المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح وأسباب ومبادئ تأثيرها - عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي - جـ ٢

[صالح بن عبد الله العبود]

الفصل: ‌الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح وأسباب ومبادئ تأثيرها

‌الباب الثاني: أثر عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي

‌الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح وأسباب ومبادئ تأثيرها

الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح وأسباب ومبادئ تأثيرها

لقد اتضح لنا مما سبق بيانه عن الشيخ وعقيدته أنها عقيدة السلف الصالح؛ عقيدة سليمة، تعتمد على الكتاب والسنة غاية ووسيلة، وعلماً وعملا ومضمونا ومنهجا، ونزيد هنا شيئا من التوضيح فنقول: أما الغاية فإنها تتضح من مواقف الإيمان التي وقفها الشيخ بقوة، وكم نراه فيما قدمنا من سيرته وفيما سنذكر إن شاء الله من مواقفه الجهادية وجهوده المرضية في سبيل الله مثالا للرجل المؤمن بالغيب القوي في إيمانه بذلك، البعيد عن البدع والمحدثات في دين الله.

ولقد اعتقد الشيخ عقيدة السلف الصالح في حين غربتها وضعف تأثير أصحابها في المجتمع كما بينا ذلك في مبحث البيئة التي كانت سائدة في عصر الشيخ، ثم لما قام الشيخ بالدعوة إلى عقيدة السلف الصالح أصبح أثرها ينتشر شيئاً فشيئاً لا في الجزيرة العربية فحسب بل في العالم الإسلامي كله، ولا أحد ينكر صحوة نشطة في المسلمين تنشد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل على نشرها ونشر ما كان عليه سلفهم الصالح.

وهذا المسلك السلفي الصالح قد اشتهر كأنه طابع خاص بالشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه – رحمهم الله تعالى – على الرغم من أنه لا يخص الشيخ وليس من عنده وإنما هو ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 763

حتى أن الشيخ مُلَاّ عمران بن رضوان صاحب لنجة لما تبين له حقيقة معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأنه التمسك باتباع النبي محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم قام بتأييده فلقبوه بالوهابي يشنعون عليه ومقصدهم ليترك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذنب للوهابي عندهم إلا أنه لم تأخذه في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لومة لائم – فقال الشيخ مُلَاّ عمران في الرد على هؤلاء الشانئين منظومة منها:

إن كان تابعُ أحمدٍ متوهباً

فأنَا المقرُ بأنني وهابي

أَنفي الشريك عن الإله فليس لي

ربٌّ سِوى المتفرد الوهاب

لا قبة ترجى ولا وثنٌ ولا

قبرٌ له سبب من الأسباب

كلا ولا شجرٌ ولا حجرٌ ولا

عيٌن ولا نصب من الأنصاب

أيضاً ولستُ معلقاً لتميمة

أو حلقةٍ أو وَدَعَةٍ أو ناب

لرجاء نفع أو لدفعِ بلية

الله ينفعني ويدفعُ ما بي

والابتداع وكل أمرٍ محدثٍ

في الدين ينكره أولوا الألباب1

وما من شك أن تأثير العقيدة واستمرارها يتم إذا توفر لها أسباب هي:

أولا: وقبل كل شيء: توفيق الله تعالى ومنته بالفضل والهداية.

ثانيا: صلاح النية وسمو الغاية وحسن القصد بالأعمال الصالحة،

1 نقلا عن الهدية السنية جمع الشيخ سليمان بن سحمان ص 119- 120 ط المنار سنة 1344هـ والهدية السنية ط مكة عام 1393 هـ ص 148 - 149.

ص: 764

التي هي من لوازم العقيدة.

ثالثا: كون العقيدة حقا ثابتا في نفس الأمر والواقع لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

رابعا: علم صاحب العقيدة وبصيرته.

خامساً: سلامة منهج صاحب العقيدة.

سادساً: الإمارة الراشدة والسلطان الوازع.

سابعا: استمرار وجودها بوجود حملتها من عالم وارث للميراث النبوي وسلطان مناصر قوي.

وفيما يلي توضيح لذلك:

أما توفيق الله تعالى ومنته بالفضل والهداية فهو أمر ظاهر من منته سبحانه على أهل هذه الجزيرة العربية خصوصاً وأهل الأرض عموماً بآخر الرسالات النبوية بالقرآن العظيم المبين والرسول العربي الخاتم، وبيت الله الحرام، وضمانته سبحانه لحفظ دينه ونصرته إلى قيام الساعة ودليله القرآن الَّذي هو كلام الله محفوظاً في الصدور ومتلوا بالألسن ومكتوباً بالمصاحف لا يوجد له نظير من الكلام في جلب الخير ودفع الشر، كما أن رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بشخصه لانظير له في الأشخاص وسنته موجودة ودينه باق وهديه خير الهدي وهو مستمر إلى قيام الساعة ولا نظير له في الهدى وبيت الله الحرام فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولا نظير له في بيوت الله في الأرض.

ص: 765

وكل هذه الخصوصيات التي امتن الله بها على أهل هذه الجزيرة، ووفق من شاء منهم للقيام بحقوقها، كل ذلك له دور كبير في التأثير، وما من شك أن من وفقه الله للقيام بحقوقها فقد حاز نفوذا وتأثيرا قويا لا نظير له، وللشيخ وأنصاره نصيب من هذا كبير، فبناء عقيدته السلفية إنما هو على كلام الله الَّذي هو خير الكلام وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي هو خير الهدي، وعلى نهج سلف هذه الأمة الَّذين هم خير هذه الأمة.

وأما سمو الغاية من العقيدة، وكون العقيدة حق ومتانة علم صاحبها وقوة بصيرته وسلامة منهجه فقد بيناه فيما سبق من بيان عقيدته ومنهجه وشيء من سيرته ولا مانع من زيادة توضيح هنا لهذه الجوانب المؤثرة. وفيما يلي أنقل بعضاً من كلمات الشيخ تبين سمو الغاية، وتجردها من الحظوظ الدنيوية الزائلة.

يقول الشيخ في مخاطبته لعبد الوهاب بن عيسى:

"إن كنت تظن في خاطرك أنا نبغي أن نداهنك في دين الله، ولو كنت أجل عندنا مما كنت فأنت مخالف، فإن كنت تتهمني بشيء من أمور الدنيا فلك الشرهة"1.

وفي مخاطبته لعبد الوهاب المذكورة ولأبيه مرة أخرى يقول:" أشوف2

1 مؤلفات الشيخ القسم الخامس، الشخصية رقم 40 ص 280.

2 أشوف: أي "أرى" وفي مختار الصحاح: شاف الشيء جلاه وبابه قَال ودينار مشوف أي مجلو إلى أن قَال: وتشوف إلى الشيء تطلع ".

ص: 766

غايتكم قريبة وتحملون الأمر على غير محمله" 1.

ويقول الشيخ لبعض من توجس منهم غاية قريبة:

" إن الخطر عظيم فإن الخلود في النار جزاء الردة الصريحة ما تسوى بضيعة تربح تومانا أو نصف تومان2، ويحيل في هذه المسألة على الإيمان بالله ويستدل بقول الله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (العنكبوت:60) .

ويقول الشيخ في مخاطبة بعض من أحس منه خمولاً عن الموافقة:

"إن كان جارياً مني شيء تنقده فتراني أحب أن تنبهني عليه، لا تترك بيان شيء في خاطرك من قبلي، وإن كنتم متجرفين على التغير، أو جتكم3 الفتنة وودكم ببرد الأرض4 فهذا شيء آخر" إلى أن قال يذكره بالإيمان والغاية: "فهذا لا ينبغي منك، ولا يطاع أحد في معصية الله، فإن وافقتمونا على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله فلكم الحظ الأوفر

1 المصدر السابق رقم 49 ص 315.

2 التومان عملة نقدية. مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 34ص 224.

3 "جتكم الفتنة": أي "جاءتكم" وقد عبر الشيخ باللهجة التي يفهمونها ليكون أبلغ في نفوسهم.

4 "ودكم ببرد الأرض": أي "تودون التثاقل إلى الأرض والتخلي عن القيام بأعباء الدعوة والجهاد لنصرة دين الله ورسوله زهداً منكم بأجر ذلك في الآخرة وإيثاراً للحياة الدنيا.

ص: 767

وإلا لن تضروا الله شيئاً، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الطائفة المنصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم "وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار" وقد ذم الله الذي لا يثبت على دينه إلا عندما يهواه فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية (الحج: 11) – وينبغي لكم إذا عجزتم أو جبنتم أنكم ما تلوموننا، ونحمد الله الَّذي يسر لنا هذا، وجعلنا من أهله، وقد أخبر أنه عند وجود المرتدين، فلا بد من وجود المحبين، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية (المائدة: 45) – جعلنا الله وإياكم من الذين لا تأخذهم في هذا لومة لائم" 1.

ولقد كانت هذه الغاية ووسيلتها واضحة تمام الوضوح لدى الشيخ فقد ذكر في الإيمان بالله والإيمان بالرسل أَن هاهنا غاية ووسيلة، فأما الغاية فهي الإيمان بالله وأما الوسيلة فهي الإيمان بالرسل، وقال الشيخ:"الإيمان بالله مثل الماء والإيمان بالرسل مثل الدلو والرشاء"2.

ولقد صدق الشيخ ما يقول، وطبق ما كان ينادي به ويقرره ويدعو إليه لأنه عقيدته فلما بين أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب بدليل قوله تعالى: {لا

1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 50 ص 319- 320.

2 الدرر السنية، ط2، جـ1 ص 107.

ص: 768

تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1 (المجادلة: 22) .

وابتلي الشيخ نفسه ولكنه صبر وثبت حتى جاوز الامتحان والابتلاء وما ذلك إلا تأييد الله له بروح منه وتقويته لإيمانه، وأمثلة ذلك في حياته كثيرة.

ولنأخذ مثلاً من أحوال الشيخ التي وقعت؛ ففي حالة إخراجه من العيينة طريداً منها قد افتقد كل حظ من حظوظه الدنيوية المباحة افتقد ثقة الأمير وثقة الناس من حوله به، وبما يدعوا إليه من عقيدة السلف الصالح، وافتقد المسكن، والمكانة والجاه والنفوذ، وجميع الحظوظ النفسية، والغايات الدنيوية، ومشى وحيداً أعزل من أي سلاح ليس بيده إلا مروحة من خوص النخل، ولا يأمن مثله على نفسه أن يقتل بأهون قتلة لمن أراد ذلك ولن يأبه له أحدٌ، فيما يظهر من طبائع الأمور المعتادة، لكن كان على ثقة من ربه والله قد قوى إيمانه حتى صغر في ميزانه أمر صاحب الأحساء، وخذلان ابن معمر له وفراق الوطن والمال والأهل والزوجة

1 مؤلفات الشيخ، القسم الاول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 186.

ص: 769

والمسكن، وما بقي لديه سوى الإيمان القوي بصحة عقيدة السلف الصالح وحسن الظن بالله تعالى والثقة به سبحانه وأنه سيجعل له فرجاً ومخرجاً وأن الله سينصر دينه ويعلي كلمته. وكأني بالشيخ في حالته تلك قد ترك الناس وهو محتاج أحوج ما يكون من أجل الله ليس لديه منعة من أَتباع وجنود، ولا حمية من عشيرة أو حلف، ولا غيرهم من أَصدقاء وأصحاب ونحوهم، ومع هذا كله مضى ثابتاً على عقيدته وإيمانه بأن الله تعالى سوف يجعل له وللمؤمنين فرجاً ومخرجاً وإِن غاب عنه ذلك، ولم يفكر في استرضاء الأمير، والإبقاء على أي حظ من حظوظ النفس البشرية بالتنازل عن هذه العقيدة، أو المهادنة فيها طلباً للراحة والإبقاء على شيء من حظوظ النفس ورغباتها، ولو إلى أن تحين الفرصة كما يتحين المتربصون، بل مضى في سبيل الله عليه من الله الرحمة، والإيمان زاده، الإيمان القوي بعزيمة الواثق بموعود الله وحده في الغيب، وبصيرة من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرى عليه من أذى قومه وطرد ثقيف له من الطائف وغير ذلك، لا يطلب غايته العظيمة وعوض ما فقده في سبيل الله إلا من الله تعالى وحده، وهو الله الأحد الصمد الَّذي لايخيب من رجاه لقد سار من العيينة إلى الدرعية يمشي راجلا ليس معه إلا مروحة من خوص النخل في غاية الحر في فصل الصيف، لايلتفت عن طريقه، ويَلْهجُ بقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} ، ويلهج بالتسبيح: سبحان الله والحمد لله، ولاإله

ص: 770

إلا الله والله أكبر، ولما وصل الدرعية قصد بيت ابن سويلم العريني فلما دخل عليه ضاقت عليه داره، وخاف على نفسه من محمد بن سعود فوعظه الشيخ وأسكن جأشه، وقال سيجعل الله لنا ولك فرجا ومخرجا" 1.

ما أقوى هذا الإيمان والاتكال على الله تعالى في قلب هذا الشيخ رحمه الله في تلك الأحوال والأهوال التي بلغت معها القلوب الحناجر وتواردت من أجلها الظنون الفواقر، وإيمان الشيخ ثابت في نفسه قادر على طمأنة الآخرين المتزلزلين وتثبيتهم أيضاً هذا هو الشيخ المؤمن القوي، القوي بالإيمان لا بالحديد والنار، والدولة والمال، فقد ذهب عن هذا كله، ولم يتبعه منها شيء، ولم يبق معه سوى مهفة من خوص النخل لارغبة لأحد بها، وأصبح غريبا، يستوحش منه فهذا أقرب تلامذته إليه في منفاه إلى الدرعية يضيق به وبنزوله عليه ذرعا، قد خشي عاقبة أداء الحق في ضيافة الشيخ، وهي أدنى الحقوق وما ذاك إلا لشدة غربة الشيخ وهَوَان دعوته على الناس، وطمعهم في الباطل، وإعجابهم بمنافاة الحق ما يكون، وتسلط الملوك والأمراء على دعاة الخير وأهله تسلطا ملأ الأفئدة رعباً وزلزل القلوب عن بصيرتها واستنارتها، ولكن الشيخ مازال قاعدة صلبة في ثباته على الحق وقوة إيمانه، ومضاء عزيمته على المسير فيما دعا إليه من دين الإسلام بالطريقة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

1 ابن بشر عنوان المجد 1/11.

ص: 771

يقول الشيخ محمد بن أحمد الحفضي (1178-1237هـ) 1:

دعا إلى الله وبالتهليلة

يصرخ بين أظهر القبيلة

مستضعفا وما له مناصر

ولا له معاون موازر

في ذلة وقلة وفي يده

مهفة تغنيه عن مهنده

كأنها ريح الصبا في الرعب

والحق يعلو بجنود الرب

قد أذكرتني درة لعمر

وضرب موسى بالعصا للحجر

ولم يزل يدعو إلى دين النبي

ليس إلى نفس دعا أو مذهب

يعلم الناس معاني أشهد

أن لا إله غير فرد يعبد

محمد نبيه وعبده

رسوله إليكم وقصده

أن تعبدوه وحده لا تشركوا

شيئا به والابتداع فاتركوا2

ما أعظمها من عقيدة وما أسمى غايتها، لقد تطهرت عقيدته بل وتجردت غايته حتى صارت خالصة لله وحده وبقي إيمانه قويا لم يهن، ثابتا لم يتزعزع، ماضيا لم يتراجع حتى كانت له العاقبة، وحتى لقي الله وهو على عقيدته لم يتغير بالنصر والظفر والغنيمة، وتلك سنة رسول الله

1 الأعلام للزركلي، 6/ 17.

2 الهدية السنية للشيخ سليمان بن سحمان ص 124- وانظر الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. لأحمد بن حجر آل بوطامي ص 82، 83، وتاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني ص 327، وتذكرة أولى العرفان لإبراهيم بن عبيد، ج 1/ 29.

ص: 772

صلى الله عليه وسلم في ثباته وصموده كما قَال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) .

قَال الشيخ فيها: "إن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيه على الإخلاص، لأن كثيرا لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه، وأن البصيرة من الفرائض، وأن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه الله تعالى عن المسبة وأن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى، وإبعاد المسلم عن المشركين لأن لا يصير منهم ولو لم يشرك وهي من أهم ما فيها"1.

وقَال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم عنه رحمه الله: " وفيه مشابهة لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما ناله من الرؤساء والأحبار في ابتداء دعوته، فإنه رحمه الله لما أظهر الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة استصرخوا بأهل الحرمين، والنجرانيين وبني خالد وغيرهم عليه وألبت تلك الطوائف فثبته الله ومن آواه ونصره على قلة منهم وضعف، وصبروا على مخالفة الناس وتحملوا عداوة كل من عادى هذا الدين، بل أَشْبَهَ أمر الشيخ ما جرى لخاتم النبيين حتى في مهاجره وأنصاره وكثرة من عاداه وناوأه كما هو حال الحق، في المبادئ يرده الكثيرون وينكرونه ويقبله القليل وينصرونه، ثم تكون الغلبة له " 2 اهـ.

1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 21.

2 الدرر السنية 12/7.

ص: 773

ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة المُثْلى والإمام الأعلى لجميع المسلمين وكل من كان في محبته واتباعه أتم كان في أحواله إليه أقرب صلى الله عليه وسلم.

وقد أفصح عن هذا الاتباع في هذه الحالة إلى علماء الإسلام، آنس الله بهم غربة الدين، وأحيا بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، ففي هذا المنشور شكا إلى علماء الإسلام ما جرى من الفتنة بسبب نهيه العوام عن عاداتهم الشركية التي نشؤوا عليها، وعظمت في نفوسهم أن تنقطع عاداتهم تلك، وساعدهم بعض أدعياء العلم وهم من أبعد الناس عنه إذ العالم من يخشى الله – فتوهموا أن النهي عن الشرك تنقص للأنبياء والصالحين وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب ليس له من الأمر شيء قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه، وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهم ولم يغْلُ فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا هؤلاء، لما ذكر لهم ما ذكره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف من الأمر بإخلاص الدين لله والنهي من مشابهة أهل الكتاب من قبلنا في اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله قَالوا له تنقصتم الأنبياء والصالحين والأولياء1، والله تعالى ناصر لدينه ولو كره

1 ولقد أحسن الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه: "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" حيث قَال: " من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل، ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببعض أولئك الأفاضل ومعاداتهم، يرى بعض أهل العلم أن النصارى أول ما غلو في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كل من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك" ج1/6.

ص: 774

المشركون " 1.

فكان هذا من أعظم ما ساعد على انتشار الغلو لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نسبوا إلى ما هم أشد الناس كراهية له من بغض عيسى وتحقيره ومقتهم الجمهور وأوذوا، فثبطهم هذا عن الإنكار، وخلا الجو للشيطان وقريب من هذا حال الغلاة الروافض، وحال القبوريين، وحال غلاة المقلدين2.

ويقول حافظ وهبه: " إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مصلح مجدد داع إلى الرجوع إلى الحق، فليس للشيخ محمد تعاليم خاصة، ولا آراء خاصة وكل ما يطبق في نجد من الفروع هو طبق مذهب الإمام أحمد ابن حنبل، وأما في العقائد فهم يتبعون السلف الصالح، ويخالفون من عداهم، وتكاد تكون عقائدهم وعباداتهم مطابقة تمام المطابقة لما كتبه ابن تيمية وتلاميذه في كتبهم وإن كانوا يخالفونهم في مسائل معدودة من فروع الدين. وهم يرون فوق ذلك أن ما عليه أكثر المسلمين من العقائد

1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 26ص 176- 177.

2 التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل تأليف الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، ج1/ 6.

ص: 775

والعبادات لا ينطبق على أساس الدين الإسلامي الصحيح.

إلى أن قَال عن الشيخ وأتباعه: " وبالجملة: فهم يحرصون على العبادات الشرعية أن تكون على السنة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا زيادة ولا نقص"1.

هذا وقد شهد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، بأنه متبع وغير مبتدع وأنه إمام مجدد وداع إلى الله على بصيرة كثيرون من الكتاب والعلماء لا يحصون كثرة من الشرق والغرب، من الموالين وغير الموالين من المسلمين وغير المسلمين.

وقد سبقنا إلى جمع هذه الآراء والشهادات جمع من العلماء والباحثين ونذكر منهم الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي في كتابه: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه" فقد قَال إِن العلماء السلفيين والمؤرخين المحققين قد أكثروا من الثناء على الشيخ والتنويه بدعوته القائمة على دعائم الكتاب والسنة. ثم نقل عن اثنين وأربعين عالما وكاتباً وباحثا ومفكرا من المسلمين وغيرهم ومن الموالين وغير الموالين ومن مستشرقين وغيرهم، في أزمنة مختلفة وأمكنة متعددة ومن مصادر مختلفة. واستغرق ما نقله من ذلك إحدى وأربعين صفحة من ص80 –121.

1 جزيرة العرب في القرن العشرين، تأليف حافظ وهبه ص322-323.

ص: 776

ومن هؤلاء المشايخ الَّذين سبقونا في جمع هذه الشهادات وتدوينها الشيخ عبد الله بن سعد الرويشد في كتابه الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ فقد عقد في الجزء الثاني من كتابه فصلا هو الفصل العاشر في آراء العلماء والباحثين والمفكرين من الشرق والغرب وذكر من ذلك نقولا عن أربعة وأربعين شخصاً تزيد وتنقص عما أورده الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي، وهي آراء من أناس كثيرين مختلفي المشارب والمذاهب والأزمنة والأمكنة وكلها تجمع على أن الشيخ يعتقد عقيدة السلف الصالح ويذهب مذهبهم، وما خرج عنهم قيد شعرة واستغرق ما نقله من ص 277- 360.

وأورد أيضاً الدكتور عبد الله عبد الماجد إبراهيم كثيراً من هذه النقول في بحثه الَّذي قدمه لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد ابن عبد الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تضمنت كثيراً من كلام العلماء والباحثين من مسلمين وغيرهم، واستغرق ما نقله وجمعه ص 139- 162.

وقد نقلوا شهادات كثيرة حتى من الأَعداء، تجعلنا نتمثل بقول القائل:

مناقبٌ شهدَ العدو بفضلِها

والفضلُ ما شَهدتْ به الأعداءُ

والمقصود أن نشير إلى ما توصل إليه من سبقونا في جمع هذه الشهادات المختلفة زماناً ومكاناً وعقيدةً ألا وهو أن جميع هذه الشهادات

ص: 777

تتفق من غير تواطئ وتواعد بين أصحابها على حقيقة واقعية رأوها جميعاً على اختلاف رؤيتهم وهي أن عقيدة الشيخ ومنهجه هو ما يقتضيه الإسلام الخالص الذي أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أعداء عقيدة الشيخ ومنهجه هم أعداء الإسلام في الحقيقة.

وقد أوردنا فيما تقدم شيئاً من هذه الشهادات وسنورد إن شاء الله تعالى بعضاً من هذه الشهادات والآراء الصحيحة والأقوال السديدة التي تبين أثر عقيدة الشيخ الحسن وانتشارها الواسع سيما فيما خرج عن سلطان أنصارها1.

أما في هذا الفصل فمن أجل إستكشاف أسباب ومبادئ تأثير عقيدة الشيخ نستعرض جهود الشيخ وجهاده قبل مناصرة آل سعود له، وقبل ذلك أجيب عن سؤال ملح هو: كيف أثر الشيخ في البيئة من حوله دون سائر مشائخه، والمشائخ في عصره؟ وكيف اختص بذلك دون غيره منهم؟

والجواب هو: مع ما سبق أن بينا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذ العلم عن أجل علماء نجد في بلده كما أخذ العلم عن أجل علماء الحرمين والبصرة والتقى بعلماء الأحساء وغيرهم من علماء الأقطار التي التي زارها وفيهم عدول زمانهم اتصل بهم سند الشيخ إلى من قبلهم ممن اتصل سنده بالسلف الصالح وجميع العلماء الَّذين أخذ عنهم قد أجازوه

1 انظر: (2/1019) من هذا البحث.

ص: 778

وقرروا له التوحيد. واستحسنوا اتجاهه وأقروه على معرفته النيرة لحقيقة

الإسلام الَّذي بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم به وحرروا له المعتقد السليم، عقيدة السلف الصالح وشاركوه في مقت الأعمال المنكرة الشائعة في بلاد المسلمين وأن بعضها قد وصل إلى الشرك الأكبر الَّذي لا يغفره الله ولا يصح معه إسلام ولكن عذرهم عدم المساعد لهم في تحقيق ما تضمنه الكتاب والسنة من إقامة الدين وإخلاصه لرب العالمين، وإلا فهم يدينون لله بأنه لايستحق العبادة سواه في أنفسهم وأهليهم وما يقدرون عليه، أما إزالة هذه البدع ونهي الناس عما اعتقدوه وعملوه من منافاة الدين فيحتاج إلى سيف قائم وإمام عادل وكان ذلك متعذرا في وقتهم1.

أما علماء السوء الذين آثروا الحظ الأدنى على الحظ الأعلى، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فقد جانب الشيخ محمد بن عبد الوهاب طريقهم وتركهم وترك منهاجهم.

قَال ابن غنام عن الشيخ: إنه رحمه الله "رفض منهج الغلول والخيانة، وأدى من العلم الأمانة، وترك ما كان علماء السوء قبله له سالكون، وفي قعره العميق راكسون"2.

ثم قيض الله للشيخ أميرا راشدا ينصر دعوته إلى عقيدة السلف

1 انظر: التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 19، وانظر: مقالة الشيخ ابن حميد

ص 90 المطبوعة ضمن تحفة الناسك ورسائل أخرى ط 7.

2 روضة ابن غنام ج1 /28.

ص: 779

الصالح وينشر دين الله ورسوله بسلطانه وسيفه فالشيخ يبين العلم والأمير يقوم بتنفيذه بل إن كلا من الشيخ والأمير قد توحدت جهودهما وتكاملت فحصل لكلام الشيخ بالحق نفاذ لم يحصل لمشائخه وغيرهم وهذا فضل من الله تعالى أكرمه به والله يؤتي فضله من يشاء، وتصديق لما أخبر الله به من نصرة من ينصر دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما هي القاعدة في كرامات الأولياء حسب ما حققه شيخ الإسلام أحمد بن تيمية من أن الكرامة الخارقة للعادة عند اشتداد الحاجة إلى إقامة الحجة وتكون على يد أَتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم امتدادا لآيات نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وهي في نفس الوقت كرامة من الله لهم على قدر أَتباعهم، والكرامة فعل الله تعالى وليست فعلا لمن وقعت له فلله الحمد والشكر1.. والله أعلم.

جهود الشيخ المؤثرة في نشر عقيدة السلف الصالح واستعداده:

عاد الشيخ من رحلاته العلمية المباركة إلى حريملاء، وكان أبوه قد انتقل إليها من العيينة، ولما استقر الشيخ في هذه البلدة مع أبيه وأسرته أخذ يدرس على أبيه وإن كان مستواه العلمي لا يقل عن مستوى أبيه إن لم يزد عليه، لكنه من باب أدبه وتواضعه مع والده وشيخه الأول وموجهه2، ومع ذلك أخذ ينكر ما يفعله الجهال من البدع والشرك في

1 انظر: قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات

من قواعد شيخ الإسلام ابن تيمية ص2- 36، ط1، 1349 مطبعة المنار.

2 ابن بشر، عنوان المجد1/8، وانظر مبحث عودة الشيخ من رحلاته العلمية ص113

من هذا البحث، ومبحث نتيجة رحلاته العلمية 1/ 180 من هذا البحث أيضاً.

ص: 780

الأقوال والأفعال.

قَال ابن بشر: " وكثر منه الإنكار لذلك ولجميع المحظورات حتى وقع بينه وبين أبيه كلام وكذلك وقع بينه وبين أناس في البلد فأقام على ذلك مدة سنين حتى توفي أبوه عبد الوهاب في سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف، ثم أعلن بالدعوة والإنكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبعه أناس من أهل البلد مالوا معه واشتهر بذلك "1.

ويقول ابن غنام يصف دعوته وجهوده بعد عودته من رحلته إلى حريملاء ما معناه:

"وانتظم في سلكه رجال فحول، قرأوا عليه كتب الحديث والفقه والتفسير، وحقق لهم منهج الدعوة إلى الله أتم التحقيق وكان رحمه الله يعلن بالتوحيد ويدعو إليه وينادي بإِبطال دعاء غير الله وينكر على من يمارسه جهارا إذا لم يكف الإسرار، وينصح من عدل عن الحق بأسلوب سديد، ويزجر الناس عموما عن الشرك والفساد، وجد واجتهد في تعليم الواجب وبذل المناصحة للخاص والعام ونشر شرائع الإسلام وإقامة سنة محمد صلى الله عليه وسلم وكشف الشبه ودحض المفتريات وتحذير الناس – إن داموا على ما هم فيه – وقوع النقمة والعذاب، وكل ذلك قياما بأمانة العلم رغبة

1 ابن بشر، عنوان المجد1/8، 9.

ص: 781

فيما عند الله وما أعده تعالى للقائمين بذلك وخشية من الوقوع في الوعيد الوارد في القرآن المجيد {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة:159) " 1.

يقول حافظ وهبه: "عندما رجع الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى وطنه جد به العزم أن ينقذ نجدا مما حل بها فبدأ يدعو الناس أن يعودوا إلى دين الله الصحيح ويتركوا ما جد من البدع وغيرها مما يتنافى مع نصوص الكتاب والسنة.

وفي الوقت نفسه طلب إلى الأمراء ذوي الشأن أن يطبقوا أحكام الشرع، وقد قام بدعوته مسالما لا يدعو إلى شدة أوعنف وراسل علماء عصره في البلاد الإسلامية الأخرى وأظهر ألمه لما أصاب المسلمين. وحضهم على أن يكونوا من زمرة المصلحين الدينيين فكان ذلك سببا طبيعياً لغضب خصومه، أولئك الذين خافوا على سلطانهم من دعوته" 2.

ويصف ابن غنام استعداد الشيخ في دعوته إلى عقيدة السلف الصالح فيقول: ما معناه "وكان الشيخ رحمه الله قد أعطاه الله استعدادا قوياً فلم يخف في الله لومة لائم، وصار له توكل على ربه واعتصام به فلم يبال بجحافل الأعداء وجهامة الباطل3 وكيد شياطين الجن والإنس ووحي

1 روضة ابن غنام ج1/ 28، 29.

2 جزيرة العرب في القرن العشرين، تأليف حافظ وهبه، ص 320.

3 قال في مختار الصحاح: (الجهام) بالفتح السحاب الذي لا ماء فيه.

ص: 782

بعضهم إلى بعض بزخرف القول وغرروه وما رموه به من القوادح والمفتريات وما صوبوا له من سهام البغي والحسد والتكبر والتجبر، وأقام رحمه الله كما يذكر ابن غنام في بلد حريملاء على هذه الصفة سنين، ولم يحددها ابن غنام ولا ابن بشر بعدد لكنهما ذكراها بصيغة الجمع. وكان الشيخ على ما يصفه ابن غنام في تلك المدة يروع كل معاند ومعارض فاشتهر حاله في جميع بلدان العارض في حريملاء والعيينة والدرعية والرياض ومنفوحة وجعل الله لدعوته قبولاً في هذه البلدان وهو لايزال في حريملاء، فكان له في كل بلد من هذه البلدان أَتباع كما أَن له معارضين وأعداء حسب سنة الله تعالى فقد جعل لمن يقوم بالحق معارضين وأعداء حتى الأنبياء فكيف بأَتباعهم ولكن الله يجعل العاقبة للمتقين، ولقد قبل دعوة الشيخ أناس لهم مكانتهم في بلدانهم كالأمير عثمان بن معمر، وكان يفد إليه الناس من جميع ما حوله ممن سمع به وهو مقيم في حريملاء ويسمعون بيانه ودروسه حتى كثر محبوه وتابعوه وانضم لدعوته جم غفير، وكلما زاد شأن الدعوة كلما تباين الناس فيه حتى انقسموا إلى فريقين- فريق فرح بالشيخ وأحبه وأحب دعوته وعاهده على ذلك وبايعه على نشر الإسلام والقيام به وفريق أنكر عليه وأبغضه وكره دعوته وقام وقعد في الصد عن الإسلام وإِلقاء الشبه على القائمين بها ليصدوهم ويثنوا سيرهم الحميد وفي هؤلاء الفريق المعارض كثير من ذوي العلم والأَفهام ولكن انسلخوا من علمهم واتبعوا أهواءهم وركضوا مع الرؤساء الظلمة

ص: 783

والجهلة واستهوتهم الشياطين فقلدهم العوام والطغام وهم الأكثر فاشتدت المحنة ولكن أَتباع الشيخ على بصيرة من الأمر يعلمون أَن هذه سنة الله تعالى في الذين خلوا من قبل وهي جارية لا تبديل لها ولا تحويل فمن سنة الله تعالى أن الناس إذا جاءهم بيان الهدى فمنهم من يقبله وهو من سبقت لهم السعادة، ومنهم من يرفضه وهو من كتب عليه الشقاء قال الله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .

ولذا كان فريق الشيخ مع قلتهم مصممين على المضي معه في بيان الواجب حتى لا يخسروا دينهم مهما كانت النتائج فأثابهم الله تعالى لما علم صدق نيتهم بأن جعل شأنهم يرتفع وكفتهم ترجح وكل يوم يمر كان في زيادتهم ونقصان معارضيهم فكان شأن المعارضين بعد أَن بلغ نهايته في البغي ينخفض ويخف، أما أتباع الشيخ فهم يزيدون في قوتهم وعددهم وبصيرتهم وعلومهم ويقينهم بوضوح رشد طريقتهم وهدايتهم كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69)1.

ولكن حريملاء كانت غير صالحة لأن تكون منطلقاً للدعوة إلى الله تعالى فقد كان رؤساؤها منقسمين إلى قبيلتين أصلهما قبيلة واحدة، وكل منهم يدعي أن القول له وليس للأخرى على الثانية قول وما كان لحريملاء

1 انظر: روضة ابن غنام 1/28-30.

ص: 784

رئيس يزع الجميع ويجنبهم هذا الاختلاف وكان في البلد عبيد لإحدى القبيلتين كثير تعديهم وفسقهم فأراد الشيخ أن يمنعوا عن الفساد وينفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يحصل ذلك لعدم وجود الرئيس الوازع بل إِن هؤلاء العبيد المفسدين في الأرض هموا أن يفتكوا بالشيخ ويقتلوه بالليل سرا، فلما تسوروا عليه الجدار علم بهم أناس فصاحوا بهم فهربوا فانتقل الشيخ بعدها من حريملاء إلى العيينة1.

والمصادر الأولى كما قال الدكتور العثيمين لا تشير إلى سنة انتقال الشيخ من حريملاء إلى العيينة2 ويميل الدكتور منير العجلاني إلى أَن المدة التي قضاها الشيخ في حريملاء لا تتجاوز أربعة أعوام سنتين قبل وفاة أبيه ثم سنتين بعد وفاته3، وإذا علمنا أَن والده توفي سنة 1153 هـ4 فيكون عام ارتحاله هوما يقارب 1155 هـ، والله أعلم.

تحليل أسباب انتقال الشيخ بدعوته من حريملاء إلى العيينة:

وبالرغم من القبول الذي جعله الله لدعوة الشيخ إلى الإسلام وهو لايزال في حريملاء إلا أن حريملاء كما ذكرنا ما كانت تنعم برئيس مطاع يزع جميع سكانها إلى الحق والدعوة إلى الإسلام وإِن كان الإسلام حقاً

1 ابن بشر، عنوان المجد 1/9.

2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب

للدكتور العثيمين ص42.

3 تاريخ البلاد العربية السعودية ص 211.

4 انظر 1/ 182- 183 من هذا البحث.

ص: 785

فإنه لابد لها من أمير مطاع يزع الله به الناس جميعاً فيكون بمثابة المرجع للجميع يجد فيه المحق تأييدا وتشجيعاً وضمانا لحقه ورعاية لجهوده، كما يجد فيه المبطل رادعاً قوياً يمنعه من الفوضوية والتعدي وتخريب أمن مجتمعه وحياة مواطنيه. قال الله تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251) .

وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) .

ولذا يقول العالم الاجتماعي ابن خلدون في "مقدمته" تحت عنوان: (ضرورة العمران البشري إلى السلطان الوازع بعضهم عن بعض) :

" إِن الاجتماع الإنساني ضروري

ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر

وتم عمران العالم بهم، فلابد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم

فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك، وقد تبين لك بهذا أَن للإنسان خاصة طبيعية، ولابد لهم منها، وقد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في الجراد والنحل لما استقرىء فيها من الحكم والانقياد والاتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه إلا أن ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية، لا بمقتضى الفكرة

ص: 786

والسياسة {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 1 (طه: 50) ".

لذلك بعد مواجهة الشيخ للوضع السياسي في حريملاء أدرك رحمه الله أَنه لابد للبناء والعمران الإسلامي من سلطان يحميه من هدم الآخرين وأن البناء لا يبلغ تمامه إذا كان يوجد بجانب من يبني أحد غيره يهدم، وأدرك رحمه الله أَن السلطان مختل في تلك البلدة وإذا كان مختلا فلا تصلح لأن تكون مقراً للدعوة لما في طباع البشر من العدوان عند فقد السياسة الشرعية أو السلطة الوازعة. عندئذ تعين لدى الشيخ أن السياسة الشرعية في بناء البيئة الإسلامية وهدم البيئة الجاهلية تقتضي البحث عن أمير قوي لا ينازع وليس مجرد أمير قوي لا ينازع فحسب بل مع ما أعطاه الله من السيادة وحسن السياسة وتدبير الملك والرعية وجودة الرأي والفكرة، مع هذا يكون بصيراً في الدين، يدين بالإسلام، ويقتنع بصحة الدعوة إليه والقيام بنصرته.

وحريملاء ليس فيها من هذه صفته، وكان عثمان بن معمر أمير العيينة ممن توفر فيهم صفة الأمير، وكان الشيخ قد أَبلغه الدعوة إلى الإسلام فقبل فكان المرشح من قبل الشيخ لسد الحاجة إلى أمير يحمي منجزات الدعوة بسيفه، وينشرها بقيادته وجهاده ونصرته فانتقل إلى العيينة، واختارها منطلقاً للدعوة.

1 مقدمة ابن خلدون، ط مصطفى محمد المصرية، ص 41.

ص: 787

قال ابن غنام: "ثم بعد ذلك عزم على المسير عنها (يعني حريملاء) والارتحال والاقامة بالعيينة فجد في الرحيل والانتقال، وذلك بعد أن هدى الله تعالى عثمان بن معمر لقبول هذا الدين الذي أحياه ذو القلب المنور فدخل منه شيء في قلبه "1. هذا هو حقيقة سبب انتقال الشيخ من حريملاء إلى العيينة الذي هو كما نرى سعي في مصلحة الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح التي هي الإسلام، وليس شوقاً إلى مسقط رأسه ومرتع صباه العيينة ولكن هو ما ظهر له من أن العيينة أصلح بلد تنطلق منه الدعوة إلى الله تعالى على نهج السلف الصالح واعتقادهم السليم ولذلك لما جفاه أميرها وخذله على ما سنبينه بحول الله هاجر من العيينة وهجر مرتع صباه ومسكنه يبحث عن ضالته في غيرها.

أثر إقامة الشيخ في حريملاء:

لقد كان لإقامة الشيخ في حريملاء تلك المدة أثر كبير في ما يعود على دعوته إلى الله بالفائدة فكانت إِقامته وجهوده خصوصا بعد وفاة أبيه المرحلة الأولى التأسيسية وهي مرحلة البيان والنشر، فإِن الشيخ بعد أن توفي والده أصبح أكبر شخصية علمية في البلدة والتفتت الأنظار إليه وإلى ما يقول من بيان للتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، مما لا عهد لأكثر الناس به حيث كانوا في غفلة عن تقرير التوحيد ونقد المجتمع والبيئة في

1 روضة ابن غنام 1/ 30.

ص: 788

ُعْدِهم عنه والبراءة من الشرك وأهله حتى ولو كان أهل الشرك من الأقرباء والمعارف والأصحاب، وهذا زاد من انتشار سمعته في المناطق الأخرى، وجعل بعض الأفراد من بلدان العارض المختلفة يفدون إليه في حريملاء ليستمعوا ما يقول وما يدعو إليه، وبهذه الوسيلة التى هيأها الله له جعل يوضح حقيقة الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، ويبين ما يضاده وينقضه من أنواع الشرك والكفر ثم يقارنه بالواقع من هذه الأمور في البيئة من حوله فانتشرت عقيدة السلف الصالح وبدأ الناس ينتبهون لما كانوا في غفلة عنه وبدأ الإِحساس يقوى واليقظة تزيد، ولقيت دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح قبولاً وأنصاراً في بعض المدن كالعيينة والدرعية وقدم عليه طائفة من أهل العارض إلى حريملاء وكان أعظم رجل كسبه إلى الدعوة إلى الله خلال هذه المرحلة هو أمير العيينة عثمان بن معمر، والذي كان على يديه بداية تطبيق الدعوة عمليا1.

أثر عقيدة الشيخ في العيينة:

انتقل الشيخ إلى العيينة، وكان أميرها هو عثمان بن حمد بن عبد الله بن معمر بعد أخيه محمد بن حمد الملقب "خرفاش "، وقد هداه الله

1 انظر: تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني، ص 211، والشيخ محمد بن عبد الوهاب

للدكتور العثيمين، ص 41، 42.

ص: 789

تعالى فاقتنع بدعوة الشيخ، وأعلَنَ ذلك بين رجاله المقربين، وتلقى الشيخ بالقبول وأكرمه، وتزوج الشيخ عمته الجوهرة بنت عبد الله بن معمر، وكانت ذات مكانة عالية فقد ذكر المؤرخون أن محمد بن سعود ورفاقه لم ينزلوا من موضع تحصنهم عقب قتل محمد بن حمد بن عبد الله بن معمر الملقب خرفاش لزيد بن مرخان إلا بعد أن أعطتهم الأمان سنة 1139 هـ1 ولعل الشيخ يترسم بذلك الزواج منها خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة ذات المكانة العالية رضي الله عنها، وما من شك أن العلاقة بالمصاهرة تزداد متانة سيما وأَن الشيخ يرجو نصرة هذا الأمير، لأَنه رأى بعد ما وجده في حريملاء أن المتعين اتخاذ سياسة راشدة لحماية منجزات الدعوة ومكاسبها، والقيام بنصرتها لأنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بالسمع والطاعة والسمع والطاعة إنما تكون للأمير الذي توفرت فيه ملكات الإِمارة مع صحة دينه وكان عثمان هذا من المرجوين لهذا المقام الجليل على حد قول الشاعر:

قد هيؤوك لأمر لو فطنت له

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

لذا فإن الشيخ جاء إلى العيينة وعرض على عثمان هذه الرغبة وبين خطورة هذا الشأن وأهميته وقيمته العظمى ورشحه لمقام الإمامة فيه فقال له بعد أن استعرض ما قام به ودعا إليه من التوحيد ورغب إليه في

1 عنوان المجد، ابن بشر، سابقة سنة 1139 هـ ج 1/ 234، 235، وانظر: الدكتور العثيمين، في كتابه الشيخ محمد

ص 43.

ص: 790

نصرة دين الله: "إني أرجو إِن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله، أَنْ يظهرك الله تعالى وتملك نجدا وأَعرابها"1.

ثم بعد ذلك الذي عرضه الشيخ على ابن معمر ورغبه فيه من أمل الخير لمن ينصر الإسلام في الدنيا ثم الآخرة قام عثمان وساعد الشيخ فأعلن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبعه أناس من أهل العيينة2.

قال المؤرخ ابن غنام: "قام معه عثمان وقعد وساعده على ذلك واجتهد وأمر الناس بالاتباع، وعدم المشاققة له والنزاع وأَلزَم الخاصة والعامة أَن يمتثلوا أمره وكلامه ويسلكوا سبل الاستقامة ويظهروا توقيره وإِكرامه فكان بعد ذلك الأمر والإِلزام، وصدور ذلك الاعتناء التام وشدة الرغبة والاهتمام وإِبداء التعظيم له والاحتشام تسمع أقواله وتطاع وتملأ الصدور والأَسماع فصار للزيغ ارتداع وقمع وإِقلاع وللحق والهدى أَتباع، ففشا الدين في بلدان العارض المعروفة، وأكثرهم قلوبهم عن ذلك النور مصروفة، وعلى ما كانوا عليه من الأمور المألوفة ملازمة محبوسة موقوفة.

ولكن لم يصبر على الإِقامة بذلك المكان مع مشاهدته فيه الأوثان فعند ذلك أمر الشيخ محمد، الأمير عثمان بهدم القبب والمساجد المبنية في الجبيلة على قبور الصحابة، وقطع الأشجار التي كانت الخلق لها في كل

1 عنوان المجد

لابن بشر 1/9.

2 عنوان المجد

لابن بشر 1/9.

ص: 791

ساعة منتابة؛ فبادر عثمان لذلك وامتثل وخرج الشيخ معه وجماعتهم على عجل وخرجوا بالمعاول، والكل للأجر آمِل فهدموا تلك المساجد وأزالوا رفيع المشاهد، وأزالوا جميع المحظور عن جميع تلك القبور، وعدلت على السنن المشروع واندرس الأمر الممنوع وهدم رفيع ذلك البناء، وبطل ذلك التعظيم لها والاعتناء، وخر شامخ الأحجار وخر ما في العارض من معبدات الأشجار كشجرة قريوة وأبي دجانة والذيب فلم يكن أحد إلى التبرك بهما ينيب، ولم تسألها من لمْ تتزوج مثل العادات زوجا حبيب1، وليس في تلك الأزمان بغريب وليس وقوع أقبح منه بعجيب، وكان الشيخ رحمه الله تعالى هو الذي باشر قطع شجرة الذيب بيده مع بعض أصحابه فنال من ربه جزيل أجره وثوابه، وقطع شجرة قريوة ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود وأحمد بن سويلم وجماعة سواهم فأدركوا من الفوز مناهم، فلم يبق وثن في البلدان التي كانت تحت يد عثمان، وشاع ذلك واستبان ونعم بذلك أهل الإيمان وصلحوا حالا من ذلك المكان وانتشر الحق من ذلك الأوان واشتهر الأمر وبان وسارت بذلك الركبان"2 انتهى.

وقد نقلته بنصه من تاريخ ابن غنام لأنه تضمن وصفاً واضحا لحماسة الأمير عثمان بن معمر في مناصرة الشيخ ودقيقاً في ذكره ما تم

1 الصحيح (حبيبا) وإنما جرى على السجع.

2 روضة ابن غنام ج1/ 30- 31.

ص: 792

من تنفيذ أمور العقيدة السلفية وما كان لها من أثر في انتشار توحيد الله بالعبادة، وزوال الشرك وعقده من أعمال الناس وقلوبهم، فإِنهم إذا كانوا يعتقدون مثلا أَن قبر الولي يحميهم، وأَن الولي فيه سر النفع والضر ثم وجدوا هذا الولي غير قادر على حماية مقامه وعظمته في النفوس ولا حماية القبة المبنية على قبره والثأر ممن هدمها وأهانه عرفوا بأنهم كانوا على خطأٍ في الاعتقاد بقدرته على النفع والضر ومن ثم خشيته ورجائه وتقريب النذور والقرابين إليه وبذلك تكون الأعمال أَمضى في إِقناع الناس من الأقوال وأنفع من كلام لا نفاذ له فرحم الله الشيخ رحمة واسعة.

ونستخلص وصفاً للحالة النفسية والمقاومة العملية من خلال ما يذكره المؤرخ ابن بشر من قصة هدم القبة المبنية على قبر الصحابي زيد بن الخطاب رضي الله عنه التي عند الجبيلة: " قال الشيخ لعثمان دعنا نهدم هذه القبة التي وضعت على الباطل وضل بها الناس عن الهدى. فقال: دونكها فاهدمها، فقال الشيخ: أخاف من أهل الجبيلة أَن يوقعوا بنا، ولا أَستطيع هدمها إلا وأنت معي، فسار معه عثمان بنحو ستمائة رجل، فلما قربوا منها ظهر عليهم أهل الجبيلة يريدون أن يمنعوها، فلما رآهم عثمان علم ما هموا به. فتأهب لحربهم وأمر جموعه أن تتعزل للحرب فلما رأوا ذلك كفوا عن الحرب وخلوا بينهم وبينها، وقال ابن بشر ذكر لي أن عثمان لما أتاها قال للشيخ: نحن لا نتعرضها. فقال الشيخ أعطوني الفأس فهدمها الشيخ بيده حتى ساواها. ثم رجعوا فانتظر تلك الليلة جهال البدو

ص: 793

وسفهاؤهم ما يحدث على الشيخ بسبب هدمها فأصبح في أحسن حال" 1 انتهى.

لا شك أن هذه الأعمال التنفيذية لعقيدة السلف الصالح حين تأتي في مناسبتها من أعظم وسائل التطهير وإِقناع الناس بصحة ما يقوله الداعية من بيان لساني، وإيقاظ الضمائر المتبلدة، وإِحياء القلوب المريضة وتصحيح العقائد السقيمة.

ولا أدل على ذلك التيقظ والإِحساس بالحياة من قصة امرأة من أهل العيينة استيقظ قلبها بالشعور الغامر بفحش الزنا والرغبة في الطهارة منه على ضوء شرع الله الذي طهر به الشيخ محمد بن عبد الوهاب العيينة من مظاهر الوثنية بهدمها وإِهانتها وإقامة توحيد الله بالخشية والرغبة والمراقبة والتقوى، فما كان من هذه المرأة إِلا أَن تندفع بصدقها في التوبة وتأتي إلى الشيخ فتعترف عنده بالزنا والإِحصان ترغب في تطهير نفسها من هذه الفاحشة لتنال ثواب المطهرات عند الله فأعرض الشيخ عنها وتكرر منها الإِقرار، فأراد الشيخ تطبيق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك فعل فلقد التمس هل لها من عذر؟ وسأل عن عقلها فإذا هي صحيحة العقل وقال لعلك مغصوبة؟ وأمهلها الشيخ أياماً فلم تزل مستمرة على إقرارها بذلك فكانت أقرت أربع مرات في أيام متواليات بما يوجب إِقامة الحد

1 ابن بشر، عنوان المجد 1/9، 10.

ص: 794

الشرعي الذي هو الرجم، فلم يكن للشيخ مندوحة عن الأمر برجمها لإِقامة حد من حدود الله تعالى.. "فخرج الوالي عثمان وجماعة من المسلمين فرجموها حتى ماتت، وكان أول من رجمها عثمان المذكور، فلما ماتت أمر الشيخ أن يغسلوها وأن تكفن ويصلى عليها1 كما جرى من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الواقعة.

وهكذا كان الشيخ- رحمه الله يطبق عقيدة السلف الصالح في بلد العيينة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعلم الناس دينهم ويميت ما قدر عليه من البدع ويقيم الحدود ويأمر الوالي بإقامتها، ويراسل العلماء والزعماء من غير بلدة العيينة يدعوهم إلى إِقامة دين الله، ويرسل الدعاة إلى البلدان النائية لبيان الدين وإِرشاد الناس إليه ومن بين تلك البلدان الدرعية فقد راسل قاضيها عبد الله بن عيسى وابنه عبد الوهاب وراسل ثنيان بن سعود وعبد العزيز بن محمد بن سعود وأحمد بن سويلم وراسل أهل الرياض وابن عبد اللطيف من أهل الأحساء وغيرهم من أهل البلدان الأخرى.

نهاية معارضة علماء السوء أمام جهاد الشيخ:

إن جهود الشيخ ودعوته إلى عقيدة السلف الصالح قد لقيت معارضة حتى من العلماء! (علماء السوء) عارضوا دعوة الشيخ، وهي

1 انظر: روضة ابن غنام 2/2 وابن بشر في عنوان المجد 1/ ص 10.

ص: 795

نشر لميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحياء لسنته واتباع لملته، ولكل قوم وارث فكما أن الشيخ رحمه الله وأتباعه يرثون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلابد أن يكون للشيخ أعداء من شياطين الإنس والجن، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وكلما كان الإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتم كلما كانت المشابهة في تطور الأحوال أشد.

ولقد بدأ أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم من علماء السوء في مقاومة الشيخ والكيد له ولدعوته منذ كان في حريملاء؛ ففي إحدى الرسائل التي بعثها الشيخ من العيينة إلى عبد الوهاب بن عبد الله ذكر الشيخ أن عبد الوهاب هذا منذ خمس سنوات وهو يجاهد جهادا كبيراً في رد دين الإسلام فإذا جاءه مساعد أو ابن راجح أو صالح بن سليم وأشباه هؤلاء الذين يلقنهم الشيخ شهادة أن لا إله إلا الله وأن عبادة المخلوقات كفر وأَن الكفر بالطاغوت فرض قام عبد الوهاب يجاهد ويبالغ في نقض ذلك ويستهزىء به1.

وقال ابن غنام ما حاصله: "وأشر الناس والعلماء إنكارا ًعليه وأعظمهم تشنيعاً وسعياً بالشر إليه سليمان بن سحيم وأبوه محمد فقد أَتْهَمَ في ذلك وأَنجد، وجدَّ في التحريش عليه والتحريض، وأرسل بذلك إلى الأحساء والحرمين والبصرة وحشر علماء السوء ونادى وكذب عليه

1 انظر: روضة ابن غنام 1/157، 158 وقارن بما في كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب

للدكتور العثيمين ص 45.

ص: 796

وبهت وزور، وبعث الطروس مترعة بالباطل والمَيْنِ إلى علماء السوء من تلك الأقطار فقاموا معه فوراً بالإِنكار وأَفتوا للحكام والسلاطين والأشرار بأن القائم بدعوة التوحيد خارجي وأصحابه خوارج، وليس له تثبت في الحق، وجزم كثير من علماء الأمصار وهم علماء السوء بأن هذا المبين لآثار السلف الصالح من أقبح الضلال وأشر الخوارج وحسبوا أَنهم إذا حرشوا عليه الحكام يفوزون بقتله وطمس دعوته مع أَن بعضهم قد عرف أَن الذي جاء به الحق. ولكنهم لذلك كانوا يكتمون:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} فصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وزعمهم تغييره للشرع النبوي وتبديله وعدم معرفته بأسرار العلوم وتجهيله وسطروا فيها الجزم بكفره وبطلان حجته ودليله، وحكموا بأن الشيخ ساحر وكذاب ومفترى وكافر حلال الدم والمال وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً فأطبق أهل الباطل والضلال على قبيح تلك الأقوال وأرهفوا أسنة المقال والكل خاض في الإِفك ونال، والذي تولى منهم هذا الأمر الكبير واقتحم لجج موجه الخطير وشمر فيه أعظم التشمير وتنادى عليه مع أعوانه لأَجل التغيير حسدا وبغياً بالإضافة إلى سليمان بن سحيم وأبيه محمد من مطاوعة أهل الرياض كما تقدم عبد الله بن عيسى المشهور بالمويس ولد في بلد حرمة من بلدان وادي سدير وعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الرحمن بن عفالق من

ص: 797

الأحساء" 1.

ولقد عارض الشيخ غير هؤلاء ممن يدعي الرفعة والشأن والقدم الراسخة في العلم والعرفان مع أن أكثرهم يقر على نفسه ويعترف بأن ما أتى به محمد بن عبد الوهاب هو الحق والصواب وأَن هذا هو التوحيد المطلوب، ومَن لم يتحقق به لم يفرق بين الرب والمربوب لكن انفت قلوبهم واستنكفوا وخشوا أَن يكون اقرارهم وموافقتهم سببا في أن تسلب منهم رئاستهم ودنياهم وجاههم بين الناس فأنكروا بعد المعرفة وأصبحت ألسنتهم في ذلك مسرفة ووجوههم عن الحق منصرفة حتى أنكروا من الشرع الأمور المعروفة.

قال ابن غنام: "فذكر لنا عن تحقيق ويقين أَنهم أنكروا على عثمان ابن معمر أدبه من تخلف عن الصلاة في جماعة المسلمين وتأديبهم من لم يصل جملة وجبايته الزكاة وغير ذلك من أمور الدين. وكان كثير من علماء السوء في نجد يأتون إلى رؤساء البدو ويحذرونهم وقوع الصلاة في حيهم وسماع الأذان، ويحثونهم على التمسك بقبيح تلك الأديان، وما كانوا عليه من الفسق والعصيان2، وقد أنكروا على الشيخ أمره الوالي باقامة الحدود فزعموا أَن الشيخ لا صفة له تخوله الحكم والأمر برجم من استوجبه مثلا، وقد رد عليهم الشيخ وبين لهم أَن ما فعله هو حكم الله

1 روضة ابن غنام 1/ 31-32 بتصرف واختصار.

2 روضة ابن غنام 1/37-38 بتصرف واختصار.

ص: 798

المؤيد بالسنة والجماعة ومما قاله الشيخ أن الأئمة من كل مذهب مجمعون على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرف أَنّ أحدا من العلماء ذكر ان شيئا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم، إلى أن يقول:"ولكن أعداء الله يجعلون هذه الشبهة حجة في رد ما لا يقدرون على جحده، كما إني لما أمرت برجم الزانية، قالوا لابد من إذن الإمام".

قال الشيخ: "فإن صح كلامهم لم تصح ولايتهم القضاء، ولا الإمامة ولا غيرها"1.

هذا وقد مر بنا في مبحث البيئة من حول الشيخ أن نجدا لم يدخلها السلطان العثماني تحت نفوذه قبيل ظهور الشيخ، وإنما كانت مجزأة بين أمراء متعددين، وكل أمير مستقل بما تحت يده2.

ومن أسباب مقاومة هؤلاء المخالفين أن الشيخ جاءهم بشيء استغربوه وخالف ما اعتادوه وألفوه وأشربوه في قلوبهم، ألا وهو إِعلان الشيخ رحمه الله تعالى وجوب التمسك والاعتصام بالكتاب والسنة والعمل بما جاء من هدي الأصحاب وبما اختاره الأئمة الأربعة الذين

1 المصدر السابق: 1/207.

2 انظر: 1/ 40 - 41 من هذا البحث.

ص: 799

شاعت مذاهبهم في الأمة، فهو وإن كان يختار مذهب الحنابلة فإِنه لا يقدمه على النص القاطع ولا يتعصب له بل يختار من المذاهب الأخرى مذهب من هو أقرب إلى الدليل والصواب الموافق للشريعة، وقد أسفر كلام الشيخ عن هذا الاتجاه وظهر وشاع، فلذا طارت قلوب متعصبة المذاهب والمقلدة في العمى فرقاً من هذا النور، والذي مداره على اتباع ما أمر الله به من الرد في حال التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم 1.

مع أن الرد إلى الكتاب والسنة هو الصواب المتعين والحق المطلوب من دين الإسلام بالضرورة. وفيه من أسباب الأَلفة والاجتماع والتوحيد بين المسلمين، ودحر الشر والتفرق ما يغيض تجار الحروب، ومستغلي فرص التفريق والمنازعات ليسودوا ويثروا على أَنقاض الدمار والفساد وعبادة الأوثان والأنداد.

وكذلك قد اعتبروا الرد إلى الكتاب والسنة بدعة والحادا وخروجا عن الدين وقد زين لهم الشيطان شبهة أنهم لا يقدرون على فهم كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح وأن الأخذ بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر2.

1 روضة ابن غنام 1/38، 39، 0 4.

2 انظر: رسالة الشيخ إلى عبد اللطيف في روضة ابن غنام ج1/53-57، وانظر: تنزيه

السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران بقلم أحمد بن حجر آل

بوطامي ص 11.

ص: 800

ويمكن أن نحصر نقطة الخلاف بين الشيخ وخصومه من علماء

السوء وغيرهم في أنه يقول:

كل ما يعبد الله به بجميع أنواعه يجب أن يكون خالصا لله وحده فلا يصرف منه شيء لغيره كالدعاء والذبح والنذر والتوكل والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة وغير ذلك مما ورد به شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين للناس ذلك وأمرهم بإخلاصه لله وحده ونهاهم عن الشرك بذلك وبين لهم أن من الشرك ما هو واقع من أكثر الناس حين يدعون الأنبياء والأولياء والصالحين بل وغيرهم من الفسقة والطواغيت والمجانين من أهل القبور والمقامات والمشاهد وغيرهم من الأموات والأحياء يتعلقون بهم ويذبحون لهم وينذرون ويتقربون إليهم بأشياء إنما هي من حقوق الله التي شرعها تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وأمته ليتعبد له بها، وبين الشيخ أَن أول من أَدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الملعونة الذين يدعون علياً وغيره ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات. لذلك لم يستطع العلماء المكابرون الصمود للشيخ في ميدان الحجة والبرهان، وغلبهم بيان الحق وأسكتهم برهانه عن الرد عليه ومناظرته ودحضت حججهم وكشفت شبهاتهم وهم قد أشربوا محبة ما اعتادوه ووجدوا عليه مجتمعهم وكبراءهم وأسلافهم من الآباء والأجداد من الشرك والفسوق وأكل الربا والسحت فلجأوا إلى الافتراء والكذب والمكر والحيل والاستعانة بتخويف الملوك والحكام وأصحاب المناصب من فوات حظهم بظهوره فكتبوا إلى رئيس

ص: 801

الأحساء وبني خالد "سليمان بن محمد" لأن هؤلاء الشياطين والعياذ بالله عرفوا كيف يدخلون على أمير العيينة من جهته فهو يدور فِي فلكه وله عهد خارج ومصالح، وينقاد إلى أمره. فقالوا لأمير الأحساء فيما قالوه من الأكاذيب: إن عثمان بن معمر قد آوى مطوعا1، يريد إخراجكم من ملككم، وإثارة الناس عليكم، وأقل ما يقوله للعامة أن المكوس والعشور التي يأخذها الأمراء باطلة لايقرها الدين، وها هو يرجم امرأة من أجل الزنا بغير أذن منكم

إلى غير هذا من التحريش والبهتان. ولإثارة الملوك بما يثيرهم ويخوفهم مهما كان.

ويذكر ابن غنام أَنه لما جرت قضية إقامة حد الرجم في العيينة كثرة القيل والقال من أهل البدع والضلال وطارت قلوبهم خوفا وداخلهم من حصول تلك القضية مالم يعاينوا قبله مثله ولم يسمعوا به منذ زمن، وذلك لما ألفوه من الفواحش مقارنة لما كانوا عليه من الشرك، ثم لما أعياهم أن يردوا الحكم المشروع بالسنة والإجماع أمام الشيخ وأنصاره، لجأوا إلى ردها بالمكر والحيلة فشكوه إلى شيخهم الظالم سليمان آل محمد رئيس بني خالد والأَحساء وكان قبحه الله مغرما بالزنا مجاهراً به غير مختف بذلك، وحكايته في ذلك مشهورة وقصصه فيه غير محصورة، فأغروه به وصاحوا عنده وقالوا إن هذا يريد أن يخرجكم من ملككم،

1 المطوع اصطلاح في نجد أنه الَّذي يصلي بالناس ويكون عنده شيء من المعرفة.

ص: 802

ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور والإِمكاس والعشور1، فلما خوفوه بزوال محبوبه وتفويت مطلوبه كتب إلى عثمان يأمره بقتله أو إجلائه عن وطنه وألزم عليه وشدد وهدد.

وكذلك ابن بشر في تاريخه يذكر أن قضية الرجم كانت من الأمور التي استغلها أعداء الشيخ في التحريش عليه، قَال ابن بشر:"فلما صدرت منه هذا أعني رجم المرأة اشتهر أمره في الآفاق. فبلغ خبره سليمان بن محمد غرير الحميدي قائد الأَحساء والقطيف وما حوله من العربان وقيل له أن في بلد العيينة عالما فعل كذا وكذا وقال كذا وكذا فأرسل سليمان إلى عثمان كِتَاباً وقال: إن هذا المطوع الَّذي عندك فعل وفعل. وتهدد عثمان وقال اقتله فإن لم تفعل قطعنا خراجك الَّذي عندنا في الأَحساء وخراجه عندهم كثير"2.

أما ابن معمر فإنه انهزم أمام تهديد ابن غرير ولم يثبت على المبدأ والعهد، فخذل الشيخ واستجاب لداعي الشيطان.

1 روضة ابن غنام 2/ 2، 3.

2 ابن بشر عنوان المجد 1/ 10 وانظر تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني ص217، وتاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ تأليف حسين خلف الشيخ خزعل ص 141.

ص: 803

مواصلة الشيخ جهوده رغم خذلان ابن معمر له:

قَال ابن غنام إن ابن معمر " آثر الدنيا على الدين وسلك منهج المبطلين وأمر الشيخ بالخروج ولم يكن إلى قتله سلم ولا عروج، وذلك لما اقتضته الحكمة الإلهية والعناية الصمدانية من إحياء دارس السنة المحمدية والآثار السلفية فخرج الشيخ إلى بلد الدرعية "1.

ويفصل ابن بشر وصف حالة ابن معمر لما ورد عليه كتاب صاحب الأحساء بقوله " فلما ورد عليه كتابه، وما وسع مخالفته، واستعظم أمره في صدره، لأنه لم يعلم قدر التوحيد، ولا لمن نصره وقام به من العز والتمكين، في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة فأرسل إلى الشيخ وقال له: إِنه أتانا خط من سليمان قائد الأَحساء وليس لنا طاقة بحربه ولا إغضابه. فقال له الشيخ: إن هذا الَّذي أنا قمت به ودعوت إليه كلمة لا إله إلا الله وأركان الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أنت تمسكت به ونصرته فإن الله سبحانه يظهرك على أعدائك فلا يزعجك سليمان ولا يفزعك فإني أرجو أن ترى من الظهور والتمكين والغلبة ما ستملك به بلاده وما وراءها وما دونها " فاستحيا عثمان وأعرض عنه ثم تعاظم في صدره أمر صاحب الأَحساء وباع بالآجل العاجل. وذلك لما علم الله سبحانه الَّذي يعلم السر وأخفى يعز من يشاء

1 روضة ابن غنام 2/3.

ص: 804

ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أن نصر هذا الدين والظهور والغلبة والتمكين يكون لغيره، وعلى يد غيره، فأرسل إلى الشيخ ثانياً وقال: إن سليمان أمرنا بقتلك ولا نقدر على غضبه ولا مخالفة أمره لأنه لا طاقة لنا بحربه وليس من الشيم والمرؤة أن نقتلك في بلادنا فشأنك ونفسك وخل بلادنا" 1 اهـ.

مما نقلناه عن ابن غنام وابن بشر نتبين أن ابن معمر آثر الدنيا على الدين وباع العاجل بالآجل لما تعارض في صدره أمر صاحب الأحساء وأمر الله تعالى فأمر الشيخ بالخروج، وقد كان الشيخ يهيء ابن معمر لأمر عظيم، ويرجوه لمكان جليل، وملك عريض ولكن خاب الظن فيه، ولم ينفذ القتل الَّذي أمر فيه لأن الله تعالى أراد ظهور هذا الدين على يد غيره، وهو العليم الحكيم، يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران: 145) . أما الشيخ فانه كان رغم ما جرى له من خذلان ابن معمرله على ثقة من ربه، وقد قوى الله إيمانه حتى صغر في نفسه وفي ميزان إيمانه بعقيدة السلف الصالح أمر صاحب الأَحساء وخذلان ابن معمر له، واخراجه من الوطن والمال والأهل والمسكن وبقي لديه إيمانه بصحة عقيدة السلف الصالح وأَن الله ناصر دينه، وبقي حسن الظن بالله تعالى والثقة به وحده لا شريك له.

1 ابن بشر، عنوان المجد 1/ 10، 11.

ص: 805

قال الشيخ حسين بن غنام:

فقد جاءنا يدعو إلى الدين بعدما

عفى رسمه والأرض من نوره قفر

فجادله الأحبار فيما أتى به

من الحق والبرهان يكشفه السبر

ونوظر حتى الزم الخصم عجزه

وصار إليه الفلج والورد والصدر

فعودي بغياً واهتظاما ونصرة

لملة آباء عليها مضى العمر

وهموا بمالم يدركوا من وقيعة

فما ناله مما أرادوا به ضر

نفته العدا لما جفته أقارب

فآواه بل ساواه من خصه البر

فجاهد حتى أطلع الله بدره

بآل سعود حين شد له ازر1

والآن إلى الفصل الثاني. وهو: "بحث أثر عقيدة الشيخ في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها آل سعود".

1 روضة ابن غنام ج 2/ ص 240، وانظر: عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر،

ط المعارف ج1 ص 145،146.

ص: 806