الشعر دون الكلام ينقسم أربعة أقسام:

أحدها: أن يشتق للمسمى من اسمه اسماً آخر ويوقعه عليه بدل اسمه، نحو قول الحطيئة:

وما رضيت لهم حتى رفدتهم

من وائلٍ رهط بسامٍ بأصرام

فيها الرماح وفيها كل سابغةٍ

بيضاء محكمة من نَسج سلام

يريد: بسلام سليمان عليه السلام. وسهل ذلك كون سليمان وسلام المشتق منه يرجعان إلى معنى السلامة. وقول دريد بن الصمة:

فإن تنسنا الأيام والدهر تعلموا

بني قارب أنا غضابُ لمعبدِ

ص: 239

يريد أخاه عبد الله، فأشتق معبداً من اسمه. ألا تراه يقول في هذه القصيدة:

تنادوا فقالوا أردت الخيل فارساً

فقلت: أعبدُ الله ذلكم الردى

وسهل ذلك كون الاسمين يرجعان إلى معنى العبودية. وقول البَعيث يخاطب جريراً:

أبوك عطاءُ ألأم الناس كلهم

فقبحت من نسلٍ وقبح من كهل

يريد: أباه عطية، فاشتق منه (عطاء)، وجعله أباً له لأن العرب تسمي العم أباً، فلا يكون على هذا من قبيل البدل، وقول الآخر:

بِسَحْبِلِ الدّفينِ

عَيْسجورِ

يريد: بسحبل، فاشتق منه (سحبلاً) لما اضطره الوزن إلى ذلك.

فأما قول (العبد):

ص: 240

وما دُمْيَةُ من دُمَى ميسنا

ن مُعْجِبةُ نظراً واتصافا

يريد: ميسان. وقول الآخر:

أعرَفْتَ الدار أم أنكرتَها

بين تِبْراكٍ فَشسَّيْ عَبقُرْ

وقول طرفة:

بجفان تعتري نادِينَا

من سديفٍ حين هاج الصَّنَّبرْ

فإنما هو تحريف، للضرورة، وليست مشتقة من (ميسان)، و (عبقر)، و (صنبر)، لأنها ليست على أوزان الأسماء.

وقد جاء هذا التحريف في شعر أبي الطيب في قوله:

من مبلغ الأعراب أني بعدهم

لاقيت رَسْطاليس والاسكندرا

حكى أبو علي عن أبي زيد اسمه أرسطو طاليس. ومحال أن يقول أبو زيد ذلك إلا وقد وصل إليه من حيث يثق. وإذا كان كذلك فرسطاليس تحريف له. والتحريف في الأسماء الأعجمية أسهل من التحريف في الأسماء العربية، لأن العرب كثيراً ما تخلط فيها لأنها ليست من لغتهم.

ص: 241

والثاني: أن يكون الاسم مشتركاً ويكون الوزن لا يساعدك على الإتيان بمثله، فتأتي بدله بالاسم الذي يكون لشريكه، وذلك قول (الأحمر):

حدوا بأبي أم الرئالِ فأجفلتْ

نَعَامَتُه عن عارضٍ مُتَلَهّبِ

يريد: بأبي أم الرئال (قطريا)، وكنيته أبو نعامة، فوضع أم الرئال موضع نعامة لما اضطره الوزن إلى ذلك. وقول المرار:

وخَيْفَاء ألقى الليثُ فيها ذراعه

فسرت وساءت كلّ ماشٍ ومُصرمِ

يقول مطرت بنوء الذراع، وهو ذراع الأسد، فلم يتزن له، فوضع الليث موضع الأسد. وقول الآخر:

طَرْمح أقطارَها أحوى لوالدةٍ

صَحْماَء والفحلُ للضرغام ينتسبُ

يصف إبلاً طرمح أقطارها، أي ملأها شحماً، عشب أرض (صحماء) نبت بغيث مطر بنو الأسد، فأوقع (الضرغام) موقع (الأسد) للضرورة

ص: 242

وكنى بالوالدة عن الأرض وبالفحل عن الغيث، وجعله منتسباً للضرغام، وهو الأسد، لأنه مطر بنوئه. وقول آخر، أنشده علي بن سليمان:

بني رَبَّ الجَوادِ فلا تفيلوا

فما أنتم، فنعذركم، لفيل

أراد: ربيعة الفرس، فلم يتزن له فوضع (ربا) موضع (ربيعة) لأنه رب الفرس أي صاحبة، ووضع (الجواد) موضع (الفرس).

ومن ذلك قول امرئ القيس:

وخرقٍ كجَوفِ العَيْر قَفْرٍ مضلة

قطعت بسام ساهمٍ الوَجْهِ حُسان

في قول من قال إن العير رجل من بقايا عاد (الآخرة) يقال له حمار بن مويلع. وكان ينبغي له أن يقول: كجوف حمار، إلا أنه لم يتزن له، فوضع العير موضعه. وكان لهذا الرجل جوف فيه ماء معين. وكان يزرع في نواحيه ويقري الضيفان. وكان على الإسلام. وكان له عشرة بنين أصابتهم صاعقة، فماتوا، فغضب وكفر ومنع الضيافة، فأقبلت نار من أسفل ذلك الجوف بريح عاصف، فأحرقت الجوف (وما فيه)، فضربت

ص: 243

به العرب مثلا.

والثالث: أن يكون الاسم لا يساعد الوزن عليه فيجعل بدله اسم ما هو منه بسبب، نحو قول لبيد:

بجلالةٍ توفي الجديلَ سريحة

مثل الفنيقِ هنأته بعصيم

أراد أن يقول: هنأته بهناء، فلم يمكنه، فأوقع موقعه العصيم، وهو أثر الهناء، لما كان منه بسبب. ونحو قول الجعدي:

كأن فاها إذا تنسم في

طيب مُشَمَّ وحُسنِ مُبْتَسم

رُكّب في السام والزبيب أقا

حي كَثيبِ تَنْدى من الرَّهَم

أراد أن يقول: ركب في السام والخمر، فلم يتزن له، (فأوقع الزبيب موقع الخمر) إذ كانت من سببه. وقول رؤبة:

كالنحل في ماء

الرضاب العَذْبِ

ص: 244

أراد: كالعسل، فلم يتزن له، فجعل بدله النحل لأنها من سببه. وقد يمكن أن يجعل على حذف مضاف تقديره: كعسل النحل، فلا يكون من هذا النوع.

والرابع: أن لا يضع على المسمى اسمه، بل يضع بدله اسم مسمى آخر، على طريق الاستعارة، في موضع يقبح فيه ذلك، نحو قول طرفة:

من الزّمِراتِ أسْبلَ قادماها

وضرتها مركنة درور

الزمرات: القليلة الصوف. وقادماها: خلفاها. والقادمان إنما هما للناقة لأن لها أربعة أخلاف خلفان منها قادمان وخلفان آخران، فأستعار ذلك للشاة، وهي استعارة قبيحة، لأن الشاة إنما لها خلفان خاصة، ومعنى القادمين إنما يتحقق بالنظر إلى (الآخرين) وقول هميان:

لو لَقِيَ الفيلَ

بأرض سابجا

لدَقّ منه العُنْق

والدّوَارِجا

السيابجة قوم من السند يستأجرون ليقاتلوا، ويكونون كالمبذوقة، فجعل الفيل سيبجاً مع أن هذا المعنى لا يتصور منه. وسبب ذلك أنه من ناحية بلادهم. قول بعض السعديين وذكر إبلاً:

سأمنعها أو سوف أجعل أمرها

إلى مِلك أظلافه لم تُثَقّقِ

ص: 245

فاستعار للملك ظلفاً ولا ظلف له، وإنما أراد قدميه. وإنما تحسن هذه الاستعارة في الذم، فاستعملها في غير موضع الذم، فقبحت لذلك.

والضرب الذي لا يجوز في الشعر ولا في الكلام ما يجيء على طريق الغلطة لأنه الغالط لا ينبغي أن يتبع على غلطة، نحو قوله:

والشيخُ عثمان

أبو عفان

فكني عثمان أبا عفان على وجه الغلط، وإنما كنيته أبو عمرو، وعفان اسم أبيه. وقول الآخر:

مثل النصارى

قتلوا المسيحا

وإنما اليهود - على ما قالت اليهود والنصارى - قتلوا المسيح. وقد كذبهم الله في

ذلك بقوله: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم). والذي غلطه كون اليهود والنصارى مخالفين للإسلام، فظن أنهم جميعاً مشتركون فيما ينكرونه من الأشياء. وقول الآخر:

ومحورٍ أُخْلِصَ

من ماءِ اليَلَبْ

يريد: الحديد، فغلظ فجعل اليلب الحديد، وإنما اليلب (جلود) يضم بعضها إلى بعض ويجعل تحت البيض وقاية. وكأن الذي غلطه قول عمرو بن كلثوم:

ص: 246

علينا البَيْضُ واليَلَبُ اليماني

. . . . . . . . .

فتوهم أن اليلب أجود من الحديد، وقول ابن أحمر:

لم يَدْرِ ما نسج اليَرَنْدج قبلها

ودارس أعوص دارس متجدد

اليرندج جلود سود يتخيل أنها مما تنسج. وقول أبي نخيلة:

برية لم

تأكل المرققا

ولم تذق من

البقول الفستقا

يريد: أن الفستق من البقول. وقول رؤبة:

كما أتقى

محرم حج أيدعا

الأيدع: دم الأخوين، فتوهم أنه الزعفران.

ص: 247

فأما قول زهير:

(فَتُنْتِجْ) لكمِ غِلْمانَ أشأم كلهم

كأحمر عاد ثم ترضعْ فَتُفْطمِ

(فذهب) بعضهم إلى أن قوله (كأحمر عاد) غلط منه، وإنما هو أحمر ثمود الذي عقر الناقة فنزل العذاب بسبب ذلك على قومه، فصار مشؤوماً عليهم. وليس كذلك، بل العرب تسمي ثمود عاداً الآخرة، وتسمي قوم هود عاداً الأولى. قال الله تعالى:(وأنه أهلك عاداً الأولى).

كذلك قول حميد بن ثور:

لما تحملت الحمول حسبتها

دَوْماً بأيلة ناعماً مكموما

ظن بعضهم أن ذلك غلط لأن الدوم لا يكمم، وإنما يكمم النخل.

ص: 248

وليس كذلك عندي. بل ينبغي أن يحمل على أنه سمي النخل دوماً لشبهه به.

وكذلك قول لبيد:

نَحْنُ بَني أمّ

البنين الأربعَةْ

المطعمون الجفنة

المُدَعْدَعَةْ

لم يقل الأربعة، وهم خمسة، على جهة الغلط. وإنما قال ذلك لأن أباه كان مات وبقي أعمامه وهم أربعة.

ومنه: إبدال المفرد من التثنية ووضعه موضعها، نحو قوله:

بَدّلك بلونِ

لونينْ

سوادَ وجهٍ

وبياضَ عَيْنيْن

يريد: بلونين لونين. ألا ترى أنه دعا عليها أن يبدل سواد عينها بياض وجهها وبياض وجهها سواد عينها.

وقول حسان بن تبع:

ص: 249

شر يوميها و (أخزاه) لها

ركبت عنز بِحِدْجٍ جملا

وقول خليج الأعيوي:

لأخوين كانا خير أخوين شيمةً

وأسَرعَهُ في حاجةٍ لي أريدها

وقول الفرزدق:

. . . . . . . . .

وجدَّي خطيبُ المشرقين (وشاعره)

وقول الآخر:

ومَهْمَهَيْنِ

قَذَفَيْنِ مَرْتَيْن

ظهراهما مثل

ظهور الترسين

قطعتُه بالنعتِ

لا بالنعتين

ص: 250

ألا ترى أن الضمير في جميع ذلك مفرد مع أنه عائد على اثنين. ولولا الضرورة لكان الوجه أن يقال: وأخزاهما، وأسرعهما، وشاعرهما، وقطعتهما.

فأما قول امرئ القيس:

وعين لها حدرة بدرة

شقت مآقيها من أخرْ

يريد: وعينين، ولذلك أعاد عليها ضمير اثنين، فإن ذلك ليس من قبيل الضرائر، لأن وضع المفرد وضع الشيئين المتلازمين من نحو العينين واليدين والرجلين جائز في الكلام والشعر.

ومنه قوله عليه السلام: (إن لعينك حقاً) يريد: لعينيك.

ومنه: إبدال المفرد من الجمع ووضعه موضعه حيث لا يجوز ذلك في الكلام، نحو قول الأسود بن يعفر:

تَبَيّنَهُمْ ذو اللُّبّ حين يراهُمُ

بسيماهُمُ بيضاً لحاهم وأصلعا

يريد: وصلعاً. وقول القطامي:

ص: 251

كأن نسوع رجلي حين ضمت

حوالبَ غزرا ومِعًي جياعا

يريد: وأمعاء. وقول علقمة.

بها جيفُ الحَسْرى فأما عظامُها

فبيض وأما جلدها فصليب

يريد: وأما جلودها. وقول الآخر:

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

فإن زمانكم زمنُ خَميصُ

يريد: في بعض بطونكم وقول الآخر:

لا تُنكروا القَتْل

وقد سُبِينَا

في حَلْقِكِمْ عَظْم

وقد شُجِينا

يريد: في حلوقكم. وقول الآخر، أنشده أبو عبيدة:

وأدْخُلُ الجَوْفَ أجوافَ البيوتِ على

مثل النّساءِ رجالُ (ما لَهُمْ) غيرُ

فأفرد الجوف وهو يريد الجمع بدليل إبداله الجمع منه. وقول الآخر:

ص: 252

فإنْ تصلوا ما قرّب الله بيننا

فإنكم أعمام صدق وخاليا

ومنه: وضع التثنية موضع المفرد وجعلها بدلاً منه، نحو قول الفرزدق:

. . . . . . . . .

وعنْدي حُساما سيفه وحَمائُلهْ

يريد: حسام سيفه. وقوله أيضاً:

عشيةً سال المربدان كلاهما

سحابةَ موتٍ بالسيوفِ الصّوارمِ

وإنما هو مربد البصرة. وقول عنترة:

كيف المزارُ وقد تربّع أهلُها

بعُنَيزَتَيْن وأهُلنَا بالغَيْلمِ

يريد: عنيزة. وقول رؤبة:

يُخْشى بوادي

العَثّريْن أضَمُهْ

يريد: عَثر. وقول الآخر:

تَطْلُب لي

بِرَامَتَيْنِ سَلْجَما

ص: 253

يريد: رامة. وقول الآخر أنشده الفراء:

يسعى بكبداء

وِلهْذِمَيْن

قد جعل الارطاة

جنتين

يريد: جنة.

ويكثر ذلك في أسماء الأماكن، لأن الداخل إليها يرى لها وجهين عن يمينه ويساره.

فأما قوله:

قولا لعَمْرو بن هندٍ غير متئب

يا أخنس الأنْفِ والأضراسِ كالعدسِ

وقول الآخر:

فإن تزجراني يا ابن عفانَ أزدجرْ

وإن تدعاني أحمِ عرضاً ممنعا

فقد قيل إن الألف من (قولا) و (تزاجرني) ضمير اثنين وضع موضع ضمير الواحد، بدليل قوله في البيت الأول:(غير متئب)، ولم يقل غير

ص: 254

متئبين، وفي البيت الثاني:(يا ابن عفان)، فدل ذلك على أنه لم يخاطب غيره. وقد قيل إن الألف فيهما بدل من النون الخفيفة في الوصل، إجراء (له) مجرى الوقف، والأصل: قولن، وإن تزجر، وإن تدعن.

ومنه: وضع التثنية موضع الجمع وجعلها بدلاً منه حيث لا يجوز مثله في الكلام، نحو قول الفرزدق:

وما قمت حتى كاد من كان مسلما

ليلبس مسودى ثياب الأعاجم

يريد: مسودات ثياب الأعاجم. وقول الآخر:

كأن حُمُولَهمْ لما التقينا

ثلاثة أكْلبٍ يتطاردان

يريد: يتطاردن.

ومنه: وضع الجمع موضع المفرد وجعله بدلاً منه حيث لا يسوغ ذلك في حال السعة، نحو قول الأعشى:

ومثلك مُعْجبة بالشبا

ب (صاك) العبير بأجسادها

يريد: (بجيدها). وقول امرئ القيس:

يطير الغلام الخف عن صَهَواته

ويلوي بأثواب العنيفِ المثقّلِ

ص: 255

يريد: عن صهوته. وقول الفرزدق:

وإذا ذكرتَ أباك أو أيامه

أخزاك حَيْثُ تُقَبَّل الأحجَارُ

وإنما هو حجر واحد. وقوله أيضاً:

فيا ليتَ داري بالمدينةِ أصبحت

بأحفارِ فلجٍ أو بِسْيفِ الكواظمِ

يريد: الحفر، وكاظمة.

ووجه ذلك أن العرب قد توقع على الجزء اسم الكل. ألا ترى أنك لو لمست ناحية من الحجر أو من الصهوة أو من الجيد، لقلت لمست الحجر ولمست الصهوة ولمست الجيد.

ومما وضع فيه الجمع موضع المفرد أيضاً قول عبيد:

أقفر من أهله ملحوبُ

فالقُطّبِياتُ فالذنوب

يريد: القطبية، وهي بئر معروفة، فجمعها بما حواليها.

ومنه أيضاً: وضع الجمع موضع التثنية في الموضع الذي لا يجوز فيه

ص: 256

(ذلك في) الكلام، نحو قول الأسود بن يعفر:

أتاني من الأنباءِ أن مُجَاشِعاً

وآل فُقيمٍ والكراديس أصفقوا

يريد معاوية وقيساً ابني مالك من مر بن زيد مناة، ويقال لهما الكردوسان، فوضع الكراديس موضعهما.

ومنه: وضع العطف موضع التثنية أو موضع الجمع واستعماله بدلاً منهما حيث لا يسوغ ذلك في سعة الكلام. فمن الأول قوله:

ليثُ وليثُ في

مَحَلّ ضَنْكِ

كلاهما ذو

أشرٍ ومَحْكِ

وقوله:

كأن بين

فَكّها والفَكِّ

فأرة مسك

ذُبحتْ في سُكِّ

وقوله:

أنْجَبُ عِرْسٍ

وُلدا وعِرْسِ

ص: 257

كان الوجه في جميع ذلك أن يقال: ليثان في محل ضنك، وكان بين فكيها فأرة مسك، وأنجب عرسين ولدا.

ومن الثاني قوله:

كأنّ حَيْثُ

يَلْتقي منه المحلْ

من جانِبَيْه

وَعِلانِ ووَعلْ

ثلاثةُ أشْرَفْنَ

في طَوْدٍ عُتُل

كان الوجه أن يقول: ثلاثة أوعال لولا الضرورة.

وقد جاء مثل ذلك في شعر ابن هانئ، وهو قوله:

أقمنا بها يوماً ويوماً وثالثاً

ويوماً له يوم الترحل خامس

يريد: أياماً أربعة.

ومنه: وضع صيغة الأمر موضع خبر (كن) وجعلها بدلاً منه، نحو قوله:

ألا يا أم فارع لا تلومي

على شئ رفعت به سماعي

وكوني بالمكارم ذكريني

ودلي دل ماجدةٍ صَناع

ص: 258

فجعل (ذكريني) في موضع (مذكرة). وهو قبيح، لأن فعل الأمر لا يقوم مقام الخبر في باب (كان).

وإنما فعل ذلك لأن (كوني) أمر في اللفظ ومحصول الأمر منه لها إنما وقع على التذكير، فلما كان في المعنى أمراً لها بتذكيره، استعمل فيه لفظ الأمر.

ومنه: وضع الجملة غير الخبرية موضع الوصف وإبدالها منه، نحو قوله:

فإنما أنْتَ

أخُ لا نَعْدمهْ

ألا ترى أنه وضع (لا نعدمه)، وهي جملة دعاء، موضع مدعو له بالمواصلة. وقول الآخر:

حتى إذا كاد

الظلام يَخْتلطْ

جاؤوا بِمَذْقٍ هل

رأيت الذيبَ قَطْ

فوضع (هل رأيت الذيب قط)، وهي جملة استفهامية، موضع (مشبه لون الذئب،

وذلك غير جائز في الكلام.

وقد يمكن أن يحمل ذلك على إضمار القول، فيكون التقدير، وإنما أنت أخ نقول إذا أخبرناه، لا نعدمه، وجاؤوا بمذق يقول منرآه: هل رأيت الذئب قط، فهذا لونه، إلا أن ذلك الفهم المعنى.

ص: 259

ومنه: وضع الجملة الفعلية المنفية موضع الجملة الفعلية التي يراد بها النهي وإبدالها منها، نحو قول زهير:

القائلين يساراً لا تناظِرُهُ

غشاً لسيدِهِمْ في الأمْرِ إذ أمروا

يريد: لا تناظره.

ومنه: وضع ضمير الرفع المنفصل حيث لا يسوغ ذلك في الكلام، نحو قوله:

يا ليتني وَهُما نَخْلو بمنزلة

حتى يرى بعضنا بعضاً ونأتلفُ

كان الوجه أن يقال وإياهما، لولا الضرورة.

ومنه: وضع ضمير الرفع المنفصل بدل ضمير الرافع المتصل، نحو قول المرار ابن منقذ:

لم آت بعدهم حياً فأخبرهمُ

إلا يزيدُهُم حُبّاً إليّ هُمُ

يريد: إلا يزيدونهم حياً إلى، فوضع الضمير المنفصل، وهو (هم)، موضع الضمير المتصل، وهو الواو، للضرورة، وقول طرفة:

أصَرَمْت حَبْلَ الحي أم صرموا

يا صاح بل صَرَم الحبالَ هُمُ

ص: 260

يريد: بل صرموا الحبال، فوضع أيضاً الضمير المنفصل موضع الضمير المتصل، لما اضطر إلى ذلك.

ومنه: وضع ضمير النصب المتصل بدل ضمير النصب المنفصل أو بدل النفس. فمن الأول قول أمية:

بالوارثِ الباعثِ الأموات قد ضمنت

إياهم الأرضُ في دَهْرِ الدهارير

يريد: قد ضمنتهم. وقول حميد الأرقط:

إليكَ حتى

بَلغَتْ إياكا

يريد: حتى بلغتك، فوضع إياك موضع الكاف للضرورة. وقول بعض اللصوص:

كأناّ يَوْم قُرّى إن

ما نقتل إيّانا

قتلنا منهُمُ كُلّ

فتى أبيضَ حَسّانا

كان الوجه أن يقول: إنما نقتل أنفسنا، كما قال تعالى:(ربنا ظلمنا أنفسنا)، فوضع الضمير المنفصل موضعه لما اضطر إلى ذلك.

ص: 261

ومن الثاني قوله، أنشده الفراء:

وما علينا إذا ما كنت جارتنا

أن لا يجاورنا إلاك ديار

يريد: إلا إياك، فوضع الضمير المنفصل، وهو الكاف، موضعه للضرورة وقول الآخر:

قَدْ بِتّ أحرسني وحدي ويَمْنَعُنِي

صوت السبِاع به يَضْبحن والهام

الوجه أن يقول: أحرس نفسي، كما قال تعالى:(إني ظلمت نفسي) فوضع الضمير المتصل موضعه لما اضطر إلى ذلك.

ومنه: وضع صيغة ضمير النصب المنفصل بدل صيغة ضمير الرفع المنفصل المجعول في موضع خفض بكاف التشبيه، وذلك قوله:

فأحْسنْ وأجمل في أسيرك أنه

ضَعيفُ ولم يأسرْ كإياك آسرُ

يريد: كأنت آسر. فوضع إياك موضع أنت للضرورة. وإنما قضى على (إياك) بأنها في موضع (أنت) لأن الكاف لا تدخل في سعة الكلام على مضمر إلا أن يكون صيغته صيغة ضمير رفع منفصل، نحو قولهم: ما أنا كأنت ولا أنت كأنا.

ومنه عند الفارسي: وضع الفعل بدل المصدر من غير أن يكون على تقدير حذف (أن)، نحو قوله أنشده أبو زيد:

ص: 262

ولا يلبث الحر الكريم إذا ارتمت

به الجَمَزي قد شد حيزومها الضّفْرُ

(سَيكْسِب) مالاً أو يفئ له الغنى

إذا لم تعجلْه المنيةُ والقَدْرُ

قال: فقوله (سيكسب مالاً) يدل على وقوع الفعل موقع الاسم، لا على تقدير حذف (أن)، لأن ذلك لا يستقيم مع السين، والمخففة من الثقيلة لا نعلمها حذفت، ولا يستقيم تقدير الحال لمكان السين. والمعنى لا يلبث أن يكسب مالاً.

ولا دليل له في ذلك عندي على وضع الفعل موضع الاسم لاحتمال أن يكون معمول (يلبث) محذوفاً والتقدير: ولا يلبث الحر الكريم إذا ارتمت (به) الجمزي قد شد خيزومها الضفر عن إدراك (المنى)، ثم استأنف فقال: سيكسب مالاً أو يفيء له الغنى.

ومنه: وضع الفعل موضع المصدر على تقدير حذف (إن) وإرادة معناها من غير إبقاء عملها، نحو قوله:

وما راعني إلا يَسِيرُ بِشُرْطةٍ

وعهدي به قيناً يفش بكيرِ

يريد: وما راعني إلا أن يسير بشرطة. فحذف (أن) وأبطل عملها وهو يريد معناها.

ص: 263

والدليل على أن الفعل المضارع يحكم له بحكم ما هو منصوب بـ (أن) وإن كان مرفوعاً قوله:

ألا أيهذا الزاجري أحْضُرَ الوغى

وأن أشهدَ اللذاتِ هل أنت مخلدي

في رواية من رفع (أحضر) ألا ترى أنه عطف (أن أشهد على) أحضر، فدل ذلك على أن المراد أن احضر.

ومثله قول أسماء بن خارجة:

أو ليس من عجبِ أسائلكم

ما خَطْبُ عاذلتي وما (خطبي)

يريد: أن أسائلكم. وقول علي بن الطفيل السعدي:

وأهلكني لكم في كل يومٍ

تعوجكم عليّ وأستقيمُ

يريد: وأن أستقيم، أي واستقامتي لكم. وقوله:

جَزِعت حِذَارَ البَيْنِ يوم تحمّلوا

وحَقّ لمثلي يا بُثينَة يَجْزَع

يريد: أن يجزع. وقوله:

ص: 264

نفاك الأغر بن عبد العزيزِ

وحقك تُنفَي عن المَسْجدِ

يريد: وحقك أن تنفي عن المسجد. وقول الآخر، أنشده يعقوب:

لولا يُرائي الناسَ

لم يُصَلَّ

يريد: لولا أن يرائي الناس.

وقد يجيء مثل هذا في الكلام، نحو قولهم:(تسمع بالمعيدي خير من أن تراه). إلا أن ذلك يقل في الكلام ويكثر في الشعر، فلذلك أوردناه في جملة ما يختص به الشعر.

ومنه: وضع الاسم موضع الفعل الواقع في موضع خبر (كاد) وموضع (أن) والفعل الواقع في موضع خبر (عسى)، نحو قول تأبط شراً:

فأبت إلى فهمٍ وما كدت آئباً

وكم مثلها فارقتها وهْي تَصْفِرُ

وقول الآخر:

أكثرتَ في العَذْلِ

مُلِحّاً دائما

لا تُكْثِرَنْ إني

عسيت صائما

ص: 265

كان الوجه أن يقال: وما كدت أؤوب، وإني عسيت أن أصوم، إلا أن الضرورة منعت من ذلك.

وقولهم في المثل: (عسى الغوير أبؤسا) شاذ يحفظ ولا يقاس عليه.

وأما إبدال الحكم من الحكم فمنه: قلب الإعراب أو غيره من الأحكام لأن اللفظ إذا قلب حكمه أعطى، بدله، حكم غيره، نحو قول خداش بن زهير:

وتُرْكَبُ خَيْلُ لا هوادَة بيننا

وتَشْقَى الرماحُ بالضياطرةِ الحُمرِ

يريد: وتشقى الضياطرة الحمر بالرماح، فجعل إعراب (الرماح) للضياطرة وإعراب الضياطرة للرماح، ويروي: وتعصي الرماح بالضياطرة

ص: 266

الحمر. يقال: عصى بالرمح إذا طعن به، و (عصى) بالسيف إذا ضرب به. وقول الراعي:

و (صبحته) كلاب الغوث يؤسدها

مستوضحون يرون العَيْنَ كالأثر

يريد: يرون الأثر كالعين. والمستوضح الذي ينظر هل يرى شيئاً. وقول النابغة:

وقد خِفْتُ حتى ما تزيد مخافتي

على وَعِل في ذي المطارة عَاقلِ

يريد: حتى ما تزيد مخافة وعلى علي مخافتي. وقول ذي الرمة:

وتكسو المجِن الرخو خَصْراً كأنه

إهانُ ذَوي عن صُفْرَة فَهْو أخْلق

المجن: الوشاح، والرخو: المضطرب لرقة خصرها. يريد: تكسو الخصر مجناً. وقول القطامي:

ص: 267

فلما أن جرى سِمَنُ عَلَيها

كما بَطَّنْتَ بالفَدَنِ السَّياعا

يريد: كما بطنت الفدن بالسياع. والفدن: القصر. والسياع: الطين فيه التبن.

وقول رؤبة:

ومَهْمَةٍ مُغْبَرةً

أرجَاؤه

كأنّ لوْنَ

أرْضِهِ سَماؤه

يريد: كأن سماءه لغبرتها لون أرضه، وقوله:

مثل القنافذ هَدّجُوانَ قَدْ بَلَغتْ

نَجْرَانَ أو بلغت سوآتِهم هَجَرُ

يريد: أو بلغت سوآنهم هجر، وقول أبي النجم:

قبل دُنُوّ الأفْقِ

من جَوْزائِهِ

يريد: قبل دنو الجوزاء من الأفق، وقول العباس بن مرداس:

ص: 268

فَدَيْتُ بنَفْسهِ نَفْسي ومالي

ومَا آلوكَ إلا ما أطيقُ

يريد: فديت نفسه بنفسي ومالي. وقول النمر بن تولب:

فإن المَنِيّةَ مَنْ يَخْشَها

فسَوْفَ تُصادفُه أينما

فإن أنتَ حاوَلتَ أسبابَها

فلا تَتَهيّبْكَ أنْ تُقْدما

يريد: فلا تتهيبها، لأن المنية لا تهاب أحداً، وقول ابن مقبل:

ولا تَهيّبَني المَوْمَاةُ أركبُها

إذا تجاوبت الأصداء بالسّحرِ

يريد: ولا أتهيب الموماة، وقول الفرزدق:

لا تحسبن دراهماً شَرّفْتها

تمحو مَخَازيَكَ التي بعُمانِ

يريد: دراهم شرفتك، وقول النابغة الجعدي، أنشده له أبو عبيدة:

ص: 269

كانت فَريضَةُ ما تقول كما

كان الزّناءُ فريضَةَ الرّجمِ

يريد: كما كان الرجم (فريضة) الزنا، وقول الآخر أنشده أبو عمرو بن العلاء:

وإن بني شَرَاحيلَ بنَ عَمْرو

تمارَوْا والفُجُور من التماري

يريد: والتماري من الفجور، ونحو قول الفرزدق:

ووفراء لم تُخْرَزْ بِسَيْرِ وكيعةٍ

غَدَوْتُ بها طياً يدي بِرِشائها

يريد: طيا رشائها بيدي، وقول الآخر أنشده بعض البغداديين:

كما دَحَسْتَ الثّوْبَ

في الوِعَائَيْن

يريد: الثوبين في الوعاء.

وهذا ليس بقلب إعراب، وإنما قلب حكم الإفراد والتثنية فجعل التثنية التي ينبغي أن تكون للثوب (للوعاء)، وجعل الإفراد الذي ينبغي أن يكون (للوعاء) للثوب. ومثله قول الآخر:

إذا أحسنَ ابن العمّ بعد إساءةٍ

فلست لشرّيْ فِعْلهِ بِجَهُولِ

ص: 270

يريد: لشر فعليه. وقول الآخر، أنشده بعض البغداديين أيضاً:

لما خشيت

نَسَبَيْ أضْواها

يريد: أضوا نسيبها. فجمع بين قلب الإعراب وقلب الإضافة.

وأما قول الحطيئة:

فلما خشيت الهول والعَيُر ممسك

على رَغْمه ما أمْسك الحبلَ حافره

فإن كثيراً من النحويين جعلوه مقلوباً، وزعموا أنه يريد: ما أمسك الحبل حافره، إلا الأصمعي فإنه زعم أنه غير مقلوب وأن الحافر هو الذي يمسك الحبل، إذ لولاه لخرج الحبل من رجله.

والقلب مقيس في الشعر بلا خلاف لكثرة مجيئه فيه. وقد جاء أيضاً في الكلام: حكى أبو زيد: (إذا طلعت الجوزاء انتصب العود في الحرباء. يريد: انتصب الحرباء في العود). وحكى أبو الحسن (عرضت الناقة على الحوض، وعرضتها على الماء)، يراد بذلك، عرضت الماء والحوض عليها. وحكى أيضاً من كلامهم:(أدخلت القلنسوة في رأسي)، يريدون: أدخلت رأسي في القلنسوة. إلا أن ذلك لم يكثر في الكلام كثرته في الشعر، فلم يجز لذلك القياس عليه.

ومنه: أن يكون الاسم مذكراً فيحكم له بحكم المؤنث بدلاً من تذكيره، أو يكون مؤنثاً فيحكم له بحكم المذكر بدلاً من تأنيثه، حملاً على المعنى.

ص: 271

فمن الأول قول رويشد:

يا أيها الرجلُ المزجي مطيته

سائلْ بني أسَدٍ ما هذه الصّوْتُ

فأنث الصوت لأنه بمعنى الصرخة والاستغاثة. وقول الآخر:

وحمال المئين إذا ألمت

بنا الحدثَانُ والأنِفُ النّصُورُ

فأنث الحدثان لأنه قد يراد به الكثرة، فيكون في معنى الحوادث. وقول الآخر:

أتَهْجُرُ بَيْتاً بِالْحِجَازِ تَلَفّعَتْ

بَهِ الخَوْفُ والأعْداءُ مِنْ كُلّ جَانِبِ

فأنث الخوف لأنه بمعنى المخافة. وقول الآخر:

تدعى هوازن والقميص مفاضة

فوق النطاقِ تشد بالأزرار

فأنث القميص لأن مراده به الدرع وهي مؤنثة. وقول عمر بن أبي ربيعة:

فكان مجني دون من كنت أتقي

ثلاثُ شخوصٍ كاعبان ومعصرُ

ص: 272

فأنت الشخص ولذلك أسقط التاء من العدد، لأنه أراد بالشخوص النساء، وقول الآخر:

وإن كلاباً هذه عَشْرُ أبطن

وأنت بريء من قبائلها العَشْر

فأنث البطن ولذلك أسقط التاء من عدده، لأنه أراد بالبطون القبائل، بدليل قوله: وأنت بريء من قبائلها العشر.

فأما قوله:

فَعَوّضَني منها غِنَاي ولم تكنْ

تُساويُ عَنْزي غَيْرَ خَمْسَ دَّرَاهِمِ

فالصحيح في روايته (خمس دراهم)، بفتح السين وتشديد الدال، يريد: خمسة (دراهم)، إلا أنه أدغم ك (عمامة دَاود).

ومن هذا النوع قول لبيد:

فمضى وقدمها، وكانت عادةُ

منه إذا هي عودت أقدامها

فأنث الأقدام لأنه بمعنى التقدمة. وقول الآخر:

ص: 273

أزيَد بنَ مَصْبوحٍ فلو غيركم صبا

غَفَرنا وكانت من سجيتنا الغُفُر

فأنث الغفر لأنه بمعنى المغفرة.

وزعم الكوفيون أن اسم (كان) إذا كان مصدراً مذكراً والخبر مؤنثاً مقدماً عليه، جاز في سعة الكلام لتذكير والتأنيث. فأجازوا أن يقال: كان رحمة المطر الذي أصابنا البارحة، وكانت رحمة. قالوا: فمن ذكر فلأن المطر مذكر والنية به التقديم، فكما يقال: كان المطر الذي أصابنا رحمة، فكذلك تفعل إذا قدم الخبر. ومن أنث فلأن الخبر قد ولى (كان) وهو مؤنث، والأخبار سبيلها أن تكون موافقة للأسماء لأنها هي في المعنى، وأيضاً فإن الاسم مصدر وتذكير المصدر وتأنيثه

بمعنى واحد، ولذلك لم يجز التأنيث إذا كان الاسم غير مصدر نحو قولك:(كان شمساً وجهك)، ولا يجيزون أن يقال:(كانت شمساً وجهك). فعلى هذا قول لبيد (وكانت عادة منه إذا هي عردت أقدامها)، هو عندهم من قبيل ما يجوز في الكلام والشعر، وكذلك قول الآخر: وكانت من سجيتنا الغفر، لأنه يريد: سجية من سجايانا الغفر.

والصحيح عندي ما ذهب إليه أهل البصرة، لأنه لا يحفظ في سعة الكلام مثل: كانت رحمة المطر الذي أصابنا. واحتجاجهم على جواز ذلك بقراءة أهل المدينة وعاصم وأبي عمرو: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا) بتأنيث (تكن) لأن (أن) مذكرة وخبر لكن قد تقدم على اسمها وهو مؤنث، لا حجة لهم فيه، لأن (أن) مع صلتها إنما هي على حسب ما هي

ص: 274

بتقديره. فإن قدرت (أن قالوا) بالقول حكم لأن وصلتها بحكم المذكر، وإن قدرته بالمقالة أو بالقولة حكم لها مع صلتها بحكم المؤنث.

فأما قول حاتم:

أماوي قد طال التجنب والهجر

وقد عَذَرتْني في طِلابِكمُ عُذْر

فينبغي أن لا يحمل على أنه أنث العذر لأنه بمعنى المعذرة أو العذري، لأن ذلك شيء لم تدع إليه ضرورة، إذ قد يمكن أن يكون جمع العذير، وهو الحال، على عذر، كنذير ونذر، ثم خفف، ويكون المعنى: وقد عذرتني الأحوال التي ترونها مني.

وقد شذ شيء من هذا في الكلام: حكى الأصمعي عن بعضهم: كان ذلك مذ دوخت الإسلام، فأنث الإسلام لأنه بمعنى الملة. وحكي أيضاً عن أبي عمرو أنه سمع رجلاً من أهل اليمن يقول:(فلان لغوب، جاءته كتابي فاحتقرها، فقال له: أتقول جاءته كتابي، فقال: نعم أليس بصحيفة).

ومن الثاني قول عامر بن جؤين:

فلا مُزْنَةُ ودقت وَدْقَها

ولا أرْضَ أبْقلُ إبْقَالَها

ص: 275

فذكر الأرض لأنها بمعنى المكان، فكأنه قال: ولا مكان أبقل إبقالها. وقوله:

لو كانَ مِدْحَةُ حَيّ مُنْشراً أحداً

(أحيا) أباكن يا ليلى الأماديح

فذكر المدحة لأنها بمعنى المدح، وقول الآخر:

إن السماحةَ والمروة ضُمَّنا

قبراً بمرو على الطريقِ الواضحِ

فذكر السماحة لأنها بمعنى السماح، ثم غلب المذكر على المؤنث. وقول الآخر:

هنيئاً لسعدِ ما اقتضى بعد وقعتي

بناقةِ سَعْدِ والعشية بارد

لأنها في معنى العشي، وقول الآخر أنشده ثعلب:

وقائعُ في مُضَرٍ تسعةُ

وفي وائلٍ كانت العاشِرة

فذكر الوقائع لأنها بمعنى الأيام، ولذلك أدخل التاء في عددها، وقول الآخر:

ص: 276

فإن تَكْسُني يا ربّ صَلّيْتُ خَمْسَةً

وإلا تَرَكْتَ الخَمْسَ غَيْرَ ذميم

فذكر الصلاة حملاً على معنى الدعاء، ولذلك ألحق التاء في العدد أولاً. وقول طفيل بن عوف الغنوي:

إذ هي أحوى من الربعي خاذلة

والعين بالأثمد الحاري مكحول

فذكر العين لأنها بمعنى الطرف، وقول الآخر أنشده، هشام بن معاوية:

يمت بقربي الزينبين كليهما

إليك وقربى خالد وحبيب

فذكر الزينبين حملاً على معنى الشخصين، وقول الآخر، أنشده الفراء:

وكلتاهما قد خُطّ في صحيفتي

فلا العَيْشُ أهوَاهُ ولا الموتُ أرْوَحُ

فذكر كلتا حملاً على المعنى لأن معنى كلتاهما قد خط لي، وكلا الأمرين قد خط لي، واحد.

ومن هذا النوع أيضاً عند المبرد ومن أخذ بمذهبه، حذف علامة التأنيث من الفعل

المسند إلى المفرد من ظاهر المؤنث الحقيقي، نحو قول جرير:

ص: 277

لقد ولد الأخَيطِلَ أمُّ سوءِِ

على بابِ أستها صُلُبُ وشَام

وقول الآخر:

إن امرءاً غره منكن واحدة

بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور

ألا ترى أن التاء قد حذفت من الفعل المسند إلى (أم) في البيت الأول، وإلى (واحدة) في البيت الثاني.

وإن جاء شيء من ذلك في سعة الكلام، كان شاذاً عنده يحفظ ولا يقاس عليه. وسواء في ذلك أن يفصل بين الاسم والفعل أو لا يفصل. نحو ما حكي من قولهم: قال فلانة، وحضر القاضي اليوم امرأة.

وذهب أبو موسى الجزولي إلى إجازة حذف علامة التأنيث. إلا أن حذفها عنده من غير فصل ليس بكثير.

وذهب الزمخشري إلى منع حذفها في الكلام إذا عدم الفصل وأجاز الحذف مع الفصل إلا أن جوازه ليس بالواسع عنده.

ص: 278

وذهب النحاس إلى أن ذلك لا يجوز في نحو قولك: قامت هند، لئلا يلتبس المذكر بالمؤنث إذ قد يسمى المذكر باسم المؤنث، وأجازه في قولك: جاءتني امرأة وأمثاله لأنه قد عرف المعنى. ففرق بين العلم وغيره.

والصحيح عندي ما ذهب إليه المبرد، لأن سيبويه ذكر أن ذلك (في الواحد من الحيوان قليل) ثم قال: وهو في الآدميين أقل ف (حضر القاضي امرأة) وأمثاله على هذا أقل قليل. وما كان على هذه الصفة لا يجوز القياس عليه.

وأما قوله:

بعيد الغزاة فما أن يزا

ل مضطمراً طرتاه طليحا

فإن إسقاط علامة التأنيث من مضطمر ليس بضرورة، لأن الصفة إذا أسندت إلى

ظاهر المفرد المؤنث غير الحقيقي، حذف منها علامة التأنيث في سعة الكلام، كما يحذف من الفعل المسند إليه فيقال: طلع الشمس وطلعت الشمس.

وتذكير المؤنث أحسن من تأنيث المذكر، لأن التذكير أصل التأنيث، فإذا ذكرت المؤنث ألحقته بأصله وإذا أنثت المذكر أخرجته عن أصله.

ومنه: العطف على التوهم، نحو قوله:

ص: 279

أجدك لست الدّهْرَ رائيَ رامةٍ

(ولا عاقلٍ) إلا وأنت حبيبُ

ولا مصعد في المصعدين لمنعج

ولا هابطٍ ما عشت هَضْبَ شَطيبِ

ألا ترى أن (مصعداً) و (هابطاً) كانا حكمهما أن ينصبا لعطفهما على (رائي رامة) وهو منصوب لأنه خبر (ليس). لكن الكسائي رواهما بالخفض بدل النصب، على توهم ما من عادته أن يزاد في خبر ليس، وهو الباء. ألا ترى أنه يجوز لك أن تقول في الكلام: لست الدهر برائي رامة. ومثله قول زهير:

بدا لِيَ أني لَسْتُ مدركَ ما مضى

ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائياً

وقول الآخر:

مشائيمُ ليسوا مصلحينَ عَشيرةُ

ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غُرَابُها

فـ (سابق) في البيت (الأول) خفض على توهم الباء في مدرك،

ص: 280

و (ناعب) في البيت الثاني خفض على توهم الباء في مصلحين.

ومثل ذلك، في مذهب من يعتقد أن الخافض إذا حذف مع (إن) و (أن) كانا مع صلتيهما بتقدير اسم منصوب، قول الآخر:

وما زرتُ سلمى أن تكون حبيبةً

إليَّ ولا دينٍ بها أنا طالبه

ألا ترى أنه خفض (دين) لما كان من عادته أن يقول: وما زرت سلمى لأن تكون حبيبة. ونحو من ذلك قول مسور بن زياد الحارثي:

يقول رجالُ ما أصيب لهم أب

ولا من أخٍ، أقبلْ على المال تعقل

ألا ترى أنه قال: ولا من أخ لما كان له أن يقول: ما أصيب لهم من أب فيزيد (من) في المعطوف عليه.

وأقبح من جميع ما تقدم من هذا النوع قول الآخر:

أجدك لن ترى بِثُعَيْلبَاتٍ

ولا بيدان ناجيةً ذَمُولا

ولا متداركٍ والشّمْسُ طِفْلُ

ببعض نواشغ الوادي حمولا

ألا ترى أنه كان ينبغي له أن يرفع (متدارك) على أن يكون خبر المبتدأ مضمر فيكون التقدير إذ ذاك: ولا أنت متدارك، إلا أنه استعمل بدل الرفع الخفض لما كان معنى لن ترى بثعيلبات واحداً، فعامله لذلك معاملته.

ص: 281

وإنما كان هذا أقبح من جميع ما تقدم لأن المعنى الذي حمل عليه في الأبيات المتقدمة قد يخرج إلى اللفظ، والمعنى الذي حمل عليه في هذا البيت لا يخرج إلى اللفظ.

وقول الآخر:

إن تركبوا فركوبُ الخيل عادَتُنا

أو تنزلونَ فإنا مَعْشرُ نُزُل

ألا ترى أن (تنزلون) حكمه أن يحذف منه النون للجزم لأنه معطوف على الفعل المجزوم بأداة الشرط، وهو (تركبوا)، لكنه اضطر إلى رفعه بالنون فأستعمل الرفع بدل الجزم حملاً على (أتركبون) المضمن معنى (أن تركبوا)، لأن الفعل المستقيم عنه جائز فيه أن يضمن معنى الشرط. إلا أن ما حمل عليه رفع (تنزلون) لا (يخرج) إلى اللفظ.

ومنه: أن يعامل الاسم الذي ليس بمبتدأ، لا في اللفظ ولا في التقدير، معاملة المبتدأ أو الاسم الذي هو معمول الناسخ من نواسخ الابتداء فيخبر عنه كما يخبر عنهما. فالأول نحو قوله:

أقول له كالنُّصْحِ بيني وبينه

هَل أنت بنا في الحَجّ مرتجلان

فمرتجلان مرفوع على أنه خبر عن المبتدأ الذي هو ضمير المخاطب وعن ضمير المتكلم المجرور بالباء، مع أن الضمير المجرور بالباء ليس مبتدأ في اللفظ ولا في التقدير، فكان حكمه أن لا يخبر عنه لكنه حكم له، بدلاً من حكمه، بحكم المبتدأ فأخبر عنه.

ص: 282

والذي سوغ له ذلك الحمل على المعنى. ألا ترى أنه لا فرق في المعنى بين قوله: هل أنت بنا في الحج مرتجلان، وبين أن يقول: هل أنت وأنا في الحج مرتجلان.

والثاني نحو قوله:

لعلّي إن مالت بي الريح ميلةً

على ابن أبي الذبانِ أن يتندّما

فأخبر بقوله: أن يتندما عن الضمير المجرور بالباء، مع أنه ليس بمبتدأ في اللفظ ولا في التقدير ولا معمولاً لناسخ من نواسخ الابتداء، فكان حكمه أن لا يخبر عنه، لكنه حكم له، بدلاً من حكمه، بحكم المبتدأ فأخبر عنه واستغنى بالأخبار عنه عن الإخبار عن اسم (لعل).

والذي سوغ له ذلك أيضاً الحمل على المعنى. ألا ترى أنه لا فرق في المعنى بين ما قاله وبين أن يقول: لعل ابن أبي الذبان إن مالت بي الريح ميلة عليه أن يتندم، خبراً عن اسم (لعل)، ويكون الرابط له به محذوفاً. والتقدير: لعلي إن مالت بي الريح ميلة علي ابن أبي الذبان أن يتندم بميلي عليه، فيكون الرابط باسم لعل المضمر المضاف إليه ميل المحذوف.

ومنه: تأكيد الاسم المخفوض بالإضافة باسم مخفوض (بمن)، حملاً على المعنى، نحو قول قيس بن الخطيم:

نحن بغرسِ الوديَّ أعلمناُ

منا بركضِ الجيادِ في السُّدَفِ

ص: 283

فوكد ضمير المتكلم المخفوض بإضافة (أعلم) إليه بالمجرور بـ (من) حملاً على المعنى. ألا ترى أن قوله:

نحن بغرس الوديَّ أعلمنا

منا بركض الجياد في السدف

معناه أعلم منا بركض الجياد، فلذلك حكم له، بدلاً من حكمه، بحكم الضمير المجرور بـ (من).

ومنه: انتصاب الفعل المضارع بعد الفاء في غير الأجوبة الثمانية، وهي الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض والتحضيض والدعاء. ونحو ذلك قوله:

سأتركُ منزلي لبني تميمٍ

وألحقُ بالحجازِ فأستريحا

وقول الآخر:

هنالك لا تجزونني عند ذلكم

ولكن سيجزيني الإله فيُعْقِبا

وقول الآخر:

قوارصُ تأتيني وتحتقرونها

وقد يملأ القَطْرُ الإناَء فيُفْعَما

ص: 284

وقول طرفة:

لنا هضبة لا ينزلُ الذّلَ وَسْطَها

ويأوي إليها المستجير فَيُعْصَما

ألا ترى أن الأفعال الواقعة بعد الفاء في جميع ذلك منصوبة من غير أن يتقدم الفاء شيء من الأجوبة الثمانية، وكان حكمها أن تكون مرفوعة لأن الأفعال التي قبلها مرفوعة وهي معطوفة عليها وداخلة في معناها. إلا أنه لما أضطر إلى استعمال النصب بدل الرفع، حكم لها بحكم الأفعال الواقعة بعد الفاء في الأجوبة الثمانية، فنصب بإضمار (أن)، وتؤولت الأفعال التي قبلها تأويلاً يوجب النصب فحكم لقوله:(وألحق بالحجاز) بحكم ويكون مني لحاق بالحجتز، ولقوله:(سيجزيني الإله) بحكم (يكون من الإله جزاء لي)، ولقوله، (وقد يملأ القطر الإناء) بحكم (قد يكون من القطر ملء الإناء)، ولقوله:(يأوي إليها المستجير) بحكم (يكون من المستجير آوي إليها)، لأن المعنى في جميع ذلك واحد، وجعلت

مع الفعل معطوفة بالفاء على ذلك المصدر المتوهم.

ومنه: انتصاب الفعل بإضمار (أن) بعد (أو) العاطفة إجراء لها في ذلك مجرى (أو) التي بمعنى (إلا أن)، نحو قوله:

فَسِرْ في بِلادِ الله والتمس الغنى

تَعِشْ ذا يسارٍ أو تموت فتُعْذَرا

ألا ترى أنه نصب الفعل الواقع بعد (أو)، بإضمار (أن)، وليست بمعنى (إلا أن) لأن المعنى لا يساعد على ذلك، إذ لا يلزم من سيره في بلاد

ص: 285

الله والتماسه الغنى أن يعيش ذا يسار (إلا) أن يموت، وإنما هي لأحد الشيئين. ألا ترى أن المعنى: سر في بلاد الله والتمس الغنى يكن أحد الشيئين: عيش ذو يسار أو موت فتعذر، فكان ينبغي أن يكون الفعل الذي بعدها مجزوماً لأنه معطوف على (تعش) وهو مجزوم. إلا أنه لما اضطر إلى استعمال النصب بدل الجزم حكم لها بحكم الفعل الواقع بعد (أو) التي بمعنى (إلا أن)، وتأول الفعل الذي قبلها تأويلاً يوجب النصب، فحكم لقوله:(تعش ذا يسار) بحكم (يكن لك عيش ذو يسار) لأن المعنى فيهما واحد، ونصب الفعل الذي بعدها بإضمار (أن) وعطف (أن) والفعل المنصوب بها على ذلك المصدر المتوهم.

ومنه: نصب معمول الصفة المشبهة باسم الفاعل في حال إضافته إلى ضمير موصوفها، نحو قولك: مررت برجل حسن وجهه، بنصب وجه. ولا يجوز ذلك إلا في ضرورة، نحو قوله:

أنعَتُها إني

من نعاتها

كوم الذرى

وادقَةُ سرّاتِها

ألا ترى أنه قد نون (وادقة) ونصب معمولها، وهي مضافة إلى ضمير موصوفها، وكان الوجه أن يرفع السرات. إلا أنه أضطر إلى أستعمال النصب بدل الرفع فحمل الصفة ضميراً مرفوعاً عائداً على صاحب الصفة ونصب معمول الصفة

إجراء له، في حال إضافته إلى ضمير الموصوف مجراه إذا لم يكن مضافاً إليه.

ص: 286

وكذلك أيضاً لا يجوز خفض معمولها في حال إضافته إلى ضمير الموصوف إلا عند الاضطرار لأن الخفض لا يكون إلا من نصب. ومن ذلك قول الأعشى:

فقلت له هذه هاتها

إلينا بأدماَء مُقُتادِها

ألا ترى أنه أضاف الصفة، وهي (أدماء)، إلى معمولها، وهي (مقتاد)، في حال إضافته إلى ضمير موصوفة. وقول الآخر في الصحيح من القولين:

أقَامَتْ على رَبْعَيْهما جارتا صَفَا

كُمَيْتَا الأعالي جَوْنَتا مُصْطَلاهُما

ألا ترى أنه أضاف الصفة، وهي (جونتا)، إلى معمولها، وهي (مصطلى)، في حال إضافته إلى ضمير موصوفة.

ومنه: أن يستعمل الاسم للضرورة استعمالاً لا يجوز فيه في سعة الكلام. فمن ذلك قوله:

مَهْمَا لِيَ الليْلةَ مهما ليه

أودى بِنَعْلي وسِرْ باليهْ

ألا ترى أن (مهما) لا يستعمل في سعة الكلام إلا اسم شرط. إلا أنه لما اضطر استعملها اسم استفهام بدل ذلك الاستعمال الجائز فيها في حال السعة.

ص: 287

ومنه قوله:

ما أنت بالحَكَم التُرضي حُكومته

ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

ألا ترى أن الألف واللام، الداخلة على (ترضى)، من الأسماء الموصولة، لأنها بمعنى الذي، يريد: الذي ترضى، وحكمها في الكلام أن لا تدخل إلا على اسم الفاعل أو اسم المفعول، نحو: الضارب، والمضروب، تريد الذي ضَرب، والذي ضُرب. إلا أنه لما اضطر جعل وصلها بالفعل بدلاً من وصلها باسم الفاعل، إجراء لها في ذلك مجرى ما هي في معناه، وهو (الذي). ومثل ذلك قوله:

فذو المال يُعْطَى مَالَه دون عرْضِه

لما نابه والطارق اليتعهد

يريد: الذي يتعهد. وقوله:

أحين اصطفاني أن سكتَّ وإنني

لفي شُغُلِ عن رَحْلي اليَتَتَبّعُ

يريد: الذي يتتبع. وقوله:

لا تبعثَنّ الحَرْبَ إني لك ال

يُنْذِرُ من نيرانها فاصْطَلِ

يريد: الذي ينذر، وقول ذي الخرق الطهوي:

ص: 288

يقول الخنى وأبْعضُ العًجْم ناطقاً

إلى رَبّنا صَوْتُ الحِمارِ اليُجَدّعُ

وقوله أيضاً:

ويَستَخرج اليَرْبُوع من نافقائه

ومن حجره يالشيحةِ اليَتَقَصَّعُ

يريد: الذي يجدع، والذي يتقصع.

ومن النحويين من ذهب إلى أن هذه الألف واللام الداخلة على الفعل ليست الداخلة على اسم الفاعل واسم المفعول، بل هي مبقاه من الذي وذلك باطل بدليل أنها لو كانت مبقاة منه لجاز أن يقع في صلتها الفعل الماضي كما يقع في صلة الذي، فلنا لم تدخل من الأفعال إلا على الفعل المشبه لاسم الفاعل، وهو المضارع، دل ذلك على أنها الداخلة على اسم الفاعل في الكلام.

فأما الألف واللام في قول الآخر:

من القوم الرّسُول الله منهم

لَهُمْ دانت رِقابُ بني مَعدَّ

يريد: الذي رسول الله منهم، فالأظهر أن تكون مبقاة من الذين، لأنه وصلها بالجملة الاسمية ولم يدخلها على اسم الفاعل ولا على ما أشبهه.

ص: 289

ومنه قول الفرزدق:

أتته بمجلومٍ كأن جبينه

صلاءة ورس وَسْطها قد تفَلّقا

فاستعمل (وسط) في حال إخراجها عن الظرفية، وجعلها مرفوعة بالابتداء ساكنة السين، وذلك غير جائز في سعة الكلام، بل حكمها إذا أخرجت عن الظرفية أن

تستعمل مفتوحة السين، فيقال: وسط الدار أحر. وإنما تسكن تشبيهاً إذا استعملت ظرفاً، نحو قوله أنشده هشام:

إن الدلال وحسن العفا

ف وسط بيوت بني الخزرج

وقول الآخر أنشده أحمد بن يحيى:

الشعراء

فأعلمَنُ أرْبَعَةْ

فشاعر ينشد

وسط المجمعة

وشاعر لا يرتجى

لمنفعة

وشاعر يقال

خمر في دعه

وشاعر آخر

لا يُجْرَى معه

إلا أن الفرزدق لما أضطر، في حال استعمالها اسماً، إلى التسكين سكن سينها بدلاً من التحريك الذي هو حكمها في سعة الكلام، إجراء لها مجراها إذا استعملت ظرفاً.

ومثل ذلك قول عدي بن زيد:

وَسَطُ كاليراعِ أو سُرُج المج

دل يخبو حيناً وحيناً ينير

ص: 290

وقول القتال الكلابي:

مِنْ وَسْطِ جَمْعِ بني فريصةَ بعدما

هَتَفتْ رَبيعةُ يا بني جَوَّابِ

فسكن سين (وسط)، وهي مجرورة بـ (من). وحرف الجر إذا دخل على الظرف خرج عن حكم الظرفية، وحكم لها بحكم الأسماء.

وهذا الذي ذكرته هو مذهب البصريين وبعض الكوفيين.

وأما الفراء ومن أخذ بمذهبه من الكوفيين فيزعمون أنها إذا كانت ظرفاً، وكانت بمعنى (بين)، كانت ساكنة السين. وإذا كانت بخلاف ذلك كانت مفتوحة السين. فأجازوا أن يقال: احتجم زيد وسط رأسه والبصريون لا يجيزون في قوله:

(احتجم زيد وسط رأسه) وأمثاله إلا بتسكين السين، لأنها ظرف. ولا يفرقون بين ما يتقدر فيه بـ (بين) وما ليس كذلك.

فعلى هذا قوله أنشده الفراء:

. . . . . . . . .

فَوَسْط الدار ضَرْباً واحتماما

غير ضرورة عندنا، لأن وسط الدار ظرف. وينبغي أن يكون عند الفراء ومن أخذ بمذهبه ضرورة، لأن (وسط) فيه ليست بمعنى (بين).

ومنه قول المرار بن سلامة العجلي:

ص: 291

ولا يَنْطقُ الفَحْشاء من كان منْهمُ

إذا جَلَسوا منّا ولا من سوائنا

فأستعمل (سواء) اسماً بدليل إدخال حرف الجر عليها، وحكمها في سعة الكلام أن لا تستعمل إلا ظرفاً، وكذلك (سوى) لا يخرج عن الظرفية إلا في الضرورة، نحو قوله:

فلم يبق منها سوى هامدٍ

وسُفْع الخدودِ وغًيْر النُؤيّ

لأنه لما اضطر إلى إخراجهما عن الظرفية جعلا بمنزلة (غير) وحكم لهما بحكم الأسماء بدلاً من ذلك الحكم الذي كان في حال السعة. ومن ذلك قول الأعشى:

تجانَفُ عن جو اليمامةِ ناقتي

وما قصدت من أهلها لسوائكا

وسواء وسوى معناهما واحد، إلا أنك إذا فتحت السين مددت، وإذا كسرتها قصرت.

وحكى الكوفيون أن أبا ثروان قال: (أتاني سواك)، فأستعمل

ص: 292

(سوى) اسماً في سعة الكلام. وذلك شاذ يحفظ ولا يقاس عليه.

ومنه قوله:

صبحنا الخزرجيةَ مرهفات

أبان ذوي أرومتِها ذووها

فذوو جمع (ذو) بمعنى صاحب، وحكمها في الكلام أن تضاف إلى الظاهر،

فأضافها لما اضطر إلى الضمير بدلاً لها من الظاهر، إجراء لها في ذلك مجرى ما هي في معناه، وهو (صاحب). قول الآخر أنشده الكوفيون:

وإنا لنرجو (علاجاً) فيك مثلما

رَجَوناه قِدْماً في ذويك الأوائل

وقول الآخر أنشده الفارسي:

إنما يَعْرفُ ذا الفَضْ

لِ من الناس ذووه

ومنه قوله:

زحرت به ليلةً كلها

فجئت به مؤيداً خنفقيقا

ص: 293

فوكد (ليلة)، وهي نكرة، بـ (كل)، وحكمها في الكلام أن لا يجوز تأكيدها بـ (كل) ولا بما في معناها، لكنه لما اضطر حكم لها بحكم المعرفة بدلاً من حكمها. ومثل ذلك قول الآخر:

قد صَرّتِ البَكرة

يوماً أجْمَعَا

فوكد (يوماً)، وهي نكرة، بـ (أجمع). وقول الآخر:

يا ليتني كنت صبياً مُرْضعا

تَحْمِلُني الذّلْفَاءُ

يوماً أكتعا

فجميع بين استعمل ضرورتين: إحداهما تأكيد النكرة بـ (أكتع)، والأخرى استعماله دون (أجمع)، ومما استعمل فيه (أكتع) غير تابع لـ (أجمع) قول أعشى ربيعة.

نزلنا بالدوائر واتقونا

بنعمان بن زرعة أكتعينا

وما ذكرته من أن النكرة لا تؤكد بـ (كل) أو ما هو في معناها إلا في ضرورة، هو مذهب البصريين. وأما الكوفيون فيزعمون أن النكرة

ص: 294

لا تخلو من أن تكون مؤقتة أو غير مؤقتة. فإن كانت مؤقتة، كما هي في الأبيات المتقدمة الذكر، جاز تأكيدها في سعة الكلام. وإن كانت غير مؤقتة وأعني بذلك أن تكون غير معلومة

القدر، لم يجز تأكيدها في الكلام ولا في الشعر، لأنه لا فائدة في ذلك، وذلك نحو رجال ودراهم: لا يجوز أن تقول: جاءني رجال كلهم، ولا قبضت دراهم كلها.

والصحيح عندي ما ذهب إليه أهل البصرة من أن النكرة لا تؤكد في الكلام أصلاً مؤقتة أو غير مؤقتة، لأن تأكيد غير (المعرفة) لا فائدة. فأما قوله:

عداني أن أزورك أن بهمي

عجايا كلها إلا قليلا

فـ (كلها) تأكيد للضمير المرفوع المستتر في (عجايا) العائد على (البهم)، لا لـ (عجايا) لأنها نكرة غير مؤقتة، كما وكد الضمير المستتر في الصفة في قول الآخر:

نلبث حولاً كاملاً كلّه

لا نلتقي إلا على مَنْهجِ

فـ (كله) تأكيد للضمير المرفوع المستتر في (كامل) العائد على (حول).

ومنه: الإخبار بالمعرفة عن النكرة. ولا يجوز في الكلام إلا عكسه، لكن الشاعر لما اضطر حكم للنكرة بدلاً من حكمها بحكم المعرفة فأخبر عنها بالمعرفة، نحو قول حسان:

ص: 295

كأن سبيئةً من بَيْتِ راس

يكون مزاجها عَسلُ وماءُ

فأخبر بـ (مزاجها)، وهو معرفة، عن (عسل)، وهو نكرة. وقوله:

قفي قبل التفرق يا ضُباعا

ولا يك موقفُ منك الوداعا

فأخبر بـ (الوداع)، وهو معرفة، عن (موقف)، وهو نكرة. وقول مرداس بن حصين:

كأن دارسة لما التقينا

لِنَصْل السّيْفِ مجتمع الصداع

فأخبر بـ (مجتمع الصداع)، وهو معرفة، عن (دراطة)، وهو نكرة. وقوله:

وجارك لا يَذْمُمْكَ إن مسبةً

على المرء في الادْنَيْن ذَمَ المُجاورِ

فأخبر بـ (ذم المجاور)، وهو معرفة، عن (مسبة)، وهو نكرة. وقوله:

وإن عناء تفهَّم جاهلاً

فيحسب جهلاً أنه منك أعلم

فأخبر بـ (أن) وصلتها، وهي تجري مجرى المعرفة، عن (عناء)، وهو نكرة.

وقوله:

ص: 296

بمكة حِنْطَةُ بُلّت بماء

يكون إدامَها لبنُ حليبُ

فأخبر بـ (إدامها)، وهو معرفة، عن (لبن)، وهو نكرة. وقوله:

. . . . . . . . .

ما كان والدَها جنَّ ولا بَشَرُ

فأخبر ب (والدها)، وهو معرفة، عن (جن وبشر)، وهما نكرتان.

ومن هذا النوع مجيء الاسم الذي هو صفة عن الأصالة حالا من النكرة مؤخراً عنها. وحكمه أن يكون تابعاً لها لكنهم حكموا له في الشعر بحكم المعرفة بدلاً من حكمه، فأتوا بالحال مؤخرة عنه كما يأتون بها مؤخرة عن المعرفة، وذلك نحو قوله:

وما حل سَعْديُّ غريباً ببلدة

فَيُنْسَبُ إلا الزبرقان له أبُ

فجعل (غريباً) حالاً من (سعدي) مؤخرة عنه، وهو نكرة. وقول الآخر أنشده الفارسي:

حَبَونْا بها فيما اعتسرنا علالةً

علالة حبٍ مستسراً وظاهراً

فجعل (مستسراً) و (ظاهراً) حالين من (حب) وهو نكرة.

ومنه: الجزم بـ (إذا). وحكمها في الكلام أن لا تجزم، إلا أنها شبهت للاضطرار بـ (متى) من حيث كانت مثلها، ألا ترى أنهما ظرفا زمان وفي كل واحد منهما معنى الشرط، فحكم لها من أجل ذلك بحكم (متى)،

ص: 297

بدلاً من حكمها، فجزم بها كما يجزم بـ (متى). وذلك نحو قول قيس بن الخطيم:(الطويل).

إذا قَصُرتْ أسيافُنا كان وَصْلُها

خطانا إلى أعدائنا فنضاربِ

فـ (قصرت) في موضع جزم بـ (إذا) وكذلك (كان)، بدليل جزم (نضارب)

المعطوف عليها، إلا أن الباء من (نضارب) إنما كسرت لكونها وسكون ياء الإطلاق بعدها. وقول الفرزذق:

ترفع لي خندق والله يرفعها

ناراً إذا خمدت نيرانهم تقدِ

فـ (خمدت) في موضع جزم بـ (إذا) بدليل جزم جوابها، وهو (تقد). وقول يعض السلوليين:

إذا لم تزل في كل دار عرفتها

لها واكف من دمع عينيك يَسجُم

فـ (لم يزل) في موضع جزم بـ (إذا)، بدليل جزم جوابها، وهو (يسجم)، وقول أعشى همدان:

ص: 298

وإذا تُصبك من الحوادث نكبة

فأصبر، فكل غيابة ستكشفُ

فجزم (تصبك) بـ (إذا).

فإن قال قائل: هلا جزم بـ (إذا) في سعة الكلام كما جزم بـ (متى)، إذ معنى الجزاء موجود فيها. فالجواب: أن الذي منع من ذلك في حال السعة تقصيرها عن أدوات الجزاء، من جهة أن الباب فيها أن المقطوع بوقوعها، نحو قولك: إذا أحمر البسر فأتني. ألا ترى أن احمرار البسر لا بد من وقوعه وأدوات الشرط الجازمة الباب فيها أن لا تدخل على الأفعال غير المقطوع بوقوعها، نحو قولك: إن قام زيد قام عمرو. وإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك يؤول: ومنه: قول الفرزدق:

فلن تستطيعوا أن تزيلوا الذي رسا

لنا عند عال فوق سبعين دائم

فثنى (سبعاً)، يريد سبع السماوات وسبع الأرضيين، ولا يجوز ذلك في سعة الكلام، لأن أسماء العدد استغنت العرب ببعضها عن تثنية بعض، ما عدا مائة وألفاً فإنهما يثنيان في سعة الكلام، لأنه ليس في أسماء العدد ما يغني عن تثنيتهما. لكنه لما اضطر شبه (سبعاً) بمائة وألف، من حيث كانت اسم عدد كما إنهما كذلك فحكم لها بحكمهما بدلاً من حكمها.

فأما قوله: (الطويل)

فلما التقينا واحدين علوته

بذي الكف إني للكماة ضروب

ص: 299

فليس (واحدين) فيه تثنية (واحد) الذي هو من أسماء العدد، لما ذكرناه من (أن) أسماء العدد ما عدا مائة وألفاً لا يثنى، بل هو تثنية واحد الذي هو صفة بمعنى: مفرد.

ومنه: إجراؤهم الاسم الذي فيه تاء التأنيث في الوصل مجراه في الوقف، نحو قوله:

لما رأى لا

دعَهْ ولا شَبَعْ

مال إلى أرطاة

حقف واضطجع

وقوله:

لستُ إذنْ لزعْبلَهْ إن لم أغَيّ

ر بِكْلتي إن لم أساو بالطول

ألا ترى أن (دعه) و (زعبله) قد قلبت (التاء) منهما هاء في الوصل (وهو) غير جائز في سعة الكلام. إلا أنه لما اضطر حكم لها بالحكم الذي كان لها في حال الوقف بدلاً من الحكم الذي لهما في الوصل فسكن التاء وقلبها هاء كما يفعل بها في حال الوقف.

ومنه: استعمال الفعل الحرف المشبه له عند الاضطرار إلى ذلك. وهو من قبيح الضرائر. وذلك قوله:

ص: 300

قد سَوأ الناس ياما ليس بَأسَ به

وأصبح الدهر ذو العرنين قد جدعا

ألا ترى أن (ليس) حكمها في الكلام أن ترفع الاسم وتنصب الخبر لكنه لما اضطر حكم لها بحكم (لا) بدلاً من حكمها لكونهما بمعنى واحد، وهو النفي فجعلهما مع الاسم الذي دخلت عليه بمنزلة اسم واحد، كما يفعل بـ (لا) في نحو قولك: لا رجل في الدار.

ومنه: استعمال الحرف اسماً للضرورة، نحو قول الأعشى:

أتنهون ولا يَنْهَى ذوي شططِ

كالطعن يذهب فيه الزيت والفُتلُ

فجعل الكاف فاعلة لـ (ينهى). وقول امرئ القيس:

وإنك لم يَفْخَرْ عليك كفاخرٍ

ضعيفٍ، ولم يَغْلِبْك مثل مُغَلّبِ

فجعل الكاف فاعلة بـ (يفخر). والدليل على أنها فاعلة في البيتين أنه لابد للفعل من فاعل. فلا يجوز أن يكون الفاعل محذوفاً ويكون تقديره في البيت الأول: ناه كالطعن، وفي البيت الثاني: فاخر كفاخر ضعيف، لأنه لا يخلو بعد الحذف أن يقام المجرور مقامه أو لا يقام، فإن لم يقم مقامه لم يجز

ص: 301

ذلك، لأن الفاعل لا يحذف من غير أن يقام شيء مقامه، وإن قدر قائماً مقامه لزم أن يكون المجرور فاعلاً، والمجرور الذي حرف الجر فيه غير زائد لا يكون فاعلاً فلما تعذر حذف الفاعل على التقديرين لم يبق إلا أن تكون الكاف هب الفاعلة: عوملت معاملة (مثل) لأن معناها كمعناه، وحكم لها بحكمه بدلاً من حكمها للضرورة.

ومما استعملت أيضاً الكاف فيه اسماً قول ذي الرمة:

أبيت على ميَّ كئيباً وبَعْلها

علي كالنقا من عالجِ يَتَبطحُ

فجر الكاف بعلي. وقول سلامة العجلي:

على كالخنيف السّحقِ يدعو به الصدى

له قُلبُ عُفّي الحياضِ أُجُون

ص: 302

فجر الكاف أيضاً بـ (علي). وقول امرئ القيس:

ورُحْنا بكابن الماء يجنب وسطنا

تَصَوبُ فيه العَيْنُ طَوْراً وترتقي

وقول ابن غادية السلمي:

وَزَعْتُ بكالهراوةِ أعوجيَّ

إذا ونت الرياحُ جرى وثابا

ألا ترى أن الكاف مجرورة في البيتين بالباء.

والدليل على أن الكاف في جميع ذلك ليست بحرف جر أن حرف الجر لا يدخل

على حرف الجر إلا أن يكونا في معنى واحد، فيكون أحدهما تأكيداً للآخر نحو قوله:

فلا والله لا يلْفَي لما بي

ولا للما بهم أبداً دواءُ

فأدخل على لام الجر لاماً أخرى للتأكيد، وقول الآخر:

فأصبحن لا يسألنني عن بما به

أصعد في علو الهوى أم تصوبا

ص: 303

فأدخل (عن) إلى الباء تأكيداً، لما كانا يستعملان في موضع واحد، فيقال: سألت به، وسألت عنه، و (على) والباء ليسا بمعنى الكاف فيكون دخولهما عليها على طريق التأكيد.

فإن قال قائل: فلعل الكاف حرف جر، ويكون المجرور، بـ (على) والباء محذوفاً. والتقدير: على كفل كالنقا، وعلى طريق كالخنيف، وبفرس كالهراوة، وبفرس كابن الماء. فالجواب أن ذلك لا يسوغ لأنك إن لم تقدر المجرور بالكاف قائماً مقام المحذوف، لزم من ذلك أن يكون الحرف الذي هو الكاف مع الاسم المجرور به في موضع خفض بـ (على) و (الباء). وذلك لا يجوز، لأن حروف الجر إنما تجر الأسماء وحدها. فلما تعذر أن تكون الكاف حرفاً على التقديرين اللذين تقدم ذكرهما، لم يبق إلا أن تكون قد جعلت اسماً بالجمل على ما هي في معناه، وهو (مثل)، للضرورة.

فأما قول خطام المجاشعي:

وصاليات ككما يؤثفين

فتحمل الكاف الثانية من قوله (ككما) أن تكون اسماً بمنزلة (مثل)، فتكون في موضع جر بالكاف التي دخلت عليها، وتحتمل أن تكون الكافان حرفي جر ووكد أحدهما بالآخر كما وكدت إحدى اللامين بالأخرى في قوله: ولا للما بهم أبدا دواء. والوجه الأول أحسن لأن استعمال الكاف اسماً في الشعر أوسع من إدخال

حرف جر على حرف جر مثله للتأكيد.

ص: 304

ومما استعملت أيضاً الكاف فيه اسماً قول الكميت:

علينا كالنهاء مضاعفات

من الماذي لم تؤذ المتونا

فجعل الكاف في موضع رفع بالابتداء وخبرها المجرور المتقدم عليها وكأنه قال: علينا مثل النهاء.

ومثل ذلك قول مزاحم العقيلي:

غدت من عليه بعدما تم ظمؤها

تصل عن (قيض) بزيزاء مجهلِ

فاستعمل (على) اسماً للضرورة، إجراء لها مجرى ما هي في معناه، وهو (فوق) بدليل إدخاله حرف الجر عليها. وقول يزيد القشيري:

ص: 305

(غدت) من عليه تنفض الطل بعدما

رأت حاجب الشمس استوى وترفعا

يعني: الظبية، أي: غدت من عند خشفها.

ومثل ذلك قول القطامي:

فقلت للركب لما أن علا بهم

من عن يمين (الحُبيا) نظرة قبل

وهو ذي الرمة:

وهيفِ تهيج البين بعد تجاوز

إذا نفحت من عن يمين المشارقِ

وقول رجل من بني أسد:

جرت عليه كل ريح سيهوج

من عن يمين الخط أو سماهيج

ص: 306

وقول الآخر:

فقلت اجعلن ضوء الفراقد كلها

يميناً ومهوى النجم من عن شمالكا

وقول قطري:

فلقد أراني للرماح درية

من عن يميني تارة وأمامي

فـ (عن) في جميع ذلك اسم بمنزلة (جانب)، بدليل إدخال خرف الجر عليها،

وهو (من).

وهذا الذي ذكرناه في (عن) و (على) والكاف هو مذهب البصريين. وأما الكوفيون فيزعمون أن حرف الجر إذا دخل على (عن) و (على) والكاف، لم تكن أسماء، بل سادة مسد الاسم ونائبه عنه. واحتجوا على ذلك بأن قالوا: لو كانت أسماء، كما يقوله البصريون، لقيل: عنك مرغوب فيه، تعني به: ناحيتك مرغوب فيها.

وهذا الذي استدلوا به لا يلزم ذلك في الأسماء التي لم تكن حروفاً قط. ألا ترى أن من الأسماء ما لا ينصرف بل يلتزم فيه ضرب واحد من الأعراب.

ص: 307

نحو: سبحان الله، ومعاذ الله. فإن العرب التزمت فيهما النصب على المصدرية. و (أيمن الله) التزمت فيه الرفع على الابتداء، فكذلك (عنك) لم تجعله العرب في موضع رفع على الابتداء، واستعملته في غير ذلك من المواضع التي تستعمل فيها الأسماء. مع أن هذا الذي ذكروه لا يطرد في كل ما استعمل من الحروف أسماء. ألا ترى أن الكاف حرف جر في الأصل، ولما استعملوها استعمال الأسماء في الشعر جعلوها فاعلة ومجرورة ومبتدأه، كما تقدم تبيينه.

ومنه: أن يستعمل الحرف للضرورة استعمالاً لا يجوز مثله في الكلام. نحو قول العجاج:

وأم أو عال كها أو أقربا

فجر بالكاف الضمير المتصل، وحكمها في سعة الكلام أن لا تجر إلا الظاهر أو الضمير المنفصل لجريانه مجرى الظاهر، فيقال: ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا. حكى الكسائي عن بعض العرب أنه قيل له: من تعدون الصعلوك فيكم، فقال: هو الغداة كأنا. لكنه لما اضطر أبدلها من حكمها حكم ما هي في معناه، وهو (مثل)، فجعلها تجر الضمير المتصل كما تجر الضمير المنفصل كما يجره (مثل).

ومن ذلك قوله:

فلا ترى

بَغلاً ولا حائلاً

كهو ولا كهن

إلا حاظلا

ص: 308

وقوله:

وإذا الحَرْبُ شَمّرتْ لم يَكن كِي

حين تدعو الكُماةُ فيها: نَزَالِ

أنشده الفراء وقال: أنشديه بعض أصحابنا، ولم أسمعه أنا من العرب.

قال الفراء: (وحكي عن الحسن البصري: أنا كك، وأنت كي. واستعمال هذا في حال السعة شذوذ لا يلتفت إليه.

ومثل ذلك قول الآخر:

فلا والله لا يُلْقَى أنَاسُ

فتى حتاك يا ابن أبي يزيد

فحكم لـ (حتى) بحكم (إلى) بدلاً من حكمها لما اضطر، لأن معناهما واحد، وهو انتهاء الغاية، فجر بها المضمر كما يجر بـ (إلى). وحكمها في الكلام إذا كانت جارة أن لا تجر إلا الظاهر.

ومنه: جعل اسم (كأن) المخففة من الثقيلة ظاهراً أو ضمير الشأن أو قصة محذوفاً، إلا أنهم لما اضطروا حكموا لها بدلاً من ذلك بحكمها إذا كانت مثقلة، فجعلوا اسمها ظاهراً، نحو قوله:

كأنْ وَريدَيْه

رِشاءاً خُلْبِ

أو ضميراً لا يراد به الشأن ولا القصة. وذلك نحو قوله:

ص: 309

. .

كأنْ ظبيةُ تعطو إلى وراق السَّلم

في رواية من رفع (ظبية)، يريد: كأنها ظبية

ومنه: قوله:

لكنْ فوارسُ نُعْمٍ وأسرتها

يوم الصُّلَيْفاء لم يُوفون بالجارِ

وقوله:

وأمْسَوا بها ليلَ لو أقسموا

على الشمس حولين لم تطلعُ

فحكم لـ (لم)، بدلاً من حكمها، بحكم (ما) لما كانت (ما) نافية مثلها، فرفع المضارع بعدها كما يرفع بعد (ما).

ومنه: قوله أنشده الأخفش:

وما بأسَ لو ردت علينا تحية

قليلُ على من يعرف الحق عابُها

فحكم لما بحكم (لا) بدلاً من حكمها، لشبهها بها من حيث كانا

ص: 310

نفي، فبناها مع الاسم الذي دخلت عليه كما يفعل بـ (لا) في نحو قولك: لا رجل في الدار.

هذه جملة الضرائر قد استوعبتها مجملة ومفصلة، فلم يشذ منها إلا ما لا بال له إن كان شذ. ويجوز القياس على ما كثر استعمالها منها. وما لم يكثر استعماله فلا سبيل إلى القياس عليه.

(تم الكتاب بعون الله جل وعز، على يد العبد المخطئ الفقير إلى الله عبد القادر بن عمر البغدادي، من نسخة سقيمة محرفة. يسر الله على التصحيح كما يسر الله الكتابة. وكان الفراغ منها في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الثانية. (وكان ابتداء الكتابة يوم الخميس السابع عشر جمادى الأولى) من شهور سنة ست وسبعين بعد الألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تحية. وحسبنا الله ونعم الوكيل).

ص: 311