الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين
تأليف: ابن قيم الجوزية
مقدمة
المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله الصبور الشكور العلى الكبير السميع البصير العليم القدير الذي شملت قدرته كل مخلوق وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور وأسمعت دعوته لليوم الموعود أصحاب القبور قدر مقادير الخلائق وآجالهم وكتب آثارهم وأعمالهم وقسم بينهم معايشهم وأموالهم وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملا وهو العزيز الغفور القاهر القادر فكل عسير عليه يسير وهو المولى النصير فنعم المولى ونعم النصير يسبح له ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم واليه المصير يعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له أنه جل عن الشبيه والنظير وتعالى عن الشريك والظهير وتقدس عن تعطيل الملحدين كما تنزه عن شبه المخلوقين فليس كمثله شىء وهو السميع البصير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من بريته وصفوته من خليقته وآمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده أعرف الخلق به وأقومهم بخشيته وأنصحهم لأمته وأصبرهم لحكمه وأشكرهم لنعمه وأقربهم إليه وسيلة وأعلاهم عند منزلة وأعظمهم عنده جاها وأوسعهم عنده شفاعه بعثه إلى الجنة داعيا وللإيمان مناديا وفي مرضاته ساعيا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا فبلغ رسالات ربه
الأصلين العظيمين ولا يعدل عن هذين الطريقين القاصدين وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين ليجعله الله يوم لقائه مع خير الفريقين.
فكذلك وضع هذا الكتاب للتعريف بشدة الحاجة والضرورة إليهما وبيان توقف سعادة الدينا والآخرة عليهما فجاء كتابا جامعا حاويا نافعا فيه من الفوائد ما هو حقيق على أن يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر ممتعا لقاريه صريحا للناظر فيه مسليا للحزين منهضا للمقصرين محرضا للمشمرين مشتملا على نكات حسان من تفسير القرآن وعلى أحاديث نبوية معزوة إلى مظانها وآثار سلفية منسوبة إلى قائلها ومسائل فقهية حسان مقرة بالدليل ودقائق سلوكية على سواء السبيل لا تخفى معرفة ذلك عى من فكر وأحضر ذهنه فان فيه ذكر أقسام الصبر ووجوه الشكر وأنواعه وفصل النزاع في التفضيل بين الغنى الشاكر والفقير الصابر وذكر حقيقة الدنيا وما مثلها الله ورسوله والسلف الصالح به والكلام على سبر هذه الأمثال ومطابقتها لحقيقة الحال وذكر ما يذم من الدنيا ويحمد وما يقرب منها إلى الله ويبعد وكيف يشقى بها من يشقى ويسعد بها من يسعد وغير ذلك من الفوائد التى لا تكاد تظفر بها في كتاب سواه وذلك محض منة من الله على عبده وعطية من بعض عطاياه فهو كتاب يصلح للملوك والأمراء والأغنياء والفقراء والصوفية والفقهاء ينهض بالقاعد إلى المسير ويؤنس السائر في الطريق وينبه السالك على المقصود ومع هذا فهو جهد المقل وقدرة المفلس حذر فيه من الداء وان كان من أهله ووصف فيه الدواء وان لم يصبر على تناوله لظلمه وجهله وهو يرجوا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين أن يغفر له غيه لنفسه
لعبادة المؤمنين فما كان في الكتاب من صواب فمن الله وحده فهو المحمود والمستعان وما كان فيه من خطأ فم مصنفه ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله وهذه بضاعة مؤلفة المرجاة تساق إليك وسلعته تعرض عليك فلقاريه غنمة وعلى مؤلفة غرمه وبنات أفكاره تزف إليك فإن وجدت حرا كريما
كان بها أسعد وإلا فهي خود تزف إلى عنين متعد.
وقد جعلته ستة وعشرين بابا وخاتمة:
الباب الأول في معنى الصبر لغة واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها.
الباب الثاني في حقيقة الصبر وكلام الناس في.
الباب الثالث في بيان أسماء الصبر بالاضافة إلى متعلقة.
الباب الرابع في الفرق بي الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة.
الباب الخامس في أقسام الصبر باعتبار محله.
الباب السادس في أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه.
الباب السابع في بيان أقسامه باعتبار متعلقه.
الباب الثامن في انقسامه باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به.
الباب التاسع في بيان تفاوت درجات الصبر.
الباب العاشر في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم.
الباب الحادي عشر في الفرق بين صبر الكرام وصبر اللئام.
الباب الثاني عشر في الأسباب التي تعين عل الصبر.
الباب الثالث عشر: في بيان أن الإنسان لا يستغنى عن الصبر في حال من الأحوال.
الباب الرابع عشر: في بيان اشق الصبر على النفوس.
الباب الخامس عشر: في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز.
الباب السادس عشر: في ذكر ما ورد فيه من نصوص السنة.
الباب السابع عشر: في ذكر الآثار الواردة عن الصحابة في فضيلة الصبر.
الباب الثامن عشر: في ذكر أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها.
الباب التاسع عشر في الصبر نصف الإيمان وأن الإيمان نصفان صبر ونصف شكر.
الباب العشرون: في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر.
الباب الحادي والعشرون في الحكم بين الفريقين والفصل بين الطائفتين.
الباب الثاني والعشرون: في اختلاف الناس في الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وما هو الصواب في ذلك.
الباب الثالث والعشرون: في ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار.
الباب الرابع والعشرون: في ذكر ما احتجت به الأغنياء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار.
الباب الخامس والعشرون: في بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه.
الباب السادس والعشرون: في بيان دخول الصبر في صفات الرب جل جلاله وتسميته بالصبور والشكور سميته (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) والله المسؤول أن يجعله خالصا لوجهه مدنيا من رضاه وأن ينفع به مؤلفه وكاتبه وقارئه انه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصدع بأمره وتحمل في مرضاته ما لم يتحمله بشر سواه وقام لله بالصبر والشكر حتى القيام حتى بلغ رضاه فثبت في مقام الصبر حتى لم يلحقه أحد من الصابرين وترقى في درجة الشكر حتى علا فوق جميع الشاكرين فحمد الله وملائكته ورسله وجيمع المؤمنين ولذلك خص بلواء الحمد دون جميع العالمين فآدم تحت لوائه ومن دون الأنبياء والمرسلين وجعل الحمد فاتحة كتابه الذى أنزله عليه كذلك فيما بلغنا وفي التوارة والإنجيل وجعله آخر دعوى أهل ثوابه الذين دعوى أهل ثوابه الذين هداهم على يديه أمته الحامدين قبل ان يخرجهم إلى الوجود لحمدهم له على السراء والضراء والشدة والرخاء وجعلهم أسق الأمم إلى دار الثواب والجزاء فأقرب الخلق إلى لوائه أكثرهم حمدا لله وذكرا كما أن أعلاهم منزلة أكثرهم صبرا وشكرا فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وجميع المؤمنين عليه كما وحد الله وعرف به ودعا إليه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فإن الله سبحانه جعل الصبر جوادا لا يكبو وصارما لا ينبو وجندا لا يهزم وحصنا حصينا لا يهدم ولا يثلم فهو والنصر أخوان شقيقان فالنصر مع الصبر والفرج مع الكرب والعسر مع اليسر وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد ولقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب واخبره أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين فقال تعالى {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فظفر الصابرون بهذه المعية بخير الدنيا والآخرة وفازوا بها بنعمة الباطنة والظاهرة وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين فقال تعالى وبقوله اهتدى المهتدون {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} .
وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكدا باليمن فقال تعالى {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} وأخبر أن مع الصبر والتقوى
لا يضر كيد العدو ولو كان ذا تسليط فقال تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
وأخبر عن نبيه يوسف الصديق أن صبره وتقواه وصلاه إلى محل العز والتمكين فقال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وعلق الفلاح بالصبر والتقوى فعقل ذلك عنه المؤمنون فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
وأخبر عن محبته لأهله وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين فقال تعالى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون فقال تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
وأوصى عبادة بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}
وجعل الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به الا الصابرون فقال تعالى {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} وأخبر أن الرغبة في ثوابه والإعراض عن الدنيا وزينتها لا ينالها ألا أو لو الصبر المؤمنون فقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} وأخبر تعالى أن دفع السيئة بالتي هي أحسن تجعل المسىء كأنه ولي حميم فقال {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وأن هذه الخصلة لا يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم
وأخبر سبحانه مؤكدا بالقسم {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَاّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وقسم خلقه قسمين أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وخص أهل الميمنة أهل التواصى بالصبر والمرحمة وخص بالانتفاع بآياته أهل الصبر وأهل الشكر تمييز لهم بهذا الحظ الموفور فقال في أربع آيات من كتابه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وعلق المغفرة والأجر بالعمل الصالح والصبر وذلك على من يسره عليه يسير فقال {إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .
وأخبر أن الصبر والمغفرة من العزائم التي تجارة أربابها لا تبور فقال {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وأمر رسوله بالصبر لحكمه وأخبر أن صبره انما هو به وبذلك جميع المصائب تهون فقال {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقال {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَاّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
والصبر آخيّة المؤمن التى يجول ثم يرجع إليها وساق إيمانه الذى اعتماد له الإ عليها فلا ايمان لمن لا صبر له وان كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه ممن يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ولم يحظ منهما الإ بالصفقة الخاسرة فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم وترقوا إلى أعلى المازل بشكرهم فساروا بين جناحى الصبر والشكر إلى جنات النعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء واله ذو الفضل العظيم
فصل: ولما كان الإيمان نصفين نصف صبر ونصف شكر كان حقيقا على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها أن لا يهمل هذين