الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 65]
البناء على القبر
قد مَرَّ حكم البناء على القبور في غير المِلك، وهذا الفصل موجَّه إلى البناء عليها في الملك، مع أن الأدلة تتناول الجميع، كما ستراه إن شاء الله تعالى.
قد علمت أن البناء على القبر أمرٌ زائدٌ على المواراة، وهو أيضًا زائدٌ على التعليم على القبر، بحيث يُعْرَف أنه قبرٌ، فالدليل على مدعي الجواز.
أما من له حظٌّ من العلم من المجيزين، فإنه يعترف بالحُرْمة في القبور المسبَّلة، ويقتصر على الكراهة في الملك، وسيأتي الكلام مع هؤلاء عند الكلام على أدلة النهي إن شاء الله تعالى.
وأما الغلاة المتطرِّفون من الجُهَّال، فإنهم يدَّعون أن البناء على بعض القبور مستحب، ومنهم من يعتقد وجوبه، وليس لهؤلاء في الحقيقة متمسَّك، [ص 66] إلا أنهم يعتقدون أن الموتى يضرون وينفعون، وأن في البناء على قبورهم وغيره تقربًا إليهم، يُدْخل في نفوسهم السرور، ويحملهم على نفع الفاعل.
هذا مَبْلَغ علمهم، وغاية فهمهم.
فإذا آنسوا من أحدٍ إنكارًا عليهم قالوا: "وهَّابي"، وتواصوا بهجره، وتجنّب مجالسته، وسماع كلامه، وجاهروا بتضليله وتفسيقه، بل وتكفيره، ورموه بكل حجرٍ ومدرٍ، وإن أمكنهم أن يلحقوا به الضرب لم يتأخروا عنه.
وإذا دُعوا إلى الإنصاف والنظر في الحجج والأدلة، ورأوا أن في الإعراض عن الإجابة ما يؤيد جانب خصومهم، [ص 67] أخذوا يرددون
بعض الشبه التي لا تستحق أن تسمى شبهًا، فضلًا أن تسمى أدلة، لكنها على كل حال ربما تجذب أذهان بعض الجُهال، وسأذكر منها ما يسوغ أن يسمى شبهة؛ لمشابهته الشبهة، لا لمشابهته الدليل.
فمنها: دعوى الإجماع
(1)
.
وأين الإجماع؟! وهذه كتب فقهاء المذاهب من أصغر مختصر، إلى أكبر مطوَّل متفقةٌ على النهي عن البناء، وتحريمه في المقابر المسبَّلة، ونص بعضُهم على حُرْمته حتى في الملك، ومن لم يقل بالحُرْمة في الملك أطلق الكراهة التحريمية، وسيأتي عقد فصل مستقل؛ لنقل كلام الفقهاء، إن شاء الله تعالى
(2)
.
فأما كتب الحديث النبوي، فأظهر من شمس على عَلَم.
على أن في الإجماع نزاعًا، وأي نزاع؟
[ص 68] ومنها: القياس على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهي شبهة ضعيفة، وسنعقد إن شاء الله تعالى للبحث فيه فصلًا خاصًّا، فانظره إن أردت
(3)
.
ومنها: أثر خارجة، وقد مرَّ ما فيه
(4)
.
(1)
هذه الشُّبهة ساقها حَسَن الصدر الرافضي في كتابه "الرد على الوهابية" وسبقت الإشارة إليه في المقدمة.
(2)
لم يعقد المؤلف هذا الفصل في هذه النسخة.
(3)
لم يعقد المؤلف أيضًا هذا الفصل هنا. وذكر في (المبيضة ص 37 ــ 38) طرفًا من ذلك.
(4)
انظر (ص 30 وما بعدها).
ومنها: ما علَّقه البخاري
(1)
، قال:"لما مات الحسن بن الحسن بن علي، ضربت امرأته القبة على قبره سنةً، ثم رُفِعت: فسمعوا صائحًا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا، فانقلبوا".
والجواب: أن البخاريَّ علقه تحت عنوان: باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور.
والبخاري وإن ذكره بصيغة الجزم، فلم يلتزم في ذلك أن يكون صحيحًا. نعم، قالوا: إن ذلك إذا لم يكن صحيحًا عنده، فهو صحيحٌ عند غيره، وهذا لا يفيد؛ لأن شروط غيره مختلفة، حتى إن منهم من لا يشترط في الراوي غير الإسلام.
فإن قيل: المراد غيره ممن يتحرى، كمسلم.
قلنا: فإن في بعض ما يصحّحه مسلم ما ينتقد، ولولا ذلك لما أتعبنا أنفسنا بهذا البحث.
ونحن لا ننكر أنه [ص 69] ينبغي لنا حُسن الظن بالبخاري، أنه لا يعبر بصيغة الجزم إلا وقد اطلع على سندٍ قوي، لكن هذا في ظنه، فأما نحن، فالذي يلزمنا أن ننظر في السند، ونحكم بما ترجح لنا.
وذكر الحافظ في "الفتح"
(2)
أنه رُوي هذا الأثر في الجزء السادس عشر من حديث الحسين بن إسماعيل بن عبد الله المحاملي ــ رواية الأصبهانيين عنه ــ. قال: وفي كتاب ابن أبي الدنيا في "القبور"
(3)
من طريق
(1)
في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (2/ 88 ــ الميرية).
(2)
(3/ 238).
(3)
ليس في المطبوع منه، والمطبوع ناقص. وهو في "هواتف الجان" له (131).
المغيرة بن مِقْسَم قال: "لما مات الحسن بن الحسن، ضربت امرأته على قبره فُسطاطًا، فأقامت عليه سنة
…
" فذكر نحوه. ا? .
قلت: المغيرة بن مِقْسَم كان أعمى ويدلس، فلا تثبت القصة بمجرَّد هذه الحكاية منه، ولا يُدْرَى ما حال السند إليه، كما أنا لا ندري ما حال سند المحاملي.
وعندي أن هذه الرواية لا تصح أبدًا، فإن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعُد جدًّا أن يقع مثل هذا منهم؛ إذ زوجة الحسن هي بنت عمه فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهم، ويوم مات الحسن كان بنو أخيها أحياء، وكذلك غيرهم من أهل البيت، فلو فرضنا أنه لم يبلغها نهي، لكان بعيدًا أن لا يكون بلغهم، وأقل ما يكون بلغهم لَعْن زوَّارات القبور.
والتحقيق: أن اللعن منصبٌّ على اللواتي يكثرن الزيارة.
ولا شك أن ضرب قبة على القبر لأجله، والمُكْث فيها سنة أشدّ من مطلق كثرة الزيارة، فحاشا السيدة فاطمة بنت الحسين أن تصنع ذلك، وحاشا أهل البيت أن يكون منهم مثل هذا، ولا يبعد أن يكون ناصبيّ خبيث وضع هذه القصة، وحاشا فاطمة بنت الحسين بن علي أن تفعل ذلك الفعل جزعًا من وفاة زوجها، أو طمعًا في حياته، كما تدلُّ عليه حكاية قول الهاتِفَين:"هل وجدوا ما طلبوا؟ بل يئسوا فانقلبوا".
وأما قول بعضهم: لعلها ضربت الفُسطاط للاجتماع لقراءة القرآن ونحوه. فمع كون ذلك محظورًا أيضًا، فحكاية قول الهاتِفَين تردّه.
وفي "الفتح"
(1)
: "وقال ابن المُنيِّر: إنما ضُربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه، تعليلًا للنفس، وتخييلًا باستصحاب المألوف من الأُنس، ومكابرة للحسّ، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية، ومخاطبة المنازل الخالية، فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا، وكأنهما من الملائكة، أو من مؤمني الجن" ا? .
أما نحن فنقول: أهل البيت أعلم بالله ورسوله ودينه، وأعقل وأكمل وأثبت من أن يصدر منهم هذا. على أننا نعلم أنهم غير معصومين، وأن فعلهم الشيء لا يكون حجة على جوازه، وإنما رأينا من الواجب أن نذبّ عنهم هذه القصة، وإن كانت لا دلالة فيها على مسألة البناء ونحوه؛ لأن فعل غير المعصوم لا تقوم به الحجة، وحسبنا الله ونعم الوكيل
(2)
.
[ص 70] ومنها
(3)
: أن في البناء مصلحة لتظليل [لتضليل]
(4)
الزوَّار الذين يشدون رحالهم إلى القبور، ويظلّون لها عاكفين.
وجوابه: أن الزيارة الشرعية لا تُحْوِج إلى شيءٍ من ذلك، فالبناء إذًا إعانة على الزيارة البدعية، ومع هذا وغيره فالاستحسان في معارضة النص هباء منثور، وصاحبه مأزور لا مأجور.
(1)
(3/ 238).
(2)
من قوله ص 61: "لعن زوارات القبور" إلى هنا لحق في أعلى الصفحات من (ق 70 أإلى ق 74 ب)
(3)
أي من شُبَة المجوّزين للبناء على القبور.
(4)
كذا كتبها في الأصل على الوجهين إشارةً منه إلى المعنيين إذ زعموا أن في البناء مصلحة (تظليل) الزوار من الشمس، فكانت النتيجة أن (ضلوا) عن الصراط المستقيم.
ومنها: التمسُّك بعمومات خارجة عن محلّ النزاع، كالأمر بحب الصالحين واحترامهم.
وجوابه: أن هذا الإطلاق مقيَّد بما أذن به الشرع، فلا يقول مسلم: إنه يستحب [ص 71] حبهم واحترامهم في معصية الله تعالى، والقدر المأذون فيه إنما يتميز عن غيره بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، فلا يكفي هذا العموم ما لم يثبت دليل الخصوص، مع أن حالة الميت غيبٌ لا يُدْرَى ما ينفعه مما لا ينفعه، وإنما يكون التمييز بإخبار الشرع، وقد دل الشرع أن فعل محبي الميت ما ينكره الشرع يضرُّ الميت لا ينفعه، فثبت في الأحاديث الصحيحة:"أن الميت يُعَذَّب ببكاء أهله"
(1)
.
ومنها: القياس على ما ثبت من احترام القبور، بالنهي عن الجلوس إليها ووطئها، والمشي بينها بالنعال، وغير ذلك.
وهذا قياس باطل، والنصوص تصادمه، وفوق هذا: فإنّ أكثر القبور المشيَّدة قد أَرِمت جثثها، فسقطت حُرْمتها.
هذا، [ص 72] ولولا أن يطالع رسالتي هذه جاهل بحقيقة الدين، قد عَلِق بنفسه شيءٌ من هذه الشبه، لما ذكرتها، فمعذرة إلى القراء.
وأما من كان عنده شيءٌ من الفقه، فإنه يسلِّم بحرمة البناء والرفع والتجصيص ونحوه في غير الملك، ولكنه يقتصر في الملك على الكراهية قائلًا: إن الأصل المقرر أن للإنسان أن يصنع في ملكه ما يشاء، ولكن لما كان البناء ونحوه خلاف السنة، وفيه إضاعة مال، وتشييد ما هو محلٌّ للبِلى،
(1)
تقدم تخريجه في (المُبيّضة)(ص 117).
كان مكروهًا، وعلى مدَّعي الحُرْمة البيان
(1)
.
وعليه، فلنشرع في ذكر أدلة النهي عن البناء ونحوه، ثم نبين دلالتها على الحُرْمة.
قد تقدم حديث فَضالة في الأمر بتسوية القبور
(2)
، وحققنا أن معناه: الأمر بأن تكون على الهيئة التي قررها لها الشارع، وأن الهيئة التي قررها لها الشارع هي ما تقتضيه الفطرة في ردِّ تراب الحفرة إليها، وجمعه على ظهر الحفرة، فيصير القبر بطبيعة الحال مسنَّمًا مرتفعًا عن الأرض نحو شبر [ص 73] باعتبار وسطه، ولكنه إذا اتفق أن كان التراب الخارج من الحفرة، إذا جُمِع كلّه على ظهرها ينشأ عنه ارتفاع فوق الشبر، اقتضت التسوية تخفيفه.
وسيأتي في فصل إزالة الإشراف عن القبور حديث علي رضي الله عنه،
(1)
هذه حجج من يقول: إن البناء على القبور في المِلك مكروه وليس بمحرم، ويسلّم بحرمة البناء ونحوه في غير المِلك. حكاه المؤلف على لسانه، وقد سبق له الرد على حججه ويأتي مزيد منها، ونجملها في الآتي:
1) أن الأصل عدم التفريق بين البناء في المسبلة وفي الملك لعموم الأدلة الواردة في النهي. 2) أنه من التشبُّه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى. 3) أنه من التشبه بأهل الجاهلية في الإفراط في تعظيم القبور. 4) أن فيه إضاعة للمال. 5) كونه من الزينة والخيلاء في أول منازل الآخرة كما قال الشافعي. 6) أنه مخالف لسنة السلف في بناء القبور. 7) أنه صار ذريعة ووسيلة إلى الشرك، إذ تقود إلى الاعتقاد في الميت وأنه يضر وينفع. وهي أدلة قوية يكفي اعتبارها في القول بحرمة البناء على القبر في المِلك.
(2)
(ص 39).
في الأمر بتسوية القبور المشرفة
(1)
، ومعناه واضح أن المراد إزالة إشرافها، وإعادتها إلى الهيئة السويَّة التي قررها الشارع، وقد حققناها في حديث فضالة.
وكلا الحديثين يدلُّ على النهي عن البناء على القبور، ونحوه.
أما إذا كان البناء على حدود القبر القريبة، بحيث يكون طوله نحو ستة أذرع، وعرضه نحو أربعة، [ص 74] فلأنه يُطْلَق عليه قبرٌ غير مسوًّى، ويطلق عليه: قبر مشرف، أي: مرتفع زيادة عن القدر المشروع، فيتناوله الأمر تناولًا أوّليًّا؛ لأنه إذا تناول ما جاوز الحد المشروع بزيادة قليل من التراب، فبزيادة أحجار وطين وحصى وغيره، من باب أولى.
وأما دلالة الحديث على النهي عن التجصيص، فلأن القبر المجصص ليس على الهيئة التي قررها الشارع للقبور، فهو قبر غير مسوّى، فالأمر بتسوية القبر أمرٌ بعدم الجص، أو بإزالته.
وأما إذا كان البناء بعيدًا عن القبر، محيطًا به، كالقبب الكبيرة، فبطريق القياس الجلي، سواء أكانت العلة هي كراهية إحكام موضع البلى أم تعظيم القبور. وهذا واضح، والله أعلم.
[ص 75] ولنا حديثٌ في النهي عن البناء ونحوه، رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم: جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنهم.
(1)
لم يذكر المؤلف هذا المبحث في هذه النسخة، وانظر الأخرى (ص 50 وما بعدها).