المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الثاني - عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي - جـ ٢

[صالح بن عبد الله العبود]

الفصل: ‌الفصل الثالث: أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الثاني

‌الفصل الثالث: أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الثاني

قال الشيخ أحمد بن علي بن مشرف في قصيدة له:

واقسم قوم أَنها دولة مضت

وليس لما قد فات عود ولا رد

وقلنا لهم نصر الإله لحزبه

به جاء في القرآن والسنة الوعد

فعادت كما كانت بفضل ورحمة

من الله مولانا له الشكر والحمد

فهذا إمام المسلمين مؤيدا

له النصر والإِقبال والحل والعقد1

إنه رغم حلول النكبة وإِصابة المصيبة فإن عقيدة الشيخ السلفية لم تمت ولم تنته ولم تزل ولله الحمد، لقد أَتاح الله لعقيدة السلف الصالح، عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد ذلك الذي جرى نوراً ساطعا، وسيفاً لمن أثار الفتنة قاطعا، فكشف الله بسببه المحن، وشهره من غمده في رؤوس أهل الفتن، الإمام الوافي بالعقود والمتم للعهود تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود. وذلك بعد سنوات من حلول النكبة تقارب خمس سنوات أو ستا.

قال ابن بشر عن الإمام تركي: "أطفأ الله به نار الفتنة بعد اشتعال ضرامها وهان على كثير من الناس دينها وإسلامها كأنهم لم يكونوا حدثا بإسلام، ولم يجتمعوا على إمام، وتهاون كثير منهم بالصلاة، وأَفطروا في

1 ديوان ابن مشرف ص 47.

ص: 903

البلدان في شهر رمضان، وصار هذا الشهر العظيم عندهم كأنه جمادى أو شعبان وتعذرت بين البلدان الأسفار واتخذوا دعوى الجاهلية لهم شعارا، فحارب البلدان وقاتل العربان، ودعاهم إلى الجماعة والسمع والطاعة حتى ضرب الإسلام بجرانه وسكنت الأمة في أمنه وأمانه"1.

وكان من شأن الإمام تركي فيما يتعلق بنصره دين الله وعطفه على الرعية وحزمه مع أمرائه ما يذكره ابن بشر؛ قال: "لما خرج من الدهناء نزل على غدير يقال له وثيلان، فأمر على رؤساء النواحى أن يجتمعوا، فلما حضروا قام فيهم وذكرهم نعمة الله عَلَيْهِمْ بالاجتماع بعد الفرقة والأخوة بعد العداوة، والغنى بعد العَيْلَةِ، واعترف عند ذلك بنعمة الله عليه وضعفه وعجزه وتقصيره وحقر نفسه، ثم إِنه أَغلظ الكلام على الأمراء وتهددهم وتوعدهم عن ظلم الرعايا والأخذ منهم غير الحق، ثم قال وإنكم إذا ورد أمري عليكم بالمغزا؛ حملتموهم زيادة لكم، وإياكم وذلك فإنه ما منعني أن أجعل على أهل البلدان زيادة ركاب في غزوهم إلا الرفق بهم وإني ما حملتهم إلا بعض ما حملهم الذين من قبلي والله تعالى يقول:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وإنه إذا ورد عليكم أمري فرحتم بذلك لتأكلوا في ضمنه وصرتم كراصد النخل يفرح بشدة الريح ليكثر الساقطة عليه، واعلموا أني لا أبيحكم أن تأخذوا من الرعايا شيئا

1 انظر: تاريخ ابن بشر، عنوان المجد، ج2/ ص 8.

ص: 904

ومن حدث منه منكم ظلم على رعيته، فليس أدبه عزله بل أجليه عن وطنه.

ثم قال للرعايا: أيما أمير ظلمكم؛ فأخبروني، فقام أمير بريدة عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن حسن، فقال:"يا إمام المسلمين خص بقولك ولا تعم به فإن كنت نقمت على أحد منا فأخبره بفعله، فقال: إنما القول فيك وفي أمثالك، تحسبون أَنكم ملكتم البلدان بسيوفكم وإنما أخذها لكم وذللها سيف الإِسلام والاجتماع على إمام"1.

وكان من توفيق الله للإمام تركي أَن أتاح له شيخا من شيوخ العقيدة السلفية هو الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ قدم على الإمام تركي من مصر ففرح به الإمام وأكرمه، ووضعه بالمكان الرفيع وقربه إليه فأحيا الله به مدارس العلم بعد ما عطلت وتزينت بدروسه المساجد بعدما أقفرت وكان الشيخ من أعلام عقيدة السلف الصالح ومن علمائها العاملين، كان قد أخذ عن جده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في صغره، وولي القضاء في الدرعية زمن سعود وابنه عبد الله2. ثم أخذ مع من أخذ إلى مصر، ولكن الله تعالى منَّ عليه بالعودة سنة إحدى وأربعين ومائتين بعد الألف مع ما من به عليه من ثبات على

1 تاريخ ابن بشر، عنوان المجد، ج3 ص 44.

2 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر، ج1ص 94، ج2 ص 20.

ص: 905

العقيدة، وإِتاحة الناصر لها من آل محمد بن سعود وزاده الله في العلم النافع بسطة فاغتبط بطلعته المسلمون خاصهم وعامهم، وبذل وقته لطالبي العلم وانتفع بعلمه كثير من المستفيدين1.

قال ابن بشر عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "فممن انتفع به وتفقه عليه حتى صار قاضياً يرجع في الفتوى إليه من ذريته وذرية جده محمد بن عبد الوهاب عدد كثير منهم العالم الفاضل ابنه الشيخ عبد اللطيف قدم من مصر سنة أربع وستين ومائتين وألف ومعه كتب كثيرة وانتفع الناس بعلمه وكان عنده حلقة في التدريس وكان أخذ العلم عن أبيه في مصر وأخذ أيضاً عن غير أبيه واستعمله الإمام فيصل قاضيا في الأحساء، ثم كان قاضياً مع أبيه في الرياض، وتفقه على الشيخ عبد الرحمن بن حسن أيضاً الشيخ العالم عبد الرحمن بن القاضي حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان قاضياً في ناحية الخرج، وتفقه عليه أيضاً الشيخ العالم الفقيه حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاضي الإمام تركي في الرياض، ولم تطل مدته مات شاباً سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، وتفقه عليه أيضاً الشيخ العالم عبد الملك بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب القاضي في حوطة بني تميم للإمام فيصل، وتفقه عليه أيضاً الشيخ حسين بن حمد بن حسين بن الشيخ محمد

1 المصدر السابق ج2 ص 20.

ص: 906

ابن عبد الوهاب القاضي في الحريق للإمام فيصل، وتفقه عليه أيضاً الشيخ حسين بن علي بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب القاضي في الرياض للإمام فيصل، وتفقه عليه أيضاً الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأخذ عنه ممن لم يل القضاء من ذرية الشيخ، وهو الآن في طلب العلم يترقى: حسن بن علي بن حسين، وأبناء الشيخ محمد بن علي بن الشيخ، وهم: عبد الله وعبد العزيز وعلي وعبد الرحمن وأبناء القاضي علي بن حسين وهما: عبد الله وحسن".

وقد أخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن من غير قرابته من علماء نجد عدد كثير وجم غفير ممن ولي القضاء وغيرهم، فمنهم العالم الشيخ عبد العزيز بن القاضي عثمان بن عبد الجبار بن شبانه قاضي بلدان منيخ1، والزلفي والغاط للإمام تركي ثم لابنه فيصل وأخذ عنه أيضاً العالم الشيخ عبد الله بن نصير القاضي في الرياض للإمام تركي ثم في ضرما، وأخذ عنه الشيخ ناصر بن عيد القاضي للإمام تركي في بلد الحلوة وأخذ عنه أيضاً الشيخ محمد بن سلطان قاضي بلد عرقه للإمام تركي ثم لابنه فيصل وأخذ عنه الشيخ عبد الرحمن بن حمد الثميري القاضي في سدير للإمام تركي ثم كان قاضياً في الزلفي للإمام فيصل وأخذ عنه الشيخ عبد

1 منيخ اسم كان يطلق على المجمعة وما حولها من واديها (معجم اليمامة ج2/

ص 402) .

ص: 907

الله بن جبر القاضي في منفوحة وأخذ عنه الشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف القاضي في جبل شمر عند ابن رشيد، وأخذ عنه العالم عبد العزيز بن حسن بن يحيى القاضي في حريملاء والمحمل للإمام فيصل، وأخذ عنه الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان القاضي في الحريق وأخذ عنه الشيخ عبد الله ابن علي بن مرخان القاضي في ضرما للإمام فيصل، وأخذ عنه أيضاً الشيخ حمد بن عبد العزيز بن القاضي محمد بن عبد العزيز قاضي بلد ثادق للإمام فيصل وأخذ عنه الشيخ عبد الرحمن بن عدوان.

وأما من أخذ عنه ممن لم يل القضاء فعدد كثير ونفع الله الطلبة بعلمه بحيث إن الطالب لا يلبث إلا يسيراً عنده حتى يكون فائقا بفهمه فضربت إليه أَباط الإبل من أقطار نجد والأحساء وظهرت آثار بركات علمه وتعليمه" 1.

وللشيخ عبد الرحمن بن حسن المؤلفات والفتاوى والرسائل المشهورة، والتي عمرت بها المدارس من بعده مثل "فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد"، وهو تهذيب واختصار لشرح التوحيد المسمى "تيسير العزيز الحميد" للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ، و"قرة عيون الموحدين"، وردود كثيرة على أهل الشبه وأعوان الباطل.

يقول ابن بشر: "وقد صنف الشيخ عبد الرحمن بن حسن مصنفات في الأصول والفروع أكثرها رد على أهل المقالات ومن غالط منهم في

1 ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد 2/ 21، 22.

ص: 908

الصفات، وله مصنف فيما يحل ويحرم من الحرير، فمن طالعه دله على علمه الغزير".

ويقول ابن بشر: "كتبت له مرة، ودعوت له في آخرالكتاب، وقلت في ختام الدعاء: إنه على ما يشاء قدير. فكتب إلي وقال في أثناء جوابه إِن هذه الكلمة اشتهرت على الألسن من غير قصد، وهو قول الكثير إذا سأل الله تعالى؛ قال: وهو القادرعلى ما يشاء، وهذه الكلمة يقصدون بها أهل البدع شراً، وكل ما في القرآن: وهو على كل شيء قدير، وليس في القرآن والسنة ما يخالف ذلك أصلا لأن القدرة شاملة كاملة وهي والعلم صفتان شاملتان يتعلقان بالموجودات والمعدومات وإنما قصد أهل البدع بقولهم وهو القادر على ما يشاء، أي إِن القدرة لا تتعلق إلا بما تعلقت به المشيئة" انتهى.

وقال ابن بشر: " وكتبت إليه مرة أهنيه بقدوم ابنه الشيخ عبد اللطيف من مصر وتوسلت إلى الله في دعائي بصفاته الكاملة التي لا يعلمها إلا هو فكتب إلي فقال: وقد ذكرت وفقك الله في وسيلة دعوتك جزاك الله عني أحسن الجزاء عن تلك الدعوات قلت وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت. فاعلم أيها الأريب الأديب أَن الذي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة وأما الصفة فيعلمها أهل العلم بالله كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، ففرق هذا الإمام بين ما يعلم من معنى الصفة على ما يليق بالله فيقال استواء لا يشبه استواء

ص: 909

المخلوق ومعناه ثابت لله كما وصف به نفسه وأما الكيف فلا يعلمه إلا الله فتنبه لمثل هذا فالإمام مالك تكلم بلسان السلف.

يقول ابن بشر: "فانظر إلى سعة علومه واطلاعاته، ومفهومه وما لديه من التحقيق والتدقيق، وكان كثيراً ما يتعاهد أهل بلدان نجد بالمراسلات والنصائح يعلمهم ما يجب عليهم من أمر دينهم ويذكرهم نعمة هذا الدين، واجتماع شمل أهل الإسلام عليه، وما منَّ الله به على أهل نجد في آخر هذا الزمان"1.

ويقول ابن بشر عن رسالة للشيخ عبد الرحمن بن حسن: "وورد علينا منه رسالة بعثها إلى بلدان نجد وأحببت أن أذكرها في ترجمته لأنه ذكر فيها بَدْءَ أمر الشيخ جده محمد بن عبد الوهاب وأول ظهور هذا الدين على يديه في نجد، وأوردها كما أوردها ابن بشر للغرض نفسه ولتأكيد وراثة الشيخ عبد الرحمن بن حسن لجده الشيخ محمد في حمل عقيدة السلف الصالح ونشرها والتأثير على الناس في العودة إلى دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكأنها بيان للخطة التي يسير عليها عالم الدولة في دورها الثاني.

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك

1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج2 ص 22-23.

ص: 910

نستعين، وصلى الله على محمد سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد: فالذي أوجب هذا الكتاب ذكر ما أنعم الله به عليكم من نعمة الإسلام الذي عرفكم به وهداكم إليه وتسمون به فلا يعني باسم المسلمين إلا أنتم وما أعطاكم الله تعالى في هذا الدين من النعم أكثر من أن تحصر لكن منها نعم كل واحدة منها حصولها نعمة عظيمة لأن المعارض لها قوي جدا أولها كون الدعوة إلى دين الإسلام ما قام في بيانها والدعوة إليها إلا رجل واحد فلما شرح الله صدره واستنار قلبه بنور الكتاب والسنة وتدبر الآيات وطالع كتب التفسير وأقوال السلف في المعنى والأحاديث الصحيحة سافر إلى البصرة ثم إلى الأحساء والحرمين لعله أن يجد من يساعده على ما عرف من دين الإِسلام فلم يجد أحدا، كلهم قد استحسن العوائد وما كان عليه غالب الناس في هذه القرون المتأخرة إلى منتصف القرن الثاني عشر، ولا يعرف أن أحدا دعا فيها إلى توحيد الله وأنكر الشرك المنافي له، بل قد ظنوا جواز ذلك واستحبابه وذلك قد عمت به البلوى من عبادة الطواغيت والقبور والجن والأشجار والأحجار في جميع القرى والأمصار والبوادي وغيرهم فما زالوا كذلك إلى القرن الثاني عشر فرحم الله كثيراً من هذه الأمة بظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وكان قد عزم وهو بمكة أن يصل الشام مع الحاج فعاقه عائق فقدم المدينة وأقام بها ثم إِن العليم الحكيم رده إلى

ص: 911

نجد رحمة لمن أراد أن يرحمه بمن يؤويه وينصره وقدم على أبيه وصنوه وأهله ببلد حريملاء فبادأهم بالدعوة إلى التوحيد ونفي الشرك والبراءة منه ومن أهله، وبين لهم الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وكلام السلف فقبل منه من قبل - وهم الأقلون - وأما الملأ والكبراء الظلمة الفسقة؛ فكرهوا دعوته فخافهم على نفسه وأتى العيينة وأظهرالدعوة بها وقبل منه كثير منهم حتى رئيسهم عثمان بن حمد بن معمر، ثم إن أهل الأحساء - وهم خاصة العلماء - أنكروا دعوته وكتبوا شبهات تبين جهلهم وضلالهم وأغروا به شيخ بني خالد فكتب لابن معمر أَن يقتل هذا الشيخ أو يطرده فما تحمل مخالفته فنفاه من بلده الدرعية فتلقاه محمد بن سعود بالقبول وبايعه على أن يمنعه مما يمنع منه أهله وولده وهذا أيضاً نعمة عظيمة وكون الله أتاح له من ينصره ويؤويه والذي أقوى من ابن سعود لم يحصل منه ذلك وصبر محمد على عداوة الأقصى والأدنى من أهل نجد والملوك من كل جهة وبادأهم دهام ابن دواس بالحرب فهجم على الدرعية على حين غفلة من أهلها وقتل أولاد محمد فيصل وسعودا فما زاد محمدا إلا قوة وصلابة في دينه على ضعف منه وقلة في العدد والعدة وكثرة من عدوهم وذلك من نعمة الله علينا وعليكم فرحم الله هذا الشيخ الذي أقامه الله مقام رسله وأنبيائه في الدعوة إلى دينه ورحم الله من آواه ونصره فلله الحمد على ذلك.

وفيما جرى من ابن سعود شبه مما جرى من الأنصارفي بيعة العقبة.

ص: 912

ثم إِن بني خالد وأهل نجد وأهل العراق والأشراف والبوادي وغيرهم تجردوا لعداوة هذا الشيخ ومن كان آواه ونصره وأَقبلوا على حربهم بجدهم وجنودهم فأَبطل الله كيد من عاداهم وكل من رام من هؤلاء الملوك وأعوانهم أن يطفيء هذا النورأطفأ الله ناره وجعلها رمادا وجعل كثيراً من أموالهم فيئا للمسلمين. وهذه عبرة عظيمة ونعمة جسيمة.

ثم إِن الله بفضله وإحسانه أظهر هذا الدين في نجد وأذل من عاداه فعمت النعمة أهل نجد ومن والاهم شرقا وغرباً وحفظ الله عليكم نعمة الإسلام التي رضيها سبحانه لعباده دينا فلم يقدر أحد أن يقدرها بقوته وقدرته فاشكروا ربكم وأَقبلوا على التوحيد تعلما وتعليما والأمر بما يحبه من طاعته والنهي عما نهى الله عنه من المعاصي.

فالواجب علينا وعليكم التواصي بهذه النعمة العظيمة والتنافس في هذا الدين الذي منَّ الله به عليكم وهو الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه وأكمله ورضيه لعباده كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} الآيات. فاحذروا نسيان ربكم عما افترضه عليكم وأَقبلوا على توحيده وطاعته واطلبوا بذلك الجنة والنجاة من النار فكونوا أئمة في هذا الدين الذي هو معنى "لا إله إلا الله" وقد بين الله معناه في آيات كثيرة من كتابه فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه وممن فعله وإِخلاص العبادة لله وحده وذلك في

ص: 913

آي كثير فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فقوله فأقم وجهك، فيه الإِخلاص وحنيفاً فيه نفي الشرك ولا تكونن من المشركين فيه البراءة منهم ومن دينهم- قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} " والآيات في معنى لا إله إلا الله أكثرمن أن تحصر كقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} .

والمراد فتح الباب لكم في معنى التوحيد الذي فيه الفلاح والنجاة وصلاح الدنيا والآخرة فلا تنسوا ربكم بالإِعراض عن الهدى فينسيكم أنفسكم، ومن عقوبة الإعراض عمى البصر في الدنيا والآخرة ولا باق معكم إلا دينكم لمن من الله عليه بحفظه والإِقبال عليه والعمل به وإِلا تفهمون أن الدنيا ما للإنسان منها إلا ما كان لله، وغير ذلك زائل. هذا ما نوصيكم به وندلكم عليه عامة والعلماء والأمراء خاصة.

فيجب عليكم أن تكونوا صدراً في هذا الدين بالرغبة فيه والترغيب وأن تكونوا سندا وعونا لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ويتفقدون أهل بلدهم في صلاتهم وتعليمهم دينهم وكفهم عن السفاهة وما يحرم عليهم لأن الله سائلهم عنهم ومن أحب شيئا أكثرمن ذكره.. وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين" 1.

وللشيخ عبد الرحمن بن حسن ردود ونصائح ورسائل وفتاوى

1 عنوان المجد ج 2 ص 23-26.

ص: 914

كثيرة في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية والدرر السنية في الأجوبة النجدية التي جمعها ابن قاسم وكلها في شرح عقيدة السلف الصالح وبيانها والرد على من عارضها وألصق فيها التهم وشبه عليها.

وقد بارك الله في عمر الشيخ عبد الرحمن بن حسن كما بارك في علمه.

قال عبد الرحمن بن عبد اللطيف في تعليقه على عنوان المجد: "عاصر الشيخ عبد الرحمن بن حسن ستة من ملوك آل سعود الذين تعاقبوا على الحكم وهم الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وابنه سعود ابن عبد العزيز وابنه عبد الله بن سعود بن عبد العزيز ثم الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود وابنه الإمام فيصل بن تركي وابنه عبد الله بن فيصل بن تركي ومات الشيخ عبد الرحمن في أول حكم عبد الله بن فيصل سنة (1285هـ) رحمه الله تعالى"1.

وفي هذه المدة كلها كان الشيخ عبد الرحمن بن حسن وريث جده وشيخه في العلم والعمل، كما كان الإمام تركي وابنه فيصل وريثي جدهما محمد بن سعود وأبنائه الأئمة في مناصرة دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن خرب أهل البغي مدينة الدرعية وحضارتها الإسلامية وبعد أن ظن الناس كل الظن أن لا رجوع لهم فالحمد لله الذي لا إله إلا هو، صدق

1 هامش ص 266 من جزء (1) من عنوان المجد، ط المعارف 1387 هـ.

ص: 915

وعده، وجعل العاقبة للمتقين وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال ويأتي أمر الله فتنتهي الدنيا وتقوم الساعة وتأتي الآخرة والله المستعان.

هذا؛ وقد ساعده على حمل راية العلم والسنة ابنه الشيخ عبد اللطيف فقد كتب رسائل كثيرة في بيان عقيدة السلف الصالح التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورد ما ألصق فيها من تهم باطلة وخصص "جامع الرسائل والمسائل النجدية" الجزء الثالث من مجموعة الرسائل والمسائل لبعضها، فبلغت ستاً وسبعين رسالة في أربعمائة وثلاث وخمسين صفحة (453) وهي ليست كل رسائله ومؤلفاته وفتاويه فهي كثيرة موزعة في أجزاء مجموعة الرسائل والمسائل النجدية الأخرى وفي الهدية السنية جزء منها وفي الدرر السنية منها كثير.

وعلى سبيل المثال ألخص فصلا كتبه الشيخ عبد اللطيف في سيرة جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعقيدته فقال: "قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة والمقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء والنبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين وأهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز وصحت بها الأخبار النبوية وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها،

ص: 916

ويمرونها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان وسلف الأمة وأئمتها.

وفي توحيد العبادة والإلهية فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه، فقد دعا إلى أصل الإسلام وقاعدته شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان وأفضل شعبه في العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين.

ثم أخذ الشيخ عبد اللطيف يفصل هذه الجملة، ويستدل بالآيات الكريمة ويبين الأنواع التي تدخل في العبادة وضدها، وبين أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلما بل هوحجة على ابن آدم، وبيّن مسألة التكفير، وأن الشيخ فيها على ما كان عليه العلماء قاطبة كما هو مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة، بل إن الشيخ لم يكفر أحدا إلا بما أجمع عليه العلماء وهو ترك التوحيد، وبين مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقالات والنحل، وأن الشيخ فيها على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى والدين، وبين عقيدة الشيخ في القرآن، وَرَفْض الشيخ للبدع الصوفية وغيرها، وبين تقرير الشيخ على شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه؛ من تجريد المتابعة، والقيام بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم من الحب والتوقير

ص: 917

والنصرة والطاعة، وتقديم سنته على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث وقفت في أصول الدين وفروعه باطنه وظاهره، ثم صار يبين مآثر الشيخ ومناقبه، ثم أورد الشيخ عبد اللطيف ما قاله أبو الحسن الأشعري من جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة من المعتقد1.

وقد لخصت هذا عن الشيخ عبد اللطيف في هذا الموضع لبيان أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيهم وأنهم حملوها بقوة في العلم والحجة والسلطان رحمهم الله تعالى.

وفي هذا المجال نذكر من قضاة الإمامين تركي وفيصل الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، فله مكان كبير من أثر عقيدة الشيخ ونشرها والدفاع عنها تجاه أباطيل المغرضين والأعداء وله رسائل وفتاوى في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، وقد أفرد بعضها مثل الرد على داود بن سليمان بن جرجيس طبع بمطبعة الحلبي سنة 1344هـ وقد توفى سنة 1282هـ رحمه الله تعالى، وسبق أن عينه الإمام سعود بن عبد العزيز قاضياً على الطائف وملحقاته عام 1220هـ2.

ولا ننسى عالماً من علماء عقيدة السلف الصالح ومن مشائخ الدعوة إليها وارثي الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن طريق سنده المتصل إليه،

1 انظر: الهدية السنية، ط المنار، الرسالة الرابعة ص 88-100. وانظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدبة ج3 ص 367-377.

2 علماء نجد خلال ستة قرون ج2/ 567-573.

ص: 918

ذلك العالم هوالشيخ الإمام العلامة الثقة في العقيدة والهمة والشجاعة حمد ابن علي بن محمد بن عتيق أخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف والشيخ علي بن حسين وغيرهم، وبرع في العلوم وكان له حظ من المعرفة، وإقدام وشهامة وعبادة وتهجد وطول صلاة ولهج بالذكر، شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه والحث عليه1 وهو الذي يعنيه الشاعر محمد بن عثيمين وهو يرثي ابنه الشيخ

سعد بن حمد بقوله:

بَنَى لكم حَمَدٌ ياللعتيق علا

لم يبنها لكم مال ولا خطر

لكنه العلم يسمو من يسود به

على الجهول ولو من جده مضر2

ويقول فيه الشيخ سليمان بن سحمان:

يعز علينا أن نرى اليوم مثله

لحل عويص المشكلات البوادر

وللشبهات المعضلات وردها

إذا ما تبدت من كفور مقامر

فلِلَّهِ من حبر تصعد للعلى

فحل على هام النجوم الزواهر

إلى أن قال:

ويقفو لآثار النبي وصحبه

يجدد من منهاجهم كل داثر

ويحيى علامات من العلم قد عفت

ويعمر من بنيانه كل دامر

1 الدرر السنية

ج12/ ص 77-79.

2 العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين ص 480.

ص: 919

إمام تزيَّى بالعبادة فاستما

بها وارتقى مجدا سَمِيَّ المظاهِر

إلى أن قال:

عليم بفقه الأقدمين محقق

وقد كان ذا علم بفقه الأواخر

وقد حاز في علم الحديث محلة

تسامى بها فوق النجوم الزواهر1

ولي مناصب القضاء في عهد حكم الإمام فيصل بن تركي في الخرج ثم في الحوطة ثم في الأفلاج. وأخذ عنه العلم ابنه الشيخ سعد وابنه الشيخ عبد العزيز وابنه الشيخ عبد اللطيف وأخذ عنه الشيخ الحبر عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ سليمان بن سحمان وغيرهم خلق كثير2.

وله مؤلفات جيدة منها كتاب "إبطال التنديد باختصار شرح التوحيد" وهو حاشية على "كتاب التوحيد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و"بيان النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك" و"الرد على ابن دعيج"، و"الفرقان المبين بين مذهب السلف وابن سبعين" وله رسائل ونصائح ومكاتبات مع أعيان البلاد من حكام وعلماء من أجل الدعوة والإصلاح.

وتوفي على رأس القرن سنة 1301هـ 3 ورثاه تلميذه الشيخ

1 ديوان بن سحمان ص 286-287.

2 الدرر السنية ج12 ص 78-79.

3 مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب إبطال التنديد بقلم اسماعيل بن سعد آل عتيق ص 4.

ص: 920

سليمان بن سحمان بقصيدة مطلعها:

على الحبر بحر العلم بدر المنابر

وشمس الهدى فليبك أهل البصائر

ومنها:

فما حمد في العلم إلا متوج

حميد المساعي مشمعل المآثر1

ويحسن أن نذكر في هذا الدور شيخا من الأحساء وشاعراً مجيدا قد تأثر أثراً طيباً وإيجابياً بعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، هو الشيخ الفقيه المحدث الأديب السلفي أحمد بن علي بن حسين بن مشرف الوهيبي، ولد بالأحساء في أوائل القرن الثالث عشر الهجرى، ولما بلغ من النمو أشده وتلقى العلم في ذلك العهد المبارك، عهد إشراق شمس التوحيد وعقيدة السلف الصالح بدعوة الشيخ محمد ونصرة آل سعود، أدرك في سائر العلوم إدراكاً طيباً ونظم مقدمة "رسالة ابن أبي زيد القيرواني"، وهي مقدمة مختصرة مفيدة في عقيدة السلف الصالح نظمها نظماً طريفاً ليسهل حفظها على طالبيها واختصر "صحيح الإمام مسلم" ثم توفي في بلدته الأحساء في سنة 1285هـ2.

وهو صاحب الديوان المسمى " ديوان ابن مشرف في العقائد والتوحيد والفقه والأدب"، وطبع بمطبعة السنة المحمدية، ونشره إبراهيم

1 ديوان بن سحمان ص 287.

2انظر: ترجمته بقلم محمد حامد الفقي- في أول ديوان ابن مشرف ص- د- و.

ص: 921

المحمد الضبيعي ومحمد العبد الله الحواسي، عام 1370هـ، ونورد من ديوانه قطعة من قصيدة جيدة، وسببها أَنه في السنة التاسعة والستين بعد المائتين والألف حدث أَن استولى عايض بن مرعي العسيري على اليمن وأرسل بهدية للإمام فيصل بن تركي ومعها قصيدة لقاضيهم علي بن الحسين الحفظي ومن هذه القصيدة قوله يوصي المرسول:

وأشرف على وادي اليمامة قائلا

ودمعك سفاحاً على الخد والثدى

سلام على عبد العزيز وشيخه

وتابع رشد للإمام المُمَجَّدِ

دعا الناس دهراً للهدى فأجابه

فئام فمنهم عالمون ومقتدى

وقفاهما حذوا سعود بسيفه

مميّزٌ مجوَدِّ النقود من الردي

وعرِّجْ بها ذات اليمين وقد هوت

على عرصات للرياض بمقصِدِ

وناد بأعلا الصوت بشرى لفيصل

ومن نسل سادات الملوك مسدد

إلى آخر القصيدة فأجابه عن الإمام فيصل الشيخ أحمد بن علي بن مشرف بقصيدة كما ذكرت، ضمنها مدح آل سعود على إيوائهم الشيخ ونصرتهم للتوحيد، منها:

هموا نصروا التوحيد بالبيض والقنا

فنال المنى بالنصر كل موحد

وآووا إماماً قام لله داعياً

يسمى بشيخ المسلمين محمد

لقد أوضح الإسلام عند اغترابه

وقد جد في اخفائه كل ملحد

وجدد منهاج الشريعة إذ عفت

فأكرم به من عالم ومجدد

وأحيا بدرس العلم دارس رسمها

كما قد أمات الشرك بالقول واليد

وكم شبهة للمشركين أزاحها

بكل دليل كاشف للتردد

ص: 922

وألف في التوحيد أوجز نبذة1

بها قد هدى الرحمن للحق من هدى

نصوصاً من القرآن تشفى من العمى

وكل حديث للأئمة مسند

فوازره عبد العزيز ورهطه

على قلة منهم وعيش منكد

فما خاف في الرحمن لومة لائم

ولم يثنه صولات باغ ومعتد

وقفى سعود إثره طول عمره

إلى حين ووري في الصفيح الملحد

وقد جاهدوا في الله أعداء دينه

فما وهنوا للحرب أو للتهدد

إلى أن قال:

وكم سنة أحيوا وكم بدعة نفوا

وكم هدموا بنيان شرك مشيد

إلى أن قال:

وكم لهم من وقفة شاع صيتها

بها أيد الرحمن سنة أحمد

وكم فتحوا من قرية ومدينة

ودانت لهم بَدْوٌ وسكَّان أَبْلُدِ

وكم ملكوا ما بين ينبع بالقنا

ومابين جعلان2 إلى جنب مربد

ومن عدن حتى تنيخ بأيلة

قلوصك من مبدأ سهيل إلى الجدي

وقد طهروا تلك الديار وطردوا

ذوى الشرك والإفساد كل مطرد

بأمر بمعروف ونهي عن الردى

وبالصلوات الخمس للمتعبد

1 يعني كتاب التوحيد الذي ألفه الشيخ.

2 جعلان: بلد في عمان في الجنوب منه، ومربد: يقصد مربد البصرة وعدن في اليمن والجنوب، وأيلة بالشام. والشيخ الشاعر يذكر حدود مملكة آل سعود من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب إلى الشمال.

ص: 923

وقد هدموا الأوثان في كل قرية

كما عمرت أيديهموا كل مسجد

إلى آخر القصيدة وهي طويلة جدّاً1

ومما قال رحمه الله في قبة عين نجم بالأحساء بعد أن هدمت بأمر الإمام فيصل رحمه الله سنة 1277هـ:

فغادروها كبنيان الذين بنوا

على شفا جرف للشك والرين

بأمر وال طبيب في رعيته

مبارك الأمر محمود الفِعَاليْن

إذ قام يحمي من التوحيد

جانبه وما أصاخ لأهل الزور والمين

لكن أطاع هداة المسلمين بما

أَفتوا وسل حساما ذا غرارَيْنِ

إلى قوله:

فقال كم قبة للشرك قد هدمت

بسيفنا في عمان والعراقين

فكيف نرضى بها تبنى مشيدة

فى أرضنا وهي ما بين الخميسين

جزاه ربي بنصر الدين نصرته

ونال من رحمة الرحمن كفلين2

وقال في الإمام فيصل سنة 1263هـ قصيدة مطلعها:

إلى الله نشكو حادثات النوائب

ودهراً دهانا صرفه بالعجائب

إلى أن قال:

وساءلت هل في دهرنا من مساعد

على جبر مطلوب وإسعاف طالب

فلم أر إلا الألمعي أخا الندا

إمام الهدى نسل الكرام الأطايب

1 انظر: ديوان ابن مشرف، ص 56-59.

2 ديوان ابن مشرف، ص 28-29.

ص: 924

كريم المساعي فيصل من يراعه

على طرسه يحكي هتون السحائب

فيممت من أرض هجر عشية

وأَعملت عيسَ اليعملاتِ النجائبِ

إلى آخرها1، وقد مدح الإمام فيصل بما هو أهل له من الكرم وتجديد معالم الدين على ضوء ما فعله أسلافه الميامين2

وكان عثمان بن سند البصري قد أنشأ قصيدة أَقذع فيها بسَبِّ المسلمين وشمت بهم حين نزل إبراهيم باشا الدرعية وقال يخاطب إبراهيم باشا:

لقد فُتحت للدين أَعينه الرمد

لدى لاح من بين السيوف له السعد

فأجابه الشيخ أحمد بن مشرف بقصيدة عصماء كبحهُ بها وذلك في عهد الإمام فيصل ومطلعها:

أليلٌ غَشَا الدنيا أم الأفق مسودُّ

أم الفتنةُ الظلماءُ قد أَقبلتْ تعدُو

إلى أن قال:

وقد أقذعَ البصريُّ في ذمِّ شيخنا

وأنصاره، تباً لما قالهُ الوغد

أيهجو إماما هادياً أرشد الورى

إلى منهجِ التوحيد فاتضح الرشد

وبَصَّرهم نهجَ المحجة فاهتدوا

وآبوا إلى الإسلام من بعد أن صدوا

إلى أن قال:

فلما مضت تلك العصابة لم يقم

بَعَدْلِهُمُ مَنْ ضَمَّهُ الشام والسِّنْد

ـ1 انظر: ديوان ابن مشرف ص 39-40.

2 انظر: الديوان، ص 39-42 وص 47-52 وص 59-69، وص 72.

ص: 925

ولكن فشا فيها الزنى وبدا الخنا

فلم تنكر الفحشا ولم يقم الحد

فكم فتنة عمت وكم طَلَّ من دم

حرام وكم ضلت عصائب وارتدوا

وكم قطع السبل البوادى وأَفسدوا

فصاروا بها مثل الذئاب التي تعدوا

فإن كان هذا عنده الدين والهدى

فقد فتحت للدين أعينه الرمد

الخ 1.

أسباب نهاية الدور الثاني لدولة أنصار عقيدة الشيخ:

لقد حصل خلل في التمسك بعقيدة السلف الصالح من الأمر بالاجتماع ونبذ الفرقة والاختلاف بسبب ما جرى من فتنة بين المسلمين وخروج بعضهم على بعض قد جرت له بيعة وانعقدت له ولاية شرعية في الجملة وقد وصف لنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن كيف كان أول هذه الفتنة في رسالته إلى الشيخ حمد بن عتيق2 وفى غيرها3 وصفاً دقيقا حكيماً صادقا لأنه رحمه الله عايش تلك الأمور واتفق أن وقعت الفتنة والشقاق في زمنه وهو العالم الخبير، وقد أدرك رحمه الله تعالى ببعد فراسته وصدقها أن من وراء تلك الفتنة أصابع الدولة العثمانية، لا بل أصابع أعداء الإسلام المتسترين بثياب الناصحين، وكثيراً ما يجري من الماكرين الاستحواذ على السلطات بالمخادعة والنفاق، وهم أعداء ألِدّاءَ

1 انظر: الديوان، ص 45-47.

2 مجموعة الرسائل

ج3 ص 273-276.

3 المصدر السابق، ص 162-172، وص 69-72.

ص: 926

لعقيدة أصحاب السلطة، فكان الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في كثير من رسائله يقيم الحجج والبراهين على وجوب معاداة العساكر التي أرسلت باسم الدولة التركية لإِبطال التوحيد ومستشاريهم الذين غايتهم بث الشبه والشكوك في العقيدة، فكان رحمه الله يبين وجوب البراءة من هؤلاء الأعداء ومجاهدتهم وهجرهم ومقاطعتهم وتحريم موالاتهم ومساكنتهم ومساكنة أنصارهم والاجتماع بهم في كل ذلك يجاهد جهاد دفاع 1 وجهاد اتباع يجاهد الابتداع.

ويهمنا في هذه النقطة أن نبين أثر عقيدة الشيخ السلفية حين تستقر في النفوس وأثر مخالفتها، فيحسن أن نقتبس من قصيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أبياتاً تصف لنا بدقة أثر مخالفة عقيدة السلف الصالح في تلك الفترة فقال:

ودارت على الإسلام أكبر فتنة

وسلت سيوف البَغْي من كل غادر

وذلت رقاب من رجال أعزة

وكانوا على الإسلام أهل تناصر

وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق

تزورهموا غرثى السباع الضوامر

وهتك ستر للحرائر جهرة

بأيدى غواة من بواد وحاضر

وجاءوا من الفحشاء مالا يعده

لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر

إلى أن قال:

وقد جاءهم فيما مضى خير ناصح

إمام هدى يبنى رفيع المفاخر

1 المصدر السابق ص 179- 181، وص 256-262.

ص: 927

وينقذهم من قعر ظَلْمَا مُضِلَّةٍ

لسالكها حر اللظى والمساعر

ويخبرهم أن السلامة في التي

عليها خيار الصحب من كل شاكر

فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى

أكابرهم كنز اللهى والذخائر

سعواجهدهم في هدم ما قد بنى لهم

مشائخهم واستنصروا كل داغر

وساروالأهل الشرك واستسلموالهم

وجاءوا بهم من كل أفك1 وساحر

ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة

تهدم من ربع الهدى كل عامر

وباؤوا من الخسران بالصفقة التي

يبوء بها من دهره كل خاسر

وصار لأهل الرفض والشرك صولة

وقام بهم سوق الردى والمناكر

وعاد لديهم للواط وللخنا

معاهد يغدو نحوها كل فاجر

وشتت شمل الدين وانْبَتَّ حَبْلُه

وصار مضاعاً بين شر العساكر

وأَذَّنَ بالناقوس والطبل أهلها

ولم يرض بالتوحيد حزب المزامر

وأصبح أهل الحق بين معاقب

وبين طريد في القبائل صائر2

إلخ قصيدته رحمه الله.

وإنها تشخيص ممن شاهد الداء، ويصف الدواء بقوله:

"وكلما حصل لهذه الطائفة قوة وسلطان في جهة أو بلد حصل من الملك والعز والظهور لهم بقدر تمسكهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك صار لشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ولطائفته وأنصاره من الملك

1 أفك على وزن أشر أى كثير الإفك.

2 الدرر السنية، ج7 ص 89 1، 0 9 1.

ص: 928

والظهور والنصر بحسب نصيبهم وحظهم من متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتمسك بدينه فقهروا جمهور العرب من الشام إلى عمان ومن الحيرة إلى اليمن، وكلما كان أتباعهم وأنصارهم أقوى تمسكاً كانوا أعز وأظهر وربما نال منهم العدو وحصل عليهم من المصائب ما تقتضيه الذنوب والمخالفة والخروج عن متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم وما يعفو الله عنه من ذلك أكثر وأعظم، والمقصود أن كل خير ونصر حصل وعز وسرور اتصل، فهو بسبب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم أمره في الفروع والأصول1.

ومن المشائخ الذين لهم تأثير حسن رغم ضعف المناصر في شرح عقيدة السلف الصالح في الحجاز الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى المتوفى عام 1328هـ قاضى المجمعة في مطلع القرن الرابع عشر الهجري وصاحب المؤلفات التالية:

1-

"الرد على المدراسى والسندي والحلبي" في "مجموعة الرد الوافر".

2-

"شرح نونية ابن قيم الجوزيه".

3-

"الرد على ما جاء في تاريخ خلاصة الكلام عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته لدحلان".

4-

" الرد على شبهات المستعينين بغير الله تعالى ". ألفه عام

1 مجموعة الرسائل والمسائل ج4 ص 443-444 وج 3 ص 198.

ص: 929

1294هـ بمكة نشر محمد نصيف طبع دار مصر للطباعة بدون تاريخ

(61 ص) .

قال عنه الشيخ محمد نصيف في ترجمته له في أول مؤلفه "الرد على شبهات المستعينين بغير الله تعالى" المذكور: كان رحمه الله يشتغل إلى جانب عمله في القضاء بالتجارة، وغالب تجارته في الأقمشة القطنية، جالس أمير مكة الشريف عون الرفيق بن محمد بن عون المتوفى عام 1323هـ فأَقنعه بهدم القباب المشيدة على قبور الصالحين في مكة وجدة والطائف إلا قبة القبر المزعوم أَنه قبر حواء، أم البشر في جدة، وقبة السيدة خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقبة قبر آمنة المزعوم أنه في مكة، وقبة قبر ابن عباس بالطائف، فإِنه لم يهدمها خوفاً من السلطان عبد الحميد العثماني أن يعزله من الإمارة، فالسلاطين والملوك يبنون القباب على قبور الصالحين وقبور أجدادهم، وقد رأيتها في استانبول وبورسة، والعلماء في كل عصر منهم الخائف من تهمة أنه وهابي، وأما المتصوفة فجاءت على أهوائهم، وفى كل عصر للتهم أنواع، والمسلمون والعرب مظلومون من الأقوياء، سلطهم الله بعضهم على بعض وجعل بأسهم بينهم شديدا.

وكان يتردد بين جدة ومكة لشراء الأقمشة من الشيخ عبد القادر ابن مصطفى التلمساني أحد تجار جدة، ومن ذوي الأملاك في القطر المصري، كان يدفع له أربعمائة جنيه ويشترى بألف، ويسدد الباقي على أقساط بضمانة الشيخ مبارك المساعد البسام من التجار ومن أهل عنيزة. وقد دام التعامل بينه وبين الشيخ التلمساني زمنا طويلا وكان لصدقه

ص: 930

وأمانته ووفائه بوعده أثر طيب في نفس الشيخ التلمسانى، حتى إِنه لم ير ضرورة للضامن وأخذ يبيعه ما يحتاج إليه بوثيقة تسدد فيما بعد على أقساط، وقال له:" إني عاملت الناس أكثر من أربعين عاما فما وجدت أحسن من التعامل معك ياوهابي، يظهر أَن ما يشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين بسبب الحروب التي وقعت بينكم وبين أشراف مكة والمصريين والأتراك، فقد أشاعوا عنكم أقوالا منكرة " فسأله الشيخ أحمد أن يبينها له؟ فقال الشيخ التلمساني يقولون إنكم لا تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحبونه. فأجابه المؤلف "سبحانك! هذا بهتان عظيم! كيف ومن لم يصل عليه في التشهد في الصلاة فصلاته باطلة، ومن لا يحبه فكافر؟!، وإنما نحن أهل نجد ننكر الاستغاثة والاستعانة بالأموات ولا نستغيث إلا بالله وحده، ولا نستعين إلا به سبحانه، كما كان على ذلك سلف الأمة" وقد استمر النقاش بينه وبين الشيخ التلمساني ثلاثة أيام. وأخيراً هدى الله الشيخ التلمساني للحق، وصار موحدا ظاهراً وباطنا، ثم سأله الشيخ التلمساني أن يوضح له بعض أوجه الخلاف بينهم وبين خصومهم، فقال: إننا نعتقد أن الله فوق سماواته، مستو على عرشه، استواء يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تجسيم ولا تأويل، وهكذا في جميع آيات الصفات والأحاديث كما هي عقيدة السلف الصالح وكما جاء عن الإمام أبي الحسن الأشعري في كتابيه:"الإبانة في أصول الديانة" و"مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين".

ص: 931

وقد دامت المناظرة بينهما خمسة عشر يوماً لأن الشيخ التلمساني كان أشعرياً درس في الجامع الأزهر كتب العقائد "السنوسية" و"أم البراهين" و"شرح الجوهرة" وغيرها، وقد انتهت هذه المناقشات الطويلة باقتناع الشيخ التلمساني بأن عقيدة السلف هي الأسلم والأحكم والأعلم، ثم صار الشيخ التلمساني داعياً من دعاة العقيدة السلفية، وطبع على نفقته كتباً كثيرة كان يوزعها بالمجان مثل:"الصارم المنكى في الرد على السبكي" لابن عبد الهادي و "القصيدة النونية المسماة الشافية" لابن قيم الجوزيه و "الاستعاذة من الشيطان الرجيم" لابن مفلح، و"المؤمل في الرجوع إلى الأمر الأول" لابن أبي شامة المؤرخ الدمشقي و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لابن تيمية و "الرد الوافر" لابن ناصر الدين الدمشقي، مع رسائل أخرى ضمن "الرد الوافر" و "غاية الأماني في الرد على (شواهد النبهاني) " لمحمود شكري الألوسي البغدادي" وشاركتُه في نفقات الطبع واشترى نسخا من تفسير الطبري ووزعها على بعض الناس رحمهم الله أجمعين.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد هدى الشيخ التلمساني على يد الشيخ أحمد بن عيسى، فقد هداني- أنا أيضاً على يده

وكان له تلاميذ كثيرون، ومن أشهرهم: الشيخ عبد القادر التلمساني المغربي، والشيخ أبو بكر بن محمد عارف خوقير المكي الكتبي، وأما في نجد فكثيرون" 1 اهـ.

1 مقدمة الناشر محمد نصيف، ص 3- 5.

ص: 932

وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى في كتابه هذا بعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أما بعد، فقد وقفت على كراسة لبعض العصريين من أهل العراق، سماها "أُنموذج الحقائق "، وضمنها كثيراً من الهذيان والشقاشق، مضمونها الانتصار للشرك بالله، المسمى بالتوسل وتجويز دعوة الأموات والغائبين من دون الله تعالى واستحبابه، والتشنيع على من يمنع من ذلك وسبابه، فأحببت أن أبين بطلان ما تضمنته كراسته من الشبهات الواهية، والترهات المتناهية وأن أزيح شبهاته ببراهين التوحيد الساطعة وأوضح ضلالاته بحجج الكتاب والسنة القاطعة، وكلام علماء الإسلام ومصابيح الاهتداء في الظلام.

والرسالة المذكورة شبه لا شيء، لكن ربما يخيل إلى بعض قاصري الأَفهام، أو لعله يحصل عليهم بها إِيهام، ونحن نكتب على بعضها ما تنتقض به شبهاته، وتبطل به خيالاته وترهاته

وقد تصدى للرد على رسائله التي مضمونها الدعوة إلى الشرك بالله ووسائله، وانتصب لقمع أباطيله، وإِيضاح تلبيسه وأضاليله، جمع من العلماء، وجل من الأئمة الفهماء منهم: شيخنا العلامة فقيه زمانه وقدوة عصره وأوانه، عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وشيخنا العلامة، واللوذعي الهمام، ناصر الموحدين، وقامع الملحدين عبد الرحمن بن حسن، ومنهم شيخنا العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ومنهم العلامة

ص: 933

المحدث، فخر الديار اليمنية، الشريف محمد بن ناصر الحازمي، والشيخ العلامة المحقق نعمان بن محمود البغدادي". انتهى باختصار1.

ولقد كان لهؤلاء العلماء الصادقين مؤهلات عالية وأفكار صالحة في رأب الصدع وجمع الكلمة، واتحاد القوة، ودحض الفرقة ونبذ الخلاف.

فهذا الشيخ العلامة عبد الله بن عبد اللطيف الذي سنتحدث عنه وعن سطوع نجمه في عهد الملك عبد العزيز له رسالة إلى المشائخ وكافة الإِخوان من طلبة العلم نتبين منها قوة أثر عقيدة السلف الصالح في علمه وفكره، أولها بعد البسملة:

"من عبد الله بن عبد اللطيف إلى جناب الفضلاء والأعلام والمشائخ الكرام إبراهيم بن عبد الله وحمد بن حسين وزيد بن محمد وحمد بن عتيق وصالح الشثري ومحمد بن علي وعلي بن إبراهيم الشثري وإبراهيم بن عميقان وسعود بن مفلح وكافة الإخوان من طلبة العلم

الخ.

وفيه بين الشيخ وجوب النصيحة لله ولكتابه وللأئمة والعامة من المسلمين بالأدلة من الكتاب والسنة، وحث على التفكير المتزن على ضوء الكتاب والسنة ومن أجل رضى الله وابتغاء ما عنده يوم القيامة، وأَنه لابد في التوحيد من العلم به والعمل والدعوة إليه كما هي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأَتباعه في كل زمان ومكان، وهذا واجب على كل إنسان بحسبه وليس

1 الرد على شبهات المستعيين بغير الله، تأليف الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى، ص 6-7.

ص: 934

مقصوراً على العالم لعلمه أو على الفاضل لفضله، بل كل بحسبه ومقداره، يجب عليه العلم بالتوحيد والعمل والدعوة، ومع ذلك فالأُخوة الإسلامية باقية، لا يشوبها هوى ولا استكبار عن اتباع الحق مع من كان معه، فإن أشكل فالرد بينهم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عند موارد النزاع، والفتن كثيراً ما يلتبس فيها الحق بالباطل، ولكن يجب على المسلم معرفة الحق في ذلك بالبحث والمذاكرة وإظهار ما يعتقده ويدين به، فإن كان حقا سأل ربه الثبات والاستقامة وشكره على التوفيق والإِصابة، وإلا رده إلى من هو أعلم منه بحجة يجب المصير إليها ويقف المرشد عليها، والله عند لسان كل قائل وقصده، ومجازيه بعمله، فلابد من زلة قلم، وعثرة قدم، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} .

ثم ذكرهم بنعم الله وأعظمها: بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام وظهوره. ثم شخص أسباب الكفر وبينها، وأهمها موانع في النفوس من هوى وإِرادات ورياسات لا يقوم ناموسها ولا يحصل مقصودها إلا بمخالفة الحق وترك الاستجابة له، وهذا هو المانع في كل زمان ومكان ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإِسلام الوجه له خصمان.

ثم تطرق إلى تذكيرهم باختصاص الله إياهم بنعمة التوحيد من بين سائر الأمم وأصناف الناس في هذه الأزمان، فأَتاح لهم من أحبار الأمة وعلمائها حبراً جليلا وعلما نبيلا فقيها عارفاً بما كان عليه الصدر الأول،

ص: 935

خبيراً بما انحل من عرى الإسلام، فتجرد للدعوة إلى الله ورد الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح في باب العلم والإيمان وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار.

وأثنى الشيخ ابن عبد اللطيف على من وازر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تلك الدعوة من أسلاف آل سعود الماضين وقال:

"إن الله أظهر لهم من الدولة والصولة ما ظهروا به على كافة العرب، وغدت لهم الرياسة والإمامة رتبة بمجرد السابقة والعادة لا تزحمهم فيها العرب العربا، ولا يتطاول إليها بنو ماء السماء، وصالحهم يرجو فوق ذلك مظهرا، وجاهلهم يرتع في ثياب مجد لا يعرف من حاكها ولا درى، فلم يزل الأمر في مزيد حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة ووزيره العبد الصالح رحمهما الله رحمة واسعة، ثم حدث من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإِرادات، وجرى من الابتلاء والتطهير ما يعرفه الفطن الخبير، ثم أدرك سبحانه من رحمته وإِلطافه أهل هذه الدعوة ما رد لهم به الكرة ونصرهم ببركته المرة بعد المرة، وبعضكم أدرك هذا ورآه، ومن لم يدركه بلغه كيف كثر الابتلاء والامتحان لأهل هذه الدعوة ثم تكون لهم العاقبة، وذلك سنة الله السابقة، في أنبيائه ورسله، أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه، وله في ذلك حكمة بالغة".

ص: 936

ثم أورد الشيخ ابن عبد اللطيف الأدلة على بعض أَفراد هذه الحكمة.

ثم يصف تلك المحنة ويقول: "إِنها فتنة عم شرها وطار شررها وتفرق الناس فيها أحزاباً وشيعاً ما بين ناكث لعهده، خالع لبيعة إمامه بغير حجة ولا برهان، بغضاً للجماعة ومحبة للفرقة والشناعة، وبين مجتهد لما رأى إِمامه صدر مكاتبة للدولة، وبين واقف عند حده يلوح بين عينيه، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان، والرابع ضعيف العنان خوار الجنان، مع هؤلاء تارة ومع الآخرين تارة يتبع طمعه، وكل فرقة من هذه الفرق تضلل الأخرى وتفسقها أو تكفرها بل وتنتسب إلى طالب علم تأتم به وتقلده وتحتج بقوله عياذا بالله، والمعصوم من عصمه الله، وحساب الجميع على الله، وهو أعلم بسرائرهم وسيحكم بينهم سبحانه بعلمه".

ويقول:"ثم أذهب الله ذلك بالعود إلى الجماعة وتجديد الأخوة الإسلامية، وذهاب الشحناء، وعاد الأمر إلى ما كان عليه من ثبوت الإمامة والدعوة إلى الجماعة وتجديد العهود والمواثيق على ذلك؛ فحمدنا الله تعالى وسألناه المزيد من فضله ورحمته، وكنا مغتبطين وأَذهب الله عنا هباء الشبهات وأطفأ نار تلك الضلالات".

ثم جعل الشيخ ابن عبد اللطيف يحذر هؤلاء العلماء خاصة وينصحهم من بوادر بدرت تريد المشاقة وفل جميع المسلمين - إلى أن قال

ص: 937

محذرا:

"فاستأنف النهار يا ابن جبير قبل أن تنفرج ذات البين بينكم معشر العلماء ويضلل بعضكم بعضاً أو يفسقه أو يكفره فتكونوا بذلك فتنة لجاهل مغرور، أو ضحكة لذي دهاء وفجور تستباح بذلك أعراضكم، ولا ينتفع بعلمكم، فاعقدوا لكم محضرا، ولو طال منا ومن بعضكم لأجله سفر، للنظر فيما يصلح الإسلام، وتقوم به الحجة، ولو لم يعمل به عامل، تسدوا بذلك عنكم باب الفرقة، نصحاً لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فأنا والله لا أخال الجرح يندمل، ولا الحية تموت، إلا أن يشاء ربي شيئا، وذلك لكثرة الطلاب لهذا الأمر، فقد وقع والله بكثرتهم البأس وأَعضل واحتاج العاقل للنظر فيما هو الأصلح لدينه، والأرْضى لربه، بالاجتماع على الأسَدِّ فالأسدّ، والأجدِّ فالأجدّ1، والأصلح فالأصلح، فإن الشيطان متكىء على شماله متحيل بيمينه فاتح حصنه لأهله، يدأب بين الأمة بالشحناء والعدواة عنادا لله ولرسوله ولدينه تأليباً وتأنيباً يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويزين بالزور، ويمني أهل الفجور والشرور، يوحي إلى أوليائه بالباطل دأباً له منذ كان، وعادة له منذ أهانه الله في سالف الأزمان، لا ينجو منه إلا من أحب الآجل وغض الطرف عن العاجل، وقط هامة عدو الله وعدو الدين باتباع الحق والعمل

1 انظر: الدرر السنية، ففيها نص هذه الرسالة كاملا ج7 ص 265-272. والأجد فالأجد يعني الأكثر جدا.

ص: 938

به، رضي ذلك من رضيه وسخطه من سخطه".

هذا هو الشيخ عبد الله ذو الرأي السديد، والعقيدة السليمة، والعلم الرشيد وقد كان الملك عبد العزيزكما سيأتى الحديث عنه في الدور الثالث كان موفقا غاية التوفيق حيث اختاره وقربه إليه، واعتبره المرجع في بيان منهج السلف الصالح وعقيدتهم، التي صمم العزم على نصرتها واستعادة مكاسبها، كما صمم أسلافه عزمهم وإِرادتهم التي تضعضعت أمامها الممالك والقوى من حولهم.

هذا وما زال مشائخ الدعوة في تلك الفترة بعد انتهاء الدور الثاني من أدوار دولة آل سعود مازال مشائخ الدعوة يحملون عقيدة السلف الصالح، ويبثون العلم بها بين الناس رغم ضعفهم وقلتهم وهوانهم على الناس وغيبة الناصر لها لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ دينه، وكما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه لا تزال طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم إلى قيام الساعة وقد أنعم الله سبحانه على هاتين الأسرتين الكريمتين. فمهما بقيت عداوة من يعاديهما من أجل عقيدة السلف الصالح والمحافظة عليها، فسوف يبقي الله هاتين الأسرتين ما يغيظ أعداءهم الذين ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، وهذا هو أثر عقيدة السلف الصالح الذي لا يتخلف أبدا حتى قيام الساعة كما قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ولذا فقد قيض الله لأهل هذه العقيدة السلفية السليمة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن

ص: 939

آل سعود.

وبقيام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يبدأ الدور الثالث من أدوار دولة أنصار عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية- فإلى ذلك في الفصل التالي.

ص: 940