المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السادس والعشرون: في بيان دخول الصبر والشكر في صفات الرب جل جلاله وتسميته بالصبور والشكور ولو لم يكن الصبر والشكر من الفضيلة إلا ذلك لكفى به - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين - ط دار ابن كثير

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: في معنى الصبر لغة واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها

- ‌الباب الثاني: في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه

- ‌الباب الثالث: في بيان أسماء الصبر بالإضافة إلى متعلقه

- ‌الباب الرابع: في الفرق بين الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة

- ‌الباب الخامس: في انقسامه باعتبار محلّه

- ‌الباب السادس: بيان أقسامه بحسب اختلاف قوته وضعفه ومقاومته لجيش الهوى وعجزه عنه

- ‌الباب السابع: في ذكر أقسامه باعتبار متعلقه

- ‌الباب الثامن: في انقسامه باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به

- ‌الباب التاسع: في بيان تفاوت درجات الصبر

- ‌الباب العاشر: في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم

- ‌الباب الحادي عشر: في الفرق بين صبر الكرام وصبر اللئام

- ‌الباب الثاني عشر: في الأسباب التى تعين على الصبر

- ‌الباب الثالث عشر: في بيان أن الإنسان لا يستغنى عن الصبر في حال من الأحوال

- ‌الباب الرابع عشر: في بيان أشق الصبر على النفوس

- ‌الباب الخامس عشر في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز

- ‌الباب السادس عشر: في ذكر ما ورد فيه من نصوص السنة

- ‌الباب السابع عشر: في الآثار الواردة عن الصحابة ومن بعدهم في فضيلة الصبر

- ‌الباب الثامن عشر: في ذكر أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها

- ‌الباب التاسع عشر: في أن الصبر نصف الايمان

- ‌الباب العشرون: في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر

- ‌الباب الحادى والعشرون: فى الحكم بين الفريقين والفصل بين الطائفتين

- ‌الباب الثانى والعشرون: فى اختلاف الناس فى الغنى الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وما هو الصواب فى ذلك

- ‌الباب الثالث والعشرون: فى ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار

- ‌الباب الرابع والعشرون: فى ذكر ما احتجت به الأغنياء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار

- ‌الباب الخامس والعشرون: في بيان الأمور المضادة للصبر المنافية له والقادحة فيه

- ‌الباب السادس والعشرون: في بيان دخول الصبر والشكر في صفات الرب جل جلاله وتسميته بالصبور والشكور ولو لم يكن الصبر والشكر من الفضيلة إلا ذلك لكفى به

الفصل: ‌الباب السادس والعشرون: في بيان دخول الصبر والشكر في صفات الرب جل جلاله وتسميته بالصبور والشكور ولو لم يكن الصبر والشكر من الفضيلة إلا ذلك لكفى به

قلت هنا أمران: أمر لفظى وأمر معنوى فأما اللفظى فإنه وصف الشح بكونه هالعا والهالع صاحبه وأكثر ما يسمى هلوعا ولا يقال هالع له فإنه لا يتعدى ففيه وجهان:

أحدهما: أنه على النسب كقولهم ليل نائم وسر كاتم ونهار صائم ويوم عاصف كله عند سيبويه على النسب أى ذو كذا كما قالوا تامر ولابن

والثانى: أن اللفظه غيرت عن بابها للازدواج مع خالع وله نظير

وأما المعنوى: فإن الشح والجبن أردى صفتين فى العبد ولا سيما اذا كان شحه هالما أى ملق له فى الهلع وجبنه خالعا اى قد خلع قلبه من مكانه فلا سماحة ولا شجاعة ولا نفع بماله ولا ببدنه كما يقال لا طعنة ولا جفنة ولا يطرد ولا يشرد بل قد قمعه وصغره وحقره ودساه الشح والخوف والطمع والفزع واذا أردت معرفة الهلوع فهو الذى اذا اصابه الجوع مثلا أظهر الاستجاعه واسرع بها واذا أصابه الالم اسرع الشكايه وأظهرها واذا أصابه القهر أظهر الاستطامه والاستكانه وباء بها سريعا واذا اصابه الجوع أسرع الانطراح على جنبه وأظهر الشكايه واذا بدا له مأخذ طمع طار اليه سريعا واذا ظفر به أحله من نفسه محل الروح فلا احتمال ولا أفضال وهذا كله من صغر النفس ودناءتها وتدسيسها فى البدن واخفائها وتحقيرها والله المستعان.

ص: 275

‌الباب السادس والعشرون: في بيان دخول الصبر والشكر في صفات الرب جل جلاله وتسميته بالصبور والشكور ولو لم يكن الصبر والشكر من الفضيلة إلا ذلك لكفى به

الباب السادس والعشرون

فى بيان دخول الصبر والشكر فى صفات الرب جل جلاله وتسميته بالصبور والشكور ولو لم يكن للصبر والشكر من الفضيلة الا ذلك لكفى به

أما الصبر فقد أطلقه عليه أعرف الخلق به وأعظمهم تنزيها له بصيغة المبالغة ففى الصحيحين من حديث الاعمش عن سعيد بن جبير عن أبى عبد الرحمن السلمى عن ابى موسى عن النبى قال: "ما أحد أصبر على

ص: 275

اذى سمعه من الله عز وجل يدعون له ولدا وهو يعافيهم ويرزقهم".

وفى أسمائه الحسنى الصبور وهو من أمثلة المبالغة أبلغ من الصابر والصبار وصبره تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه متعددة منها أنه عن قدرة تامة ومنها أنه لا يخاف الغوث والعبد انما يستعجل الخوف الغوث ومنها أنه لا يلحقه بصبره ألم ولا حزن ولا نقص بوجه ما وظهور اثر الاسم فى العالم مشهود بالعيان كظهور اسمه الحليم والفرق بين الصبر والحلم أن الصبر ثمرة الحلم وموجبه فعلى قدر حلم العبد يكون صبره فالحلم فى صفات الرب تعالى أوسع من الصبر ولهذا جاء اسمه الحليم فى القرآن فى غير موضع ولسعته يقرنه سبحانه باسم العليم كقوله وكان الله عليما حليما والله عليم حليم

وفى أثر: أن حملة العرش أربعة: إثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وإثنان يقولان سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك فإن المخلوق يحلم عن جهل ويعفو عن عجز والرب تعالى يحلم مع كمال علمه ويعفو مع تمام قدرته وما أضيف شئ الى شئ أزين من حلم الى علم ومن عفو الى اقتدار ولهذا كان فى دعاء الكرب وصف سبحانه بالحلم مع العظمة وكونه حليما من لوازم ذاته سبحانه.

وأما صبره سبحانه فمتعلق بكفر العباد وشركهم ومسبتهم له سبحانه وأنواع معاصيهم وفجورهم فلا يزعجه ذلك كله الى تعجيل العقوبة بل يصبر على عبده ويمهله ويستصلحه ويرفق به ويحلم عنه حتى اذا لم يبق فيه موضع للصنيعه ولا يصلح على الامهال والرفق والحلم ولا ينيب الى ربه ويدخل عليه لا من باب الاحسان والنعم ولا من باب البلاء والنقم أخذه أخذ عزيز مقتدر بعد غاية الأعذار اليه وبذل النصيحة له ودعائه اليه من كل باب وهذا كله من موجبات صفة حلمه وهى صفة ذاتية له لا تزول.

ص: 276

وأما الصبر فإذا زال متعلقه كان كسائر الأفعال التى توجد لوجود الحكمة وتزول بزوالها فتأمله فإنه فرق لطيف ما عثرت الحذاق بعشره وقل من تنبه له ونبه عليه وأشكل على كثير منهم هذا الاسم وقالوا لم يأت فى القرآن فأعرضوا عن الاشتغال به صفحا ثم اشتغلوا بالكلام فى صبر العبد وأقسامه ولو أنهم أعطوا هذا الاسم حقه لعلموا أن الرب تعالى أحق به من جميع الخلق كما هو أحق باسم العليم والرحيم والقدير والسميع والبصير والحى وسائر أسمائه الحسنى من المخلوقين وأن التفاوت الذى بين صبره سبحانه وصبرهم كالتفاوت الذى بين حياته وحياتهم وعلمه وعلمهم وسمعه وأسماعهم وكذا سائر صفاته.

ولما علم ذلك أعرف خلقه به قال لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله فعلم أرباب البصائر بصبره سبحانه كعلمهم برحمته وعفوه وستره مع أنه صبر مع كمال علم وقدرة وعظمة وعزة وهو صبر من أعظم مصبور عليه فإن مقابلة أعظم العظماء وملك الملوك وأكرم الأكرمين ومن احسانه فوق كل احسان بغاية القبح وأعظم الفجور وأفحش الفواحش ونسبته الى كل ما لا يليق به والقدح فى كماله وأسمائه وصفاته والإلحاد فى آياته وتكذيب رسله عليهم السلام ومقابلتهم بالسب والشتم والأذى وتحريق أوليائه وقتلهم واهانتهم أمر لا يصبر عليه الا الصبور الذى لا أحد اصبر منه ولا نسبة لصبر جميع الخلق من أولهم الى آخرهم الى صبره سبحانه.

واذا اردت معرفة صبر الرب تعالى وحلمه والفرق بينهما فتأمل قوله تعالى ان الله يمسك السموات والارض أن تزولا ولئن زالتا ان أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا وقوله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وقوله {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} على قراءة من فتح اللام.

ص: 277

فأخبر سبحانه أن حلمه ومغفرته يمنعان زوال السموات والارض فالحلم وامساكهما أن تزولا هو الصبر فبحلمه صبر عن معالجة أعدائه.

وفى الآية اشعار بأن السموات والارض تهم وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتى به العباد فيمسكها بحلمه ومغفرته وذلك حبس عقوبته عنهم وهو حقيقة صبره تعالى فالذى عنه الامساك هو صفة الحلم والامساك هو الصبر وهو حبس العقوبة ففرق بين حبس العقوبة وبين ما صدر عنه حبسها فتأمله

وفى مسند الامام أحمد مرفوعا: "ما من يوم الا والبحر يستأذن ربه أن يغرق بنى آدم" وهذا مقتضى الطبيعة لأن كرة الماء تعلو كرة التراب بالطبع ولكن الله يمسكه بقدرته وحلمه وصبره

وكذلك خرور الجبال وتفطير السموات الرب تعالى يحبسها عن ذلك بصبره وحلمه فإن ما يأتى به الكفار والمشركون والفجار فى مقابلة العظمة والجلال والإكرام يقتضى ذلك فجعل سبحانه فى مقابلة هذه الاسباب أسبابا يحبها ويرضاها ويفرح بها أكمل فرح وأتمه تقابل تلك الأسباب التى هي سبب زوال العالم وخرابه فدفعت تلك الأسباب وقاومتها.

وكان هذا من آثار مدافعة رحمته لغضبه وغلبتها له وسبقها اياه فغلب اثر الرحمة أثر الغضب كما غلبت الرحمة الغضب ولهذا استعاذ النبى بصفة الرضا من صفة السخط وبفعل المعافاة من فعل العقوبة ثم جمع الامرين فى الذات اذ هما قائمان بها فقال أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك فإن ما يستعاذ به هو صادر عن مشيئته وخلقه بإذنه وقضائه فهو الذى أذن فى وقوع الاسباب التى يستعاذ منها خلقا وكونا فمنه السبب والمسبب وهو الذى حرك الانفس والابدان وأعطاها قوى التاثير وهو الذى أوجدها وأعدها ومدها وسلطها على ما شاء وهو الذى يمسكها إذا شاء ويحول بينها وبين قواها وتأثيرها.

ص: 278

فتأمل ما تحت قوله: "أعوذ بك منك" من محض التوحيد وقطع الالتفات الى غيره وتكميل التوكل عليه تعالى والاستعانة به وحده وافراده بالخوف والرجاء ودفع الضر وجلب الخير وهو الذى يمس بالضر بمشيئته وهو الذى يدفعه بمشيئته وهو المستعاذ بمشيئته من مشيئته وهو المعيذ من فعله بفعله وهو الذى سبحانه خلق ما يصبر عليه وما يرضى به فاذا أغضبه معاصى الخلق وكفرهم وشركهم وظلمهم ارضاه تسبيح ملائكته وعبادة المؤمنين له وحمدهم اياه وطاعتهم له فيعيذ رضاه من غضبه

قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات والارض من نور وجهه وان مقدار يوم من أيامكم عنده اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالامس أول النهار اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع منها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول ما يعلم بغضبه حملة العرش يجدونه يثقل عليهم فتسبحه حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة حتى ينفخ جبريل فى القرن فلا يبقى شئ الا يسمع فيسبحون الرحمن ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن رحمة فتلك ست ساعات قال ثم يؤتى بالارحام فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله تعالى هو الذى يصوركم فى الارحام كيف يشاء ويهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا واناثا ويجعل من يشاء عقيما فتلك تسع ساعات ثم يؤتى بالارزاق فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وقوله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال هذا شأنكم وشأن ربكم + رواه أبو القاسم الطبرانى فى السنة + وعثمان بن سعيد الدارمى وشيخ الاسلام الانصارى وابن مندة وابن خزيمة وغيرهم

ولما ذكر سبحانه فى سورة الانعام أعداءه وكفرهم وشركهم وتكذيب

ص: 279

رسله ذكر فى أثر ذلك شأن خليله ابراهيم وما اراه من ملكوت السموات والارض وما حاج به قومه فى اظهار دين الله وتوحيده ثم ذكر الانبياء من ذريته وأنه هداهم وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة ثم قال {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} .

فأخبر أنه سبحانه كما جعل فى الارض من يكفر به ويجحد توحيده ويكذب رسله كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك ويصدق بما كذبوا به ويحفظ من حرماته ما أضاعوه وبهذا تماسك العالم العلوى والسفلى والا فلو تبع الحق أهواء أعدائه لفسدت السموات والارض ومن فيهن ولخرب العالم ولهذا جعل سبحانه من أسباب خراب العالم رفع الاسباب الممسكه له من الارض وهى كلامه وبيته ودينه والقائمون به فلا يبقى لتلك الاسباب المقتضية لخراب العالم أسباب تقاومها وتمانعها ولما كان اسم الحليم أدخل فى الاوصاف واسم الصبور فى الافعال كان الحلم أصل الصبر فوقع الاستغناء بذكره فى القرآن عن اسم الصبور والله أعلم.

فصل: وأما تسميته سبحانه بالشكور فهو فى حديث أبى هريرة وفى القرآن تسميته شاكرا قال الله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} وتسميته أيضا شكور.

قال الله تعالى {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} وقال تعالى {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} فجمع لهم سبحانه بين الأمرين أن شكر سعيهم وأثابهم عليه والله تعالى يشكر عبده إذا أحسن طاعته ويغفر له اذا تاب اليه فيجمع للعبد بين شكره لإحسانه ومغفرته لاساءته انه غفور شكور

وقد تقدم فى الباب العشرين ذكر حقيقة شكر العبد وأسبابه ووجوهه وأما شكر الرب تعالى فله شأن آخر كشأن صبره فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور بل هو الشكور على الحقيقة فإنه يعطى

ص: 280

العبد ويوفقه لما يشكره عليه ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره ويشكر الحسنة بعشر أمثالها الى أضعاف مضاعفة ويشكر عبده بقوله بأن يثنى عليه بين ملائكته وفى ملئه الأعلى ويلقى له الشكر بين عباده ويشكره بفعله فإذا ترك له شيئا أعطاه أفضل منه وإذا بذل له شيئا رده عليه أضعافا مضاعفة وهو الذى وفقه للترك والبذل وشكره على هذا وذاك.

ولما عقر نبيه سليمان الخيل غضبا له اذ شغلته عن ذكره فاراد ألا تشغله مرة أخرى أعاضه عنها متن الريح ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها فى مرضاته أعاضهم عنها أن ملكهم الدنيا وفتحها عليهم.

ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن شكر له ذلك بأن مكن له فى الارض يتبوأ منها حيث يشاء ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزقها أعداؤه شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرا خضرا أقر أرواحهم فيها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها الى يوم البعث فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه ولما بذل رسله أعراضهم فيه لأعدائهم فنالوا منهم وسبوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته وجعل لهم أطيب الثناء فى سمواته وبين خلقه فأخلصهم بخالصة ذكرى الدار.

ومن شكره سبحانه أنه يجازى عدوه بما يفعله من الخير والمعروف فى الدنيا ويخفف به عنه يوم القيامة فلا يضيع عليه ما يعمله من الاحسان وهو من أبغض خلقه اليه ومن شكره أنه غفر للمرأة البغى بسقيها كلبا كان قد جهده العطش حتى أكل الثرى وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق المسلمين.

فهو سبحانه يشكر العبد على احسانه لنفسه والمخلوق انما يشكر من أحسن اليه وأبلغ من ذلك أنه سبحانه هو الذى أعطى العبد ما يحسن به الى نفسه وشكره على قليله بالاضعاف المضاعفة التى لا نسبة لإحسان

ص: 281

العبد اليها فهو المحسن بإعطاء الاحسان وإعطاء الشكر فمن أحق باسم الشكور منه سبحانه!.

وتأمل قوله سبحانه {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} كيف تجد فى ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده سدى بغير جرم كما يأبى اضاعة سعيهم باطلا فالشكور لا يضبع أجر محسن ولا يعذب غير مسيء.

وفى هذا رد لقول من زعم أنه سبحانه يكلفه مالا يطيقه ثم يعذبه على مالا يدخل تحت قدرته تعالى الله عن هذا الظن الكاذب والحسبان الباطل علوا كبيرا فشكره سبحانه اقتضى أن لا يعذب المؤمن الشكور ولا يضيع عمله وذلك من لوازم هذه الصفة فهو منزه عن خلاف ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص التى تنافى كماله وغناه وحمده

ومن شكر سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير ولا يضيع عليه هذا القدر ومن شكره سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاما يرضيه بين الناس فيشكره له وينوه بذكره ويخبر به ملائكته وعباده المؤمنين كما شكر لمؤمن آل فرعون ذلك المقام وأثنى به عليه ونوه بذكره بين عباده وكذلك شكره لصاحب يس مقامه ودعوته اليه فلا يهلك عليه بين شكره ومغفرته الا هالك فإنه سبحانه غفور شكور يغفر الكثير من الزلل ويشكر القليل من العمل.

ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه اليه من اتصف بصفة الشكر كما أن أبغض خلقه اليه من عطلها واتصف بضدها وهذا شأن اسمائه الحسنى أحب خلقه اليه من اتصف بموجبها وأبغضهم اليه من اتصف باضدادها ولهذا يبغض الكفور الظالم والجاهل والقاسي القلب والبخيل والجبان والمهين واللئيم وهو سبحانه جميل يحب الجمال عليم يحب العلماء رحيم يحب الراحمين محسن يحب المحسنين شكور يحب

ص: 282

الشاكرين صبور يحب الصابرين جواد يحب أهل الجود ستار يحب أهل الستر قادر يلوم على العجز والمؤمن القوى أحب اليه من المؤمن الضعيف عفو يحب العفو وتر يحب الوتر وكل ما يحبه فهو من آثار اسمائه وصفاته وموجبها وكل ما يبغضه فهو مما يضادها وينافيها.

ص: 283

خاتمة

يا من عزم على السفر إلى الله والدار الآخرة قد رفع لك علم فشمر إليه فقد أمكن التشمير واجعل سيرك بين مطالعة منته ومشاهدة عيب النفس والعمل والتقصير فما ابقى مشهد النعمة والذنب للعارف من حسنة يقول هذه منجيتى من عذاب السعير ما المعول إلا على عفوه ومفغرته فكل أحد إليهما فقير أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى أنا المذنب المسكين وأنت الرحيم الغفور ما تساوى أعمالك لو سلمت مما يبطلها أدنى نعمة من نعمه عليك وأنت مرتهن بشكرها من حين أرسل بها إليك فهل رعيتها بالله حق رعايتها وهى فى تصريفك وطوع يديك فتعلق بحبل الرجاء وادخل من باب التوبة والعمل الصالح انه غفور شكور.

نهج للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابها وعرفه طرق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها وحذره من وبال معصيته وأشهده على نفسه وعلى غيره شؤمها وعقابها وقال إن أطعت فبفضلى وأنا أشكر وإن عصيت فبقضائى وأنا أغفر إن ربنا لغفور شكور.

أزاح عن العبد العلل وأمره أن يستعيذ به من العجز والكسل ووعده أن يشكر له القليل من العمل ويغفر له الكثير من الزلل إن ربنا لغفور شكور أعطاه ما يشكر عليه ثم يشكره على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه اليه ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاءه ويقربه لديه وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه ان ربنا لغفور شكور.

وثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعتها وعكفت بكرمه آمال المحسنين فما

ص: 284

قطع طمعها وخرقت السبع الطباق دعوات التائبين والسائلين فسمعها ووسع الخلائق عفوه ومغفرته ورزقه فما من دابة فى الارض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ان ربنا لغفور شكور.

يجود على عبيده بالنوافل قبل السؤال ويعطى سائله ومؤمله فوق ما تعلقت به منهم الآمال ويغفر لمن تاب اليه ولو بلغت ذنوبه عدد الآمواج والحصى والتراب والرمال ان ربنا لغفور شكور

ارحم بعباده من الوالدة بولدها وأفرح بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التى عليها طعامه وشرابه فى الأرض المهلكة اذا وجدها وأشكر للقليل من جميع خلقه فمن تقرب اليه بمثقال ذرة من الخير شكرها وحمدها ان ربنا لغفور شكور تعرف الى عباده بأسمائه وأوصافه وتحبب اليهم بحلمه وآلائه ولم تمنعه معاصيهم بأن جاد عليهم بآلائه ووعد من تاب اليه وأحسن طاعته بمغفرة ذنوبه يوم لقائه ان ربنا لغفور شكور.

السعادة كلها فى طاعته والأرباح كلها فى معاملته والمحن والبلايا كلها فى معصيته ومخالفته فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته ان ربنا لغفور شكور أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذى كتبه ان رحمته تغلب غضبه ان ربنا لغفور شكور.

يطاع فيشكر وطاعته من توفيقه وفضله ويعصى فيحلم ومعصية العبد من ظلمه وجهله ويتوب اليه فاعل القبيح فيغفر له حتى كأنه لم يكن قط من أهله ان ربنا لغفور شكور.

الحسنة عنده بعشر أمثالها أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان والسيئة عنده بواحدة ومصيرها الى العفو والغفران وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السموات والارض الى آخر الزمان ان ربنا لغفور شكور.

بابه الكريم مناخ الآمال ومحط الأوزار وسماء عطاه لا تقلع عن الغيث بل هى مدرار ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ان ربنا لغفور شكور.

لا يلقى وصاياه الا الصابرون ولا يفوز بعطاياه الا الشاكرون ولا يهلك

ص: 285

عليه الا الهالكون ولا يشقى بعذابه الا المتمردون ان ربنا لغفور شكور

فإياك أيها المتمرد أن ياخذك على غرة فإنه غيور واذا أقمت على معصيته وهو يمدك بنعمته فاحذره فإنه لم يهملك لكنه صبور وبشراك ايها التائب بمغفرته ورحمته أنه غفور شكور.

من علم أن الرب شكور تفوع فى معاملته ومن عرف أنه واسع المغفرة تعلق بأذيال مغفرته ومن علم أن رحمته سبقت غضبه لم ييأس من رحمته ان ربنا لغفور شكور.

من تعلق بصفة من صفاته أخذته بيده حتى تدخله عليه ومن سار اليه بأسمائه الحسنى وصل اليه ومن أحبه أحب أسمائه وصفاته وكانت آثر شئ لديه حياة القلوب فى معرفته ومحبته وكمال الجوارح فى التقرب إليه بطاعته والقيام بخدمته والألسنة بذكره والثناء عليه بأوصاف مدحته فأهل شكره أهل زيادته وأهل ذكره أهل مجالسته وأهل طاعته أهل كرامته وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته إن تابوا فهو حبيبهم وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم يبتليهم بأنواع المصائب ليكفر عنهم الخطايا ويطهرهم من المعائب انه غفور شكور.

والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله حمدا يملا السموات والارض ومابينهما وما شاء ربنا من شيء بعد بمجامع حمده كلها ما علمنا منها وما لم نعلم على نعمه كلها ما علمنا منها وما لم نعلم عدد ما حمد الحامدون وغفل عن ذكره الغافلون وعدد ما جرى به قلمه واحصاه كتابه واحاط به علمه.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد واله وصحبه اجمعين وعلى سائر الانبياء والمرسلين ورضى الله عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

ص: 286