الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل التقديم والتأخير
وهي منحصرة في: تقديم حركة، وتقديم حرف، وتقديم بعض الكلام على بعض.
فأما تقديم الحركة لأجل الضرورة فقليل. والذي جاء من ذلك نقل حركة الضمير في نحو: (ضربه) إلى الحرف المتحرك قبله في حال الوقف، نحو قوله، أنشده الجوهري:
ما زال شيبان
…
شديداً هبصُهْ
حتى أتاه قرنه
…
فوقَصُهْ
يريد: فوقصه، فنقل حركة الهاء إلى الصاد.
وذكر ابن دأب أن أعشى همدان قال:
مَنْ دَعَا لِيغُزَيّلي
…
أربح الله تِجَارَتُهْ
فجمع بين ثلاث ضرائر: إحداها نقل حركة الضمير المضاف إليه (تجارة) إلى الحرف المتحرك قبله في حال الوقف. والأخرى: حذف علامة الرفع من اسم الله تعالى تخفيفاً. والثالثة: إشباع حركة لام الجر، فنشأت عنها الياء.
إلا أن الأصمعي أنكر ذلك، وقال:(الأعشى من الفحول ولا يقع في مثل هذا).
وكذلك أيضاً أنكره خلف الأحمر، وقال:(ولقد طمع ابن دأب في الخلافة حين طمع أن يجوز هذا على الأعشى).
ومثل ذلك نقل حركة ضمير المؤنث في (أضربها) وأمثاله إلى الحرف المتحرك قبله بعد حذف صلته في حال الوقف، نحو قوله:
فإني قد سئمت بدار قومي
…
أموراً كنت في لخم أخَافهْ
يريد: أخافها، الألف ونقل حركة الهاء إلى الفاء. وقد تقدم ذكر ذلك في فصل نقص الحرف.
ومما جاء من ذلك أيضاً نقل الحركة من حرف الأعراب إلى الساكن قبله فيما يؤدي النقل فيه إلى بناء معدوم. ولا يحفظ ذلك إلا في قول أوس:
لنا صرخة ثم إسكاته
…
كما طرقت بنفاس بِكُرْ
بضم الكاف، هكذا رواه بعض الرواة فيما زعم سعيد بن المبارك بن الدهان في كتابه المسمى بالغرة. والمشهور في روايته (بكر)، بكسر الكاف.
وأما تقديم الحرف فمنه قول الشاعر:
حتى استفأنا نساَء الحي ضاحيةً
…
وأصبح المرءُ عمرو مثبتاً كاعي
يريد: كائعاً.
والدليل على أن كاعياً مقلوب من (كائع) أنه قد وجد لـ (كائع) مادة مستعملة، يقال: كاع فهو كائع، ولم يوجد (كعا) مستعملة ولا حفظ (كاع) إلا في هذا البيت.
وقوله:
هُمُ أوردوك الموتَ حتى لقيتَه
…
وجاشت إليك النفس بين الترائقِ
يريد: التراقي، جمع ترقوة، وقول ذي الرمة:
تكاد أو إليها تفرى جلودها
…
ويكتحلُ التالي بمَوْرِ وحاطبِ
يريد: أوائلها، وقول الأجدع بن مالك:
وكأن أولاها كَعابُ مُقامرٍ
…
ضُربت على شُزُنِ فهن شواعي
وقول القطار:
. . . . . . . . .
…
ولا تَقَضّي بَواقي دَيْنها الطادي
يريد: الواطد، وقول الآخر:
مَرْوان مروان أخو
…
اليوم اليَمي
يريد: اليوم، يقال: يوم يوم، أي: صعب. إلا أنه لما قلب جاءت الواو متطرفة بعد كسرة فأنقلبت ياء، وقول الآخر:
ولو أني رميتُك من بعيدٍ
…
لعاقك عن لقاء الحي عاقي
يريد: (عائق)، وقول الراجز:
مثل القياسِ
…
انتاقها المُنَقَّي
يريد: انتقاها.
والقلب في الكلام كثير. وإنما ذكرنا منه ما جاء للضرورة ولم يستعمل في سعة الكلام.
وأما تقديم بعض الكلام على بعض فمنه: الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والمجرور، نحو قول ذي الرمة:
كأن أصوات - من إيغالهن بنا -
…
أواخر المَيْسِ أصواتُ الفراريج
يريد: كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا، فقدم المجرور وفصل به بين المضاف والمضاف إليه، وقول أبي حية:(الوافر)
كما خط الكتاب بكف - يوماً -
…
يهودي يُقارب أو يزيل
يريد: بكف يهودي يوماً، فقدم الظرف وفصل به بين المضاف والمضاف إليه.
ومن الفصل بينهما بالمجرور، قول درني بنت عبعبة:
هما أَخوا الجَربِ مَنْ لا أخاله
…
إذا خافَ يوماً نَبْوةً فدعاهما
تريد: هما أخوا من لا أخاً له في الحرب، وقول الشاعر:
مُؤخّرُ - عن أنيابه - جِلْدِ رأسهِ
…
وأسنانه مثل الزجاج خَرُوج
يريد: مؤخر جلد رأسه عن أنيابه، وقوله:
كم بجودٍ مقرفٍ نال العلى
…
وكريمُ بُخلُه قد وَضَعهْ
في رواية من خفض مقرفاً، يريد: كمقرف نال العلى بجود، وقوله:
كم فيهم ملكِ أغر وسوقةٍ
…
(حكمٍ بأرديةِ المَكارمِ مُحتبي)
يريد: كم ملك أغر فيهم.
ومن الفضل بينهما بالظرف قول عمرو بن قميئة:
لما رأت ساتيدما استعبرت
…
لله دَرّ - اليومَ - من لامها
يريد: لله در من لامها اليوم، وقوله - أنشده الفراء:
فَرشْني بِخَيرٍ لا أكونَنْ ومدحتي
…
كناحِت - يوماً - صَخْرةً بعسيلِ
يريد: كناحت صخرة بعسيل يوماً. والعسيل: مكنسة يكنس بها العطار بلاطه من العطر. وقوله:
كم - دون سلمى -
…
فلواتِ بيدِ
منضية للبازلِ
…
القَيْدُودِ
يريد: كم فلوات بيد دون سلمى.
والفصل بين المضاف والمضاف أليه بالظرف والمجرور من الضرائر الحسنة. ومثله في الحسن الفصل بينهما بالمعطوف على الاسم المضاف مع حرف العطف، نحو قول الفرزدق:
يا من رأى عارضاً أُسَرُّ به
…
بين ذِرَاعيْ وجبهةِ الأسدِ
يريد: بين ذراعي الأسد وجبهته، فقدم المعطوف وحرف العطف، وفصل بهما ومثله قول الأعشى:
ولا نقاتل بالعِصِيّ
…
ولا نرامي بالحجارة
إلا علالة أو بدا
…
هة قارح نهد الجزارة
يريد: إلا علالة قارح نهد الجزارة أو بداهته.
وقد جاء شيء من هذا النوع في الكلام، حكى الفراء: (قطع الله
(الغداة) يد ورجل من قاله)، يريد: يد من قاله ورجله. وقال الكسائي: (برئت إليك من مائة (وعشري) النخاسيين)، يريد: من مائة النخاسين وعشريهم.
وما ذهب إليه المبرد من أن هذا النوع ليس فيه فصل بين المضاف والمضاف إليه، بل المضاف إليه الاسم الأول محذوف لدلالة الثاني عليه، والأصل في قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد: بين ذراعي الأسد وجبهة الأسد، فحذف الأسد الأول لدلالة الثاني عليه، باطل بدليلين:
أحدهما: أنه لو كان الأمر، لوجب أن يقال: بين ذراعين وجبهة الأسد، فيثبت النون، كما أنهم لما حذفوا المضاف إليه (كل) و (بعض) و (أي) أثبتوا فيها التنوين. فلما حذفوا النون من (ذراعي)، دل ذلك على أنه مضاف إلى (الأسد).
فإن قال قائل: يلزمكم أيضاً أنتم مثل ذلك في الثاني: ألا ترى أن (جبهة) - على مذهبكم - قد حذف ما كانت مضاف إليه. فالجواب أن تقول: إنها، وإن لم تكن مضافة، فهي صورة المضاف من حيث وليها (الأسد) مخفوضاً في اللفظ، وقد حذف منها التنوين. والشيء إذا أشبهه الشيء في اللفظ، قد تعامله العرب معاملته. ألا ترى أنهم قد زادوا (أن) بعد (ما) غير النافية في قول الشاعر:
ورجَّ الفتى للخير ما إن رأيته
…
على السن خيراً لا يزال يزيد
لما كانت تشبه (ما) النافية في اللفظ.
والآخر: أنه يلزم على مذهب المبرد أن يقول: رأيته بين ذراعي وجبهتك، يريد: رأيته بين ذراعيك وجبهتك، إذ لا ما نع يمنع من ذلك على مذهبه. وأما ما ذكرناه
فلا يجوز ذلك، لأن ضمير الخفض شديد الاتصال بما يخفضه، فلم يجز الفصل بينهما لذلك. فلما يسمع من كلامهم مثل: بيم ذراعي وجبهتك، دل على صحة ما ذهب إليه من الفصل بين المضاف والمضاف إليه.
وما ذكرناه من الفصل هو مذهب س.
ومنه: الفصل بينهما بسائر الأسماء التي ليست ظروفاً ولا مجرورات، نحو قول الشاعر:
فزججتُها بمزحة
…
زجَّ - القَلُوصَ - أبي مزاده
يريد: زج أبي مزادة القلوص. وفصل به بين المضاف والمضاف إليه وليس بظرف ولا مجرور، وقوله:
أشم كأنه رجلُ عبوسُ
…
مخالطُ - جرأةً - وقت التوادي
يريد: مخالط وقت التوادي جرأة، أي لجرأته، فقدم المفعول من أجله، وهو المصدر، وفصل بينهما. وقوله:
يفركن حَبّ
…
السّنبل الكُنَافجِ
بالقاع فركَ القطنَ
…
المحالج
يريد: فرك المحالج القطن. وقوله، أنشده أبو عبيدة:
وحلق الماذِيّ
…
والقوانِس
فداسَهُمْ دوسَ
…
- الحصادَ - الدائسِ
يريد: دوس الدائس الحصاد. وقول الطرماح:
يطفن (بحوزي المراتع) لم يرع
…
بواديه من قرع - القسي - الكنائن
يريد: قرع الكنائن القسي.
وهذا النوع أقل من الأول. وأكثر النحويين لا يجيز القياس عليه في الشعر وبعضهم يجيزه.
وقد أخذ أبو الطيب بمذهب من أجازه، فقال:
حملت إليه من ثناي حديقة
…
سقاها الحجي سَقي - الرياضَ - السحائب
يريد: سقي السحائب الرياضَ.
ومن هذا القبيل قراءة ابن عامر: (قتل أولادَهم شركائِهم) بنصب (أولادهم) وخفض (شركائهم) التقدير: قتل شركائهم أولادَهم.
وزعم الفراء أن هذه القراءة خطأ عند النحويين. وادعى أن الذي
دعا ابن عامر إلى ذلك أن مصحف أهل الشام فيه ياء مثبتة في (شركائهم)، فقدر لذلك أن الشركاء هم المضلون لهم الداعون إلى قتل أولادهم، فأضاف القتل إليهم كما يضاف المصدر إلى فاعله، ونصب (أولادهم) لأنهم المفعولون. ولو أضاف المصدر إلى المفعولين، فقال:(قتل أولادهم)، للزمه أن يرفع الشركاء، فيكون مخالفاً للمصحف. فكأن اتباع المصحف أثر عنده.
وهذا عندي تحامل عليه. ولا ينكر مجيء الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير ظرف ولا مجرور في الكلام، وإن لم (ينقس) ذلك. فقد حكى أبو عبيدة عن أبي سعيد، وهو أعرابي لقيه أبو الدقيش، أنه سمعه يقول:(إن الشاة تسمع صوت - قد علم الله - ربها، فتقبل إليه وتثغو)، يريد: صوت ربها قد علم الله، فقدم الجملة وفصل بها بين المضاف والمضاف إليه. وقراءة ابن عامر أسهل من هذا.
ومثل ذلك قوله:
وكم - قد فاتني - بطلٍ كميٍ
…
وياسر فتية سمح هضوم
يريد: وكم بطل كمي قد فاتني، فقدم الجملة وفصل بها بين (كم) وما أضيف إليه. وقد فصلوا، أيضاً، بينهما في الشعر بمجرور واسم غير ظرف.
ومن ذلك قوله:
تمر على ما تستمر وقد شفت
…
غلائِل - عبدُ القيس منها - صدورِها
وبمجرور واسمين غير ظرفين. ومن ذلك قوله، أنشده ابن الأعرابي:
نفي الذَمَّ عن أثوابه مثل ما نفى
…
أذى درناً عن جلده - الماءُ - غاسلِ
يريد: مثل ما نفى الماء أذى غاسل درنا عن جلده.
وقد فعلوا أيضاً ما هو أشد من هذا كله، وقدموا مع ذلك المضاف إليه على المضاف: أنشد أبو عبيدة:
تفرق ألاف الحجيج على مِنى
…
وصدعهم مُسْي النوى عند أربع
يريد: وصدعهم النوى عند مسى أربع ليال، ففصل بين (عند) وما أضيفت إليه، وهو مسي، بـ (النوى)، وليس بظرف، وقدم مع ذلك (مسي) عليها.
ومنه: الفصل بين حرف الجر والمجرور. وهو أقبح من الفصل بين المضاف والمضاف إليه، نحو قول الفرزدق:
وإني لأطوي الكشح من دون ما أنطوي
…
وأقطع بالخرق الهَبُوعِ المراجمِ
يريد: وأقطع بالهبوع المراجم الخرق. وفصل بين الباء ومخفوضها وهو (الهبوع) وقول الآخر:
مُخَلّقة لا يُستَطاعُ ارتقاؤها
…
وليس إلى - منها - النزولِ سبيلُ
فقدم منها وفصل به بين حرف الجر والمجرور.
وحكى الكسائي: (أخذته بأرى ألف درهم)، يريد: بألف درهم أرى. فقدم (أرى) وفصل بين الباء ومخفوضها في سعة الكلام. وهذا من الندور بحيث لا يلتفت إليه.
ومنه: الفصل بين الحروف التي لا يليها إلا الفعل في سعة الكلام وبين الفعل، نحو قوله:
لن - ما رأيت أبا يزيد مقاتلاً -
…
أدعَ القتالَ وأشهدَ الهَيْجاَء
يريد: لن أدع القتال وأشهد الهيجاء ما رأيت أبا يزيد مقاتلاً، ففصل بين (لن) والفعل المتصل بها، ونحو قوله:
فَقَدْ - والشك - بَيّنَ لي - عناءُ
…
بوشك فراقهم صردُ يصِيحُ
يريد: فقد بين لي بوشك فراقهم صرد يصيح والشك عناء، ففصل بين (قد) والفعل. وذلك قبيح جداً. ومثله قول الآخر:
تِهْتم علينا لأن الذئبَ كلمكم
…
فقد - لعمري - أبوكم - كلم الذيبا
يريد: فقد كلم أبوكم الذيب لعمري.
ونحو قوله:
عليك سلام بَعْدَ - سَوْف - سلامِها
…
تَمُرّ سنون بَعْدها وشُهُورُ
يريد: بعد سلامها سوف تمر سنون وشهور (بعدها)، ففصل بين (سوف) والفعل بمخفوض (بعد)، وفصل بين (بعد) ومخفوضها بـ (سوف).
وقول الفرزدق:
فلما - للصلاةِ - دعا المنادي
…
نَهَضْتُ وكنتُ منها في (غرور)
يريد: فلما دعا المنادي للصلاة، ففصل بين (لما) والفعل بالمجرور. وقوله:
صددِت وأطولتِ الصدودَ وقلما
…
وصال على طول الصدود يدوم
يريد: وقلمان يدوم وصال على طول الصدود، ففصل بين (قلما) والفعل بالاسم المرفوع وبالمجرور.
ونحو قوله:
نوائب من لدن ابن آدم لم تزل
…
تباكر من لم - بالحوادث - تطرقِ
يريد: تباكر بالحوادث من لم تطرق، ففصل بين (لم) ومجزومها وهو (تطرق)، بالمجرور، وقول ذي الرمة:
فأضحت مغانيها قفاراً رسومُها
…
كأن لم - سوى أهلٍ من الوحشٍ - توهلِ
يريد: كأن لم تؤهل، فقدم الظرف والمجرور وفصل بهما بين (لم) ومجزومها، وهو (توهل).
وجميع ذلك لا يجوز الفصل بينه وبين الفعل في سعة الكلام.
ومنه: الفصل بين الأعداد والتمييز المنتصب بها، نحو قوله:
في خمسَ عشرةَ - من جُمادى - ليلةً
…
لا أستطيع على الفراش رُقاداَ
يريد: في خمس عشرة ليلة من جمادى، فقدم المجرور وفصل به بين خمس عشرة وتمييزه المنتصب به، وقوله:
على أنني بعد ما مضى
…
ثلاثون - للهجر - حولاً كميلا
يريد: ثلاثون حولاً كميلاً للهجر، فقدم المجرور وفصل به بين (ثلاثين) وتمييزها، وقوله:
وأشهد عند الله أني رأيتها
…
وعشرين - منها - إصبعاً من (ورائيا)
يريد: وعشرين إصبعاً منها، فقدم المجرور أيضاً، وفصل به بين عشرين وتمييزها.
وإنما قبح الفصل بين هذه الأعداد وتمييزاتها، لضعف عملها فيها من حيث كانت محمولة في العمل على الصفة المشبهة، والصفة المشبهة محمولة في عملها على اسم الفاعل، واسم الفاعل محمول في عمله على الفعل.
فإن قال قائل: فلم جاز الفصل بين (كم) وتمييزها بالظرف والمجرور في فصيح الكلام، فقيل: كم في الدار رجلاً، وكم اليوم عندك رجلاً، مع أن ضعفها في العمل وضعف أسماء العدد على حد سواء؟ فالجواب أن العرب لما منعتها التصرف الجائز في أسماء العدد، بأن ألزمتها صدر الكلام، فلم يجز لذلك فيها أن تكون فاعلة ولا مفعولاً لم يسم فاعله، ولا اسماً لـ (أن) وأخواتها ولا خبراً لها، ولا اسماً لـ (ما) ولا خبراً لها، ولا اسماً لـ (كان) وأخواتها، وذلك كله جائز في أسماء العدد، جعلوا التصرف فيها بالفصل بينها وبين تمييزها بالظرف والمجرور عوضاً مما منعته من التصرف.
ومنه: الفصل بين الصفة والموصوف بما ليس معمولاً لواحد منهما، نحو قوله:
أمرتَّ من الكتان خيطاً وأرسلت
…
رسولا - إلى أخرى - جريئاً - تعينها
يريد: وأرسلت إلى أخرى تعينها رسولا جريئاً، ففصل بين (رسول) وصفته بالمجرور، وفصل بين المجرور بـ (إلى) وصفته، وهي تعينها، بصفة رسول وهي (جريئاً)، وقول الآخر:
أقول لقومٍ في الكنيفِ تروحوا
…
عشيةَ بتنا عند ماوان رُزَّحِ
يريد: أقول لقوم رزح في الكنيف تروحوا عشية بتنا عند ماوان.
فإن كان الفصل بينهما بمعمول أحدهما جاز في الكلام والشعر، نحو قوله تعالى:(ذلك حشر علينا يسير). التقدير: ذلك حشر يسير علينا، ففصل بين (حشر) وصفته بـ (علينا) لأنه معمول للصفة.
ومنه: الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، نحو قول لبيد:
فصلقنا في مراد صَلْقَةً
…
وصُدَاءٍ ألحقتهم بالثّللْ
يريد: فصقلنا في مراد وصداء صقلة، وقول البعيث:
وَجَدْتُ أباها راضياً بي وأمها
…
فأعطيت فيها الحُكم حتى حَوْيتها
يريد: وجدت أباها وأمها راضياً.
ومنه: الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف أو المجرور، نحو قول الأعشى:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة
…
تشد لأقصاها عزيمَ عزائكا
مورثةً مالاً وفي الحي رفعةً
…
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
ففصل بين حرف العطف، وهو الواو، وبين المعطوف، وهو رفعة، بالمجرور وقول الأعشى أيضاً:
يوماً تراها كشِيْهِ أردية ال
…
عصبِ ويْوماً أديمَها نَغِلا
وهو عند الفارسي والمحققين من النحويين من قبيل الضرائر، لما فيه من الفصل
بين حرف العطف والمعطوف، لأن حرف العطف عطف ثلاثة أشياء على ثلاثة أشياء: فعطف (يوماً) على يوم المتقدم الذكر، و (أديمها على الضمير المنصوب المتصل بـ (ترى)، و (نغلا) على موضع (كشبه أردية العصب). والتقدير: تراها يوماً كشبه أردية العصب وترى يوماً أديمها نغلا.
وإذا عطف بحرف عطف أكثر من اسم واحد على مثله، لم يسع أن يقال: إنه قد فصل بالمعطوف الأول من حرف العطف وما بعده، بدليل أنك تقول: أعطيت زيداً درهماً وبكراً ديناراً، في فصيح الكلام. فالجواب أن تقول: إن حروف العطف قد تنزلت من المعطوف منزلة جزء منه، بدلالة قولهم:
وهو، وهي - يسكنون الهاء في فصيح الكلام تشبيهاً لها بـ (عضد) و (كبد). فكما لا يجوز الفصل بين أجزاء الكلمة، كذلك لا يجوز الفصل بين حرف العطف والمعطوف الذي يجب له أن يكون متصلاً بحرف العطف. وأعني بذلك الاسم الذي ليس بظرف ولا مجرور. دليل ذلك أن العامل إذا كان له معمولان أحدهما ظرف أو مجرور، كانت مرتبة المفعول أن يتقدم عليه. فكما أن مرتبة ما ليس بظرف ولا مجرور أن يلي العامل، فكذلك مرتبته أن يلي ما يقوم مقام العامل. وهو حرف العطف.
ومثله أن يقع بعد أداة الشرط - ما عدا (إن) - اسم وفعل، فيقدم الاسم ويؤخر الفعل لضرورة الوزن، نحو قوله:
صعدة نابتة في حائرِ
…
أينما الريحُ تميَّلْها تَملْ
وقول عدي بن زيد:
فمتى واغلُ يَنُبْهُمْ يحيو
…
هـ وتَعْطفْ عليه كاس الساقي
وقول هشام المري:
فمن نحن نؤمنهْ يبتْ وهو آمن
…
ومن لا نُجرْه يمسِ منا مُرَوّعا
كان الوجه في جميع ذلك أن يقدم الفعل، فيقال: أينما تمليها الريح تمل، ومتى ينبهم واغل يحيوه، ومن نؤمنه يبت وهو آمن، إلا أن الضرورة دعت إلى تقديم الاسم في جميع ذلك.
فإذا وقع الاسم والفعل بعد (إن) من أدوات الشرط، فإن كان الفعل ماضياً، جاز لك أن تقدم أيهما شئت في فصيح الكلام، إلا أن تقديم الفعل أولى، فتقول: إن قام زيد قام عمرو. ولك أن تقول: إن زيد قام، قام عمرو - قال الله سبحانه:(وإن أحداً من المشركين استجارك فأجره).
وإن كان الفعل مضارعاً قدمته، ولا يجوز تقديم الاسم عليه إلا في ضرورة، نحو قوله:
يثني عليك وأنت أهل ثنائه
…
ولديك إن هو يستزدك مزيد
ومنه: أن يقع بعد أدوات الاستفهام - ما عدا الهمزة - اسم وفعل، فإنك تقدم الفعل على الاسم في سعة الكلام، ولا يجوز تقديم الاسم على الفعل إلا في ضرورة شعر، نحو قوله:
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته
…
إثر الأحبة يوم البين مشكوم
لولا الضرورة لقال: أم هل بكى كبير.
ومنه: تقديم المضمر على الظاهر لفظاً ورتبة، نحو قول حسان:
فلو كان مجد يُخْلدُ اليوم واحداً
…
من الناس أبقى مجده اليوم مطعما
ألا ترى أنه قدم الضمير العائد على (مطعم) لفظاً ورتبة لأنه متصل بالفاعل و (مطعم) مفعول، ورتبة الفاعل أن يكون قبل المفعول.
ومثله قول الآخر:
ألا ليت شعري هل يَلُومَنَّ قومُه
…
زهيراً على ما جر من كل جانبِ
وقوله:
جزى ربُّه عني عديَّ بن حاتم
…
جزاَء الكلابِ العاويات وقد فَعَلْ
وقوله، أنشده السكري:
جزى ربُّه عني عديَّ بن حاتم
…
بتركي وخذلاني جزاء موفرا
وقول بكر بن معدان:
لما عصى أصحابُه مصعباً
…
أدى إليه الكيل صاعاً بصاعْ
ولا يجوز شيء من ذلك في حال السعة.
ومنه: تقديم المعطوف على المعطوف عليه. وأحسن ما يكون ذلك في الواو. ولا يجوز التقديم فيها إلا بشرط أن لا يؤدي التقديم إلى وقوعها صدر الكلام، لا يقال: وزيد عمرو قائمان، ولا إلى أن يلي عاملاً غير متصرف، لا يقال: إن وزيداً عمراً قائمان، وبشرط أن لا يكون المعطوف عليه مخفوضاً، لا يقال: مررت وزيد بعمرو.
فمما جاء من ذلك قوله:
جمعتَ وفحشاً غيبةً ونميمةً
…
ثلاثَ خصال لست عنها بمرعوي
وقوله:
لعن الإله وزوجَها معها
…
هندَ الهنودِ طويلةَ البظْرِ
يريد: لعن الإله هند الهنود، وزوجها معها، وقول ذي الرمة:
كأنا على أولاد أحقبَ لاحها
…
ورَمْيُ السفا أنفاسَها بِسِهام
جنوبُ ذوت عنها التناهي وأنزلت
…
بها يومَ ذباتِ السبيبِ صيام
يريد: لاحها جنوب ذوت التناهي ورمي السفا، وقول الآخر:
ثم اشتكيت لأشكاني وساكنُه
…
قبرُ بسنجار أو قبر على قَهَدِ
يريد: لأشكاني قبر بسنجار وساكنه، وقول الآخر أيضاً:
وأنت غريم لا أظن قضاءه
…
ولا العنزيّ القارظَ الدهَر جائيا
يريد: لا أظن قضاءه جائيا ولا العنزي القارظ الدهر، فقدم المعطوف على المعطوف عليه وعامله، وهو الضمير المستتر في (جاء).
وقد جاء ذلك في الفاء: قول الشاعر:
وإني متى ما أدعُ باسْمكَ لا تُجيبْ
…
وكنت جديراً أن تُجيبَ فتسمعا
أي: أن تسمع فتجيب.
وقد جاء ذلك في (أو): (أنشد) أبو علي:
لا هم أن عامرَ
…
بن عمرو
الأعورَ الأعسرَ
…
أو لا أدري
أحدهما عائدة
…
بحجر
يريد: أحدهما عائدة بحجر أو لا أدري.
ومنه: تقديم النعت، نحو قول الفرزدق:
متقلداً لأبيه كانت عنده
…
أرباقَ صاحبَ ثَلّةٍ وبِهام
يريد: متقلداً أرباق صاحب ثلة وبهام كانت عنده لأبيه، فقدم المعت على المنعوت بدلاً منه. وقول الآخر:
ولست مقراً للرجال ظلامة
…
أبي ذاك عمي الأكرمان وخاليا
يريد: أبي (ذاك) عمي وخالي الأكرمان، فقدم النعت على أحد المنعوتين.
ومثل ذلك نحو قوله:
فأوردتها ماء كأن جمامه
…
من الأجن حناءُ معاً وصًبِيبُ
يريد: كأن جمامه حناء وصبيب معاً.
ومنه: تقديم ما بعد (إلا) عليها، نحو قول الأعشى:
أحل به الشيبُ أثقالهَ
…
وما اغتره الشّيْبُ إلا اغترارا
يريد: وما اغتره اغتراراً إلا الشيب، فقدم. وإنما لم يكن بد من هذا التقدير لأنها لو
جعلت داخلة على المصدر لفظاً وتقديراً، لم يكن للكلام فائدة، إذ معلوم أنه لا يغتره الشيب خلاف الاغترار.
ومنه: تقديم المجرور على حرف الجر. وهو من القلة بحيث لا يلتفت إليه، نحو قوله:
أتجزعُ أن نفس أتاها حمامُها
…
فهلا التي عن بَيْنَ جنبيك تدفع
يريد: فهلا عن التي بين جنبيك تدفع.
ومنه ما يكثر فيه التقديم والتأخير وإخراج الكلام عن وضعه حتى لا يفهم منه المعنى المراد إلا بعد تدبر كثير. وذلك قبيح جداً لا ينبغي لأحد أن يرتكبه (نحو) قول الفرزدق:
فليست خراسان التي كان خالدُ
…
بها أسدُ إذ كان سيفاً أميرَها
وذلك أنه يمدح خالد بن الوليد ويذم أسداً، وكانا واليين بخراسان، وكان خالد وليها قبل أسد. وتقدير البيت: فليست خراسان (بالبلدة) التي كان خالد بها سيفاً إذ كان أسد (أميرها) وقوله:
وما مثله في الناسِ إلا مملكاً
…
أبو أمه حيّ أبوه يُقاربه
وقول الآخر، أنشده أبو الفتح:
فأصبحت بَعْدَ - خَطَّ - بَهْجَتِها
…
كأنّ - قَفُراً - رُسُومَها - قَلَما
وقول الآخر:
لها مقلتا أدماء ظُلً خميلة
…
من الوَحْشِ ما تنفكُّ ترعى عَرَارها
يريد: لها مقلتا أدماء من الوحش ما تنفك ترعى خميلة ظل عرارها. وقول القُلاخ:
فما من فتى كنا من الناس واحداً
…
به نبتغي منهم عديلاً نُبادِلهْ
فأما قول الفرزدق:
هيهاتَ قد جَهِلت أميةُ رَأيها
…
واستجهلت حلماؤها سفهاؤها
حَرْبُ تردد بينهم بتشاجر
…
قد كفرت آباؤها أبناؤها
فإنه ينبغي أن يحملا على أن الكلام تم في البيت الأول عند قوله: (واستجهلت)، ويكون قوله:(حلماؤها سفهاؤها) مبتدأ (وخبراً)، على حد قولهم: زيد زهير، أي: حلماؤها مثل سفهاؤها في الاستجهال، وتم في البيت الثاني عند قوله:(قد كفرت)، أي: لبست الدروع. ويكون أيضاً قوله: (آباؤها أبناؤها) مبتدأ وخبر، على حد قولك: زهير، أي آباؤها مثل أبنائها في التكفير، لأنهما إذا حملا على ما ذكرته سلما من التقديم والتأخير.